الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنعام
سورة الأنعام اثنا عشر ألف حرف وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا؛ وثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة؛ ومائة وخمس وستّون آية. كلّها احتجاج على المشركين، وكلّها مكّيّة غير ستّ آيات منها؛ فإنّها مدنيّات:{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
(1)
إلى آخر ثلاث آيات. وقوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(2)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ونزلت هذه السّورة وشيّعها سبعون ألف ملك قائدهم جبريل عليه السلام قد سدّوا ما بين الخافقين؛ لهم زجل بالتّسبيح والتّحميد. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتّاب فكتبوها في ليلتهم، فقال جبريل: يا محمّد من قرأها من أمّتك إيمانا واحتسابا صلّى عليه السّبعون ألف ملك الّذين شيّعوها إليك، يعود كلّ آية منها يوما وليلة، فخرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا شكرا لله تعالى.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} قال كعب الأحبار: وأوّل مفتاح التوراة {(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)،} وخاتمتها خاتمة سورة هود {(وَلِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} . قال مقاتل: (قال المشركون للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: من ربّك؟ قال: {[الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ]} فكذبوه، فأنزل الله تعالى حامدا نفسه دالاّ على توحيده: {(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)} أي خلق السّماوات بما فيها من الشّمس والقمر والنجوم، والأرض بما فيها من البرّ والبحر؛
(1)
الآية 67/.
(2)
الآيات 151/-153.
والسّهل والجبل؛ والنّبات والشجر، خلق السموات وما فيها في يومين؛ يوم الأحد ويوم الاثنين؛ وخلق الأرض وما فيها في يومين؛ يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ؛} قال السديّ: (ظلمة اللّيل ونور النّهار).وقال الواقديّ: (كلّ ما في القرآن من الظّلمات والنّور فهو الكفر والإيمان؛ إلاّ في هذه الآية فإنّه يريد به اللّيل والنّهار).قال قتادة: (يعني الجنّة والنّار)
(1)
.وقال الحسن: (يعني الكفر والإيمان)
(2)
.
وقيل: خلق الليل والنهار لمصالح العباد؛ يستريحون باللّيل ويبصرون معايشهم بالنهار. وإنّما جمع (الظّلمات) ووحّد (النّور) لأن النور يتعدّى، والظلمة لا تتعدّى.
وقال أهل المعاني: (جعل) هاهنا صلة؛ والعرب تزيد (جعل) في الكلام كقول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة
…
والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر
وتقدير الآية: {(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)} والظّلمات والنّور.
وقيل: معناه: {(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)؛} لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض. وقال قتادة: (خلق الله السّماوات قبل الأرض، والظّلمة قبل النّور، والجنّة قبل النّار).
وقال وهب: (أوّل ما خلق الله مكانا مظلما، ثمّ خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان، ثمّ نظر إلى الجوهرة نظر الهيبة، فصارت ماء وارتفع بخارها ونبذ زبدها، فخلق من البخار السّماوات؛ ومن الزّبد الأرضين).
قوله عز وجل: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1)؛أي {(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)} بعد هذا البيان {(بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)} الأوثان؛ أي يشركون. وقيل: معناه:
{(يَعْدِلُونَ)} (يعدلون) أي يجعلون لله عديلا ويعبدون الحجارة والأموات؛ وهم يقرّون بأنّ الله خالق هذه الأشياء، فالأصنام لا تعقل شيئا من ذلك.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10157).
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 247؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس)).
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً؛} معناه: خلقكم من آدم عليه السلام، فأخرج الخطاب له؛ لأنّهم ولده، قال السّديّ:(لمّا أراد الله خلق آدم، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها، فاستعاذت الأرض بالله أن ينقص منّي، فرجع ولم يأخذ. فبعث ميكائيل؛ فاستعاذت، فبعث ملك الموت؛ فاستعاذت بالله منه؛ فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره، فأخذ من وجه الأرض، فخلط السّوداء والبيضاء والحمراء؛ فلذلك اختلفت الألوان؛ ألوان بني آدم، ثمّ عجنها بالماء العذب والملح والمسك؛ فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها؛ لا جرم أن أجعل أرواح من أخلق من هذا الطّين بيدك)
(1)
.
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ الله تعالى خلق آدم من تراب، وجعله طينا، ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنونا، ثمّ خلقه وصوّره، ثمّ تركه حتّى إذا كان صلصالا كالفخّار؛ مرّ به إبليس لعنه الله، فقال: خلقت لأمر عظيم. ثمّ نفخ الله فيه الرّوح]
(2)
.
قوله تعالى: {(ثُمَّ قَضى أَجَلاً)} أي خلقكم من آدم عليه السلام {(ثُمَّ قَضى أَجَلاً)} أي جعل لحياتكم وفاة تحيون فيه وهو مدّة كلّ واحد منّا من يوم يولد إلى يوم يموت.
قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ؛} أي مدّة انقضاء الدّنيا إلى أن تقوم الساعة؛ ولا يعلم وقت قيامها إلاّ الله. وقال مجاهد وابن جبير: {(ثُمَّ قَضى أَجَلاً)} يعني أجل الدّنيا {(وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)} وهو الآخرة. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (2) أي ثمّ أنتم بعد هذا البيان تشكّون في موضع ليس هو موضع الشّكّ. والمرية هي الشّكّ المجلب بالشّبهة؛ أصلها من: مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لينزّ لبنها، ويجلبه للحلب
(3)
.
(1)
ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 15.
(2)
في كنز العمال: الحديث (15228).
(3)
ينظر: لسان العرب: ج 13 ص 90: مادة (مرا)؛قال ابن منظور: (فمن مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ) وقال: (والمرية والمرية: الشكّ والجدل، بالكسر والضم).
قوله عز وجل: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ؛} معناه: هو الله المعبود المنفرد بالتدبير في السّماوات والأرض، العالم بما يصلحهما وبما يعمل فيهما. يعلم جهركم وسرّ أعمالكم وعلانية أموركم، {وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ} (3)؛أي ما تعملون من خير وشرّ. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ من أوّل سورة الأنعام ثلاث آيات إلى قوله:
{(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)} وكّل الله به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، وينزل ملك من السّماء السّابعة معه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشّيطان أن يوسوس له؛ ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: امش في ظلّي؛ وكل من ثمار جنّتي؛ واشرب من ماء الكوثر؛ واغتسل من ماء السّلسبيل؛ وأنت عبدي وأنا ربّك]
(1)
.
قوله عز وجل: {وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ} (4)؛أي ما تأتي كفّار مكة من دلائل التوحيد والنبوّة؛ مثل كسوف الشمس والاستسقاء، وكسوف القمر والدّخان؛ إلا كانوا عن هذه الآيات والعلامات معرضين مكذّبين تاركين لها.
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (5)؛أي فقد كذب أهل مكة بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ وبما رأوه من انفلاق القمر بمكة، كما روي عن ابن مسعود (أنّ القمر انفلق فلقتين حتّى رأوا اجرابي فلقتي القمر، ثمّ ذهبت فلقة وبقيت فلقة).
وقوله تعالى: {(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)} هذا وعيد لهم؛ أي سيعلمون ما يؤول إليه عاقبة استهزائهم بالرّسل والكتب والآيات التي كانت تأتيهم، فقتلهم الله يوم بدر بالسّيف، ويأتيهم خبر استهزائهم حين يرون العذاب معاينة.
والنبأ عبارة عن خبر الّذي له عظم وشأن.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 245 - 248؛ قال السيوطي: ((أخرجه السلفي بسند واه عن ابن عباس)).ونقله أهل التفسير عن جابر رضى الله عنه؛ ينظر: اللباب: ج 8 ص 540.
قوله عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ؛} أي ألم يعلم أهل مكّة كم أهلكنا من قبلهم من قرن بكفرهم، مثل قوم نوح وعاد وثمود، {مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ؛} وأمهلناهم في العمر والولد ورفع الموانع ما لم نمهل لكم، {وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً؛} أي فأنزلنا عليهم المطر دارّا دائما يتبع بعضه بعضا، {وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ؛} ((أي من تحت))
(1)
أشجارهم وبساتينهم، فلم يشكروا وعصوا ربّهم وكذبوا رسلهم، {فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ؛} بكفرهم وتكذيبهم، {وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ؛} أي من بعد هلاكهم، {قَرْناً؛} قوما، {آخَرِينَ} (6)؛فسكنوا ديارهم، ثم بعثت إليهم الرّسل، فمن لم يأخذ بملّة الرّسل ومنهاجهم أهلكهم الله.
والقرن-في قول أكثر المفسّرين-:أهل عصر واحد، سمّوا قرنا؛ لاقترانهم في قرن واحد. ويقال: أهل كلّ عصر فيهم نبيّ أو عالم، لاقترانهم بالنبوّة والعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:[خير النّاس قرني، ثمّ الّذين يلونهم]
(2)
.وأراد بالقرن الأوّل: الصّحابة، وبالثاني: التابعين، وبالثالث: تابعي التابعين. واختلفوا في مدّة القرن؛ قال بعضهم:
ثمانون سنة، وقيل: مائة سنة، وبين القرنين ثماني عشرة سنة.
قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ؛} قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ؛ قال: يا محمّد؛ لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله).وقال مقاتل والكلبيّ: (نزلت في النّضر بن الحارث، وعبد الله ابن أبي أميّة، ونوفل بن خويلد؛ قالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله، فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(3)
.
(1)
((أي من تحت)) ليست في المخطوطة.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (1144) عن النعمان بن بشير: ج 2 ص 74،والحديث (5471) عن أبي هريرة رضى الله عنه: ج 6 ص 223.وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 19؛قال الهيثمي: ((فيه عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث، وبقية رجال الإمام أحمد رجال الصحيح)).
(3)
ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 293.
ومعناها: (ولو نزّلنا عليك كتابا في) صحيفة وعلّقناه بين السّماء والأرض ينظرون إليه ويعاينونه ويلمسونه بأيديهم، {لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} كفّار مكّة بعد معاينة ذلك:{إِنْ هذا؛} ما هذا؛ {إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (7)؛أي كما قالوا في انشقاق القمر: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}
(1)
.وفي الآية بيان أنّهم كانوا معاينين مصرّين على التكذيب.
قوله عز وجل: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} (8)؛أي قالوا: لولا نزّل على محمّد ملك نشاهده ونعاينه يخبرنا بأنه نبيّ، يقول تعالى:{(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً)} كما سألوه فكذبوا لعذبناهم بعذاب الاستئصال {(ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)} أي لا يؤجّلون ولا يمهلون بعد نزول الآية المقترحة، نحو ما ذكر الله تعالى في قصّة قوم صالح وغيرهم. قال الضحّاك:(معناه: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا)
(2)
.
قوله عز وجل: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} (9)؛أي لو أرسلنا إليهم رسولا من الملائكة لأرسلناه في صورة الإنسان؛ لأنّهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى هلاكهم؛ وليكون الشكل إلى الشكل أميل، وبه الذهن
(3)
إلى الفهم عنه أقرب، وإلى القبول منه أسرع، ولو نظرنا إلى الملك على هيبته لصعقنا.
وقد كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان؛ من ذلك أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيّ، وجاءت الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام في صورة الضّيفين، وجاءت الملائكة إلى داود عليه السلام في صورة رجلين يختصمان إليه، وذلك قوله تعالى:{(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً)} أي لو أنزلنا إليهم ملكا لجعلنا ذلك في صورة الرّجل أيضا.
(1)
القمر 2/.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 393؛ نقله القرطبي عن ابن عباس والحسن وقتادة، بلفظ:(لو رأوا الملك).
(3)
في المخطوط: (وبه السن والى الفهم عنه أقرب) وهو غير مستقيم.
قوله تعالى: {(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)} أي اختلطنا وشبّهنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى شكّوا؛ فلا يدرون أملك هو أم رجل؟ وهذا لأنّهم أنكروا نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة، ثم لبسوا على أنفسهم وعلى ضعفتهم؛ فقالوا: إنّما هو بشر، فلو نزل الملك على صورة رجل للبسوا على أنفسهم أيضا فلم يقبلوا منه وقالوا: إنه في مثل صورتنا!
قوله عز وجل: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ؛} أي استهزأت الأمم الماضية بأنبيائهم كما استهزأ بك يا محمّد قومك، {فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (10)؛أي نزل بهم وحلّ بالمستهزئين من الكفّار عقوبة استهزائهم بالكتاب والرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال الضّحاك: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين: بلال وصهيب وعمّار وغيرهم، فمرّ بهم أبو جهل في ملإ من قريش؛ فقال: تزعم يا محمّد أنّ هؤلاء ملوك الجنّة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت فؤاده ويصبر على أذى المشركين).أي إن سخر أهل مكّة من أصحابك، فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم قبلك.
والحيق في اللّغة: ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله، ومنه قوله تعالى:
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ}
(1)
.وأما الاستهزاء فهو إيهام التّفخيم بمعنى التّحقير.
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (11)؛أي قل لهم يا محمّد سافروا في الأرض، ثم انظروا بأبصاركم وتأمّلوا بقلوبكم كيف صار إجرام المكذّبين بالرّسل والكتب مثل عاد وثمود وغيرهم، الذين عذبهم الله تعالى بعذاب الاستئصال، وكانت آثار ديارهم باقية قريبة من مكّة. وقال الحسن:(معنى {(سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)} أي اقرءوا القرآن وتفكّروا فيه، فإنّ من قرأ القرآن وتفكّر فيه فكأنّه سار في الأرض).
(1)
فاطر 43/.
قوله عز وجل: {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ؛} أي قل يا محمّد لكفار مكّة: لمن ملك ما في السّماوات والأرض، فإن أجابوك وقالوا: لله، وإلا فقل لهم ((لله))
(1)
إذ هم يعلمون ويقرّون أن الأصنام لا تملك خلق شيء، وإنّما الله يملك ذلك.
وقوله تعالى: {(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)} أي أوجب على نفسه الرّحمة فضلا وكرما. أو قيل: معناه: أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه؛ وقيل: أوجب على نفسه الرحمة بإمهال من عصاه؛ ليستدرك ذلك بالتوبة ولم يعاجله بالعقوبة، وهذا استعطاف من الله عز وجل للمتولّين عنه إلى الإقبال، وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجّل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لمّا خلق الله تعالى الخلق؛ كتب فوق العرش: إنّ رحمتي سبقت غضبي]
(2)
.وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: (ما أوّل شيء ابتدأ الله به؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد؛ كتابه الزّبرجد واللّؤلؤ والياقوت: إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا، سبقت رحمتي غضبي)
(3)
.
