المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«لا أدري: نصف العلم» - تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌«لا أدري: نصف العلم»

وروى ابن عبد البر أيضا من طريق الإمام أحمد؛ قال: حدثني محمد بن إدريس الشافعي؛ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: سمعت ابن عجلان يقول: «إذا أغفل العالم: لا أدري؛ أصيبت مقاتله» .

قال ابن عبد البر: «وقال أبو الدرداء: قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم: نصف العلم» .

وذكر ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن الشعبي: أنه قال: ‌

«لا أدري: نصف العلم»

.

قال: وبإسناد حسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قال: «من علم الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم؛ لأن الله عز وجل قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {قُلْ ما أسْألُكُمْ عَلَيْه مِنْ أجْر ومَا أنا مِنَ المُتَكَلِّفينَ} .

قال: وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري» .

قال: وقال أحمد في رواية المروذي: «ليس كل شيء ينبغي أن يُتكَلَّم فيه، وذكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُسأل؟ فيقول: «لا أدري، حتى أسأل جبريل» ».

قال: وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: «كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق، ويقول: مَن يحسن ذا؟ مَن يحس ذا؟» .

وقال في رواية أبي الحارث: «وددت أنه لا يسألني أحدٌ عن مسألة، وما شيء أشدّ عليَّ من أن أسأل عن هذه المسائل، البلاء يخرجه الرجل عن عُنُقه ويقلِّدك، وخاصة مسائل الطلاق والفروج» .

ص: 17

وقال سفيان: «من فتنة الرجل إذا كان فقيها أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت» .

وقال المروذي: «قلت لأبي عبد الله: إن العالم يظنُّونه عنده علم كل شيء فقال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون» ، وأنكر أبو عبد الله على من يتهجَّم في المسائل والجوابات.

وسمعت أبا عبد الله يقول: «ليتَّقِ الله عبدٌ ولينظر ما يقول وما يتكلَّم به؛ فإنه مسؤول» .

وقال: «مَن أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدِّد عليهم» .

وقال في رواية ابن القاسم: «إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البيِّن الذي لا شكَّ فيه، وليت الناس إذا أمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه» .

ونقل محمد بن أبي طاهر عنه: أنه سُئل عن مسألة في الطلاق؟ فقال: «سل غيري، ليس لي أفتي في الطلاق بشيء» .

وقال في رواية ابن منصور: «لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتى» .

وصحَّ عن مالك: أنه قال: «ذلّ وإهانة للعلم أن تجيب كل مَن سألك» .

وقال أيضا: «كل مَن أخبر الناس بكل ما يسمع فهو مجنون» .

وقال أحمد في رواية أحمد بن علي الأبَّار: وقال له رجل: حلفتُ بيمين لا أدري إيش هي؟ قال: «ليت أنك إذا دريت دِريتُ أنا» .

ص: 18

وقال في رواية الأثرم: «إذا هاب الرجل شيئاً؛ فلا ينبغي أن يُحمل على أن يقول» .

وقال في رواية المروذي: «إن الذي يفتي الناس يتقلَّد أمراً عظيماً، أو قال: يقدم على أمر عظيم، ينبغي لمَن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدَّم، وإلا؛ فلا يفتي» .

وقال في رواية الميموني: «مَن تكلَّم في شيء ليس له فيه إمام؛ أخافُ عليه الخطأ» .

وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» ؛ ما معناه؟ قال أبو عبد الله: «يفتي بما لم يسمع» .

وقال محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبد الله وسُئل عن الرجل يفتي بغير علم؟ قال: «يروى عن أبي موسى؛ قال: يمرق من دينه» .

وقال ابن مفلح: قال الزهري عن خالد بن أسلم أخي زيد بن أسلم؛ قال: «كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما، فسأله أعرابي: أترث العمة؟ فقال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟! قال: نعم؛ اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما أدبر الرجل قبَّل ابن عمر يده، فقال: نِعِمَّا قال أبو عبد الرحمن، سُئل عمَّا لا يدري؟ فقال: لا أدري» .

وقال أبو حصين عثمان بم عاصم: «إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر؛ لجمع لها أهل بدر» .

