المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب العاشر(1)ما رخص فيه مما يقول الناس: إنه كذب - إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌المطلب العاشر(1)ما رخص فيه مما يقول الناس: إنه كذب

‌المطلب العاشر

(1)

ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب

في «الصحيحين»

(2)

من طريق ابن شهاب الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمِي خيرًا أو يقول خيرًا» .

زاد بعضهم

(3)

: «قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها» .

ولم يسمِّ ابن شهاب من سمع منه الترخيص في هذه الثلاث.

وأدرج بعضهم هذه الزيادة في الحديث، فجعلها من كلام أم كلثوم، ولفظه: «وقالت: ولم أسمعه يُرخِّص

». هكذا في «صحيح مسلم»

(4)

، وفي «مسند أحمد» (6/ 403)

(5)

: «وقالت: لم أسمعه

».

وأشار مسلم والنسائي إلى أن الصواب أنها من قول الزهري، كما في

(1)

كتب المؤلف أولًا «الثامن» ، ثم شطب عليه وكتب «العاشر» .

(2)

البخاري (2692) ومسلم (2605).

(3)

في رواية مسلم.

(4)

في الرواية الثانية له.

(5)

رقم (27272).

ص: 253

«فتح الباري»

(1)

، وفيه:«وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها» . أي أدرجها بعضهم في الحديث، وإنما هي من قول الزهري.

وكان الزهري فقيهًا، يروي الحديث، ثم يذكر كلامًا من عنده في تفسير الحديث، أو فيما يستنبط منه، أو نحو ذلك، فربما توهم بعض السامعين أن ذلك من تمام الحديث.

وفي «فتح المغيث» (ص 103)

(2)

: «وقد قال أحمد: كان وكيع يقول في الحديث: «يعني» .

وربما طرح «يعني» وذكر التفسير في الحديث، وكذا كان الزهري يفسِّر الأحاديث كثيرًا، وربما أسقط أداة التفسير، فكان بعض أقرانه دائمًا يقول له: افصِلْ كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم».

[ص 64] وقد أخرج أبو داود

(3)

من طريق أبي الأسود النضر بن عبد الجبار عن نافع بن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرخِّص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«لا أعدُّه كاذبًا: الرجل يُصلِح بين الناس، يقول القول لا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدّث امرأته، والمرأة تحدّث زوجها» .

(1)

(5/ 300).

(2)

(1/ 287، 288) ط. الهند.

(3)

رقم (4921). وقد وهم عبد الوهاب في رفعه، قال الدارقطني في «العلل» (9/ 359 طبعة الدباسي): هذا منكر، ولم يأتِ بالحديث المحفوظ الذي عند الناس. وانظر «الفتح» (5/ 300).

ص: 254

ورجاله موثقون، إلا أن النضر بن عبد الجبار اختلط عليه حديثه عن نافع بن يزيد، فكان لا يميز بين ما هو سماعٌ له منه، وما هو إجازةٌ.

وأخرج الطبراني في «المعجم الصغير» (ص 37)

(1)

نحوه من طريق وهب الله بن راشد، ثنا حيوة بن شريح، ثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد، ثنا عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن حميد. وقال: لم يروِه عن حيوة بن شريح إلا وهب الله بن راشد.

ووهب الله صدوق يخطئ كثيرًا.

فإما أن يكون أحد الرواة وقع له الحديث، وفيه تلك الزيادة مدرجة، فروى بالمعنى وقدّم وأخّر.

وإما أن يكون ابن شهاب سمع من حميد نفسه الأصل الذي في الصحيحين، وسمع من رجل عن حميد عن أمه الترخيص في الثلاث، فكان ربما اقتصر على ما سمعه من حميد، وربما أتبعه بما سمعه من رجل عن حميد على أنه من كلامه ــ أي الزهري ــ، أو على أنه أرسله عن أم كلثوم.

وربما روى ما سمعه من رجل عن حميد فدلّسه، فإن ابن شهاب مدلس، وفي هذه الرواية: ابن شهاب عن حميد.

فإن صح هذا الاحتمال الثاني تعين أن يكون ابن شهاب سمع تلك الزيادة من رجل عن حميد، والرجل مجهول، وابن شهاب يروي عن كل أحد.

(1)

(1/ 70) ط. المكتبة السلفية.

ص: 255

وإن صح الاحتمال الأول، فقد يكون ابن شهاب إنما بلغه تلك الزيادة من طريق شهر بن حوشب.

وفي «مسند أحمد» (6/ 404)

(1)

: «ثنا حجاج، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة أنها [ص 65] قالت: رخّص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكذب في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وقول الرجل لامرأته» .

وفي هذا ــ مع عنعنة ابن شهاب ــ عنعنة ابن جريج، وهو مدلس أيضًا.

فأما حديث شهر بن حوشب، فأخرج الترمذي في كتاب البر والصلة من «جامعه»

(2)

من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يصلُح الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس» .

ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن، لا نعرفه من حديث أسماء إلا من حديث ابن خثيم، وروى داود بن أبي هند هذا [ص 66] الحديث عن شهر بن حوشب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلًا، لم يذكر فيه: عن أسماء.

أقول: وابن خثيم وثّقه جماعة، لكن وصفه جماعة بالغلط، حتى قال ابن المديني: إنه منكر الحديث. وداود بن أبي هند أثبت منه، فالراجح أن

(1)

رقم (27278).

(2)

رقم (1939). وأخرجه أيضًا أحمد (27597، 27608) والطبراني في «الكبير» (24/ 166).

ص: 256

الحديث مرسل، وشهر تكلم فيه شعبة وغيره، ووثَّقه غير واحد، والله أعلم.

وترجم البخاري في كتاب الجهاد: «باب الكذب في الحرب»

(1)

. وأورد فيه قصة قتل كعب بن الأشرف

(2)

،

وفيها أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه انتدب لقتله، فذهب وخادع كعبًا، قال له:«إن هذا ــ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ قد عنَّانا وسألَنا الصدقة» . وذكر البخاري القصة في الباب الثاني

(3)

، وفيها في محاورة محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الانتداب لقتل كعب:«فأْذن لي فأقول ، فقال: قد فعلت» .

ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لمحمد بن مسلمة أن يقول، يعني أن يقول ما يحتاج إليه في التوصل إلى قتل ابن الأشرف.

وفي «مسند أحمد» (3/ 138)

(4)

: «ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، قال: سمعت ثابتًا يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر قال الحجاج بن عِلاط: يا رسول الله! إن لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا، وإني أريد أن آتيهم، فأنا في حلٍّ إن نلتُ منك أو قلت شيئًا؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما شاء، فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصيبت [ص 67] أموالهم، قال: ففشا ذلك

فجمعت امرأته ما كان عندها

(1)

(6/ 158) مع «الفتح» .

(2)

رقم (3031) ..

(3)

رقم (3032).

(4)

رقم (12409).

ص: 257

من حليٍّ ومتاع، فجمعتْه ثم دفعته إليه، ثم استمرَّ

(1)

به .. ».

وذكر ابن إسحاق

(2)

القصة بغير إسناد، وذكر فيها عن الحجاج ما هو كذب ظاهر، فإن فيها عن الحجاج أنه لقي جماعة من قريش، فقالوا له: «بلغنا أن القاطع (يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قد سار إلى خيبر

»

وأنه أجابهم بقوله: «قد بلغني» ، ثم قال: «قلت: هُزِم هزيمةً لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلًا لم تسمعوا بمثله قط، وأُسِر محمد أسرًا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة

».

فهذا لا يصلح للحجة، وإنما الاعتماد على حديث أنس، فإن سنده صحيح.

أقول: أما حديث «ليس الكذاب

» فهذا التركيب يأتي في الكلام على وجهين:

الأول: أن يقصد به بيان أن حصول مدلول خبر «ليس» منافٍ لحصول مدلول اسمها على الكمال.

كحديث: «ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء»

(3)

(1)

كذا في الطبعة القديمة من «المسند» و «غاية المقصد» (2729) و «إتحاف الخيرة» (4597). وفي طبعة الرسالة: «انْشَمَر» أي تهيَّأ، وهو كذلك في «مصنّف عبد الرزاق» (9771) و «المعجم الكبير» للطبراني (3196) و «دلائل النبوة» (4/ 268).

(2)

كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 345 وما بعدها).

(3)

أخرجه أحمد في «المسند» (3839) والبخاري في «الأدب المفرد» (332) والترمذي (1977) وغيرهم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه. وصححه الحاكم في «المستدرك» (1/ 12) على شرط الشيخين.

ص: 258

فالمعنى أن كل واحدة من هذه الخصال تنافي كمال الإيمان، فكثرة الطعن في أعراض الناس تنافي كمال إيمان الطعان. وقِسْ على ذلك.

وكحديث: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس»

(1)

. فطواف الفقير على الناس من شأنه أن يحصل به ما يُعيشه، وذلك منافٍ لكمال المسكنة.

وكحديث: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه»

(2)

.

الوجه الثاني: أن يقصد به أن حصول مدلول خبر «ليس» لا يحصل به مدلول اسمها على الكمال.

كحديث: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس»

(3)

. فالمعنى [ص 68] أن كثرة العرض لا يحصل بها الغنى الكامل.

وكحديث: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»

(4)

.

فأما حديث: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعَت رحِمُه وصَلَها»

(5)

، فيحتمل الوجهين، فإن أريد بالمكافئ من يكافئ على

(1)

أخرجه البخاري (1476، 4539) ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (112) وأبو يعلى (2699) والحاكم في «المستدرك» (4/ 167) من حديث ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.

(4)

أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.

