المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قص الشارب وإعفاء اللحية فرض - تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ قص الشارب وإعفاء اللحية فرض

ورواه البخاري في «التاريخ الكبير» بنحوه.

وفي رواية له في «التاريخ الكبير» : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها، فخالفوهم، فجزُّوا شواربكم، وأعفوا لحاكم» .

ورواه الطبراني بنحو رواية البخاري.

والأحاديث في الأمر بإعفاء اللحى وإحفاء الشوارب كثيرة، وفيها أبلغ ردّ على مَن زعم أن إعفاء اللحية عادة من العادات التي مَن شاء فعلها ومَن شاء لم يفعلها.

وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللهُ ورَسولُهُ أَمْراً أَنْ يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورَسولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً} .

وقال تعالى: {ومَاَ آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ} .

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذيَن يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فتْنَة أَوْ يُصيَبهُمْ عَذابٌ أَليمٌ} .

وفي هذه الآيات أبلغ ردّ على مَن أعرض عن السنة في إعفاء اللحية، وزعم أن إعفاءها عادة من العادات التي مَن شاء فعلها ومَن شاء لم يفعلها.

وفيها أيضا تهديد ووعيدٌ شديد لمَن خالف السنة.

وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن‌

‌ قصَّ الشارب وإعفاء اللحية فرض

.

ص: 70

وقال ابن عبد البر: «ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنَّثون (1) من الرجال» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «يحرم حلق اللحية» .

وقال أيضا: «إنَّ التشَّبه بالكفار منهيٌّ عنه بالإجماع» .

وقد كتب العلماء رسائل كثيرة في بيان وجوب إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب، فجزاهم الله خيرا الجزاء، وضاعف لهم الثواب، وقد كتبت في هذا الموضوع عدة رسائل، ومن أشملها وأجمعها للأدلة كتاب «دلائل الأثر على تحريم التمثيل بالشعر» ؛ فليراجع؛ ففيه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى.

(1) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (المخنث: بكسر النون وبفتحها: من يشبه خلقة النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة؛ لم يكن عليه لوم، وعليه أن يتكلَّف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه وتكلُف له؛ فهو المذموم، ويطلق عليه اسم مخنَّث، سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل، قال ابن حبيب: المخنث: هو المؤنث من الرجال، وإن لن تعرف منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره) انتهى.

وقد جاء في عدة أحاديث صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن المخنَّثين من الرجال)، وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لعن مخنثي الرجال الذين يتشبَّهون بالنساء).

وفي هذه الأحاديث أبلغ تحذير من حلق اللحى؛ لما في ذلك من مشابهة النساء؛ فليبادر الذين يحلقون لحاهم إلى إعفائها، ولا يجعلوا لأنفسهم نصيباً من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن اللعن معناه الطرد والإبعاد من الله ومن كل خير، والمؤمن العاقل لا يرضى لنفسه أن يكون بهذه المنزلة السيئة، ومن كتب عليه الشقاء؛ فلا حيلة في الأقدار.

قال الله تعالى: {مَن يُضلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ} .

ص: 71

فصلٌ

ومن زلات المتشبهِّين بالعلماء من ذوي الجهل المركَّب فتياهم بجواز شرب الدخان الخبيث، وقد خفي على هؤلاء الأغبياء ما في شرب الدخان من المفاسد والأضرار العظيمة؛ فهو مضرٌّ بالدين، ومضرٌّ بالعقل، ومضرٌّ بالبدن، ومضرٌّ بالمال، وكل واحد من هذه المضرَّات تقتضي المنع منه وتحريمه على انفرادها؛ فكيف وقد اجتمعت هذه المضرَّات فيه؟! فهذا مما يزيد المنع منه تغليظاً وشدَّة، وقد ذكرتُ ما فيه من المضار الكثيرة في كتابي المسمى بـ «الدلائل الواضحات على تحريم المسكرات والمفترات» ؛ فلتراجع هناك؛ فإن العلم بها مهم جداً.

ومن أعظم مضارَّه أنه يكون سبباً لسوء الخاتمة، وصرف الميت عن القبلة عند الموت وفي القبر، وقد شوهد هذا من عدد كثير جداً من المصرين على شرب الدخان إلى حين الممات، وشوهد أيضا ما وقع لبعضهم من عذاب القبر، وقد ذكرت في كتاب «الدلائل الواضحات» جملة كثيرة من القصص المزعجة التي وقعت لبعض المصرين على شرب الدخان إلى حين الممات؛ فلتراجع؛ فإن فيها عبرة للمعتبرين، وموعظة لمن أراد الله به الخير والسلامة من عذاب القبر وعذاب النار.

وقد كتب العلماء الناصحون رسائل وفتاوى كثيرة في تحريم الدخان وذكر أضراره والتحذير من سوء عاقبته على أهله، وقد ذكرتُ جملة منها في كتاب «الدلائل الواضحات» فلتراجع هناك؛ فإنها مهمَّة جداً.

وقد دلَّ الكتاب والسنة على تحريم شرب الدخان، وعلة التحريم أنه خبيث، ومسكر، ومفتر:

ص: 72

فأما الدليل من الكتاب؛ فهو قول الله تعالى في صفة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيباتِ ويُحرَّمُ عَلَيْهمُ الخَبائِثَ} ، والدخان من الخبائث عند كل ذي عقل سليم، ومن أوضح الأدلة على خبثه ما فيه من خبث الرائحة التي تماثل رائحة العذرة أو تزيد عليها بالخبث والنتن.

وأما الأدلَّة من السنَّة؛ فهي كثيرة جدّاً:

فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مسكر حرام» ، وقد جاء من الأحاديث في ذلك خمسة وعشرون حديثا.

وتواتر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن كل مسكر» .

وقد جاء من الأحاديث في ذلك أحد عشر حديثا.

وقد ذكرتُ هذه الأحاديث في كتاب «الدلائل الواضحات» ؛ فلتراجع هناك.

وقد روى: الإمام أحمد، وأبو داود؛ عن أم سلمة رضي الله عنها؛ قالت:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر» .

قال الزين العراقي: «إسناده صحيح» .

نقله عنه المناوي في «شرح الجامع الصغير» ، وصححه أيضا السيوطي في «الجامع الصغير» .

وقال الشوكاني في بعض فتاواه: «هذا حديث صالح للاحتجاج به» ، نقله عنه شمس الحق العظيم آبادي في «عون المعبود» .

وفي هذا الحديث أوضح دليل على تحريم شرب الدخان؛ لأنه من المسكرات والمفترات:

ص: 73

فأما إسكاره؛ فقد ثبت عن بعض الذين يشربونه أنهم سكروا منه، وأخبرني بذلك رجل عن نفسه.

وأما تفتيره؛ فهو في المدخنين أكثر من الإسكار، وقد ذكر لنا أن ذلك يحصل لبعض المدخنين إذا شربوا الدخان عند الإفطار من الصيام.

وقد ذكر العلماء لتحريم الدخان عللاً كثيرة، وقد ذكرتُها في كتاب «الدلائل الواضحات» ؛ فلتراجع هناك.

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: «الذي نرى فيه التحريم لعلتين: إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه وأكثر، وإن لم يحصل إسكار؛ حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثاً مرفوعاً: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتِّر، والعلة الثانية: أنه منتن، مستخبث عند من لم يعتده، واحتجَّ العلماء بقوله: {ويُحرَّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ}، وأما مَن ألفه واعتاده؛ فلا يرى خبثه؛ كالجعل لا يستخبث العذرة» انتهى كلامه.

