الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام في الأخبار
المركب إما مهمل، وهو موجود خلافا للإمام، وليس موضوعا.
(ش) لا خلاف أن المهمل يوجد في المفردات أما المركبات بأن يكون المدلول لفظا مركبا مهملا - فقال الإمام: الأشبه أنه غير موجود، لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة، فحيث لا إفادة لا تركيب وخالفه البيضاوي ومثله بلفظ الهذيان فإن موضوعها ألفاظ مركبة مهملة فيقال لضرب من الهوس أو غيره لا
يقصد بها الدلالة (129 ب) على شيء، وجرى عليه المصنف، وحكى الهندي كلام الإمام ثم قال: وهذا حق، إن عنى بالمركب ما يكون جزؤه دالا على جزء المعنى حين هو جزؤه وإن عنى به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه، وما يكون مؤتلفا من لفظين كيف كان التأليف، وإن لم يكن لشيء من أجزائه دلالة فهو باطل أما الأول فمثل: عبد الله، إذا كان علما فإن اسم العلم يدل عليه، وهو لفظ مركب على هذا التقدير غير دال على المعنى المركب، وأما الثاني: فلفظ الهذيان، فإنه يدل على المركب من مهملتين، أو من لفظة مهملة ومستعملة وهو غير دال على المعنى المركب، هذا إن أراد بعدم دلالته على معنى المعنى المركب، أما إن أراد به لا يدل على معنى أصلا، وأراد باللفظ المركب المعنى الثاني - فينتقض بالثاني دون الأول. انتهى. (وليس موضوعا) أي: للعرب بلا خلاف.
(ص) وإما مستعمل والمختار أنه موضوع.
(ش) يشير إلى الخلاف في أن المركبات موضوعة أم لا؟ والراجح - كما قاله القرافي وغيره - أنها موضوعة، لأن العرب حجرت في التراكيب كما حجرت في المفردات، فعلى هذا تكون دلالة المركب على معناه بالمطابقة لكن الذي رجحه
النحويون، كابن مالك، وابن الحاجب وغيرهما، أنها ليست موضوعة، وإلا لكان استعمال الجمل يتوقف على النقل عن العرب كما في المفردات.
(ص) والكلام ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته.
(ش)(ما تضمن من الكلم): بيان لجنس الكلام، وأنه ليس خطأ ولا رمزا ولا إشارة، وإطلاق الكلام عليها مجازا، و (ما) بمعنى شيء فيصلح للواحد فما فوقه وقوله:(من الكلم) يخرج به الواحد وهو أحسن من قول (المفصل): (ما تركب من كلمتين) لشموله ذات الكلمات، فإن بعض الكلام تكثر أجزاؤه حتى يصير خمسين كلمة وستين كلمة وثمانية كلمة، كقوله تعالى:{إن في خلق السماوات والأرض} إلى {يعقلون} وقوله تعالى: {إذا الشمس كورت} إلى {أحضرت} وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى {ما ملكت أيمانكم} وأحسن من قول ابن الحاجب: ما تضمن من كلمتين (لأنه إن سلم من عدم تناول ذي الكلمتين - لكن لم يتناول ذا الكلمات، لأن ما تضمن كلمتين) لا بد من كونه، ذا أجزاء من جملتها الكلمتان، فإن التضمن غير المتضمن، والشيء لا يتضمن نفسه، والمراد
بالإسناد: تعليق خبر بمخبر عنه، كزيد قائم أو طلب مطلوب عنه، كاضرب فيخرج النسبة التقيدية، كنسبة الإضافة في: غلام زيد، ونسبة النعت في نحو: الرجل الخياط (من قولنا: جاء الرجل الخياط) واحترز بالمفيد من نحو: السماء فوق الأرض والواحد نصف الاثنين، فلا يسمى كلاما إلا مجازا، وبالمقصود: عن كلام النائم (والساهي والطيور والقابلة للتلقين، وبالذات: عن المقصود لغيره كجهله للشرط قبل جوابها فإنها ليست بكلام) لأنها لم تقصد لذاتها، بل المقصود لذاته هو الجواب، والشرط مذكور لأجله فإن قولك: إن يقم زيد أقم، لم تقصد الحديث عن زيد، بل عن نفسك بالقيام مشروطا بقيام زيد، وكذا الجمل الموصول بها، من: جاء أبوه، من قولنا: الذي جاء أبوه، لأن من شرط صحة الوصل بها كون معناها معهودا عند السامع، وإنما يقصد بها إيضاح معنى الموصول، لأنها منزلة منزلة جزء كلمة، والكلمة التامة ليست كلاما فكيف بما هو جزء منها؟
تنبيهات:
الأول: هذا التعريف ذكره ابن مالك في (التسهيل)، وهو لا يخلو عن إشكال، ولك أن تنازع في عدم تسمية نحو: السماء فوق الأرض - كلاما، لأنه خبر بدليل أن يقال فيه: صدقت أو كذبت، ومتى كان خبرا كان كلاما، لأنه قسم منه، ولا حاجة لقوله: مقصودا فإن ذكر الإسناد يغني عما احترز به (130 أ) عنه لما سبق في تفسير الإسناد وهو منتف في النائم ونحوه، وكذا لا حاجة للقيد
الأخير، لأنهم شرطوا في جملة الصلة، والصلة كونها خبرية، وهو قسم من الكلام والظاهر أنه أخذ القيد هنا بالمعنى الأعم، لا ما يحسن السكوت عليه، وإلا فمتى أخذناه بهذا المعنى الخاص، فركنا الكلام، التركيب والإفادة ولهذا قال في (شرح الكافية): وفي الاقتصار على (مفيد) كفاية.
الثاني: هذا بالنسبة لاصطلاح النحاة، وقد سبق أول الاستثناء أن القاضي أبا بكر يشرط فيه صدوره من ناطق واحد، وسبق ما فيه في (الارتشاف) وليس من شرط الكلام، قصد الناطق به، ولا كونه صادرا من ناطق واحد، ولا إفادة المخاطب شيئا يجهله، خلافا لزاعمي ذلك بل إذا حصل الإسناد كان كلاما ولو من غالط أو ساه أو مخطئ أو من ناطقين أو تركيب لا يستفيد المخاطب منه شيئا أو تركيب محال. انتهى. وهذا اعتبار كثير من النحويين - أعني اعتبار التركيب الإسنادي فقط - وأما في اصطلاح الفقهاء فيطلق على الكلمة الواحدة، وأقل ما تكون من حرفين، أو حرف مفهم، ولهذا أبطلوا الصلاة به، قال ابن مالك في (التسهيل): ولهذا انتهى الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن الكلمة فما
فوقها حين نهوا عن الكلام في الصلاة وهو شائع في اللغة، وفي (الصحاح) الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، فيقع على الكلمة الواحدة وعلى الكلام بخلاف الكلم فإنه لا يكون أقل من ثلاث كلمات.
الثالث: قال النحاة: لا يتركب الكلام إلا من اسمين، أو اسم وفعل، لأنه يستدعي محكوما عليه ومحكوما به، والمحكوم عليه لا يكون إلا اسما، والمحكوم به يصح أن يكون اسما وأن يكون فعلا.
ونقضه المنطقيون بالقضية الشرطية قالوا: ولا محيص عنه إلا بتخصيص المدعي بالقول الجازم ونقض أيضا بالنداء فإنه كلام مركب من اسم وحرف وأجيب بأن النداء في تقدير الفعل، وقيل عليه: لو كان في تقدير الفعل لكان محتملا للصدق والكذب، وجاز أن يكون خطابا مع الثالث، لأن الفعل الذي قدر النداء به كذلك وجوابه منع الملازمتين، وإنما يصدقان لو كان الفعل
المقدر به إخبارا لا إنشاء، غاية ما في الباب أنه في بعض موارد الاستعمال إخبار، لكن لا يلزم منه أن يكون إخبارا في جميع الموارد، لجواز أن يكون من الصيغ المشتركة بين الإخبار والإنشاء كألفاظ العقود.
(ص) وقالت المعتزلة: إنه حقيقة في اللساني: (وقال الأشعري مرة: في النفساني وهو المختار ومرة: مشترك، وإنما يتكلم الأصولي في اللساني).
(ش) والكلام يطلق بثلاثة اعتبارات:
أحدها: اللفظي التام، وهو اصطلاح النحاة.
وثانيها: اللفظ الناقص وهو الكلمة الواحدة وهو اصطلاح اللغويين، وقد سبقا.
والثالث: النفسي، وهو الفكر التي يدبرها الإنسان في نفسه قبل أن يعبر عنها باللسان، وعبر عنه ابن مالك بالمعنوي فقال: وهو الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه، إذ قال: وكنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر
ومن الدليل على إثباته قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} وقوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} ومعلوم أن الله تعالى ما كذبهم في قوله: {إنك لرسول الله} لأنهم صدقوا فيه، بل في القول القائم بنفوسهم وهو قولهم في أنفسهم: ما أنت برسول. وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه (130ب) عليم بذات الصدور} فأخبر أن ما يسره قول، وأيضا فإن قول القائل: افعل، يريد به الإيجاب أو الندب أو الإباحة، وصورة اللفظ واحد، فيعلم أن الإيجاب: معنى في النفس يتميز بالقرائن.
إذا علمت هذا، فاختلف في أنه حقيقة في ماذا على أقوال.
أحدها: أنه حقيقة في اللساني خاصة، وإنما خصه المصنف بالمعتزلة، لأنه لم يصر إليه أحد من أئمتنا.
والثاني: أنه حقيقة في النفساني، مجاز في اللفظي الدال عليه، تسمية للدليل باسم المدلول، فيطلق عليها كلام مجازا، لدلالتها على الكلام الحقيقي، كما تسمي علما في قولك: سمعت علما، وإنما تريد العبارات الدالة على المعلوم، والمجاز قد يشتهر اشتهار الحقائق، وهو أحد قولي الأشعري، واختاره إمام الحرمين في باب
الأوامر من (البرهان) قال: لكون النفسي جنسا ذا حقيقة لا يتغير والعبارات تختلف فما لم يتغير الاسم له حقيقة وأنكر عليك ذلك، فإنه لا يتلقى معرفة الحقيقة والمجاز مثل ذلك، قال الهندي: ولا شك أن الاشتقاق لا يشهد لهم في أنه حقيقة في هذا المعنى، قلت: مرادهم في القديم لا يطلق الكلام، فإنهم يوافقونا على أنه في الحادث حقيقة في اللفظ، وإنما صار الأشعري في أحد قوليه إلى هذا فرارا من قول المعتزلة المؤدي إلى خلق القرآن، ومن قول الحشوية بأنه الحرف والصوت المؤدي إلى أن تكون الذات المقدسة محلا للحوادث، ولم يرد الأشعري أنه حقيقة لغوية، وقد قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي في كتاب (الحدود): الكلام نوعان: قديم، ومحدث: فالمحدث كلام المخلوقين، وينقسم إلى: معنى في النفس يجده كل عاقل بالضرورة قبل أن ينطق به، وإلى ما يكون أصواتا مترتبة، وكلاهما كلام على الحقيقة، والقديم: هو كلام الله سبحانه، قائم بذاته المقدسة لا يشبه كلام المخلوقين، فليس بحرف ولا صوت، لأن الكلام صفته (ومن شأن الصفة أن تتبع الموصوف، فإذا كان الموصوف لا يشبه شيئا فكذلك) صفاته لا تشبه صفات غيره، وإنما غلط الخصوم في إلحاقهم الغائب بالشاهد قال: فحصل أن كلام الخلق ينقسم إلى نفسي ولفظي بخلاف القديم وهو كما تقول: علم المخلوق ينقسم إلى ضروري وكسبي، بخلاف القديم فكما أن علمنا لا يشبه علمه، فكذلك كلامنا لا يشبه كلامه، وإن كان الكلام في الجملة حد جامع، وهي
الصفة التي يستحق من قامت به أن يشتق منها اسم المتكلم لكن يختلفان في التفصيل، قال:
ومن أصحابنا من قال: كلام الخلق في الحقيقة هو ما في النفس، وما يوجد بالنطق يسمى كلاما مجازا، قال: والأول أصح، لما قلناه ولأنه أحسم للشغب. انتهى.
والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، وعزاه الهندي للأكثرين، وقال إمام الحرمين: إنه الطريقة المرضية عندنا وهو معنى كلام الأشعري، وكذا قال ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق وغيرهما، وقالوا: إنها تدرأ تشعب الخصوم، وحكاه في (المحصول) عن المحققين وقال الآمدي في (غاية المرام): إنكار تسمية النفسي كلاما لا يستقيم نظرا إلى إطلاق الوضع اللغوي، فإنه يصح أن يقال: في نفسي كلام، وفي نفس كلام ومنه قوله تعالى:{ويقولون في أنفسهم} قال: ولا نظر إلى كونه أصليا فيه أو فيما يدل عليه (131أ) من العبارات أو فيهما كيف، وحاصل هذا النزاع ليس إلا في قضية لغوية، وإطلاقات لفظية، ولا حرج فيها بعد فهم المعنى، وكذا قال الأبياري في (شرح البرهان): المسألة لغوية محضة، والقطع بأحدهما لم يثبت عندي وأهل العربية مطبقون على إطلاق الكلام على الألفاظ.
(ص) فإن أفاد بالوضع طلبا، فطلب ذكر الماهية استفهام وتحصيلها أو
تحصيل الكف عنها أمر ونهي، ولو من ملتمس وسائل.
(ش) فاعل أفاد هو المركب وأراد بالوضع أنه يفيده إفادة أولية، وعدل عن قول (المنهاج): بالذات للتنبيه على صواب العبارة واحترز عما يفيد الطلب باللازم، كقولك: أنا أطلب منك أن تذكر لي حقيقة الإنسان، فإنه لا يسمى استفهاما وأن تسقيني الماء فإنه لا يسمى أمراً لأنهما وإن دلا على الطلب لكن ليس بالصيغة، لأن صيغة الخبر لم توضع للطلب، وعدل عن قول (المنهاج): الطالب للماهية إلى قوله: (طلب ذكر الماهية) لأنها أحسن لموافقتها المقصود والحاصل أن المركب إن أفاد طلبا لذاته فإن كان الطلب لذكر ماهية الشيء فهو استفهام كقولك: ما هذا؟ ومن هذا؟ أو إن كان لتحصيل أمر ما من الأمور - فأمر، أو الكف عنه فنهي، وزاد المصنف هذا على قول (المنهاج): ولتحصيل أمر، فإنه إن أراد تحصيل الفعل الذي ليس بكف، فالتقسيم غير حاصر لخروج طالب الكف بالمنهي عنه وإن أراد تحصيل الفعل مطلقا كفا كان أو غيره، لزم دخول النهي في حد الأمر، وهما حقيقتان مختلفتان، فلهذا استوفى المصنف القسمين بالحصر، وهو بناء على أن الكف فعل وهو
المختار. ومثال الملتمس: قول القائل لمماثله: افعل كذا، أو السائل هو المشتغل كقول من يجعل نفسه دون المطلوب منه وهو سؤال سواء كان دونه في نفس الأمر أم لا وما صرح به المصنف من دخولهما في الأمر بناء على ما سبق منه في باب الأوامر إن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء واستند إلى قول ابن دقيق العيد في شرح العنوان (أن تسمية التساوي بالالتماس اصطلاح خاص وقال الأبياري في شرح (البرهان): اختلف في تسمية الدعاء أمرا، فأباه النحويون وأكثر الأصوليين، ومنهم من قال: يصح أن يأمر الأدنى الأعلى، وهذا غير متحقق في التحريم والإيجاب، فإن قيل: كلامه إنما هو في المركب، وصيغة الأمر مفردة، لأن جزء لفظها لا يدل على جزء معناها - قلنا: في صيغة الأمر ضمير مستكن في حكم اللفظ به، بدليل توكيده وتثنيته وجمعه فقم، قم أنت قوما وقوموا.
(ص) وإلا فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيه وإنشاء ومحتملها الخبر.
(ش) أي وإن لم يفد بالوضع طلبا، أي لا يدل على طلب الفعل دلالة أولية، لكنه يدل عليه باللازم، فإما أن يحتمل الصدق والكذب أولا، فما لا يحتملها يسمى تنبيها، أي نبهت به على مقصودك بالكلام، ويندرج في التنبيه التمني، كـ (ليت) الشباب يعود والترجي نحو: لعل لي مالا فأنفقه، والقسم والنداء فإنه لا
يحسن أن يقال لقائلها: صدقت أو كذبت، وهو في هذا متابع للمحصول فإنه جعل هذه الأقسام مما لا يدل على الطلب بالوضع لكن البيانيون أطلقوا عليها اسم الطلب وقالوا (131ب): إنه يتنوع إلى طلب حصول ما في الخارج أن يحصل في الذهن كالاستفهام أو طلب حصول ما في الذهن أن يحصل في الخارج، وقالوا: إنه ينحصر بالاستقراء في خمسة أقسام: الاستفهام والأمر، والنهي، والنداء، والتمني، وادعاء القرافي في (الفروق) الإجماع على أن الأمر والنهي والقسم والترجي والتمني والنداء من قسم الإنشاء - لا يخالف ما نقلناه عن البيانيين، لأنهم جزموا بأن الطلب من الإنشاء، وقسموا الإنشاء إلى طلب وغيره نعم الأمر والنهي ليسا من الإنشاء على طريقة الرازي، وتابعه المصنف، وقوله: وإنشاء أي ويسمى أيضا إنشاء من قولهم: أنشأ يفعل كذا، أي ابتدأ ثم نقل إلى إيقاع لفظ لمعنى يقارنه في الوجود، وقوله: ومحتملهما: أي وإن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر، وزعم قوم منهم الغزالي أن التعبير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدق والكذب، لأن من الأخبار ما لا يحتمل إلا الصدق كخبر الصادق، وما لا يحتمل إلا الكذب، كما لو قال:
الواحد نصف العشرة ولم يرتضه المصنف فإن احتماله لهما بحسب المفهوم، والخبر من حيث هو محتمل لذلك، وتعين أحد الاحتمالين في بعض الأفراد بحسب الخارج لخصوصية ومزية - لا يخرج احتمال ماهية الخبر، من حيث هي محتملاتها، ثم إن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار بكون الكلام صدقا أو كذبا فتعريفه دور.
(ص) وأبى قوم تعريفه كالعلم والوجود والعدم، وقد يقال: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام والخبر خلافه أي ماله خارج صدق أو كذب.
(ش) ذهب قوم - منهم الإمام الرازي - إلى أن الخبر لا يحد، لأنه ضروري لأن كل واحد يعلم أنه موجود، والخبر جزء من هذا الخبر وقيل: يعسر الحد، وهو كالخلاف في تعريف العلم والوجود والعدم، والصحيح خلافه، ثم اختلف القائلون بتحديده، فقيل: ما يحتمل الصدق والكذب، وقد سبق ومنهم من قال:
يعرف بتعريف مقابله فقال: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام، كبعت وتزوجت وطلقت فإنه إذا وردت من المكلف رتب عليها الشرع مقتضياتها، إما مع اللفظ أو آخر حرف منه على الخلاف المشهور، والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفسي المدلول عليه بذلك اللفظ، والخبر بخلافه، أي ما يقال له في الخارج صدق أو كذب، والحاصل أن النسبة في الإنشاء وجودها مع وجود اللفظ لا وجود لها قبله والنسبة في الخبر خارجية قبل وجود اللفظ ثم اللفظ يخبر عنها وهو معنى قولهم: الإنشاءات يتبعها مدلولها، والأخبار تتبع مدلولاتها قال القرافي: وليس المراد التبعية في الوجود وإلا لما صدق ذلك إلا في الماضي فقط، فإن الحاضر مقارن، والمستقبل وجوده بعد الخبر، بل المراد أنه تابع لتقرر مخبره في زمانه ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا وقد أورد على هذا التعريف الإخبار عن المستقبلات
نحو: سيقوم زيد فإنه عند النطق به ليس له خارج صدق ولا كذب، فلا يمكن وصفه بذلك وعند وجود المخبر ليس الخبر موجودا حتى يصفه بصدق، ولا شك أن الإخبار عن المستقبلات بوصف (132أ) للصدق والكذب، قال تعالى:{ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} فلو قال: إن كان محكوما فيه بنسبة خارجية فهو الخبر - كما فعل ابن الحاجب - كان أولى، وكان بعض مشايخنا يقول: التحقيق أن لكل من نسبة الإنشاء والخبر العقليين نسبة في الخارج غير أن النسبة العقلية في الخبر تابعة للنسبة الخارجية، وأخرج الكلام تابعا لها في الظاهر والنسبة الخارجية في إنشاء تابعة للنسبة العقلية، أخرج الكلام ليوقع على حسبه.
تنبيهات:
الأول: قوله: (وقد يقال): إشارة إلى قول آخر خلاف ما ذكره أولا من التقسيم إلى ثلاثة: طلب وإنشاء وخبر، وهذا القائل قسمه إلى قسمين: خبر أو إنشاء وجعل الطلب داخلا في الإنشاء، لأنه ردد الكلام بين ما له خارج وبين ما لا خارج له، وجعل الإنشاء ما ليس له خارج، وذلك يشمل الطلب والإنشاء، وذهب ابن مالك إلى قول ثالث، وهو انقسامه إلى خبر وطلب، ويرد عليه أن من الكلام ما ليس خبرا ولا طلبا كالشرط في الإنشاء نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنه ليس بخبر، إذ لا يحتمل الصدق والكذب ولا بطلب لانحصار الطلب عندهم في الأقسام الخمسة السابقة واعلم أن من حصره في ثلاثة أقسام (فسر الإنشاء بإيقاع لفظ بمعنى يقاربه في الوجود، كإيقاع البيع ببعت، ومن حصره في قسمين) فسر الإنشاء بما لا نسبة له في الخارج، وبهذا ينحل الإشكال المشهور في أن الطلب لا يدخل في الإنشاء، إذ الإنشاء لا بد فيه من المقارنة، والطلب بخلافه فإن هذا
اعتراض مركب على المذهبين، فإن من قسمه قسمين لم يفسر الإنشاء بهذا التفسير.
الثاني: قوله: والخبر بخلافه أي ماله خارج، جعله هذا قسيما لما قبله - فيه نظر، فإن من فسر الإنشاء بما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام فسر الخبر بما يحصل وجوده في الخارج بغيره مثل: زيد منطلق فإنه يمكن علمه بالمشاهدة بخلاف الأمر والنهي فإنه لا يمكن استفادته إلا من المتكلم ومن فسر الخبر بما له خارج يطابقه أولا، فسر الإنشاء بما ليس له خارج أصلا، ولم يفسر أحد الطرفين، كما فصل المصنف، وقد أورد على القائلين) بما له خارج أن الخبر قد يكون متعلقه ذهنيا فلا يشترط في الخبر مطابقته لما في الخارج، بل مطابقته لما في نفس الأمر.