(5)

أخرجه البخاري (5991) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 259

الوصل ويكافئ على القطع؛ فهو من الوجه الأول، وإن أريد به المكافئ على الصلة بحيث يشمل المتواصلين اللذين لم يقطع أحد منهما صاحبه قطُّ، فهو من الوجه الثاني. فالصلة الكاملة أن تصل قريبك وإن قطعك، فإن اتفق أنه لم يقطعك قط كفاك في كمال الصلة أن تكون عازمًا على أنك لا تقطعه ولو قطعك. والقطيعة الكاملة أن تقطعه وإن وصلك، فإن اتفق أنه لم يصلك قطُّ كفى في كمال القطيعة أن تكون عازمًا على أن لا تصله وإن وصلك. والمكافأة ليست بصلة كاملة، ولا قطيعة كاملة.

إذا تقرر هذا، فحديث: «ليس الكذاب بالذي يُصلِح

» إن حُمل على الوجه الأول، فالمعنى: أن جريان عادة الرجل بالسعي للإصلاح بين الناس، فيقول الخير، ويَنْمي الخير، ينافي أن يكون كذابًا، فإن الكذاب هو من كثر كذبه وفحش، فصار سجية له. وفي حديث «الصحيحين»

(1)

: «وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا» .

ومن كان كذلك إنما يتحرى ما يراه محصِّلًا لأغراضه في الدنيا، فإذا علم برجلين أو فريقين متخاصمين أتى هذا فجاراه على هواه، فيقول في خصمه الشر، وينمي عنه الشر، ليحصل غرضه منه، وإذا جاء الآخر جاراه على هواه أيضًا، فقال في خصمه الشر ونَمى الشر، فيزيد ذات بينهما فسادًا. فحاله حال المنافق، وفي حديث «الصحيحين»

(2)

[ص 69]: «علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان» .

(1)

البخاري (6094) ومسلم (2607) عن ابن مسعود، واللفظ لمسلم.

(2)

البخاري (33، 6095) ومسلم (59) من حديث أبي هريرة.

ص: 260

وفوق هذا، فإنما يعتاد السعي بالإصلاح من يرجو أن يتيسر له ذلك، وإنما يتيسر لمن عُرف بالصدق، واشتهر به؛ لأنه هو الحريّ بأن يقبل كل من الخصمين قوله، ويعتمد على خبره، ومن عُرف بالكذب وشُهِر به بعيد عن ذلك.

فإن قيل: فما فائدة الحديث على هذا الوجه؟

قلت: من فائدته إرشاد المتخاصمينِ إلى أن يقبل كلٌّ منهما كلام المصلح الذي عُرف باعتياد الإصلاح، وقول الخير، ونمي الخير، ويعتمد على خبره؛ لأن تلك الحال شاهدة له أنه ليس بكذاب.

وعلى هذا الوجه لا يكون في الحديث ما يدل على الرخصة.

وكما أن حديث: «ليس المؤمن بالطعان

»، وحديث:«ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» = لا يقتضيان نفي الإيمان البتة، ولا إثباته في الجملة، فكذلك هذا الحديث لا يقتضي نفي الكذب البتة عمن اعتاد الإصلاح وقول الخير ونمي الخير، ولا إثبات الكذب في الجملة.

وكما أن ذينك الحديثين لا يقتضيان أنه على فرض ثبوت الإيمان في الجملة لا حكم له، والأدلة الأخرى تقتضي أن له حكمًا، وأنه نافعٌ في الدنيا والآخرة= فكذلك هذا الحديث لا يقتضي أنه على فرض ثبوت الكذب في الجملة ممن اعتاد الإصلاح لا حكم له، فيطلب حكمه من الأدلة الأخرى، والأدلة العامة في تحريم الكذب تتناوله.

وإن حُمل على الوجه الثاني، فالمعنى أن اعتياد الرجل الإصلاحَ فيقول

ص: 261

الخير وينمي الخير، لا يكفي وحده لأن يكون كذابًا.

ثم يكون فيه احتمالان:

الأول: أن يكون المعنى: أن هذا ليس بالكذاب الراسخ في الكذب، وإن كان فيما يقوله وينميه من الخير ما هو كذب. فعلى هذا لا يكون في الحديث دلالة

(1)

.

* * * *

[ص 74] وأما قول الزهري: «ولم أسمع يرخَّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث .. » فلا يُدرى ممن سمع الترخيص، ولعله إنما بلغه مرسلُ شهرٍ

(2)

.

وعدول الزهري عن أن يقول: «في شيء من الكذب» إلى قوله: «في شيء مما يقول الناس إنه كذب» ظاهرٌ في أن المرخَّص فيه عنده ليس هو الكذب حقيقة، وإنما هو ما قد يقرب منه من المعاريض.

وحديث أبي داود قد مرَّ ما فيه، ومرَّ ترجيح الأئمة أن ذاك الكلام لم يسنده الزهري، فإما أن يكون الإسناد في تلك الرواية خطأ، وإما أن يكون الزهري لم يسمع ذلك من حميد، وإنما سمعه من رجل عن حميد، فدلَّسه، والثابت سماع الزهري له من حميد هو ما في الصحيحين.