ومن أخبث أنواع الدخان ما يسمى بالجراك والشيشة، وهو أشد نتناً من العذرة، ومع هذا يستلذُّه المفتونون به كما يستلذُّ الجُعل تقليب العذرة بفمه وأنفه، وكما تستلذُّ الجلَّالة أكل العذرة.

ومن الخبائث التي يستطيبها كثير من السفهاء الذين أغواهم الشيطان وحبَّب إليهم الفسوق والعصيان مضغ أوراق القات، وما يسمى بالسويكة، ويسمى في البلاد اليمنية البردقان، وهو من مسحوق التبغ، وبعضهم يستعمله نشوقاً، ويسمونه الشمة.

وهذه الخبائث يحصل منها التخدير والتفتير لمن يستعملها، وربما

ص: 74

حصل لهم السكر أو بداية السكر، وهو ما يسمونه بالتخزين، وهي داخلة في عموم الآية الدالة على تحريم الخبائث، وفي عموم الأحاديث الدالة على تحريم المسكرات والمفترات.

وقد كتب العلماء العارفون بما في هذه الخبائث من المفاسد والمضرَّات رسائل وفتاوى في تحريمها والتحذير منها، وفي الجزء الثاني عشر من «مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهم الله تعالى» جملة من الفتاوى في تحريمها، وذكر ما فيها من المفاسد والمضرات؛ فلتراجع؛ فإنها مفيدة جداً، وفيها كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى.

ص: 75

فصلٌ

ومن زلات بعض المتثقِّفين بالثقافة الغربية فتياهم بالاعتماد على الحساب في دخول شهر رمضان وخروجه ودخول شهر ذي الحجة، وهذه الفتيا ناشئة عن التكلف ودخول المفتين فيما لا يعنيهم وما لا علم لهم به من الأحكام في الأهلَّة.

وما يدري هؤلاء المتكلِّفون أن فتياهم الباطلة قد تضمَّنت أموراً سيئة جدّاً وخطيرة عليهم وعلى مَن يعمل بفتواهم:

أولها: محادَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بمخالفة ما جاء في القرآن والسنة من تعليق المواقيت بالأهلَّة، فجاء هؤلاء المفتونون، فجعلوا المواقيت بالحساب لا بالأهلة، فخالفوا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء بيان حكم المواقيت في قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأهلَّة قُلْ هِيَ مَواقيت للنَّاسِ والحَج} .

قال البغوي في الكلام على هذه الآية: «أي: فعلنا ذلك ليعلم الناس أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وعِدد النساء وغيرها» انتهى.

وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «سأل الناس رسول الله عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأهلَّة قُلْ هِيَ مَواقيتُ للنَّاسِ}؛ يعلمون بها حلّ دَيْنِهم وعدة نسائهم ووقت حجهم» .

وروى ابن جرير أيضاً عن قتادة؛ قال: «سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ جُعِلتْ هذه الأهلَّة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: {هِيَ مَواقيتُ للنَّاسِ} ، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدة نسائهم

ص: 76

ومحِل دَيْنهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه».

وروى أيضا عن الربيع نحو قول قتادة.

وروى أيضا عن ابن جريج والسُّدِّي والضحَّاك نحو ذلك مختصراً.

وروى أيضاً عن علي رضي الله عنه: أنه سُئل عن قوله: {مَواقيتُ للنَّاسِ} ؟ قال: «هي مواقيت: الشهر هكذا وهكذا وهكذا «وقبض إبهامه» ، فإذا رأيتموه؛ فصوموا، وإذا رأيتموه؛ فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم؛ فأتموا ثلاثين».

وروى عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعلَ الأهلَّة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم؛ فعدوا له ثلاثين يوماً» . إسناده حسن.

وقد رواه: ابن خزيمة في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ؛ كلهم من طريق عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال الحاكم: «صحيح على شرطهما» .

وقال الذهبي في «تلخيصه» : «صحيح» .

وروى: الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والدارقطني؛ عن طلق بن علي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل جعل هذه الأهلَّة مواقيت للناس، فإذا رأيتموه؛ فصوموا، وإذا رأيتموه؛ فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم؛ فأتموا العدة ثلاثين» .

ص: 77

وفي الآية التي تقدَّم ذكرها، وما جاء في حديثي ابن عمر وطلق بن علي رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان معناها، وما جاء عن علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من المفسرين في ذلك؛ فيه أبلغ ردّ على من أفتى بالعمل بالحساب في دخول الأشهر وخروجها، ولم يبال بما يترتَّب على ذلك من مخالفة قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته وإتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم يُرَ الهلال.

وقد ذكرتُ في كتابي المسمى «قواطع الأدلَّة في الرد على مَن عوَّل على الحساب في الأهلَّة» سبعة عشر حديثاً في ذلك؛ فلتراجع؛ فإن فيها أبلغ ردّ على مَن أفتى بالعمل بالحساب، ولم يبال باطِّراح قول الله تعالى وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: من الأمور السيئة الخطيرة: الرغبة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في إثبات الأهلَّة بالرؤية والاعتياض عن ذلك بهدي الأمم الذين يضبطون مواقيت الأهلَّة بالحساب الفلكي، ومَن رغب عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الأهلة بالرؤية، وأخذ بهدي غيره؛ فقد خاب وخسر.

والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن رغب عن سنَّتي؛ فليس مني» .

رواه: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي؛ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وروى الإمام أحمد أيضا مثله من حديث عبد الله بن عمرو ورجل من الأنصار رضي الله عنهم.

ص: 78

الأمر الثالث: إثبات ما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته من العمل بالكتاب والحساب في إثبات الأهلَّة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّا أمَّة أميَّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا «وعقد الإبهام في الثالثة» ، والشهر هكذا وهكذا وهكذا»؛ يعني: تمام ثلاثين.

رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وإثبات ما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته ظاهر في معارضته وردّ قوله، وما أسوأ ذلك وأعظمه! وقد ورد الوعيد الشديد عليه في آيات كثيرة من القرآن، وفي بعضها النص على أنه من الضلال وعدم الإيمان.

قال الله تعالى: {ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللهُ ورسَولُهُ أَمْراً أَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمرِهِمْ ومَنْ يعَصِ اللهَ ورَسولهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً} .

وقال تعالى: {وما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ} .

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهمْ فِتْنةُ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذاب أَليمَ} .

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآية: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقم في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك» ، ثم جعل يتلو هذه الآية:{فلا وَرَبّكَ لا يُؤِمنونَ حَتَّى يُحَكُموكَ فيما شَجَر بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجدوا في أَنْفُسهمْ حَرجَاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّموا تَسْليماً} .

ص: 79

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: «إن الأخذ بالحساب أو الكتاب قد صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفيه عن أمته، والنهي عنه» .

قال: «وما زال العلماء يعدُّون مَن خرج إلى ذلك قد أدخل في الإسلام ما ليس فيه، فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابَل به أهل البدع» انتهى، وهو مذكور في صفحة 179 من المجلد الخامس والعشرين من «مجموع الفتاوى» .

وقال أيضا في صفحة 182 من المجلد المذكور: «إن الأخذ بالحساب من زلات العلماء» .