وقال القاسم وابن سيرين: «لأن يموت الرجل جاهلاً خير له من أن يقول ما لا يعلم» .

ص: 19

وقال مالك عن القاسم بن محمد: «إن من إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه» .

وقال عبد الرزاق: عن معمر؛ قال: «سأل رجل عمرو بن دينار عن مسألة؟ فلم يجبه، فقال الرجل: إن في نفسي منها شيئا؛ فأجبني، فقال: إن يكن في نفسك منها مثل أبي قبيس أحب إليًّ أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة» .

وقال ابن مهدي: «سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة؟ فطال ترداده إليه فيها، وألحَّ عليه، فقال: ما شاء الله يا هذا! إني لم أتكلَّم إلا فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه» .

وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: «العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخُرْق (1)، وكان يقُال: التأني في الله، والعجلة من الشيطان» .

قال ابن مفلح: وإن كان مَن يفتي يعلم من نفسه أنه ليس أهلا للفتوى؛ لفوات شرط، أو وجود مانع، ولا يعلم الناس ذلك منه؛ فإنه يحرم إفتاء الناس في هذه الحال بلا إشكال، فهو يسارع إلى ما يحرم، ولا سيَّما إن كان الحامل ذلك غرض الدنيا - وأما السلف؛ فكانوا يتركون ذلك خوفاً، ولعل غيره يكفيه، وقد يكون أدنى؛ لوجود من هو أولى منه.

قال ابن معين: «الذي يحدث بالبلدة وبها مَن هو أولى منه بالحديث فهو أحمق» .

وقال مالك: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك» .

(1) قال ابن الأثير في (النهاية) وابن منظور في (لسان العرب): (الخُرق بالضم: الجهل والحمق).

ص: 20

وقال ابن عيينة وسحنون: «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما» .

قال سحنون: «أشقى الناس من باع آخرته بدنيا غيره» .

وقال سفيان: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بدّاً من أن يفتوا» .

وقال: «أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم فيها» .

وبكى ربيعة، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «استفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم» .

وقال: «ولَبَعْضُ مَن يفتي ها هنا أحقُّ بالسجن من السرَّاق» .

وذكر الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» عن عبد العزيز بن أبي سلمة - يعني: الماجشون -؛ قال: «قلت لربيعة في مرضه الذي مات فيه: إنا قد تعلَّمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئا، فترى أن رأينا خير له من رأيه لنفسه فنفتيه؟ قال: فقال: أقعدوني. ثم قال: ويحك يا عبد العزيز! لأن تموت جاهلاً خير من أن تقول في شيء بغير علم، لا، لا «ثلاث مرات» .

فليتأمل المتسرعون إلى الفتيا بغير علم ما ذكرته في هذا الفصل والفصل الذي قبله من أقوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أكابر العلماء في التشديد في الفتيا بغير علم، ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر من الإثم على فتاويهم الخاطئة.

ولا يأنف العاقل أن يقول فيما لا يعلمه: لا أعلم هذا، أو يقول: لا

ص: 21

أدري؛ فقد تقدَّم عن أبي الدرداء والشعبي أن هذه الكلمة نصف العلم.

وللعاقل أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد تقدَّم أنه كان يُسأل عن الشيء؟ فلا يجيب حتى يأتيه الوحي، وتقدَّم أيضا أنه كان يُسأل؟ فيقول:«لا أدري حتى أسأل جبريل» .

وللعاقل أيضا أسوة بأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؛ فقد تقدَّم عنهم أنهم كانوا يتورَّعون عن الفتيا بغير علم.

وكذلك له أسوة بمن تقدم ذكرهم من الصحابة والتابعين الذين قد ثبت عنهم أنهم كانوا يمتنعون من الفتيا بغير علم، ولا يأنفون من قول: لا أعلم هذا، أو: لا أدري، ولا يرون بذلك بأسا ولا غضاضة عليهم.

