الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس الواجب على المسلمين تجاه المستأمنين
جعل الإسلام في شريعته الغراء حقوقاً واجبة للمستأمنين يجب الوفاء بها وأداؤها تجاههم ، وأرشد المسلمين إلى كيفية التعامل معهم ، كما أوجب عليهم حقوقاً تجاه المسلمين الذين أمنوهم في ديارهم. فمن تلك الحقوق الواجبة على المسلمين تجاههم:
1 -
العدل معهم وعدم التعدي عليهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بل ولا يجوز ترويعهم وإخافتهم، ويعاملون بالعدل والقسط.
(1) سورة المائدة ، الآية 8.
قال البيضاويُّ: " لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا العدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين "(1) .
وقال ابن كثير: " ومن هذا قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه «لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض» (2) .
(1) تفسير البيضاوي 3 / 222.
(2)
تفسير القرآن العظيم 1 / 565 ، والحديث رواه أحمد في مسنده 2.
وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» (1) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً» رواه البخاري. (2) .
(1) رواه البيهقي في سننه 5 / 205.
(2)
رواه البخاري - كتاب الجزية والموادعة - باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم 6 / 269.
وصور تطبيق هذه التعاليم والأحكام في تاريخ المسلمين كثيرة ومتنوعة ، فقد كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة والمعاهدين ، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له:" ما نعلم إلا وفاء " أي: وفاء بمقتضى العقد والعهد الذي بينهم وبين المسلمين (1) . ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد ، قم فاردد عليه ضيعته يا عبّاس (2) .
(1) تاريخ الأمم والملوك 4 / 218.
(2)
صفة الصفوة 2 / 115.
قال ابن القيم رحمه الله: " أحكام المستأمن والحربي مختلفة، لأن المستأمن يحرم قتله وتضمن نفسه ويقطع بسرقة ماله، والحربي بخلافه "(1) . وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمناً ، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم، بل يحالون للحكم الشرعي، هذه مسائل يحكمها الحكم الشرعي "(2) .
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 737.
(2)
مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري 29.
2 -
دعوتهم إلى الإسلام وبيان أحكامه بعلم وحكمة وأسلوب حسن
فمن خصائص هذا الدين أنه عالمي الرسالة ، ليس مقصوراً على قوم أو بلد أو زمان ، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) . ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِي ّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلَاّ كان من أصحاب النار» (2) . قال النوويُّ: " فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم "(3) .
(1) سورة سبأ ، الآية 28.
(2)
رواه مسلم - كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 2 / 186.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 188.
إن من سماحة هذا الدين أنه أذن لغير أهله من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين أن يعيشوا في أرضه مع بقائهم على دينهم وعدم إكراههم على الإسلام ، ولم يخل عصر من العصور من وجود غير المسلمين داخل المجتمع المسلم ، يعيشون بين المسلمين ، وينعمون بالأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولا يعني بقاؤهم داخل المجتمع المسلم بأي وجه من الوجوه الرضا بما هم عليه من الكفر بالله ، فإن الله - تعالى - لا يرضى لعباده الكفر ، وإنما أذن الشارع لهم بالبقاء لحكم عديدة منها:
- أن يخالطوا المسلمين ويتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه وينظروا فيها ، فيجدوها مؤسسة على ما تحتمله العقول وتقبله ، فيدعوهم ذلك إلى الإسلام ، ويرغبهم فيه ، فيدخلوا فيه ، وهذا أحب إلى الله من قتلهم. والمقصود من ذلك أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ، وعدم اختلاطهم بالمسلمين يفوت هذه المصلحة ، وهي معرفتهم بالإسلام قال السبكي رحمه الله:"وعدم اختلاطهم يبعدهم عن معرفة محاسن الإسلام ، ألا ترى من الهجرة إلى زمن الحديبية لم يدخل في الإسلام إلا قليل ، ومن الحديبية إلى الفتح دخل فيه نحو عشرة آلاف؛ لا ختلاطهم بهم ، للهدنة التي حصلت بينهم فهذا هو السبب في مشروعية عقد الذمة "(1) .
(1) الفتاوى 2 / 404.