المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث في إرادة المتكلم - إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌المطلب الثالث في إرادة المتكلم

‌المطلب الثاني فيمن يلحقه معرَّة الكذب

العيب والإثم لا يَلحقانِ كلَّ من أخبر بخبرٍ مخالفٍ للواقع، بل يُعذَر المخطئ إذا لم يقصِّر، ويَلحقان المجازفَ. وقد يَلحقُ المخبرَ عارُ الكذب وإثمه مع أن الخبر في نفسه صدقٌ، وذلك إذا جزم بالخبر وهو يراه كذبًا أي غير واقع، أو لا يدري أنه واقع، فيلحقه العيبُ والإثم، كما يلحق من أتى امرأةً يراها أجنبيةً فبانَ أنها امرأتُه، أو كانت له أمةً لا يقربها، فصادف أمةً لا يدري أنها أمتُه فوقع عليها.

‌المطلب الثالث في إرادة المتكلم

لا يخفى أن المقصود من الكلام الإفهام، وأن إرادة المتكلم أمر خفيٌّ في نفسه، وإنما يُستدلُّ

عليها بنفس الكلام أو بما يقترن به من القرائن الظاهرة، وإنما يوضع الكلام ليصير معربًا [عمَّا] في النفس. فإذا كان الخبر في نفسه أو بمعونة القرائن ظاهرًا بيِّنًا في معنى، وليس هناك قرينةٌ تَصرِف عنه= وجب القضاء بأن ذلك المعنى هو الذي أراده المتكلم. ولهذا قضى أهلُ العلم على الخبر نفسِه فقالوا: إن طابقَ الواقع فصِدْق، وإلَّا فكذب. ثم بينوا أن القرائن معتدٌّ بها في فهم الكلام. فتحرَّر من ذلك أن كل خبر تبيَّن من تدبُّرِه وتأمُّلِ القرائن التي معه إن كانت: أنه ظاهر في معنًى، فذاك المعنى إن كان واقعًا فالخبر صدقٌ، وإلَّا فكذبٌ.

وفي «الزواجر» لابن حجر الهيتمي (ص 26): «نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه [أضمر توريةً]

(1)

كفرَ ظاهرًا وباطنًا، وأقرَّهم على ذلك».

(1)

خرم في الأصل مكان الكلمتين.

ص: 207

[ص 37] هذا، وقد نقل أهل العلم عن الظاهرية منع وقوع المجاز في كلام الله عز وجل وكلام رسوله. قال المحلي في «شرح جمع الجوامع»:«قالوا: لأنه كذب بحسب الظاهر، كما في قوله للبليد: هذا حمار. وكلام الله ورسوله منزَّه عن الكذب» ثم قال: «وأجيب بأنه لا كذبَ مع اعتبار العلاقة» .

والظاهر أن الظاهرية إنما كلامهم في المجاز الصحيح، وهو ما جمع العلاقة والقرينة كما هو شرطه، فزعموا أنه وإن لم يكن كذبًا في التحقيق فلا يكون المتكلم به كاذبًا، ولا يلزمه قبحٌ ولا إثمٌ، لكن صورته في بادئ النظر صورة الكذب، فإن الإنسان لا يكون حمارًا.

يدلُّك على هذا أن الظاهرية إنما منعوا وقوعه في كلام الله تعالى وكلام رسوله، ولم يقولوا أنه كذبٌ مطلقًا يوجب القبح والإثم، وقالوا:«كذبٌ بحسب الظاهر» ولم يقولوا: كذب مطلقًا، وعَنَوا بقولهم «بحسب الظاهر» ما يتراءى منه في بادئ النظر.

ويوضِّح ما قلناه تمثيلُهم بقولهم: «كما في قولك للبليد: هذا حمار» ، فذكروا مثالًا صريحًا في وجود العلاقة ووجود القرينة كما لا يخفى.

فالجواب بأنه «لا كذبَ مع اعتبار العلاقة» كأنه مبني على توهُّم أن الظاهرية غفلوا عن شأن العلاقة وتكلموا في المجاز الموجود معه القرينة، فزعموا أن قولك في البليد:«هذا حمار» كقولك في الكتاب: «هذا فرسٌ» . وهذا غلطٌ عليهم لما قدمناه.

وأبعدُ منه ما اعتُرِض به على المحلِّي، [ص 38] قال البنَّاني في «حواشيه»: قال العلامة: إذا تأملتَ قولَ المجيب مع اعتبار العلاقة، وقولَ المستدلّ بحسب الظاهر= وجدتَ الجواب غيرَ ملاقٍ للدليل، والمناسب

ص: 208

سوق الدليل مجرَّدًا عن قوله بحسب الظاهر. ثم قال: ثم الكذب لازم لإرادة المعنى الحقيقي، فارتفاعه إنما هو بإرادة المعنى المجازي، والدال عليه هو القرينة، فانتفاء الكذب لأجل وجود القرينة.

أقول: أولُ كلامه مستقيم، فأما قوله: «والمناسب

» فعجيب، فإن الشارح حكى استدلال المستدل ليجيب عنه، واستدلال المستدل مبيِّن لدعواه، فأنَّى يكون للشارح أن يتصرف في استدلال المستدل فيغيِّره ويُعمِّي مقصودَه، ثم يجيب بحسب ذلك؟ وأما آخر كلام المعترض فقد عُلِم ما فيه مما تقدم.

