المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌البيان والمبين (ص) البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز - تشنيف المسامع بجمع الجوامع - جـ ٢

[بدر الدين الزركشي]

الفصل: ‌ ‌البيان والمبين (ص) البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز

‌البيان والمبين

(ص) البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.

(ش) هذا نقله ابن السمعاني وغيره عن أبي بكر الصيرفي وزاد عنه إمام

ص: 846

الحرمين وابن الحاجب والوضوح وإنما اختاره المصنف لأنه أجاب عما أورده ابن الحاجب عليه، فإن القاضي قال: يخرج عنه البيان ابتداء وهو الظاهر من غير سبق إجمال. وأجاب المصنف أن الصيرفي منع تسميته بيانا، فإن البيان الذي هو فعل المبين، إنما يكون لما ليس واضحا ولأن ما ورد ابتداء أفاد علما لم يكن حاصلا للسامع فهو قبل السماع.

كمن أشكل عليه خطاب سبق وروده، واعترض عليه إمام الحرمين بأنه تجوز بالخبر والمجاز لا يدخل في التعريف، وأجاب المصنف بأن المجاز الظاهر يجوز دخوله وإلا لم يسلم لهم تعريف.

(ص) وإنما يجب لمن يريد فهمه اتفاقا.

(ش) لأن الفهم شرط التكليف، وإن لم يرد لم يجب، ولهذا ذهب بعضهم إلى

ص: 847

أنه لا يجب البيان في الخبر، وإنما يجب في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها للعلم بها.

(ص) والأصح أنه قد يكون بالفعل.

(ش) بدليل أنه عليه الصلاة والسلام بين الصلاة والحج بالفعل، وقال:((خذوا عني مناسككم)). ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).

وقيل: يمتنع لأنه يطول فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله، ومحل الخلاف ما إذا ورد مجملا ثم فعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له (فيعلم بذلك أنه واقع منه على جهة البيان وإلا للزم خلو المجمل عن البيان، وهو ممتنع أما إذا قال القصد بما كلفتهم بهذه الآية ما أفعله ثم فعل فعلا فلا خلاف أن يكون بيانا له) قاله القاضي في (التقريب).

واعلم أنه لا خلاف في وقوع البيان بالقول وإنما الخلاف في الفعل، وسكتوا عن الإشارة والكتابة فيحمل أن يكون على خلاف الفعل، لكن قال صاحب

ص: 848

كتاب (الواضح) من الحنفية لا أعلم خلافا في أن البيان يقع بهما.

(ص) وأن المظنون يبين المعلوم.

(ش) هذا نقله القاضي في (التقريب) عن الجماهير وقال: إنه المختار واختاره الإمام الرازي واقتصر ابن الحاجب على نقله عن أبي الحسين ثم اختار أن البيان يجب أن يكون أقوى دلالة من المبين وعن الكرخي المساواة واستنكر الهندي ذلك وقال: لا يتوهم في حق أحد، أنه ذهب إلى اشتراط أنه كالمبين في قوة الدلالة فإنه لو كان كذلك لما كان بيانا له، بل كان هو يحتاج إلى بيان آخر وحكى القاضي

ص: 849

عن العراقيين التفصيل بين ما يعم وجوبه سائر المكلفين لبيان أقدار الصلاة والزكاة وصفاتهما وميقاتهما، فيجب أن يكون بيانه معلوما متواترا وبين ما لا تعم به البلوى وتختص معرفته بالعلماء كقدر نصاب السرقة وأحكام المدبر والمكاتب فيقبل في بيانه خبرا لواحد فحصل ثلاثة مذاهب.

(ص) وإن المتقدم وإن جهلت عينه من القول والفعل (121أ) هو البيان وإن لم يتفق البيانان كما لو طاف بعد الحج طوافين وأمر بواحد، فالقول وفعله ندب أو واجب متقدما أو متأخرا وقال أبو الحسين المتقدم.

(ش) إذا ورد بعد المجمل قول وفعل، فإما أن يتفقا في الحكم أو يختلفا: فإن اتفقا فإما أن يعلم المتقدم منهما أولا فإن اتفقا وعلم المتقدم منهما فهو البيان قولا كان أو فعلا، والثاني تأكيد وإن جهل فأحدهما هو البيان من غير تعيين له، وقيل: يتعين غير الأرجح للتقديم، لأن المرجوح، لا يكون تأكيدا للراجح لعدم الفائدة

ص: 850

واختاره الآمدي وإن لم يتفقا كما لو طاف صلى الله عليه وسلم بعد الحج طوافين وأمر بطواف واحد فالمختار أن البيان هو القول (وفعله إما ندب له صلى الله عليه وسلم أو واجب عليه لا علينا سواء كان) متقدما على الفعل أو متأخرا، لأن الجمع بين الدليلين أولى وقال أبو الحسين: البيان هو المتقدم قولا كان أو فعلا، كما في صورة اتفاق

ص: 851

القول والفعل وهو باطل، لأنه يلزمه نسخ الفعل بالقول إذا وقع القول متقدما مع إمكان الجمع بينهما.

(ص) مسألة: تأخير البيان عن وقت الفعل غير واقع وإن جاز.

(ش) أي بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وعدل عن تعبير ابن الحاجب بالحاجة فإن الأستاذ أبا إسحاق، لم يستحسنها، وقال: هي عبارة تليق بمذهب المعتزلة القائلين إن بالمؤمنين حاجة إلى التكليف، وعدل عن قوله ممتنع، إلى قوله:

ص: 852

غير واقع لمطابقته لأصول الأشاعرة فإنهم وإن جوزوه، فلا يقضي بوقوعه كما سبق، والغرض أنه لم يقع، وقوله: إن جاز، لا ينافي قوله في مباحث الكتاب: ولا ما يعني به غير ظاهره إلا بدليل.

تنبيه: قولهم لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو الفعل، هل المراد به وقت إمكان الفعل، أو وقت تضييق الزمان، مثاله: إذا زالت الشمس ولم يبين للمكلف ما يفعل هل يكون هذا تأخيرا للبيان، أو لا يكون إلى أن يبقى من الوقت ما يسع تلك الصلاة. الذي صرح به القاضي أبو بكر، أن المراد وقت جواز الشروع في الفعل، فيكون تأخير البيان عن وقت الزوال تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، وعلى هذا يشكل تعليلهم المنع بأنه تكليف ما لا يطاق، لأنه إذا تبين له في نصف الوقت لم يكن تكليفا بما لا يطاق، وهو تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ص: 853

(ص) وإلى وقته واقع عند الجمهور، سواء كان للمبين ظاهر أم لا، وثالثها: يمتنع في غير المجمل وهو ما له ظاهر، ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالي فيما له ظاهر بخلاف المشترك والمتواطئ وخامسها: يمتنع في غير النسخ، وقيل: يجوز تأخير النسخ اتفاقا، وسادسها: لا يجوز تأخير بعض دون بعض.