ولقد أحسن الراجز حيث يقول:

وكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّباع مَن سَلَفْ

وكُلُّ شَرّ في ابْتداعِ مَنْ خَلَفْ

ص: 22

فصلٌ

وقد كان السلف الصالح يكرهون السؤال عمَّا لم يقع، ويمتنعون من الإفتاء فيه، وبعضهم يشدِّد في ذلك وينهى عنه، وقد جاء عنهم في ذلك آثار كثيرة؛ منها:

ما رواه الدارمي: «أن رجلاً جاء إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فسأله عن شيء؟ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: لا تسأل عمَّا لم يكن؛ فإني سمعتُ عمر بن الخطاب يلعن مَن سأل عمَّا لم يكن» .

وقد رواه ابن عبد البر من طريقين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: «لا تسألوا عمَّا لم يكن؛ فإني سمعتُ عمر يلعن مَن سأل عمَّا لم يكن» .

وروى ابن عبد البر أيضا عن طاووس؛ قال: قال عمر رضي الله عنه: «إَّنه لا يحلُّ لأحد أن يسأل عمَّا لم يكن، إن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن» .

وروى الدارمي وابن عبد البر عن طاووس؛ قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: «أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن؛ فإن الله قد بيَّن ما هو كائن» .

وروى الإمام أحمد من رواية ليث عن طاووس عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: «لا تسألوا عمَّا لم يكن؛ فإني سمعتُ عمر ينهى أن يسأل عمَّا لم يكن» .

وروى ابن عبد البر عن مسروق؛ قال: «سألت أبي بن كعب عن

ص: 23

مسألة؟ فقال: أكانت هذه بعدُ؟ قلت: لا، قال: فأجمنَّي (1) حتى تكون».

وروى الدارمي عن عامر - وهو الشعبي -؛ قال: «سُئل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه عن مسألة؟ فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى تكون، فإذا كانت؛ تجشَّمناها (2) لكم» .

وروي أيضاً عن الزهري؛ قال: «بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه كان يقول إذا سُئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان؛ حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا: لم يكن؛ قال: فذروه حتى يكون» .

وروى ابن عبد البر عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه: «أنه كان لا يقول برأيه في شيء يُسأل عنه حتى يقول: أنزل أم لا؟ فإن لم يكن نزل؛ لم يقل فيه، وإن يكن وقع؛ تكلَّم فيه» .

قال: «وكان إذا سُئل عن مسألة يقول: أوقَعَت؟ فيقال له: يا أبا سعيد! ما وقعت، ولكنَّا نُعِدُّها، فيقول: دعوها، فإن كانت وقعت؛ أخبرهم» .

وروى أيضا عن موسى بن علي عن أبيه؛ قال: «كان زيد بن ثابت إذا سأله إنسان عن شيء؛ قال: آلله؟ أكان هذه؟ فإن قال: نعم، نظر، وإلا؛ لم يتكلَّم» .

وروى أيضا عن عامر - وهو الشعبي -؛ قال: «أتى زيد بن ثابت قوم، فسألوه عن أشياء؟ فأخبرهم بها، فكتبوها، ثم قالوا: لو أخبرناه» ، قال: «فأتوه، فأخبروه، فقال: عذراً؛ لعل كل شيء حدثتكم به خطأ، إنما

(1) أي: ارحمني، قال في (لسان العرب):(الجَمام بالفتح: الراحة).

(2)

التجشم: التكلف، قال في (لسان العرب):(تجشمته: إذا تكلفته).

ص: 24

اجتهدت لكم رأيي».

وروى الدارمي عن عامر؛ قال: «استفتى رجل أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر! ما تقول في كذا وكذا؟ قال: يا بني! أكان الذي سألتني عنه؟ قال: لا، قال: أمَّا لا؛ فأجِّلني حتى يكون، فنعالج حتى نخبرك» .

وروى أيضا عن مسروق؛ قال: «كنت أمشي مع أبي بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عمَّاه كذا وكذا؟ قال: يا ابن أخي! أكان هذا؟ قال: لا، قال: فأعفنا حتى يكون» .

وروى أيضا عن عمرو بن ميمون عن أبيه عن ابن عباس؛ قال: «سألته عن رجل أدركه رمضانان؟ فقال: أكان أو لم يكن؟ قال: لم يكن بعدُ، قال: اترك بليَّة حتى تنزل، قال: فدلسنا له رجلا، فقال: قد كان، فقال: يطعم عن الأول منهما ثلاثين مسكينا لكل يوم مسكين» .

