الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1332) ما لفظه: «وسئل (ابن شُبرمة) عن رجل
…
كلامًا يطول»، فجَزْم النظَّام بأن ذلك كذبٌ ــ أي حيث لا قرينة ــ موافقٌ لما تقدم، وأما الجاحظ فإنه جزم بأن أدنى منازلِه أن لا يسمى صدقًا، وتوقف عن الجزم بأنه يسمى كذبًا.
وكأن علماء البيان لم يلتفتوا إلى هذا التوقف؛ لأن الجاحظ موافقٌ على أن الخبر إذا خالف الواقع ولم يعتقد المخبر مطابقته فهو كذب، وموافقٌ على أن المعنى الذي يُقضى به للخبر هو الظاهر الراجح، فلزمه الجزم بأن ذلك كذبٌ، فلا عبرة بتوقفه.
وقد يقال: لعله إنما توقف لأن هناك قرينة قد يعرفها بعض السامعين دون بعض، فلا يطلق على الخبر: كذب؛ لأن منهم من يعرف القرينة فلا يفهم خلاف الواقع، ولا يطلق عليه: صدق؛ لأن منهم من لا يعرف القرينة فيفهم خلاف الواقع.
فإن كان إنما لحظ هذا فلا نزاع في ذلك؛ فإن الخبر صدقٌ بالنظر إلى من يعرف القرينة، وكذبٌ بالنظر إلى من لا يعرفها، فليس بصدقٍ مطلقًا، ولا كذبٍ مطلقًا، والجمهور لا ينازعون في هذا.
إرادة المخبر وإضماره
إذا كان للخبر معنى ظاهر راجح، ويحتمل احتمالًا مرجوحًا معنًى آخر، وقد أراد المخبر عند بناء الخبر أن يكون كذلك= فلا ريب أنه أراد أن يكون المعنى الذي حقه أن يفهم من الخبر هو الظاهر الراجح، ثم قد يضمر في نفسه المعنى الراجح، وقد يضمر المرجوح.
ومعنى الإضمار: أن يخيّل لنفسه عند تلفظه بالخبر أنه يقصد به هذا
المعنى أو ذاك، فإن أضمر الراجح فلا خفاء أنه إن كان هو الواقع فالخبر صدق، وإلا فكذبٌ. وإن أضمر المرجوح، فقد يكون خلاف الواقع، وقد يكون هو الواقع، فانظر فيما إذا كان خلاف الواقع، هل يصير الخبر كذبًا، وهل يَلزمُ المخبرَ قبحُ الكذب وذمُّه وإثمه؟
وذلك كأن تعلم أن والد زيد مات في ليلة ولم ينم فيها، فتُبكِّر إلى زيد قاصدًا أن تخبره خبرًا يكون ظاهره الراجح هو الواقع أي الموت، ويحتمل خلاف الواقع وهو النوم، فتقول له: مات أبوك البارحة، وتضمر في نفسك عند قولك:«مات» معنى «نام» ، وليس هناك قرينة.
أقول: لا يخفى على من يتدبر أن هذا الإضمار لا يصير به الخبر كذبًا، ولا يلزم المخبرَ اسمُ الكذب ولا قبحه ولا ذمه ولا إثمه. نعم، قد يُكره له ذاك التخيل، كما يكره للرجل تخيلُ أنه يلابس معصية، هذا أشد ما قد يقال فيه.
ونظيره أن تَعمِد إلى عصير تفاح ــ مثلًا ــ تعلم أنه حلال، فتصبَّه في كأسٍ تُشبه في الجملة الكأسات التي يشرب الفجار فيها الخمر، وتخيِّل لنفسك أنه خمر، وتشربه مع ذاك العلم وذاك التخيل. أو تَعمِد إلى امرأتك فتكسوها ثوبًا يشبه في الجملة ثوبًا رأيته على أجنبية، ثم تواقعها عالمًا بأنها امرأتك، متخيلًا أنها تلك الأجنبية.
فهل يلزمك بهذا اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟
فانظر الآن في عكس هذا، وهو أن يكون المعنى الظاهر الراجح من الخبر هو المخالف للواقع، والمعنى المرجوح مطابق للواقع، وأضمره المخبر، وذلك كأن يكون الواقع أن والد زيدٍ لم يمت وإنما نام، فقصدتَ زيدًا عازمًا على أن تخبره خبرًا يكون الظاهر الراجح منه هو الموت الذي تعلم أنه
خلاف الواقع، ويكون محتملًا احتمالًا مرجوحًا لمعنى مطابق للواقع، وهو النوم، فقلتَ له:«مات أبوك البارحة» ، وأضمرت في نفسك معنى «نام» ، ولا قرينة. فهل تخرج بهذا عن اسم الكذب وقبحه وذمه وإثمه؟
ونظير هذا أن تعمد إلى خمر تعلم أنها خمر محرمة، فتصبَّها في قعبٍ وتشربها، مخيِّلًا لنفسك أنها حليب. أو تعمد إلى امرأة جارك وأنت بها عارف، فتلقي عليها ثوبًا من ثياب امرأتك، وتواقعها مخيلًا لنفسك أنها امرأتك. فهل يخرجك هذا عن اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟
وبهذا يتضح أننا إن سمينا تخيل المتكلم للمعنى المرجوح إرادةً، فليست هي إرادة المتكلم التي ينبغي أن يُناط بها الحكم، وإنما إرادته التي ينبغي أن يناط بها الحكم هي إرادته عند بناء الخبر أن يكون ظاهرًا راجحًا في معنى، فإن كان يعتقد أن ذاك المعنى حق وصدق فلم يرد إلا الصدق، وإن كان لا يعتقد ذلك فقد أراد الكذب ولا بدَّ.