الثالث: وهو سؤال على قولهم: إن صدق الخبر ومطابقته للواقع فإن المخبر بالواقع قد أكذبه الله تعالى في القذف في قوله: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} وقال العلماء: لا تصح توبته إلا بإكذابه نفسه (ولا شك قد يكون صادقا في نفس الأمر، فكيف يكون كاذبا ويؤمر بتكذيب نفسه)؟ وأجيب بأن القاذف كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان خبره مطابقا لمخبره، أي أنه يعاقب معاقبة المفتري الكذاب، فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله، كما أخبر به عنه، فإذا لم يعترف بذلك وقد جعله الله كاذبا، أي قوله له، مع إصراره على مخالفة حكم الله عليه بالكذب.
(ص) ولا مخرج له عنهما، لأنه إما مطابق للخارج، أو لا وقيل بالواسطة فالجاحظ: إما مطابق مع الاعتقاد ونفيه، أولا مطابق مع الاعتقاد ونفيه، فالثاني
فيهما واسطة، وغيره: الصدق: المطابقة لاعتقاد المخبر، طابق الخارج أولا وكذبه عدمها، فالساذج واسطة، والراغب الصدق: المطابقة الخارجية مع الاعتقاد فإن فقدا فمنه كذب وموصوف بهما بجهتين.
(ش) ذهب الجمهور إلى أن الخبر لا يخرج عن (132ب) كونه صدقا أو كذبا، لأنه إما أن يطابق المخبر عنه أو لا، والأول صدق، والثاني كذب، والعلم باستحالة حصول الواسطة بينهما على هذا التفسير - ضروري، وقيل: بينهما واسطة، واختف القائلون به على مذاهب: أحدها: قول الجاحظ صدق المخبر مطابقته للخارج، مع اعتقاد مطابقته وكذبه: عدم مطابقته مع اعتقاد المخبر عدم مطابقته وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، فأثبت الواسطة في أربع صور، وهي ما إذا كان مطابقا وهو غير معتقد لشيء أو مطابقا وهو معتقد عدم المطابقة، أو غير مطابق وهو يعتقد المطابقة، أو غير مطابق ولا يعتقد شيئا، فالأربعة ليس بصدق ولا كذب وإليها أشار أولا بقوله: أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه أي وما ليس معه الاعتقاد والمطابقة هو الواسطة، وقوله (مع الاعتقاد) أي (أو الظن) كذا حكاه عنه أبو الحسين في (المعتمد) قال: وقد أفسده عبد الجبار، بأن ظن المخبر واعتقاده يرجع إليه لا إلى الخبر، فلم يكن شرطا في كونه كذبا.
الثاني: صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر، سواء طابق الخارج أو لا، وكذبه
عدمهما ولو كان صوابا وعلى هذا فالساذج واسطة ونعني بالساذج: الخبر الذي لا اعتقاد معه، أو معه اعتقاد العدم، ولكن صاحب الإيضاح البياني صرح بأن صاحب هذا القول لا يثبت الواسطة، وعلى هذا يدخل في قوله:(عدمها) ما لا اعتقاد معه أو معه اعتقاد العدم بل يدخل فيه خبر الشأن، والكل عنده كذب، وما فهمه المصنف في حكاية هذا القول - ذكره الخطيب، احتمالا في كلام صاحب (التلخيص) وهو اشتراط الاعتقاد فقط في كل من الطرفين، ليكون خبر غير المعتقد واسطة، لكنه لم يثبت عن أحد، بل أصل هذا القول غريب، قيل: إنه لم يحكه سوى صاحب (الإيضاح) وإن كان ظاهر عبارة ابن الحاجب تقتضيه إلا أن المحققين من شراحه حملوه على خلافه.
الثالث: وهو قول أبي القاسم الراغب في كتاب (الذريعة): أن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معاً، فإن انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما بل إما أن لا يوصف بالصدق والكذب كقول المبرسم الذي لا قصد له: زيد في الدار، فلا يقال له:
إنه صدق ولا كذب، وأما أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب بنظرين مختلفين إذا كان مطابقا للخارج غير مطابق للاعتقاد كقول الكفار:{نشهد إنك لرسول الله} فإن هذا يصح أن يقال فيه: صدق، لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يقال كذب، لمخالفة قوله ضميره فلهذا كذبهم الله تعالى، وكذلك إذا قال: من لم يعلم كون زيد في الدار، إنه في الدار، يصح أن يقال: صدق وأن يقال: كذب بنظرين مختلفين. انتهى.
إذا علمت هذا فما نقله المصنف عنه لا يطابق كلامه، لأنه لم يعرف مطلق الصدق بما ذكره، بل الصدق التام والصدق عنده قسمان. وكذا قوله: فإن فقدا فمنه كذب إنما تكلم على ما إذا فقد أحدهما ثم وصفه بالجهتين، إنما يكون في هذه الحالة لا في حالة فقدهما.
فائدة: الساذج بذال معجمة: قال في (المحكم): أي أصله ساده فمعرب.
(ص) ومدلول الخبر، الحكم بالنسبة لا ثبوتها، وفاقا للإمام وخلافا للقرافي وإلا لم يكن شيء من الخبر كذبا.
(ش)(133أ) قال الإمام في (المحصول): إذا قلت: العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت الحدوث للعالم، لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو
كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا: العالم محدث، كان العالم محدثا لا محالة، فوجب أن لا يكون الكذب خبرا ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس النسبة.
انتهى واعترض عليه بأنه توهم أن يكون الكذب متحققا لا بصفة الخيرية=، والواقع على هذا التقدير انتفاء الكذب وتوهم جماعة أن هذا انقلب على الإمام، وغيره في (التحصيل)، فقال: وإلا لم يكن الخبر كذبا وهو أيضا عبارة فاسدة لما توهم من أن كل خبر كذب، والحق أن عبارة الإمام صحيحة وتقريرها أن مدلول النسبة لو كان ثبوتا كان الكذب غير خبر، لكن اللازم منتف ضرورة أن الكذب أحد قسمي الخبر الذي هو صدق وكذب، فالملزوم مثله، وبيان الملازمة أن ثبوت النسبة وقوعها في الخارج، فلا يكون إلا خارجا عنه كذبا، وأوضح منها عبارة المصنف، ومن محاسنه أنه أخر التعليل عن ذكر الإمام لينبه على أن هذا التعليل لم يذكره الإمام والغرض منه وقوع الخطأ لقوم في فهمه، ومنهم من نازع الإمام في الدليل، وقال: إنه غير لازم، لأن اللفظ دليل على وجوب النسبة وقد لا تكون موجودة، لأن الخبر دليل بمعنى المعرف، وقد يتأخر المعرف عن (المعرف لأمر ما، ثم ما قاله قد يعكس، فيقال: لو كان مدلول النسبة الحكم لم يكن خبره كذبا) لأن كل من قال: قام زيد، فقد حكم بقيامه فيكون خبره مطابقاً سواء كان في الخارج أو لا ولا سيما والإمام قائل بأن الألفاظ وضعت بإزاء المعاني الذهنية ثم يقول: لو كان المدلول الحكم بالنسبة لكان الخبر إنشاء ولم يكن ثم خارج يطابقه، وإما أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق، قال: وظن جماعة من الفقهاء أن احتمال الخبر للصدق والكذب مستفاد من الوضع اللغوي، وليس كذلك بل لا يحتمل
الخبر من حيث الوضع إلا الصدق، لاتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا: قام زيد - حصول القيام منه في الزمن الماضي ولم يقل أحد منهم: إن معناه صدور القيام أو عدمه، وإنما احتمله من جهة المتكلم لا من جهة الوضع اللغوي، وعلى هذا يستقيم قول محمد بن الحسن في (الجامع): إن أخبرتني أن فلانا قدم، يحنث بالصدق والكذب، لأنه يستعمل فيهما من جهة المتكلم والمخاطب، وقلت: وكذا قال أصحابنا
لكن نضعف مذهب القرافي بأمور:
أحدها: القول بأن المركبات ليست موضوعية.
ثانيها: ما ذكره المصنف من القاعدة.
ثالثها: لا نسلم أن مدلول: قام زيد، حصول القيام، وإنما مدلوله الحكم بحصوله القيام، وذلك يحتمل الصدق والكذب.
رابعها: اتفاق الناس على أن الخبر أعم من الصدق والكذب.
(ص) ومورد الصدق والكذب النسبة التي تضمنها ليس غير كقائم، في: زيد ابن عمرو قائم، لا بنوة زيد، ومن ثم قال مالك وبعض أصحابنا الشهادة بتوكيل فلان ابن فلان فلانا - شهادة بالوكالة فقط، والمذهب، بالنسب ضمنا والوكالة أصلا.
(ش) مورد الصدق والكذب في الخبر هو النسبة التي تضمنها الخبر لا واحد من طرفيها، فإذا قيل: زيد بن عمرو قائم، فقيل: صدقت أو كذبت (133ب) فالصدق والكذب راجعان إلى القيام لا إلى بنوة زيد وقوله: ومن ثم، أي من
هناك وهو أن الثابت النسبة فقط، قال مالك وبعض أصحابنا إذا شهد شاهدان بأن فلان بن فلان وكل فلانا، كانت شهادة بالتوكيل، ولا يستفاد منها، أنهما شهدا بالبنوة، فليس له في محاكمة أخرى في البنوة أن يقول: هذان شهدا لي بالبنوة لقولهما في شهادة التوكيل: إني فلان ابن فلان، والمذهب الصحيح عندنا أنه شهادة بالوكالة أصلا، وهذا واضح لأنه مورد الكلام ومقصده وبالنسب ضمنا، وهذا قد يستشكل على هذا الأصل، ولا إشكال فيه، لأنا لما صدقنا الشاهدين كان قولهما متضمنا لذلك، وهذه المسألة مذكورة في (الإشراف) للهروي و (الحاوي) للماوردي، و (البحر) للروياني واعلم أن هذه القاعدة مهمة، وقد أهملها الأصوليون وذكرها البيانيون كالسكاكي ومنهم أخذ المصنف وقد أورد عليهم ما رواه البخاري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:((يقال للنصارى يوم القيامة ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد)) وكذلك استدل الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون} وينبغي أن يخرج الفرع الذي ذكره المصنف تفصيلا في المسألة، وهو يدل على نسبة المحمول للموضوع بالمطابقة وعلى غيره بالالتزام قال بعضهم: وهذا هو الحق، وينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو كانت صفة المسند إليه مقصودة بالحكم بأن يكون المحكوم عليه في المعنى الهيئة الحاصلة من المسند إليه كقوله عليه الصلاة والسلام:((الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) فإنه لا يخفى أن
المراد الذي جمع كرم نفسه وآبائه وهو يوسف وليس المراد الإخبار عن الكريم الذي اتفق له صفة الكرم كما في
قولك: زيد العالم قائم وكذلك الصفات الواقعة في الحدود نحو: الإنسان حيوان ناطق فإن المقصود الصفة والموصوف معا، ولو قصدت الإخبار بالموصوف فقط لفسد الحد، ولم يقف والد المصنف على نقل في المسألة، فقال في (فتاويه): إنه لا يدل على ذلك في كلام الآدميين، وإن دل فبالالتزام وهو غير نافع، بل لا بد أن يصرح به الشاهد بخلاف كلام الله تعالى، فإنه محتج به وبما يدل عليه مطابقة كان أو التزاما فافهم الفرق بين الموضعين فهذا كلامه.
فائدة: يجوز في قوله: ليس غير، أربعة أوجه: فتح الراء وضمها بلا تنوين فيهما على إضمار الاسم، وبالتنوين فيهما، وعدل عن قول غيره من المصنفين: لا غير لأن بعضهم لحنهم في ذلك، وقال: إنها تقطع عن الإضافة لفظا إذا تقدمت (كلمة ليس، خاصة ونازع في ذلك آخرون منهم ابن بري وقال: ويجوز بناؤها على الضم، مع لا، لانقطاعها) عن الإضافة كما فعل بقبل وبعد، والتقدير: لا غير ذلك، فلما منعت الإضافة رفعت.
(ص) مسألة الخبر إما مقطوع بكذبه - كالمعلوم خلافه - ضرورة أو استدلالا
(ش) الخبر وإن كان من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكنه قد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجية أو لا يقطع بواحد منهما، لفقدان ما يوجب القطع، فقد يقطع بكذبه لما علم بخلافه، إما ضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو استدلالا كإخبار الفيلسوف بقدم العالم فإنه يعلم كذبه بالاستدلال على حدوث العالم. (134أ).
(ص) وكل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب أو نقص منه ما يزيل الوهم.
(ش) عدم قبوله التأويل أما لمعارضته الدليل العقلي أو غيره مما يوجب ذلك فيمتنع صدوره عنه عليه السلام قطعا، فإن الشرع يرد بمجوزات العقول لا بمستحيلاتها كقوله: إن الله خلق نفسه وغيره من الأحاديث المختلقة في التشبيه والقصد بهذا أنه إذا تعارض السمع وما أدركه العقل من أحكام العقائد وغيرها أيهما يقدم؟ والمتكلمون يقدمون مدرك العقل، لأنه السمع إنما يثبت بدليل العقل، فلو قدم السمع كان ذلك قدحا في الأصل بالفرع ثم في الفرع تبعا لأصله وأنه باطل لكن تصرف المحدثين يقتضي تقديم السمع لاحتمال غلط العقل لا سيما في الأمور الإلهية، والشرع أوثق منه في ذلك. والحق بناؤه على الخلاف السابق في مباحث الكتاب أن الأدلة النقلية تفيد اليقين أم لا؟ وقد نازع ابن دقيق العيد في عدهم هذا القسم مما يقطع بكذبه، وقال: إنما يصح إذا حددنا الكذب بما يخالف الواقع من غير أن يعتبر قصد المخبر، أما إذا اعتبرنا فيه قصده فقد يكون ذلك الخبر وإن كان غير مطابق -
قطعا يوهم رواية أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعمد الكذب فيه، فعلى هذا، الصواب أن يقال: يقطع بعدم مطابقته للواقع وتحرز بقوله: ولم يقبل التأويل، عما إذا قبله فإنه لا يقطع بكذبه، لاحتمال أن يكون المراد هو المعنى الصحيح.
وقوله: أو نقص منه ما يزيل الوهم، قد تمثل له بما ذكره ابن قتيبة في (مختلف الحديث) أنه عليه السلام ذكر مائة سنة أنه لا يبقى على ظهرها يومئذ نفس منفوسة، وهذا خلاف للمشاهدة، وإنما سقط منه ((لا يبقى على الأرض منكم)) فأسقط الراوي ((منكم)) وكذلك قول ابن مسعود في ليلة الجن: ما شهدها أحد منا، مع أنه جاء عنه شهودها، ولكن الراوي سقط منه: غيري وتابعه على هذا ابن السيد في كتاب (أسباب الخلاف) وهو عجيب، ففي صحيح مسلم: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا.
(ص) وسبب الوضع نسيان أو افتراء أو غلط أو غيرها.
(ش) سبب وقوع الكذب عليه صلى الله عليه وسلم إما نسيان الراوي لطول عهده بالخبر المسموع فربما حمله النسيان على ما يخل بالمعنى، أو برفع ما هو موقوف أو غير ذلك من أسباب النسيان، وما افتراء كوضع الزنادقة أحاديث تخالف المعقول، ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيرا للعقلاء عن الشريعة، وإما غلط، بأن أراد النطق بلفظ فسبق لسانه إلى ما سواه، أو وضع لفظ مكان آخر، ظانا أنه يؤدي معناه أو غيرها، يعني كما ذهب إليه بعض الكرامية من جواز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب، حكاه أبو بكر بن
السمعاني في (أماليه) وهو راجع إلى الافتراء.
(ص) ومن المقطوع بكذبه على الصحيح خبر مدعي الرسالة بغير معجزة تصديق الصادق، وما نقب عنه ولم يوجد عند ذويه، وبعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله خلافا للرافضة.
(ش) والمقطوع بكذبه غير ما سبق صور:
أحدها: ذكره إمام الحرمين: أن يتنبأ متنبئ من غير معجزة فيقطع بكذبه قال: وهذا مفصل عندي، وأقول: إن تنبأ وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهذا كذب، فإن مساقه يفضي إلى (134ب) تكليف ما لا يطاق، وهو العلم بصدقه من غير سبيل يؤدي إلى العلم، وأما إذا قال: ما كلف الخلق اتباعي ولكن أوحي إلي فلا نقطع بكذبه، قلت: وهذا فيما قبل ظهور خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فأما الآن فنقطع بكذبه لقيام القاطع أن لا نبي بعده.
ثانيها: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار، ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة، ذكره الإمام الرازي وسبقه إليه صاحب (المعتمد) قال: كما لو قال الراوي: هذا الخبر في الكتاب الفلاني فلم نشاهده فيه وهذا قد ينازع في إفضائه إلى القطع، وإنما غايته غلبة الظن ولهذا قال القرافي: يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راو إلا وكشف أمره في جميع أقطار الأرض، وهو عسير أو متعذر، وقد ذكر أبو حازم، في مجلس هارون الرشيد حديثا، وحضره الزهري، فقال: لا أعرف هذا الحديث فقال:
أحفظت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كله؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: أرجو، قال: اجعل هذا في النصف الذي لم تعرفه، هذا وهو الزهري شيخ مالك فما ظنك بغيره نعم إن فرض دليل عقلي أو شرعي يمنع منه عاد إلى ما سبق.
ثالثها: بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد مقطوع بكذبه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سيكذب علي)) وهذا الحديث لا يعرف.
رابعها: المنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله إما لكونه أمرا غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة، أو لتعلق أصل من أصول الدين به كالنص الذي زعم الروافض أنه دل على إمامة علي رضوان الله عليه فعدم تواتره دليل على عدم صحته.
(ص) وإما بصدقه كخبر الصادق وبعض المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمتواتر معنى أو لفظا.
(ش) الخبر المقطوع بصدقه أنواع: منها خبر الصادق، أي الذي لا يجوز عليه الكذب أصلا، إما لعلمه وغناه، وهو خبر الله تعالى لتنزهه عن جميع النقائض أو لأنه عصم من الكذب، إما لدلالة المعجزة، وهو خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به مشافهة أو ينقل عنه متواترا، ومنهم من استدل عليه بالإجماع على صدقه. قال ابن دقيق العيد: وهو غير جيد، بل الدليل الصحيح أن المعجزة دلت عليه، فإنها دلت على الصدق في التبليغ، إذ لا معنى للرسالة سوى ذلك، كل ما أخبر به فهو داخل تحت مدلول المعجزة. انتهى.
وإما لشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم له بذلك، وخبر جميع الأمة ومنها بعض المنسوب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنا لا نعرف ذلك إلا بجملة معينة، وأنه قد سبق أنهم قد كذبوا عليه ومنها ما أخبر عنه عدد التواتر قال الغزالي: وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الإخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل يدل عليه سوى نفس الخبر وحكى صاحب (المعتمد) عن النظام أنه يشترط القرينة
في اقتضائه العلم في الآحاد، وهو غريب، وسواء التواتر المعنوي واللفظي والفرق بينهما أن أخبار الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إن اتفقوا في اللفظ والمعنى فذاك، وإن اختلفوا فيهما مع وجود معنى كلي فيما أخبروا به، وقع عليه الاتفاق كما إذا أخبر واحد عن حاتم أنه أعطى بعيرا وآخر (135أ) أنه أعطى فرسا وآخر أنه أعطى دينارا وهلم جرا فإن المخبرين وإن اختلفوا في الأداء فقد اتفقوا على معنى كلي، وهو الإعطاء وهو دون التواتر اللفظي، لأجل الاختلاف في طريق النقل، قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يكاد يقع الاحتجاج به إلا في شيء من الأصول ومسائل قليلة من الفروع كغسل الرجلين مع الروافض والمسح على الخفين مع الخوارج.
تنبيه: كان ينبغي أن يزيد الخبر المعلوم صدقه بضرورة العقل أو بنظره على قياس ما ذكر أولا في نقيضه مما يقطع بكذبه.
(ص) وهو خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس.
(ش) الضمير راجع إلى اللفظي، لا المتواتر من حيث هو فيخرج بالجمع خبر
الواحد، ويمتنع تواطؤهم عن جماعة لا يمتنع فيهم ذلك، وزاد بعضهم:(بنفسه) ليخرج ما امتنع فيهم ذلك بالقرائن، أو موافقة دليل عقلي أو غير ذلك، وإنما لم يذكره المصنف لأن المفيد للقطع هو مع القرائن، وقوله:(عن محسوس) هو في قوة شرطين:
أحدهما: أن يكون عن علم لا عن ظن.
وثانيهما: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، ونعني بالمحسوس ما يدرك بإحدى الحواس الخمس، وإنما شرط علمهم ذلك عن الحس بخصوصه ذكره الرازي والآمدي وأتباعهما والذي صرح به الأقدمون كالقاضي اشتراط كونه عن ضرورة إما بعلم، الحس من سماع أو مشاهدة وإما بأخبار متواترة، فلو أخبروا عن نظر لم يفد العلم لتفاوت العقلاء في النظر، ولهذا يتصور الخلاف منه نفيا وإثباتا وقال إمام الحرمين: لا وجه لاشتراط الحس، بل يكفي فيه العلم الضروري فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري، ثم قد يترتب على الحواس ودركها، وقد يحصل عن قرائن الأحوال كصفرة الوجل وحمرة الخجل، فإنه ضروري عند المشاهدة، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص.
(ص) وحصول العلم آية اجتماع شرائطه ولا تكفي الأربعة وفاقا للقاضي والشافعية وما زاد عليها صالح من غير ضبط، وتوقف القاضي في الخمسة وقال الإصطخري: أقله عشرة، وقيل: اثنا عشر، وعشرون، وأربعون، وسبعون، وثلاثمائة، وبضعة عشر.