وفي الخبر: أنّ لله تعالى مائة رحمة كلّها ملئ السّماوات والأرض، فأهبط الله تعالى منها رحمة واحدة لأهل الدّنيا، فهم بها يتراحمون؛ وبها يتعاطفون؛ وبها يتراحم الإنس والجنّ وطير السّماء وحيتان الماء؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهو امّها، وأخّر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ؛} بدل من الرحمة وتفسير لها، فكأنّه قال: ليجمعنّ بين المؤمنين والكفار، بين المؤمن والكافر في الرّزق والنّعمة والدّولة إلى يوم القيامة، لا شكّ فيه عند المؤمنين أنه حقّ كائن، ثم تكون العاقبة بدل البعث للمؤمنين.
(1)
((لله)) سقطت من المخطوط.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب بدء الخلق: الحديث (3194).ومسلم في الصحيح: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله: الحديث (2751/ 14) واللفظ له.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10211).
قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛} ابتدأ كلامه؛ وجوابه {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (12)؛لأنّ (الّذين) في موضع شرط؛ وتقدير الآية: الذين غبنوا
(1)
أنفسهم وأهليهم ومنازلهم وخدمهم في الجنّة في سابق علم الله لا يؤمنون؛ أي لا يصدّقون بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وذهب بعضهم إلى أنّ قوله تعالى: {(لَيَجْمَعَنَّكُمْ)} كلام مبتدأ على وجه القسم، و {(الَّذِينَ)} بدل من الكاف والميم في {(لَيَجْمَعَنَّكُمْ)،} كأنه قال: ليجمعنّ هؤلاء المشركين {(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)} إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرونه. ويحتمل أن يكون قوله: {(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)} راجعا إلى المكذّبين، كأنه قال: عاقبة المكذبين {(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)} .
قوله عز وجل: {*وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (13) قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ كفّار مكّة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمّد؛ قد علمنا ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الحاجة، فنحن نجعل لك من أموالنا حتّى تكون أغنانا رجلا، وترجع عمّا أنت عليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(2)
.
ومعناه: ولله ملك ما استقرّ {(فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)} من الخلائق كلّهم، وهذا اللفظ يشتمل على جميع المخلوقات؛ لأنّ من الحيوانات ما يتصرّف بالنهار ويسكن بالليل، ومنها ما يتصرف بالليل ويسكن بالنّهار. وقال محمد بن جرير:(كلّ ما طلعت عليه الشّمس وغربت فهو من ساكن اللّيل والنّهار، والمراد: جميع ما في الأرض؛ لأنّه لا شيء من خلق الله تعالى إلاّ وهو ساكن في اللّيل والنّهار)
(3)
.
وقال أهل المعاني: في الآية إضمار تقديره: وله ما سكن وتحرّك في الليل والنهار. فإن قيل: فلم قال: {(وَلَهُ ما سَكَنَ)} ولم يقل: وله ما تحرّك؟ قيل: لأنّ
(1)
في المخطوط: (عبوا) وهو تصحيف، والصحيح كما أثبتناه؛ لأن أصل الخسار الغبن، يقال: خسر الرجل في البيع: إذا غبن.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام: قريش وتفسير سورة الكهف: ج 1 ص 316،شطر من حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
ينظر: جامع البيان: تفسير الآية: مج 5 ج 7 ص 210.
الساكن في الأشياء أعمّ؛ لأنه ما من متحرّك إلا وسكن؛ وفي الأشياء الساكنة ما لا يتحرك البتّة. قوله تعالى: {(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)} معناه: السميع لمقالة الكفّار، العليم بهم وبعقوبتهم. ويقال: هو السميع للأصوات والأقوال، العليم بالأشياء والأرزاق.
وقوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي قل لهم يا محمّد: أسوى الله أعبد ربّا وأتّخذ ناصرا، وقوله تعالى:{(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} أي خالقهما ومبدعهما، قال ابن عبّاس:(ما كنت أدري ما {(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه:
أنا فطرتها، أي ابتدأتها، يعني ابتدأت حفرها)
(1)
.
قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؛} أي يرزق ولا يرزق ولا يعاون على الرّزق. وقرأ الأعمش: «(ولا يطعم)» بفتح الياء؛ أي يرزق ولا يأكل؛ أي لا يجوز عليه الحاجة. قوله تعالى: {(فاطِرِ السَّماواتِ)} انخفض لأنه نعت لا اسم لله تعالى، ويجوز نصبه على معنى: أعني فاطر السّماوات، ويجوز رفعه على إضمار (هو).
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ؛} أي قل لهم يا محمّد: إنّي أمرت أن أكون أوّل من أخلص لله بالتوحيد والعبادة من أهل هذا الزّمان.
قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (14)؛لا يجوز أن يكون عطفا على قوله: {(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)} لأنه غير مأمور بأن يقول:
{(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)} وإنّما هو نهي معطوف على أمر من حيث المعنى دون اللّفظ؛ لأنّ معنى الآية: قيل لي كذا: أوّل من أسلم ولا تكوننّ من المشركين.
قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15) أي قل يا محمّد: إنّي أعلم أنّي إن عصيت ربي وعبدت غيره، أن ينزل بي عذاب يوم عظيم شأنه وهو يوم القيامة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10214).
قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ؛} أي من يصرف الله عنه العذاب العظيم يوم القيامة فقد رحمه، {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (16)؛أي النجاة الوافرة الظّاهرة. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا:«(من تصرف)» بفتح التّاء وكسر الراء؛ وتفسيره ما ذكرناه. وقرأ الباقون «(يصرف)» على ما لم يسمّ فاعله؛ أي من يصرف عنه العذاب بأمر الله؛ فقد سبقت رحمة الله له بإيجاب الثّواب.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ؛} إن يصبك الله بفقر أو مرض أو بلاء، فلا يقدر أحد من الأصنام وغيرها على كشف ذلك الضّرّ إلا الله، وإنّما أطلق هذا اللفظ وإن كان يتصوّر أن يكشف الإنسان عن صاحبه كربة من الكرب؛ لأن كاشف الضّرّ في الحقيقة هو الله تعالى، إمّا أن يكشفه بفضله أو نسبة له.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ؛} أي بفضل وسعة في الرزق وصحّة في الجسم، فلا مزيل لها إلا هو. إلا أنه لم يقل: فلا مزيل لها إلا هو؛ لأنه لمّا أكّد هذا في الضّرّ دلّ على هذا في الخير فاستغنى عن إعادته. وإنّما قال {(يَمْسَسْكَ)} مع أن كون المسّ المعيّن من صفة الأجسام؛ لأنّ المعنى يمسسك الله تعالى الضّرر. قوله تعالى:
{فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17)؛أي لا يقدر أحد أن يمنعه عن فعل ما أراد فعله من كشف ضرّ أو غيره.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه وهو راكب على بغلة، فلمّا سار بي مليّا التفت إليّ وقال لي:[يا غلام].قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: [احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقد مضى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك؛ ما قدروا على ذلك، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك؛ لما قدروا عليه. واعلم: أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ مع الكرب الفرج،
وأنّ مع العسر يسرا]
(1)
.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ؛} أي هو الغالب على أمر عباده. والقهر: هو الاستعلاء بالاقتدار على الغلبة. وأراد بقوله: (فوق) أنّهم تحت التسخير والتذليل عمّا علاهم من الاقتدار عليهم، لا ينهاك أحد منهم. قوله:
{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (18)؛أي المحكم لصنعه؛ الخبير بأعمال الخلق.
قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا محمّد؛ أما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟! ما نرى أحدا يصدّقك بما تقول؛ ولقد سألنا عنك اليهود والنّصارى؛ فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ولا نعت، فأرنا من شهد أنّك رسول الله كما تزعم. فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
ومعناها: قل لهم يا محمّد: أيّ أحد أعظم وأعدل برهانا وحجّة؟ فإن أجابوك وقالوا: الله، وإلاّ فقل: الله أكبر شهادة من خلقه، وهو شهيد بيني وبينكم، بأنّي رسول الله، وأنّ هذا القرآن كلامه. والشاهد هو المبيّن للدعوى، وقد بيّن الله تعالى دعوى رسوله بالبراهين والمعجزات والآيات الدالّة على توحيد الله ونبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ؛} معناه: أنزل إليّ هذا القرآن لأخوّفكم به بما فيه من الدلائل؛ وأخبار الأمم السّالفة؛ والإنباء بما يكون؛ والتأليف الذي عجز عنه العرب. قوله تعالى: {(وَمَنْ بَلَغَ)} أي وأنذر من بلغه القرآن سواكم من العجم، وغيرهم من الجنّ والإنس إلى أن تقوم الساعة؛ لأنه ليس من بعد القرآن كتاب، ولا من بعد محمّد رسول.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 398؛ قال القرطبي: ((أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح، وقد خرجه الترمذي)).وأخرجه الترمذي في الجامع: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: الحديث (2516)؛وقال: حسن صحيح. والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: باب تعليم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عباس: الحديث (6357 و 6358).
(2)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 315.وينظر: الروض الأنف: ج 2 ص 45 - 46: عتبة بن ربيعة يذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: طبعة دار الكتب العلمية الأولى.
قوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ؛} استفهام بمعنى الإنكار؛ أي إن كنتم تشهدون بإثبات شريك لله؛ فأنا لا أشهد بما تشهدون به. وإنّما قال: {(أُخْرى)} ولم يقل أخر
(1)
؛لأن الجمع تذكّر بلفظ وحدان التأنيث
(2)
،كما قال تعالى:{قالَتِ الْأَعْرابُ}
(3)
ومثله كثير.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ؛} لا شريك له ولا ولد، {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} (19)؛به من الأصنام والأوثان.
قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ؛} أي الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل يعرفون محمّدا صلى الله عليه وسلم بما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته ونعته، كما يعرفون أبناءهم إذا رأوهم بين الغلمان. كما روي في الخبر: (أنّ عمر رضى الله عنه قال لعبد الله بن سلام: يا أبا حمزة؛ أتعرف محمّدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ قال: يا عمر؛ إنّ معرفتي به أشدّ من معرفتي بابني؛ لأنّ أمين السّماء-يعني جبريل قد جاء بنعته إلى أمين الأرض وهو موسى عليه السلام. فقال عمر: وكيف ذلك؟ قال:
أشهد أنّه رسول الله حقّ من الله تعالى، وقد نعته الله تعالى في كتابنا فعرفته، وأمّا ابني فلا أدري ما أحدث النّساء بعدي. فقال عمر رضى الله عنه: وفّقك الله يا ابن سلام)
(4)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (20)؛ابتداء كلام معناه: والّذين غبنوا أنفسهم بذهاب الدّنيا والآخرة عنهم، وهم المعاندون الذين يعرفون ويجحدون من رؤساء اليهود والنصارى، فهم لا يقرّون بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
(1)
في معاني القرآن: ج 1 ص 329؛ قال الفراء: (وقوله: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: (أخر)؛لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقال الله تبارك وتعالى: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ولم يقل: الأول والأولين، وكل ذلك صواب).
(2)
أما قوله: (بلفظ وحدان التأنيث) قال ابن عادل: (وأُخْرى صفة ل آلِهَةً؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى: مَآرِبُ أُخْرى [طه 18/] والْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف 180/]. ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 67:تفسير الآية (19) من سورة الأنعام.
(3)
الحجرات 14/.
(4)
في جامع البيان: الأثر (10230)؛ قال الطبري: ((عن ابن جريج قال: زعم أهل المدينة
…
وذكره من غير ذكر الأسماء)).
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؛} معناه: أيّ أحد أظلم في فاحشة أتاها ممّن اختلق على الله كذبا بإضافته إلى الله ما لم يضفه إلى نفسه من صفة أو أمر وقول، وهم الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها؛ قل: إنّ الله لا يأمر بالفحشاء. قوله تعالى: {(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ)} أي بدلائله؛ {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ} (21)؛أي لا يؤمن من عذاب الله ولا يصل إلى مراده؛ وبغيته القوم الكافرون.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً؛} أي واذكروا يوم نبعث الكفّار وآلهتهم جميعا للحساب والجزاء. وقال بعضهم: الواو عاطفة على قوله: {(لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ)} كأنّه قال: لا يفلحون في الدّنيا ويوم نحشرهم. والحشر: جمع النّاس إلى موضع معلوم.
قوله تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا؛} معناه: ثمّ نقول للّذين أشركوا بالله غيره: {أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ؛} آلهتكم؛ {الَّذِينَ كُنْتُمْ؛} التي كنتم تعبدون من دون الله؛ و؛ {تَزْعُمُونَ} (22)،أنّهم شركاء الله وشفعاؤكم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} (23)؛ أي ثمّ لم تكن معذرتهم يوم القيامة إلا مقالتهم: {(وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ)} في دار الدّنيا. وإنّما سميت المعذرة فتنة؛ لأنّها عين الفتنة.
ومن قرأ «(فتنتهم)» بالنصب فعلى خبر {(لَمْ تَكُنْ)} واسمها {(أَنْ قالُوا)} .ومن قرأ «(ربّنا)» بالنصب فمعناه النداء. وقراءة حفص على البدل، ويجوز الرفع على إضمار (هو).وقيل: المراد بالفتنة محبّتهم للأوثان التي كانوا مفتتنين بها في الدّنيا، فأعلم الله تعالى أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرّءوا منه وانتهوا عنه، فحلفوا أنّهم ما كانوا مشركين.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ؛} أي انظر يا محمّد كيف صار وبال الكذب عليهم؟ {وَضَلَّ عَنْهُمْ؛} أي عزب عنهم افتراؤهم بما لحقهم من الدّهول والدّهش، قال الضحّاك: (وذلك حين نطقت الجوارح، وشهدت عليهم
أيديهم وأرجلهم بعد حلفهم {(وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ)} يقول الله تعالى: {(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ)} {ما كانُوا يَفْتَرُونَ} (24).