وأما حديث الترمذي؛ فقد ترجَّح أن شهرًا أرسله، وشهر مختلف فيه، فلا تقوم الحجة بهذا الحديث.

(1)

هنا نهاية الورقة (69) في الأصل، والأوراق (70، 71، 72، 73) غير موجودة.

(2)

شهر بن حوشب.

ص: 262

وأما إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة وللحجاج بن علاط أن يقولا، يعني ما يحتاجان إليه في التوصل إلى المقصود، وهو قتل محمدٍ كعبَ بن الأشرف، واستنقاذ الحجاج ماله من المشركين. فالذي كان محمد بن مسلمة يحتاج إليه هو أن يوهم أنه يميل إلى النفاق، والذي كان الحجاج يحتاج إليه هو إيهام أنه على شركه، وأن المسلمين انهزموا عن خيبر، وغنم اليهود أموالهم.

وفي استئذان الحجاج من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «فأنا في حلٍّ إن نِلتُ منك؟» ، ونيل الرجل من صاحبه أن يعيبه وينتقصه.

فهل أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولا كل ما يحتاجان إليه، ولو كلمة الكفر، كأن يصرح أحدهما بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبِّه وسبِّ من أرسله؟

فإن قيل: أما التصريح بالكفر، فلا يجوز إلا لمن أُكرِه عليه.

قلت: فكما خرج هذا لعموم الأدلة المانعة من قول الكفر، فكذلك يخرج الكذب لعموم الأدلة المحرمة للكذب.

وعلى هذا، فإنما أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ والله أعلم ــ في ما جرت به عادة عقلاء الرجال في مثل تلك الأحوال، من الإيهام، كقول محمد بن مسلمة:«إن هذا ــ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ قد عنَّانا، وسألنَا الصدقة» صِدْق؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عنّاهم في سبيل الله، وسألهم الصدقة يأخذها من أغنيائهم، فيردها على فقرائهم. غاية الأمر أن تلك الكلمة «قد عنّانا وسألنا الصدقة» تُشعر بأن قائلها قالها على سبيل الشكوى.

ص: 263

نعم، في بقية كلام محمد بن مسلمة في رواية البخاري في المغازي

(1)

: «وإني قد أتيتك أستسلفك

وقد أردنا أن تُسلِفنا وسقًا أو وسقين

» ثم ذكر طلب كعبٍ الرهن، وجواب محمد وأصحابه، وفيه:«ولكنا نَرْهنك اللَّأمة» .

أقول: كان مجيء محمد بن مسلمة ومن معه إلى ابن الأشرف مرتين، جاءوه أولًا وليس معهم سلاح؛ ليطمئن إليهم، وسألوه أن يُسلِفهم طعامًا، كأنهم قد علموا أنه سيطلب منهم الرهن، فيقررون معه أن يرهنوه سلاحًا، فإذا وافقهم على ذلك رجعوا، ثم عادوا إليه ومعهم السلاح؛ ليظن أنهم جاءوا به ليرهنوه، فلا يحذر منهم، فكان الأمر كما ظنوا، استسلفوه فطلب منهم الرهن، فقاولوه إلى أن قالوا: نرهنك اللأمة، أي السلاح، فقبل، فذهبوا وعادوا بسلاحهم، فدعَوه فخرج إليهم فقتلوه.

فقول محمد: «أتيتك أستسلفك» صدق؛ لأنه جاء أولًا ليستسلفه، أي: يطلب منه أن يُسلِفه، وإن كان مقصوده بطلب السلف ما قدمنا.

أما قوله: «وقد أردنا أن تسلفنا» ، فإرادة الإنسان لفعل غيره قد تكون بمعنى الطلب، تقول: أردت من زيد أن يقوم، أي: طلبت منه أن يقوم. وقد تكون بمعنى المحبة. فإن كانت هناك بمعنى الطلب فهو صحيح؛ لأنهم طلبوا أن يسلفهم، [ص 76] وإن كانت بمعنى المحبة فلا مانع من أن يكونوا يحبّون أن يُسلفهم، وإن لم يجيئوه لذلك.

(1)

رقم (4037).

ص: 264

وأما قوله: «نَرهَنُك اللأمة» فلا يخفى أن معناه: إن أعطيتنا التمر رهنَّاك، وقد علموا أن إعطاء التمر لن يكون.

وأما قصة الحجاج بن عِلاط الثابتة بالمسند، فقوله:«فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» لا مانع من صحته على ظاهره، وأنه كان يريد أن يشتري من الغنائم التي غنمها المسلمون من خيبر.

وقوله: «غنائم محمد وأصحابه» إنما يفهم منه أنهم غنموها، لا أن غيرهم غنمها منهم. تقول: هذه غنيمتي، فلا يفهم من هذا ــ حيث لا قرينة ــ إلا أنك غَنِمتَها، ولا يكاد يصح أن تقول ذلك وأنت تريد أنها التي غنمها غيرك منك.