(ش) اختلف هل يشترط فيه عدد معين، والجمهور على أنه ليس فيه حصر، وإنما الضابط حصول العلم، فمتى أخبر هذا الجمع، وأفاد خبرهم العلم - علمنا أنه متواتر وإلا فلا. قال القاضي: أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد، وتوقف في الخمسة وقال ابن السمعاني: ذهب أكثر أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز التواتر بأقل من خمسة، وما زاد. فعلى هذا لا يجوز أن يتواتر بأربعة، لأنه عدد معين في الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا فقيل: يشترك عشرة ونسب للإصطخري والذي في (القواطع) عنه: لا يجوز أن
يتواتر بأقل من عشرة، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد، لأنها ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد، والعشرة فما زاد جمع الكثرة، وقيل: اثنا عشر، لأنهم عدد النقباء وقيل عشرون لقوله تعالى:{إن يكن منكم عشرون صابرون} وقيل: أربعون عدد الجمعة، وقيل: سبعون، لقوله تعالى:{واختار موسى قومه سبعين رجلا} وقيل: ثلاثمائة وبعضة عشر، عدد أهل بدر وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم للمشركين، والبضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى التسعة قال ابن قتيبة في كتابه (مختلف الحديث): والذي يؤكد ضعف هذه الأقاويل أنه يلزم منها (135ب) إثبات قول بثمانية، كقوله تعالى:{وثامنهم كلبهم} وإثبات قول تسعة عشر لقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ولم يصيروا إليه فدل على فساد حجتهم.
(ص) والأصح لا يتشرط فيه إسلام ولا عدم احتواء بلد.
(ش) لا يشترط في ناقل التواتر الإسلام.
خلافا لابن عبدان من أصحابنا، قال ابن القطان: وإنما غلط لتسويته بين ما طريقه الاجتهاد وما طريقه الخبر، ولا يشترط في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد خلافا لقوم، لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم.
(ص) وأن العلم فيه ضروري وقال الكعبي والإمامان: نظري، وفسره إمام الحرمين بتوقفه على مقدمات حاصلة لا احتياج إلى النظر عقيبه، وتوقف الآمدي.
(ش) فيه إشارة إلى مسألتين: إحداهما: أن خبر التواتر يفيد العلم، ولم ينقل فيه خلاف إلا عن السمنية.
وهو مكابرة على الضرورة: وهذه من مسائل (المنهاج).
الثانية: ذهب الجمهور إلى أن العلم في التواتر ضروري لا على معنى إنه يعلم بغير دليل بل معنى إنه يلزم التصديق فيه ضرورة إذا وجدت شروطه، كما يلزم التصديق بالنتيجة الحاصلة عن المقدمات ضرورة، وإن لم تكن في نفسها ضرورية واستدلوا بأنه لو لم يفد العلم الضروري لوجدنا أنفسنا شاكين في وجود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي وجود بغداد، وذلك باطل، لأن كل ما لا يعرض فيه الشك فليس بنظري، فالعلم الحاصل عن التواتر ليس بنظري وذهب الكعبي إلى أنه
كسبي مفتقر إلى تقدم استدلال ونقله المصنف عن الإمامين - يعني إمام الحرمين والرازي - فأما إمام الحرمين فهو قد صرح في (البرهان) بموافقته الكعبي، لكنه نزله على أن العلم الحاصل عقيبه من باب العلم المستند إلى القرائن والمقدمات الحاصلة قال: وهذا هو مراد الكعبي، ولم يرد نظرا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وقريب منه تقسيم الغزالي في (المستصفى) العلم النظري إلى ما يدرك بنظر قريب وإلى ما يدرك بنظر بعيد، وجعل التواتر من الأول، وقال: إنه يحصل العلم به عن مقدمتين:
إحداهما: هي أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم لا يجمعهم على الكذب جامع.
والثانية: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، فينبني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين، وأما الإمام الرازي فالذي في (المحصول) موافقة الجمهور
وتوقف الشريف المرتضي والآمدي.
(ص) ثم إن أخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات والصحيح ثالثها، إن علمه لكثرة العدد متفق وللقرائن قد يختلف فيحصل لزيد دون عمرو.
(ش) عدد التواتر إن أخبروا عن معاينة فذاك، وإن لم يخبروا عن معاينة اشترط وجود هذا العدد، أعني الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل الطبقات وهو معنى قول الأصوليين: لا بد فيه من استواء الطرفين والواسطة، ولهذا يعلم أن التواتر قد ينقلب آحادا عند الاندراس وأشار بقوله: والصحيح إلى أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا؟ اختلفوا فيه فذهب القاضي أبو بكر وغيره إلى وجوب الاطراد، وآخرون إلى عدمه، وتوسط الهندي (136أ) فقال: الحق إن
حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة لا من جهة المخبرين ولا من جهة السامعين، فالاطراد واجب وإن لم يكن بمجرده بل لانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الاطراد.
(ص) وإن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه، وثالثها: يدل إن تلقوه بالقبول.
(ش) إذا اجتمعت الأمة على وفق خبر، فهل يدل على القطع بصدقه؟ فيه مذاهب:
أصحها: المنع، لأنه يحتمل أن يكون عملهم لدليل آخر غايته إنه لم ينقل إلينا وذلك لا يدل على عدمه.
والثاني: عليه وبه قال الكرخي وبعض المعتزلة.
والثالث: إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه، حملا للآمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد، وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا، حكم بصدقه، ونقله إمام الحرمين عن ابن فورك.
واعلم أنهما مسألتان: إحداهما: الإجماع على وفقه من غير أن يبين أنه مستندهم وفيها قولان في أنه هل يدل على صدقه قطعا أم لا؟ والثانية: أن يجمعوا على قبوله والعمل به، ولا خلاف أنه يدل على صدقه، وإنما الخلاف في أنه هل يدل قطعا أو ظنا؟ فالجمهور من أصحابنا على القطع، وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الظن، وجمع المصنف في المسألتين ثلاثة أقوال، ولكنه يقتضي أن الصحيح أنه لا يدل على صدقه وإن تلقوه بالقبول، وهذا لا يقوله أحد.
(ص) وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله خلافا للزيدية.
(ش) قالت الزيدية: بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا، كخبر الغدير والمنزلة فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توافر
دواعيهم على إبطالها، وهو ضعيف لأن المروي بالآحاد قد يستقر بحيث يعجز العدو عن إخفائه، هذا إن تمسك بشهرة النقل وإن تمسك بتسليم الخصم فهو أيضا لا يدل على الصحة، لاحتمال أنه سلمه على وجه غلبة الظن بصدقه.
(ص) وافتراق العلماء بين مؤول ومحتج خلافا لقوم.
(ش) إذا قبل الحديث شطر الأمة وعملوا به واشتغل الشطر الأخير بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع؟ اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون أنه لا يدل وهو الحق لأنه من قبله وعمل به لعله قبله لكونه مظنون الصدق، ولو فرض أنه كان في مسألة عملية ولعل من أوله ولم يحتج به، يطعن فيه أنه من باب الآحاد، إذ لا يجوز أن يكون مقطوعا به، وتأوله ولا معارض له، وذهبت طائفة منهم ابن السمعاني - إلى أنه يدل عليه، لأن الكل تلقوه بالقبول وهو يفيد القطع بصحته، غايته أن بعضهم أوله وذلك لا يقدح في متنه.
تنبيه: ما صور به المصنف المسألة أن بعضهم احتج به وبعضهم أوله وهو المذكور في (المحصول) وأتباعه لكن الآمدي في (الإحكام) صورها بما إذا عملت طائفة بمقتضى الخبر والباقون أولوه، لا يدل على صدقه لاحتمال علمهم بغيره ولئن سلمناه
لكن العمل بالظن جائز أيضا وهذا مخالف لتصوير (المحصول).
(ص) وأن المخبر بحضرة قوم لم يكذبوه ولا حامل، على سكوتهم - صادق.
(ش) إذا أخبر واحد بحضرة جمع كثير بحيث لا يخفى على مثلهم عادة وسكتوا عن تكذيبه، ولا حامل لهم على سكوتهم من خوف أو طمع.
فذهب الجمهور إلى أنه يدل على صدقه قطعا قال الأستاذ: وبهذا النوع أثبتت المعجزات.
وقال آخرون: ليس بقطعي، لاحتمال مانع من التكذيب، واختاره الرازي والآمدي. (ص) وكذا المخبر (136ب) بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا حامل على التقرير والكذب خلافا للمتأخرين، قيل: إن كان عن دنيوي.
(ش) إذا اخبر واحد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبه، فهل يدل على صدقه؟ فقال جماعة: نعم، لأنه لو كان كذبا لأنكره، وأنكره بعضهم مطلقا، وعزاه المصنف إلى المتأخرين، يعني: الآمدي وابن الحاجب وقال الهندي تبعا للمحصول إن كان خبرا عن أمر ديني دل على صدقه، لكن بشروط:
أحدها: أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم فلو تقدم لم يكن السكوت دليل الصدق لاحتمال الاستغناء عن الإنكار بالسابق.
ثانيها: أن يجوز تغيير ذلك الحكم عما بينه، فلو لم يكن مما يغير اندفع احتمال النسخ فلم يكن السكوت موهما للصدق.
ثالثها: أن يكون ذلك المخبر ممن لم يعرف عناده النبي صلى الله عليه وسلم وكفره به، فإن عرف لم ينفع فيه الإنكار، فلم يجب عليه إنكاره بالنسبة إليه، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يجب أيضا، لاحتمال أن يكون ذلك الوقت لم يكن وقت الحاجة إليه، وإن كان خبرا عن أمر دنيوي، فهو أيضا يدل على صدقه، بشروط:
أحدها: أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم يدل، فإنه لا يجب عليه بيان الأمور الدنيوية وفيه نظر، لأنه وإن لم يجب عليه ذلك، لكن يجب عليه المنع من تعاطي الكذب.
ثانيها: أن يعلم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالقضية، وإلا لم يكن دليلا على صدقه، لاحتمال أن سكوته لأنه لم يعلم حقيقة الحال فيه.
ثالثها: أن يكون المخبر ممن لا يعلم أنه لا ينفع فيه الإنكار، فإن علم أنه لا ينفع سقط الأمر عن الإنكار عليه، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: أولا، ولا حامل على التقرير والكذب، فلهذا استغنى عن تقييد المذهب المفصل.
(ص) وأما مظنون الصدق فخبر الواحد، وهو ما لم ينته إلى التواتر، ومنه المستفيض وهو الشائع عن أصل، وقد يسمى مشهورا وأقله اثنان وقيل: ثلاثة
(ش) الثالث: الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد وليس المراد ما يرويه الواحد فقط، بل المراد منه الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر سواء انتهى إلى حد الاستفاضة والشهرة أم لا، فعلى هذا ينقسم خبر الواحد إلى مستفيض ومشهور مفيد الظن المولد إلى ما ليس كذلك وذهب ابن فورك إلى أن المستفيض يفيد القطع،
فجعله من أقسام التواتر ثم المختار في تعريفه: إنه الشائع عن أصل، فخرج الشائع لا عن أصل يرجع إليه، فإنه مقطوع بكذبه، وقد يسمى المستفيض مشهورا وأقله اثنان، وقيل: ثلاثة، وبه جزم الآمدي وابن الحاجب ثم ذكر الرافعي في الشهادات عن الشيخ أبي حامد وأبي إسحاق المروزي وأبي حاتم القزويني: إن أقل ما ثبت به الاستفاضة سماعه من اثنين وإليه ميل إمام الحرمين. قال: واختار ابن الصباغ وغيره سماعه من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب، قال: وهو أشبه بكلام الشافعي وهو يؤيد مقالة ابن فورك في أنه قسم من المتواتر.
تنبيه: جعل المصنف أقسام الخبر ثلاثة، تابع فيه الأصوليين وقد نازع فيه العبدري
في شرحه (للمستصفى) وقال: هذا الثالث، إنما هو قسم ثالث بالنسبة إلينا، وأما هو في نفسه: فلا بد أن يكون إما من القسم الأول وإما من الثاني.
(ص) مسألة: خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة، وقال الأكثر: لا مطلقا وأحمد: يفيد العلم مطلقا، والأستاذ وابن فورك: يفيد (137أ) المستفيض علما نظريا.
(ش) خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم مطلقا عند الجمهور: وقيل: يفيده مطلقا، ونقله الباجي عن أحمد وابن خويز منداد وحمله بعض المحققين على الخبر المشهور، وهو الذي صحت له أسانيد متعدد سالمة عن الضعف والتعليل فإنه يفيد العلم النظري، لكن لا بالنسبة إلى كل أحد، بل إلى الحافظ المتبحر، قال: ولعل هذا مراد أحمد لا مطلق الخبر، وقال أبو الحسين حكى= عن قوم أنه يقتضي العلم الظاهر، وعنوا بذلك الظن
والثالث: أنه يفيده إن احتفت به قرائن وإلا فلا، وهو المختار عند المصنف وفاقا للإمام والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم فإن خبر الموت مع قرينة البكاء
وإحضار الكفن يفيد القطع بالموت، واعترض بأنه قد يقال: أغمي عليه، والجواب: أن عدم إفادة هذه القرينة العلم، لا يوجب عدم إفادة باقي القرائن إذ منها ما لا يعبر عنه كما يظهر بوجه الخجل والوجل، وفصل الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك فقالا: غير المستفيض لا يفيد العلم، وأما المستفيض فيفيد العلم النظري بخلاف المتواتر فإنه يفيد ضرورة.
(ص) مسألة: يجب العمل به في الفتوى والشهادة إجماعا وكذا سائر الأمور الدينية الظنية قيل: سمعا، وقيل: عقلا، وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقا.
(ش) لا خلاف في وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية وإنما الخلاف في الأمور الدينية، كذا قاله في (المنهاج) فتابعه المصنف،
وإنما تعرض في (المحصول) للجواز، لا للوجوب، ثم مرادهم بقبول الواحد في الفتوى، والاثنين في الشهادة، ولهذا قال ابن السمعاني في (القواطع): إضافة الفتوى إلى المفتي يقبل فيها خبر الواحد، وأما إن أخبر بحكم الحاكم فإنه لا يقبل إلا بما يقبل به سائر الشهادات، انتهى.
وأما الأمور الدينية، فالجمهور قالوا: يجب العمل به ثم اختلفوا فالأكثرون: إنه يجب سمعا وأما الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرسل كتبه بأحكام الله تعالى على يد الآحاد من غير تكليف جمع، وهذا مقطوع به ضرورة، وأما إجماع الصحابة على العمل به، فإن معظم فتاويهم مستندة إليه، وقال القفال: يجب
عقلا على معنى أنه لو لم يرد الدليل السمعي بوجوب العمل به لدل على ذلك العقل، وإلا لتعطلت الأحكام وعن أبي الحسين: دل عليه العقل مع السمع وكان ينبغي للمصنف، أن يقول: وقيل: عقلا، فإن الكل اتفقوا على أن الدليل السمعي يدل عليه، كما قاله الإمام في (المحصول) قال: وإنما اختلفوا في الدليل العقلي، هل دل عليه مع ذلك أم لا؟ فالأكثرون على نفيه، وقال ابن سريج والقفال والصيرفي وغيرهم: بل الدليل العقلي دل عليه، وهو الاحتياج إلى معرفة بعض الأشياء من الخبر، وتنبه أن القائلين بوجوب العمل لا يريدون أنه يوجب العمل لذاته وإنما يوجب العمل بما يجب به العلم بالعمل، وهي الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد، وهكذا حكاه الإمام في أول (البرهان) عن المحققين، قال: وهكذا القول في العمل بالقياس ومن الناس من أنكر التعبد به، وعزاه المصنف للظاهرية وإنما يعرف عن بعضهم كالقاشاني وابن داود، كما نقله
ابن الحاجب بل قد قال ابن حزم في كتاب (الإحكام) مذهب داود أنه يوجب العلم والعمل جميعا ثم المنكرون انقسموا بينهم إلى مذاهب:
الأول: إنه لم يوجد ما يدل على أنه حجة، فوجب القطع بأنه غير حجة.
والثاني: أن الدليل (137ب) السمعي قام على أنه غير حجة، وهو رأي القاشاني وابن داود.
والثالث: أن الدليل العقلي قام على امتناع العمل به، وعليه جماعة من المتكلمين كالجبائي.
(ص) والكرخي في الحدود، وقوم في ابتداء النصب، وقوم فيما عمل الأكثر بخلافه، والمالكية فيما عمل أهل المدينة، والحنفية فيما تعم به البلوى، أو خالفه راويه، أو عارض القياس، وثالثها في معارض القياس، إن عرفت العلة بنص راجح على الخبر، ووجدت قطعا في الفرع لم يقبل، أو ظنا فالوقف وإلا قبل.
(ش) ذهب قوم إلى أنه لا يعمل بخبر الواحد في صور، منها: قال الكرخي: لا يقبل في الحدود لأن الآحاد شبهة، والحدود تدرأ بها وعبارة أبي الحسين في
كتابه: (هذا القول أن يكون مما ينتفي بالشبهة) وهي أعم من تعبير المصنف وأيضا فإنه يقبله في إسقاط الحدود، ولا يقبله في إثباتها، كما قاله أبو الحسين ومنها: ما لا يقبل في ابتداء النصب، نقله ابن السمعاني عن بعض الحنفية، وفرقوا بين ابتداء النصاب وثواني النصاب، فقبلوا خبر الواحد في النصاب الزائد على خمسة أوسق، لأنه فرع ولم يقبلوا في ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل، لأنه أصل. ومنها: لا يقبل فيما عمل الأكثر بخلافه، والأصح أنه لا أثر له، فإن تحول البعض ليس بحجة، نعم هو من المرجحات عند التعارض، ومنها: قالت المالكية: لا يقبل إذا خالف عمل أهل المدينة، لهذا نفوا خيار المجلس، قال القرطبي: إذا فسر عملهم بالمنقول تواترا كالأذان والإقامة والمد والصاع، فينبغي أن لا يقع فيه خلاف لانعقاد الإجماع على أنه لا يعمل بالمظنون إذا عارضه قاطع ومنها: قالت الحنفية: لا يقبل فيما تعم به البلوى ولهذا أنكروا نقض الوضوء بمس الذكر.
والجهر بالبسملة وغيره. ومنها: ما خالفه راويه، ولهذا لم يوجبوا السبع في الولوغ، لمخالفة أبي هريرة لروايته، وقسمه صاحب (البديع) من الحنفية إلى ثلاثة أقسام: لأنه إما أن يخالف ما رواه قبل الرواية فلا يرد أو بعدها فترد، وإن جهل التاريخ لم ترد لجواز التقدم فليخصص إطلاق المصنف وغيره، ومنها: ما عارضه القياس، ولهذا ردوا خبر المصراة، وظاهر سياق المصنف أن ذلك قول الحنفية، وقد نقل في
(المنهاج) عنهم إنهم اشترطوا فقه الراوي، إذا خالف الحديث القياس، وهو تصريح بأنهم لا يردونه مطلقا، وسيذكره المصنف فيما بعد، وفي (اللمع) للشيخ أبي إسحاق، قال أصحاب مالك رحمه الله: إذا خالف القياس لم يقبل، وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: إذا خالف القياس الأصول لم يقبل، وذكروه في أحاديث الوقف والقرعة والمصراة، فإن أرادوا بالأصول القياس على ما ثبت بالأصول، فهو قول المالكية وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسنة والإجماع، فليس معهم فيما ردوه كتاب ولا سنة، انتهى.
والثاني: وهو الصحيح تقديم الخبر مطلقا وحكاه في (البديع) عن الأكثرين وقال الباجي: إنه الاصح عندي من قول مالك، فإنه سئل عن حديث المصراة، فقال: أولا. في هذا الحديث رأى=، وقال: وهذا عندي على تقدير وجوده، وإلا فما أعلم حديثا يعارضه نظر صحيح، لأن النظر الصحيح ملغى في حديث صحيح، وإنما يعارض ظواهر الأحاديث والتأويل يجمع بينهما على الوجه الصحيح. والثالث: وهو المختار عند الآمدي، وابن الحاجب، إن كانت العلة ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة فإن كان وجود العلة في الفرع قطعيا، فالقياس مقدم، وإن كان وجودها فيه ظنيا (138أ) فالتوقف وإن ثبت لا بنص راجح فالخبر مقدم وحكى الباجي عن القاضي أبي بكر رابعا: أنهما متساويان.
(ص) والجبائي: لا بد من اثنين أو اعتضاد، وعبد الجبار: لا بد من أربعة في الزنا.
_ (ش) ذهب الجبائي إلى: أنه يشترط في الخبر اثنان. فإن لم يوجد فلا بد أن
يعتضد إما بظاهر، أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو كونه منتشرا وهذا الذي نقله المصنف هو الصواب وهو الذي حكاه أبو الحسين في (المعتمد) وبه يعلم غلط من نقل عنه اعتبار العدد مطلقا، كالإمام في (البرهان)، وقد احتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين، حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فصدقاه ولم يقبل أبو بكر خبر المغيرة.
حتى روى معه محمد بن مسلمة ولم يقبل عمر خبر أبي موسى في
الاستئذان حتى روى معه أبو سعيد ونظائر ذلك وأجيب بأن توقفهم لمعان أوجبت التوقف، وإلا فقد قبلوا خبر الواحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفذ الآحاد إلى الملوك والسعاة للزكوات، وما نقله عن عبد الجبار تابع فيه (المحصول)، ولم يقله عبد الجبار
وإنما حكاه عبد الجبار عن الجبائي، كذا قاله أبو الحسين في (المعتمد) وأنه قاسه على الشهادة عليه، ومقتضى كلام (المستصفى) في حكاية هذا القول: التعميم في كل خبر، لا في الزنا بخصوصه، فإنه قال: يشترط الجبائي في قبول الخبر العدد، وقال قوم: لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا.
(ص) مسألة: المختار وفاقا للسمعاني، وخلافا للمتأخرين: أن تكذيب الأصل الفرع لا يسقط المروي، ومن ثم لو اجتمعا في شهادة لم ترد.
(ش) وجهه ابن السمعاني بأنه قال: ذلك على ما ظنه، وقوله: ما رويته أصلا يعارضه قول الراوي: إني سمعته منه، وكل واحد منهما ثقة، ويجوز أن يكون المروي عنه، رواه ثم نسيه، فلا تسقط رواية الراوي بعد أن يكون ثقة مع هذا التجوز وأيد المصنف ذلك بأن الأصل والفرع لو اجتمعا في شهادة، لم ترد بالاتفاق فدل ذلك على أنه غير قادح، لكن ينازع في ذلك قول الهندي: إنه لا يصير بذلك واحد منهما بعينه مجروحا وإن ولا بد من جرح واحد منهما لا بعينه،
كالبينتين المتكاذبتين، قال: وفائدته تظهر في رواية كل واحد منهما، وشهادته إن انفرد وعدم قبول روايته وشهادته مهما اجتمعتا ولو كان في غير ذلك الحديث. وفي المسألة قول ثالث صار إليه إمام الحرمين: إنهما متعارضان ويرجح أحدهما بطريق من طرق الترجيح، واعلم أن حكاية الإسقاط عن المتأخرين قصور، بل الذي عليه الأصحاب كما قاله ابن السمعاني، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي رضي الله عنه، بل حكى الهندي الإجماع عليه، ولم يحفظ المصنف الخلاف فيه عن غير السمعاني وقد جزم به الماوردي والروياني في الأقضية، وقالا: لا يقدح ذلك في صحة الحديث، إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل وهذا كله إذا كان الفرع جازما فإن لم يكن وقال: أظن أني سمعت منك والأصل جاحد، تعين الرد، قطع به في (المحصول) وغيره.
