الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصلٌ
ليعلم المفتي أن
الفتوى تتضمَّن القول على الله والتوقيع عنه
.
وقد وصف ابن القيم المفتين بصفة الموقِّعين عن الله تعالى في كتابه الذي سماه «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ، وذكر في أول الكتاب أن أول مَن قام بمنصب التوقيع عن الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يفتي بما أوحاه الله إليه، ثم قام بالفتوى بعده أصحابه رضي الله عنهم.
وقد ذكر ابن القيم عدداً كثيراً منهم ما بين مكثر منهم من الفتوى ومقلّ منها، ثم ذكر المفتين من التابعين ومَن بعدهم من أكابر العلماء والأئمة.
ثم ذكر أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا يكرهون التسرع في الفتوى، ويودُّ كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه؛ بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين، ثم أفتى.
وذكر أيضاً أقوال الصحابة والتابعين في التحذير من الفتيا بغير علم إلى أن قال: «وقد حرَّم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها:
فرتَّب المحرَّمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه، وهو الإثم والظلم، ثمَّ ثلَّثَ بما هو أعظم تحريماً منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك
كله، وهو القول عليه بغير علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
فتقدَّم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحزمه: هذا حرام، ولما لم يحلَّه: هذا حلال، وهذا بيانٌ منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلالٌ وهدا حرامٌ؛ إلا بما علم أن الله سبحانه أحلَّه وحرَّمه.
وقال بعض السلف: ليتَّق أحدُكم أن يقول: أحلَّ الله كذا، وحرَّم كذا، فيقول الله له: كذبتَ لم أحل كذا، ولم أحرم كذا.
فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحلَّه الله وحرَّمه الله؛ لمجرد التقليد أو بالتأويل.
وقال ابن وهب: سمعتُ مالكاً يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسناً، وينبغي هذا، ولا نرى هذا.
ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد:«ولا يقولون: حلالٌ، ولا حرام، أما سمعتَ قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}، الحلال ما أحلَّه الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسله» انتهى.
وقد ذكر ابن عبد البر قول مالك في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» ، ثم قال:«معنى هذا: أن ما أخذ من العلم رأيا واستحساناً؛ لم نقل فيه حلال ولا حرام» .
وروى ابن عبد البر عن عطاء بن السائب؛ قال: قال الربيع بن خثيم: «إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن الله حرَّم هذا أو نهى عنه، فيقول الله: كذبت؛ لم أحرمه ولم أنهَ عنه، أو يقول: إن الله أحلَّ هذا وأمر به، فيقول: كذبت؛ لم أحلَّه ولم آمر به» .
فصلٌ
في ذكر نماذج من زلات أهل زماننا وأخطائهم في الفتاوى.
فمن ذلك الفتيا بحل الربا، وعدم المبالاة بما يترتَّب على ذلك من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وعدم المبالاة بما جاء من الوعيد الشديد للمرابين ولعنهم وإيذانهم بالحرب من الله ورسوله.
ولو كان للمفتين بحلّ الربا أدنى شيء من العقل السليم؛ لما أقدموا على تحليل الربا، وتعرَّضوا للعظائم التي تترتَّب على تحليله.
وإنه لينطبق عليهم ما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال «حبُّك الشيء يعمي ويصمُّ» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود.
وينطبق عليهم أيضا ما جاء في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ ممَّا أدرك الناس من كلام النبوَّة الأولى: إذا لم تستح؛ فاصنع ما شئت» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، وابن ماجه.
ومعنى الحديث على أحد الأقوال: أن من لا يمنعه الحياء يقول ويفعل ما يشاء من مساوئ الأقوال والأفعال، ولا يبالي بما يترتَّب على ذلك من الإثم والجرح في العدالة والنقص في الدين.
وينطبق عليهم أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتينَّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال: أمن حلال؟ أم من حرام؟» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والدارمي.