هذا، والجواب الصحيح عن قول الظاهرية هو أن يقال: ما ذكرتموه من أن المجاز كذب بحسب الظاهر تريدون به أن صورته في بادئ النظر صورة الكذب= ليس مما يقتضي قبحًا في الكلام ولا عيبًا للمتكلم ما دام المقصود واضحًا، بل إنه إذا وقع المجاز موقعَه كان ذاك التصوير أو التخييل من أوكد الوجوه في بلاغة الكلام وقوة تأثيره في المخاطب، وهذه مصلحة عظيمة لا يحسن إهمالها توقِّيًا مما يتراءى في بادئ النظر من المشابهة للكذب.

كيف وهذا الترائي لا يشتبه على عاقل؟

نعم، المقال الذي مثّلتم به ــ وهو قولك للبليد:«هذا حمار» ــ فيه شناعة وبشاعة يَجِلُّ عن مثلها الكتابُ والسنة، وليست هي أن الصورة صورة الكذب، بل هي أن فيه تحقيرًا وإهانةً للبليد لا يستحقها، لأن البلادة أمرٌ جِبلِّي لا كسبي، ألا ترى أنه لو قيل:«مثلُه كمثل الحمار» أو «كأنه حمار» لكانت الشناعة والبشاعة بحالها، لكن لما وقع هذا التشبيه [ص 39] موقعَه في قوله تعالى:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقوله سبحانه:

ص: 209

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 50]، وقوله عز وجل:{كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] = اندفعت تلك الشناعة عن الكلام والمتكلم، وانحطَّتْ على المشبَّه لاستحقاقه لها.

واعلم أننا إذا فرضنا في كلام أنه يُفهِم خلافَ الواقع، وأنه لم تكن معه قرينة تصرف عن ذلك، ولم يكن هناك وجهٌ لاحتمال أن يكون المتكلم عجزَ أو جهلَ أو أخطأ، فإنه يلزم من ذلك أن يكون المتكلم أراد أن يكون كلامه ذاك مُفهِمًا خلافَ الواقع، وهذه إرادة تبعها العمل بمقتضاها، وهو الإتيان بذاك الكلام، وأقام المتكلم عليها الدليل، وهو ذاك الكلام. فهبْ أنه تأوَّل في نفسه لذاك الكلام معنًى واقعًا، فهل حقُّه أن يؤاخَذ بإرادته التي عمل بمقتضاها وأقام عليها الدليلَ، أم بتأويله في نفسه؟ وتأويله في نفسه غيبٌ عن المخاطب، ومع ذلك فقد أقام المتكلم الدليل على خلافه، ولو ساغ للمتكلم أن يعتدَّ على المخاطب بمثل هذا لساغ من باب أولى أن يعتدَّ عليه بأمرٍ في نفسه لم يتكلَّم به. وهذا هو التكليف بعلم الغيب والتكليف بما لا يُطاق، فإذا كان غيرَ جائز فأولى منه ما أقام المتكلم الدليلَ على خلافه.

وما مثل ذاك التأويل إلّا مثل من يَعمِد إلى خمرٍ يعلم أنها خمر محرمة، فيخيِّل لنفسه أنها شراب تفاح أو نحوه من الأشربة المباحة، ثم يشربها مع ذلك العلم وذاك التخيل.

ويَعمِد إلى امرأة أجنبية يعلم أنها أجنبية لا تحلُّ له، فيخيِّل لنفسه أنها امرأته، فيواقعها مع ذاك العلم وذاك التخيل، فهل ينفعه ذاك التخيل عند الله تعالى وعند عباده، فلا يُحكَم عليه بأنه شاربُ خمرٍ زانٍ؟

فإن قيل: فلماذا تأول إبراهيم عليه السلام في كلماته، فأراد بقوله «هي

ص: 210

أختي» الأخوة في الدين؟ ولماذا قال جمعٌ من أهل العلم في الكذب المرخَّص فيه: إن شرطه أن يتأول المتكلم في نفسه معنًى صحيحًا؟

قلت: أما كلمات إبراهيم عليه السلام فسيأتي النظر فيها ونوضِّح أن حاله كانت قرينة تدافع ظاهر الخبر، فيبقى معها مجملًا، وتلك الحال هي أنه كان يرى أنه إن [ص 40] لم يُوهِمْهم أن المرأة أخته بطشوا به، وذاك الإيهام لدفع مفسدة، ولا تترتب عليه مفسدة، فهذه الحال مظنة الترخّص في الكلام. فلو لاحظَ المخاطبون هذا لصار الخبر عندهم في معنى المجمل فلا يكون كذبًا، وإذا لم يلاحظوا كانوا هم المقصرون.

وهذا إنما يفيد المباعدة عن الكذب الصريح إذا تأوَّل في نفسه تأويلًا قريبًا، وذلك لوجهين:

الأول: أنه إن لم يتأوله تأويلًا قريبًا لم تُخرِجْه القرينة ــ وإن كانت صريحة ــ عن أن يكون كاذبًا، كما في قولك مشيرًا إلى كتاب:«هذا فرس» ، ومثله ما لو أشرت إلى رجل فقلت:«هذا حمار» ، ولم تتأول حتى لو كان الرجل بليدًا في نفس الأمر، فإن هذا لا ينفعك لأنك لم تبْنِ عليه.

الوجه الثاني: أن التزام التأويل القريب في النفس يستلزم أن يجيء الكلام قريبَ الاحتمال للمعنى الصحيح، فإذا تنبَّه المخاطب لحال المتكلم ــ وقد قدّمناها ــ قوِي عنده احتمالُ التأويل، وإن كانت تلك الحال كأنها قرينة ضعيفة. وإذا لم يتأول المتكلم في نفسه تأويلًا صحيحًا قريبًا، فقد يجيء الكلام بعيدًا عن احتمال التأويل، فلا يباعده عن الكذب الصريح حتى القرينة الواضحة، فضلًا عن تلك الحال الذي ذكرناها.

ص: 211