ويوضحه: أنك إن قلت: «غنيمتي» بمعنى التي غنمها غيري مني، فالإضافة هنا لا تكون بمعنى «من» ؛ لأن ذاك خاصٌّ بإضافة الشيء إلى جنسه، كقولك:«خاتمُ حديدٍ» ، فإنما تكون الإضافة إذًا بمعنى «اللام» ، كأنك قلت:«غنيمة لي» ، وهذا لا يصح إلا على التجوز البعيد، بمعنى أنها قبل أن تغنم كانت مملوكة لي.

فإذ قد ثبت أن قوله: «غنائم محمد وأصحابه» إنما يُفهِم الأموال التي غنمها محمد وأصحابه، فنقول: إنه قد كان اشتهر في تلك المدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج بأصحابه يقاتل أهل خيبر، فهذه قرينة أن المراد بقوله:«غنائم محمد وأصحابه» هي الأموال التي غنموها من خيبر. وكان أهل خيبر في حصونهم، فلن تُغنم أموالهم حتى يستباحوا.

فقوله: «أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» يدل على أن أهل خيبر قد استبيحوا، وأصيبت [ص 77] أموالهم.

ص: 265

فقوله بعد ذلك: «فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم» إن نُظِر إليها مع الغفلة عما قبلها، سوى أن فيما قبلها ذكر محمد وأصحابه= فلا ريب أن الظاهر الواضح منها هو أن محمدًا وأصحابه استُبيحوا وغُنِمت أموالهم، وقد كان اشتهر كما تقدم ما يدل أن الذين استباحوا وغنموا هم يهود خيبر.

وأما إن نُظِر إليها بعد فَهْم ما قبلها على الوجه، فإن السامع يتردد للتعارض، فإن قوله:«أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» ظاهرٌ بيِّن في أن محمدًا وأصحابه استباحوا أهل خيبر، وغنموا أموالهم، وقوله: «فإنهم قد استُبيحوا

» ظاهرٌ في عكس ذلك.

وكما يحتمل أن يكون أراد بقوله: «غنائم محمد وأصحابه» أي الأموال التي كانت لمحمد وأصحابه قبل أن تُغنَم، فكذلك يحتمل أن يكون أراد بقوله:«فإنهم» أهل خيبر؛ لأنهم وإن لم يجرِ لهم ذكرٌ تصريحًا، فقد دل الكلام بمعونة القرينة على ذلك.

لكن المشركين لما كانوا يتمنَّون الشرَّ لمحمدٍ وأصحابه، ويحملهم تمنِّيه على تخيله= غفل أول من سمع كلام الحجاج منهم عن معنى الجملة الأولى، فلم يستقر في ذهنه منه إلا ذكر محمدٍ وأصحابه، ففهم أنهم هم الذين استبيحوا وغُنِمت أموالهم، ثم ذهب يخبر بحسب ما فهم.

فإن قيل: فإنه يبعد في العادة أن يقتصر المشركون على ما تخبر به امرأة الحجاج، أو من سمع الخبر معها، بل الغالب أن جماعة منهم إذا سمعوا الخبر يذهبون إلى الحجاج يستثبتونه. وفي القصة في «مسند أحمد»

(1)

أن

(1)

رقم (12409).

ص: 266

العباس رضي الله عنه لما بلغه الخبر أرسل غلامًا له إلى الحجاج يسأله، ثم ذهب الحجاج إلى العباس وأخبره بالواقع، وسأله أن يكتم ذلك ثلاثة أيام، فلا بد أن يكون جماعة من المشركين قد ذهبوا إلى الحجاج فسألوه.

قلت: فقد [ص 78] يكون تحرَّى التورية أيضًا، فإن الكلام واسع، و «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» ، فإن كان ولا بدَّ، فالكلمات الصحيحة الموهمة كما مر في كلمات محمد بن مسلمة.

على أنه قد يقال: إنه بعد أن شاع عنه ما تقدم، وظهر أنه يريد أخذ ماله ويذهب به، لو سألوه فغالطهم يخشى أن يتهموه فيحبسوه، فيوشك أن يتبين لهم أنه قد أسلم، وأنه إنما قصد مخادعتهم؛ فيناله منهم شر، فرأى أنه مضطر إلى دفع ذلك، فجاز له الكذب للضرورة، كما يأتي.

هذا، وسواء قلنا بجواز الكذب الصريح في الحرب، أو بجواز ما ظاهره كذبٌ، وتأول القائل في نفسه معنًى صحيحًا، أو بجواز الكلمات الموهمة= فإن ذلك يختص بأن لا تترتب على ذلك مفسدة، ومما تترتب عليه مفسدة أن يكون الكلام على وجه تأمين المسلم للكافر الحربي، كقوله له:«لا تخف» ، فإن الكافر إذا سمع ذلك فأمن لم يحل للمسلمين الاعتداء عليه حتى يُبلِغوه مأمنه وينذروه؛ لأنهم إذا اعتدَوا عليه وقالوا: ليس ذاك بأمان، شاع عن المسلمين أنهم يغدرون بمن أمَّنوه، ثم لا يكاد كافر يثق بأمان مسلم، وفي ذلك مفسدة عظيمة.