وروى أيضاً عن عبيد بن جريج؛ قال: «كنت أجلس بمكة إلى ابن عمر يوماً وإلى ابن عباس يوماً، فما يقول ابن عمر فيما يُسأل: لا علم لي: أكثر مما يفتي به» .

وروى أيضا عن الصلت بن راشد؛ قال: «سألت طاووساً عن مسألة؟ فقال: كان هذا، قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: آلله، ثم قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنه قال: يا أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم هنا وهنا؛ فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله؛ لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم مَن إذا سُئل سُدِّد، وإذا قال وُفِّق» .

وقد رواه ابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله» مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل؛ فإن طاووساً لم يدرك معاذ بن

ص: 25

جبل رضي الله عنه.

وروى ابن عبد البر أيضا عن زيد بن أبي حبيب: «أن عبد الملك بن مروان سأل ابن شهاب عن شيء؟ فقال له ابن شهاب: أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فدعه؛ فإنه إذا كان؛ أتى الله بفرج» .

وروى الحاكم في «تاريخه» عن عكرمة؛ قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: «انطلق؛ فأفت الناس، فمن سألك عمَّا يعنيه؟ فأفته، ومَن سألك عمَّا لا يعنيه؛ فلا تفته؛ فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس» .

وقد ذكر ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن الشافعي أنه احتجَّ على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقول الله تعالى: {يا أَيُّها الَّذين اَمنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

} الآية، وبما جاء في حديث اللعان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، وبما في «الصحيحين» عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .

قال: وقال البيهقي في كتاب «المدخل» : «كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة» انتهى.

وروى ابن عبد البر عن عمر رضي الله عنه: أنه كان يقول: «إياكم وهذه العضل؛ فإنها إذا نزلت؛ بعث الله لها من يقيمها ويفسرها» .

قلت: ما ذكر في هذا الفصل من كراهة السؤال عمَّا لم يقع، والنهي عنه، والتشديد فيه، قد خالفه بعض طلاب العلم في زماننا، فتجد أحدهم يجمع المسائل الكثيرة من غرائب المسائل وصعابها، ومن الأشياء التي لم

ص: 26

تقع، ثم يدور بها على العلماء والمنتسبين إلى العلم ليستزلهم ويأخذ بزلاتهم فيها.

وهؤلاء قد ارتكبوا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة السؤال، وما نهى عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وشدَّد فيه، من السؤال عما لم يكن.

وينبغي للعلماء أن يحذروا من هؤلاء المتعمِّقين، ولا يسترسلوا معهم في الإجابة عن الأشياء التي لم تقع.

وقد قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: «لا ينبغي أن يُجيب في كل ما يستفتى» .

ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» ؛ قال: «وصح عن مالك أنه قال: ذل وإهانة للعلم أن تجيب كل من سألك» .

وذَكَر عن الحسن البصري أنه قال: «شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يُعَمُّونَ بها عباد الله» .

وقال مالك: «قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، قال: اخبأها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها» .

وقال مالك: «العلم والحكمة نور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل» .

ص: 27

فصلٌ

ومن هذا الباب السؤال عن الأغلوطات، وهي شداد المسائل وصعابها، وهذا مما يفعله بعض الناس في زماننا.

وقد ورد النهي عن ذلك؛ كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلوطات» .

قال الأوزاعي: ««الغلوطات» : شداد المسائل وصعابها».

وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود من طريق الأوزاعي عن عبد الله ابن سعد عن الصنابحي عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن الغلوطات» .

ورواه ابن عبد البر، ولفظه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الأغلوطات» .

وفي رواية له عن معاوية رضي الله عنه: أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال:«أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل؟» .