وقال أيضا في صفحة 207 من المجلد المذكور: «لا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت في «الصحيحين» أنه قال: «إنا أمَّة أميَّة، لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» ، والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب؛ فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي» انتهى.

الأمر الرابع: اتباع غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى زماننا؛ فإنهم كانوا يعتمدون على رؤية الهلال في دخول الأشهر وخروجها، وعلى إتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ير الهلال، وما كانوا يعملون في ذلك بالحساب، ولو كان في العمل به خير؛ لكان الصحابة أسبق إليه من غيرهم.

ص: 80

وقد توعَّد الله تعالى مَن اتَّبع غير سبيل المؤمنين بأشد الوعيد، فقال تعالى:{وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبيَّنَ لَهْ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصيراً} .

الأمر الخامس: التهجُّم على الفتيا بغير علم، وفي التسرع إلى الفتيا بغير علم دليل على مزيد الحماقة وقلة العقل والدين عند المتسرعين.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من أفتي بفتيا غير ثَبَت؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه» .

وقد تقدَّم هذا الحديث في أول الكتاب؛ فليراجع.

وتقدَّم فيه أيضا حديث عبيد الله بن أبي جعفر مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» .

رواه الدارمي.

الأمر السادس: الابتداع في الدين والشرع فيه بما لم يأذن به الله، وهذا من الظلم كما سيأتي بيان ذلك في الآية.

وقد توعد الله على ذلك بأشد الوعيد، فقال تعالى:

{أمْ لَهُم شُركاءُ شَرَعوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ الله ولوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وإِنَّ الظَّالمِينَ لَهمْ عَذابٌ أَليم} .

الأمر السابع: الدعاء إلى الضلالة، وهي ما ابتدعه المفتون بالاعتماد على الحساب في الأهلَّة.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .

ص: 81

رواه: الإمام أحمد، وأهل «السنن» ؛ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

وصححه: الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، والذهبي.

وقد أخبر الله تعالى عن الداعين إلى الضلالة أنهم يحملون أوزارهم وأوزار الذين يَضِلُّون بسببهم:

فقال تعالى: {لِيَحْمِلوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَة ومِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضلُّونَهُمْ بِغَيْرَ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .

وروى: الإمام أحمد، ومسلم، وأهل «السنن»؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومَن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

وقد كتبت كتابين لطيفين في الرد على مَن أفتى بالاعتماد على الحساب في الأهلَّة، وسميت الأول منهما:«قواطع الأدلَّة في الردِّ على مَن عوَّل على الحساب في الأهلَّة» ، وأما الثاني؛ فقد سميته:«تحذير الأمة الإسلامية من المحدثات التي دعت إليها ندوة الأهلَّة الكويتية» ؛ فليراجع كلّ من الكتابين؛ ففيهما كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى.

وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدى فإِنَّما يَهْتَدي لنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فإِنَّما يَضلُّ عَلَيْها} .

ص: 82

فصلٌ

ومن زلات المتسرِّعين إلى الفتيا: فتياهم بجواز استعمال حُقَن الدواء في رمضان.

ومن المعلوم عند ذوي العقول السليمة أن الدواء الذي يصل إلى الجسم من طريق الحقن يسري إلى جميع أجزاء الجسم، وسواء كان استعمال الحُقَن في العروق أو في العضلات.

وقد استعملت بعض الحقن، فأحسست بوصول الدواء إلى جميع بدني، وخصوصاً ما يكون فيه حرارة أو رائحة غريبة؛ فقد أحسست بوصول الحرارة إلى جميع بدني مراراً كثيرة، وأحسست بالرائحة الغريبة في أنفي حين مرَّ الدواء على عروق الأنف مراراً كثيرة، ومَن شكَّ في سريان الدواء من الحُقَن إلى جميع البدن؛ فلا شكَّ أنه جاهل بمفعول الحُقَن وشدَّة سريانه في الأبدان، وما كان بهذه الصفة فلا شكَّ في تفطيره للصائم.

وأيضاً؛ فإن الدواء الذي في الحُقَن لا بدَّ أن يكون محلولاً بالماء المعقَّم، ولا يمكن سريان الدواء في البدن إلا بما يجعل معه من الماء المعقَّم، والماء من المفطرات، ولو كان قليلاً جداً، وبهذا يتَّضح أن استعمال الحُقن يفطر الصائم؛ لأنه لا بدَّ أن يدخل في جسمه شيء من الماء الذي يسري في جميع الجسم، ويختلط باللحم والدم.

وأيضاً؛ فإن المريض الذي لا يقدر على الأكل والشرب، أو يكون ممنوعاً منهما، أو من أحدهما، لعارض يقتضي المنع؛ فإنه يعطى بدلاً عن ذلك حُقَناً مغذِّية، تقوم مقام الأكل والشرب، ولا يحتاج معها إلى الأكل والشرب ما دم المريض يستعملها، ولو طال زمن الاستعمال.

ص: 84

وعلى هذا؛ فإنه لا فرق في النظر الصحيح بين استعمال الحُقن المغذِّية وبين استعمال حُقَن الدواء؛ لأن كلاُّ منهما يسري إلى جميع الجسم، ويختلط باللحم والدم، ومَن فرَّق بينهما فأباح حُقن الدواء ومنع من الحُقن المغذية؛ فلا شكَّ أنه قد فرق بين متماثلين في المعنى، وهو نفوذ كل من الدواء والغذاء إلى جميع أجزاء البدن.

وأيضاً؛ فإن بعض حُقَن الدواء يكون لها بديل من الأقراص التي تقوم مقامها وتفعل مفعولها في الجسم، وهذه الأقراص البديلة للحُقَن لا يجيز المتسرِّعون إلى الإفتاء أن يتناولها المريض في حال الصيام، وهذا من تناقضهم؛ لأن مَن منع الصائم من استعمال أقراص الدواء؛ فإنه يلزمه أن يمنعه من استعمال الحُقَن، إذ لا فرق بين إدخال الدواء إلى البدن من طريق الحُقَن أو من طريق الابتلاع.

وبعض المفتين بجواز استعمال الحُقن في حال الصوم إنما يعتمدون على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنه يجوز للصائم أن يداوي المأمومة والجائفة، وليس لهم ما يتعلَّقون به من كلام شيخ الإسلام؛ لأن مداواة المأمومة والجائفة إنما يكون بمساحيق الدواء التي لا تتعدَّى موضع الجرح، بخلاف مفعول الحقن؛ فإنه يسري إلى جميع أجزاء البدن، ويختلط باللحم والدم، فالفرق بين الدواءين ظاهر لمن كان له عقل سليم ونظر صحيح.

فاتقوا الله أيها المفتون بجواز استعمال الحُقَن للصائم؛ فلقد كنتم سبباً في إفساد صيام كثير من الناس.

ولا تنسوا قول الله تعالى: {لِيَحْمِلوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَة ومِنْ أَوْزارِ الَّذينَ يُضلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

ص: 85

ولا تنسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أفتي بفتيا غير ثَبَت؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه» .

وقد تقدَّم هذا الحديث في أول الكتاب؛ فليراجعه المفتون بجواز استعمال الحُقن للصائم.

وليراجعوا أيضاً ما ذكر بعده من حديث عبيد الله بن أبي جعفر مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» .

ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر من آثام الذين يعملون بفتواهم المبنيَّة على مجرَّد الرأي، وليست على علم وثَبَت.

ص: 86

فصلٌ

ومن المسائل التي يكثر فيها الخطأ والزلل من المفتين: مسائل الطلاق.

وقد تقدَّم (1) ما ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن الإمام أحمد أنه قال: «كان سفيان لا يكاد يُفتي في الطلاق، ويقول: مَن يُحسن ذا؟ من يُحسن ذا؟» .

وقال في رواية أبي الحارث: «وددت أن لا يسألني أحدٌ عن مسألة، وما شيء أشدّ عليَّ من أن أسأل عن هذه المسائل، البلاء يخرجه الرجل عن عنقه ويقلدك، وخاصة مسائل الطلاق والفروج» .

ونقل محمد بن أبي طاهر عنه: أنه سُئل عن مسألة في الطلاق؟ فقال: «سل غيري، ليس لي أفتي في الطلاق بشيء» انتهى.

قلت: ليتأمَّل المتسرِّعون إلى الإفتاء في مسائل الطلاق ما ذكره الإمام أحمد عن سفيان، وما قاله عن نفسه، وليقتدوا بهذين الإمامين في الورع والتوقُّف عن الفتيا بما ليس واضحاً من مسائل الطلاق، ولا سيما ما يقع من كثير من الجهَّال من الطلاق في حال الغضب على امرأته، أو في حال التأكيد عليها بالمنع من بعض الأمور أو الإلزام بها، فيسارع حينئذ إلى مواجهتها بالطلاق، ثم يندم على الطلاق، فيأتي إلى بعض المتسرعين إلى الفتوى، ويزعم له أنه لم يرد الطلاق، وإنما أراد التشديد على امرأته أو التأكيد عليها بما واجهها به، فينخدع له المتسرع إلى الفتوى، ويفتيه بعدم وقوع الطلاق، وما أكثر القصص والوقائع في هذه الأمور في زماننا! وللحيل

(1) انظر (ص: 17).

ص: 87

مجال واسع فيها.

فلينتبه المتسرعون إلى الفتيا لئلا يقعوا في الزلل ويتحمَّلوا إثم الفتيا بغير ثَبَت.

وقد روى: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، البيهقي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ جدَّهنَّ جِدٌّ، وهزلهنَّ جدٌّ: النكاح، والطلاق، والرجعة» .

قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .

وصححه الحاكم والذهبي.

قال الترمذي: «والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم» .

وروى مالك في «الموطأ» عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أنه قال: «ثلاثٌ ليس فيهنَّ لعبٌ: النكاح، والطلاق، والعتق» .

ورواه البيهقي من طريق مالك.

قال الخطابي في «معالم السنن» : «اتَّفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل؛ فإنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعباً، أو هازلاً، أو لم أنو به طلاقاً، أو ما أشبه ذلك من الأمور.

واحتجَّ بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى: {ولا تَتَّخِذوا آياتِ اللهِ هُزُواً} ، وقال: لو أطلق للناس ذلك؛ لتعطَّلت الأحكام، ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول: كنت في قولي هازلاً، فيكون في ذلك

ص: 88

إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى، وذلك غير جائز؛ فكل مَن تكلَّم بشيء ممَّا جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، ولم يقبل منه أن يدَّعي خلافه، وذلك تأكيد لأمر الفروج، واحتياط له، والله أعلم».

انتهى كلام الخطابي رحمه الله تعالى، وهو في غاية الحسن، فليتأمَّله المتسرعون إلى الفتيا في الطلاق، وليعملوا بما جاء فيه من التأكيد لأمر الفروج والاحتياط له.

ص: 89

فصلٌ

ومن أعظم الزلات وأشدها خطراً جراءة بعض أهل الزيغ والضلال على رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتصريحهم برفضها واطَّراحها، إذا كانت مخالفة لآرائهم ونظرياتهم التي هي في الغالب متلقَّاة من نظريات أعداء الله وأفكارهم.

وكثيراً ما يقع هذا في كتب بعض الأجلاف (1) الذين لا يقيمون للأحاديث الصحيحة وزناً، والذين هم من ألدّ الأعداء للسنة وأهلها، وهو كثير من مقالات بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا، وفي كتبهم المنتشرة بين الناس.

ومنهم رجلٌ قد اجتمعت فيه الخصال السيئة التي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من صفات أهل النار، وذلك فيما رواه: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه؛ عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كلُّ عُتُلّ جَوَّاظ مستكبر» .

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

قال أهل اللغة: «العُتُلّ» : هو الفظُّ الغليظ الجافي، وأما «الجوَّاظ»: فهو المتكبر الجافي، وأما «المستكبر»: فهو الذي لا يبالي بردَّ الحق».

(1) الأجلاف: جمع جلْف، وهو الأحمق الجافي، قال في (لسان العرب):(يقال للرجل إذا جفا: فلان جِلْف جاف).

ص: 90

وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» .

ورواه الترمذي بلفظ: «الكبر: بطر الحق، وغمص الناس» .

وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب» .

وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو رواية مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وأبي ريحانة وعقبة بن عامر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر: سفه الحق، وغمص الناس» .

قال الخطابي: «قوله: «غَمَطَ» ؛ معناه: أزرى بالناس واستخفهم؛ يقال: غمط وغمص؛ بمعنى واحد».

وقال النووي: «الكبر» : هو الارتفاع على الناس، واحتقارهم، ودفع الحق» انتهى.

ومعنى «سفه الحق» : الاستخفاف به، ذكره ابن الأثير وصاحب «لسان العرب» .

ومن أعظم الدفع للحق والاستخفاف به ما وقع من بعض الأجلاف في زماننا من ردِّهم الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحهم برفضها، وهذا عنوان على ما في قلوبهم من الزيغ والزندقة.

وقد روى القاضي أبو الحسين في «طبقات الحنابلة» عن الفضل بن زياد القطان؛ قال: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - يقول:

ص: 91

«مَن ردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة» .

وروى حنبل عن أحمد رحمه الله أنه قال: «كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد؛ أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه؛ رددنا على الله أمره، قال الله تعالى:{ومَاَ آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ ومَا نهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهوا} .

وذكر محمد بن نصر المروزي - ونقله عنه ابن حزم في كتابه «الأحكام» -: أن إسحاق بن راهوايه قال: «مَن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّ بغير تقيَّة؛ فهو كافر» .

وقال أبو محمد البربهاري في كتابه «شرح السنة» : «إذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاتَّهمه على الإسلام؛ فإنه رجل رديء المذهب والقول، وإنما يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه؛ لأنا إنما عرفنا الله وعرفنا رسوله صلى الله عليه وسلم وعرفنا القرآن وعرفنا الخير والشر والدنيا والآخرة بالآثار» .

وقال البربهاري أيضاً: «ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله؛ فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام» .

وقال البربهاري أيضاً: «من ردَّ أية من كتاب الله؛ فقد ردَّ الكتاب كله، ومَن ردَّ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم» .

وقال البربهاري أيضاً: «واعلم أنه ليس بين العبد وبين أن يكون كافراً

ص: 92

إلا أن يجحد شيئاً مما أنزل الله، أو يزيد في كلام الله، أو ينقص، أو ينكر شيئاً مما قال الله عز وجل، أو شيئاً مما تكلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وقال البربهاريُّ أيضاً: «وإذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار؛ فاتَّهمه على الإسلام، ولا شكَّ أنَّه صاحب هوى مبتدع» .