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ أبا سفيان والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة والنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف وجماعة من أهل مكّة؛ كانوا يسمعون إلى حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا للنّضر: ما يقول محمّد؟ قال: لا أدري ما يقول؟ إلاّ أنّي أراه محرّكا شفتيه ويتكلّم بشيء ولا يقول إلاّ أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأوّلين وأخبارهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(1)
.
ومعناها: ومن أهل مكة من يستمع إلى حديثك وقراءتك، وجعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوه؛ وفي آذانهم ثقلا وصمما، فلا يسمعون الهدى. وموضع {(أَنْ يَفْقَهُوهُ)} نصب على أنه مفعول له؛ أي جعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن يفقهوه.
والوقر بفتح الواو: الثّقل في الأذن، والوقر بكسر الواو: ما يحمل على الظّهر.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها؛} أي وإن يروا كلّ حجّة ودلالة لا يقرّوا ولا يصدّقوا بها.
قوله تعالى: {حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ؛} أي يخاصمونك بالباطل؛ {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (25)؛أي يقول النّضر بن الحارث وأصحابه: ما هذا إلا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.
قوله عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ؛} قال مقاتل: (نزلت في أبي طالب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتّى أوسّد في التّراب دفينا
(1)
ينظر: الروض الأنف: بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش: ج 2 ص 47 مطولا. والسيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 315 - 316.
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي
…
فلقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنّه
…
من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذار مسبّة
…
لوجدتني سمحا بذاك يقينا
(1)
فأنزل الله تعالى: {(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ)} وينهون الناس عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم {(وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)} أي يتباعدون عمّا جاء به من الهدى، فلا يصدّقونه.
وقال السّدّيّ والضحّاك: (نزلت الآية في جميع كفّار مكّة) يعني وهم ينهون الناس عن اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم والإيمان؛ ويبعدون أنفسهم عنه. {وَإِنْ يُهْلِكُونَ؛} بذلك؛ {إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} (26)؛وما يعلمون أنّهم يهلكون أنفسهم.
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا؛} أي ولو ترى يا محمّد كفار قريش إذ حبسوا على النّار؛ إذ عاينوها ودخلوها وعرفوا عذابها؛ فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربنا؛ تمنّوا الرجعة إلى الدّنيا.
وقرأ ابن السميقع: «(وقفوا)» فبفتح الواو والقاف من الوقوف. والقراءة الأولى من الوقف، وجواب (لا) محذوف وتقديره: ولو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، وقيل: لعلمت ماذا ينزل بهم من الخزي والندامة، ورأيت حسرة يا لها من حسرة.
قوله تعالى: {(وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا)} {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (27)؛قرأ حمزة ويعقوب وحفص: «(ولا نكذّب)» «(ونكون)» بالنصب على جواب التّمنّي، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء، كما قالوا: يا ليتك تصير إلينا ونكرمك، أو فنكرمك فكلاهما بالنصب.
وقرأ ابن عامر «(ولا نكذّب)» بالرفع «(ونكون)» بالنصب؛ لأنّهم تمنّوا الردّ وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنّهم لا يكذبون بآيات ربهم وإن ردّوا إلى الدنيا. ومعناه: يا
(1)
ذكره الواحدي في أسباب النزول: ص 144 عن ابن عباس مع اختلاف في بعض الألفاظ، وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 406.
ليتنا نردّ، ويا ليتنا لا نكذب، كأنّهم تمنّوا الردّ والتوفيق بالتصديق. ويجوز أن يكون ذلك رفعا على معنى: ونحن لا نكذّب بآيات ربنا، رددنا أو لم نردّ.
قوله عز وجل: {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ؛} أي بل ظهر للذين يتّبعون الغواة ما كان الغواة يخفون عنه من أمر البعث والنّشور، وما كان رؤساؤهم يخفون من سفلتهم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ؛} أي لو ردّوا إلى الدنيا كما سألوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشّرك. قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} (28)؛يعني وإنّهم لكاذبون في قولهم: {(وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)} لأنّهم لا يؤمنون لسابق علم الله تعالى فيهم أنّهم خلقوا للنار.
قوله تعالى: {وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا؛} أي قال كفّار مكّة: ما حياتنا إلا كحياة الدّنيا، {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (29)؛بعد الموت.
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ؛} أي لو ترى يا محمّد إذ حبسوا عند ربهم للسؤال والحساب. ويقال: عرفوا ما وعدهم ربّهم من البعث والقيامة والجنّة والنار. {قالَ؛} يقول الله تعالى لهم: {أَلَيْسَ هذا؛} البعث والعذاب، {بِالْحَقِّ؛} أي بالصّدق، {قالُوا بَلى وَرَبِّنا؛} إنه لحقّ؛ أي لصدق، {قالَ؛} يقول الله تعالى:{فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (30) في الدّنيا.
وإنّما ذكر الذوق بمعنى الخلود؛ ليبيّن أن حالهم في كلّ وقت كحال من يعذب بالعذاب المبتدأ. ومعنى {(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ)} أي على حكم ربهم وقضائه، فتقول لهم الملائكة بأمر الله تعالى: أليس هذا العذاب بالحقّ، قالوا بلى وربنا إنه حقّ.
قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ؛} أي قد غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت، {حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً؛} أي فجأة ندموا في وقت لا ينفعهم الندامة. وسميّت القيامة ساعة؛ لتوهّم قيامها في كلّ ساعة.
وقوله تعالى: {قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها؛} أي على ما قصّرنا وضيّعنا في الدّنيا من عمل الآخرة، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ؛} معناه:
والكفّار يحملون أثقال آثامهم فوق ظهورهم بذنوبهم، والذنب من أثقل ما يحمل.
وقيل: معناه {(عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)} أي في الصفقة.
وقوله تعالى: {(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)} قال السّدّيّ: (ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلاّ أتاه رجل قبيح الوجه؛ أسود اللّون؛ منتنّ الرّائحة؛ عليه ثياب دنسة، فإذا رآه الظّالم قال له: ما أقبحك! فيقول: أنا عملك في الدّنيا، فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: طالما كنت أحملك على اللّذة والشّهوات، فأنت اليوم تحملني. فيركبه وفي يده مقمعة فيضرب بها رأسه؛ فيفضحه على رءوس الخلائق حتّى يدخله النّار، فذلك قوله: {(يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)}
(1)
.
قوله تعالى: {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} (31)؛أي بئس الشيء الذي يحملون من الآثام. ويقال: بئس الشيء شيئا يزرونه؛ أي يحملونه.
قوله عز وجل: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ؛} معناه: ما زينة الدّنيا وزهرتها إلا استمتاع؛ يعني من قريب، ثمّ يعقبه حسرة وندامة. وسمّي ذلك لعبا تشبّها بلعب الصّبيان، يبنون بناء ثم يهدمونه، يلعبون بشيء فيلهون به، كذلك أهل الدّنيا يجمعون ما لا يأكلون؛ ويبنون ما لا يسكنون؛ ويأملون ما لا يدركون.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لكفّار مكّة، يفعلون ما لا يرجون به الثواب، ولا يخشون منه العقاب، ولا يتفكّرون في العاقبة كالصبيان والبهائم. واللّعب شغل النّفس عمّا لا حقيقة له ولا قصد. واللهو: طلب المزح بمثل ذلك.
قوله تعالى: {وَلَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ؛} يعني الجنّة أفضل للذين يتّقون الشرك والكبائر والفواحش، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (32)؛أن الآخرة الباقية خير من الدنيا الفانية. قرأ ابن عامر:«(ولدار الآخرة)» بلام واحدة على الإضافة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10271).
قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ؛} معناه: قد نعلم إنّه ليحزنك ما يقول كفار مكّة من تكذيبهم إيّاك في العلانية وجحودهم بالله، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ؛} في السرّ ولا بقلوبهم؛ أي هم يعلمون أنك صادق وكنت تسمّى فيهم (الأمين) قبل الرسالة، فلا يحزنك تكذيبهم إيّاك فيما يعلمون صدقك فيه، {وَلكِنَّ الظّالِمِينَ؛} المشركين، {بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (33)؛بألسنتهم ما تشهد به قلوبهم بكذبهم فيه.
وقال السّدّيّ: (التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل؛ فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم؛ أخبرني عن محمّد؛ أصادق هو أم كاذب؛ فإنّه ليس هاهنا أحد يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: والله إنّ محمّدا لصادق؛ وما كذب محمّد قطّ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللّواء والسّقاية والحجابة والنّبوّة؛ فماذا يكون لسائر قريش. فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(1)
.وقال: (معنى: {(لا يُكَذِّبُونَكَ)} لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به ممّا في كتب الأنبياء قبلك: كذبت!.
وقرأ نافع والكسائيّ: «(يكذبونك)» بالتخفيف. ومعناه: لا يجدونك كاذبا، يقال:
كذبت فلانا بالتشديد إذا قلت له: كذبت، وأكذبت فلانا؛ إذا رأيت ما أتى به كذبا.
وقرأ نافع «(ليحزنك)» بضمّ الياء، والمعنى واحد.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا؛} تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى الكفار، ومعناه: أنّ الرسل قبلك كذبهم قومهم كما كذبك هؤلاء، وآذوهم كما آذوك؛ فصبر الرّسل على تكذيبهم وإيذائهم {(حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا)} أي أتاهم نصرنا بإهلاك قومهم، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك إيّاك وإيذائهم لك حتى يأتيك نصرنا.
قوله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ؛} أي لا مغيّر لما وعدك الله من النصر والظّفر بقوله: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا}
(2)
، {وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (34) أي من خبر المرسلين قبلك ما يكون لك فيه سلوة، فاعتبر بأخبارهم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10275).
(2)
غافر 51/.
قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ؛} أي إن كان عظم وثقل عليك يا محمّد إعراضهم عن القبول منك وقولهم: لولا أنزل عليه ملك، وسؤالهم كلّ معجزة شاءوا، {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ؛} فإن استطعت أن تطلب مسلكا نافذا في الأرض؛ كنفق اليربوع، فتدخله هاربا متواريا؛ أو تطلب شيئا يسلمك إلى السّماء فتأتيهم بالآية التي سألوكها، فافعل، وليس في القرآن فافعل؛ لأنه قد يحذف ما يكون في الكلام دليلا عليه مثل قول الرجل: إن رأيت أن تمضي معي إلى فلان، ولا يذكر فافعل.
وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية: إنّ ما تأتي من الآيات بما أحبّ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يقدر على الإتيان إلا بما شاء الله، وكان قد علم أنه لو أنزل عليهم الملك وكلّ آية سألوها لم يؤمنوا، فلم ينزل إلا ما تثبت به الحجّة عليهم، فتؤجر بالصبر والثّبات على الإيمان بالآية.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى؛} أي لو شاء الله لاضطرّهم إلى الإيمان كما قال: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ}
(1)
.وقيل: معناه: ولو شاء الله لأطبقهم على الهدى. وقيل: لوفّقهم.
وقوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} (35)؛أي لا تكوننّ من الجاهلين بترك الصّبر وإظهار الجزع؛ واستشعار الغمّ لإعراضهم عنك، فإن هذا من فعال الجاهلين. ويقال: معناه: لا تكوننّ من الجاهلين بمقدوري عليهم.
قوله عز وجل: {*إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ؛} معناه: إنّما يجيب الذين يقبلون الحقّ، وأمّا الذي لا يقبل الحقّ فكأنه أصمّ أو ميّت، قوله تعالى:
{وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ؛} أراد به كفار مكة؛ سمّاهم موتى لأنّهم لم يتدبّروا ولم يتأمّلوا، ولم ينتفعوا بحياتهم، فكانوا بمنزلة الموتى وإن كانوا في صورة أحياء، {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (36)؛في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم.
(1)
الشعراء 4/.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؛} أي قال كفّار قريش:
لولا نزّل على محمّد علامة لنبوّته من ربه؛ يعنون الآيات التي كانوا يقترحونها، {قُلْ؛} يا محمّد؛ {إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً؛} على ما تقترحونها أنتم، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (37)؛ما عليهم من المضرّة في إنزال هذه الآية، إذ الحكمة تقتضي التعذيب بعذاب الاستئصال لمن كفر بعد إنزال الآية المقترحة.
قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ؛} أي ما من دابّة تدبّ وتتحرّك على وجه الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه في الهواء، إلا أمم أمثالكم، في الفقر والفاقة والحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وأكنّتهم وهدايتهم إلى مراشدهم ومصالحهم.
وقيل: معناه: إلا أمم أمثالكم في الخلق والرزق والموت والبعث؛ لأنه قال:
{(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ)} فيكون معناه: {(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)} في أنّ الله يميتها ويبعثها للجزاء. وقيل: معناه: {(إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)} يفقه بعضه عن بعض، كما يفقه بعضكم عن بعض.
وذكر الجناحين في الآية على جهة التّأكيد؛ لأنه يقال: طار فلان في الأمر؛ أي أسرع، وفلان طير من الطّيور؛ لسرعته في الأمور. وقيل: ذكر الجناحين في الآية لبيان أنّ المراد به الطير.
قوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ؛} معناه: ما تركنا في اللّوح المحفوظ شيئا إلا كتبناه فيه. ويقال: ما تركنا بيان شيء في القرآن فيما يحتاجون إليه من أحكام الدّين والدّنيا، بل قد بيّنّا في الكتاب كلّ شيء إما مفصّلا أو مجملا، أما المفصّل كقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(1)
وأما المجمل كقوله: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(2)
.
(1)
المائدة 46/.
(2)
الحشر 7/.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (38)؛معناه: أنّ الطيور والدوابّ يجمعون مع سائر الخلق يوم القيامة للحساب والجزاء، كما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:[إنّ الله تعالى يحشر الخلق كلّهم يوم القيامة؛ والبهائم والدّوابّ والطّير وكلّ شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجمّاء من القرناء، فإذا ميّز بين أهل الجنّة والنّار؛ قال للبهائم والوحوش والطّيور: كونوا ترابا تستوي بكم الأرض، فتكون ترابا، فعند ذلك يتمنّى الكافر فيقول: يا ليتني كنت ترابا]
(1)
.
والمراد بهذا الإفناء للبهائم بعد أن أحياها أنه إفناء لا يكون فيه ألم.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ؛} معناه:
الذين جحدوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن صمّ عن الخير لا يسمعون الهدى، خرس لا يتكلمون بخير؛ أي يكون حالهم كحال الأصمّ الأبكم. وحذف التشبيه من قوله:
{(صُمٌّ وَبُكْمٌ)} على جهة المبالغة في الوصف، كما يقال في وصف القوم بالبلادة: هؤلاء حمر.