قال الخطابي في «معالم السنن» : «المعنى: أنه نهى أن يُعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا ويستسقط رأيهم فيها، وفيه كراهة التعمُّق والتكلُّف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة، ووجوب التوقُّف عما لا علم للمسؤول به، وقد روينا عن أبي بن كعب: أن رجلاً سأله عن مسألة فيها غُموض، فقال: هل كان هذا بعدُ» . قال: لا، فقال:«أمهلني إلى أن يكون» ، وسأل رجل مالك بن أنس عن رجل شرب في الصلاة ناسياً، فقال: ولَم لم يأكل؟! ثم قال: حدثنا الزهري عن علي ابن حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

ص: 28

انتهى.

وروى ابن عبد البر عن الأوزاعي: أنه قال: «إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم؛ ألقى على لسانه الأغاليط» .

قال ابن عبد البر: وروينا عن حسن: أنه قال: «إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عباد الله» .

وقد تقدَّم هذا فيما ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» .

ص: 29

فصلٌ

ومن أعظم الأمور خطراً: الإفتاء بالآراء المخالفة للكتاب والسنة، وهذا مما وقع فيه كثير من المنتسبين إلى العلم قديماً وحديثاً، وما أكثرهم في زماننا، كفانا الله وجميع المسلمين من شرهم ومن شر فتاويهم.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس فيما رواه: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْق عالماً؛ اتَّخَذَ الناسُ رؤساء جهالاً، فسُئلوا؟ فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا» .

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، وقد روى هذا الحديث الزهري عن عروة عن عبد الله بن عمرو، وعن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا» .

وقال البخاري في «كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة» من «صحيحه» : «باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلُّف القياس): «{وَلا تَقْفُ}: لا تقل، {مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمَ}» .

ثم روى عن عروة؛ قال: «حجَّ علينا عبد الله بن عمرو، فسمعته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهَّالٌ، يستفتون فيفتون برأيهم، فيَضلُّون ويُضلُّون» ، فحدثت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعدُ، فقالت: يا ابن أختي! انطلق إلى

ص: 30

عبد الله، فاستثبت لي منه الذي حدَّثتني عنه، فجئتُه، فسألتُه، فحدَّثني به كنحو ما حدَّثني، فأتيت عائشة، فأخبرتها، فعجبتْ فقالت: والله؛ لقد حفظ عبد الله بن عمرو»، وقد رواه مسلم بنحوه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما.

رواه الطبراني في «الأوسط» ، قال الهيثمي:«وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، وقد وُثِّق» .

قلت: يشهد لحديثه ما تقدَّم قبله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما.

رواه البزار، قال الهيثمي:«وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث» .

قلت: يشهد لحديثها ما تقدَّم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: «لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شر من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميرا خيراً من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خَلَفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويُثْلم» .

رواه: الدارمي، وابن وضاح، وابن عبد البر.

ص: 31

فصلٌ

وقد كان السلف الصالح يعتمدون في القضاء والإفتاء على ما جاء في القرآن، وإذا لم يجدوا الحكم في القرآن؛ رجعوا إلى السنة، وإذا لم يجدوه في السنة، اجتهدوا آراءهم، وقد جاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم:

فأما الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن؛ قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» . قال: أقضي بكتاب الله، قال:«فإن لم تجد في كتاب الله؟» ، قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«فإن لم تجد في سنة رسول الله؟» ، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، وقال:«الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» .

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم.

وأما الآثار المرويَّة عن الصحابة رضي الله عنهم:

فالأول منها ما رواه الدارمي عن ميمون بن مهران؛ قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم؛ نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة؛ قضى بها، فإن أعياه؛ خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا؛ فهل علمتُم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو

ص: 32

بكر رضي الله عنه: الحمد لله الذي جعل فينا مَن يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جمع رؤوس الناس وخيارهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر؛ قضى به».

وقد رواه البيهقي بنحوه، وزاد: قال جعفر «يعني: ابن برقان» : وحدثني ميمون: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة؛ نظر: هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء؛ قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم».

الثاني من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم: ما رواه الدارمي عن الشعبي عن شريح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه: «إن جاءك شيء في كتاب الله؛ فاقض به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله؛ فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس؛ فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلَّم فيه أحدٌ قبلك؛ فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن، شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك» .