(ص) وإن شك أو ظن والفرع العدل جازم فأولى بالقبول وعليه الأكثر.
(ش) ما سبق فيما إذا جزم الأصل بالتكذيب، فإن شك أو ظن والفرع العدل جازم فوجهان:
أحدهما: وحكاه ابن كج عن بعض الأصحاب: لا يقبل، لأن راوي الأصل كشاهد الأصل، ثم شاهد الأصل إذا أنكر شهادة شاهد الفرع لم تقبل شهادته كذلك هنا، وأصحهما: القبول، لجواز أنه رواه ثم نسيه، وقد (138ب) وقع ذلك لكثير من الأئمة وصنف فيه الدارقطني والخطيب ويفارق الشهادة فإنها لها مزيد
احتياط ويجتمع من الصورتين ثلاثة أوجه، ثالثها: يقبل فيما إذا تردد دون ما إذا جحد، قال القاضي: وهو مذهب الدهماء من العلماء والفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنفية وحكي غيره عن أكثر الحنفية الرد، ولهذا ردوا خبر الولي في النكاح، لأن راويه الزهري قال: لا أذكره، وقوله: والفرع جازم أي: بالرواية عنه، وهو يخرج صورتين:
إحداهما: أن يكون ظانا بأن يقول الخبر: إني سمعته منك، وهو الأغلب على ظني، قال الهندي: فإن كان الأصل شاكا بأن قال: أشك، أو لا أذكر فالأشبه أنه من جملة صور الخلاف وإن كان هو أيضا ظانا بأن قال: أظن أني ما حدثتك، فالأشبه أنه من صور الوفاق على عدم القبول، والضابط أنه مهما كان قول الأصل معادلا لقول الفرع، فإنه من جملة صور الاتفاق، ومهما كان قول الفرع راجحا على قول الأصل فإنه من جملة صور الخلاف.
الثانية: أن يكون شاكا، فلا تقبل روايته قطعا، وإن كان الشيخ مصدقا له،
لفقد شرط الرواية، فإن من شرطها جزم الراوي أو ظنه.
(ص) وزيادة العدل مقبولة إن لم يعلم اتحاد المجلس، وإلا فثالثها: الوقف، ورابعها: إن كان غيره لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة لم يقبل، والمختار وفاقا للسمعاني: المنع، إن كان غيره لا يغفل، أو كانت تتوفر الدواعي على نقلها.
(ش) دخل في قوله: إن لم يعلم اتحاد المجلس، صورتان: إحداهما: أن يعلم تعدده وزعم الأبياري وابن الحاجب والهندي، وغيرهم: أنه لا خلاف فيه وليس كذلك وقد أجرى فيها ابن السمعاني التفصيل الذي سيحكيه المصنف عنه، فيما إذا اتحد المجلس ووجه القبول: أنه لا يمتنع أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الأخرى بها.
والثانية: أن لا يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد، وبهذا صرح الآمدي قال: وحكمه حكم المتحد، وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد، وألحقها الأبياري بالتي قبلها حتى يقبل بلا خلاف وقال الهندي: ينبغي أن يكون فيها خلاف
مرتب على الخلاف في الاتحاد، وأولى بالقبول، لأن المقتضى لصدقه حاصل والمعارض له غير محقق وقوله: وإلا، أي: وإن علم اتحاد المجلس، فأقوال: الجمهور على القبول مطلقا، لأنه لو انفرد بنقل الحديث عن الجمهور لقبل، فكذا الزيادة وعن الحنفية: المنع مطلقا، وحمل الأمر في الزيادة على الغلط، وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل المدينة. والثالث: الوقف للتعارض، فإن من يثبت الزيادة يعارض من ينفيها والرابع: إن كان غيره لا يغفل مثله عن مثلها عادة لم تقبل، وإلا قبلت وهو قول الآمدي وابن الحاجب، والخامس: قول السمعاني واختاره المصنف لا يقبل إن كان غيره لا يغفل، أو كانت تتوفر الدواعي على نقلها وإلا قبلت والذي رأيته في
(القواطع) بعد أن صحح القبول، قال: واعلم أن على موجب هذه الدلالة ينبغي أن يقال: إن الذين تركوا رواية الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا عن تلك الزيادة، وكان المجلس واحدا، أن لا تقبل رواية راوي الزيادة، ثم قال في الحجاج مع الخصوم: قد بينا أن الذي ترك (139أ) الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم الغفلة ينبغي أن لا تقبل رواية هذا الواحد، قلت: وينبغي أن تقول الجماعة أنهم لم يسمعوه، فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أنهم رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم. انتهى.
(ص) فإن كان الساكت أضبط أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل تعارضا.
(ش) الخلاف السابق فيما إذا اتحد المجلس ونقل بعضهم الزيادة، ونقله آخرون بدونها، ولم يصرحوا بنفيها لفظا ولا معنى، واستوى الكل في الضبط وإن كان الساكت عن الزيادة أضبط، من راويها، أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل -تعارضا، وهذا مختار الإمام، فإنه قال: يقبل إلا أن يكون الممسك من الزيادة أحفظ وأن لا يصرح بنفيها، فإن صرح وقع التعارض وقال الأبياري: إذا اتحد المجلس وأثبت قوم ونفى آخرون، قال قائلون: هو تعارض فينظر إلى أعدل البينتين، وقال
آخرون: الإثبات مقدم قال: وهذا هو الظاهر عندنا فإنه إذا لم يكن به من تطرق الوهم إلى أحدهما، لاستحالة صدقهما، وامتنع الحمل على تعمد الكذب، لم يبق إلا الذهول والنسيان والعادة ترشد إلى نسيان ما جرى أقرب من تخيل ما لم يجر، وحينئذ فالمثبت أولى. وقوله: على وجه يقبل قيد زاده على المحصول، ولعله تصيده من مثاله، فإنه قال: لو صرح المتمسك بنفي الزيادة، وقال: إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله: ((فيما سقت السماء العشر)) فلم يأت بعده بكلام آخر مع انتظاري له، فههنا تعارض القولان ويصار إلى الترجيح، وقال أبو الحسين في (المعتمد): إن قال: إن نفي علمه بالزيادة أو قال: ما سمعتها، ولم يقطعه قاطع عن سماعها - فإنه يكون ناقلا للنفي، ولارتفاع الموانع، كما نقل الآخر الزيادة فتتعارض الروايتان، وإن قال: لم تكن هذه الزيادة فإنه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد، ويحتمل أن يقال: رواية المثبت أولى، لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نفى الزيادة بحسب ظنه، ويحتمل أن يقال: يرجع إلى رواية النافي إذا كان أضبط.
(ص) ولو رواها مرة وترك أخرى فكراوبين=.
(ش) هذا كله إذا كان المتفرد بالزيادة واحد والساكت عنها غيره، فأما إذا اختلفت رواية الواحد في ذلك، بأن روى الزيادة مرة، ولم يروها أخرى، فإن أسندهما إلى مجلس غير مجلس الناقص قبلت، وإن أسندهما إلى مجلس واحد فيجيء الخلاف السابق، وهو في هذه العبارة متابع لابن الحاجب، وقال في (المحصول): إن اتحد المجلس بالزيادة، ولم يغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك، أو بالعكس أو
يتساويان فلا يقبل في الأول، ويقبل في الثاني والثالث.
(ص) ولو غيرت إعراب الباقي تعارضا، خلافا للبصري.
(ش) هذا كله فيما إذا لم تغير الزيادة إعراب الباقي، فأما إذا غيرت كما إذا روى أحدهما: في أربعين شاة شاة، وروى الآخر: نصف شاة، فرواية شاة تكون بالرفع ورواية النصف تكون بالجر، والرفع والجر ضدان فالأكثرون كما قاله الهندي على أنه لا يقبل للتعارض لأن كل واحد منهما يروي ضد ما رواه الآخر، فيكون نافيا له، فيحصل التعارض فلا يقبل إلا بعد الترجيح، والفرق بينه وبين ما إذا لم تغير إعراب الباقي، لأن مع أحدهما زيادة علم، ليس الآخر نافيا له، وقال أبو عبد الله (139ب) البصري: يقبلان، كما إذا لم تغير إعراب الباقي لأن الموجب إنما هو زيادة العلم بذلك الزائد الذي لم ينفه الساكت عنه واختلاف إعراب تابع للاختلاف في ذلك الزائد، فلا يكون مانعا من القبول.
(ص) ولو انفرد واحد عن واحد قبل عند الأكثر.
(ش) أي: لقيام الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد، وشرط الجبائي العدد في كل خبر ونقل القرافي عن كتاب المحصول (لابن العربي): أن الجبائي اشترط في
قبول الخبر اثنين وشرط على الاثنين اثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التابعي وكذا نقله عن الشيخ في (اللمع) وهذا الذي قاله مردود بقبول الصحابة خبر العدل الواحد لعمل علي بخبر المقداد وتعويلهم على خبر عائشة في التقاء الختانين، وغير ذلك، ولك أن تقول: ما هذه المسألة مع قوله أولا: والجبائي: لا بد من اثنين أو اعتضاد.
(ص) ولو أسند وأرسلوا أو وقف ورفعوا فكالزيادة.
(ش) أي: فالقول قول من أسند ومن رفع على الصحيح، لأن الرفع والإسناد زيادة على من لم يرو ذلك وهذا تفريع على رد المرسل، فأما من يقبله فلا شبهة
عنده في قبوله والمصنف في إلحاقها بالزيادة متابع لصاحب (القواطع) وابن الحاجب إذا هو يقتضي مجيء المذاهب السابقة كلها هنا، ولم يصرح به أكثر النقلة وليس ببعيد، وقد قال بعضهم: الراجح من قول أئمة الحديث: أن الرفع والوقف، والوصل والإرسال يتعارضان، وهذا نظير القول بالوقف هناك، وأهمل المصنف ما إذا أرسل ثم أسند أو وقف ثم رفع وهو في (المنهاج) ورجح القبول.
(ص) وحذف بعض الخبر جائز عند الأكثر إلا أن يتعلق الحكم به.
(ش) يجوز حذف بعض الخبر ورواية الباقي والأكثرون: أنه جائز إذا كان مستقلا، لأنهما كخبرين وقد فرق أئمة الحديث حديث جابر الطويل في حج النبي صلى الله عليه وسلم على الأبواب. وأما إذا تعلق بالمذكور تعلقا بغير المعنى، كما في (الغاية) نحو: لا تباع الثمرة حتى تزهو
والاستثناء نحو: لا يباع البر بالبر إلا سواء سواء، لم يجز حذفه، لاختلاف المقصود وسواء كان التعلق لفظيا كما ذكرنا، أو معنويا كما في بيان التخصيص والنسخ وبيان المجمل بالجمل المتصلة، واعلم أن إمام الحرمين وابن القشيري حكيا ثلاثة أقوال: أحدها: يجوز.
والثاني: لا يجوز.
والثالث: هذا التفصيل. وقال: إنه المرضي عند القاضي وقضيته: أن الأول يجوز مطلقا، ولو مع التعلق وفيه بعد. وقال الهندي والأبياري في المتعلق: لا خلاف في عدم جوازه، وقسم الأبياري غير المتعلق إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقطع بذلك، فلا يبعد طرد قول المنع هنا، حسما للذريعة وحذرا من الإفضاء إلى موضع الإشكال.
ثانيها: أن يظن فلا يجوز الحذف بحال.
ثالثها: أن يعلم ذلك بنوع من النظر، فعلى الخلاف في جواز الرواية بالمعنى للعارف.
(ص) وإذا حمل الصحابي - قيل: أو التابعي - مرويه على أحد محمليه المتنافيين فالظاهر حمله عليه، وتوقف أبو إسحاق الشيرازي، وإن لم يتنافيا فكالمشترك في حمله على معنييه.
(ش) إذا روى الصحابي خبرا محتملا، وحمله على أحد محمليه، فإن تنافيا
كالقرء فحمله الراوي على الأطهار، فالظاهر حمله عليه لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة معينة، وتوقف الشيخ أبو إسحاق كذا حكاه عنه في هذه (140أ) الحالة، وعبارة الشيخ في (اللمع): وإذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا، فصرفه إلى أحدهما، كما روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه حمل قوله عليه الصلاة والسلام:((الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء)) على القبض في المجلس فقد قيل: إنه يقبل، لأنه أعرف بمعنى الخطاب، وفيه نظر عندي. انتهى. وإن لم يتنافيا وقلنا: اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام - فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي، وإن قلنا: لا يحمل على جميعها ففي (البديع): أن المعروف حمله على ما عينه، لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة. قال: ولا يبعد أن يقال: لا يكون تأويله حجة على غيره، ثم قال: فإن اجتهد فلاح له تأويله، يعني: إن اجتهد المجتهد، ولاح
له تأويل غير ذلك وجب، وإلا فتعيين الراوي الصالح للترجيح، انتهى. وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه، في باب بيع الثمار: مذهب الشافعي رضي الله عنه، أن الراوي إذا روى حديثا له احتمالان وفسره بأحد محمليه، وجب قبوله، كتفسير ابن عمر التفرق بالأبدان، دون الأقوال، وينبغي تقييد كلام المصنف في الحمل على جميعها بما إذا لم يجمعوا على أن المراد أحدهما، وجوزوا كلا منهما، وقد ذكر الماوردي في (الحاوي) حديث ابن عمر في التفرق في خيار المجلس، هل هو التفرق بالأبدان أو بالأقوال؟ قال: وأجمعوا على أن المراد أحدهما، فكان ما صار إليه الراوي أولى، وقال أبو علي بن أبي هريرة: أحمله عليهما معا، فأجعله لهما في الحالين الخيار بالخبر.
قال الماوردي: وهذا صحيح لولا أن الإجماع منعقد على أن المراد أحدهما، والخلاف كما قاله الهندي فيما إذا ذكر ذلك لا بطريق التفسير للفظه، وإلا فتفسيره أولى بلا خلاف، واعلم أن الجمهور قد فرضوا المسألة في الراوي الصحابي، ومنهم من قال: يجري في الراوي مطلقا، وإن كان تابعيا، وقد بينا ما فيه في باب التخصيص والمصنف هناك سوى بينهما، بخلاف ما يقتضيه كلامه هنا ولا بد من التقييد بكونه من الأئمة.
(ص) فإن حمله على غيره ظاهره، فالأكثر على ظهوره، وقيل: على تأويله مطلقا، وقيل: إن صار إليه لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
(ش) هل يجوز ترك شيء من الظواهر بقول الراوي، مثل أن يحتمل الخبر أمرين، وهو في أحدهما أظهر، فيصرفه الراوي إلى الآخر، كصرف اللفظ عن حقيقته
إلى مجازه، أو من الوجوب إلى الندب؟ فيه ثلاثة مذاهب.
أصحها: الحمل على الظاهر قال الآمدي: وفيه قال الشافعي رضي الله عنه، كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحججتهم؟
والثاني: يحمل على ما عينه مطلقا، لأنه لا يفعله إلا عن توقيف، وبه قال أكثر الحنفية.
والثالث: وبه قال أبو الحسين: يحمل على تأويله إن صار إليه، لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم من مشاهدته قرائن تقتضي ذلك، وإن جهل وجوز أن يكون لظهور نص أو قياس أو غيرهما - وجب النظر في الدليل، فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب وإلا فلا واختار في (الإحكام): إن علم مأخذ خلافه وإنه مما يوجبه صبر إليه، اتباعا للدليل وإن جهل عمل بالظاهر، لأن الأصل في خبر العدل وجوب العمل ومخالفة الراوي للظاهر يحتمل النسيان.
تنبيه: سبق في باب التخصيص أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي على الأصح، ولا شك أن صرف العام إلى الخصوص من خلاف الظاهر، فتكرار
المصنف لهذه (140ب) من باب ذكر العام بعد الخاص.
(ص) مسألة: لا يقبل مجنون وكافر.
(ش) أي: بالإجماع، ولأن قبول الراوي منصب شريف، والكافر ليس أهلا لذلك، وسواء علم من دينه التحرز عن الكذب أم لا، والمراد بالجنون: المطبق، أما المتقطع فإن أثر جنونه في زمن إفاقته لم يقبل، وإلا قبل، قاله ابن السمعاني في (القواطع) بل حكاها الشيخ أبو زيد المروزي قولين للشافعي رضي الله عنه.
(ص) وكذا صبي في الأصح.
(ش) الخلاف ثابت عندنا واستبعد القرافي القول بجواز روايته وقال: إنه منكر من حيث النظر والقواعد، بخلاف التحمل وجوابه: أن المأخذ أمارة قوة الظن، وقد يحصل برواية الصبي، وهو يرد دعوى القاضي الإجماع، على عدم قبوله، ثم لا بد من
تقييد الخلاف بأمرين:
أحدهما: لمن لم يجوز عليه الكذب، وإلا فلا يقبل بلا خلاف.
وثانيهما: أن يكون المخبر به رواية محضة، فلو أخبر برؤية الهلال، وجعلناه رواية لا شهادة، لم يقبل جزما، ولم يخرجه الجمهور على الوجهين لما ذكرنا.
(ص) فإن تحمل فبلغ فأدى - قبل عند الجمهور.
(ش) للإجماع على قبول رواية ابن عباس، وابن الزبير، وابن بشير رضي الله عنهم وغيرهم، من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده
ولو قال المصنف: فبلغ وأسلم فأدى، لكان أحسن، ليشمل ما لو تحمل في حال كفره ثم أسلم وأدى، والحكم سواء على الصحيح، وكذا إذا تحمل فاسقا وروى عدلا، وأهل الحديث يجوزون رواية ما سمعه الصبي الصغير، وإن لم يعلم عند التحمل ما سمع، وأكثرهم على أنه لا يجوز سماع من له دون خمس سنين، وأما الفقهاء فلا يرون ذلك، بل لا بد من تمييز الصبي عند التحمل. ولا بد من ضبط ما سمعه وحفظه حتى يؤديه كما سمعه والاعتبار بضبط اللفظ، وإن لم يعرف المعنى، ومنهم من اشترط المعنى وهم الأقل وهذا حجر يتعذر مع العمل به رواية الحديث إلا على الآحاد قاله ابن الأثير في شرح المسند.
(ص) ويقبل مبتدع يحرم الكذب وثالثها قال مالك: إلا الداعية.
(ش) المبتدع إما أن يكفر ببدعته أو لا.
فالأول: إن علم من مذهبه جواز الكذب لنصرة مذهبه أو غيره - لم تقبل روايته ببدعته اتفاقا، وإن علم منه تحريمه وتحرزه منه، فقولان: الأكثرون على أنه لا يقبل أيضا، وقال أبو الحسين: يقبل، واختاره في (المحصول) و (المنهاج) لأن ذلك يمنعه من الإقدام عليه.
والثاني: إن كان مما يرى الكذب - فلا يقبل اتفاقا وإلا فأقوال:
أحدهما: يقبل مطلقا سواء كان داعية لمذهبه أو لا وعزاه الأصوليون للشافعي
رضي الله عنه لأجل قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية.
والثاني: لا يقبله مطلقا وعليه الأكثرون لأنه فاسق وإن كان متأولا.
والثالث: قول مالك: لا يقبل الداعية، أي: الذي يدعو الناس إلى بدعته، فإنه لا يؤمن أن يصنع الحديث على وفق بدعته، ويقبل إن لم يدعهم حكاه عنه القاضي عبد الوهاب، وقال الخطيب: أنه مذهب أحمد وعزاه ابن الصلاح
للأكثرين وقال: إنه أعدل المذاهب وأولاها.
(ص) ومن ليس فقيها، خلافا للحنفية فيما يخالف القياس.
(ش) هذا إنما هو قول بعض الحنفية، ولهذا لم يحكه صاحب (البديع) منهم إلا عن فخر الإسلام بعبارة غير متبعة، فقال: الخبر مقدم على القياس عند الأكثر وقيل: بالعكس. وعيسى بن أبان: إن كان الراوي (141أ) ضابطا غير متساهل قدم، وإلا فموضع اجتهاد. وفخر الإسلام: وإن كان الراوي من المجتهدين كالخلفاء الراشدين، والعبادلة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، قدم، لأنه يقيني في الأصل والقياس ظني أو من الرواة كأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهما فالأصل العمل ما لم توجب الضرورة تركه، كحديث المصراة، فإنه معارض بالإجماع في ضمان العدوان بالمثل أو القيمة دون الثمن. انتهى. والشيخ
أبو إسحاق في (اللمع) لم يحكه عن الحنفية، إلا فيما خالف قياس الأصول لا مطلق القياس كما سبق، ولا يخفى ما في هذه المسألة من التكرار، عند قول المصنف فيما سبق، أو عارض القياس.
(ص) والمتساهل في غير الحديث، وقيل: يرد مطلقا.
(ش) إذا كان الراوي يتساهل في أحاديث الناس، ويتحرز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل على الصحيح لأنه يحصل ظن صدقه ولا معارض له، وقيل: يرد مطلقا، ونص عليه أحمد، وأنكر على من قبل روايته إنكارا شديدا، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني وغيره، واحترز بقوله: في غير الحديث، عن المتساهل في الحديث، فلا خلاف أنه لا يقبل، قاله في (المحصول) وغيره.
(ص) والمكثر وإن ندرت مخالطته المحدثين إذا أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان.
(ش) ليس من شرط الراوي أن يكون مكثرا لسماع الحديث وروايته ومشهورا بمخالطة المحدثين ومجالستهم وقد قبلت الصحابة حديث أعرابي لم يرو غير حديث وهذه من مسائل (المحصول) قال: تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث، فإن أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان - قبلت أخباره، وإلا توجه الطعن في الكل.
(ص) وشرط الراوي العدالة، وهي ملكة تمنع من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة، وهوى النفس والرذائل المباحة كالبول في الطريق.
