المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفتوى بغير علم مزلة أقدام - تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌الفتوى بغير علم مزلة أقدام

فصلٌ

و‌

‌الفتوى بغير علم مزلة أقدام

، وباب من أبواب الضلال والإضلال كما تقدَّم النص على ذلك في حديث عبد الله بن عمرو الذي جاء فيه الإخبار عن قبض العلم.

فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من تتبُّع زلات العلماء، والأخذ برخصهم؛ فإن زلاتهم من هوادم الإِسلام، ومَن أخذ برخصهم؛ اجتمع فيه الشر كله.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخوَّف على أمته من زلات العلماء.

وقد جاء في ذلك عدة أحاديث:

أحدها: ما رواه الطبراني في «الصغير» عن معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخاف عليكم ثلاثاً، وهى كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم» .

الثاني: ما رواه الطبراني في «الكبير» عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخاف على أمتي ثلاثاً «وذكر منها زلة العالم» ».

الثالث: ما رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن أشد ما أتخوَّف على أمتي ثلاث «فذكرها ومنها زلة العالم» ».

الرابع: ما رواه: أبو نُعيم في «الحلية» ، وابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله»؛ عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني أخاف على أمتي من بعدي ثلاثة أعمال» . قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «زلة عالم، وحكم جائر،

ص: 37

وهوى متَّبَع».

وهذه الأحاديث الأربعة في أسانيدها مقال، ولكن بعضها يشدُّ بعضاً، ويشهد لها ما رواه الدارمي بإسناد جيد عن زياد بن حدير؛ قال: قال لي عمر رضي الله عنه: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» . قال: قلت: لا، قال:«يهدمه: زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» .

ورواه ابن عبد البر من طرق بنحوه.

وروى الإمام أحمد في «الزهد» عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه قال: «أخشى عليكم: زلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن» .

ورواه ابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله» بنحوه.

وروى أيضا عن سلمان رضي الله عنه نحوه.

وروى: أبو داود، والحاكم؛ عن يزيد بن عَميرة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه قال: «أحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق» . قال: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: «بلى؛ اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينَّك ذلك عنه؛ فإنه لعلَّه أن يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته؛ فإن على الحق نورا» . هذا لفظ أبي داود.

وفي رواية الحاكم أنه قال: «اتَّقوا زلَّة الحكيم» ، وفيها أيضا أنه قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه، الذي إذا سمعته قلت ما هذا؟». وباقيه نحو رواية أبي داود.

ص: 38

فصلٌ

وإذا علم أن زلَاّت العلماء من هوادم الإسلام، وأنه يجب اجتنابها والتَّحذير منها؛ فليعلم أيضا أن من أعظم زلات العلماء وأشدها خطراً على المفتين والمستفتين ما يكون مبنياً على الآراء المخالفة للكتاب والسنة، وما أكثر الواقعين في ذلك في زماننا!

وبعض هؤلاء إذا نُبِّهوا على أخطائهم المخالفة للأدلَّة الصريحة من الكتاب والسنة؛ لم يرجعوا إلى الحق، ولم يبالوا بالإصرار على الخطأ، ولا شك أن هؤلاء قد تعرَّضوا للوعيد على الإصرار على الأفعال السيئة، وهو ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال وهو على المنبر: «ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون» ، رواه الإمام أحمد وعبد بن حميد، وإسناد كل منهما جيد، ورواه أيضا البخاري في «الأدب المفرد» .

وقد قال البيهقي في «السنن الكبرى» : «باب: من اجتهد ثم رأى أن اجتهاده خالف نصاً أو إجماعاً أو ما في معناه؛ ردَّه على نفسه وعلى غيره» .

ثم روى حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد» .

رواه البخاري في «الصحيح» ومسلم.

وروى أيضا عن سفيان عن إدريس الأودي؛ قال: «أخرج إلينا سعيد ابن أبي بردة كتاباً، فقال هذا كتاب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد؛ لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت الحق؛ فإن الحق قديم، لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل» .

ص: 40

قال البيهقي: ورواه أحمد بن حنبل وغيره عن سفيان، وقالوا في الحديث:«لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُديتَ فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحقَّ قديم، وإن الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خيرُ من التَّمادي في الباطل» .

وروى أيضا من طريق ابن وهب؛ قال: حدثني مالك عن يحيى بن وربيعه بن عبد الرحمن؛ قالا: كان عمر بن عبد العزيز يقول: «ما من طينة أهون عليَّ فكاً، وما من كتاب أيسر عليَّ ردّاً؛ من كتاب قضيتُ به، ثم أبصرتُ أنَّ الحقَّ في غيره، ففسخته).