وينطبق عليهم أيضاً ما في حديث عبد الله بن عمرو الذي جاء فيه الإِخبار عن نزع العلم في آخر الزمان، وأنه يبقى ناسٌ جهَّال؛ يُسْتَفْتَوْن، فيفتون برأيهم، فيضلُّون ويُضلون.
وقد تقدَّم ذكر الحديث في أثناء الكتاب؛ فليراجع، وليراجع أيضا ما ذكر بعده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي جاء فيه أنه يجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويثلم.
وقد تصدَّى للردَّ على المفتين بحل الربا كثير من العلماء في زماننا، وكتبوا في ذلك رسائل وكتباً كثيرة، فجزاهم الله خير الجزاء، وضاعف لهم الثواب.
وقد كتبت في هذا الموضوع كتابا سمَّيته: «الصارم البتَّار للإجهاز على مَن خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار» ؛ فليراجعه المفتون بتحليل الربا، والمفتونون بأكله؛ ففيه إن شاء الله تعالى كفاية لطالب الحق.
وأما الذين لا يبالون باستحلال الربا ومعارضة الحق وردّه؛ فأولئك ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
وينبغي أن يُطبَّق عليهم قول ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: «يَا أيَّها الَّذين آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وذَروا ما بَقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ، فإنْ لَمْ تَفْعَلوا فأذَنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورسوله}؛ قال: «فمن كان مقيماً على
الربا لا ينزع عنه؛ فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا؛ ضربت عنه».
رواه ابن جرير.
وقال الحسن وابن سيرين: «والله؛ إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنَّهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل؛ لا ستتابهم، فإن تابوا، وإلا؛ وضع فيهم السلاح» .
رواه ابن أبي حاتم.
فهذا جزاء المرابين في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.
فليتأمَّل المفتون بتحليل الربا، والمفتونون بأكله، ما جاء في تحريمه والوعيد عليه من الآيات والأحاديث الكثيرة، ولا يستهينوا بشيء منها، ولا يغرَّنهم الشيطان وأعوان الشيطان بما يأتون به من الشبه والأباطيل والأضاليل والحيل لاستحلال الربا بتسميته فوائد وأرباحاً؛ فإن هذه الحيل لا تزيل عنه اسم الربا وحكمه.
وقد روى ابن بطة بإسناد جيّد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل» .
وقد عاقب الله اليهود الذين استحلُّوا المحارم بالحيل بأن مسخهم قردة وخنازير.
فليحذر الذين يستحلُّون الربا وغيره من المحرَّمات بالحيل أن يُصابوا بمثل ما أُصيب به اليهود من المسخ أو يُعاقبوا بغير ذلك من العقوبات الشديدة.
وليعلموا أن العقوبة على استحلال الربا ليست مختصَّة بالمستحلّين له، بل إنها قد تتعدَّى إلى غيرهم من أهل بلادهم؛ كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما ظهر في قوم الزنى والربا؛ إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» .
رواه أبو يعلى، قال المنذري والهيثمي:«إسناده جيد» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.
رواه الحاكم في «المستدرك» ، وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وليعلم المرابون أن لهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فرجاً ومخرجاً، فمَن اتَّقى الله تعالى وترك الربا طاعةً لله تعالى؛ فإنه يوشك أن ييسر الله له من الرزق الطيب ما يغنيه.
قال الله تعالى: {ومَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرجاً ويَرْزُقْهُ منْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .
قال ابن كثير: «أي: ومن يتَّق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه؛ يجعل له من أمره مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ أي: من جهة لا تخطر بباله» .
ثم ذكر ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليَّ هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرجاً ويَرْزُقْهُ
مَنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، حتى فرغ من الآية، ثم قال: يا أبا ذر! لو أن الناس كلهم أخذوا بها؛ لكفتهم».
وليعلم المرابون أيضا أنَّ من ترك شيئاً اتَّقاء الله؛ عوَّضه الله خيراً منه؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي قتادة وأبي الدهماء عن رجل من أهل البادية؛ قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يعلِّمني مما علَّمه الله تبارك وتعالى، وقال:«إنَّك لن تدعَ شيئاً اتَّقاء الله عز وجل؛ إلا أعطاك الله خيراً منه» .