(ش) في تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل مذاهب.

أحدها: أنه جائز وواقع مطلقا، سواء كان للمبين ظاهر، كتأخير بيان التخصيص وبيان مدة النسخ، أم لا، وبه قال أكثر أصحابنا وغيرهم.

والثاني: أنه ممتنع، وعزاه القاضي في (التقريب) للمعتزلة ووافقهم كثير من الظاهرية كابن داود ومن أصحاب الشافعي رضي الله عنه، كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر

ص: 854

الصيرفي وتبعه ابن الحاجب في النقل عن الصيرفي لكن نقل الأستاذ أبو إسحاق رجوعه عنه.

وثالثها: يمتنع في غير المجمل، (وهو ما له ظاهر) وقد سبق تفسيره، وبه قال الكرخي، قال الأبيارى في شرح البرهان: من المعتزلة من فرق بين العام والمجمل، فقال: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل فيه تجهيل (121ب) ولا يجوز تأخير بيان العموم لما فيه من إلباس، ومنهم من عكس ذلك فقال: يجوز تأخير بيان العموم لما فيه من أجل الفائدة بخلاف المجمل، فإن وروده لا فائدة فيه، وكان ينبغي للمصنف أن يقول: وقيل عكسه.

ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالي، ومثل هذا العموم مخصوص، وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم ينسخ. ولا يمتنع تأخير البيان التفصيلي، وبه قال أبو الحسين، لكنه خصه بما له ظاهر بخلاف المشترك.

وخامسها: يمتنع في غير النسخ، ويجوز فيه وهو قول الجبائي وعبر بعضهم عن هذا بتعبير حسن فقال: ومنهم من جوز في الأحكام لقبولها النسخ، وهو عندهم يرجع إلى البيان دون الوعد والوعيد، وظهر بهذا السياق أن النسخ من محل الخلاف لكن قضية كلام القاضي وإمام الحرمين والغزالي أنه يجوز تأخير النسخ بلا خلاف والخلاف فيما عداه.

وسادسها: لا يجوز تأخير بعض دون بعض، وإنما يجوز التأخير دفعة، وإلا لاعتقد المخاطب بيان البعض أن لا إشكال بعده وهذا يتعلق بمسألة أخرى وهي أنه

ص: 855

على القول بالجواز فهل يجوز التدريج في البيان؟ فمنهم من منعه وقال: إذا شرع في البيان وجب أن يبين الجميع، فإن اقتصاره على إخراج صورة من العموم يوهم كون الباقي مقطوعا باستقراره والصحيح الجواز فإنه كان يبين ما تدعو الحاجة إليه، ولما سئل عن الاستطاعة فقال:((زاد وراحلة)) ولم يتعرض لأمن الطريق في ذلك الوقت وإن كان شرطا.

(ص) وعلى المنع المختار أنه يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، وإنه يجوز أن لا يعلم الموجود بالمخصص، ولا بأنه مخصص.

(ش) يتفرع على المنع من تأخير البيان مسألتان:

إحداهما: يجوز تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة، فإن وجوب معرفتها إنما هو لوجوب العمل ولا عمل قبل الوقت، وقيل: يمتنع لوجوب المبادرة عليه، وكلام الرازي والآمدي يقتضي أن الخلاف في تبليغ غير القرآن من الأحكام،

ص: 856

أما القرآن فيجب ذلك فيه قطعا ولا يتجه بينهما فرق.

الثانية: يجوز أن لا يعلم الموجود بالمخصص، بل يجوز إسماع المخصوص بدون مخصصه، خلافا للجبائي فإنه منعه من المخصص السمعي دون العقلي، وتعبير المصنف بالموجود يفهم أن من ليس موجودا حالة نزول التخصيص لا يشترط إسماعه بلا خلاف، لعدم إمكانه وينبغي جعل الألف واللام فيه للعموم، فإن القائل بالإعلام يشترط إعلام الجميع ولا يكتفي بإسماع بعضهم، وقوله: ولا بأنه مخصص هذا العطف يقتضي طرد الخلاف السابق هنا وليس كذلك بل ينبغي الجمع - كما قال القاضي - على جواز أن يسمع الله المكلف العام من غير أن يعلمه أن في العقل ما يخصصه ولعله أراد المخصص السمعي.

(ص) النسخ: اختلف في أنه رفع أو بيان.

ص: 857

(ش) أكثر المحققين من الأصوليين على أنه رفع، وبه قال القاضي والغزالي ومعناه أنه لولا طريان النسخ لبقى الحكم، إلا أنه زال لطريان الناسخ، وذهب الأستاذ أبو إسحاق وإمام الحرمين وأكثر الفقهاء إلى أنه بيان ومعناه أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم والدليل الذي يرد مبينا للحكم

ص: 858

الجديد يعرف ذلك بيان، وأنكروا كونه (122أ) رفعا، بناء على أن الحكم راجع إلى كلام الله تعالى، هو قديم، والقديم لا يرتفع وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم النسبي لا ذاته، وحاصله أنهم اتفقوا على أن الحكم السابق انعدم، لانعدام تعلقه لا لانعدام ذاته إذ الحكم قديم، واتفقوا على أن الحكم اللاحق عنده يتحقق عدم الأول، لكن اختلفوا في عدم الأول، هل يضاف إلى وجود الثاني فيقال: إنما ارتفع الأول بوجود الثاني، فهو حينئذ رافع له، أو لا يضاف إليه بل يقال: الأول انتهى، لأنه من نفس الأمر لم يكن له صلاحية الدوام لكونه مغيا عند الله تعالى إلى غاية معلومة، فيكون النسخ بيانا لها؟ وهو كالخلاف الكلامى في أن زوال الأعراض بالذات أو بالضد؟ فإن من قال ببقائها. قال: إنما ينعدم المتقدم لطريان الطارئ (ولولاه لبقي، ومن لم يقل ببقائها قال: إنه ينعدم بنفسه ثم يحدث الضد الطارئ) وليس له تأثير في إعدام الضد الأول.

وكالخلاف الفقهي في الزائل العائد، فإن القائل بأنه كالذي لم يزل - يجعل العود بيانا لاستمرار حكم الأول، والقائل بأنه كالذي لم يعد - يقول: ارتفع الحكم بالزوال فلا يرتفع حكمه بالعود، وبهذا يظهر وهم من ظن أن النزاع لفظي.

(ص) والمختار رفع الحكم الشرعي بخطاب.

(ش) هذا أقرب الحدود على القول بأنه رفع، فخرج بالرفع: المباح بحكم

ص: 859

الأصل، إذ ليس حكما شرعيا ولهذا رد الأصحاب ما نقل عن مالك أن الكلام كان مباحا في الصلاة في ابتداء الإسلام على الإطلاق، ثم نسخ بما لا يتعلق بمصلحة الصلاة، بالإجماع وبقي ما سواه على أصل الإباحة، فقالوا: هذا ليس بنسخ، لأن إباحة الكلام لم تكن بخطاب من جهة الشرع، وإنما كان الناس منه على الأصل، ويخرج أيضا: ابتداء إيجاب العبادة من الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا وقوله: بخطاب: يشمل النسخ باللفظ والمفهوم، إذ يجوز النسخ بذلك كما سيأتي وخرج به الرفع بالنوم والغفلة والموت والجنون.