ورواه: النسائي، والبيهقي؛ بنحوه.

الثالث: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: «إذا سُئلْتُم عن شيء؛ فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله؛ ففي سنة

ص: 33

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما اجتمع عليه المسلمون؛ فاجتهد رأيك، ولا تقل: إني أخاف وأخشى؛ فإن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

رواه: الدارمي، والنسائي، والحاكم، والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي.

الرابع: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنه قال لمسلمة بن مخلد: «اقض بكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله؛ ففي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فادع أهل الرأي، ثم اجتهد» . رواه البيهقي.

الخامس: عن عبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «إذا سُئل عن شيء هو في كتاب الله؛ قال به، وإذا لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال به، وإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله أبوبكر وعمر رضي الله عنهما؛ قال به، وإلا؛ اجتهد رأيه» .

رواه: الدارمي، والبيهقي، وهذا لفظه.

السادس: عن أبي الشعثاء - واسمه جابر بن زيد -: أن ابن عمر رضي الله عنهما لقيه في الطواف، فقال:«يا أبا الشعثاء! إنك من فقهاء البصرة؛ فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلتَ غير ذلك؛ هلكت وأهلكت» . رواه الدارمي.

ص: 34

وروى الدارمي أيضا عن أبي نضرة:؛ قال: لما قدم أبو سلمة البصرة؛ أتيته أنا والحسن، فقال للحسن:«أنت الحسن؟ ما كان أحدٌ بالبصرة أحبّ إليَّ لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك؛ فلا تفت برأيك؛ إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل» .

وروى الدارمي أيضا عن معتمر عن أبيه؛ قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أما تخافون أن تعذَّبوا أو يخسف بكم أن تقولوا قال رسول الله وقال فلان؟!» .

وروى الدارمي أيضا عن الأوزاعي؛ قال: «كتب عمر بن عبد العزيز: إنه لا رأي لأحد في كتاب، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأي لأحد في سنة سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وروى الدارمي أيضاً عن عبيد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال: «يا أيها الناس! إن الله لم يبعث بعد نبيَّكم نبيّاً، ولم ينزل بعد الكتاب الذي أنزله عليه كتاباً، فما أحلً الله على لسان نبيه؛ فهو حلالٌ إلى يوم القيامة، وما حرَّم على لسان نبيه؛ فهو حرامٌ إلى يوم القيامة، ألا وإنه ليس لأحد من خلق الله أن يُطاع في معصية الله» .

وقد دلَّ حديث معاذ بن جبل الذي تقدَّم ذكره في أول الفصل وما ذكر بعده من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم على أنه لا يسوغ الاجتهاد والعمل بالرأي مع وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

وهذا ممَّا خالف فيه كثيرٌ من المتسرِّعين إلى الفتيا في زماننا، فتجدهم لا يبالون أن يفتوا بآرائهم ونظرياتهم مع وجود ما يخالفها من أدلة

ص: 35

الكتاب أو السنة أو الإجماع.

ومن كانوا بهذه المثابة؛ فلا شكَّ أنهم قد تعرَّضوا لخطر عظيم، وهو حمل أوزار الذين يعملون بفتاويهم وأخطائهم وأقوالهم الباطلة، والدليل على هذا:

قول الله تعالى: {لِيَحْمِلوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوُمَ القِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أفتى بفتيا غير ثَبَت؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه» ، وقد ذكرتُ هذا الحديث في أول الكتاب؛ فليراجع (1).

ودلَّ حديث معاذ بمفهومه على أن من أفتى برأيه مع وجود ما يخالف ذلك من الكتاب أو السنة؛ فقد عمل بما يسخط الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمل بما يسخط الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا شكَّ أنَّه قد تعرَّض لسخط الله تعالى؛ لأن الله تعالى يقول:

{مَنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ ومَن تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهمْ حَفيظاً} .

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «مَن أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومَن عصاني؛ فقد عصى الله» .

رواه: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فليحذر العاقل من التعرُّض لما يسخط الله تعالى ويسخط رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن التعرُّض لحمل أوزار الناس وآثامهم.

(1) انظر (ص: 6).

ص: 36