وهكذا ما كان على وجه المعاهدة، ولو من بعض أفراد المسلمين.

ص: 267

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن حذيفة: «قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسَيلٌ، قال: فأخذَنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِيْ لهم بعهدهم، ونستعين الله عز وجل عليهم» .

[ص 79] الظاهر من سياق الكلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذٍ ببدر، فظن المشركون أن حذيفة وأباه يريدانِ أن يأتياه ببدرٍ ليقاتلا معه. ولا أدري هل كانا قاصدين لذلك، عازمين عليه، حتى في وقت قولهما:«ما نريده» ، فيكون ظاهر هذا كذبًا، أم كان أصل قصدهما المدينة، وإنما بدا لهما بعد ذلك أن يمرّا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببدر؟

هذا، وكان المسلمون ببدر محتاجين إلى من يكون معهم؛ لقلة عددهم.

فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم

»

واضح الدلالة على وجوب الوفاء، وهو مذهب مالك، ويؤكده مع الأدلة العامة في إيجاب الوفاء بالعهد: أنه لو رخص في عدم الوفاء لشاع ذلك عن المسلمين، وقد يتضرر به جماعة ممن يأتي بعد ذلك يريد المسلمين، فيحبسه الكفار ولا يثقون بعهده.

فأما معاهدة الإمام، فالأمر فيها أشد، ووجوب الوفاء فيها آكد.

وأما المهاجرات في مدة هدنة الحديبية، فإنما أمر الله عز وجل أن لا

(1)

رقم (1787).

ص: 268

يرجعن إلى الكفار؛ لأنهن لم يدخلن في المعاهدة، فإن لفظها فيما اشترطه المشركون قولهم للمسلمين:«من جاء منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا»

(1)

.

وكلمة «مَنْ» قد تأتي للذكور فقط، كقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]. وقد تأتي للإناث، كقوله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30 - 31].

وتأتي للجنسين معًا مبينًا ذلك، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124]. [ص 80] وقوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97]. وقوله عز وجل: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [غافر: 40].

واختلف أهل العلم فيما إذا جاءت مطلقة، والضمائر بعدها مذكَّرة:

فقال جماعة: تختص بالرجال ظاهرًا، ولا يدخل فيها الإناث إلا بدليل، وذلك كالاستواء في التكليف في أحكام الشرع، فإنه يدل على العموم. كيف لا، وكثير من الأحكام جاءت في حق رجلٍ بعينه، فعممت؛ للاستواء في التكليف.

وقال آخرون: يدخل فيها الإناث ظاهرًا ولا يخرجن إلا بدليل.

(1)

انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 317) و «البداية والنهاية» (6/ 217).

ص: 269

فإذا بنينا على الأول؛ فمعاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين باللفظ المتقدم لم تدخل فيها النساء، ويؤكد ذلك ما يأتي.

وإن بنينا على الثاني؛ فهناك قرينتان تدلان على خروجهن:

الأولى: أن الذي كان يهم قريشًا إنما هو أمر الرجال؛ لأن لحوق الرجال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقص عدد المشركين، ويُكثِر عدد المسلمين، فيكون ذلك من أسباب استعلاء المسلمين على المشركين في القوة بكثرة العدد. وقد شاهدوا رغبة كثير منهم في الإسلام، فخافوا أنه في مدة الهدنة يلحق كثيرون منهم بالمسلمين، فلا تنقضي الهدنة أو تُنْقَض إلا والمسلمون كثير، والمشركون قليل.

فأما النساء فلا شأن لهن في القتال، والغالب فيمن يظن بها اللحاق بالمسلمين بعد الهدنة هي من كان زوجها قد أسلم قبل ذلك، وهؤلاء قد كان المشركون أنفسهم قبل الهدنة يخلُّون سبيلهن إذا أرادت إحداهن [ص 81] أن تلحق بزوجها، ولم يكن هناك دخل كبير للغَيرة، لأن من كانت تسلم من نساء المشركين وتهاجر إلى المسلمين كان المسلمون يكرمونها ويغارون عليها أشدَّ من غَيرة أقاربها المشركين ديانةً وعصبيةً، وتجد في المسلمين جماعة من عصبتها.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بلغ أبا سفيان، فقال: هو الفحل لا يُقدَع أنفه

(1)

.

القرينة الثانية: أن من شأن المعاهدات المكتوبة أن يُحتاط فيها، ولا

(1)

كما في «طبقات ابن سعد» (8/ 99).

ص: 270

يُكتفى بالاحتمال أو الظهور الضعيف، فلو قصدوا دخول الإناث في الشرط لكان الظاهر أن يصرحوا بذلك، كما صرح القرآن في الآيات المتقدمة بقوله:{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} .