تنبيهان: قد يشكل على الحصر في الخطاب جواز النسخ بالفعل، وقد جعل الأئمة منه نسخ الوضوء مما مست النار بأكل الشاة ولم يتوضأ ولا خطاب فيه، وهو كثير ثم رأيت المصنف قال: قولنا: بخطاب، لا ينافيه قولنا بعد ذلك أن المتأخر من أقواله وأفعاله ناسخ (لأنه لم يرد بالخطاب إلا ما يقابل الفعل، ولأن المراد بالناسخ هناك ما دل على النسخ، لا أنه نفسه ناسخ) والفعل نفسه لا ينسخ، وإنما يدل على نسخ سابق، ولا يمكن أن يكون فعلا ناسخا، لأن له أزمنة متعاقبة فلو كان هو الناسخ لما تحقق نسخ إلا بعد انقضائه فكان قبل انقضائه واقفا على وجه باطل، وهذا محال. انتهى. ولا يخفى

ص: 860

ما فيه من الخروج عن ظاهر كلام الأصحاب مع أنه قد أطلق على الفعل تخصيصا كما سبق في باب التخصيص ولم يذكر فيه هذا التأويل. الثاني: علم من اقتصار المصنف على هذا أن قول ابن الحاجب متأخر فيخرج نحو: صل عند كل زوال إلى آخر الشهر لا حاجة إليه، فإن هذا ليس يرفع، لأن الحكم لم يثبت بأول الكلام إذ الكلام بآخره فكيف يرفع. والاستغناء عنه بقولنا: بخطاب، فإنه لا بد أن يتأخر عن الذي رفعه، وعدل عن قوله: بدليل شرعي، إلى: خطاب - ليفرع عليه المسألة الآتية.

(ص) فلا نسخ بالعقل، وقول الإمام: من سقط رجلاه نسخ غسلهما - مدخول.

(ش) علم من قوله: الحكم الشرعي بخطاب أنه لا بد أن يكون الحكمان - أعني الناسخ والمنسوخ - شرعيين، لأن العجز يزيل التعبد الشرعي، ولا يقال: إنه نسخ، ولا يكون (122ب) النسخ بالعقل وخالف فيه الإمام فقال في (المحصول): من سقط رجلاه فقد نسخ عنه غسلهما، وهو مدخول إذ لا خطاب، وزوال الحكم لزوال سببه لا يكون نسخا، ولكن الخلاف فيه سهل لرجوعه إلى التسمية.

(ص) ولا بالإجماع، ومخالفتهم تتضمن ناسخا.

(ش) هذا ألحقه المصنف بخطه على الحاشية وضرب عليه في باب التخصيص، لأن المسألة هنا أمس، وحاصله أنه لا يقع النسخ بالإجماع، لأنه لا

ص: 861

ينعقد إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتصور أن ينسخ ما كان من الشرعيات في زمنه، وبعده لا نسخ، فأما الإجماع بما يخالف النص الخاص أو العام بالكلية، فلا يكون إجماعهم ناسخا لذلك النص، بل يكون إجماعهم تضمن ناسخا اقتضى ذلك، وهو مستند الإجماع وحاصله أن النسخ بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع، وعلى هذا ينزل نص الشافعي رضي الله عنه، الذي نقله البيهقي في (المدخل)، أن النسخ

ص: 862

كما يثبت بالخبر يثبت بالإجماع.

(ص) ويجوز على الصحيح نسخ بعض القرآن تلاوة وحكما أو أحدهما فقط.

(ش) مثال نسخهما معا ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس معلومات ومثال نسخ الحكم دون التلاوة الاعتداد في الوفاة بالحول، لقوله تعالى:{متاعا إلى الحول غير إخراج} نسخ بقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ومثال نسخ التلاوة دون الحكم ما رواه الشافعي رضي الله عنه، وغيره عن عمر رضي الله عنه كان فيما أنزل:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهم البتة) قال ابن السمعاني: ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه، ومن نسخ الحكم مع بقاء لفظه، لأنه يؤدي إلى أن يبقى الدليل ولا مدلول والآخر يؤدي إلى أن يرتفع الأصل ويبقى التابع، والصحيح هو الجواز، لأن التلاوة والحكم في الحقيقة شيئان مختلفان، فجاز نسخ إحداهما وتبقية الآخر كالعبادتين تنسخ إحداهما دون الأخرى، وظاهر كلام المصنف طرد الخلاف في نسخهما معا وعليه عبارة ابن الحاجب وقال في شرحه: الخلاف في

ص: 863

نسخهما معا لا يتجه إلا لمن يمنع نسخ القرآن من حيث هو، والمقصود بهذا الخلاف الخاص إنما هو نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس وإنما ذكروا نسخهما لضرورة التقسيم وإن كان لا يخالف فيه أحد ممن يجوز وقوع النسخ في القرآن وعلم من قوله: بعض القرآن امتناع نسخ كل القرآن وهو إجماع.

(ص) ونسخ الفعل قبل التمكن.

(ش) إذا أوجب شيئا ثم نسخه قبل التمكن من الفعل فالجمهور على الجواز وقال القاضي في (التقريب): إنه قول جميع أهل الحق، ونقل ابن السمعاني عن الصيرفي وأكثر الحنفية المنع، وتصوير المصنف ذكره الغزالي وغيره، وصورها أبو الحسين بالنسخ قبل وقت الفعل، وتبعه ابن الحاجب والأحسن أن يقال قبل

ص: 864

مضي مقدار ما يسعه (من وقت، ليشمل ما إذا حضر وقت العمل ولكن لم يمض مقدار ما يسعه) فإن هذه الصورة من محل النزاع، وعبارة المصنف تشملها، والقائلون بالجواز أرادوا أنه نسخ الخطاب الذي لم يتقدم به عمل البتة، وحينئذ فلا يتوجه نقل الإمام، فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من مقتضاه البتة.

(ص) والنسخ بالقرآن لقرآن وسنة.

(ش) يجوز نسخ القرآن بالقرآن بالإجماع كالعدتين (123أ) ويجوز القرآن للسنة كالتوجه لبيت المقدس، إذا قلنا إنه كان ثابتا بالسنة فإنه نسخ بالقرآن، وكذلك المباشرة بالليل كانت محرمة على الصائم بالسنة ثم نسخت بالقرآن قال ابن السمعاني: وذكر الشافعي رضي الله عنه، في (الرسالة) ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولوح في موضع آخر بالجواز فخرجه أكثر أصحابنا على قولين:

ص: 865

أحدهما: لا يجوز، وهو الأظهر من مذهبه، والثاني: يجوز وهو الأولى بالحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين عام الحديبية، على أن ما جاءه من المشركات مسلمة يردها إليهم، ثم نسخها الله تعالى بقوله:{فلا ترجعوهن إلى الكفار} وترك الصلوات يوم الخندق حتى مضى هوي من الليل ثم صلاها على الترتيب. ثم نسخ

ص: 866

بقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية.