(ش) العدالة لغة: التوسط والاستقامة وشرعا: ما ذكره المصنف. والضابط:
أن كل ما لا تؤمن معه الجراءة على الكذب، يرد به الراوية، وما لا فلا وإنما عبر بالملكة (وكالمنهاج) دون الهيئة، (كالبديع) لأن الصفة النفسانية، وإن كانت راسخة (يقال لها: الملكة، وإن لم تكن راسخة) يقال لها: الحالة، فالكيفية النفسانية أول حدوثها حال، ثم تصير ملكة، فقال: ملكة، لينبه على رسوخها ولهذا قال محمد بن يحيى في تعليقه: العدل: من اعتاد العمل بواجب الدين واتبع إشارة العقل فيه برهة من الدهر، حتى صار ذلك عادة وديدناً له والعادة طبيعة خاصة فيغلب دينه بحكم التمرين، والترسخ في النفس، فيوثق بقوله، بخلاف الفاسق فإنه الذي يتبع نفسه هواها زمانا طويلا، حتى ألف ارتكاب المحظورات وضري باقتضاء الشهوات فضعف وازع الدين بسببه، فلا يوثق بقوله.
وإذا لم يقبل قول العدل لمعارضة الأبوة أو العداوة فكيف يقبل الفاسق مع قيام الفسق والمراد بالكبائر جنسها، وإلا فتعاطي الكبيرة الواحدة يقدح، ولم يحتج أن يقول: والإصرار على الصغيرة، لأنها بالإصرار تصير كبيرة، فلو ذكرها لكرر من غير فائدة وقوله: وصغائر الخسة، أي: وما يخل بالمروءة من الصغائر كسرقة لقمة وتطفيف حبة قصدا (141ب) وكون هذا صغيرة استثنى الحليمي منه ما إذا كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذ منه، فيكون كبيرة وعلم من قوله: صغائر
الخسة: أن القادح ببعض الصغائر لا كلها، فإن من الصغائر ما لا يكون منه إلا مجرد المعصية كالكذبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظر للأجنبية (إنما المؤثر ما يقدح في المروءة، أو يدل على استهزاء بالدين، وقوله: وهوى النفس، أي: وتمنعه) عن هوى النفس وهذا القيد من تفقه والده، فإنه قال: لا بد عندي في العدالة من وصف لم يتعرضوا له، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه فإن المتقي الكبائر والصغائر الملازم للطاعة والمروءة - قد يستمر على ذلك، ما دام سالما من الهوى، فإذا غلبه هواه خرج عن الاعتدال، وانحل عصام التقوى، وانتفاء هذا الوصف، هو المقصود من العدل، قال الله تعالى:{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} وقوله: والرذائل المباحة أي: لا بد من تجنب ذلك، كالبول في الشارع، والأكل في الطريق، وصحبة الأراذل ونحوه مما يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس قال الغزالي: إلا أن يكون ممن يقصد كسر النفس وإلزامها التواضع، كما يفعله كثير من العباد.
(ص) فلا يقبل المجهول باطنا، وهو المستور، خلافا لأبي حنيفة، وابن فورك وسليم، وقال إمام الحرمين: يوقف ويجب الانكفاف إذا روى التحريم إلى الظهور.
(ش) إذا ثبت أن العدالة شرط فلا بد من تحقيقها، فلهذا لا يقبل المجهول، بل
لا بد من البحث عن سيرته باطنا وقال أبو حنيفة: يقبل، اكتفاء بالإسلام وعدم ظهور الفسق، ووافقه منا ابن فورك كما نقله المازري في شرح (البرهان) وسليم، كما رأيته في كتاب (التقريب في أصول الفقه) وعزاه قوم إلى الشافعي رضي الله عنه، وهو غلط توهموه من قوله: ينعقد النكاح بشهادة المستورين، وذكر صاحب (البديع) وغيره من الحنفية: أن أبا حنفية إنما قبل ذلك في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التزكية.
لغلبة الفسق وقال إمام الحرمين: يوقف إلى استبانة حاله فلو كنا على اعتقاد في حل شيء فروى لنا مستور تحريمه وجب الانكفاف إلى استتمام البحث عن حاله، قال: وهذا إذا أمكن البحث عنه، فلو فرض اليأس من ذلك فهذه مسألة اجتهادية والظاهر أنه لا يجب الانكفاف وانقلبت الإباحة كراهة.
(ص) أما المجهول باطنا وظاهرا فمردود إجماعا.
(ش) لأن من لا يعرف عينه، كيف تعرف عدالته، وهي شرط في قبول الرواية وفي هذا الإجماع نظر، فإن ابن الصلاح قد حكى الخلاف فيه.
(ص) وكذا مجهول العين.
(ش) قال المحدثون: مجهول العين أن تسمي اسما لا يعرف من هو، مثل: عمرو بن ذي مر، وجيار الطائي وسعيد بن جدان لا يعرف من هؤلاء
قال الخطيب: ولم يرو عنهم غير أبي إسحاق السبيعي قال المصنف: لا نعرف خلافا في رد روايته، وهو ظاهر عطفه هنا، وليس كذلك، بل قيل فيه بالقبول وهو من لم يشترط في الراوي مزيدا على الإسلام وقيل: إن كان الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد قبل، وإلا فلا.
(ص) فإن وصفه نحو الشافعي بالثقة، فالوجه قبوله، وعليه إمام الحرمين خلافا للصيرفي والخطيب.
(ش) والضمير في (وصفه) عائد إلى أقرب مذكور، وهو مجهول العين، لا
مطلق المجهول ومراده به نحو: حدثني رجل أو إنسان، ووصفه الراوي عنه بالثقة أو قال أخبرني الثقة (142أ) كما يقع للشافعي رضي الله عنه، كثيرا فلا يخلو هذا القائل إما أن يكون من أئمة الشأن العارفين لما يشترطه هو وخصومه، في العدل وقد ذكره في مقام الاحتجاج أولا، فإن لم يكن - فلا يقبل وإن كان وذلك كالشافعي رضي الله عنه، يقوله في معرض الاحتجاج على خصمه، فالوجه: قبوله، وبه قطع إمام الحرمين وخالف فيه الصيرفي والخطيب وطوائف، فقالوا: يجوز أن يكون الخصم اطلع فيه على جارح لم يطلع عليه العدل، فلا يكتفى بقوله: هو ثقة والجواب أن مثل الشافعي رضي الله عنه، لا يطلق ذلك إلا حيث يأمن الاحتمال. فائدة: عاب بعض المتعنتين على الإمام الشافعي رضي الله عنه، إيهام الشيخ من وجهين:
أحدهما: أنه يشعر بسوء الحفظ، والثاني: أنه ضرب من الإرسال، والمراسيل ليست بحجة عنده، وأجيب عن الأول بأن الحافظ الماهر قد تعتريه ريبة، فيتورع ولا يجزم احتياطا وقد فعل مثله الأئمة، فروى مالك في (الموطأ) في كتاب الزكاة عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن الثاني: بأنه لم يبهم ذكر الراوي إلا في
حديث معروف عند أهل الحديث، براو معلوم الاسم والعدالة، فلا يضره تركه تسمية الشيخ. قال الرافعي في شرح المسند: ولك أن تقول: المحتاج إلى الوضوء إذا قاله له من يعرفه بالعدالة: هذا الماء نجس، بسبب كذا - يلزمه قبول قوله، وترك ذلك الماء ولو قال وهو أهل للتعديل: أخبرني عدل أن هذا الماء نجس، بسبب كذا، ولم يسم ذلك العدل، فيشبه أن يكون الحكم كذلك، وإذا جاز الاعتماد على قوله: العدل في الإخبار عن عدل غير مسمى هناك، فكذلك هنا، ويؤيده أن الحديث الذي يروى عن رجل من الصحابة يحتج به، ولا يعد من المراسيل، وإن لم يكن الصحابي مسمى، وذلك للعلم بعدالتهم جميعا.
(ص): وإن قال: لا اتهمه، فكذلك: وقال الذهبي: ليس توثيقا.
(ش) هذه درجة دون قوله: أخبرني الثقة ويقع أيضا في عبارة الشافعي رضي الله عنه، كقوله: أخبرني من لا أتهمه فعند المصنف: أنه يقبل من مثل الشافعي رضي الله عنه ومعنى قوله: فكذلك، أي في أصل القبول، وإلا فالدرجة متفاوتة قال: ورأيت بخط شيخنا الذهبي: ليس قوله حدثني من لا أتهمه توثيقا بل نفي للتهمة، ولم يتعرض لإتقانه ولا لأنه حجة. انتهى. قال: وهو صحيح غير أن هذا إذا وقع من الشافعي رضي الله عنه، محتجا به على مسألة في دين الله - فهي والتوثيق سواء في
أصل الحجة وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي، فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي رضي الله عنه، أما من ليس مثله، فالأمر على ما وصفه شيخنا رحمه الله تعالى انتهى.
والعجب من اقتصاره على نقله عن الذهبي مع أن ذلك قاله طوائف من فحول أصحابنا وقد رأيت في كتاب (الدلائل والإعلام) لأبي بكر الصيرفي: إذا قال المحدث: حدثني الثقة عندي أو حدثني من لم أتهمه - لا يكن حجة، لأن الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي فاحتاج إلى علمه. انتهى. وقال الماوردي والروياني في القضاء إذا قال: أخبرني الثقة أو من لا أتهم - فليس بحجة، لأنه قد يثق به، ويكون مجروحا عند غيره.
(ص) ويقبل من أقدم جاهلا على مفسق مظنون أو مقطوع في الأصح.
(ش) المراد بالمفسق المظنون: أن يقدم على أمر يعتقد أنه على صواب لمستند قام عنده ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع به، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت بفسقه (142ب) فليس من هذا القبيل بل ترد روايته والمراد بالمقطوع: أن يقطع ببطلان مأخذه، فالأول: خالف ظننا، والثاني: خالف قطعنا، وهذا التفصيل نقلوه عن الشافعي رضي الله عنه، أما في المظنون، فلقوله: إذا شرب الحنفي النبيذ من غير سكر - قبل شهادته واحدة لأنه لم يقدم عليه جرأة، ودليل تحريمه ليس قطعيا، حتى لا يعتبر ظنه معه - فتقبل روايته، وأما في المقطوع فلقوله: أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية، ووجهه فيهما: أن المقتضي لقبول روايته قائم، وهو ظن صدقه، لأنه يرى الكذب قبيحا كغيره، والعارض المتفق عليه منتف، وهو الفسق الذي لا تؤمن معه الجرأة، على الكذب، والأصل عدم غيره، فوجب أن يقبل، عملا بالمقتضي ولا بد أن يستثنى على هذا القول من المقطوع بفسقه - من يرى الكذب والتدين به، فلا يقبل بلا خلاف، وإليه أشار الشافعي رضي الله عنه، بقوله: إلا الخطابية فلا وجه لطرح المصنف له، والثاني: لا يقبل، لأنه فاسق فاندرج تحت الأدلة المانعة من قبول قول الفاسق، والثالث: الفرق بين المقطوع والمظنون، لأن ظن
الصدق يضعف في المقطوع دون المظنون وههنا أمران: أحدهما: اقتضى كلامه حكاية قول في عدم قبول المظنون، وحكى في (المحصول) الاتفاق فيه على القبول قال الهندي: والأظهر ثبوت الخلاف فيه، كما في الشهادة، فإن فيها وجها، أنها ترد به، وذلك جار في الرواية أيضا، إذ لا فرق بينهما فيما يتعلق بالعدالة.
الثاني: قوله جاهلا، ليس مطابقا لوضع المسألة لأنها مفروضة فيمن يقدم عليه معتقدا جوازه بتأويل، وأما الجاهل بكونه فسقا فلم يتكلم فيه الأصوليون والذي أوقع المصنف في ذلك عبارة (المنهاج) والحاصل أن الصور ثلاثة:
أحدها: أن يعتقد كونه فسقا ويقدم عليه عالما به، فروايته مردودة بالإجماع، كما قاله في (المحصول): لا يؤمن معه الإقدام على الكذب، وكأن المصنف عبر بالجهل ليحترز عنها.
والثانية: أن يستحله بتأويل، كشبهة أو تقليد وهي مسألتنا وهي التي تكلم فيها الشافعي رضي الله عنه، والقاضي.
والثالثة: أن يقدم جاهلا بكونه فسقا فهذا لم يتعرض له الأصوليون وهو من وظيفة الفقهاء وفيه تفصيل لهم، وقد قال الماوردي: أما ما اختلف في إباحته كشرب النبيذ والنكاح بلا ولي - إن فعله معتقد التحريم، كان كبيرة، وإن لم يعتقد تحريمه ولا إباحته مع علمه بالخلاف فيه وجهان: قال البصريون: هو فاسق مردود الشهادة لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون بالدين وقال البغداديون: لا يفسق، لأن اعتقاده الإباحة أغلظ من التعاطي ولا يفسق معتقد الإباحة، وحكى المصنف في شرحه (للمنهاج) الوجهين وأسقط منهما قوله مع علمه بالخلاف فيه، فأشكل الأمر عليه وقال: لا بد من فرضهما في جاهل بالقاعدة المشهورة، وهي أن المكلف لا يجوز
له أن يقدم على فعل شيء حتى يعرف حكم الله تعالى فيه، وحكى الشافعي رضي الله عنه فيه الإجماع، ثم إنهما لا يتجهان إلا تخريجا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع والماوردي كثيرا ما يخرج على ذلك وقد يكون ظانا الحل فتقبل روايته.
(ص): وقد اضطرب في الكبيرة، فقيل: ما توعد عليه بخصوصه وقيل: ما فيه حد، (وقيل: ما نص الكتاب على تحريمه وأوجب في جنسه حد) والأستاذ والشيخ الإمام: كل ذنب، ونفيا الصغائر (143أ) والمختار - وفاقا لإمام الحرمين - كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين.
(ش): في حد الكبيرة أوجه: أحدها: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة.
والثاني: المعصية الموجبة للحد قال الرافعي: وهم إلى ترجيح هذا أميل والأول ما يوجد لأكثرهم وهو الأوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر.
والثالث: هو قول الأستاذ والقاضي أبي بكر والإمام ابن القشيري: كل ذنب، بناء على أنه لا صغيرة في الذنوب، ونقله ابن فورك عن الأشعرية، واختاره نظرا إلى من عصى بها، قال القرافي: وكأنهم كرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة إجلالا له عز وجل، مع أنهم وافقوا في الجرح أنه لا يكون بمطلق المعصية وإن من الذنوب ما يكون قادحا في
العدالة ومنها لا يكون قادحا، هذا مجمع عليه، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق والصحيح التغاير، لقوله تعالى:{وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} فجعلها رتبا، وسمى بعض المعاصي فسقا دون البعض، وفي الصحيح:((الكبائر سبع)) وخص الكبائر ببعض الذنوب، ولأن ما عظمت مفسدته أحق باسم الكبيرة.
والرابع: قول إمام الحرمين في (الإرشاد) واختاره المصنف: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة قال الإمام: وكل جريمة لا تؤذن بذلك، بل يبقى حسن الظن بصاحبها فهي التي لا تحبط العدالة، قال: وهذا أحسن ما يميز أحد الضدين على الآخر، وذكر في (النهاية) ما حاصله
أن الصادر إن دل على الاستهانة، لا استهانة بالدين بل استهانة غلبة التقوى وتمرين غلبة رجاء العفو - فهو كبيرة، وإن صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر فصغيرة.
والتحقيق أن التعاريف السابقة اقتصار على بعض الكبائر، والضبط أن يقال: كل ذنب قرن به وعيد، أو حد، أو لعن، أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا - مع الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه يستحق دمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان، فإذا هي زوجته أو أمته، ولهذا حكى الروياني وجها بوجوب الحد وطرده في القتل وعن سفيان الثوري: أن ما تعلق بحق الله تعالى فصغيرة أو بحق آدمي فكبيرة، وقال الواحدي: الصحيح أنه ليس للكبائر حد، يعرفه العباد ويتميز به عن الصغائر
تمييز إشارة ولو عرف ذلك، لكان الصغائر مباحة ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد فيجتهد كل أحد في اجتناب ما نهي عنه، رجاء أن يكون مجتنبا للكبائر ونظير هذا إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في رمضان.
(ص)(ورقة الديانة) كالقتل.
(ش) أي: العمد بغير حق، وشبهة العمد دون الخطأ كما قاله شريح الروياني، وجعله الحليمي مراتب وقال: إن قتل أبا أو ذا رحم في الجملة أو أجنبيا محرما بالحرم أو بالشهر الحرام - فهو فاحشة فوق الكبيرة، فإن قلت: كيف لم يبدأ بالشرك وهو أعظمها، ففي الصحيح:(سئل أي الذنب أعظم؟) قال: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك))، قال:(ثم أي؟) قال: ((أن تقتل ولدك)) الحديث؟ قلت: لأن كلامه في قادح العدالة بعد ثبوت صفة الإسلام.
(ص) والزنا واللواط.
(ش) أما الزنا ففي الصحيح عده كبيرة وألحق به اللواط، لاشتراكهما في وجوب الحد، واللواط أفحش وأقبح (143ب) وقد أخبر الله تعالى أنه أهلك قوم لوط به، وقال صلى الله عليه وسلم:((إذا زنا العبد خرج منه الإيمان وكان كالظلة فإذا أقلع منه رجع إليه الإيمان)) قال الذهبي: على شرط، الشيخين ويلتحق به وطء الزوجة والأمة في الموضع المكروه.
(ص) وشرب الخمر ومطلق المسكر.
(ش) شرب الخمر وإن لم يسكر، وثبت عن ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر
مشى الصحابة بعضهم إلى بعض وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. وإنما قال: ومطلق المسكر، أي: من غيرها، لأن الخمر اسم للعنب خاصة، وفي مسلم مرفوعا:((أن على الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) وهو عرق أهل النار ويلتحق به كل ما يزيل العقل لغير ضرورة، وما قاله المصنف هو المشهور. وقال شريح الروياني: من اعتقد مذهب الشافعي: إذا شرب النبيذ فهل يكون كبيرة؟ فيه وجهان، وسبق عن الماوردي وزعم الحليمي أن من مزج خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فذاك من الصغائر، واستغربه المصنف في (الطبقات) وليس بغريب بل هو جار على المذهب، لأن المنع حينئذ للنجاسة لا للإسكار.
(ص) والسرقة والغصب.
(ش) للتوعد والحد في السرقة والتوعد في الغصب، لقوله:((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين لعن الله من غير منار الأرض أو سرق منار الأرض)) رواه مسلم وقيد العبادي وشريح الروياني وغيرهما الغصب بما يبلغ قيمته ربع دينار، وكأنهم قاسوه على السرقة، قال الحليمي: وأما سرقة الشيء التافه فهو صغيرة إلا إذا كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذه فيكون كبيرة. قلت
لا من جهة السرقة، بل من جهة إيذائه ويأتي مثل ذلك في الغصب.
(ص) والقذف.
(ش) لقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات} وفي الصحيح عده من السبع الموبقات، أما قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكافر، لتكذيبه القرآن وقد يباح القذف لمصلحة كما إذا علم الزوج أن الولد ليس منه ويجرح الشاهد والراوي بالزنا، بل يجب قال ابن عبد السلام: والظاهر أن من قذف محصنا في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة - أن ذلك ليس بكبيرة موجبة للحد، لانتفاء المفسدة، وما قاله قد يظهر فيما إذا كان صادقا دون الكاذب، لجرأته على الله تعالى وقال الحليمي: قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر ومراده بالصغيرة: من لا تحتمل الوقاع، بحيث يقطع بكذب قاذفها، وفي المملوكة نظر، وفي الصحيح:(من قذف عبدا أقيم عليه الحد يوم القيامة).
(ص) والنميمة.
(ش) وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد قال تعالى: {مشاء بنميم} وفي الصحيحين: ((لا يدخل الجنة نمام)) ولا يشكل على
كونها كبيرة، حديث:((وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة)) لأن المراد لا تعده الناس كبيرة، لقوله تعالى:{وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} وقد تجوز إذا اشتملت على مصلحة للمنموم إليه، بل يجب، كما لو قيل له: إن فلانا عزم على قتلك، قال تعالى:{إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} وما حكاه الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين.
تنبيه: سكوت المصنف عن الغيبة يوهم إنها ليست بكبيرة، وهو ما نقله الرافعي عن صاحب (العدة) ولم يخالفه، وهو ضعيف، أو باطل، كيف وقد نقل عن المتأخرين في حد (144أ) الكبيرة ما توعد عليه، والوعيد عليها طافح من الكتاب والسنة، بل نقل القرطبي في تفسيره الإجماع، على أنها كبيرة وظفرت بنص الشافعي رضي الله عنه، في ذلك كما حكيته في (خادم الرافعي) و (الروضة) وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال والأعراض والحرمة، وفي معناها السكوت على الغيبة، فإن السامع شريك المتكلم.
(ص) شهادة الزور.
(ش) ففي الصحيحين أنها من أكبر الكبائر، وفي الحديث الثابت:((لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار)) وقوله: ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله)) وإنما عادلته، لقوله تعالى:{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} ثم قال بعدها: {والذين لا يشهدون الزور} والزور: الكذب والباطل، ومنه قوله:((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) قال الراغب: نبه بذلك على أنه كاذب في قوله وفعله فتضاعف عنه وزره، وعليه حملوا قوله تعالى:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} قال القرافي: ومقتضى العادة أنها لا تكون كبيرة إلا إذا عظمت مفسدتها، لكن الشرع جعلها مفسدة مطلقا، وإن كان لم يتلف بها على المشهود عليه إلا فلسا.
(ص) واليمين الفاجرة.
(ش) ففي الصحيح: ((من اقتطع حق مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار)). قيل: يا رسول الله ولو كان شيئا يسيرا؟ قال: ((ولو كان قضيبا من أراك)) وفي صحيح البخاري في باب استتابة المرتدين: ((الإشراك بالله ثم عقوق الوالدين ثم اليمين الغموس))، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)).
(ص) وقطيعة الرحم.
(ش) لقوله تعالى: {وتقطعوا أرحامكم} وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) والرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب من جهة النساء، والقطيعة: الهجران والصد، فعيلة من القطع وهو ضد الصلة.
(ص) والعقوق.
(ش) ففي الصحيحين: أنها من أكبر الكبائر، وقال عليه السلام:((رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين)) قال الذهبي: إسناده صحيح
وفي الحديث: ((كل الذنوب يؤخر منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه)) وإنما قال المصنف: العقوق، ولم يقيد بالوالدين، لما في الحديث:((الخالة بمنزلة الأم)) وصححه الترمذي، وعلى قياسه العم أب، وفي الصحيح:((عم الرجل صنو أبيه)).
(ص) والفرار.