قال الهيثمي: «رواه أحمد بأسانيد رجالها رجال الصحيح» .
فصلٌ
ومن أعظم الزلات وأشدها خطراً ونكاية في المسلمين فتوى بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا بجواز سفور النساء وخلعهن جلباب الحياء.
وهذه الزلَّة من أعظم هوادم الإسلام كما لا يخفى على ذوي الإيمان والعقول السليمة، وقد افتتن بها كثير من ضعفاء العقول والدين من الرجال والنساء في زماننا، وجعلها كثير من النساء ذريعة إلى التبرُّج ومخالطة الرجال الأجانب ومجالستهم ومحادثتهم والخلوة معهم في أماكن الريبة والسفر معهم بدون محرم.
وقد جاء في عدة أحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتنقضنَّ عُرى الإسلام عروة عروة» .
رواه: الإمام أحمد، وابنه عبد الله في كتاب «السنة» ، والطبراني؛ بأسانيد صحيحة.
وابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم في «مستدركه» ؛ من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث فيروز الديلمي رضي الله عنه، ورجاله ثقات.
ورواه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ومن عرى الإسلام التي قام بنقضها كثير من ضعفاء العقول والدين في زماننا وقبله بزمان قريب حجاب المرأة عن الرجال الأجانب، وقد تشبَّثوا في هذه الفتيا الجائرة بالشبه وتأويل الآيات والأحاديث على غير تأويلها، فضلُّوا وأضلُّوا، وفتحوا باب التبرُّج والسُّفور على مصراعيه، وجرَّؤوا النساء
على التهتك والأفعال الذميمة التي تقدَّم ذكرها، ولم يبالوا بما يترتَّب على هذه الضلالة من حمل الأوزار والآثام التي تفعلها النساء اللاتي يعتمدن على فتاويهم الباطلة.
وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلوا أوْزارَهُمْ كَامِلَة يَوْمَ القِيامَةِ ومِنْ أوْزارِ الَّذينَ يُضلُّونهّمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزرونَ} .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «مَن دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومَن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأهل «السنن» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
قال النووي: «سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقاً إليه» .
وقد تقدَّم في أول الكتاب حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «مَن أُفْتِي بفتيا غير ثَبَت؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه» .
وقد تصدَّى للردِّ على المبيحين للسفور كثيرٌ من العلماء في زماننا، وكتبوا في ذلك رسائل كثيرة، فجزاهم الله خير الجزاء، وضاعف لهم الثواب.
ومن أحسن ما رأيته من الردود على المبيحين للسفور والمفتين بجوازه ما جاء في التعليق على صفحتي 93 - 94 من الجزء السادس من «الكامل في التاريخ» ؛ فقد ذكر في هذا التعليق قصة عجيبة وقعت في حوادث سنة
ست وثمانين ومئتين للهجرة، وقد ذكرها ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة» ، وهي:
قال المعلقون على «الكامل في التاريخ» - وهم نخبة من العلماء -: «انظر أيها العاقل إلى حكم هذا القاضي العادل، كيف جعل منع الرجل زوجته من كشف وجهها أمام الأجانب وإقراره بالمبلغ المدَّعى عليه لذلك من مكارم الأخلاق، ولا شكَّ أن ستر وجه المرأة من الذكور فوق ذلك، وإنه ما حصل الفساد في زماننا هذا وعبث في العائلات الكرام وبيوت الأحرار إلا اختلاط النساء بالذكور، وبابه رفع الحجاب، فلو حجبت النساء عن الرجال لما جاء الاختلاط، ولامتنع الفساد والفجور من الرجال، والتبرُّج والتهتُّك من النساء.
وانظر إلى القاضي المسرف المتغالي بحب السفور كيف ألَّف رسائل ونشر مقالات ودعا العالم الإسلامي إلى الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية وعادات أسلافهم أصحاب الغيرة والحميَّة على حريمهم ونسائهم؛ فإن هذا القاضي المتشبِّع بروح أوروبة ابتدع بدعة ضلالة، وفتح
باب شر واسع لا يغلق، فعليه وزره ووزر من عمل بفساده إلى يوم القيامة».