(ص) وبالسنة للقرآن وقيل: ممتنع بالآحاد والحق لم يقع إلا بالمتواترة وقال الشافعي: حيث وقع بالسنة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة.

(ش) يجوز النسخ بالسنة للقرآن متواترا أو آحادا أما الآحاد: فنقل جماعة الاتفاق على الجواز، ونقل بعضهم المنع، والحق أنها مسألة خلافية وممن حكى الخلاف فيها القاضي أبو بكر وغيره، واختاروا الجواز، وجعلوا القول بالمنع ساقطا، لكن عزاه بعضهم للأكثرين، وأنهم فرقوا بينه وبين تخصيص العام، المتواتر بالآحاد، أن التخصيص بيان وجمع بين الدليلين والنسخ رفع وإبطال، فإن قلت: كيف ساغ للمصنف تمريض قول الأكثرين؟ قلت: لأنهم إنما أنكروا الوقوع ولم ينكروا الجواز إلا الأقلون، وكلامه في الجواز، وهذا وارد على عبارة ابن الحاجب، قال في شرحه: والأكثرون نفوا الوقوع وخالف جماعة من الظاهرية. وفصل القاضي والغزالي فقالا بوقوعه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم دون ما بعده، ونقل القاضي الإجماع على المنع فيما

ص: 867

بعده قال: وإنما اختلفوا في زمانه، وقال أبو الحسين في (المعتمد): إن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد في نسخ حكم معلوم، نحو قبول أهل قباء نسخ القبلة، قيل: ذلك جائز في العقل وفي صدر الإسلام. قال أصحابنا: ولولا إجماع الصحابة على المنع لجوزناه. وقد قال أبو علي الجبائي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم بنسخ القبلة وأنه ينفذ إليهم بنسخها فلانا، وأعلمهم صدقه فكانوا قاطعين على صدقه، فلم ينسخوا القبلة إلا بخبر معلوم، وأما المتواتر فالمشهور الجواز أيضا إذ هما جميعا وحي من الله تعالى، ويوجبان العلم والعمل، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز، كذا وجهه ابن عطية، وقيل: لا ينسخ وإنما يكون حكم القرآن مؤقتا، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن يتناوله نسخ، قال ابن عطية: وهذا لا يستقيم، لأنا نجد السنة ترفع ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ولا يرد ذلك نظر ولا يتحوم منه أصل.

واعلم أن المنصوص للشافعي رضي الله عنه المنع، وظاهره إنما نفى الوقوع فقط، والحق الوقوع لكن وراء الوقوع أمر آخر، وهو أنه إذا وقع نسخ السنة بالكتاب فعلى أي وجه يكون؟ هل يشترط اقتران سنة معاضدة للكتاب ناسخة؟ وإذا وقع نسخ الكتاب بالسنة هل يشترط العاضد؟ فهذا هو محل كلام الشافعي رضي الله عنه وحاصله أنه لا يقع نسخ السنة إلا بالكتاب والسنة جميعا، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا، ولئلا يتوهم انفراد أحدهما عن الآخر، فإن الكل

ص: 868

(123ب) في الحقيقة من عند الله تعالى، ولكن لبيان حكم الله تعالى طريقان: طريقة الكتاب وطريقة السنة، فليجتمعان هنا دفعا لهذا التوهم، ولتقوم الحجة على الناس بهما، ولأمر ثالث وهو: انتقال المكلفين من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنته (وفي ذلك فائدة الاطلاع على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في نسخ القرآن بسنته، وأما العكس فانتقال الناس من سنة إلى سنة) كما يترتب عليه الأجر العظيم، لأن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب السنة الحسنة كلها، فله الأجور أبدا لا تتناهى فإذا نسخ الله تعالى سنة نسختها سنة ليتحصل له هذا الأجر، ودليل هذا كله الاستقراء وإنه لم يقع إلا على هذا الوجه، هذا تقرير كلام المصنف، وكلام الشافعي رضي الله عنه في (الرسالة) يقتضي أن السنة لا يثبت نسخها إلا بسنة، ولا ينعقد الإجماع على أنها منسوخة إلا مع ظهور الناسخ، قال: فإن قال: أيحتمل أن تكون له سنة مأثورة وقد نسخت، ولا تؤثر له السنة التي نسختها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه، ويترك ما يلزم فرضه، ولو جاز هذا خرجت عامة السنن بأن يقولوا لعلها منسوخة وليس ينسخ فرض أبدا إلا إذا أثبت مكانه فرض فإن قال: فهل تنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن سننه الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى

تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.

ص: 869

(ص) وبالقياس، وثالثها: إن كان جليا، والرابع: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام والعلة منصوصة.

(ش) صورة النسخ بالقياس أن ينص على إباحة التفاضل في الأرز مثلا، فهل ينسخ بالمستنبط من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الأصناف الستة أو عن بيع الطعام مثلا بمثل؟ اختلفوا فيه على مذاهب.

أحدها: الجواز مطلقا، وجرى عليه المصنف.

والثاني: المنع مطلقا وهو المذهب المنصوص للشافعي رضي الله عنه، كما رأيته في كلام أبي إسحاق المروزي، وهو الموافق لما سبق عنه أن النسخ لا يكون إلا بجنسه، فلا ينسخ الكتاب إلا بالكتاب والسنة إلا بالسنة، وقال القاضي حسين: إنه المذهب، وابن السمعاني: إنه الصحيح، لأن القياس لا يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ النص وعزاه القاضي أبو بكر للأكثرين واختاره، وجعل المانع السمع لا العقل.

ص: 870

والثالث: يجوز بالقياس الجلي دون غيره.

قال الأنماطي: وهذا في الحقيقة يرجع إلى ما قبله، لأنه القياس الجلي في معنى النص.