وقال البربهاريُّ أيضاً: «وإذا سمعتَ الرجل تأتيه بالأثر، فلا يريده، ويريد القرآن؛ فلا تشكَّ أنه رجلٌ قد احتوى على الزنَّدقة؛ فقم من عنده ودعه» .

وقال البربهاري أيضاً: «ومن جحد أو شكَّ في حرف من القرآن أو في شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقي الله مكذباً» .

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «إذا حدَّث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً؛ إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه» انتهى.

وذكر القاضي أبو الحسين في «طبقات الحنابلة» عن إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا: أنه قال: «من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا حرج في ناقليها، وتجرَّأ على ردِّها؛ فقد تهجَّم على ردِّ الإسلام؛ لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت» انتهى.

وقال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» : «جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول

ص: 93

الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا» انتهى.

وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على الإقرار بما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يردون من ذلك شيئا.

وفي هذا الإجماع أبلغ ردَّ على الجِلْف (1) الجافي الذي لم يبال بِرد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبال برفضها واطِّراحها، وسواء كان رفضه لها ناشئاً منه أو أنه ذكر ذلك عن غيره وأقرَّه على رفضها، وكل من الأمرين موجود في مواضع كثيرة من كتبه ومقالاته.

وقد قال الله تعالى: {ومَنَ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبْعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَت مَصيراً} .

وهذه الآية الكريمة تنطبق على الجلف الجافي؛ لأنه قد شاقَّ الله ورسوله، واتَّبع غير سبيل المؤمنين في مخالفته لإجماع أهل الحديث والسنة، وكفى بما جاء في آخر الآية وعيداً له ولأمثاله من الأجلاف الذين لا يقيمون للأحاديث الصحيحة وزناً، ولا يبالون بردِّها ورفضها إذا كانت مخالفة لآرائهم ونظرياتها.

وقد قال الموفَّق أبو محمد المقدسي في كتابه «لمعة الاعتقاد» : «ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحَّ به النقل عنه، فيما شهدناه أو غاب عنَّا، نعلم أنه حقٌّ وصدقٌ، وسواء في ذلك ما عقلناه

(1) قد تقدم في حاشية (ص: 90) بيان معنى الجِلْف، وأنه الأحمق، وأي حمق وجفاء أعظم من مقابلة الأحاديث الصحيحة بالرد والرفض وعدم المبالاة بما يترتَّب على ذلك من المشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين.

ص: 94

وجهلناه ولم نطَّلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدَّابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صحَّ به النقل» انتهى.

وقال ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» : «والذي ندين به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه: أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحدٍ من الناس، كائناً مَن كان، لا راويه ولا غيره» انتهى المقصود من كلامه.

فليتأمل المتهاونون بالأحاديث الصحيحة ما ذكرته عن أكابر العلماء من التشديد في ردِّها، وتكفير مَن فعل ذلك، وليعلموا أن الأخذ بالأحاديث الصحيحة وتعظيمها يدلُّ على قوة الإيمان في قلب العبد، وأن التهاون بها والتصريح بردِّها ورفضها على عدم الإيمان.

والدليل على هذا قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّموا تَسْليماً} .

فأقسم سبحانه وتعالى بنفسه على نفي الإيمان عمَّن لم يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم ويرضَ بحكمه ويطمئن إليه قلبه ولا يجد في نفسه حرجاً ممَّا قضى به ويسلِّم له تسليماً وينقاد له ظاهراً وباطناً.

وفي إقسامه تبارك وتعالى بنفسه على ما ذكر في الآية دليل على عظم الأمر الذي وقع القسم عليه، فيجب على كل مؤمن أن يعظِّمه كما عظَّمه

ص: 95

الله، وأن يقابله بالقبول والتسليم طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره.

وهذه الآية هي الحكم الفاصل في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمَن قبلها واطمأنَّ قلبه إليها وانقاد لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً؛ فهو مؤمن، ومَن قابلها بالردِّ والإنكار؛ فليس بمؤمن.

قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجيبوا لَكَ فاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبعونَ أَهْواءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِن اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدي القَوْمَ الظَّالمِين} .

وقال تعالى: {ومَاَ كانَ لمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضى اللهُ ورَسولُهُ أَمْراً أنْ يَكونَ لَهُمُ الخِيَرةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورَسولَهُ فقَدْ ضِلَّ ضَلالاً مُبيناً} .

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُم عَذابٌ أَليمٌ} .

قال الإمام أحمد في الكلام على هذه الآية: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعلَّه إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك» ، ثم جعل يتلو قول الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» .

قال النووي في كتاب «الأربعين» : «حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح» .

قال الحافظ ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» : «يريد

ص: 96

بصاحب «كتاب الحجة» الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وكتابه هذا هو «كتاب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجَّة» ».

قال ابن رجب: «وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب «الأربعين» ، وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه، وخرَّجته الأئمة في مسانيدهم».

ثم خرجه عن الطبراني؛ قال: «ورواه الحافظ أبوبكر بن أبي عاصم الأصبهاني» انتهى المقصود من كلام ابن رجب.

والدليل من السنة على وجوب الإيمان بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» .

رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه دليل على أن من استهان بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبال بردِّها ورفضها؛ فليس بمعصوم الدم والمال، ومَن كان بهذه الصفة؛ فإنه يجب أن يُستتاب، فإن تاب، وإلا كان حلال الدم والمال.

فليتأمل الأجلاف المتهاونون ببعض الأحاديث الصحيحة هذا الحديث حقَّ التأمُّل، وإذا كانوا آمنين في الدنيا من تطبيقه عليهم؛ فليعلموا أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، ويكفيهم من الوعيد قول الله تعالى:{ومَنْ يُشاقِق الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ المُؤْمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءتْ مَصيراً} .

ص: 97

فصلٌ

وقد كان السلف الصالح يعظَّمون الأحاديث الصحيحة غاية التعظيم، ويبالغون في الإنكار على الذين يتهاونون بها، وعلى الذين يعارضونها بأقوال الناس وآرائهم، وربما هجروا بعضهم إلى الممات.

وقد روى مسلم في «صحيحه» عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها» ، قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنَّ، قال: فأقبل عليه عبد الله، فسبَّه سبّاً سيئاً ما سمعتُه سبَّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ؟!.

وفي رواية له عن مجاهد: «أنَّه ضرب في صدره» .

وقد روى البخاري المرفوع منه فقط.

ورواه: الإمام أحمد؛ وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم؛ بنحو رواية مسلم.

وروى أبو داود الطيالسي رواية مجاهد، وقال:«فرفع يده، فلطمه، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا؟!» .

وفي رواية لأحمد: «فما كلَّمه عبد الله حتى مات» .

قال النووي: «فيه تعزير المعترض على السنة، والمعارض لها برأيه، وفيه تعزير الوالد ولده، وإن كان كبيراً» انتهى.

وفيه أيضاً جواز التأديب بالهجران، قاله الحافظ ابن حجر.

ص: 98

وفي «مستدرك الحاكم» عن عمرو بن مسلم؛ قال: «خذف (1) رجل عند ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: لا تخذف؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف، ثم رآه ابن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك يخذف، فقال: أنبأتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم خذفت، والله؛ لا أكلمك أبداً» .

وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن بريدة؛ قال: «رأى عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلاً من أصحابه يخذف، فقال له: لا تخذف؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره «أو قال: ينهى عن» الخذف؛ فإنه لا يصاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر السن، ويفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف؟! لا أكلمك كلمة كذا وكذا».

هذا لفظ مسلم، وقد رواه الدارمي في «سننه» بنحوه، وقال فيه:«والله؛ لا أكلمك أبداً» .

وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

ورواه: الإمام أحمد، وأبو داود؛ مختصراً.

ورواه: مسلم أيضا، وابن ماجه؛ من حديث سعيد بن جبير: أن قريباً لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه خذف، قال: فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: «إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوّاً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين» ، قال: فعاد! فقال: أحدثك أن رسول الله

(1) الخذف: الرمي بالحصا الصغار بأطراف الأصابع، وقال ابن الأثير:(هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها).

ص: 99

صلى الله عليه وسلم نهى ثم تخذف؟! لا أكلمك أبداً.

هذا لفظ مسلم.

وفي رواية ابن ماجه: أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه كان جالساً إلى جنب ابن أخ له، فخذف، فنهاه، وذكر تمام الحديث بنحو رواية مسلم، وفيه:«قال: لا أكلمك أبداً» .

وروى الدارمي عن خراش بن جبير؛ قال: «رأيت في المسجد فتى يخذف، فقال له شيخ: لا تخذف! فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف، فغفل الفتى، فظن أن الشيخ لا يفطن، فخذف، فقال له الشيخ: أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف، ثم تخذف؟! والله؛ لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرض، ولا أكلمك أبداً» .

وروى الدارمي أيضا عن أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف، وقال: إنها لا تصطاد صيداً، ولا تنكأ عدوّاً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين» ، فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئاً من الأرض، فقال: هذه؟! وما تكون هذه؟! فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تهاون به، لا أكلمك أبداً.

إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وروى الدارمي أيضا عن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان كذا وكذا؟! لا أكلمك أبداً.

إسناده جيِّد، رجاله كلهم ثقات.

ص: 100

قال النووي في الكلام على حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم؛ فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مما يؤيده، مع نظائر له؛ كحديث كعب بن مالك وغيره» انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر: «في الحديث جواز هجران مَن خالف السنة، وترك كلامه، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث؛ فإنه يتعلَّق بمَن هَجر لحظِّ نفسه» انتهى.

وفي «سنن ابن ماجه» : «أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه غزا مع معاوية رضي الله عنه أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة» ، فقال له معاوية: يا أبا الوليد! لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك؛ لئن أخرجني الله؛ لا أساكنك بأرض لك عليَّ فيها إمْرة. فلما قفل؛ لحق بالمدينة، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقصَّ عليه القصة وما قال من مساكنته، فقال: ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك؛ فقبَّح الله أرضاً لست فيها وأمثالك، وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال؛ فإنه هو الأمر».

ورواه الدارمي مختصراً، ولفظه: «عن أبي المخارق؛ قال: ذكر عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم، فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً يداً بيد، فقال عبادة: أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 101

وتقول: لا أرى به بأساً؟! والله؛ لا يظلني وإياك سقف أبداً».

وفي هذا الحديث جواز هجر مَن خالف السنة وعارضها برأيه.

وقد بوَّب ابن ماجه على هذا الحديث وأحاديث كثيرة سواه بقوله: «باب: تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على مَن عارضه» .

وروى: مالك في «الموطأ» ، والشافعي في «مسنده»؛ من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار:«أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: مَن يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن» .

قال ابن عبد البر في الكلام على قول أبي الدرداء رضي الله عنه: «من يعذرني من معاوية

» إلى آخره: «كان ذلك منه أنفة من أن يردَّ عليه سنة علمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا، وهو عندهم عظيم؛ رد السنن بالرأي» .

قال: «وجائز للمرء أن يهجر مَن لم يسمع منه ولم يطعه، وليس هذا من الهجرة المكروهة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلِّموا كعب بن مالك حين تخلَّف عن تبوك؟» .

قال: «وهذا أصل عند العلماء في مجانبة مَن ابتدع وهجرته وقطع

ص: 102

الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة، فقال: والله؛ لا أكلمك أبداً» انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

والأثر الذي ذكره عن ابن مسعود رضي الله عنه قد رواه الإمام أحمد في كتاب «الزهد» ، فقال حدثنا سفيان: حدثنا عبد الرحمن بن حميد: سمعه من شيخ من بني عبس: «أبصر عبد الله رجلاً يضحك في جنازة، فقال: تضحك في جنازة؟! لا أكلِّمك أبداً» .

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «تمتَّع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما يقول عُرَيَّة؟! قال: يقول: نهى أبوبكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس رضي الله عنه: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول نهى أبوبكر وعمر!» .

وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما لمن عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فكيف بمن اطَّرح الأحاديث الصحيحة ونبذها وراء ظهره ولم يعبأ بها؛ كما يفعل ذلك بعض الزنادقة في زماننا؟! فهؤلاء أولى بالإنكار الشديد والتأديب الذي يردعهم عن معارضة الأحاديث الصحيحة والاستهانة بها.

وروى: الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي؛ عن الزبير بن عربي؛ قال:«سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبِّله، قال: قلت أرأيت إن زُحمت، أرأيت إن غُلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبِّله» .

ص: 103

وقد رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» ؛ قال: حدثنا حماد بن زيد؛ قال: حدثنا الزبير بن العربي؛ قال: «سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن المزاحمة على الحجر؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبِّله، فقلتُ: أرأيت أن أغلب أو أزحم؟ قال: اجعل «أرأيت» مع ذلك الكوكب، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ويستلمه».

قوله: «اجعل أرأيت باليمن» ؛ قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : «إنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي، فأنكر عليه ذلك، وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتَّقي الرأي» انتهى.

وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده منه، أو أين طافت يده» ، فقال له رجل: أرأيت إن كان حوضاً؟ فحصبه ابن عمر، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أرأيت إن كان حوضاً؟!

وقد رواه ابن ماجه مختصراً، ولم يذكر قصة الرجل مع ابن عمر، وإسناده صحيح على شرط مسلم.

وإنما حصب ابن عمر رضي الله عنهما الرجل لأنه فهم منه معارضة الحديث برأيه، فأنكر عليه وحصبه.

وروى: الإمام أحمد بإسناد صحيح، والبيهقي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه؛ فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده» . فقال له قيس الأشجعي: فإذا جئنا مهراسكم هذا؛ فكيف نصنع به؟ فقال أبو

ص: 104

هريرة رضي الله عنه: أعوذ بالله من شرِّك.

هذا لفظ البيهقي.

وإنما تعوَّد أبو هريرة رضي الله عنه من شرِّ قيس؛ لأنه فهم منه معارضة الحديث برأيه، فأنكر عليه ذلك، وتعوَّذ بالله من شرِّه.

وقال الترمذي في «جامعه» : باب ما جاء في إشعار البُدْن: حدثنا أبو كريب: أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قلَّد نعلين وأشعر الهدي في الشقِّ الأيمن بذي الحُلَيفة وأماط عنه الدم».

قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .

قال: «والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون الإشعار، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق» .

قال: «سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعتُ وكيعاً يقول حين روى هذا الحديث، فقال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا؛ فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة» .

قال: «سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع، فقال لرجل ممَّن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة: هو مُثلة! قال الرجل: فإنه قد رُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الأشعار مُثلة! قال: فرأيت وكيعاً غضب غضباً شديداً، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال إبراهيم! ما أحقَّك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا!» .

وقال الشافعي في كتاب «الرسالة» : أخبرني أبو حنيفة سماك بن

ص: 105

الفضل الشيباني؛ قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: «مَن قُتِل له قتيل، فهو بخير النظرين: إن أحبَّ أخذ العقل، وإن أحبَّ فله القَود» . فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح عليَّ صياحاً كثيراً ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به؟! نعم؛ آخذ به، وذاك الفرض عليَّ وعلى مَن سمعه، إنَّ الله عز وجل اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنَّيت أن يسكت».

وقال الفضل بن زياد عن أحمد بن حنبل؛ قال: «بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث: «البيِّعان بالخيار» ، فقال: يُستتاب في الخيار، فإن تاب، وإلا؛ ضربت عنقه».

قال أحمد: «ومالك لم يردَّ الحديث، ولكن تأوله على غير ذلك» .

وإذا كان هذا قول ابن أبي ذئب في الإمام مالك حين تأوَّل حديثاً واحداً على غير تأويله؛ فكيف بأدعياء العلم من الأجلاف الذين لا يبالون بردِّ الأحاديث الصحيحة ورفضها من أجل أنها تخالف آراءهم ونظرياتهم التي هي في الغالب مأخوذة من آراء أعداء الله ونظرياتهم التي تخالف الإسلام وأهله؟! فهؤلاء هم الذين يجب أن يُستتابوا، فإن تابوا، وإلا؛ ضربت أعناقهم.

والله المسؤول أن يبعث لدينه وأحاديث رسول صلى الله عليه وسلم أنصاراً يجاهدون أهل الزيغ والفساد، ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

ص: 106

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بـ «ثعلب» : حدثني محمد بن عبيد بن ميمون: حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري؛ قال: «كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هو الحكام؛ أفهم الحجة على السنة؟! فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء» ، ذكره ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان» .

وروى الخطيب البغدادي في «تاريخه» من طريق يعقوب بن سفيان؛ قال: سمعت علي بن المديني يقول: قال محمد بن خازم»: «كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون، فكلَّما قلت: قال رسول الله؛ قال: صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرتُ حديث: «التقى آدم وموسى» ، فقال عمه - وسماه عليٌّ فذهب عليَّ - فقال: يا محمد! أين التقيا؟ قال: فغضب هارون، وقال: مَن طرح إليك هذا؟ وأمر به فحُبس، ووكل بي في حشمه من أدخلني إليه في محبسه، فقال: يا محمد! والله؛ ما هو إلا شيء خطر ببالي، وحلف لي بالعتق وصدقة المال وغير ذلك من مغلَّظات الأيمان: ما سمعتُ ذلك من أحد، ولا جرى بيني وبين أحد فيه كلام، قال: فلما رجعتُ إلى أمير المؤمنين؛ كلَّمته، قال: ليدلَّني على مَن طرح إليه هذا الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين! قد حلف بالعتق ومغلَّظات الأيمان أنه إنما هو شيء خطر ببالي، لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام، قال: فأمر به، فأطلق من الحبس، وقال لي: يا محمد! ويحك؛ إنما توهَّمت أنه طرح إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه، فيدلني عليهم، فأستبيحهم».

ص: 107

وروى أبو عثمان الصابوني في عقيدته بإسناده عن محمد بن حاتم المظفري؛ قال: «كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد، فحدَّثه بحديث أبي هريرة: «احتجَّ آدم وموسى» ، فقال عيسى بن جعفر: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارضه بـ «كيف» ؟! قال: فما زال يقول حتى سكت عنه».

قال الصابوني: «هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على مَن يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بـ «كيف» على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقَّه بالقبول كما يجب أن يُتَلَقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم» انتهى كلامه رحمه الله.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّدينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُم عَذابٌ أَليمٌ}: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الَشرك، لعلَّه إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك» ، ثم جعل يتلو هذه الآية:{فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّموا تَسْليماً} .

وقال الحاكم: سمعتُ الأصمَّ يقول: سمعت الربيع يقول: «سمعت الشافعي، يقول، وروى حديثاً، فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً، فلم آخذ به؛ فأشهدكم أنَّ عقلي قد ذهب، وأشار بيده إلى رأسه؛ يعني: أن منزلة

ص: 108

الحديث الصحيح عنده على الرأس».

وقال شارح «العقيدة الطحاوية» : «طريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النصِّ الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان؛ كما قال البخاري رحمه الله، سمعت الحميدي، يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجلٌ، فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟! تراني على وسطي زنَّار؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟!» .

وقال الحاكم: أنبأني أبو عمرو السماك مشافهة: أن أبا سعيد الجصَّاص حدثهم؛ قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: «سمعت الشافعي يقول، وسأله رجل عن مسألة، فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله! أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي، واصفرَّ، وحال لونه، وقال: ويحك! أي أرض تقلُّني وأي سماء تظلُّني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلم أقل به؟! نعم؛ على الرأس والعينين، نعم، على الرأس والعينين» .

وقال الربيع: قال الشافعي: «لم أسمع أحداً نسبته عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه؛ فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى مَن بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، لا يختلف فيه الفرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

ص: 109

فصلٌ

وإذا عُلِم ما ذكرتُه عن السلف الصالح من تعظيم الأحاديث الصحيحة، والمبالغة في الإنكار على مَن تهاون بها أو عارضها بأقوال الناس وآرائهم؛ فليعلم أيضاً أنه ينبغي لمن أشكل عليه شيء من الأحاديث الصحيحة أو وقع في نفسه منه شيء: أن يظنَّ به أحسن الظن، ولا يبادر إلى إنكاره ورده كما يفعل ذلك أهل الزيغ والإلحاد.

قال عليٌ رضي الله عنه: «إذا حُدِّثتم شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أتقى، والذي هو أهيأ» .

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والدارمي، وابن ماجه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد المسند» ؛ بأسانيد صحيحة.

وروى: الإمام أحمد، والدارمي، وابن ماجه أيضاً؛ عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: «إذا حُدثتم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فظنُّوا به الذي هو أهيأ، والذي هو أهدى، والذي هو أتقى» .

في إسناد هذا الحديث انقطاع بين عون بن عبد الله وابن مسعود؛ فإنه لم يسمع منه، ولكن يشهد له حديث علي الذي قبله.

ص: 110

فصلٌ

وإذا عُلم أن السلف الصالح كانوا ينكرون أشدَّ الإنكار على مَن تهاون بشيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى مَن رَدَّ شيئاً منها أو عارضه برأيه أو رأي غيره؛ فكيف يُقال في بعض الأجلاف من العصريين الذين لا يبالون برد الأحاديث الكثيرة ورفضها من أجل أنها تخالف آراءهم ونظرياتهم؟!.

ولو أحصي ما ردَّه بعضهم، وصرَّح برفضه في كتبه ومقالاته؛ لبلغ أعداداً كثيرة جداً؟!