وقد حصل بيدنا مثالٌ للدعوى الباطلة، لكن إنما يظهر البطلان حيث يظهر عدم التأويل، وإنما يتم ذلك في مثالٍ غير صالح للتأويل، وذلك كأن تشير لصاحبك إلى حصاةٍ وتقول:«أرى أسدًا» ، فهذه دعوى باطلةٌ وكذب.
أما البطلان؛ فلأن الحصاة لا تكون أسدًا حقيقة، كما هو واضح، ولا مجازًا؛ لفقد العلاقة المعتبرة التي يترتب عليها التأويل.
وأما الكذب؛ فلأن الخبر مخالف للواقع، لأن المجاز لا يصح، فيبقى اللفظ على حقيقته، أي أن الحصاة أسد حقيقي، وظهور بطلان هذا لا يوجب العدول عنه، إذ ليس هنا معدلٌ صحيح، فلا معنى للعدول عن باطلٍ
إلى باطل.
نعم، قد يقال: الأشبه أن المتكلم لم يرد أن الحصاة أسد حقيقة، وإنما أراد أنها أسد مجازًا، جهلًا منه بوجه المجاز، وظنًّا لصحته في مثل ذلك، فإن احتمال الجهل المركب في هذا أقرب من احتمال دعوى أنها أسد حقيقة. وعلى هذا فالكذب بحاله، فإن حاصل الخبر:«أرى أسدًا مجازيًّا» وهذا أيضًا باطل، ومخالف للواقع.
وبالجملة، فهذا الاستعمال لا هو حقيقة ولا مجاز، فهو كما قال السعد في «المطول»
(1)
: من قبيل ما لا يعتدُّ به، ولا يعدُّ في الحقيقة ولا في المجاز، بل ينسب قائله إلى ما يكره، كما صرح به في «المفتاح» .
وقريب منه قول عبد الحكيم
(2)
: كلامٌ لغوٌ لا يصدر عن عاقل، فضلًا عن أن يكون صادقًا أو كاذبًا.
أقول: فكأن السكاكي لاحظ ذلك فسمى نحو قولك ــ مشيرًا إلى حصاة ــ: «أرى أسدًا» دعوى باطلة، ولم يسمها كذبًا.
وقريب منه تفسير الشارح العلامة
(3)
للدعوى الباطلة بأنها ما يكون على خلاف الواقع.
(1)
انظر «فيض الفتاح» (ج 2/ 160). [المؤلف].
(2)
«فيض الفتاح» (ج 2/ 172). [المؤلف].
(3)
المصدر السابق (4/ 152). والشارح العلَّامة هو القطب الشيرازي (ت 710).
وأما تفسير السيد
(1)
لها بالجهل المركب، فقد مر وجهه.
وأما ما سمّاه السكاكي كذبًا، فيحتاج بيانه إلى تمهيد.
فأقول: إذا قلت: «رأيتُ أسدًا» ، وأضمرتَ في نفسك أن تريد بقولك:«أسدًا» رجلًا شجاعًا، ولم تنصب قرينة، فالخبر إنما يعطي أسدًا حقيقيًّا، وهذا مخالف لما أضمرته على كل حال.
ثم قد يكون الخبر مخالفًا للواقع في نفس الأمر وفي اعتقادك، كأن يكون الواقع أنك رأيت رجلًا شجاعًا، واعتقدت ذلك وتعمدت ترك القرينة، وقد يكون مخالفًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت لصًّا رجلًا شجاعًا مختبئًا في غار بعيد، فعرفت ذلك وأردت الإخبار به، وظننت أن هناك قرينة والواقع أنه لا قرينة، أو تكون حسبته أسدًا حقيقيًّا، ولكن أحببت أن تخبر بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة.
وقد يكون موافقًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت أسدًا حقيقيًّا في غار، فعرفت ذلك، ولكن أردت الإخبار بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة، أو حسبته رجلًا شجاعًا وأردت الإخبار بذلك، وغفلت عن نصب قرينة، أو حسبته رجلًا شجاعًا، ولكن أردت إيهامَ أنه أسد حقيقي، فتأولت في نفسك، وتركت نصب القرينة عمدًا.