ص: 871

والرابع: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وعلته منصوصة جاز، وإلا فلا واختاره الآمدي وجعل ذلك الهندي محل وفاق، أعني المنع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قال: وينبغي أن يكون الخلاف بالنسبة إلى حكم ثابت بالقياس، إذ الثابت بالنص لا ينسخ بالقياس الظني، وأما بالقياس القطعي سواء نص على علته أم لا، كقياس الأمة على العبد في التقويم فإنه يجوز لأنه في معنى النص على الحكم وأما الثابت بالإجماع فلا يمكن نسخه به، لأن الإجماع لا ينسخ كما لا ينسخ. واقتضى كلام ابن السمعاني تخصيص الخلاف في نسخه لأخبار الآحاد، خاصة وقد أورد على المصنف أنه كيف يجتمع تجويزه هذا، مع قوله - تبعا للأصوليين - في القياس على المستنبط أن لا تكون معارضة في الأصل بمعارض وإذا كانت المعارضة (124أ) تقطعها عن العمل فقياس المستنبط ملغى عند المعارضة وإذا كان ملغى لا يكون ناسخا، قال المصنف: وهذا السؤال لا يختص بنا، بل هو على من جوز النسخ بالقياس، واشترط في العلة أن لا تعارض في الأصل، قال: ونحن إذا قلنا: ينسخ، فلا نريد به إلا القياس المعتبر الصحيح، ولا يكون صحيحا معتبرا، إلا إذا سلمت العلة فيه عن معارض في الأصل، فلا مناقضة بين الكلامين، ونحن لم نقل: إن القياس ينسخ وإن كانت علته مستنبطة، بل أطلقنا بأنه ناسخ، وإنما يكون ناسخا إذا كان معتبرا، وإنما يعتبر إذا سلمت علته عن المعارضة.

(ص) ونسخ القياس في زمنه عليه الصلاة والسلام وشرط ناسخه إن كان قياسا أن يكون أجلى وفاقا للإمام وخلافا للآمدي.

(ش) ذهب عبد الجبار وغيره إلى أنه لا يجوز نسخ القياس لأنه مستنبط من

ص: 872

أصل فما دام حكم الأصل باقيا، وجب بقاء حكم الفرع، وجوزه الجمهور لكن في زمن النسخ، وهو زمنه صلى الله عليه وسلم لأن طريق النسخ حاصل وهو الوحي، فأما بعد الرسول فلا يتصور نسخه، لأنه إما أن ينسخ بنص حادث وهو مستحيل، أو بنص كان موجودا من قبل لكن المجتهد المستنبط لعلة القياس غفل عنه، فباطل لأنه تبين فساد القياس من أصله، فلا نسخ، وإما أن ينسخ بالإجماع وهو باطل لما ذكرنا وصورة المسألة أن يقول الشارع: حرمت المفاضلة في البر لأنه مطعوم فهذا نص منه على الحكم وعلته، فإذا قلنا: هذا إذن في القياس فقاسوا الأرز على البر فعاد وقال بعد ذلك: بيعوا الأرز بالأرز متفاضلا، جاز، قالوا: ولا يشترط أن يكون ناسخه النص كما مثلنا بل يجوز بالقياس أيضا بأن ينص على حكم آخر على ضد حكم أصل ذلك القياس، وشرط الإمام الرازي وغيره في هذا الناسخ: أن يكون أجلى بأن تكون الأمارة الدالة على علية المشترك بين هذا الأصل والفرع راجحة على الأمارة الدالة على علية المشترك بين الأصل والفرع، وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه كثير من الحنابلة كأبي الخطاب: الفرق ما بين ما علته منصوصة، فهو كالنص ينسخ كما ينسخ به، وإن كانت مستنبطة فلا، ومتى وجدنا نصا بخلافه تبينا فساد

ص: 873

القياس واختاره الآمدي قال الهندي: وينبغي أن يكون موضع الخلاف في أنه هل يمكن نسخه بدون نسخ أصله؟ أما نسخه مع نسخ أصله، أو نسخ أصله ولم يتعرض لنسخه ففيه خلاف الحنفية، إذ جوزوا صوم رمضان بنية من النهار قياسا على ما ثبت من نسخه صوم عاشوراء بنية من النهار، حين كان واجبا مع زوال حكمه بالنسخ وبقاء الفرع على حاله لكن لا يكون هذا النسخ إلا بالنص، لأن حكم النص لا ينسخ بالقياس، قلت: سيأتي في قول المصنف: والمختار أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه الفرع، وكان ينبغي جمعهما في موضع واحد.

(ص) ويجوز نسخ الفحوى دون أصله كعكسه على الصحيح.

(ش) فيه مسألتان: إحداهما: يجوز نسخ الفحوى دون أصله، فينسخ الضرب دون التأفيف، كالنصين ينسخ أحدهما مع بقاء الآخر، وحكاه ابن السمعاني عن أكثر المتكلمين، والثاني: المنع، ونقله عن أكثر الفقهاء ولعل مأخذ الخلاف أن دلالته لفظية أو قياسية. الثانية: يجوز نسخ الأصل (124ب) دون الفحوى كنسخ التأفيف دون الضرب، لأن التأذي به أعظم، ولا يلزم من إباحة اليسير إباحة

ص: 874

الكثير، وقيل: يمتنع، لأن الفرع يتبع الأصل، ويتحصل في الصورتين ثلاثة أقوال: ثالثها: منع الأول وجواز الثاني وعليه ابن الحاجب.

(ص) والنسخ به.

(ش) أي بالفحوى وادعى له الإمام والآمدي فيه الاتفاق ولكن الخلاف موجود، نقله الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) بناء على أن الفحوى قياس، والقياس لا يكون ناسخا وحكاه ابن السمعاني عن الشافعي رضي الله عنه، قال: لأنه جعل الفحوى في قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} في تحريم الضرب قياسا على التأفيف فعلى قوله لا يصح النسخ به، لأن القياس لا يجوز أن ينسخ النص وهذه المسألة في المنهاج، دون المختصر.

ص: 875

(ص) والأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم الآخر.

(ش) إذا قلنا بالجواز ففي استتباع نسخ أحدهما نسخ الآخر، مذاهب:

أحدها: نعم واختاره البيضاوي لتلازمهما.

والثاني: المنع.

والثالث: أن نسخ الأصل يتضمن نسخ الفحوى لأنها تابعة ولا يتصور بقاء التابع بدون متبوعه، ونسخ المفهوم لا يتضمن نسخ الأصل، وقال ابن برهان في (الأوسط): إنه المذهب. واعلم أن هذا التعليل مشكل بقولهم: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز.

(ص) ونسخ المخالفة وإن تجردت عن أصلها لا الأصل دونها في الأظهر.

(ش) أي يجوز نسخ مفهوم المخالفة مع نسخ الأصل ودونه ذكره القاضي عبد الوهاب وغيره.

ص: 876

وقد قالت الصحابة: (إنما الماء من الماء) نسخ مفهومه بقوله: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وبقي أصله وهو وجوب الغسل من الإنزال، وأما نسخ الأصل بدون مفهوم المخالفة، فذكر الصفي الهندي فيه احتمالين قال: وأظهرهما أنه لا يجوز، لأنه إنما يدل على العدم، باعتبار ذلك القيد المذكور، فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما بني عليه، وعلى هذا نسخ الأصل نسخ المفهوم، وليس المعنى منه أنه يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي، بل المعنى أن يرتفع العدم الذي كان شرعيا، ويرجع إلى ما كان عليه من قبل.

(ص) ولا النسخ بها.