وأدهى من ذلك وأفظع ما جاء في قصَّة وقعت له مع بعض الطلاب في الجزائر، حيث كان يناقش الطالب في بحث قدَّمه لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه، فذكر الطالب في بحثه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: «في النار» ، فلمَّا قفَّى؛ دعاه، فقال:«إنَّ أبي وأباك في النار» .

رواه: مسلم وابن حبان في «صحيحيهما» ، والبيهقي في «دلائل النبوة» .

فقال الجلف الجافي للطالب: «ضع هذا الحديث تحت رجلك» .

كذا قال الجلف هذه الكلمة العظيمة الوخيمة التي لا تصدر من رجل يؤمن بالله ورسوله، وهي من الكلمات التي تقتضي الردَّة عن الإسلام؛ لما فيها من المبالغة في الاستهانة بالحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن استهان بشيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا شكَّ أنه قد استهان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستهانة بكلامه فرع عن الاستهانة به، ومَن استَهان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛

ص: 111

فلا شكَّ في ردَّته وحل دمه وماله.

قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .

وقد ذكرتُ قريباً عن البربهاري أنه صرَّح في كتابه «شرح السنة» بتكفير من ردَّ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان ردُّ الحديث الواحد يقتضي الكفر؛ فكيف بردِّ الأحاديث الكثيرة الصحيحة والتصريح برفضها؛ فهذا أشدُّ وأشدُّ.

وأشدُّ من ذلك كله أمر الطالب بوضع الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحت رجله!

فهذه الكلمة الوخيمة تنافي الإسلام غاية المنافاة؛ لأنه لا بُدَّ في صحة الإسلام من تحقيق الشهادة بأن محمداً رسول الله، ولا بدَّ في تحقيقها من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به.

والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا منِّي دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقِّها، وحسابهم على الله» .

رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفيه دليل على أن مَن لم يؤمن بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار؛ فهو حلال الدم والمال.

وهذا الحكم ينطبق على الجلف الذي لم يؤمن بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه بأنه في النار، وقد زاد على عدم الإيمان بهذا الحديث أمره للطالب أن يضع الحديث تحت رجله.

ص: 112

والله المسؤول أن يقيِّض لهذا الجلف وأمثاله مَن يعاملهم بمثل معاملة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمنافق الذي لم يرضَ بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث عاجله بالقتل ولم يمهله.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ أمه نحو ما جاء عنه في حقِّ أبيه، وذلك فيما رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال:«زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى مَن حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها؛ فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكِّركم الموت» .

وقد رواه: ابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «السنن» وفي «دلائل النبوة» .

وروى: الإمام أحمد أيضا، وابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم، والبيهقي؛ عن ابن بريدة عن أبيه؛ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل بنا ونحن قريبٌ من ألف راكب، فصلَّى بنا ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب، ففَدَّاه بالأب والأم، وقال: مالك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي؛ فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار «وذكر بقية الحديث» .

قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي في «تلخيصه» .

وفي رواية لأحمد عن ابن بريدة عن أبيه؛ قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنَّا بودَّان؛ قال:«مكانكم حتى آتيكم» ، فانطلق، ثم جاءنا وهو سقيم، فقال: «إني أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة - يعني

ص: 113

لها - فمنعنيها (وذكر بقية الحديث)».

وروى البيهقي في «دلائل النبوة» من طريق علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه؛ قال: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله كثير، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، قال: ثم بكى، فاستقبله عمر رضي الله عنه، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: «هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليَّ، وأدركتني رقَّتها فبكيت» . قال: فما رُئي ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة.

وروى البيهقي أيضا في «دلائل النبوة» عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطَّى القبور حتى انتهى إلى قبر منها، فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا، فتلقَّاه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ لقد أبكانا وأفزعنا، فجاء، فجلس إلينا، فقال:«أفزعكم بكائي؟» ، فقلنا: نعم يا رسول الله! فقال: «إنَّ القبر الذي رأيتموني أناجي فيه قبر آمنة بنت وهب، وإني استأذنت ربي في زيارتها، فأذن لي فيه، واستأذنت ربي في الاستغفار لها، فلم يأذن لي فيه، ونزل عليَّ: {مَا كَانَ للنَّبِيِّ والَّذينَ آمنُوا أَنْ يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكينَ} حتى ختم الآية: {ومَاَ كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهيمَ لأبِيه إِلَّا عَنْ مَوِعدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّن لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأ منهُ}، فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة؛ فذلك الذي أبكاني» .

وهذه الأحاديث التي وردت في منع النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لأمه

ص: 114

ومنعه من الشفاعة لها يوم القيامة وأنه صلى الله عليه وسلم بكى رحمة لها من النار، لو عرضت على الجلف الذي تقدَّمت الإشارة إليه؛ لما كان بعيداً منه أن يأمر مَن يعرضها عليه أن يضعها تحت رجله؛ كما أمر بذلك في حديث أنس الذي تقدَّم ذكره في أول الفصل.

وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدي القَوْمَ الظَّالمِينَ} .

وكلُّ ما تقدَّم ذكره في الأحاديث التي جاءت في حقِّ أبوي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه حقٌّ يجب الإيمان به، ولا يجوز الاعتراض على شيء منه؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعارضه ويردُّه.

ولله الحكمة البالغة في مصير أبوي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وللنبي صلى الله عليه وسلم أسوة بأبيه إبراهيم خليل الرحمن حيث تبرَّأ من أبيه وامتنع من الاستغفار له لمَّا تبيَّن له أنه عدو لله.

وقد ثبت في «صحيح البخاري» أن إبراهيم إذا شفع لأبيه يوم القيامة؛ لم تقبل شفاعته له، ويمسخ الله أباه ضبعاً، ويأمر به، فيؤخذ بقوائمه، ويلقى في النار.

وهذا مما يجب الإيمان به، ومَن لم يؤمن بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو ممَّن يُشَكُّ في إسلامه.

ص: 115

فصلٌ

ومن أعظم الزلات خطراً على الإسلام وأشدها أثراً في نقض عراه محاولة بعض أهل الزيغ والفساد في زماننا أن يقاربوا بين المسلمين وبين أهل الأديان الباطلة من اليهود والنصارى وغيرهم من سائر أهل الملل المخالفة لدين الإسلام، ومحاولتهم أيضاً أن يقاربوا بين أهل السنة وبين الرافضة وغيرهم من أهل البدع المخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان.

وقد نشروا دعوتهم إلى هذه المذاهب الهدَّامة في كتب لهم ومقالات كثيرة.

وإنه لينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} .

وقوله تعالى: {إِّنهُمُ اتَّخذوا الشَّياطينَ أوْلياءَ منْ دُونِ اللهَ ويَحْسَبونَ أَنَّهُمْ مُهْتدونَ} .

فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من هؤلاء الزائغين أشد الحذر؛ فأنهم ألدُّ الأعداء للسنَّة وأهلها، وهم أضرُّ على السنة وأهلها من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل.

والله المسؤول أن يكفي المسلمين شرَّهم، ويطهر الأرض منهم؛ إنَّه ولي والقادر عليه.

ص: 116

وهذا آخر ما تيسَّر إيراده، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

9/ 5/ 1412 هـ.

ص: 117