وأغلب هذه الصور وقوعًا وأقربها إلى الاشتباه بالاستعارة هي الأولى، وهي كذبٌ عمدٌ.
(1)
انظر «فيض الفتاح» (4/ 152).
فبنى السكاكي عليها فعبَّر بالكذب، وكذلك بنى عليها السيد الجرجاني، ففسَّر الكذب بالكذب العمد.
أما الشارح العلامة فكأنه لاحظ تلك الصور كلها، ورأى أن المشترك بينها جميعًا هو مخالفة الخبر لما في الضمير، أي للمعنى الذي يضمره المتكلم في نفسه، ففسر الكذب بذلك.
ثم جاء صاحب «تلخيص المفتاح» ، فعدل عن عبارة «المفتاح» ، إلى قوله
(1)
: [والاستعارة تفارق الكذب بالبناء على التأويل ونصبِ القرينة على إرادة خلاف الظاهر].
والظاهر أنه بنى على تسمية الدعوى الباطلة كذبًا، وقد تقدم وجه ذلك، ثم ضم هذا الكذب إلى الذي سماه السكاكي كذبًا، فكأنه قال: والاستعارة تفارق الكذب الذي سماه السكاكي دعوى باطلة، والكذب الذي سماه كذبًا، بالتأويل والقرينة.
وعبارته تحتمل معنيين:
الأول: أن يكون أراد أنها تفارق الكذب الذي هو الدعوى الباطلة بالتأويل، وتفارق الكذب الآخر بالقرينة.
المعنى الثاني: أن يكون بنى على أن التأويل والقرينة متلازمان، إذا وُجِد أحدهما وجد الآخر، فالاستعارة تفارق كلًّا من الكذب بقسميه بكلٍّ من التأويل والقرينة.
(1)
(ص 306 بشرح البرقوقي)، وانظر «شروح التلخيص» (4/ 68).
وبيان استلزام التأويل للقرينة ما نبه عليه شارحه السعد التفتازاني في الكلام على التأويل في المجاز العقلي، فإنه قال
(1)
قال الدسوقي في حواشيه
(2)
: «المراد ملاحظة الحقيقة أو الموضع ملاحظة يعتدُّ بها، وهي إنما تكون مع القرينة
…
».
فالحاصل أن التأويل الذي يعتد به هو ما كان مع القرينة، فلا اعتداد بالتأويل الذهني الذي لا قرينة معه.
وأما استلزام القرينة للتأويل، فلأن القرينة هي الدليل الذي يمنع من إرادة المتكلم للظاهر، ويدل على إرادته غيره، وهذا إنما يتحقق في نحو قولك ــ مشيرًا إلى رجلٍ ــ:«أرى أسدًا» ؛ لأمرين:
الأول: أن المخاطب يرى أنك عاقل لا تكابر ولا تعبث، فيبعد أن تريد أن الرجل أسد حقيقة.
الثاني: أن هناك مسوغًا واضحًا للتأويل، بأن تكون أردت أن الرجل شجاع، فشبهته بالأسد، وادعيت وتأولت على ما هو معروف.
فأما إذا أشرت إلى حصاةٍ قائلًا: «أرى أسدًا» فالأمر الثاني منتفٍ، وبانتفائه يضعف الأمر الأول.
فالمشاهدة والإشارة قرينة في المثال الأول؛ لأنها مانعة من إرادة
(1)
انظر «شروح التلخيص» (1/ 234).
(2)
المصدر السابق.
الظاهر، دالة على إرادة غيره إرادةً سائغة، وليست في المثال الثاني كذلك.
فإن قيل: فإذا كان صاحب «التلخيص» بنى على تلازم التأويل والقرينة كما زعمتَ، فهلّا اكتفى بأحدهما؟
قلت: كأنه أراد أن ينبِّه على أن كلًّا منهما مقصودٌ لذاته، فالتأويل هو الذي يدفع الدعوى الباطلة، والقرينة كالشرط له، والقرينة هي التي تدفع الكذب، والتأويل كالشرط لها.
وذكر ابن السبكي في «جمع الجوامع»
(1)
ما نُسب إلى بعض الظاهرية من نفي وقوع المجاز في الكتاب والسنة، فقال المحلي في شرحه
(2)
اعترضه بعضهم
(3)
بأن الذي يدفع الكذب هو القرينة، فكان ينبغي أن يقول: لا كذب مع وجود القرينة.
ويجاب عن هذا بأجوبة:
الأول: أن القرينة عند الأصوليين شرط، فالمراد اعتبار العلاقة على الوجه المعتدّ به، وإنما يكون ذلك بوجود الشرط، وهو القرينة.
الثاني: أن يقال: مراده باعتبار العلاقة اعتبارها من كلٍّ من المتكلم والمخاطب، فاعتبار المتكلم لها ملاحظته لها بالتشبيه والدعوى والتأويل،
(1)
(1/ 308) بشرح المحلي ..
(2)
المصدر السابق.
(3)
هو البناني صاحب الحاشية على شرح المحلي في الموضع المذكور.