انتهى كلام المعلِّقين على القصة العجيبة، ولقد أجادوا وأفادوا، جزاهم الله خير الجزاء وضاعف لهم الثواب.
وإن الفرق الشاسع جداً بين هؤلاء المتصفين بالغيرة على نساء المسلمين وبين بعض المنتسبين إلى العلم ممن استزلهم الشيطان وزين لهم القول بجواز السفور وكتابة الرسائل والمقالات في تزيين هذه الضلالة للجهال، وإنه لينطبق عليهم قول الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ومن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من أفتي بفتيا غير ثبت؛ فإنما إثمه على من أفتاه» ؛ فلا يأمن القائلون بجواز السفور والذين يكتبون الرسائل والمقالات في الدعوة إلى هذه الضلالة وتزيينها للجهال أن يكون لهم نصيب وافر مما جاء في هذين الحديثين ومما جاء في قول الله تعالى: {لِيَحْمِلوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيِامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يضِلُّونَهْم بِغَيْرِ عِلْمٍ ألا سَاءَ مَا يَزِرونَ} .
وقد كان باب السفور مغلقاً منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة، فابتدأ بفتحه سلطان الترك في أواخر القرن المذكور، وكتب بذلك إلى أهل الحرمين فردُّوا عليه وأجمعوا على خلافه.
وما زال الشيطان وأولياؤه من الزنادقة وأشباههم من الأدعياء علماً وإسلاماً يدعون إلى ما دعا إليه سلطان الترك من السفور وترك الحجاب، وينشرون المقالات والكتب في الدعوة إلى السفور وتحسينه عند الجهلة الأغبياء، حتى استجاب لهم الفئام بعد الفئام من الجهلة الطغام، الذين
هم أضل سبيلاً من الأنعام، وثبَّت الله آخرين من المسلمين، فما زالوا قوَّامين على نسائهم، آخذين على أيديهن، سالكين معهن منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فهؤلاء ما زالت نساؤهم يحتجبن عن الرجال الأجانب، ويستترن عنهم غاية الاستتار.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في «تفسير سورة النور» : أن سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز.
قال: «وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة مختمرة؛ ضربها، وقال أتتشبَّهين بالحرائر أي لكاع؟» .
وقد ذكر البغوي في «تفسيره» نحو هذا عن عمر رضي الله عنه.
وقال الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» : «لم تزل النساء يخرجن منتقبات» .
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ، والعيني في «عمدة القاري»: ما ملخصه: أن العمل استمرَّ على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهنَّ الرجال.
وحكى النووي في «الروضة» اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه.
وحكاه أيضاً ابن رسلان، ونقله عنه الشوكاني في «نيل الأوطار» .
وذكر ابن المنذر الإجماع على أن المحرمة تغطي رأسها وتستر شعرها وتسدل الثوب على وجهها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال الأجانب.
قلت: وهذا يقتضي أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر، بل أولى.
وفيما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه، وما ذكر غيره من أكابر العلماء الذين ذكرت أقوالهم بعد قوله: أبلغ ردّ على من أفتى بجواز سفور النساء، ولم يبال بمخالفة سنة المؤمنين التي استمر عليها العمل عندهم منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، ولم يبال أيضا بمخالفة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، ما أعظم الخطر في مخالفة سنة المسلمين وخرق إجماعهم؛ لأن الله تعالى يقول:{ومَنْ يُشاقِقِ الرَّسولُ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّم وساءَتْ مصيراً} .
وقد اعترف بعض عقلاء الإفرنج بما في سفور النساء واختلاطهن بالرجال الأجانب وخلوتهنَّ معهم من المضرَّة.
وذكر بعض العلماء عن بعض عظماء الإيطاليين أنه قال لبعض المسلمين: «أحب من دينكم أمرين: أحدهما: تحريم اختلاط الرجال بالنساء، والثاني: تحريم الربا.