(ش) أي: من الزحف، وهو من السبع الموبقات، لكنه قد يجب إذا علم أنه يقتل من نكاية في الكفار، لأن التغرير في النفوس إنما جاز لمصلحة إعزاز الدين، وفي الثبوت ضد هذا المعنى.
(ص) ومال اليتيم.
(ش) لقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية. وعده في الصحيحين من السبع الموبقات، وقيل: إنه مجلب لسوء الخاتمة، أعاذنا الله من ذلك! وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فظاهر، وإن وقعا في مال حقير كزبيبة أو تمرة فهذا مشكل، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد كشرب قطرة من الخمر، ويجوز أن
يضبط ذلك المال بنصاب السرقة
قلت: ويؤيد هذا ما سبق في الغصب.
(ص) وخيانة الكيل والوزن.
(ش) لقوله تعالى: {ويل للمطففين} ومطلق الخيانة أيضا من الكبائر قال تعالى: {إن الله لا يحب الخائنين} وفي معني الكيل والوزن: الزرع في المزروعات.
(ص) وتقديم الصلاة وتأخيرها.
(ش) أي: تقديمها على وقتها (144ب) وتأخيرها عنه، بلا عذر من سفر أو مرض، وعليه حملوا حديث الترمذي:((من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من الكبائر)) قال ابن حزم: ولا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بعير حق وعلم منه من تركها من باب أولى، وهو المراد بقوله:{ما سلككم في سقر} وروى الجريري عن عبد الله بن شقيق
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الحاكم وأخرجه الترمذي دون ذكر أبي هريرة وحكى البغوي في (التهذيب) وجها غريبا: أن من ترك صلاة واحدة فليس بصاحب كبيرة حتى يعتاد ذلك مرارا.
(ص) والكذب على محمد صلى الله عليه وسلم.
(ش) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) بل ذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى أن الكذب عليه كفر، ولا شك أن تعمد الكذب عليه في تحليل الحرام أو تحريم الحلال كفر محض وإنما الخلاف في تعمده فيما سوى ذلك، وفي الحديث:((من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)).
قال الذهبي: ومن هنا يعلم أن رواية الموضوع لا تحل، وتقييد المصنف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوهم أن الكاذب على غيره ليس بكبيرة وليس على إطلاقه ومنه الكذاب في غالب أقواله قال تعالى:{إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} وقال: {قتل الخراصون} وفي الصحيحين: ((إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) ومن محاسن الشريعة: إباحة المعاريض فلا ضرورة حينئذ تدعو إلى الكذب، ولا خلاف في جوازها حيث يضطر إليها كما قاله الراغب وغيره وقيل: ورد: في المعاريض مندوحة عن الكذب وفي الحديث لمن سأله من أين أنت؟ قال: ((من الماء)).
(ص) وضرب المسلم.
(ش) أي: بلا حق أو زيادة على ما يستحقه وفي الصحيح: ((صنفان من أهل النار: قوم معهم كأذناب البقر يضربون بها الناس)) وخص المصنف المسلم،
لأنه أفحش أنواعه، وإلا فالذمي بغير حق كذلك.
(ص) وسب الصحابة.
(ش) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عادى لي وليا فقد آذنني بالحرب)) رواه البخاري وقال: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه.
(ص) وكتمان الشهادة.
(ش) لقوله تعالى: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} وفي التفسير: أنه مسخ القلب وهذا الوعيد لمن لم يذكر في غيره من الكبائر، قال ابن القشيري: من كتمان الشهادة الامتناع عن أدائها، بعد تحملها، ومنه أن لا يكون عند صاحب الحق علم بأن له شهادة وخانه صاحبه.
(ص) والرشوة.
(ش) لحديث: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) وهي مثلثة الراء، أن
يبذل مالا ليستحق باطلا أو يبطل حقا أما من بذل مالا لمن يتكلم في أمره مع السلطان فهو جعالة قاله العبادي وغيره.
(ص) والدياثة والقيادة.
(ش) الأول المستحسن على أهله، والثاني: على أجنبي، قال تعالى:{والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} وقد روى سليمان بن يسار عن الأعرج حدثنا سالم بن عبد الله عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثلاثة (145أ) لا يدخلون الجنة: العاق والديه، والديوث ورجلة النساء)) قال الذهبي: إسناده
صالح لأن بعضهم يقول: عن أبيه عن عمر مرفوعا، قال: فمن كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبته فيها فهو دون من يعرص عنه ولا خير فيمن لا غيرة له).
(ص) والسعاية.
(ش) أي عند السلطان أي: إنما يضر المسلم وإن كان صدقا قال صاحب (نهاية الغريب): وفي حديث ابن عباس: الساعي لغير رشده، أي: الذي يسعى بصاحبه إلى السلطان ليؤذيه يقول: هو ليس بثابت النسب ولا ولد حلال، ومنه حديث كعب: الساعي مثلث يريد أن نهلك بسعايته ثلاثة نفر: السلطان والمسعى به ونفسه، وفي (الحلية) لأبي نعيم، عن الشافعي رضي الله عنه قال: قبول السعاية أضر من السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز، قال:
والساعي ممقوت إذا كان صادقا لهتكه العورة وإضاعته الحرمة، ويعاقب إن كان كاذبا لمبارزته الله تعالى بقول البهتان، وشهادة الزور.
(ص) ومنع الزكاة.
(ش) لقوله تعالى: {الذين لا يؤتون الزكاة} والمتوعد عليه كبيرة وقد قاتل الصديق مانع الزكاة وأجمع عليه الصحابة، ثم لا يخفى أن المراد المنع المجرد مع الاعتراف بوجوبها فإن جاحدها كافر، والمراد أصلها لا كل فرد حتى لا يكفر جاحد زكاة الفطر، ولا جاحدها في مال الصبي والمجنون وغيره من المختلف فيه، وفي معنى منع الزكاة تأخيرها إذا وجبت لا لعذر.
(ص) ويأس الرحمة وأمن المكر.
(ش) أما الأول، فلقوله تعالى:{إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} فمن قال: لا يغفر فقد حجر واسعا وكذب القرآن في قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} وأضاف بعضهم إليه القنوط، قال تعالى:{ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} ولك أن تسأل الفرق بينهما وفسر الراغب القنوط باليأس من الخير وفسر اليأس بانتفاء الطمع، قلت: ويحتمل تفسير اليأس بظن لا ينتهي إلى القطع والقنوط بما فوقه وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وإن مسه الشر فيئوس قنوط} والثاني كقوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله
إلا القوم الخاسرون} فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله تعالى، قال تعالى:{ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} قال بعضهم: من مكر الله تعالى إمهال العبد وتمكينه من أغراض الدنيا، ولهذا قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
(ص) والظهار.
(ش) أي وهو قوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، اشتق من الظهر، ودل على تحريمه قوله تعالى:{وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} لأنهم صيروا كأمهاتهم من لا يكون بمنزلتهن، ولهذا جعلت الكفارة قبل المسيس، ليحل له غشيانها، بخلاف كفارة القتل وغيرها.
(ص) ولحم الخنزير والميتة.
(ش): أي: بغير ضرورة، لقوله تعالى:{إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} وهو من عطف الخاص على العام.
(ص) وفطر رمضان.
(ش) لأن صومه ركن الإسلام، وروى ((من أفطر يوما من رمضان من غير
عذر ولا رخصة لم يقضه صيام الدهر)).
(ص) والغلول.
(ش) أي: وهو تدرع الخيانة من الغنيمة وبيت المال والزكاة: قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وروي: لا إغلال ولا إسلال أي لا خيانة ولا سرقة (145ب) وقال الإمام أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقتال= نفسه، وما فسرت به الغلول هو الذي قاله الأزهري وغيره وقال أبو عبيد: الغلول من الغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد فإنه يقال: أغل يغل، ومن الحقد غل يغل بكسر الغين، ومن الغلول: غل يغل الضم، وقال ابن أبي هريرة: تنكية، صورة الغلول من الزكاة أن يخفي ماله لئلا تؤخذ منه الزكاة، أو يقل: لم يحل على مالي الحول، أو لم يكن لي نصاب في جميع الحول، وعرفنا خلاف ما قال.
(ص) والمحاربة.
(ش) لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
…
} الآية.
(ص) والسحر.
(ش) ففي الصحيح عده من السبع الموبقات ولأن الساحر لابد أن يكفر، قال تعالى:{ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}
(ص) والربا.
(ش) وهو مقابلة مال بمال مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حال العقد أو مع تأخيره في البدلين أو أحدهما لقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وفي الصحيح عده من السبع الموبقات، وفيه:((لعن آكل الربا وموكله)) قال الشيخ عز الدين في (القواعد): ولم أقف على المفسدة المقتضية لعجله من الكبائر، فإن كونه مطعوما وقيمة الأشياء أو مقدرا، لا يقتضي أن يكون كبيرة، ولا يصح التعليل بأنه لشرفه حرم ربا الفضل وربا النسا فإن من باع ألف دينار بدرهم واحد صح بيعه ومن باع كر شعير بألف كر حنطة، أو مد شعير بألف مد من حنطة، أو مداً من حنطة بمثله، أو ديناراً بمثله وأجل ذلك للحظة - فإن البيع يفسد، مع أنه لا يلوح في مثل هذه الصورتين معنى يصار إليه، قلت: وذكر الغزالي في (الإحياء) في توجيه المفسدة كلاما فلينظر فيه وقال السهيلي: من تأمل أبواب الربا لاح له سر التحريم من جهة الجشع المانع من حسن المعاشرة والذريعة إلى ترك الفرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق، ولذلك قال تعالى:{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} نبهنا فيه على العلة، ولهذا قالت عائشة: إن تعاطى ما شبهه إلا بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقبل صلاته ولا صيامه لأن السيئات لا تحبط الحسنات، ولكن خصت الجهاد بالإبطال، لأنه حرب لأعداء الله وآكل الربا قد آذن بحرب من الله فهو ضده ولا يجتمع الضدان، والظاهر أنه تعبد وكان الذين يتعاطونه يقولون: هذا الربح أخيرا كالربح ابتداء، لو بعت الثوب الذي قيمته عشرة بخمسة عشر، والله تعالى فرق بين الربح في الابتداء وبين الربح في الانتهاء، وله= يحكم بما يريد ولا يجمع بين متفرق.
ويجوز أن يقرأ كلام المصنف بالياء المثناه من تحت فإنه من الكبائر أيضا وفي مسلم في حديث: الشهيد والغازي والمنفق في سبيل الله تعالى يقال لهم: إنما فعلت ليقال، ثم يؤمر بهم فيسحبوا
إلى النار وصحح الحاكم: ((اليسير من الرياء شرك)).
(ص) وإدمان الصغيرة.
(ش) أي: فإنه بمنزلة الكبيرة، ولهذا أخره المصنف عن الكل، وهذا هو المشهور، وحكى الديبلي في (أدب القضاء) وجها: أنه لا تصير الصغيرة بالمداومة عليها كبيرة، كما لا تصير الكبيرة بالمداومة عليها كفرا. والإدمان يكون باعتبارين: الإصرار بالفعل، والإصرار حكما وهو (146أ) العزم على فعلها بعد فراغه منها،
فحكمه حكم من كررها فعلا وتعبير المصنف بـ (إدمان) تفسير منه للإصرار لهذا قال ابن فورك: الإصرار: الإقامة على الشيء (بالعقد عليه من جهة العزم على فعله، والإصرار على الذنب يقتضي التوبة منه. انتهى. وهل المراد الإدمان) على نوع واحد من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع؟ فيه تردد للأصحاب، قال الرافعي: والثاني يوافق قول الجمهور: من غلبت معاصيه طاعته كان مردود الشهادة.
تنبيهان: الأول: إنما عدد المصنف هذه الأنواع لئلا يتوهم حصرها في سبع ولهذا قيل لابن عباس: الكبائر سبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب وعن ابن جبير: هي إلى السبعمائة أقرب، قال ابن ظفر: ولا تعد مثل هذا خلافا، فكل معصية كبيرة إذا أضيفت إلى ما هو دونها، فهو إخبار عما استفاده من مقامات الكبائر، ونحوه قال الحليمي: ما من ذنب وإلا في نوعه كبيرة وصغيرة إلا الكفر بالله، فإنه أفحش الكبائر، وليس في نوعه صغيرة، وقد جاءت أحاديث بعدها سبعا، وأحاديث بأكثر من ذلك كما بيناه، فلا مفهوم مخالفة لواحد منها، لأنها لم تتفق على سبعة معينة، بل بينها تفاوت، وطريق الجمع ما قيل في أفضل الأعمال، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص في كل وقت بعض الكبائر بالذكر لحاجة السامعين حينئذ إلى بيانه على حسب حال بعض الحاضرين، واقتصر في بعض الأحايين على أكبرها كقوله:((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)).
الثاني: لم يراع المصنف ترتبيها، وقال القرطبي: أكبرها الشرك ثم الإياس من رحمة الله تعالى، لأنه تكذيب للقرآن، ثم الأمن من مكر الله تعالى، ثم القتل لأن فيه إذهاب النفس وإعدام الموجود، ثم اللواط، لأن فيه قطع النسل، والزنا، لاختلاط الأنساب، ثم الخمر، لذهاب العقل الذي هو مناط التكليف وقلت:
ويحتمل جعل عقوق الوالدين بعد الشرك، لأن الله تعالى واحد، فإذا جعل معه ثانيا فقد أشرك، والأب أعظم من على الابن له حق، فإذا استحق به فأحرى بغيره ولهذا قرن بينهما في قوله تعالى:{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} وقال: {أن أشكر لي ولوالديك} وجاء في بعض الأحاديث العقوق بعد الإشراك.
(ص): مسألة: الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية، وخلافه الشهادة.
(ش): الفرق بين الرواية والشهادة من مهمات هذا العلم وقد خاض فيه المتأخرون وغاية ما فرقوا بينهما باختلافها في بعض الأحكام كاشتراط العدد والحرية والذكورة، وغيرها، وذلك لا يوجب تخالفهما في الحقيقة، وقال القرافي: وأقمت مدة أتطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام المازري فذكر ما حاصله: أنهما خبران غير أن المخبر عنه إن كان عاما لا يختص بمعين، ولا ترافع فيه إلى الحكام فهو الرواية، وإن كان خاصا بمعين والترافع فيه ممكن فهو الشهادة وإذا لاح الفرق بينهما وصح مناسبة اعتبار العدد في الشهادة استظهاراً دون الرواية - فإنه يدخل من التهمة في إثبات الحقوق المعينة ما لا يدخل في إثباتها في الجملة، فجاز أن تؤكد الشهادة بما
لا تؤكد الرواية، فلهذا أكدت بالعدد وعدم العداوة وغيرها، لكن قد يعارض هذا بأن الخبر وإن لم يتضمن إثبات الحق على أحد معين، لكن يقتضي إثبات شرع في حق جميع المكلفين، إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أجدر من الاحتياط في إثبات الحق على واحد معين في شيء معين. ويحقق المناسبة وجوه، ذكرها الشيخ عز الدين:
أحدها: أن الغالب (146ب) من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور، فاحتيج إلى الاستظهار فيها.
والثاني: أنه قد ينفرد بالحديث النبوي شاهد واحد، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة العامة، بخلاف فوات حق واحد على شخص واحد في المحاكمات.
والثالث: أن بين كثير من الناس والمسلمين إحنا وعداوات تحملهم على شهادة الزور، بخلاف الأخبار النبوية.
(ص): وأشهد إنشاء تضمن الإخبار لا محض إخبار أو إنشاء على المختار.
(ش): تضمن ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه إخبار محض وهو ظاهر كلام اللغويين، قال ابن فارس في (المجمل): الشهادة خبر عن علم، وقال الإمام فخر الدين في تفسير قوله تعالى:{وما شهدنا إلا بما علمنا} فيه دلالة على أن الشهادة، مغايرة للعلم، قال: وليست الشهادة عبارة عن قوله: أشهد، لأن أشهد إخبار عن الشهادة، والإخبار عن الشهادة غير الشهادة، بل الشهادة عبارة عن الحكم الذهني، وهو الذي يسميه
المتكلمون كلام النفس.
والثاني: أنه إنشاء وإليه مال القرافي لأنه لا يدخله تكذيب شرعا وأما قوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} - فعائد إلى تسميتهم ذلك شهادة لأن الإخبار إذا خلا عن مواطأة القلب اللسان لم يكن ذلك حقيقة.
والثالث: أنه إنشاء تضمن الخبر عما في النفس، وفي هذا ما يجمع القولين.
واعلم أن نقل المذاهب هكذا في هذه المسألة لا يوجد مجموعا وإنما يوجد متفرقا في كلام الأئمة بالتلويح، نعم اختلف أصحابنا في قول الملاعن: أشهد بالله هل هو يمين مؤكد بلفظ الشهادة، أو يمين فيها شوب شهادة؟ والصحيح الأول.
(ص): وصيغ العقود كبعث إنشاء، خلافا لأبي حنيفة.
(ش): اختلف في صياغ الخبر المستعملة في الإنشاء كبعث= واشتريت التي قصد بها إيقاع هذه العقود: هل هي على ما كانت عليه من الخبرية، أو نقلت عن الخبرية بالكلية وصارت إنشاء؟ على قولين، قال في (المحصول): ولا شك أنها في اللغة موضوعة للإخبار وقد يستعمل في الشرع لذلك أيضا، وفي استحداث الأحكام، وإنما
النزاع أنها حيث استعملت لاستحداث أحكام لم تكن من قبل، فهل هي إخبارات باقية على الوضع اللغوي أو إنشاءات؟ الأقرب الثاني. انتهى. وعزاه الهندي للأكثرين وكذلك الأصفهاني، وعزا مقابله للحنفية، قال: وهو اختيار أئمة النظر من علم الخلاف، قال: وهذا تفريع على القول بالنقل الشرعي، إما مطلقا كقول المعتزلة، أو إلى مجازاتها اللغوية، ولا يتأتى هذا التفريع على رأي القاضي، انتهى.
وأما المصنف فنسبه إلى أبي حنيفة وفيه نظر، لأنه لا يعرف لأبي حنيفة فيه نص وغاية ما وقع في كلام المتأخرين نسبته للحنفية، وقد أنكر ذلك القاضي شمس الدين السروجي وكان من أئمة الحنفية العارفين بمذهبه: فقال في (كتاب النكاح من الغاية): وقد حكي عن القرافي أنه نسب ذلك إلى الحنفية، وهذا لا أعرفه لأصحابنا بل المعروف عندهم أنها إنشاءات استعملت، ولهذا قال صاحب (البديع): الحق أنها إنشاء، ولهذا يسأل المطلق رجعيا عن قوله: طلقتك ثانيا وكذا قال غيره من الحنفية، قالوا: وليس معنى كونها إنشاء، في الشرع أنها نقلت عن معنى الإخبار بالكلية (147أ) ووضعها لإيقاع هذه الأمور بل معناه أنها صيغ تتوقف صحة مدلولاتها اللغوية على ثبوت هذه الأمور، من جهة المتكلم، فاعتبر الشرع إيقاعها من جهته بطريق الاقتضاء تصحيحا لهذه الأمور من حيث إن هذه الأمور لم
تكن ثابتة ولهذا كان جعله إنشاء للضرورة، حتى لو أمكن العمل بكونه إخبارا لم يجعل إنشاء بأن يقول للمطلقة المنكوحة: إحداكما طالق، لا يقع الطلاق، قلت: وكذلك عندنا، إذا قصد الأجنبية وقال بعض المتأخرين: الحق أنها إن جردت عن الخبرية صارت إنشاء لأنها لا تحتمل الصدق والكذب، ولكان العاقد مخبرا عن سابق فلا ينعقد بها، وإن أريد بها إيقاع الفعل كانت إنشاء، وإن أريد بها الإخبار، كانت خبرا. واحتج القائلون بأنها إخبارات في ثبوت الأحكام فإن معنى قولك:(بعت) الإخبار عما في قلبك، فإن أصل البيع هو التراضي ووضعت لفظة (بعت) دلالة على الرضا، فكأنه أخبر بها عما في ضميره ورد بأنه لا يقصد بهذه الصيغ الحكم بنسبة خارجية، فلا تدل (بعت) على بيع آخر غير البيع الذي يقع به ولا معنى للإنشاء إلا هذا، وأيضا لا يوجد فيها خاصية الإخبار أعني احتمال الصدق والكذب للقطع بتخطئة من يحكم عليها بأحدهما.
تنبيه: لا يختص الخلاف في العقد بل يجري في الحلول، كفسخت وطلقت فالطلاق إنشاء ولا يقوم الإقرار مقامه، ولكن يؤاخذ بما أقر به، وبعضهم يجعل الإقرار على صيغته وقرينته إنشاء، فإذا أقر بالطلاق نفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا، وحكي وجه أنه يصير إنشاء حتى تحرم باطنا، قال إمام الحرمين: وهو ملتبس فإن الإقرار والإنشاء يتنافيان فذلك إخبار عن ماض، وهذا إحداث في الحال، وذلك يدخله الصدق والكذب، وهذا بخلافه.
(ص): وقال القاضي: يثبت الجرح والتعديل بواحد، وقيل: في الرواية فقط، وقيل: لا فيهما.
(ش): في الاكتفاء بجرح الواحد، وتعديله في الرواية والشهادة - مذاهب:
أحدها: الاكتفاء به فيهما، وبه قال القاضي أبو بكر، وعبارته في (التقريب): هذا القول قريب، لا شيء عندنا يفسده، وإن كان الأحوط ألا يقبل في تزكية الشاهد خاصة أقل من اثنين والمخبر قريب من بابه. انتهى.
والثاني: يعتبر العدد فيهما وهو رأي بعض المحدثين ووهاه الإمام.
والثالث: يكتفى به في الرواية دون الشهادة ونسب للأكثر، لأن شرط الشيء لا يزيد على أصله، بل قد ينقص كالإحصان يثبت باثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة فإذا قبلت رواية الواحد فلا تقبل تزكية الواحد أو جرحه فيها أولى، لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه فإذا لم يقبل في الشهادة إلا اثنين لم يقبل في تزكيتها أقل من اثنين.
(ص): وقال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما، وقيل: بذكر سببهما، وقيل: سبب التعديل فقط، وعكس الشافعي وهو المختار في الشهادة، وأما الرواية فيكفي الإطلاق إذا عرف مذهب الجارح.