(ش) هذا تابع فيه ابن السمعاني فإنه قال: دليل الخطاب يجوز نسخ موجبه،

ص: 877

ولا يجوز النسخ بموجبه، لأن النص أقوى من دليله لكن الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) حكاه وجها، وقال: المذهب الصحيح الجواز، لأنه في معنى النطق.

(ص) ونسخ الإنشاء ولو كان بلفظ القضاء أو الخبر أو قيد بالتأبيد وغيره مثل: صوموا أبدا صوما حتما، وكذا: الصوم واجب مستمر أبدا، إذا قاله إنشاء خلافا لابن الحاجب.

(ش) النسخ يقع في الإنشاء في الجملة بالإجماع، لكن اختلف في صور منه:

إحداها: أن يقع الإنشاء بلفظ نحو: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ونحوه. وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز وقوع النسخ فيه، وزعم أن لفظ القضاء إنما يستعمل فيما لا يتغير حكمه، وهذا القول غريب لا يعرف في كتب الأصول وإنما أخذه المصنف من كتب التفسير.

الثانية: جميع الأخبار المقصود بها الأمر أو النهي نحو: {والوالدات يرضعن أولادهن} فهو وإن كان صورته صورة الخبر، لكن معناه الإنشاء، فيرد النسخ عليه كسائر الأوامر، وخالف فيه أبو بكر الدقاق، كما نقله ابن السمعاني وغيره

ص: 878

تغليبا للفظ الخبر على معنى الأمر.

الثالثة: إذا قيد (125أ) بالتأبيد، وما في معناه نحو: صوموا أبدا، صوموا حتما، نقل ابن السمعاني عن بعض المتكلمين منعه لمناقضته الأبدية، وقالوا: لا يجوز النسخ إلا في خطاب مطلق، وزعموا أن جوازه يؤدي إلى البداء والصحيح الجواز لأنه إذا جاز أن يقال: لازم غريمك أبدا ويريد إلى وقت القضاء - جاز أن يقال: افعل كذا أبدا، ويراد إلى وقت النسخ ونقله ابن برهان عن المعظم، قال: لأن القصد به المبالغة لا الدوام.

الرابعة: الصوم واجب مستمر أبدا، إذا قاله إنشاء منع ابن الحاجب نسخه لأنه خبر فتطرق النسخ إليه يلزم الخلف، بخلاف الإنشاء لفظا ومعنى نحو: صوموا

ص: 879

أبدا، واختار المصنف التسوية بين الصورتين لأنه وإن كان بصورة الخبر فهو في معنى الإنشاء فجاز كالإنشاء المحض، وحاصله أن المقيد بالتأبيد لا يمتنع معه النسخ، بل هو تأكيد سواء كان في الخبر أو الإنشاء.

(ص) ونسخ الأخبار بإيجاب الإخبار بنقيضها.

(ش) أطلق الجمهور أن النسخ لا يدخل الخبر، وفصل القاضي أبو بكر، فقال: هذا في خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فأما أمرنا بالإخبار بشيء فيجوز نسخه بالنهي عن الإخبار به، وجرى عليه المصنف، وسواء كان مما يتغير، كما لو قال: كلفتكم أن تخبروا بقيام زيد، ثم يقول: كلفتكم بأن تخبروا بأن زيدا ليس بقائم، ولا خلاف في جوزاه لاحتمال كونه قائما وقت الإخبار بقيامه، غير قائم وقت الإخبار بعدم قيامه، أو كان مما لا يتغير وككون السماء فوق الأرض مثلا وفي هذه الصورة منعت المعتزلة؛ لأن أحدهما كذب والتكليف به قبيح، وهو مبني على التقبيح العقلي

(ص) لا الخبر، وقيل: يجوز إن كان عن مستقبل.

ص: 880

(ش) أما نسخ خبر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فيمتنع مطلقا، أما إذا لم يتغير مدلوله فبالإجماع، وأما المتغير كإيمان زيد وكفره ونحو ذلك - فكذلك سواء كان الخبر ماضيا أو

مستقبلا على الصحيح لأنه يؤدي إلى دخول الكذب في أخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مثاله قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقيل: يجوز مطلقا، وهو قول القاضي أبي يعلى، وعلى هذا يجوز نسخ الوعد والوعيد قبل الفعل، كقوله:

ص: 881

من بنى هذا الحائط فله درهم، ثم يرفع ذلك، وقيل: يجوز إن كان مدلوله مستقبلا وإلا فلا، واختاره البيضاوي قال الخطابي: إنه الصحيح فقال: النسخ يجري فيما أخبر الله تعالى أن يفعله، لأنه يجوز تعليقه على شرط بخلاف إخباره عما لا يفعله، إذ لا يجوز دخول الشرط فيه، قال: وعلى هذا تأول ابن عمر النسخ بعد ذلك في قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فإن نسخها بعد ذلك برفع حديث النفس وجرى ذلك مجرى العفو والتخفيف عن عباده، وهو كرم وفضل وليس بخلف.

(ص): ويجوز النسخ ببدل أثقل.

(ش) كصوم عاشوراء برمضان، والحبس في البيوت في الزنا بالحد، ومنع منه بعضهم عقلا، وبعضهم سمعا وهو قول ابن داود، وذكر ابن برهان أن بعضهم نقله

ص: 882

عن الشافعي رضي الله عنه، وليس بصحيح، أما الأخف والمماثل فلا خلاف في جواز النسخ به كالعدة.

(ص) وبلا بدل (125ب) لكن لم يقع، وفاقا للشافعي.

(ش) في النسخ بلا بدل مسألتان:

إحداهما: الجواز، وعليه المعظم، لأن المصلحة قد تقتضيه وخالف فيه جماهير المعتزلة، كما قاله إمام الحرمين بناء على أن النسخ يجمع معنى الرفع والنقل.

الثانية: الوقوع، وعليه الأكثر وكلام الشافعي رضي الله عنه، في

ص: 883

الرسالة يقتضي المنع، ومراده أنه لم يقع، بحيث يعود الأمر كهو قبل الشرع، كقوله: نسخت الصدقة عند المناجاة، وصيرت الحال بعد النسخ غير محكوم عليه بشيء بل هو كالأفعال قبل الشرع وهذا وإن قلنا بجوازه لم يقع ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وكلام الشافعي رضي الله عنه، مصرح بأن البدل الذي لا يقع النسخ إلا به انتقالهم، من حكم شرعي إلى حكم شرعي، وذلك أعم من أن يعادوا إلى ما كانوا عليه، كمناجاة الرسول، أو يحدث شيء مغاير لذلك، كما في نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، وأنهم لا يتركون غير محكوم عليهم بشيء، وجعل المصنف الصور أربعا:

إحداها: الجواز، ولم يخالف فيه إلا بعض المعتزلة.

ثانيها: الوقوع بلا بدل أصلا بحيث يعود الأمر كهو قبل الشرع، ولا يعرف في منعه خلاف.