قلت: وهذا يدل على أنه قد تقرَّر عند عظيم الألمان أن الدين الإسلامي قد جاء بالأمر بالحجاب، والمنع من السفور، الذي تنشأ عنه
المفاسد الأدبيَّة والمضار الاقتصادية، وأن الإيطالي قد تقرر عنده أن الدين الإسلامي قد جاء بتحريم اختلاط النساء بالرجال الأجانب.
فهذان النصرانيان أعقل بكثير من أجلاف المسلمين الذين قد تصدَّروا للفتوى بجواز السفور واختلاط النساء بالرجال الأجانب، فتبّاً لمن كان النصارى أعقل منهم وأعلم بما جاء به الإسلام من الأمر بالحجاب والمنع من السفور وتحريم اختلاط النساء بالرجال الأجانب.
وقد كتبت في التحذير من التبرج والسفور كتاباً سميته «الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور» ، فليراجعه المبيحون للسفور، والمفتونون بفتاوى المبيحين للسفور؛ فقيه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى (1).
(1)(تنبيه): لتكن المراجعة للطبعة الأولى التي طبعت في عام 1387 هـ في مطابع مؤسسة النور في مدينة الرياض، أو إلى الطبعة الثانية التي طبعت في عام 1409 هـ وقامت بنشرها دار العليان في مدينة بريدة في القصيم، وأما النسخة التي قام بنشرها طاهر خير الله إمام جامع الروضة بحلب والخطيب فيه؛ فإنها لا تفي بالمقصود من ذم التبرج والسفور والتحذير منهما؛ لأن الرجل الذي قام بنشر هذه النسخة قد اعتدى على الكتاب، وتصرف فيه تصرفا سيئا، وحذف من أوله ووسطه وآخره أكثر من نصفه، وقد طبعه في سنة 1394 هـ، وزعم أنها الطبعة الأولى، وهذا الصنيع منه منافٍ للصدق والأمانة، وسيقف بين يدي حكم عدل، لا يجاوزه ظلم ظالم، وقد انتشرت هذه النسخة الناقصة في الأسواق والمكتبات انتشاراً عظيماً، وإني أنبه أهل المكتبات على أني لم آذن لطاهر خير الله بالتصرف في كتابي، ولم آذن له بطبعه ونشره وتوزيعه، فمن علم بهذا التنبيه ثم أعان الظالم على ظلمه وعدوانه؛ فإنه سيكون شريكاً له في الإثم والعدوان، وسيؤخذ الحق من الجميع يوم القيامة إن شاء الله تعالى؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن حبان في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، قال:(وفي الباب عن أبي ذر وعبد الله بن أنيس).
فصلٌ
ومن أعظم الزلات وأشدها خطراً فتوى كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا بجواز التصوير، وعدم مبالاتهم بما يترتَّب على هذه الفتوى من معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بمخالفة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التصوير على وجه العموم، والتشديد فيه على وجه العموم، والأمر بطمس الصور على وجه العموم، ولم يبالوا أيضا بما يترتَّب على هذه الفتوى من الضلال والإضلال للناس.
وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيِامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يضِلُّونَهْم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرونَ} .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «مَن أفتي بفتيا غير ثَبَت؛ فإنما إثمه على من أفتاه» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، والحاكم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي في «تلخصيه» .
فليتأمل المفتون بجواز التصوير ما جاء في الآية الكريم وحديث أبي هريرة الله عنه، ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر من أوزار الذين يعملون بفتاويهم الباطلة وآرائهم الفاسدة.
وقد تصدَّى للرد على المفتين بجواز التصوير عدد من أكابر العلماء في زماننا، وكتبوا في ذلك رسائل متعددة، وقد كتبت في الرد عليهم كتابين سميت أحدهما «إعلان النكير على المفتونين بالتصوير» ، وسميت الآخر:
«تحريم التصوير والرد على من أباحه» ؛ فليراجعهما المبيحون للتصوير والعاملون بأقوال المبيحين للتصوير.