قوله: {(فِي الظُّلُماتِ)} أي في ضلالات الكفر في ظلمة السّمع والبصر والقلب، {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ؛} أي من شاء الله يتركه في ضلالة الكفر، فلا يخرجه منه، {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (39)؛ومن يشأ يرشده ويوفّقه للإسلام فيثبّته على ذلك حتّى يموت عليه، ويقال: معناه: من يشأ الله يضلله في الآخرة عن طريق الجنّة إلى طريق النّار، ومن يشأ يجعله على طريق الجنّة.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ؛} أي قل يا محمّد لأهل مكّة: أرأيتم، والكاف زائدة في بيان الخطاب للتأكيد كما في (ذلك) و (أولئك).والمعنى: قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله، كما أتى الأمم الماضين قبلكم المكذبين لرسلهم، أو أتتكم القيامة بأهوالها وشدائدها. ويقال: أراد ب {(السّاعَةُ)} الوقت الذي يصعق فيه العباد، فيموتون كلّهم.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 421؛ قال القرطبي: ((قول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه)) وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10298) موقوفا.
قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ؛} أي أغير الله تدعون في كشف ذلك العذاب ودفع تلك الأهوال عنكم، أم تدعون الله تعالى. وقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (40)؛أي في مقالتكم أنّ الأصنام شركاء لله؛ فهلاّ تدعون الأصنام عند الشدائد. وهو احتجاج من الله عليهم بما لا يدعونه؛ لأنّهم كانوا إذا مسّهم الضرّ دعوا الله تعالى.
قوله تعالى: {بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ؛} أي بل تدعون الله في كشف العذاب والأهوال، و (بل) للاستدراك بعد النّفي، {(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ)} أي يكشف عنكم الضّرّ الذي من أجله دعوتموه فكشفه. وقوله تعالى:
{(إِنْ شاءَ)} إنّما قرن بالمشيئة؛ لأنّ كشف العذاب فضل من الله تعالى، وفضل الله يعطيه من يشاء.
وقوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ} (41)؛أي وتتركون دعوة آلهتكم عند الشّدة إذا أشرفتم على الهلاك؛ واضطربت بكم الأمواج في لجج البحار؛ وفي غير ذلك من السّجن والأوجاع التي لا صبر عليها، وقد يذكر النّسيان بمعنى التّرك كما في قوله:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}
(1)
أي تركوا ذكر الله، فتركهم الله في العذاب.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ} أي ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، كما أرسلناك إلى قومك فلم يؤمنوا، فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء. والضّرّاء. هي الشّدّة النّازلة؛ والبأساء مأخوذة من البأس، وقيل: من البؤس؛ وهو الفقر. والضرّاء هي الأمراض والأوجاع؛ وهي مأخوذة من الضّرر. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (42)؛أي لكي تخشع القلوب، وتتضرّع النفوس عند الشّدة؛ فيرجعون إلى الله فيؤمنون به؛ فيكشف عنهم؛ فلم يفعلوا.
قوله عز وجل: {فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا؛} أي فهلاّ حين جاء هم بأسنا؛ أي عذابنا؛ دعوا الله وآمنوا به، {وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ؛} أي
(1)
التوبة 67/.
يبست وجفّت قلوبهم؛ فأقاموا على كفرهم؛ إذ لم يكن في قلوبهم رقة، ولا خوف من الله تعالى، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ؛} أي حسّن لهم، {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (43)؛في كفرهم؛ بأن أغواهم ودعاهم إلى اللّذة والراحة دون التّفكّر والتدبّر ببيان الحقّ من الباطل.
قوله تعالى: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ؛} أي فلمّا تركوا ما وعظوا به وأمروا به {(فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)} ممّا كان مغلقا عليهم من الخير والرّزق والخصب والمطر. وأخصبت بلادهم وكثر خيرهم، {حَتّى إِذا فَرِحُوا؛} أعجبوا؛ {بِما أُوتُوا؛} أي بما أعطوا من النّعم والسّعة والصّحّة؛ {أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً؛} أي فجأة بالعذاب بعد أن ابتليناهم في النعمة والشدّة؛ فلم يزدادوا إلا كفرا، {فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} (44)؛أي فإذا هم عند نزول العذاب بهم آيسون من كلّ خير؛ متحسّرون غاية الحسرة. والمبلس:
البائس الحزين الشّديد الحسرة، ويقال: هو المنقطع عن الحجّة.
فإن قيل: لم أنعم الله عليهم حين نسوا ما ذكّروا به؛ وهذا موضع العقوبة دون الإنعام؟ قيل فيه قولان: أحدهما: أنه أنعم عليهم بالدعاء لهم إلى الطاعة، فإن الدعاء إلى الطاعة تارة يكون بالعنف والتشديد، وتارة باللّين والإنعام.
والثاني: أنه إنّما فعل ذلك بهم؛ لأنّ من ينقل من النعمة والراحة إلى العذاب يجمع عليه العذاب والحسرة على ما فاته؛ فيكون ذلك أشدّ عليه ممن ينقل من الشدّة إلى العذاب.
قوله عز وجل: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا؛} أي استؤصل بالهلاك آخر من بقي من القوم الكافرين. ودابر القوم: آخرهم من نسلهم وغيرهم، بحيث لا يبقى لهم بعد ذلك باقية، {وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (45)؛يجوز أن يكون حمدا من الله تعالى لنفسه على إهلاكه القوم الكافرين والمعاندين بعد أن أعذرهم وأنذرهم. ويجوز أن يكون قوله:{(وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)} تعليما من الله ((للنّاس)) يحمدونه على إهلاك الظالمين.
وقد قطع الله دابر المعاندين من أهل مكّة يوم بدر كما قطع دابر المكذبين قبلهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا رأيت الله تعالى يعطي عبدا في الدّنيا على معصيته ما يحبّ؛ فإنّ ذلك منه استدراج، ثمّ قرأ صلى الله عليه وسلم: {(فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)} الآية]
(1)
.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؛} أي قل يا محمّد لكفّار مكة: إن سلب الله سمعكم وأبصاركم التي هي أشرف ما قبلكم من الأعضاء، وختم على قلوبكم؛ فإن سلب عقولكم حتى لا تفهموا بها فعاقبكم بذلك على تكذيبكم الرسل؛ هل من إله غير الله يردّ عليكم ما سلبه الله تعالى؟ وهل يقدر على ذلك غيره؟ {اُنْظُرْ؛} يا محمّد؛ {كَيْفَ نُصَرِّفُ؛} نبيّن لهم؛ {الْآياتِ؛} في القرآن؛ ونخوّفهم بها؛ {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (46)؛أي يعرضون عما وضح لهم مكذّبين به، لا تتحرك أفئدتهم. والتصريف توجيه المعنى في الجهات تظهره أتمّ الإظهار.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً؛} أي أرأيتم إن أتاكم وهذا حالكم في الإصرار على الكفر عذاب الله فجأة وعلانية؛ نهارا جهارا، {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ} (47)؛إلا أنتم وما أشبهكم؛ لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون. وإنّما قابل البغتة بالجهرة وإن كان ضدّ الجهرة الخفية؛ لأن ما يأتي فجأة فإنّما يأتي خفية.
قوله تعالى: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛} أي ليس على الرسل أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات، إنّما نرسلهم بالتبشير بالجنّة للمطيعين؛ والتحذير بالنار للكافرين، {فَمَنْ آمَنَ؛} بالرسل والكتب؛ {وَأَصْلَحَ؛} العمل فيما بينه وبين ربه؛ فأقام على إيمانه وتوبته؛ {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛} حين يخاف أهل النار، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (48)؛إذا حزنوا.
(1)
عن عقبة بن عامر؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10315) بإسنادين. والطبراني في الأوسط: الحديث (9268).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 23؛قال الهيثمي: ((رواه أحمد والطبراني)) وسكت عنه. والبيهقي في شعب الإيمان: باب في تعديد نعم الله: الحديث (4540).
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (49) أي يصيبهم العذاب بفسقهم وجحودهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقوله عز وجل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ؛} نزلت هذه الآية جوابا عن قول الكفار للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمّد؛ لولا أنزل عليك كنز فتستغني به؛ فإنك فقير محتاج! وعن قولهم: لولا أنزل عليه ملك، وقولهم: لولا أنزل عليه آية.
ومعناها: قل لهم يا محمّد: {(لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ)} أي لا أدّعي أن مفاتيح الرزق بيدي؛ فأقبض وأبسط، وليس خزائن الله مثل خزائن العباد، إنّما خزائن الله مقدوراته التي لا توجد إلا بتكوينه إيّاها، {(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)} أي لا أدّعي علم الغيب فيما مضى وما سيكون، {(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)} من السّماء شاهدت ما لم تشاهد البشر، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ؛} أي لا أعلم ولا أقول إلا بما نزّله الله على لسان بعض الملائكة، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؛} أي الكافر والمؤمن، ويقال: الجاهل والعالم، {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (50)؛في آيات الله ومواعظه.
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ؛} أي أنذر بالقرآن وخوّف به {(الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ)} وخوّف به الذين يعلمون أنّ حشرهم إلى ربهم؛ أي إلى موضع لا يملك فيه أحد نفعهم ولا ضرّهم إلا الله تعالى. قالوا: والذين يخافون البعث أحد رجلين؛ إما مسلم فينذر ليؤدّي حقّ الله في إسلامه، وإما رجل من أهل الكتاب فهو مقرون بأن الله تعالى خلقهم وأنّهم مبعوثون محاسبون. {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (51).
قوله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ؛} قال عبد الله بن مسعود: (مرّ جماعة من المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وخبّاب بن الأرتّ وبلال وعمّار بن ياسر وغيرهم من ضعفاء المسلمين؛ فأرادوا الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطردوا أصحابه، فقالوا: يا محمّد، لو طردت هؤلاء السّفلة والعبيد عنك أتاك أشراف قومك ورؤساؤهم يستمعون مقالتك
ويصدّقونك، وذكروا ذلك أيضا لعمر رضي الله عنه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا على إسلام أشراف قومه، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعض الّذي طلبوه، فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.يعلّمه أنه لا يجب أن يفضّل غنيا ولا شريفا على فقير وضعيف؛ لأن طريقه فيما أرسل به الدّين دون أحوال الدّنيا.
فذلك قوله تعالى: {(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)} أي يعبدون ربّهم بالصلاة المفروضة غدوّا وعشيّا وهم ضعفة الصحابة وصفهم الله بالمواظبة على عبادته في طرفي النّهار؛ ثم شهد لهم أنّهم مخلصون في الإيمان بقوله: {(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)} أي يريدون وجه الله تعالى بذلك؛ ويطلبون رضاه. وذكر الوجه على سبيل التفخيم كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ}
(2)
.معناه: إلاّ هو.
قوله تعالى: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛} أي ما عليك من حساب عملهم وباطن أمرهم من شيء، {وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛} أي ما عليهم من باطن أمرك شيء ولا يسألون عن عملك ولا تسأل أنت عن عملهم.
وقيل: معناه: ما عليك من رزقهم من شيء، وما من رزقك عليهم من شيء.
قوله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ؛} جواب {(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ)} . وقوله تعالى:
{فَتَكُونَ؛} جواب {(وَلا تَطْرُدِ)} . {مِنَ الظّالِمِينَ} (52)،ومعناه:
فتكون من الضارّين لنفسك أن لو طردتهم.
وتقدير الآية: ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ، فتكون من الظّالمين، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم. وقال سلمان وخبّاب: (فينا نزلت هذه الآية، فجاء الأقرع بن حابس التّميميّ وعيينة بن حصين الفزاريّ وأصحابهم من المؤلّفة، فوجدوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10326) عن ابن مسعود، والنص (10328) بمعناه عن خباب رضي الله عنه.
(2)
القصص 88/.
مع بلال وصهيب وعمّار وخبّاب في ناس من ضعفاء المسلمين، فلمّا رأوهم حوله حقّروهم؛ وقالوا: يا محمّد؛ لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنّا هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، وكان عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها.
فقال صلى الله عليه وسلم: [ما أنا بطارد المسلمين] فقالوا: إنّا نحبّ أن تجعل لنا مجلسا تعرف العرب به فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك؛ فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن قمنا فأقعدهم معك إن شئت.
فأجابهم إلى ذلك، فقالوا: أكتب لنا عليك بذلك كتابا. فدعا بصحيفة ودعا عليّا رضي الله عنه ليكتب.
قال: فبينما نحن قعود في ناحية المسجد؛ إذ نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية:
{(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)} الآية. فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّحيفة من يده، ثمّ دعانا فأتيناه وهو يقول:[سلام عليكم كتب ربّكم على نفسه الرّحمة] فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم ويتركنا، فأنزل الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ}
(1)
.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد فندنو منه حتّى تكاد ركبنا أن تمسّ ركبته، فإذا بلغ السّاعة الّتي يقوم فيها قمنا وتركناه حتّى يقوم، وقال:[الحمد لله الّذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي، معكم المحيا ومعكم الممات]
(2)
.
وقال مجاهد: (قالت قريش: لولا بلال وابن أمّ عبد لتابعنا محمّدا. فأنزل الله هذه الآية)
(3)
.وقال عكرمة: (جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عديّ ونوفل ابن الحارث وعمر بن نوفل إلى أبي طالب؛ قالوا له: لو أنّ ابن أخيك محمّدا
(1)
الكهف 28/.
(2)
تقدم، وأخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10328) بإسنادين.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10331).
يطرد عنه موالينا؛ فإنّما هم عبيدنا وعتقاؤنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع لله عندنا، وأدنى لاتّباعنا إيّاه وتصديقنا. فأتى أبو طالب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فحدّثه بالّذي كلّموه.
فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك يا رسول الله؛ حتّى تنظر ما الّذي يريدون؛ وإلى ما يضمرون من قولهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية: {(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ)}
(1)
.قال ابن عبّاس: (يعبدون ربّهم بالصّلاة المكتوبة {(بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ)} يعني صلاة الصّبح وصلاة العصر)
(2)
.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؛} قال ابن عبّاس: معناه: (وكذلك ابتلينا {(بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ):}
العربيّ بالموالي؛ والغنيّ بالفقير؛ والشّريف بالوضيع؛ ليقول الأغنياء والأشراف مثل عيينة بن حصين الّذي دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له: لو طردت هؤلاء السّفلة، ومثل أصحابه؛ كانوا يقولون: هؤلاء-يعنون سلمان وأصحابه-منّ الله عليهم بالمغفرة والإسلام من بيننا)
(3)
.وقال الكلبيّ: (هو أنّ الشّريف إذا نظر إلى الوضيع قد أسلم قبله استنكف أن يسلم، وقال: قد سبقني هذا بالإسلام؛ فلا يسلم).
ومعنى (اللام) في قوله: {(ليَقُولُوا)} لام العاقبة؛ ومعناه: ليكون عاقبة أمرهما؛ قال الأغنياء والأشراف: أهؤلاء المستضعفون فضّلهم الله علينا. ونظير هذه اللاّم في هذه الآية قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}
(4)
،ومعلوم أنّهم لم يلتقطوه لأجل أن يكون لهم عدوّا وحزنا، ولكن عاقبة التقاطهم إياه أن صار لهم عدوّا وحزنا.
وقال بعضهم: اللام في قوله: {(ليَقُولُوا)} معناها الاستفهام؛ أي ليقول بعضهم لبعض استفهاما لا إنكارا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالإيمان.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10333).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10335)،والأثر (10342) عن قتادة، والأثر (10343) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10349).
(4)
القصص 8/.
والفائدة في ذلك أن الأغنياء كانوا شاكّين في أن سبق الفقراء إلى الإيمان وصبرهم على طريقة الدّين؛ هل يوجب أن تكون نعمة من الله عظيمة عليهم، فأمرهم الله تعالى أن يستفهموا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لأجله يقوم الفقراء بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم واستحقّوا الإعظام، فيظهر عند الاستفهام جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون في سماعهم لذلك مصلحة عظيمة توجب رضاهم بتقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل الدين. قوله تعالى:
{أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} (53)؛استفهام بمعنى التحقيق على معنى أنّ الله أعلم بمن هو من أهل التوحيد والثّواب.
وقوله تعالى: {وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (54)؛اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؛ فقال عكرمة:
(نزلت في الّذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسّلام وقال: [الحمد لله الّذي جعل في أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسّلام])
(1)
.
وقال ابن عبّاس والكلبيّ: (لمّا نزلت هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} الآية، جاء عمر رضي الله عنه معتذرا من مقالته؛ فأنزل الله تعالى: {(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا)} الّذين يصدّقون بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن {(فقل سلام عليكم)} أي قبل الله معذرتهم وتوبتهم).ومعنى السّلام: السلامة من جميع الآفات.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 435.وأخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (8861) عن أبي سعيد الخدري بلفظ: [من أمرني بالصّبر معهم].وأبو داود في السنن: كتاب العلم: باب في القصص: الحديث (3666):بلفظ: عن أبي سعيد الخدري قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلّم، ثمّ قال:[ما كنتم تصنعون؟] قلنا: يا رسول الله، إنّه كان قارئ لنا يقرأ علينا، فكنّا نستمع إلى كتاب الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الحمد لله الّذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم] قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثمّ قال بيده هكذا، فتحلّقوا، وبرزت وجوههم له، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنّور التّام يوم القيامة، تدخلون الجنّة قبل أغنياء النّاس بنصف يوم، وذاك خمسمائة سنة].
وقيل: إنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يسلّم على المستضعفين إذا جاءوا إليه، وإنّما أمره بأن يبدأهم بالسّلام مع أن العادة أن يسلّم على القاعد حتى ينبسط إليهم بالسّلام عليهم؛ لئلاّ يحتشموا من الانبساط إليه. قال عطاء:(نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وأبي عبيدة وبلال وسالم ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان ابن مضعون وعمّار بن ياسر)
(1)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا عظيمة كبيرة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)}
(2)
.
واختلفوا في قوله: {(سُوءاً بِجَهالَةٍ)} قال مجاهد: (معناه: لا يعرف حلالا من حرام، فمن جهالته ركب الأمر).وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب. وقيل: جهل حين آثر المعصية على الطاعة، واللذة اليسيرة الفانية على الكثيرة الباقية الدائمة، فعلى هذا يسمّى مرتكب المعصية جاهلا.
واختلف القرّاء في قوله تعالى: {(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ)} وقوله: {(فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} فكسرهما جميعا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ وخلف والأعمش على الاستئناف. ونصبهما الحسن وابن عامر وعاصم ويعقوب بدلا من الرحمة. وفتح نافع الأول على معنى: وكتب أنّه من عمل، وكسر الثاني على الاستئناف.
قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ؛} أي نبيّن بيانا الأمر والنهي في القرآن من قبل، وكذا نبيّن وننزّل الآيات متفرقة شيئا بعد شيء. وقوله تعالى:
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (55)؛معطوف على مضمر تقديره: ليظهر الحقّ من الباطل ولتستبين طريق المجرمين.
(1)
ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 174.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10356) عن ماهان بأسانيد. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 276؛ قال السيوطي: ((أخرجه الفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ماهان
…
وذكره)).
وإنّما لم يقل: سبيل المؤمنين؛ لأن في الكلام ما يدلّ عليه؛ لأن معناه ولتستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين. ويقرأ «(وليستبين)» بالياء؛ لأن السبيل يذكّر ويؤنّث، فتميم تذكّره؛ وأهل الحجاز تؤنّثه.
ودليل التذكير قوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ}
(1)
ولم يقل بها، ودليل التأنيث قوله تعالى:{قُلْ هذِهِ سَبِيلِي}
(2)
ولم يقل هذا سبيلي. وقرأ أهل المدينة: «(سبيل)» بالنصب على خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ معناه: ولتعرف يا محمّد سبيل المجرمين؛ فالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به عامّة المسلمين؛ كأنه ولتستبينوا وتزدادوا معرفة بطريق المجرمين.
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي قل يا محمّد لعيينة وأصحابه: إنّي نهيت عن عبادة الذي تعبدون من الأصنام من دون الله، {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ؛} فإنّكم قد عبدتموه وسألتموه طرد سلمان وبلال وأصحابهما عن طريق الهدى، لا على طريق البيّنة والبرهان، وقوله تعالى:
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً؛} أي قد ضللت إن عبدتها؛ معناه إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق، وسلكت غير سبيل الهدى.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رجاء: «(قد ضللت)» بكسر اللام؛ وهما لغتان؛ إلا أنّ الفتح أفصح؛ لأنّها لغة أهل الحجاز. وقوله: {وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛} (56) عطف على {(ضَلَلْتُ)؛} أي إن أتّبع أهواءكم فما أنا من الذين سلكوا طريق الهدى.
وقوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؛} أي قل يا محمّد: إنّي على بصيرة وبيان من أمر ربي؛ لا متّبع للهوى، {(وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)} أي بالبيان، وإنّما ذكر الكناية لأن البيّنة والبيان بمعنى واحد. ويجوز أن يكون معناه: وكذبتم بما آتيتكم به؛ وهو القرآن. ومعنى البيّنة:
الدلالة بين الحقّ والباطل.
(1)
الأعراف 86/.
(2)
يوسف 108/.
قوله تعالى: {(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)} روي: أنّ رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب، حتى قام النضر بن الحارث في الحطيم وقال: اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأتنا بالعذاب، فنزلت هذه الآية.
وقيل: معناه: {(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)} من الآيات التي تقترحونها.
قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ؛} أي ما القضاء وتنزيل الآيات إلاّ لله، {يَقُصُّ الْحَقَّ؛} أي يحكم بالعدل ويقضي القضاء الحقّ، {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} (57)؛أي أعدل الفاصلين.
ومن قرأ «(يقضّ الحقّ)» بالضاد المشدّدة؛ فمعناه: يبيّن ويأمر به، ومن قرأ «(يقضي)» أي يحكم. وقرأ ابن عبّاس:«(يقضي بالحقّ).» وأما سقوط الياء في قراءة من قرأ «(يقضّ)» فإنّها سقطت في الخطّ لالتقاء السّاكنين، كما في قوله تعالى:{سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ}
(1)
(2)
.وفي جميع المصاحف: {(يَقُصُّ)} بغير ياء
(3)
.
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؛} أي قل يا محمّد: {(لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)} من العذاب، {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؛} أي لأهلكتكم؛ وانقطع ما بيني وبينكم من مطالبتي إياكم بالإخلاص في طاعة الله وعبادته، وامتناعكم من ذلك، {وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ} (58)؛أي بعقوبتكم ووقت عذابكم.
قوله عز وجل: {*وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ؛} قرأ ابن السّميقع: «(مفاتيح الغيب)» بالياء. واختلفوا في معنى {(مَفاتِحُ الْغَيْبِ)} فروى عبد الله بن
(1)
العلق 18/.
(2)
القمر 6/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 439؛ قال القرطبي: (قال مكي: وقراءة الصاد أحبّ إلي؛ لاتفاق الحرمين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الياء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: ومثل هذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن مثل هذه الياء تحذف كثيرا). وقراءة ابن مسعود: (إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحقّ).
عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله: علم السّاعة، ونزول الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأيّ أرض تموت]
(1)
.وقال السّدّيّ: (مفاتح الغيب: خزائن الغيب)
(2)
وهي المقدورات الّتي يفتح بها ما في الغيب، وسمّيت الخزانة مفتاحا؛ لأنّه ينفتح منه الأمر).
وقيل: {(مَفاتِحُ الْغَيْبِ)} ما ينفتح به علم ما في الغيب من وقت نزول العذاب الذي كانوا يستعجلون به وغير ذلك. وقيل: معناه: {(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)} أي نزول العذاب لا يعلم متى ينزل ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وما يصير إليه من أمري وأمركم إلا هو. وقيل: معناه: {(مَفاتِحُ الْغَيْبِ)} الآجال وأحوال العباد من السّعادة والشّقاوة، وعواقب الأمور، وخواتم الأعمال. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(أوتي نبيّكم عليه السلام كلّ شيء إلاّ مفاتح الغيب)
(3)
.والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح؛ وهو معرفة المغيّب.
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛} أي يعلم ما في البرّ من النبات والخلق؛ وما في البحر من الدواب والعجائب. وقيل: يعلم رزق كلّ من في البرّ والبحر، يسوق إلى كلّ ذي روح رزقه.
وقوله تعالى: {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها؛} قال ابن عبّاس:
(ما من شجرة في البرّ إلاّ وبها ملك موكّل يعلم ما يؤكل منها، وما يسقط من ورقها، ويعلم عدد ما بقي على الشّجرة من الورق وما يسقط منه).وقيل: معنى الآية: {(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ)} من أوراق الشّجر، {(إِلاّ يَعْلَمُها)} الله ثابتة وساقطة، ويعلم متى سقوطها وموضع سقوطها.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 277؛ قال السيوطي: ((أخرجه أحمد والبخاري وابن حشيش وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه)).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10366).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10367).في مجمع الزوائد: ج 8 ص 263؛قال الهيثمي: (رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح).
قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ؛} أي كلّ حبّة تكون في الأرض حتى الحبّة التي تكون تحت الصخرة التي هي أسفل الأرضين يعلمها الله، وقيل: أراد كلّ حبّة تكون في شقوق الأرض ممّا يخرج منها النبات. ومن قرأ «(ولا حبّة)» بالرفع فعلى الابتداء؛ وخبره {(إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)} .
وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (59)؛أراد بالرّطب الماء والخضر، وباليابس الحجر والمدر، كلّ ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ؛ أثبت الله تعالى فيه كلّ ما يخلق قبل أن يخلقه، كما قال تعالى:{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}
(1)
.
واعلم: أنه قد أثبت ما خلق قبل خلقه. والرطب واليابس عبارة عن جميع الأشياء التي تكون في السّماوات والأرض؛ لأنّها تخلق من أحد هاتين الصّفتين. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار؛ إلاّ عليها مكتوب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، رزق فلان بن فلان]
(2)
.
فإن قيل: ما الفائدة في كون ذلك مكتوبا في اللّوح مع أنّ الله لا يخفى عليه شيء؛ وأنه كان عالما بذلك قبل أن يخلقه وقبل أن يكتبه؛ ولم يكتبها ليحفظها ويدريها. قيل: فائدته أن الحوادث إذا حدثت موافقة للمكتوب، ازدادت الملائكة بذلك علما ويقينا بعظم صفات الله عز وجل
(3)
.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ؛} معناه: هو الذي يقبضكم عن التصرّف بالنوم وما تصيرون في منامكم بالليل في قبضته لا تملكون لأنفسكم تصريفا في أموركم.
(1)
الحديد 22/.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 278؛قال السيوطي: ((أخرجه الخطيب في تاريخه بسند ضعيف
…
وذكره)).وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: ج 4 ص 353:ترجمة أحمد بن الخليل: الرقم (2123).وذكره الشوكاني في الفوائد: ص 317.
(3)
كتب في هامش المخطوط: ((والجواب الشافي في ذلك: هو أن الله لا يسأل عما يفعل، وإلا فعلم الملائكة ليس بأمر مهم ولازم، والله أعلم)).
والتّوفّي في اللغة: هو القبض؛ إلاّ أن روح النائم لا تصير مقبوضة في حال نومه على جهة الحقيقة؛ لأن النائم يستمدّ من الهواء على حسب ما يفعله المنتبه، ولكنّ الله يحدث في حال النوم من بدن النائم ضربا من الاسترخاء في إغماء منه، إمّا بسلب عقله، أو بإحداث فعل في البدن يكون ذلك الفعل سببا لراحة البدن، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً}
(1)
فلما صار النائم كالميت في أنه لا يعقل وفي أن تصرفه لا يقع على تمييز؛ شبه بالميت من حيث التوفّي على هذا الوجه، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[النّوم أخو الموت، وأهل الجنّة لا يموتون ولا ينامون]
(2)
.
وعلى هذا الوجه يتأوّل قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها}
(3)
إلى آخر الآية.
وذهب بعضهم إلى أن الروح تخرج من البدن في المنام، ولكن لا تنقطع حركة النائم؛ لأن نظر الروح لم ينقطع عن البدن؛ إذ هو على العود في كلّ وقت وفي كل ساعة؛ وقال: لا يخرج منه الروح، وإنّما يخرج منه الذهن.