ثالثها: وقوعه ببدل من الأحكام الشرعية أما إحداث أمر مخالف لما كان

ص: 884

واجبا أولا، كالكعبة بعد القدس، أو الحكم بإباحة ما كان واجبا كالمناجاة، والنسخ لم يقع إلا هكذا، كما قال الشافعي رضي الله عنه.

رابعها: وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلا لأمر آخر، كالكعبة بعد القدس، ولم يشترطه الشافعي رضي الله عنه، ومن ذهب إليه فقوله مردود عليه، ومن نقله عن الشافعي رضي الله عنه، فلم يفهم مراده بالبدل.

(ص) مسألة: النسخ واقع عند كل المسلمين وسماه أبو مسلم تخصيصا فقيل: خالف، فالخلف لفظي.

(ش) أشار بالمسلمين إلى أن غيرهم خالف فيه - وهم اليهود - فرارا من لزوم البداء وهو محال على الله تعالى لأن المصلحة بعد تسليمها تختلف

ص: 885

باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال، وضرورة في آخر، فلم يتجدد ظهور ما لم يكن، بل تجددت مصلحة لم تكن، فلم يلزم البداء.

وعن أبي مسلم الأصفهاني، إنكار النسخ، ثم قيل: لم ينكر النسخ مطلقا

ص: 886

وإنما أنكر النسخ في القرآن، لقوله تعالى:{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقيل: خلافه لفظي، لأنه يجعل ما كان مغيا في علم الله - تعالى-، كما هو مغيا باللفظ، ويسمى الجميع تخصيصا، ولا فرق عنده بين أن يقول:{ثم أتموا الصيام إلى الليل} وأن يقول: (صوموا مطلقا، وعلمه محيط بأنه سينزل لا تصوموا وقت الليل) والجمهور يجعلون الأول تخصيصا والثاني نسخا، فلا خلاف في المعنى.

(ص) والمختار أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع.

(ش) أي خلافا للحنفية لأن الفرع تابع للأصل، فإذا بطل الحكم في الأصل، بطل في الفرع، وإذا قلنا: لا يبقى فسماه بعضهم نسخا ولم يستحسنه

ص: 887

المصنف، فلهذا عبر - تبعا لابن الحاجب - بقوله: لا يبقى ولم يقل: ينسخ معه حكم الفرع فإن الأصحاب لا يقولون: إن حكم الفرع ينسخ بارتفاع حكم الأصل، بل يزول حكمه لزوال كون العلة معتبرة، وإذا زال لزوال علته لا يقال: إنه منسوخ.

(ص) وإن كل شرعي يقبل النسخ، ومنع الغزالي رحمه الله نسخ جميع التكاليف، والمعتزلة: نسخ وجوب المعرفة والإجماع على عدم الوقوع.

(ش) فيه مسألتان:

إحداهما: اختلفوا في أن كل واحد من الأحكام هل هو قابل للنسخ أم لا؟ فذهب (126أ) أصحابنا إلى تجويزه وصارت المعتزلة إلى أن من الأحكام ما لا يقبل هو ما يكون بذاته أو يلازم ذاته حسنا أو قبيحا، لا يختلف باختلاف الأزمان، كحسن معرفة الباري والعدل، وقبح الجهل والجور، وهو بناء على أصلهم من الحسن والقبح العقليين.

الثانية: اختلفوا في أنه هل يجوز أن تزول التكاليف بأسرها بطريق النسخ؟ فمنعه المعتزلة، ووافقهم الغزالي، لأن نسخها يستدعي معرفة الناسخ والمنسوخ فيجب معرفته

ص: 888

ضمنا، وهو نوع من التكليف، فلو انتفت جميع التكاليف لم تنتف. والمختار الجواز كغيرها، وأجمع الكل على عدم الوقوع، وإنما الخلاف في الجواز ردها العقلي.

تنبيه: علم بهذا التقرير أنه كان ينبغي للمصنف تقديم نسخ المعرفة على نسخ جميع التكاليف.

(ص) والمختار أن الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم الأمة، لا يثبت في حقهم وقيل: يثبت بمعنى الاستقرار في الذمة، لا الامتثال.

(ش) الحكم الشرعي ما دام في السماء لا يثبت له حكم، كفرض خمسين صلاة ليلة الإسراء، وكذلك بعد نزوله من السماء وقبل أن يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم يثبت حكمه في حقه (وحق كل من بلغه، وأما من لم يبلغه، فإن تمكن من العلم به ثبت حكمه في حقه) قطعا، وإلا فهو محل الخلاف، والجمهور أنه لا يثبت، لا بمعنى الامتثال ولا بمعنى الثبوت في الذمة، وقال بعضهم يثبت بالمعنى الثاني كالنائم، ولا نعلم أحدا قال بثبوته بالمعنى الأول، وذكر القاضي

ص: 889

في (التقريب): أن الخلاف لفظي، وذكر في (مختصر التقريب): أن المثبتين يقولون: لو قدر ممن لم يبلغه الناسخ إقدام، على الحكم الأول كان دليلا لكنه تعذر لجهله، واعلم أن ما رجحه المصنف تابع فيه ابن الحاجب وغيره، لكن ابن برهان في (الأوسط) عزاه للحنفية، وحكى الثبوت عن مذهبنا، ونصره وهو ما يوجد لأصحابنا المتقدمين وقال الروياني في باب الوكالة من (البحر): إذا نسخ الله حكما وعلم رسوله، هل يكون نسخا في حق من لم يعلم من أمته؟ فيه طريقان:

أحدهما: فيه وجهان كالوكالة.

والثاني: لا يكون نسخا في حقهم قطعا، وبه قال أبو حنيفة، لأن أمر الشريعة

ص: 890

يتضمن تركه المعصية ولا يجوز أن يكون عاصيا مع جهله به، وما فسر به المصنف الثبوت لا بد منه، وقال ابن دقيق العيد: لا شك أنه لا يثبت في حكم التأثيم، وهل يثبت في حكم القضاء إذ هو من الأحكام الوضعية؟ هذا فيه تردد، لأنه ممكن بخلاف الأول، لأنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق.

(ص) أما الزيادة على النص فليست بنسخ خلافا للحنفية، ومثاره هل رفعت وإلى المأخذ عود الأقوال المفصلة والفروع المبينة.