فإن قيل: فلماذا طالب المشركون بعد ذلك بردّ النساء، فأنزل الله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]؟

قلت: لما لم تكن المعاهدة صريحة في خروجهن طمعوا في زعم دخولهن، وأكمل الله عز وجل للمسلمين ما فيه المبالغة في الوفاء، فأمرهم أن لا يمسكوا بعِصَمِ الكوافر، ولم يطالبوا قريشًا برد من عسى أن ترتدّ من المسلمات فتلحق بالمشركين، وبذلك فرغت للمشركين عدة من المشركات اللاتي كن في عِصَم المسلمين.

ثم أمر الله تعالى المسلمين أن يعوِّضوا الكفار عن أزواجهم اللاتي يهاجرن بأن يدفعوا لأزواجهن من المشركين ما كانوا أنفقوا في زواجهن، فرضي المشركون وطابت نفوسهم.

وفي تلك المدة سافر أبو سفيان بن حرب إلى الشام، فدعا به هرقل، وسأله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جملة ما قال له هرقل

(1)

: «فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها» . ثم قال أبو سفيان بعد إسلامه وإخباره بالقصة: «ولم يُمكنِّي كلمة أُدخِل فيها شيئًا غير هذه الكلمة» . وقال أبو سفيان: «لولا الحياء من أن يَأثِروا عليّ كذبًا لكذبت» . وكان يومئذٍ من أشد المشركين عداوةً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو علم أن

(1)

أخرجه البخاري (7) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان ضمن القصة.

ص: 271

النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد عليهم من جاءه من النساء [ص 82] في الهدنة، وأن ذلك قد يُعدُّ غدرًا= لذكر ذلك لهرقل.

فإن قيل: فقد تكون قصته مع هرقل قبل أن تهاجر بعض النساء، فيمنعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فكان ينبغي عند حصول المنع أن يُكثِر المشركون من التشنيع بأنه غدر، وكان الغدر عندهم من أشنع الأمور، وقد سمعوا هرقل في محاورته لأبي سفيان يقول له:«وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر» . ولا ريب أن النساء لو كن داخلاتٍ في المعاهدة، لكان الامتناع من إرجاعهن غدرًا.

ولا يدفع ذلك ما زعمه بعضهم من أن القرآن خصص المعاهدة بعد عمومها، أو نسخها فيما يتعلق بالنساء، فإن المشركين لم يكونوا معترفين بالقرآن، ولا ملتزمين لأحكامه، ولو قيل لهم ذلك لقالوا: إن محمدًا يغدر، وينسب الغدر إلى الله عز وجل، ثم يقولون: لا نثق بعهد محمد بعدها، فإنه يعاهد ثم يغدر، ويقول: إن الله خص ذلك أو نسخه.

فالصواب ما قدمنا أن النساء لم يدخلن في المعاهدة رأسًا. فإن فرضنا أنهن دخلن، فلا بد أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاوض المشركين بعد ذلك في إخراج النساء، على الشرائط التي ذكرها الله عز وجل في سورة «الممتحنة» ، فرضي المشركون بذلك، فكان ذلك نسخًا برضا الجانبين. ولا ريب أنه لا يسمى غدرًا، ولا رائحة للغدر فيه، وقد جاءت آثار تشير إلى هذا. راجع «تفسير ابن جرير» (28/ 41 - 47)

(1)

.

(1)

(22/ 578 وما بعدها) ط. التركي.

ص: 272

ولا يخفى أن الإخلال بالعهد تترتب عليه مفاسد عظيمة جدًّا؛ فإنه يُسقِط الثقة بعهود [ص 83] المسلمين وعقودهم وذِمَمهم، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا تحصى.

فأما ما ذكره ابن حجر بقوله

(1)

: «واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختفٍ عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك، ولا يأثم. والله أعلم» .

فالضرورة على درجات:

منها: أن يخاف الإنسان على نفسه الهلاك إن لم يكذب، فهذا لا شك أنه يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، كالمكره يجوز له الكفر.

ومنها: أن يخشى على نفسه ضررًا، والذي يظهر أنه إن كان ذاك الضرر شديدًا، بحيث لو هُدِّد به الإنسان إن لم يفعل كذا لكان إكراهًا، فمثله يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق. وأما إن كان الضرر دون ذلك، ففيه نظر.

ومنها: أن لا يخاف الإنسان على نفسه، ولكنه يخاف على غيره، كالمثال الذي ذكره ابن حجر، إذا كان صاحب البيت يرى أنه لا يناله سوء إذا عثر الظالم على الرجل المطلوب مختفيًا عنده، وإنما يخاف على المختفي. والظاهر أنه إن خاف على ذلك الرجل الهلاك أو الضرر الشديد، جاز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، وإلا ففيه نظر.

(1)

في «الفتح» (5/ 300).

ص: 273

وفي «سنن أبي داود»

(1)

وغيرها من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي، فخلَّى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: صدقتَ، المسلم أخو المسلم».

إبراهيم بن عبد الأعلى: ثقة، وجدته لا أعرفها.