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ؛} أي كسبتم من الخير والشرّ بالنهار، يقال: جرح واجترح؛ بمعنى كسب واكتسب، وأصل الاجتراح: عمل الجوارح. قوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ؛} أي ينبهكم من نومكم في النهار على علم منه بما اجترحتم من قبل وما تجترحون من بعد، {لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي لتبلغوا الوقت المقدور الذي قدّره الله بحيويّتكم؛ فتنقطع أرزاقكم وأعمالكم التي تعملون في الدّنيا من خير أو شرّ.
(1)
النبأ 9/.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 1 ص 502:الحديث (923) وج 9 ص 376 - 377:الحديث (8811).وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 415:باب أهل الجنة لا ينامون؛ قال الهيثمي: ((رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجال البزار رجال الصحيح)).
قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ؛} أي ثم إلى الله مصيركم ومتقلّبكم بعد الموت، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (60)؛أي ثم يخبركم في الآخرة بما كنتم تعملون في الدّنيا؛ فيجازي كلّ عامل ما عمل.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ؛} أي هو الغالب لعباده المستعلي عليهم بالقدرة، وليس معنى (فوق) معنى المكان؛ لاستحالة إضافة الأماكن إلى الله، وإنّما معناه الغلبة والقدرة، ونظيره: فلان فوق فلان في العلم؛ أي أعلم منه.
قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً؛} معناه: والمرسل عليكم حفظة، فاكتفى بالفعل عن الاسم. والحفظة: هم الملائكة يحفظون على العباد أعمالهم على ما تقدّم.
وقد ورد في الخبر: أن على كلّ واحد منّا ملكين بالليل؛ وملكين بالنهار، يكتب أحدهما الحسنات؛ والآخر السيّئات، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشّمال، فإذا عمل العبد حسنة؛ كتب له بعشر أمثالها؛ وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشّمال أن يكتب؛ قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه ستّ ساعات أو سبع ساعات، فإن هو استغفر الله تعالى؛ لم يكتب عليه، وإن لم يستغفر يكتب عليه سيّئة واحدة.
قوله تعالى: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (61) معناه: حتّى إذا حضر أحدكم الموت؛ قبض روحه ملك الموت وأعوانه، وهم لا يقصّرون ولا يؤخّرونه طرفة عين، فإن قيل: كيف هنا {(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا)} وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}
(1)
؟ قيل: إنّ ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح كلّها وهو القائم بذلك؛ إلا أنّ له أعوانا؛ فتارة أضاف قبض الروح إلى ملك الموت؛ لأنه هو المختصّ بذلك، وتارة أضافه إليه وإلى غيره؛ لأنّهم يصدرون في ذلك عن أمره.
(1)
السجدة 11/.
وقال مجاهد: (جعلت الأرض لملك الموت كالطّشت يتناول من حيث شاء، وله أعوان يتوفّون الأنفس، ثمّ يقبضها منهم)
(1)
.ويقال: إنّ أعوان ملك الموت يستخرجون الروح من الأعضاء عضوا عضوا، حتى إذا جمعوه في صدره وجعل يغرغر به؛ قبضه حينئذ ملك الموت.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه دخل على مريض يعوده، فرأى ملك الموت عند رأسه؛ فقال:[يا ملك الموت؛ ارفق به، فإنّه مؤمن، فقال ملك الموت: يا محمّد؛ أبشر وطب نفسا وقرّ عينا؛ فإنّي بكلّ مؤمن رفيق، إنّي لأقبض روح المؤمن فيصعق أهله فأعتزل في جانب الدّار، فأقول: ما لي من ذنب، وإنّي لمأمور، وإنّ لي لعودة فالحذر الحذر، وما من أهل بيت مدر ولا وبر، في بحر أو برّ، إلاّ وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرّات، حتّى أنّي لأعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة لما قدرت عليها حتّى يأمرني الله تعالى بقبضها]
(2)
.
قوله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ؛} أي ثم ردّهم الملائكة إلى الموضع الذي لا يملك أحد الحكم فيه إلا الله تعالى، وقوله:{(مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)} أي مولاهم من كلّ جهة، فإنه يملك خلقهم وإنشاءهم وتربيتهم وإماتتهم وإحياءهم وضرّهم ونفعهم، وهو الذي دبّر في الابتداء أمرهم حيث أنشأهم. ومعنى قوله تعالى:
{(مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)} أي الذي عبادته حقّ، ويعطي الثواب الحقّ، ويتولّى العقاب بالحقّ، وقيل: إنّ هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا مردّ للعبد أحسن من مردّه إلى مولاه.
قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ؛} كلمة بيّنة؛ أي اعلموا أنّ بيّنة القضاء بين العباد يوم القيامة يحكم فيهم ما شاء وكيف شاء. وقوله تعالى: {وَهُوَ أَسْرَعُ}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10389).
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 4 ص 220:الحديث (4188).وفي مجمع الزوائد: ج 2 ص 325؛قال الهيثمي: ((رواه الطبراني في الكبير، وفيه عمرو بن شمر الجعفي والحارث بن الخزرج ولم أجد من ترجمهما، وبقية رجاله رجال الصحيح)).
{الْحاسِبِينَ} (62)؛إذا حاسب فحسابه يسير سريع؛ لأنه لا يحاسب بحقد ولا يتكلّم بآلة، ولا يحجزه الكلام مع بعضهم عن الكلام مع غيرهم، بل يحاسب الجميع في دفعة واحدة. ومعنى المحاسبة: تعريف كلّ واحد ما يستحقّه من ثواب أو عقاب؛ حتّى روي في الخبر: أنّه يكون حسابه في مقدار حلب شاة.
قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً؛} أي قل لهم يا محمّد: من ينجّيكم من شدائد البرّ والبحر وأهوالهما.
تقول العرب لليوم الذي فيه شدّة: يوم مظلم؛ حتى أنّهم يقولون: يوم دو كواكب؛ إذا اشتدّت ظلمته حتى صار كالليل. ويقال: أراد بالظلمات ظلمة الليل، وظلمة الغيم، وظلمة الأمواج.
وقوله تعالى: {(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)} أي تدعونه علانية وسرّا، والتّضرّع:
إظهار الضّراعة؛ وهي شدّة الفقر والحاجة إلى الشّيء. وقرأ أبو بكر: «(وخفية)» بكسر الخاء، وقرأ الأعمش:«(وخيفة)» من الخوف كما في آخر الأعراف
(1)
.
قوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ} (63)؛في موضع الحال؛ معناه: قائلين: لئن أنجيتنا من هذه الشدائد لنكوننّ من المؤمنين الموحّدين المطيعين.
وقوله تعالى: {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ؛} قل الله ينجّيكم من شدائد البرّ والبحر ومن كلّ غمّ، {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (64)؛به الأصنام في الرّخاء بعد النجاة، وبعد قيام الحجّة عليكم.
وقوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ؛} راجع إلى مشركي مكّة؛ أي قل لهم يا محمّد: {(هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)} كما بعث على قوم نوح ولوط من الطوفان والحجارة، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ؛} أي هو القادر على أن يخسف بكم، كما فعل بقارون وقومه. ويقال:
أراد بقوله: {(عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)} الظلمة، {(أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)} أو يغلّب عليكم سفهاءكم.
(1)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: الأعراف 205/.
قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً؛} معناه: أو يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء، بأن يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة. وقيل: معنى: {(يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً)} يكلكم إلى أنفسكم ويخليكم من الطاعة بذنوبكم؛ فتختلفوا حتى يذوق بعضكم شدّة بعض بالحرب والقتال. وقال: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ؛} يعني بالسّيوف يقتل بعضكم بعضا.
وقوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ؛} أي انظر يا محمّد كيف نبيّن لهم الآية على إثر آية، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (65)؛أي لكي يفقهوا أوامر الله، ثم هم لا يفقهون.
قال ابن عبّاس: (لمّا نزلت هذه الآية؛ شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:[يا جبريل، ما بقاء أمّتي على هذه الخصال الأربع؟!] فقال: إنّما أنا عبد مثلك، فادع ربّك واسأله لأمّتك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتوضّأ وأحسن الوضوء؛ ثمّ قام فصلّى وأحسن الصّلاة؛ ثمّ سأل الله أن لا يبعث على أمّته عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم، ولا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فنزل جبريل عليه السلام؛ فقال:
يا محمّد؛ إنّ الله قد سمع مقالتك، وإنّه قد أجارهم من خصلتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولم يخرجهم من الخصلتين الأخرتين)
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [سألت ربي أن لا يبعث على أمّتي عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم؛ فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعني ذلك، وأخبرني جبريل أنّ فناء أمّتي بالسّيف]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ؛} أي كذب بالقرآن قومك وهو الصدق، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (66)؛أي بحفيظ أحفظ أعمالكم
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 284؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن مردويه)).وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10419) عن الحسن.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 285؛ قال السيوطي: ((أخرجه أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه
…
)) وذكره وهو حديث طويل.
وأجازيكم عليها، وقيل: معناه: لست أقدر أن أحول بينكم وبين الكفر الذي يضرّكم، كما يدفع الوكيل الضرر عن موكّله. وعن ابن عبّاس:(أنّ معناه: لست بموكّل عليكم؛ أخبركم عن الإيمان، قال: ثمّ نسخ هذا بآية السّيف).
وقوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ؛} معناه: لكلّ وعد ووعيد وقت، وأجل غاية؛ منه ما يكون في الدّنيا، ومنه ما يكون في الآخرة، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (67)؛يا أهل مكّة ذلك إذا نزل بكم.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ؛} معناه: وإذا رأيت المشركين الذين يكذّبون ويستهزءون بك وبالقرآن {(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)} أي اتركهم ولا تجالسهم على وجه الإنكار عليهم، إلا أن يتركوا استهزاءهم ويخوضوا في حديث غير القرآن. وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين؛ وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّوه واستهزءوا به، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم.
قوله تعالى: {وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (68)؛معناه: وإمّا يوقعنّك الشّيطان في النّسيان بعد النهي فتجلس معهم، فلا شيء عليك في تلك الحال التي تكون فيها ناسيا، فلا تقعد بعد الذّكرى مع قوم إذا ذكرت، ودع مجالسة المشركين فتأثم. قرأ ابن عبّاس وابن عامر:«(ينسينّك)» بالتشديد.
فلما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله، لئن كنّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام، ولا أن نطوف بالبيت؟
فنزل قوله عز وجل: {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ،} أي ما على الذين يتّقون الشرك والمعاصي والخوض في آثامهم، ومخالفتهم أمر الله من شيء من العقاب، {وَلكِنْ ذِكْرى؛} أي ولكن ذكّروهم بالقرآن ذكرى إذا فعلوا وعظوهم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (69)؛الشرك والاستهزاء والخوض. فموضع (ذكرى) نصب على المصدر، ويجوز أن يكون في موضع رفع؛ أي هو ذكرى.
قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا؛} أي ذر الكفّار الذين اختاروا في أنفسهم اللّعب والباطل والاستهزاء.
ويقال: معناه: الذين اتّخذوا دينهم بهوى أنفسهم، ومن اتّخذ دينه بهوى نفسه فهو لاعب. وقال الفرّاء في معنى الآية:(ليس من قوم إلاّ ولهم عيد يلهون فيه، إلاّ أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فإنّ أعيادهم صلاة وتكبير وبرّ وخير)
(1)
.وقوله تعالى: {(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)} معناه: وشغلتهم الحياة الدّنيا بما فيها من زهرتها وزينتها.
قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ؛} أي ذكّر بالقرآن وعظ به كراهة أن تبسل نفس بما كسبت. ويقال: قبل أن تبسل نفس. ويقال:
لئلا تبسل نفس؛ أي لئلا تهلك نفس. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة والسدي:
(تبسل: أي تسلّم للهلكة)
(2)
.
وقال ابن زيد: (معناه: وذكّر به أن تبسل؛ أي لئلاّ تبسل؛ أي لئلاّ تؤخذ)
(3)
.
وعن ابن عبّاس: (أن تفضح)
(4)
.وقال الأخفش: (أن تبسل: أن تجازى)
(5)
.وقال الفرّاء: (ترتهن)،وقال عطية العوفي:(من قبل أن تبسل نفس؛ أي من قبل أن تسلّم إلى خزنة جهنّم).والمتبسّل: المستسلم
(6)
.
قوله عز وجل: {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ؛} أي ليس لتلك النفس من دون الله وليّ ولا شفيع؛ أي قريب يمنع العذاب عنها ولا شفيع يشفع لها في الآخرة. قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها؛} أي لو جاءت مكانها بكلّ ما كان في الأرض جميعا افتداء عن نفسها لا يقبل منها.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 16: نقله القرطبي عن الكلبي أيضا.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10445) عن الحسن، والأثر (10446) عن مجاهد، والأثر (10444) عن عكرمة.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10448).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10449).
(5)
في جامع البيان: الأثر (10450) نقله الطبري عن الكلبي.
(6)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 16؛ قال القرطبي: (والإبسال: تسليم المرء للهلاك، هذا هو المعروف في اللغة. أبسلت ولدي أرهنته)،وقال:(أي ترتهن وتسلّم للهلكة).
وسمي الفداء عدلا؛ لأنه مثل للشيء، ويقال لأحد جانبي الحجل: عدل بالكسر؛ لأن كلّ واحد من العدلين مثل لصاحبه، فمعنى الآية: وإن تفتدي بكلّ فداء لا يؤخذ منها.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ؛} أي وجيع؛ {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} (70)؛أي بما كانوا يجحدون في الدّنيا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
قوله عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا؛} أي قل يا محمّد لكفّار مكّة الذين يدعونكم إلى دين آبائهم: أنعبد سوى الله من الأصنام ما لا ينفعنا إن عبدناه في رزق ولا معاش، ولا يضرّنا إن تركناه في رزق ولا معاش، {وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ؛} عطف على الاستفهام؛ أي كيف نرجع إلى الكفر بعد إذ هدانا الله لدينه، وأكرمنا بمعرفته، فيكون مثلنا؛ ك؛مثل؛ {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ؛} فأذهبه؛ {فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ؛} ضالا، لا يقال: كالذي زيّنت له الشياطين هواه؛ فهو يعمل في الأرض بالمعاصي. وقيل: معناه: كالذي استفرسته الغيلان في المهامة فأضلّوه؛ فهو حائر. و {(حَيْرانَ)} نصب على الحال.