(ش) الزيادة إما أن تستقل بنفسها عن العبادة المزيد فيها أو لا، والأول إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة، فليس بنسخ بالإجماع، أو من جنسه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، فليس بنسخ أيضا عند الجماهير وقال بعض أهل العراق: إنه نسخ، لأنه تغير الوسط. والثاني: ما ليس بمستقل كزيادة ركعة، أو ركوع، أو زيادة صفة في رقبة الكفارة، كالإيمان فذهب أصحابنا إلى أنه لا تكون نسخا وقالت الحنفية:

ص: 891

إنها نسخ واختاره بعض أصحابنا وادعى أنه مذهب الشافعي رضي الله عنه، وزيفه ابن السمعاني ومثار الخلاف أن الزيادة هل رفعت حكما شرعيا فيكون نسخا أو لم ترفع فلا؟ فلو وقع الاتفاق على أنها رفعت حكما شرعيا (لوقع على أنها نسخ أو على أنها لا ترفع) لوقع على أنها ليست بنسخ، فالنزاع على الحقيقة في أنها رفع أم لا، وإلى هذا المأخذ ترجع الأقوال المفصلة في المسألة فعن عبد الجبار هي نسخ إن غيرت حكم المزيد عليه (126ب) كجعل الصلاة الثنائية أربعا وإن لم تغير كإضافة التغريب إلى الجلد - فليس بنسخ، واختاره القاضي، وقيل: إن أسقطت دليل الخطاب كانت نسخا، وإن تغير موجب النص كما في قوله:((إنما الماء من الماء)) مع الأمر بالغسل من التقاء الختنانين، حكاه أبو حاتم في (اللامع) عن بعض أصحابنا، وقيل: إن أفاد النص خلافها، وأبو الحسين: إن أزالت حكما يجوز انتساخه بدليلها، جاز إثباتها ثم ذلك نسخ إن كان الحكم الزائل شرعيا.

(ص) وكذا الخلاف في جزء العبادة أو شرطها.

ص: 892

(ش) كما أن الزيادة على النص ليست بنسخ فكذا النقصان منه عندنا سواء كان المنسوخ جزءا أو شرطا ومنهم من قال: يكون نسخا ومنهم من فصل بين الجزء والشرط، فقال: إسقاط الجزء نسخ للعبادة كالركوع أو السجود وإسقاط الشرط كالطهارة ليس نسخا، وهو مذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي في الجزء، وتردد في الشرط، وجعل الهندي الخلاف في الشرط المتصل كاستقبال القبلة في الصلاة، فأما المنفصل منها كالطهارة فإيراد إمام وغيره يشعر بأنه لا خلاف فيه، وكلام غيره يقتضي إثبات الخلاف في الكل، قلت: وبالأول صرح صاحب (المسودة) فقال: الخلاف في المتصل كالتوجه، فأما المنفصل كالوضوء فلا يكون نسخا لها إجماعا لكن صرح ابن السمعاني بالثاني، فقال: صورة المسألة فيما لو قدر ناسخ الوضوء أو نسخ استقبال القبلة، وفي هذا وأمثاله يكون الكلام ظاهرا في أنه لا يكون نسخا للصلاة، قال: فأما في إسقاط الجزء كالركوع فينبغي أن

ص: 893

يكون على ما ذكرنا فيما إذا زيدت ركعة على ركعتين. قلت: يشير إلى أنه يجيء هنا مذهب عبد الجبار من التفصيل بين أن يغير المزيد عليه أو لا.

(ص) خاتمة: يتعين الناسخ بتأخره، وطريق العلم بتأخره الإجماع، أو قوله صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ: أو بعد ذاك، أو كنت نهيت عن كذا فافعلوه، أو النص على خلاف الأول، أو قول الراوي: هذا سابق.

(ش) يتعين الناسخ بتأخره عن المنسوخ بأنه رفع لحكم سابق وللعلم بتأخره طرق:

أولها: الإجماع كنسخ الزكاة سائر الحقوق في المال ذكره ابن السمعاني وقول زر لحذيفة:

ص: 894

(أي ساعة تسحرتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع) وأجمع المسلمون على أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب مع بيان ذلك من قوله تعالى: {وكلوا واشربوا} ذكره الخطيب البغدادي: قال الأصحاب: فيكون الإجماع مبينا لا ناسخا.

ثانيها: نصه عليه السلام على ذلك: (كقوله: هذا ناسخ، أو هذا بعد ذلك، كحديث المتعة، أو كنت نهيت عن كذا فافعلوه) كقوله عليه السلام: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)).

ثالثها: أن ينص على خلاف الأول، ولا يمكن الجمع.

رابعها: أن يقول الراوي: هذا سابق، كقول جابر: (كان آخر الأمرين من رسول الله

ص: 895

صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) وقول علي: (أمرنا بالقيام للجنازة ثم قعد).

(ص) ولا أثر لموافقته أحد النصين للأصل، أو ثبوت إحدى الآيتين في المصحف، وتأخر إسلام الراوي: وقوله: هذا ناسخ لا الناسخ خلافا لزاعميها.

(ش) قيل: يثبت النسخ بأمور غير ما سبق، والأصح فيها خلافه، فههنا كون أحد النصين شرعيا والآخر موافق للبراءة الأصلية، زعم بعضهم أن الناسخ الشرعي، لأن الانتقال من البراءة إلى اشتغال الذمة يقين، والعود إلى الإباحة ثانيا شك (127أ) وهو بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومنها: ثبوت إحدى الآيتين في المصحف قبل الأخرى فإن ترتيب الآيات ليس على ترتيب النزول، ومنها: تأخر

ص: 896

إسلام الراوي لجواز أن يسمع متقدم الإسلام بعده، ومنها: قول الراوي، هذا ناسخ لأنه قد يكون عن اجتهاد وقيل: يثبت به وقال الكرخي: إن عينه فقال: هذا ناسخ هذا - لم يرجع إليه، لاحتمال أنه قال عن اجتهاد، وإن لم يعينه، بل قال: هذا منسوخ - قبل، حكاه أبو الحسين في (المعتمد) قلت: وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه: أنه يثبت به النسخ، وقد احتج أصحابنا بقول عائشة في الرضعات:(أن العشر منهن نسخن بخمس) وقول المصنف: (لا الناسخ) أي إذا ثبت كون الحكم منسوخا، ولم يدر ما نسخه فقال الراوي: هذا الناسخ، فإنه يقبل، وهذه مسألة غريبة قل من استثناها أو ذكرها: ويقال عليه: ما الفرق بين قول الراوي: هذا ناسخ، وقوله: هذا الناسخ حيث لم نقبله في الأول، ونقبله في الثاني؟ والجواب: أنا لم نقبله في هذا ناسخ، لأنه قد يكون عن اجتهاد، بخلاف ما إذا ثبت النسخ على الجملة ولكن لم ندر عين الناسخ، فإنه إذا عينه قبلناه منه، لأنه لما ثبت أصل النسخ، من غيره كان تعيينه أسهل من أصل ابتدائه، ونظيره من الفقه: لو عرف عموم الحريق وجهل هل أحرقت الوديعة، يقبل قول المودع: إنها احترقت من غير يمين، بخلاف ما إذا لم يعرف عمومه وكذلك لو قال من طلق زوجته رجعيا: طلقتك

ص: 897

وقال: أردت الطلقة السابقة، لا إحداث طلقة أخرى - يقبل، بخلاف ما لو لم يكن تقدمه طلاق.

ص: 898