ومعنى القصة: أنهم كانوا مسافرين ومعهم وائل، [ص 84] فمروا بقومٍ أعداءٍ لقبيلة وائل، فعرفوا القوم أو بعضهم، وأنهم ليسوا من قبيلة وائل، وبقي وائل وهم لا يعرفونه، فقال رفقته ــ والله أعلم ــ: هو رجل منا. فاستحلفوهم على ذلك، فتحرَّجوا، وحلف سويد أنه أخوه.

والذي يظهر ــ والله أعلم ــ في مثل هذه الواقعة جواز الكذب.

وقد مر الكلام على قول إبراهيم في امرأته: «هي أختي» .

وجاء أن ابنين لرِبْعي بن حِراش أحد فضلاء التابعين خرجا فيمن خرج على الحجاج، فانهزموا، فعادا، فاختفيا في بيت أبيهما، وكان الحجاج يطلب الخارجين عليه فيقتلهم، فسأل عن ابني رِبْعي، فقيل له: سل أباهما فإنه يزعم أنه لم يكذب قط، فدعا به فسأله، فقال ربعي: هما في البيت، والله المستعان.

فحسن موقع ذلك عند الحجاج، فعفا عنهما

(2)

.

(1)

رقم (3256). وأخرجه أيضًا أحمد في «مسنده» (16726) وابن ماجه (2119) والحاكم في «المستدرك» (4/ 299، 300).

(2)

انظر «معرفة الثقات» للعجلي (1/ 350) و «تاريخ بغداد» (8/ 433) و «وفيات الأعيان» (2/ 300) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 360).

ص: 274

فلا أدري أتحرَّجَ ربعي من الكذب، أم خاف أن يكون قد بلغ الحجاجَ الأمرُ، أو أن يبعث من يفتِّش البيت، فيكون الشر أشد؟

وفي «المعجم الصغير» للطبراني (ص 47)

(1)

: عن عبد القاهر بن السري، قال: اختفى رجل عند أبي السوَّار العدوي زمن الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إنه عند أبي السوار، فبعث إليه الحجاج فأحضره، فقال له: الرجل الذي عندك. فقال: ليس عندي. فقال: وإلا أم السوار طالق ــ يعني امرأة أبي السوار ــ. فقال: ما خرجتُ من عندها وأنا أنوي طلاقها. فقال: وإلا أنت بريء من الإسلام. قال: فإلى أين أذهب؟ فخلَّى سبيله».

فكأن أبا السوَّار قال: «ليس عندي» يريد هاهنا، ثم كفَّ عن الطلاق خوفًا من أن يتبين الحال، فيُلزِمه الحجاج الطلاقَ، ولا يقبل عذره.

هذا، وكلُّ ما ورد فيه الترخيص في الكذب، فإن أمثلته المنقولة كلها تبين أن ذلك فيما إذا لم تترتب على الكذب مفسدة، سوى خشية أن يُنسب القائل فيما بعد إلى الكذب.

ويبقى الكلام فيما إذا كان من شأن الكذب وما يقرب منه من الإيهام أن تترتب عليه مفسدة، فقد يقال: إنه حينئذٍ لا يرخص فيه البتة، لا في حرب ولا غيره. وقد يقال: إن كانت تلك المفسدة أخفَّ من المفسدة التي يتعيَّن الكذب لدفعها، جاز.

والذي يظهر أن المفسدة التي تترتب على الكذب إن كانت إنما هي

(1)

(1/ 85).

ص: 275

[ص 85] ضرر على الإنسان نفسه في دنياه جاز له أن يكذب ويتحملها، وإلا فلا.

وتفصيل هذا يطول، غير أني أقول: لا يصح إطلاق القول الثاني، فإن قولهم:«إذا تعارضت مفسدتان تعيَّن دفع الكبرى» ليس على إطلاقه، وإن كثرت شواهده.

فلو اتفق لك في قضية تعلم منها أنك إن كذبت قُتل رجل واحد ظلمًا، وإن لم تكذب قُتل رجلان آخران ظلمًا، فمفسدة قتل رجلين أشد من مفسدة قتل رجلٍ، ولكن لا قائلَ ــ فيما أعلم ــ بجواز الكذب.

وقد يقرب هذا إلى الفهم بأنك لو كذبت فقُتل زيد بسبب كذبتك، فقد أثمتَ بتسبُّبِك في قتله، وإن لم تكذب فقُتل بكر وخالد ظلمًا، ولم تكن قادرًا على تخليصهما إلا بأن تعرِّض زيدًا للقتل، فلا إثم عليك؛ لأنك لم تتسبب في قتلهما، وعدم تسببك في خلاصهما إنما كان لعجزك، لأنك عاجز شرعًا عن الكذب الذي تعرِّض به زيدًا للقتل ظلمًا.

هذا، وقد طال الكلام في هذا المطلب، ولم أبلغ منه كل ما أريد، وأرجو أن أكون قد قاربت، والله الموفق.

ص: 276