قرأ الأعمش وحمزة: «(كالّذي استهواه)» بالألف والإمالة، وقرأ طلحة بالألف، وقرأ الحسن:«(استهوته الشّياطين).» وفي مصحف عبد الله: «(استهواه الشّيطان).» قوله تعالى: {لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا؛} أي له أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم: أن ائتنا واتّبعنا؛ فإنّا على الطريق، فأبى أن يأتهم ويطيعهم.
وقيل: إن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر،
(1)
فأنزل الله تعالى: {(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا)} . وقوله: {(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ)} هو عبد الرّحمن بن أبي بكر. وقوله تعالى: {(لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ}
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 18؛ قال القرطبي: ((وقال-أي ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح-:نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام)).
{إِلَى الْهُدَى)} قيل: كان أمّه وأبوه يدعوانه إلى الإسلام، وكان الشياطين والكفّار يزيّنون له الكفر إلى أن منّ الله عليه بعد ذلك بقبول الإسلام. وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ؛} أي قل لهم: إنّ دين الله هو الإسلام؛ وأمرنا لنخلص العبادة؛: {لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (71).
قوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ؛} عطف على قوله:
{لِنُسْلِمَ؛} أي أمرنا لنسلم؛ فقيل لنا: أسلموا وأقيموا الصلاة بركوعها وسجودها، {(وَاتَّقُوهُ)} أي اتّقوا سخطه؛ {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (72)؛أي تجمعون يوم القيامة.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ؛} أي لإقامة أمر الحقّ؛ وهو الثواب والعقاب في الآخرة، ولم يخلقها باطلا لغير شيء، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ؛} أي وخلق الخلائق يوم يقول كن فيكون. وقيل: معناه: واتّقوه يوم يقول كن فيكون. وقيل: واذكروا يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون مكوّنا بإذن الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ؛} أي الآخرة
(1)
في أمر يوم القيامة حقّ كائن لا محالة، وله الملك يومئذ. وتخصيص ذلك اليوم بالملك؛ لأنّ اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد سوى الله نفع ولا ضرّ كما قال الله تعالى:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ}
(2)
.والصّور: قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين؛ فتغشى الخلائق كلّهم بالنفخة الأولى؛ ويحيون بالنفخة الثانية، فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدّنيا؛ والثانية لابتداء الآخرة
(3)
.قوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ؛} أي وعالم ما غاب عن العباد وما علموه؛ {وَهُوَ الْحَكِيمُ؛} في أمره، {الْخَبِيرُ} (73)؛بأعمال عباده.
(1)
في المخطوط: (أي حرة) ويبدو أنه تصحيف، كما سيوضحه المصنف رحمه الله.
(2)
الانفطار 19/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10467) عن ابن عباس بمعناه.
قوله عز وجل: {*وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؛} أي اذكر يا محمّد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر، من قرأ «(آزر)» بالنصب فموضعه خفض بدل من (أبيه) إلا أنه لا ينصرف؛ لأنه اسم أعجميّ، ومن رفعه فعلى النداء؛ أي يا آزر
(1)
.وكان آزر مسكنه (كوت) قرية من سواد الكوفة.
قال السّدّيّ والحسن: (آزر اسم لأبي إبراهيم)
(2)
.وقال الفرّاء: (هو صفة عيب وسبّ؛ ومعناه في كلامهم: المعوجّ)
(3)
.وقيل: معناه: الشيخ لهم. وقيل: قال إبراهيم لأبيه المخطئ، أو قال لأبيه: يا مخطئ. وكان على هذا القول اسم أندتارخ بن ياجوراء. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: (آزر اسم صنم)
(4)
وهو على هذا التأويل في موضع نصب، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ تقديره: اتّخذ آزر أصناما آلهة من دون الله.
وقيل: كان إبراهيم قال لأبيه: لا تتّخذوا آزر إلها، أتتّخذ أصناما آلهة، {إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ؛} عن الحق؛ {مُبِينٍ} (74)؛أي ظاهر الضّلالة في ذهاب عن الحقّ بيّن.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي كما أرينا إبراهيم النصرة في دينه والحقّ في مخالفة قومه؛ نريه ملكوت السّماوات والأرض؛ أي ملكها ونريه القدرة التي يقوّي بها دلالته على توحيد الله تعالى، وهو ما رأى من السماء والأرض والكواكب والقمر والشمس.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: (معنى: {(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} أي آيات السّماوات والأرض؛ وذلك أنّه أقيم على صخرة وكشف له عن السّماوات والأرض حتّى العرش وأسفل الأرضين، ونظر إلى مكانه
(1)
نقله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 340،وقال:(هو وجه حسن).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10468) عن السدي. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 22؛ نقله القرطبي عن الحسن.
(3)
في معاني القرآن: ج 1 ص 240؛ قال الفراء: (وقد بلغني أنّ (آزر) في كلامهم: معوجّ، كأنه عابه بزيغه وبعوجه عن الحق).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10471) عن مجاهد، والأثر (10472) عن السدي.
في الجنّة؛ وذلك قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا}
(1)
يعني أريناه مكانه في الجنّة)
(2)
.
وقيل: معنى الآية: كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه وقومه من المذهب؛ كذلك نريه ملكوت السموات والأرض. والملكوت: عبارة عن أعظم الملك؛ زيدت الواو والتاء للمبالغة؛ كما يقال: رهبوت خير من رحموت، هذا مثل يقوله العرب؛ معناه: لئن ترهب خير من أن ترحم. فملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم؛ وملكوت الأرض: الجبال والشجر. وقوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75)؛أي نريه الملكوت ليستدلّ بذلك على توحيد الله ويثبت على اليقين.
قوله عز وجل: {(فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي)} قال المفسرون:
إنّ إبراهيم ولد في زمان النّمرود بن كنعان، وكان النمرود أول من دعا الناس إلى عبادته، وكان له كهّان ومنجّمون، فقالوا له: إنه يولد في هذه السنة غلام يغيّر دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه.
قال السديّ: (رأى النّمرود في منامه كأنّ كوكبا طلع فذهب بضوء الشّمس والقمر حتّى لم يبق لهما ضوءا، ففزع من ذلك ودعا السّحرة والكهّان؛ وسألهم عن ذلك فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السّنة؛ يكون هلاكك على يديه.
فأمر بذبح كلّ غلام يولد في ناحيته في تلك السّنة، وأمر الرّجال باعتزال النّساء، وجعل عليهم الحرّاس، فمكث كذلك ما شاء الله).
قال السديّ: (خرج النّمرود بالرّجال إلى العسكر، ونهاهم عن النّساء مخافة من ذلك المولود، فبدت له حاجة إلى المدينة، فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلاّ
(1)
العنكبوت 27/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10477) عن مجاهد بأسانيد. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 103؛ قال السيوطي: ((أخرجه آدم بن ابي إياس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء عن مجاهد))؛وقال: ((أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي)) وعنه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10479).
آزر، فدعاه وأمره لحاجته إلى المدينة، وقال له: إنّك ثقتي؛ فأقسمت إليك أن لا تدنو من امرأتك ولا تواقعها، ثمّ أوصاه بحاجته. فلمّا دخل المدينة وقضى حاجته، قال: لو دخلت على أهلي فرأيت كيف حالهم، فلمّا نظر إلى امرأته لم يتمالك حتّى وقع عليها، وكانت قد طهرت من الحيض، فحملت بإبراهيم عليه السلام، فلمّا حملت به؛ قالت الكهنة للنّمرود: إنّ الغلام الّذي أخبرناك به قد حملت به أمّه اللّيلة، فأمر النّمرود بذبح كلّ ولد من الغلمان.
فلمّا دنت ولادة أمّ إبراهيم وأخذها المخاض، خرجت هاربة مخافة أن يطّلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته في موضع، ثمّ لفّته في خرقة وجعلته في الحلفاء، ثمّ رجعت إلى زوجها فأعلمته، فانطلق أبوه إليه وحفر له سربا في ذلك المكان وجعله فيه، وسدّ عليه بصخرة مخافة أن تأكله السّباع، وكانت أمّه تختلف إليه سرّا فترضعه، وكان إذا بكى على أمّه أتاه جبريل عليه السلام فوضع إصبعه في فمه فيخرج منها اللّبن، فكان يمصّ سبّابة نفسه)
(1)
.
وقال أبو روق: (كانت أمّ إبراهيم كلّما جاءته لتنظر إليه وجدته يمصّ أصابعه، وقالت: ذات يوم نظرت إلى أصابعه، فوجدته يمصّ من إصبع ماء؛ ومن إصبع لبنا؛ ومن إصبع عسلا؛ ومن إصبع سمنا).
وقال بعضهم: لمّا وضعت أمّ إبراهيم حملها، ذهبت به وحفرت له حفرة وألقته فيها وسدّتها عليه بصخرة، ورجعت فسألها أبوه آزر: ما فعل حملك؟ قالت: وضعت غلاما فمات، فصدّقها وسكت عنها. وكان إبراهيم يشبّ في اليوم مثل ما يشبّ غيره في الشهر، ويشبّ في الشهر ما يشبّ غيره في السنة، فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر يوما، ثم أخبرت أمّه أزر بخبره وما صنعت به، فلمّا شبّ إبراهيم في المغارة وعقل وتكلّم، أتته أمّه ذات يوم فقال لها: من ربي؟ قالت: أنا! قال: ومن ربّك؟ قالت: أبوك! قال: ومن ربّ أبي؟ قالت: النمرود! قال: ومن ربّ النمرود؟ قالت:
اسكت! فسكت)
(2)
.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 304؛قال السيوطي: ((أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي وذكره)).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 24؛ قال القرطبي: ((والقصص في هذا تامّ في (قصص-
ثم رجعت إلى أبيه وأخبرته بذلك، فأتاه آزر؛ قال له: يا أبتاه من ربي؟ قال:
أمّك؛ قال: ومن ربّ أمّي؟ قال: أنا! قال: ومن ربّك؟ قال: النمرود! قال: ومن ربّ النمرود؟ فلطمه؛ وقال: اسكت؛ فسكت.
ثم أنه خرج بعد ذلك من السرب حين غربت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بدّ أن يكون لهذه ربّ وخالق، ثم تفكّر في خلق السموات والأرض، وقال: إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني هو ربي، ما لي إله غيره.
{(فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)} أي غشيه الليل؛ رأى الزهرة؛ {(قالَ هذا رَبِّي.)} {(فَلَمّا أَفَلَ)} ذلك النجم؛ قال: لا أحبّ ربّا ليس بدائم. ثم نظر؛ فرأى القمر طالعا في آخر الليل؛ {(قالَ هذا رَبِّي)،} فلما رآه يسري وينتقل من مكان إلى مكان، علم أنه محدث لا يصلح أن يكون ربّا؛ ف {(قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ، فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ)} طالعة قد ملأت كلّ شيء، {(قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ)} مما قبله، {(فَلَمّا أَفَلَتْ)} جاء إلى قومه فرآهم يعبدون الأصنام، ف {(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ)} .
قوله عز وجل: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ؛} وأظلم أي غطّاه، والتظلّم، يقال: يجنّ جنّة الليل؛ وأجنّه وجنّ عليه؛ إذا أظلم، وجنت الميّت وأجنته إذا دفنته
(1)
.وقوله تعالى: {رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي؛} في هذا القول ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قال هذا ربي في ظنّي؛ لأنه كان في حال فكرة واستدلال، وكان في ذلك الوقت مهلة له للتروّي والنظر، فلما رأى الكوكب في علوّه وضيائه، قرّر في نفسه على ما ينقسم حكمه من كونه ربّا خالقا أو مخلوقا مربوبا، فلما رآه طالعا آفلا ومتحرّكا زائلا، قضى بأنه محدث بمقارنته، أما ذات الحدث وأنه ليس بربّ، وأنّ المحدث غير قادر على إحداث الأجسام، وأن ذلك يستحيل منه، كما استحال ذلك من نفسه إذا كان محدثا، فحكم بمساواته له من جهة الحدوث وامتناع كونه خالقا.
(2)
-الكسائي) وهو كتاب مما يقتدى به)).
(1)
في المخطوط: (إذا رفته) وهو تصحيف. وفي اللغة: وجنّ الميّت جنّا وأجنّه: ستره. لسان العرب: (جنن).
ثم لمّا طلع القمر فوجد صفته في العظم والإشراق وانبساط النور أكبر، قرّر في نفسه أيضا على ما ينقسم حكمه فقال: هذا ربي، فلما رآه وتأمّله وجده في معنى الكوكب في الطّلوع والأفول، فحكم عليه بحكمه، وإن كان أكثر منه ضوءا.
ثم لمّا رأى الشمس في عظمها وإشراقها وتكامل ضيائها، قال: هذا ربي؛ لأنّها كانت تخالف الكواكب والقمر في هذه الأوصاف، فلما رآها أفلت، حكم لها بالحدوث وأنّها في حكم الكوكب والقمر منتقلة؛ لوجود دلالة الحدث في الجميع.
قالوا: والذي يؤيّد هذا التأويل الذي ذكرناه: أن قول إبراهيم على وجه النّظر والتّفكّر، ما ذكره الله عنه أنه عليه السلام قال:{(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ)} .
والثاني؛ وهو الأقرب إلى الصحة: أن إبراهيم إنّما قال هذا في حال الطّفولة قبل كمال عقله حين حركة الخواطر للفكرة، والنظر في دلائل توحيد الله تعالى.
فإن قيل: كيف يحمل أن هذا القول من إبراهيم كان على ابتداء النظر، وقد تقدّم إنكاره على أبيه وقومه عبادة الأصنام لقوله:{(أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً)؟} قيل: تقدّم الآية في التلاوة لا يوجب أنّها مقدّمة في الحال، ولا يمتنع أن إبراهيم عليه السلام أنكر على أبيه وقومه بعد هذا النّظر الذي ذكرناه.
والثالث: أنّ قوله: {(هذا رَبِّي)} كان على وجه الإنكار الذي يكون مع إلغاء الاستفهام، وكان قصده من هذا القول استدراج قومه لإقامة الحجّة عليهم وتقربهم إلى الهدى، فإنّهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، كأنه قال لهم:
هذا ربي في زعمكم، كما قال تعالى:{أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
(1)
.