وليعلم الجميع أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأن الرجوع إلى الحق نُبْلٌ وفضيلة، كما أن التمادي في الباطل نقص ورذيلة.
وقد روى: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والحاكم؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطاءين التوَّابون» .
قال الترمذي: «هذا حديث غريب» .
وصححه الحاكم، وقال الذهبي في «تلخيصه»:«صحيح على لين» .
وتقدم في أثناء الكتاب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: «ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون» .
رواه: الإمام أحمد، وعبد بن حُميد، والبخاري في «الأدب المفرد» .
وإسناده عند أحمد وعبد بن حميد جيد.
وفي هذا الحديث أبلغ تحذير للذين يصرُّون على فتاويهم الباطلة بعد علمهم ببطلانها.
فصلٌ
ومن أعظم الزلات الواقعة قديماَ وحديثاً تحليل الغناء والمعازف وعدم المبالاة بما يترتَّب على ذلك من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع من يعتدُّ بإجماعهم من أهل العلم.
وما أكثر القائلين بحلِّ الغناء والمعازف من الأجلاف المغموصين بالنفاق من أهل زماننا، وقد رأيت ذلك في كتب لهم ومقالات كثيرة.
وقد قال الله تعالى: {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً من اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدي القْومَ الظَّالمِينَ} .
وهذه الآيات تنطبق على المتَّبعين لأهوائهم في تحليل الغناء والمعازف والاشتغال بالاستماع إليهما عن ذكر الله تعالى وعبادته.
وقد تصَّدى للرد على القائلين بحلِّ الغناء والمعازف كثير من العلماء قديماً وحديثاً، وقد كتبت في ذلك عدة كتب، ومن أشملها وأجمعها للأدلة على تحريم الغناء والمعازف كتاب «فصل الخطاب في الرد على أبي تراب» ؛ فليراجع؛ ففيه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى.
فصلٌ
ومن أعظم الزلات الإفتاء بجواز حلق اللحى وقصها، وعدم المبالاة بما يترتَّب على ذلك من معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم المبالاة أيضا بما يترتَّب على ذلك من التشبه بالمجوس وغيرهم من المشركين، وبما يترتَّب على ذلك التشبه بالنساء، وذلك أنك لا ترى شخاً كبيراً يحلق لحيته إلا وترى وجهه يشبه وجوه العجائز من النساء، ولا ترى شاباً يحلق لحيته إلا وترى وجهه يشبه وجوه العذارى، ولو قيل للشيخ الذي يحلق لحيته: يا وجه العجوز! أو قيل للشاب الذي يحلق لحيته: يا وجه البنت! لما رضيا بذلك، ولبادرا إلى الانتقام إن قدرا على ذلك، مع أنَّ كلا منهما قد رضي لنفسه بمشابهة النساء في إزالة الشعر عن الوجه والبعد عن الاتصاف بصفة الرجولة.
وإنه لينطبق على الذين يستحسنون حلق اللحى:
قول الله تعالى: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} .
وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطانُ مَا كَانُوا يَعْمَلونَ} .
وقد جعل الله تعالى شعر اللحية جمالاً للرجال، وعلامة فارقة بينهم وبين النساء.
وقد قال مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ؛ قال: «بما يمتاز عليها كاللحية» .
وذكر ابن جرير نحو هذا القول عن غير مجاهد.
وذكر أبو حيان في الكلام على قول الله تعالى: {الرِّجالُ قوَّامونَ عَلى النَّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} : أن اللحية وكشف الوجوه مما فضَّل الله به الرجال على النساء.
وبعض المستحسنين لحلق اللحى من المتصدرين للفتيا بغير ثبت يزعمون أن إعفاء اللحى عادة من العادات التي مَن شاء فعلها ومَن شاء لم يفعلها.
وهذا من جهلهم بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء فيما رواه ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ فرواه: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى» .
وفي رواية للبخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب» .
هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى» .
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ فرواه مسلم، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» .
ورواه الإمام أحمد مختصرا، ولفظه:«قصوا الشوارب وأعفوا اللحى» .