(ش): ينبغي أن تكون الواو في قوله: وقال القاضي - بمعني ثم، لأنه دخول منه في مسألة أخرى، والضمير في قوله: فيهما عائد للجرح والتعديل وحاصله أن في التعرض لسبب الجرح والتعديل مذاهب:
أحدها: أنه يكفي الإطلاق فيهما، ولا يجب ذكر السبب لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية، وإن كان (147ب) بصيرا به فلا معنى للسؤال وهذا ما نص عليه في (التقريب) ونقل عنه إمام الحرمين التفصيل الآتي في
الثالث.
والثاني: يجب ذكر سببهما للاختلاف في أسباب الجرح والمبادرة إلى التعديل بالظاهر.
والثالث: يذكر سبب التعديل دون الحرج، لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة، لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر، فلا بد من سبب قال إمام الحرمين: وهذا أوقع في مأخذ الأصول.
والرابع: عكسه يجب في الجرح دون التعديل، وهو قول الشافعي رضي الله عنه، إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا، لاختلاف المذاهب فيه، بخلاف العدالة، إذ ليس لها إلا سبب واحد.
والخامس: التفصيل بين الشهادة والرواية، ففي الشهادة يجب السبب في الجرح فقط، وفي الرواية يكفئ= الإطلاق إذا علم أن مذهب الجارح أنه لا يجرح إلا بالمؤثر، لكن أطلق النووي في شرح مسلم أن معنى عدم قبول الجرح المطلق في
الراوي أنه يجب التوقف عن العمل بروايته إلى أن يبحث عن السبب.
(ص): وقول الإمامين: يكفي إطلاقهما للعالم بسببهما، هو رأى القاضي إذ لا تعديل وجرح إلا من العالم.
(ش): ذهب إمام الحرمين والرازي إلى تفصيل في المسألة: وهو أنا إن علمنا علم الراوي بأسبابهما، لم يجب ذكر السبب فيهما إذ الراوي يصير عدلا، وإلا أوجبناه ونبه المصنف على أن هذا ليس بمذهب، خلاف ما تقدم، بل هو راجع إلى كلام القاضي، لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة، لم يصلح للتزكية، فقوله:(للعالم) أي: بأسباب الجرح والتعديل فإن العالم المتقن لا يجرح بأمر مختلف فيه.
(ص): والجرح مقدم إن كان عدد الجارح أكثر من المعدل إجماعا، وكذا إن تساويا أو كان الجارح أقل، وقال ابن شعبان: يطلب الترجيح.
(ش): إذا تعارض الجرح والتعديل، فإما أن يكون عدد الجارح أقل من المعدل أو أكثر أو يتساويا، فإن كان الجارح أكثر قدم بالإجماع، كذا قال المازري والباجي وغيرهما، لاطلاعه على زيادة لم ينفها المعدل، وإن تساويا فكذلك وحكى
القاضي في (مختصر التقريب) الإجماع عليه أيضا، لكن ابن الحاجب حكى قولا أنهما يتعارضان ولا يترجح أحدهما إلا بمرجح، وإن كان الجارح أقل فالجمهور على تقديم الجرح أيضا لما سبق، وقيل: يقدم المعدل بزيادة عدده وقال ابن شعبان المالكي: يطلب الترجيح، حكاه عنه المازري واعلم أن القول بتقديم الجرح إنما يصح بشرطين ذكرهما ابن دقيق العيد:
أحدهما: مع اعتقاد المذهب الآخر، وهو أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا.
والثاني: أن يكون الجرح بناء على أمر مجزوم به، أي: بكونه جارحا لا بطريق اجتهادي كما اصطلح عليه أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره، والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة والتفرد والشذوذ.
(ص): ومن التعديل حكم مشترط العدالة بالشهادة، وكذا عمل العالم في الأصح، ورواية من لا يروي إلا للعدل.
(ش): التعديل يحصل بالتزكية الصريحة، بأن يقول: هو عدل ويذكر سببه، فيقول: لأني رأيت منه كذا، أو لا يذكره إن لم توجبه، وكذا السماع المتواتر والمستفيض بالعدالة، قال القرافي: وقد نص الفقهاء على أن من عرف بالعدالة لا تطلب له تزكية وسكت عنه المصنف لوضوحه، ويحصل بالضمني وهو الذي ذكره المصنف لغموضه وله مراتب (148أ):
أحدها: وهو أعلاها: أن يحكم الحاكم بشهادته لأنه لو لم يكن عدلا لما جاز بناء الحاكم على شهادته وهذا إذا كان الحاكم مستوفى العدالة، وهذا القيد ذكره الآمدي وغيره، ولا بد منه، وأهمله في (المنهاج)، ثم فيه شيئان:
أحدهما: أن هذا إنما يقدح إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه، فإن جوزناه فحكمه بالشهادة ظاهر، أيقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا، وهذا يقدح في جعل الغزالي هذه المرتبة أقوى من التعديل بالقول، وحينئذ يتجه التفصيل الآتي في التي بعدها، فإن علم يقينا أنه حكم بشهادته فتعديل، وإن لم يعلم يقينا فلا، وهو ما اقتصر عليه العبدري في (شرح المستصفى).
الثاني: أن هذه المرتبة من خواص الشهادة دون الرواية، لكنهم ذكروها في تعديل الراوي بالاستلزام.
ثانيها: عمل العالم بروايته تعديل إذا علم منه أنه عمل بها لا على وجه الاحتياط ونقل الآمدي فيه الاتفاق لكن الخلاف محكي في (البرهان) و (المحصول) وغيرهما فلهذا عبر المصنف بالأصح، قال إمام الحرمين: عمل
الراوي بما رواه مع ظهور إسناده العمل إلى الرواية قال قائلون: إنه تعديل، وقال آخرون: ليس بتعديل والذي أراه: إذا ظهر أن مستند فعله ما رواه ولم يكن ذلك من مسالك الاحتياط - فهو تعديل، وإن كان ذلك في سبيل الاحتياط فليس بتعديل، لأن المجرح يتوقى الشبهات كما يتوقى الجليات وفصل الشيخ تقي الدين ابن تيمية بين أن يعمل بذلك في الترغيب والترهيب دون غيرهما.
وثالثها: وهو أدناها: رواية العدل عنه، قيل: تعديل مطلقا، وقيل: عكسه والأصح: التفصيل: إن علم عادته أنه لا يروي إلا من عدل كيحيى بن
سعيد القطان، وشعبة، ومالك - فهو تعديل وإلا فلا قال المازري: وهو قول الحذاق وهو المختار في (الإحكام).
ثم هنا أمران:
أحدهما: أن هذا تفريع على جواز تعديل الراوي لمن روى عنه، وفي باب الأقضية من (الحاوي) حكاية وجهين في أنه هل يجوز للراوي تعديل من روى عنه كالخلاف في تزكية شهود الفرع للأصل.
الثاني: النظر في الطريق التي يعرف بها كونه لا يروي إلا عن عدل، فإن كان ذلك بتصريحه فهو الغاية، وإن كان ذلك باعتبارنا بحاله في الرواية، ونظرنا إلى أنه لم يرو عمن عرفناه إلا عن عدل، فهذا دون الدرجة الأولى ذكره ابن دقيق العيد قال: وهل يكتفى بذلك في قبول روايته عمن لا يعرفه؟ فيه وقفة لبعض أصحاب الحديث من المعاصرين وفيه تشديد.
(ص) وليس من الجرح ترك العمل بمرويه والحكم بمشهوده.
(ش) أي: لأنه يتوقف في رواية العدل وشهادته، لأسباب أخر غير الجرح
وقال القاضي: إن تحقق تركه له مع ارتفاع الموانع كان جرحا، وإن لم يثبت قصده إلى مخالفته لم يكن جرحا (واعلم أن مرادهم ليس جرحا، أي: ليس دليلا على الفسق وإن كان دليلا على عدم اعتبار شهادته وروايته وإلا لفسق التارك بذلك).
(ص): ولا الحد في شهادة الزنا ونحو النبيذ.
(ش): فيه مسألتان:
إحداهما: ليس من الجرح الحد في الشهادة بالزنا، إذا لم يكمل النصاب، لأن الحد لأجل نقص العدد، لا لمعنى في الشاهد وهذا بناء على أظهر قولي الشافعي رضي الله عنه، فيما إذا شهد ثلاثة بالزنا، أنهم يحدون، لقصة المغيرة، وألحق الرافعي به جارح الراوي بذكر الزنا إذا لم يوافقه غيره حتى يكون قاذفا على الأصح، وخالفه النووي وقال المختار (148ب) أو الصواب: أنه لا يجعل قاذفا لأنه معذور في شهادته بالجرح فإنه مسؤول عنها، وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة بخلاف شهود الزنا فإنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون، وما قاله النووي هو الذي قطع به الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين، وغيرهما، ولم يخرجوه على الخلاف في شهود الزنا.
الثانية: ليس من الجرح ارتكاب ما اختلف فيه، وقال بحله بعض العلماء في مسألة اجتهادية كشرب النبيذ الذي لا يسكر، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه، في الحنفي: أحده، وأقبل شهادته، لما سبق في الكلام على المفسق المظنون، وكذلك قال: لا أرد شهادة المستحل لنكاح المتعة والمفتي به والعامل به وهذا بناء على أنه فسقه مظنون كما سبق وخالف مالك، واعتقد أنه مقطوع، فقال: أحده للمعصية، وأرد شهادته لفسقه وقال القرافي: وهو أوجه من قول الشافعي رضي الله عنه، لسلامته من التناقض ولأن هذا منع التقليد فيه، فمن قلد فيه بمثابة من لم يقلد فيكون عاصيا فيفسق وليس
كما قال فإن مأخذ الحد ورد الشهادة مختلف فالحد للزجر، فلم يراع فيه مذهب المخالف، والرد لارتكاب الكبيرة عند فاعلها وهذا متأول في شربه فعذر بتأويله واعلم أن هذه المسألة مكررة مع قوله: فيما سبق ويقبل من أقدم على مفسق مظنون.
(ص) ولا التدليس بتسمية غير مشهورة قال ابن السمعاني: إلا أن يكون بحيث لو سئل لم يبينه.
(ش) أي: ليس من الجرح التدليس بالتسمية الغريبة لوقوعه من الأكابر كسفيان وغيره، لأنه محقق في نفس الأمر، واستثنى ابن السمعاني ما إذا لم ينبه عليه لو سئل عنه، لأنه تزوير وإيهام لما لا حقيقة له، وذلك يؤثر في صدقه بخلاف ما لو كان إذا (سئل عنه أخبر باسمه، أو أضاف الحديث إلى ناقله فقد كان سفيان ابن عيينة يدلس فإذا) سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ولم يكتمه، وفصل
الآمدي بين أن يكون تغيير الاسم لضعف المروي عنه فيكون مجروحا، وإن كان لصغر سن المروي عنه، أو لأن المروي عنه اختلف في قبول روايته وهو يعتقد قبولها كأهل البدع، فلم يذكر باسمه المشهور حتى لا يقدح فيه فلا يكون جرحا، وهذا هو الظاهر لأن الأول يوجب العمل بخبر غير الثقة بخلاف الثاني، وسكت عما إذا لم يعلم تغييره لماذا وهو محتمل.
(ص) ولا باعطاء شخص اسم آخر تشبيها كقولنا: أبو عبد الله الحافظ يعني: الذهبي، تشبيها بالبيهقي يعني: الحاكم.
(ش) عادة البيهقي فيما يرويه عن شيخه الحاكم أن يقول: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، والمصنف رحمه الله يقول في بعض مصنفاته: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ يعني: به الذهبي نبه على أن هذا ليس من التدليس، للعلم بالمقصود وظهوره.
(ص) ولا بإيهام اللقى والرحلة.
(ش) كقولنا: حدثنا وراء النهر موهما جيحون ويشير إلى نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، لأن ذلك من المعاريض لا من الكذب، قاله في (الإحكام).
(ص): أما مدلس المتون فمجروح.
(ش) قال الأستاذ أبو منصور: وهو الذي يسميه المحدثون بالمدرج، أي أنه أدرج كلامه مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز بينهما فيظن أن جميعه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو عكس رواية بعض الحديث.
(ص) مسألة: الصحابي: من اجتمع مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو ولم يطل، بخلاف التابعي مع الصحابي، وقيل: يشترطان وقيل: أحدهما، وقيل: الغزو أو سنة.
(ش)(من) موصولة بمعنى: الذي، وهو مع الاجتماع جنس، (ومؤمنا) حال من الموصول، وهو (149أ) فصل يخرج المجتمع حال كفره، (وبمحمد) صلى الله عليه وسلم فصل ثان يخرج المجتمع بغيره، وإنما غير المصنف لفظة:(رأى) الواقع في مختصر ابن الحاجب وغيره لأنك إن نصبت النبي في قولهم: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر - لم يطرد، لورود ابن أم مكتوم وأبي وغيرهما من عميان الصحابة، فإنهم لم يروه ولم ينعكس لأن من رآه في
النوم فقد رآه حقا وليس بصحابي وإن رفعت لزم أن يكون من وقع بصر محمد صلى الله عليه وسلم عليه صحابيا وإن لم يقع بصره على محمد صلى الله عليه وسلم ولا قائل به ولو قيل به لزم أن يكون كل من عاصره بهذه المثابة، لأنه كشف له ليلة الإسراء وغيرها عنهم أجمعين ورآهم كلهم فلهذا عدل المصنف إلى لفظة الاجتماع وزاد الإيمان وقد ذكره ابن الصلاح من المحدثين، والآمدي من الأصوليين ولا بد منه، فإن من اجتمع كافرا به صلى الله عليه وسلم لا تثبت له صحبة، قاله البخاري في (صحيحه) حيث قال: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.
وحكاه القاضي عياض وغيره عن أحمد بن حنبل، وأشار بقوله: وإن لم يرو ولم يطل - إلى الاكتفاء بمجرد الرواية والصحبة ولو ساعة، سواء روى عنه أو لم يرو عنه، وسواء اختص به أم لا، وهو مقتضى لفظ الصحبة من حيث الوضع بدليل أنه يصح تقسيم الصحبة إلى الصحبة ساعة وإلى الصحبة مدة طويلة، وكذا يصح أن يقال: صحبه ولم يرو عنه، وأشار بقوله: بخلاف التابعي إلى أنه لا يكتفى في كون الشخص تابعيا بمجرد اجتماعه بالصحابي كما يكتفى في الصحابي والفرق أن طلعة المصطفى صلى الله عليه وسلم ينطبع من رؤيتها أو مجالستها نور لا يتهيأ لأحد من خلق الله مثله فالمرجع في تفسير التابعي إلى العرف. وقيل يشترطان، أي: طول المجالسة والرواية عنه وقيل تشترط الرواية (ولا تشترط الصحبة الطويلة، وقيل: تشترط) الصحبة الطويلة ولا تشترط الرواية، وهذا مراد المصنف بقوله: وقيل: أحدهما، لأنه لم يذهب أحد إلى اشتراط الرواية، دون المجالسة كما يوهمه ظاهر هذه العبارة قال
الهندي: والخلاف لفظي، والوضع يصحح مذهب االأولين، والعرف مذهب المتأخرين، وكذا قال ابن الحاجب، لكن لفظه وإن ابتنى عليه الخلاف في تعديلهم وقيل: يشترط الغزو أو مدة سنة، وهو قول سعيد بن المسيب، حكاه ابن الصلاح وهو ضعيف يلزم منه إخراج جرير بن عبد الله ووائل بن حجر.
ومعاوية بن الحكم السلمي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع وبعده، فأسلم وأقام بعده أياما، ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث، ولا خلاف في أنهم من الصحابة.
(ص): ولو ادعى المعاصر العدل الصحبة قبل وفاقا للقاضي.
(ش): لأن وازع العدل يمنعه من الكذب وإنما حكاه المصنف عن القاضي لأن كلام ابن الحاجب يقتضي أن المسألة غير منقولة، وتوقف فيها من حيث إنه يدعي رتبة لنفسه، فهو متهم فيها كما لو قال: أنا عدل.
(ص): والأكثر على عدالة الصحابة وقيل: هم كغيرهم، وقيل: إلى= قتل عثمان، وقيل: إلا من قاتل عليا.
(ش): جمهور الخلف والسلف على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عدول فلا حاجة إلى الفحص عن عدالتهم، لقوله تعالى:{كنتم خير أمة أخرجت للناس} والخطاب للموجودين، قال إمام الحرمين: ولعل السبب فيه أنهم حملة الشريعة، فلو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم (149ب) ولما استرسلت على سائر الأعصار، وقيل: إن حكمهم في العدالة كغيرهم فيجب البحث عنها ومعرفتها في كل واحد منهم، ومنهم من زعم أن الأصل فيهم العدالة إلى أيام قتل عثمان لظهور الفتن، ومنهم من زعم أن من قاتل عليا فهو فاسق لخروجهم
على الإمام الحق. وهذه المذاهب كلها باطلة، سوى مذهب الجمهور.
(ص): مسألة المرسل: قول غير الصحابي: قال النبي صلى الله عليه وسلم.
(ش): غير الصحابي يشمل التابعي وتابع التابعي، وهلم جرا، هذا قول الأصوليين، وأما المحدثون فيخصونه بالتابعين، وبعضهم بكبار التابعين كسعيد
بن المسيب فإن سقط واحد قبل التابعي، كقول من روى عن سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمى منقطعا، وإن سقط أكثر سمي معضلا، وعلى هذا فتفسير الأصوليين أعم، فما انقطع دون التابعي مرسل عند الأصوليين، منقطع عند المحدثين، وعلم من كلامه: أنه لا مرسل للصحابة، وهو كذلك، وسيأتي.
(ص): واحتج به أبو حنيفة ومالك والآمدي مطلقا، وقوم إن كان المرسل من أئمة النقل، ثم هو أضعف من المسند خلافا لقوم، والصحيح رده، وعليه الأكثر منهم الشافعي والقاضي، قال مسلم: وأهل العلم بالأخبار.
(ش): اختلف في قبول المرسل على مذاهب:
أحدها: أنه حجة مطلقا، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في أشهر الروايتين واختاره الآمدي.
والثاني: يقبل مرسل من هو من أئمة النقل دون غيره، وهو قول عيسى بن أبان، واختاره ابن الحاجب، وصاحب (البديع) وأئمة النقل، يدخل فيه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، ثم هو على القول بكونه حجة أضعف من المسند خلافا لقوم من الحنفية، حيث زعموا أنه أقوى من المسند.
والثالث: أنه ليس بحجة، وعليه الشافعي واختاره القاضي أبو بكر، وقال مسلم في (صحيحه): المرسل في أصل قولنا، وقول أهل العلم، بالأخبار ليس بحجة، فلهذا نقله المصنف عن الأكثر، وفي ذلك فائدة، وهي الرد على من زعم أن الشافعي أول من أبى قبول المرسل، وفي تسوية المصنف بين الشافعي رضي الله عنه، والقاضي في الإنكار مطلقا نظر، فإن الشافعي رضي الله عنه، قبله في بعض المواضع، قال القاضي: ونحن لا نقبل المراسيل مطلقا، ولا في الأماكن التي قبلها فيه الشافعي رضي الله عنه، حسما للباب، بل زاد القاضي فأنكر مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي نص عليه في (التقريب).
(ص): فإن كان لا يروي إلا عن عدل كابن المسيب - قبل، وهو مسند.
(ش): هذا إشارة إلى توسط في المسألة، وتنزيل كلام الشافعي رضي الله عنه عليه، وهو التفصيل بين أن يكون المرسل من عادته الرواية عن العدل وغيره، فليس بحجة، وهو قول الشافعي رضي الله عنه بإطلاق المنع، وإن كان إماما عالما بالقوادح، وعادته أن لا يروي إلا عن عدل - فمرسله حجة، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا بالغ في ثقته عمن روى له، ولأن مأخذ رد المرسل عند الشافعي رضي الله عنه إنما هو احتمال ضعف الواسطة، وأن المرسل لو سماه لبان أنه لا يحتج به، فإذا علم من عادة المرسل أنه لا يسمي إلا ثقة - كان مرسله حجة والتحق بالمسند. وقد أشار إمام الحرمين إلى أن هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه مستندا إلى قوله: وأقبل مراسيل ابن المسيب، لأني اعتبرتها فوجدتها لا ترسل إلى عمن يقبل خبره، قال: ومن هذا حاله أحببت (150أ) مراسيله، وفي هذا فائدتان:
إحداهما: أن الشافعي رضي الله عنه لا يرد المرسل مطلقا.
والثانية: أنه لا يخص القبول بمرسل سعيد كما فهمه جماعة، فلهذا جعل
المصنف الضابط انحصار روايته عن العدل، نعم جعله كالمسند فيه نظر، لما سنذكره عن الشافعي رضي الله عنه أنه جعله صالحا للترجيح، وقال النووي في (الإرشاد): اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي رضي الله عنه وليس كذلك، وإنما قال الشافعي في (مختصر المزني): وإرسال ابن المسيب عنده حسن، فذكر صاحب (المهذب) وغيره من أصحابنا في أصول الفقه في معنى كلامه وجهين:
أحدهما: أن مراسيله حجة، لأنها فتشت فوجدت مسانيد.
والثاني: ليس بحجة، بل هي كغيرها وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح وحكاه الخطيب ثم قال: الصحيح عندنا الثاني، لأن في مراسيل سعيد: ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح وذكر البيهقي نحوه، وأن الشافعي لم يقبل مراسيل لابن المسيب حيث لم يجد لها ما يؤكدها وإنما يزيد ابن المسيب على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ، قال النووي: فهذا كلام الخطيب والبيهقي وهما ماهران في معرفة نصوص الشافعي وطريقته، وأما قول القفال في شرح (التلخيص): قال الشافعي في (الرهن الصغير) مرسل ابن المسيب حجة عندنا - فهو محمول على ما قاله الخطيب والبيهقي.
(ص): وإن عضد مرسل كبار التابعين ضعيف مرجح كقول صحابي، أو فعله، أو الأكثر إسنادا أو إرسالا، أو قياس، أو انتشار أو عمل العصر - كان المجموع حجة، وفاقا للشافعي لا مجرد المرسل ولا المنضم.
(ش): عمدة الشافعي في رد المراسيل أن حذف الواسطة يخرم الثقة ويتطرق التردد إلى الخبر فحيث اقترن به ما يؤكده ويغلب على الظن الثقة به -فإنه يقبله وذلك يتناول صورا:
إحداها: أن يعتضد بقول صحابي أو فعله، فإن الظن يقوى عنده.
ثانيها: بقول الأكثر من أهل العلم وظن القاضي أن الشافعي رضي الله عنه يريد الإجماع أو قول العوام، فردد عليه الكلام وإنما أراد أكثر أهل العلم.
ثالثها: أن يسنده غير مرسله، قال في (المحصول): وهذا في سند لم تقم الحجة بإسناده يعني وإلا فالعمل حينئذ بالمسند.