وروى أبو يعلى الموصلي عن مسروق؛ قال: ركب عمر بن الخطاب رضي الله عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«أيها الناس! ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصَّدُقات فيما بينهم أربع مئة درهم فما دون ذلك؟ ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة؛ لم تسبقوهم، فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربع مئة درهم» . قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مُهُر النساء على أربع مئة درهم؟ قال: «نعم» . فقالت: أما سمعتَ ما أنزل الله في القرآن؟ قال: «وأي ذلك؟» ، فقالت: أما سمعتَ الله يقول: {وآتْيُتمْ إحْداهُنَّ قنْطاراً

} الآية؟ قال: فقال: «اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر» . ثم رجع، فركب المنبر، فقال:«أيها الناس! إنَّي كنتُ نهيتُكم أن تزيدوا النساء في صَدُقاتهنَّ على أربع مئة درهم، فمَن شاء أن يعطي من ماله ما أحبَّ» . قال أبو يعلى: «وأظنه قال: «فمن طابت نفسه؛ فليفعل» ».

قال ابن كثير: «إسناده جيِّد قوي» .

ص: 41

وروى ابن المنذر عن أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: قال عمر بن الخطاب» «لا تغالوا في مهور النساء» . فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر؛ إن الله يقول: {وآتيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطاراً مِنْ ذَهَبٍ} - قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود - {فلا يحلُّ لكُمْ أنْ تأْخُذوا منه شيئاً} ، فقال عمر:«إن امرأة خاصمت عمر فخَصَمَتْهُ» .

وروى الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبد الله عن جده؛ قال: قال عمر بن الخطاب: «لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصة - يعني: يزيد بن الحصين الحارثي -، فمَن زاد؛ ألقيت الزيادة في بيت المال» ، فقالت امرأة من صُفَّة النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال:«ولِمَ؟» ، قالت: إنَّ الله قال: {وآتيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطاراً فلا تأْخُذوا منه شيئاً} ، فقال عمر:«امرأة أصابت، ورجل أخطأ» .

وقد رواه عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» بنحوه.

فليتأمل المصرون على الأخطاء في الفتيا ما جاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحث على مراجعة الحق إذا تبيَّن، وقوله:«إن مراجعة الحق خير من التَّمادي في الباطل» .

وليتأملوا أيضاً ما ثبت عنه من الرجوع إلى قول المرأة في جواز الإكثار من الصداق، واعترافه بإصابة المرأة وخطئه، وهذا من تواضعه وإنصافه من نفسه وتلقيه للحق ممَّن جاء به من ذكر أو أنثى، وتعظيمه لما جاء عن الله تعالى.

وهذا بخلاف حال بعض المفتين في زماننا؛ فإنهم يأنفون من الرجوع عن أخطائهم في الفتاوى، ويرون في ذلك غضاضة عليهم، وهذا أمر خطير جدّاً، ويخشى على فاعله أن يُصاب بالزيغ والضلال؛ لأن الله

ص: 42

تعالى يقول: {فَلَمَّا زاغُوا أزاغَ اللهُ قُلوبَهُمْ} ، وقال تعالى:{وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمينَ} .

فليحذر المصرُّون على أخطائهم في الفتيا من الدخول في عموم هاتين الآيتين.

ويجب على المفتين وغيرهم أن يعملوا بقول عمر رضي الله عنه في مراجعة الحق إذا تبيَّن، وترك التمادي في الباطل، ويجب عليهم أيضا أن يقتدوا به في تواضعه وقبوله للحق ممَّن جاء به، واعترافه بخطئه وصواب المرأة التي عارضته بما جاء في القرآن.

والدليل على وجوب الأخذ بقول عمر رضي الله عنه والاقتداء بما فعله مع المرأة التي عارضته قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكر وعمر» ، رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في «المستدرك» ؛ من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن» ، وصححه الحاكم والذهبي.

وليتأمل الذين يأنفون من الرجوع عن أخطائهم في الفتيا ما ثبت عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز من استهانته برد ما خالف الحق وفسخه له، وأن ذلك يسيرٌ عليه، وليقتدوا به في ذلك؛ فإنه من أئمة الهدى؛ كما وصفه بذلك ابن سيرين، وقال الإمام أحمد:«إن قوله حجة» ؛ ذكره ابن كثير وغيره.

ص: 43