رابعها: أن يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول.
خامسها: أن يعضده قياس.
سادسها: أن ينتشر ولا نكير.
سابعها: أن يعضده عمل أهل العصر، وبه أشار المصنف بقوله:(كان المجموع حجة) إلى الجواب عما اعترض به القاضي وغيره على الشافعي في هذه المواضع بأن قول الصحابي لا يحتج به كغيره، وكذا قول الأكثر ومجيئه مرسلا وضمه الضعيف إلى الضعيف لا يوجب القبول، وأجاب المحققون بأن مراد الشافعي أن
الاحتجاج بالمجموع، فإن حالة الاجتماع تفيد ظنا غالبا، وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا، لأن الظن يتقوى، فلا يلزم من عدم الاحتجاج بالأضعف عدم الاحتجاج بالأقوى، ولم يعتمد الشافعي على مجرد المرسل ولا على المنضم إليه، ونظيره خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد القطع عند قوم، مع أنه لا يفيد ذلك بمجرده ولا القرائن بمجردها، فإن قيل: هذا صحيح إذا كان المنضم إليه ضعيفا، فإن كان قويا كالمسند فالعمل حينئذ بمجرد المنضم، ولهذا قال ابن الحاجب: الأول غير وارد (على الشافعي والثاني وارد.
قلنا: بل هو غير وارد) أيضا، لأنه إذا أسنده غير مرسله، فقد انضم مسند إلى مرسل، وذلك يوجب التقوية (150ب) أيضا، وحتى لو عارض مسندا آخر يكون راجحا عليه، لكونه مسندا ومرسلا معا، والآخر مسند فقط.
تنبيهات: الأول: أن من تأمل نصوص الشافعي في (الرسالة)، وجدها مصرحة بأنه لم يطلق القول بأن المرسل حينئذ يصير حجة مطلقا كما نقله المصنف وغيره، بل سوغ الاحتجاج به، ولهذا قال الشافعي بعد ذلك: ولا أستطيع أن أقول: الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل. انتهى. وفائدة ذلك أنه إذا عارضه متصل كان المتصل مقدما عليه، ولو كان حجة مطلقا لتعارضا، وقد قال القاضي في (التقريب): قال الشافعي: في هذه المواضع أستحب قبوله، ولا أستطيع أن أقول: الحجة تثبت به ثبوته بالمتصل، قال: فقد نص على أن القبول عند هذه الأمور مستحب لا واجب، لكن قال البيهقي: مراده بقوله: أجبنا، اعتبرنا.
الثاني: نبه بقوله (كبار التابعين) على أن هذه الأسباب تختص بهم دون صغارهم، وإلى هذا أشار الشافعي في (الرسالة) فيستدل به على إطلاق (المنهاج)
و (المختصر) وغيرهما اعتضاد مطلق المرسل بهما، وإنما قرن نفس كبار التابعين وصغارهم هنا، لأن المأخذ عنده مزيد القوة، وذلك موجود في كبار التابعين دون غيرهم.
الثالث: قوله: (ضعيف) فاعل (عضده) وقوله: (مرجح) صفة له أي ضعيف صالح للترجيح، ليحترز به عن ضعيف لا يصلح للترجيح فلا أثر له، وكذا القوي، إذ لا حاجة له بالمرسل، إلا أن ذكره المسند في أمثلة المرجح الضعيف منتقد، فلو قال: أو إسناد غير منتهض، لاستقام.
(ص): فإن تجرد ولا دليل سواه فالأظهر الانكفاف لأجله.
(ش): هذا الذي رجحه توسط بين قولين، فإن الماوردي في باب الربا من (الحاوي) زعم أن الشافعي يحتج بالمرسل إذا لم يجد في الباب دلالة سواه، وإن لم يكن شيء من الرجحان، وقال البيهقي: قال الشافعي: يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها فإن لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبلها سواء كان مراسيل ابن المسيب وغيره.
(ص) مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى للعارف، وقال الماوردي: إن نسي اللفظ وقيل: إن كان موجبه علما، وقيل: بلفظ مرادف وعليه الخطيب ومنعه ابن سيرين، وثعلب، والرازي، وروي عن ابن عمر.
(ش) في رواية الحديث بالمعنى مذاهب:
أحدها: يجوز ويجب قبوله، كما لو روي باللفظ، وبه قال الأئمة الأربعة وأكثر السلف، لكن بشرط أن يكون الراوي عارفا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، وأن لا يزيد ولا ينقص فيه، ويساوي الأصل في الجلاء والخفاء وشرط
إمام الحرمين أن يقطع بالتساوي يعني فلو ظن ذلك لم يجز، لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم، وأخرى بالمتشابه وغير ذلك مما لله تعالى فيه من حكمة، فلا يجوز تغيرها عن موضعها.
الثاني: يجوز إن نسي اللفظ، لأنه قد تحمل اللفظ والمعنى وعجز عن أحدهما، فيلزمه أداء الآخر، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام، فإن كان يحفظ اللفظ لم يجز أن يؤديه بغيره، لأن في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في غيره، وهذا قول الماوردي في (الحاوي) لنفسه، وجعل محل الخلاف في الصحابي وأما غير الصحابي فلا يجوز له قطعا.
الثالث: إن كان يوجب العلم من ألفاظ (151أ) الحديث، فالمعول فيه على المعنى، ولا يجب مراعاة اللفظ، وأما الذي يجب العمل به منها، فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله:((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) و ((خمس يقتلن في الحل والحرام)) حكاه ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا.
والرابع: يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره، وعليه الخطيب البغدادي.
والخامس: المنع مطلقا، سواء كان عارفا بدلالة الألفاظ أم لا، وهو مذهب ابن سيرين واختاره ثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية ورواه ابن السمعاني عن ابن عمر.
(ص) مسألة: الصحيح يحتج بقول الصحابي: قال صلى الله عليه وسلم.
(ش) أي حملا على سماعه منه، لأن الظاهر من حال الصحابي: أنه لا يجزم بذلك إلا فيما سمعه وحكى الآمدي وابن الحاجب عن القاضي أنه متردد بين أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فينبني على عدالة جميع الصحابة، من يقول بعدالتهم فحكمه حكم ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يقل بها فكالمرسل وهذا هو مقابل الصحيح في كلام المصنف لكنه زعم في (شرح المختصر)، أنه لا خلاف في ذلك، وأن حكاية ابن الحاجب والآمدي عن القاضي أبي بكر وهم.
وكذا قال الهندي في (النهاية) في كلامه على المرسل، فأما الصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقبول لا يتجه فيه خلاف، لظهوره في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم وبتقدير روايته عن الصحابي فغير قادح لثبوت عدالتهم، وأما احتمال روايته عن تابعي
فنادر، قلت: لكن القاضي في (التقريب) لما ذكر المرسل واختار رده - قال: وكذلك مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي، وهو مذهب الأستاذ أبو إسحاق وأغرب ابن برهان في (الأوسط) فقال: إنه الأصح، ويتحصل من كلامهم خلاف في سبب المنع، وإن كان الكل عدولا، هل هو احتمال روايته عن تابعي أو عن صحابي قام به مانع كسارق رداء صفوان ونحوه، وقال ابن الأثير: ظاهره النقل وليس نصا صريحا فيه إذ يقول الواحد منا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه.
(ص) وكذا عن وإن على الأصح.
(ش) لظهوره في السماع، وصححه البيضاوي والهندي، وليس مقابل الأصح المنع، بل التوقف، كما يقتضيه كلام (المحصول) وأما الخلاف في (إن) فإنما ذكره المحدثون بالنسبة إلى غير الصحابي، قال ابن عبد البر: ذهب أبو بكر البرديجي أن حرف (إن) محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى قال: والجمهور على أن (عن) و (إن) سواء إذا ثبت السماع واللقي. انتهى.
نعم، لا تبعد التسوية بين (عن) و (إن) في إجراء الخلاف بالنسبة للصحابي أيضا، ثم رأيت الهندي صرح به في (عن)، فقال: منهم من ذهب إلى أنه ظاهر في
أنه أخبره به إنسان آخر عنه عليه الصلاة والسلام وهو ساقط كما سبق في المرسل.
(ص) وكذا: سمعته أمر ونهى.
(ش) أي على الأصح لأنه وإن اختلف في صيغ الأمر والنهي، وأن الأمر نهي عن أضداده إلى غير ذلك - فالظاهر منه مع معرفته باللغة وعدالته أنه لا يطلق ذلك إلا عند تحققه، وحكى القاضي في (التقريب) عن بعض أهل العلم: أنه ليس بحجة، لاحتمال أن يظن ما ليس بأمر أمرا.
(ص) أو أمرنا.
(ش) أمر بصيغة البناء للمفعول، لانصرافه إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة، وعن الصيرفي والكرخي أنه متردد بين أمره كل الأمة، أو بعض الولاة.
(ص) أو حرم وكذا: رخص، في الأظهر.
(ش) لأن ذلك وإن احتمل أن مسنده استنباط أو قياس، لكونه من الشرع فيضيفه إليه صلى الله عليه وسلم (151ب) لكنه ضعيف وفي حكاية المصنف الخلاف نظر، فقد قال الشيخ أبو إسحاق في (التبصرة): إذا قال صحابي: أرخص لنا بكذا - يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف.
(ص) والأكثر يحتج بقوله: من السنة.
(ش) حملا له على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المتبادر عند الإطلاق، وهذا ما
عليه الإمام والآمدي، والمتأخرون، ويؤيده قول الشافعي في (الأم) في باب عدد الكفن: ابن عباس والضحاك ابن قيس صحابيان، لا يقولان السنة، إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه الصيرفي والكرخي والمحققون كما نقله الإمام في (البرهان) لاحتمال أن يريد به غير سنة الرسول ويشهد له قول الصيدلاني في أسنان إبل الخطأ: أن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه لأنهم قد يطلقونه ويريدون به سنة البلد.
فإن قلت: يخرج من هذا، أن هذا لا يختص بالصحابي، ولهذا ذكر الشافعي قول سعيد بن المسيب في إعسار الرجل بالنفقة، يفرق بينهما، فقيل له: سنة؟ فقال: (نعم) قال الشافعي: فيشبهه أن يريد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: مراده أنه يصير مرسلا، وحينئذ فلا يحتج به إلا مع الاعتضاد بما سبق، بخلاف ما إذا كان قائله صحابيا فإنه لا إرسال فيه.
(ص) فكنا معاشر الناس، أو كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم
(ش) لأن الظاهر من حال الصحابي قصد تعليم الشرع، وحكاه الهندى عن الأكثرين، وقال المصنف: لا يتجه أن يكون فيه خلاف، لتصريحه بنقل الإجماع المعتضد بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
(ص) فكنا نفعل في عهده، فكان الناس يفعلون فكانوا لا يقطعون في الشيء التافه.
(ش) هذه ثلاث صيغ متفاوتة، وهي دون ما قبلها، فلهذا أتى بالفاء:
أولها: أن لا يصرح بجميع الناس، وهو دون ما قبلها، لأن الضمير في كنا، يحتمل طائفة مخصوصة، وحكى ابن الصلاح عن أبي بكر الإسماعيلي إنكار كونه من المرفوع أما إذا قال: كنا نفعل ولم يضفه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فموقوف بلا خلاف.
ثانيها: أن لا يصرح بعهده صلى الله عليه وسلم وهي دون ما قبلها من جهة عدم التصريح بالعهد، لكنها فوقها، من جهة تصريحه بجميع الناس فيحتمل تساويها، والأظهر رجحان تلك، لأن التقييد بالعهد ظاهر في التقرير وهو تشريع.
ثالثهما: نحو قول عائشة رضي الله عنها: (كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه)، وهي دون الكل، ولهذا أخرها لعدم التصريح بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما يعود عليه الضمير في قوله: كانوا.
(ص) خاتمة: مسند غير الصحابي: قراءة الشيخ إملاء وتحديثا، فقراءته عليه، فسماعه.
(ش) إذا كان الراوي غير صحابي: فمراتب روايته عشر: أعلاها: أن يسمع قراءة الشيخ إملاء وتحديثا من غير إملاء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم أصحابه السنن ويقرأ عليهم القرآن، وسواء كان سماعه من حفظه أو من كتاب.
ثانيها: قراءته على الشيخ، والشيخ ساكت يسمع اقتداء بالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: سألت أهل العلم فأخبروني أنه على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإن على امرأة هذا الرجم، فصدق عليه السلام قوله هذا، وأقره عليه، وكان الناس يسألون الصحابة رضي الله عنهم الأحكام، فيقرون الحق وينكرون الباطل، وشرط إمام الحرمين في صحة التحمل بها أن يكون بحيث لو فرض من القارئ تحريف (152أ) أو تصريف لرده الشيخ، وسموها عرضا، من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه، ويقول له بعد الفراغ: هل سمعت؟ فيقول الشيخ: نعم، وما صرح به المصنف إنها دون السماع وهو الأصح، وقيل: مثله، وقيل: فوقه، وذكره صاحب (البديع): أن الأول قول المحدثين، وأن التسوية هو المختار، وخص الخلاف بما إذا قرأ الشيخ من كتاب، لأنه قد يسهو فلا فرق بينه وبين القراءة عليه، أما إذا قرأ الشيخ من حفظه فهو أعلاها بالاتفاق.
ثالثها: سماعه بقراءة غيره، وهي المرتبة الثالثة وشرط قوم إقرار الشيخ بها نطقا.
(ص) فالمناولة مع الإجازة، فالإجازة بخاص في خاص، فخاص في عام، فعام في خاص فعام في عام، فلفلان ومن يوجد ومن سيوجد من نسله، فالمناولة فالإعلام فالوصية، فالوجادة.
(ش) الرتبة الرابعة: المناولة مع الإجازة، بأن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به، فيقول: هذا سماعي لروايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني، وإنما قال: مع الإجازة، لينبه على أنها أعلى أنواع الإجازة، وأجمعوا على صحتها كما قال القاضي عياض في (الإلماع) وإنما اختلفوا في أنها في رتبة
السماع أم لا كما حكاه ابن الصلاح، وصحح أنها منحطة عنه، وحكاه الحاكم عن الشافعي، وصاحبيه المزني والبويطي، ولهذا أتى المصنف بعدها بالفاء لينبه على التراخي في الرتبة، وقال ابن خزيمة: هي في مرتبة السماع. حكاه عنه الخطيب: وفائدة هذا الخلاف تظهر في أنه هل يجوز له أن يقتصر على قوله: أخبرني أو حدثني، قال الهندي: والأظهر أنه لا يجوز، لأنه يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب.
الخامسة: الإجازة المجردة عن المناولة، وهي أقسام: أعلاها: أن يجيز لخاص في خاص بأن يقول: أجزت لك الكتاب الفلاني، ثانيها: أن يجيز لخاص في عام مثل: أجزت لك أو أجزت لكم جميع مسموعاتي، والخلاف في هذا النوع أقوى من الذي قبله والجمهور على تجويزه، ثالثها: أن يجيز لعام في خاص، مثل: أجزت للمسلمين أو أجزت، لمن أدرك حياتي رواية البخاري عني، فمنعه جماعة، وجوزه
الخطيب وغيره.
رابعها: أن يجيز لعام في عام مثل: أجزت لجميع المسلمين أن يرووا عني جميع مسموعاتي.
المرتبة السادسة: الإجازة للمعدوم تبعا، نحو: أجزت لفلان ومن يوجد من نسله، وقد فعله أبو بكر بن أبي داود، فقال: أجزت لك ولولدك ولحبل الحبلة
أما لو ذكر المعدوم ابتداء فقال: أجزت لمن يولد لفلان، فالصحيح المنع.
السابعة: المناولة المجردة بأن يناوله الكتاب ويقول: هذا من حديثي أو سماعي ولا يقول: اروه عني فكلام المصنف يفهم صحة التحمل بها، وإنها دون ما قبلها وليس كذلك، بل لها صورتان:
إحداهما: أن يقتصر على المناولة بالفعل، أو يقول: خذ هذا الكتاب ولا يخبر بسماعه ولا يأذن له في روايته عنه فلا يجوز له عنه الرواية بالاتفاق كما قاله الهندي.
الثانية: أن يقول مع ذلك: هذا من سماعي ولا يأذن له في روايته، قال ابن الصلاح: وهي مناولة مختلة لا تجوز الراوية بها عند الجمهور وحكى الخطيب عن قوم جوازها.
الثامنة: الإعلام المجرد عن المناولة والإجازة، بأن يقول: هذا سماعي من فلان، وهذا أولى بالمنع من التي قبلها، فليس له أن يرويه عنه خلافا لابن جريج وطائفة
من المحدثين والظاهرية حتى قالوا: لو قال: ولا تروه عني رواه، لأن ذلك الكتاب قد يكون مسموعه ولا يأذن له في روايته (152ب) لخلل علمه منه فلا تجوز روايته.
التاسعة: الوصية بالكتب بأن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص، فعن بعض السلف أنه جوز به رواية الموصى له بذلك عن الموصي قال ابن الصلاح: وهو بعيد جدا وأنكره عليه ابن أبي الدم، وقال: الوصية أرفع مرتبة من الوجادة بلا خلاف وهي معمول بها عند الشافعي وغيره، كما سيأتي فهذه أولى.
العاشرة: الوجادة، وهي مصدر مؤكد ليس عن العرب بأن يجد الحديث
بخط رجل فيقول: وجدت بخط فلان أو قرأت بخطه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وهي معمول بها عند الشافعي ونظار أصحابه خلافا لمعظم المحدثين والفقهاء إذ قد يغلب على الظن، بل يقرب من القطع صحة ذلك عن المروي عنه وإلا لانسد باب النقل.
(ص) ومنع الحربي وأبو الشيخ والقاضي والحسين والماوردي الإجازة وقوم العامة منها والقاضي أبو الطيب، من يوجد من نسل زيد، وهو الصحيح، والإجماع على منع من يوجد مطلقا.
(ش) الجمهور على الرواية والعمل بالإجازة، ومعناه إذا صح عنده أن مجيزه روى هذا بطريق صحيح فيرويه هو عنه، يقتضي الإجازة فيتصل السند، وإذا اتصل جاز العمل، وحكى الباجي فيه الاتفاق ولكن منع منها طائفة من المحدثين، منهم
الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني وإبراهيم بن إسحاق الحربي وكذلك شعبة وأبو زرعة الرازي، وقال: ما رأيت أحدا يفعله ولو تساهلنا لذهب العلم، ولم يكن للطلب معنى، ومن الفقهاء: القاضيان الحسين والماوردي وقالا: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، وهذا الاحتجاج قاله قبلهما شعبة فيما حكاه
الخطيب بل هو قول الشافعي رواه الربيع عنه، ونقل ابن وهب عن مالك قال: لا أرى هذا يجوز ولا يعجبني ونقله في (الإحكام) عن أبي حنيفة وقال أبو طاهر الدباس من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني، فكأنه يقول له: أجزت لك أن تكذب علي، إذ الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع، وقال ابن حزم إنها بدعة غير جائزة وفي المسألة مذهب ثالث: إن كان المجيز والمستجاز يعلمان ما في الكتاب
من الأحاديث جاز وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية ونقل عن مالك، فعلى هذا الإجازة بكل ما يثبت أنه مسموع الشيخ لا يجوز، ضرورة، أنهما لا يعلمان جميع تلك الأحاديث، وقال في (البديع): المختار إن كان المجيز عالما بما في الكتاب والمجاز له فهما ضابطا جازت الرواية وإلا بطلت عند أبي حنفية ومحمد وصحت عند أبي يوسف تخريجا من كتاب القاضي إلى مثله، فإن علم ما فيه شرط عندهما لا عنده والأحوط ما قالاه صونا للسنة وحفظا لها واحتج ابن الصلاح للجواز بأنه إذا جاز له أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره بها تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراءة على الشيخ.
ومنع قوم الإجازة العامة، كأجزت لجميع المسلمين ومنع القاضي أبو الطيب الإجازة للمعدوم ابتداء، كأجزت من يوجد من نسل زيد وهو الصحيح، لأن الإجازة في حكم الأخبار بالمجاز جملة، فكما لا يصح الإخبار
للمعدوم لا يصح إجازته، وجوزها الخطيب وغيره وانعقد الإجماع على الإجازة للمعدوم مطلقا، أي: على العموم وكأنها إجازة من معدوم لمعدوم.
تنبيه: ما حكاه المصنف عن إبراهيم الحربي تابع فيه ابن الصلاح وكذا حكاه عنه الخطيب، ثم روى في موضع آخر عن سليمان بن إسحاق الجلاب، قال: سألت إبراهيم الحربي قلت: سمعت كتاب الكلبي، وقد تقطع علي والذي هو عنده يريد الخروج، فكيف ترى لي ترى أستجيزه أو أسأله أن يكتب به إلي؟ قال: قل له يكتب به إليك، فتقول: كتب إلي فلان والإجازة ليست هي شيئا. قال الخطيب: قد ذكرنا فيما تقدم أن إبراهيم الحربي كان لا يعد الإجازة والمناولة شيئا وههنا قد اختار المكاتبة على إجازة المشافهة والمناولة أرفع من المكاتبة لأن المناولة إذن ومشافهة في رواية لمعين، والمكاتبة مراسلة بذلك، قال: فأحسب أن إبراهيم رجع عن القول الذي أسلفناه عنه إلى ما ذكره ههنا من تصحيح المكاتبة وأما اختياره لها على إجازة المشافهة فإنه قصد بذلك، إذا لم يكن للمستجيز بما استجازه نسخة منقولة من أصل المجيز ولا مقابلة به (وهذا القول في معنى ما ذكره لي البرقاني عند سؤالي إياه عن الإجازة المطلقة، ويروى أن إبراهيم ذهب إلى أن
الإجازة لمن لم يكن له نسخة منقولة من الأصل أو مقابلة به ليست شيئا لأن تصحيح ذلك سماعا للراوي ومقابلا بأصل كتابه، وربما كان في غير البلد الذي الطالب فيه متعذر إلا بعد المشقة، والمكاتبة بما يروي وإنفاذه إلى الطالب أقرب إلى السلامة وأجدر بالصحة.
(ص): وألفاظ الرواية من صناعة المحدثين.
(ش): أي: ألفاظ الراوي عند الأداء إذ الحمل بالطريق السابقة من صناعة المحدثين، فلا وجه لذكرها هنا، خوفا من خلط العوام. اهـ ما أردته والحمد لله أولا وآخرا.
لقد تم بحمد الله تعالى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله
الفصل السادس
في المصالح المرسلة