{فَلَمّا أَفَلَ؛} الكوكب وتبيّن ((أنه))
(2)
مسخّر مذلّل؛ {قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (76)؛أي لا أعظّمه تعظيم الرّب عز وجل. وقوله تعالى: {(قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ)} معناه على هذا القول: لئن لم يثبتني ربي على الهدى؛ لأنّ
(1)
الأنعام 22/.
(2)
((أنه)) سقطت من المخطوط.
الله تعالى أثنى على إبراهيم عليه السلام في آية أخرى بقوله: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
(1)
والسليم: الّذي لا شكّ فيه وفي سلامته من كلّ عيب.
وقوله عز وجل: {فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً؛} معناه: فلمّا رأى القمر طالعا؛ {قالَ هذا رَبِّي؛} يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ الطّلوع، وقوله تعالى:
{فَلَمّا أَفَلَ} أي فلما غاب، {قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي؛} أي لئن لم يرشدني ربي ويثبّتني على الطريق المستقيم، {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ} (77) عن الهدي.
قوله عز وجل: {فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ} أي فلمّا رأى الشمس طالعة؛ قال: هذا الطالع ربي وهذا النور ربي، {فَلَمّا أَفَلَتْ؛} أي غابت الشمس، {قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} (78) بالله من الأصنام والأوثان والشّمس والقمر والكواكب.
قالوا: فمن تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} أي إنّي أخلصت ديني وعبادتي وجعلت قصدي للّذي ابتدأ خلق السّماوات والأرض، {حَنِيفاً؛} أي مائلا من الأديان الباطلة إلى دين الحقّ ميلا لا رجوع فيه، {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79)؛أي لست على دينكم أيها المشركون.
قوله عز وجل: {وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؛} وذلك أنّ قوم إبراهيم خاصموه في مخالفته إياهم في دينهم وخوّفوه بآلهتهم، وقالوا:
أما تخاف آلهتنا وأنت تشتمها أن تخبلك وتفسدك؟! وقالوا له: إنّ موضع أهل كذا قد تركوا عبادة الأصنام فأمحنوا وقحطوا، وأهل موضع كذا أحسنوا عبادة الأصنام فرزقوا السّعة والخصب. فأجابهم إبراهيم عليه السلام:{(أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ)} أي أتخاصموني في توحيد الله ودينه، وقد نصرني الله وعرّفني دينه وتوحيده بما نصب لي من الدلائل.
(1)
الصافات 84/.
قوله تعالى: {وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ؛} أي لا أخاف من هذه الأشياء التي تعبدونها وهي ممّا لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ. قوله تعالى:
{إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً؛} استثناء منقطع؛ أي ولكن أخاف مشيئة ربي أن يعذّبني ببعض ذنوبي أو يبلوني بشيء من محن الدّنيا. وموضع {(أَنْ يَشاءَ)} نصب على تقدير: لا أخاف إلا مشيئة الله تعالى.
قوله تعالى: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً؛} أي أحاط علم ربي بكلّ شيء، وملأ كلّ شيء علما، وهو يعلم أنّكم على غير الحقّ، وقوله تعالى:{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (80)؛تنبيه على التّفكّر فيما كان بقوله لهم.
قوله عز وجل: {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ؛} وكيف أخاف الأصنام التي أشركتموها مع الله، وهي لا تملك الضّرّ والنفع، بل لا تعرف من عبدها ومن ترك عبادتها، {وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ؛} الذي يملك النفع والضرّ ويعلم من عبده ومن لم يعبده، {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؛} أي عذرا وحجّة لكم؛ {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؛} أي الموحّدون أم المشركون، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (81)،ذلك.
فلم يجيبوا، فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ؛} أي الذين أقرّوا بتوحيد الله ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، {أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ؛} من العذاب؛ {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (82)؛إلى الحجّة، وقيل: إلى الجنّة. وقيل: إنّ قوله: {(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)} قول إبراهيم عليه السلام.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لمّا نزلت هذه الآية؛ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وأيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [إنّه ليس كذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
(1)
؟]
(2)
.
(1)
لقمان 13/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10504) بأسانيد. والبخاري في الصحيح: كتاب الإيمان وأحاديث الأنبياء. ومسلم والترمذي.
قوله عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ؛} أي تلك المقالة التي حاجّ بها إبراهيم حجّتنا أعطيناها ولقّنّاها إبراهيم؛ ليحتجّ بها على قومه، {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ؛} في الدّنيا بالحجّة والنّصرة، وفي الآخرة بالثواب والفضيلة. ومن قرأ «(درجات)» بالتنوين لا على الإضافة فمعناه: نرفع من نشاء درجات، {إِنَّ رَبَّكَ؛} يا محمّد:{حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83)؛في تفضيل بعض الناس على بعض، وتخصيص بعضهم بالنّبوّة.
قوله عز وجل: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا؛} أي وهبنا لإبراهيم إسحاق نبيّا لصلبه ويعقوب نافلة، {(كُلاًّ)} يعني أنّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب هديناهم للنّبوة والإسلام {وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ}
(1)
من قبل إبراهيم، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ؛} أي ومن ذريّة نوح، وهذا قول بعضهم؛ جعلوا الهاء راجعة إلى نوح؛ لأنّها أقرب إلى اسمه؛ ولأنه ذكر في جملة المعطوفين على داود وسليمان ممّن ليس من ذريّة إبراهيم وهو من ذريّة نوح كيونس عليه السلام وكلوط عليه السلام الذي كان ابن أخ إبراهيم ولم يكن من ولده.
وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم؛ لأنه هو المقصود بالذّكر فيما تقدّم من الآية، {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (84)؛أي كما تفضّلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوّة وما يتّصل بها من العزّ والكرامة، كذلك نتفضّل على المحسنين.
قوله تعالى: {وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ} (85)؛ معناه: ومن ذريّة إبراهيم {(زَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ)} المرسلين. قال الضّحاك: (كان إلياس من ولد إسماعيل بن إبراهيم).وقال بعضهم: معنى الآية:
وهدينا {(زَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ)} . وفي الآية حجّة على من أنكر في الحسن والحسين أنّهما أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالى جعل عيسى-ولا أب له-من ذريّة إبراهيم
(2)
.
(1)
سقطت من المخطوط وأثبتت لاقتضاء المعنى وضرورة السياق.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 311؛ قال السيوطي: ((وأخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجّاج، فذكر الحسين فقال الحجّاج: لم-
قوله تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً؛} معناه: وهدينا إسماعيل واليسع؛ وهو تلميذ إلياس وخليفته من بعده. وقال محمد بن إسحاق: (هو ابن أخي موسى عليه السلام.و «(اليسع)» فيه قراءتان: بالتشديد والتخفيف
(1)
، {وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} (86)؛أي وكلّ هؤلاء الأنبياء فضّلناهم بالنبوّة والإسلام على عالمي زمانهم.
قوله تعالى: {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ؛} أي هدينا بعض آبائهم من قبلهم مثل آدم وشيت وإدريس، وبعض ذرياتهم من بعدهم؛ وهم أولاد يعقوب.
ومن جملة ذرياتهم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {(وَإِخْوانِهِمْ)} هم إخوة يوسف في عصرهم، ويحتمل أن يكون المراد بهم كلّ من آمن معهم، فإنّهم كلّهم داخلون في هداية الإسلام.
وقوله تعالى: {وَاجْتَبَيْناهُمْ؛} أي اصطفينا هؤلاء الأنبياء بالنبوّة والإخلاص، وجمعنا فيهم خصال الاجتباء؛ مأخوذ من قولهم: جبيت الماء في الحوض واجتبيته؛ إذا جمعته. وقوله تعالى: {وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (87)؛أي أثبتناهم على طريق الحقّ وهو دين الإسلام.
قوله عز وجل: {ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛} أي إنّ ذلك الطريق المستقيم دين الله يوفّق له من يشاء ممّن كان أهلا لذلك، {وَلَوْ أَشْرَكُوا؛} أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء طرفة عين مع اصطفاء الله تعالى إيّاهم، {لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما؛} أي لبطلت أعمالهم التي؛ {كانُوا يَعْمَلُونَ} (88)؛ من الطاعة، فكيف أنتم يا أهل مكّة؟!
(2)
-يكن من ذرّيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال يحيى: كذبت! فقال: لتأتيني على ما قلت ببيّنة، فتلا وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إلى قوله وَعِيسى وَإِلْياسَ فأخبر تعالى أنّ عيسى من ذرّيّة إبراهيم بأمّه. قال: صدقت)).
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 32؛قال القرطبي: (وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم: (واليسع) بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما: (واللّيسع) وكذا قرأ الكسائي) وفي القراءة آراء كثيرة.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ؛} أي أولئك الأنبياء صلوات الله عليهم أعطيناهم الكتاب المنزّل، والحكم بين الناس، وأكرمناهم بالنبوّة والرسالة، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها} أي بملّة هؤلاء الأنبياء، {هؤُلاءِ؛} يعني قريشا؛ {فَقَدْ وَكَّلْنا بِها؛} أي فقد قام بها، {قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} (89) وهم أهل المدينة وأتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هم الملائكة، وإنّما قال:{(فَقَدْ وَكَّلْنا بِها)} ولم يقل: فقد قام بها، تشريفا للملائكة بالإضافة إلى نفسه على معنى: أكرمنا ووفّقنا إلى الإيمان بها. يقال: معناه: فقد أكرمنا بها قوما ليسوا بها بكافرين؛ فقاموا بها.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ؛} أي أولئك الأنبياء الذين ذكرناهم من قبل هم الذين أكرمهم الله بالطريقة الحسنة؛ فاقتد بسيرتهم؛ واصبر كما صبروا حتى تستحقّ من الثواب ما استحقّوا. وأما الهاء في قوله تعالى: {(اقْتَدِهْ)} فإذا أثبتّ الهاء في الوقف تتبين بها كسرة
(1)
الدال
(2)
،فإن وصلت قلت:(اقتد قل لا أسألكم)
(3)
.
قوله: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً؛} معناه: قل يا محمّد: لا أسألكم على الإيمان والقرآن جعلا، {إِنْ هُوَ؛} يعني القرآن، {إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ} (90)؛إلا عظة بليغة للجنّ والإنس. وفي الآية دليل على أن شرائع الأنبياء تلزمنا ما لم نعلم نسخه؛ لأن اسم الهدى يقع على التوحيد والشّرائع.
قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ؛} قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير في معنى هذه الآية: (جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مالك بن الصّيف، وكان رأس اليهود؛ فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
(1)
في المخطوط: (كثرة) بدل (كسرة).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 36؛ قال القرطبي: (لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء).نقله عن النحاس.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 36؛ قال القرطبي: (لأنه إن وصل بالهاء لحن، وإن حذفها خالف السواد) وعليه أوجب الوقف، وفي القراءة أفهام.
[أنشدك الله يا مالك بالّذي أنزل التّوراة على موسى عليه السلام؛ أتجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السّمين؟] قال: نعم. قال: [فأنت الحبر السّمين، وقد سمّنتك مأكلتك الّتي تطعمك اليهود، ولست تصوم-أي ولست تمسك-] فضحك به بعض القوم، فغضب مالك، وكان حبرا سمينا، ثمّ التفت إلى عمر رضي الله عنه وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.
وقال السّدّيّ: (نزلت في فنحاص بن زوراء؛ وهو قائل هذه المقالة).وقال محمد بن كعب: (جاء ناس من اليهود إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو محتب
(2)
،فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من عند الله، كما جاء به موسى من عند الله؟ فأنزل الله تعالى:{يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ}
(3)
.فقال رجل من اليهود: ما أنزل الله عليك، ولا على موسى، ولا على عيسى، ولا على أحد شيئا. فأنزل الله هذه الآية)
(4)
.
ومعناها: ما عظّموا الله حقّ عظمته، ولا عرفوه حقّ معرفته إذ جحدوا فقالوا:
ما أنزل الله على بشر من شيء؛ أي من كتاب ولا وحي، {قُلْ؛} لهم يا محمّد:
{مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى؛} يعني التوراة؛ {نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ؛} أي ضياء للناس وبيانا لهم من الضّلالة، {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ؛} يكتبونه صحائف، {تُبْدُونَها؛} يظهرون ما فيها مما ليس فيه صفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وزمانه ومبعثه ونبوّته، {وَتُخْفُونَ كَثِيراً؛} أي يسترون ما فيه صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعثه وآية الرّجم.
وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ؛} يحتمل أن يكون خطابا للمسلمين، أي علّمتم أنتم أيّها المؤمنون من الأحكام والحدود ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم. والأظهر: أنه خطاب لليهود؛ لأنه مسوق على ما سبق، معناه:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10544).
(2)
الحبوة والحبوة-بالضم-لغتان: ضمّ الساق إلى البطن بثوب.
(3)
النساء 153/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10547).
علمتم بالقرآن ما كنتم أخفيتموه قبل نزول القرآن؛ لأنّهم قد ضيّعوا شيئا كثيرا من القرآن والأحكام، وكانوا يعاندون ولا يعملون حتى صاروا كأنّهم لم يعلموه.
قوله تعالى: {قُلِ اللهُ؛} معناه: إن هم أجابوك وقالوا: أعلمنا الله، وإلا فقل: الله علّمكم. ويقال معناه: قل الله أنزل الكتاب على موسى، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91)؛أي دعهم واتركهم في باطلهم يلهون، ويقال لكلّ من عمل ما لا ينفعه: إنّما أنت لاعب.
قال ابن عبّاس: (فلمّا رجع مالك بن الصّيف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، قالوا له: ويلك! ما هذا الّذي بلغنا عنك، زعمت أنّه ما أنزل الله على بشر من شيء! أرأيت كتابنا من جاء به إلى موسى وهو بشر؟! قال: إنّه قد أغضبني، فلذلك قلت ما قلت. قالوا: إذا غضبت قلت غير الحقّ، والله لا تلي لنا شيئا، فنزعوه عمّا كان يلي لهم، وولّوا مكانه كعب بن الأشرف)
(1)
.قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء فيها على الإخبار، وقرأ الباقون بالتّاء على الخطاب.
قوله عز وجل: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ؛} يعني القرآن الذي كذب به أهل الكتاب ومشركو قريش؛ هو {(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ)} أي فيه بركة ومغفرة للذنوب لمن آمن به، والبركة: ثبوت الخير على النّماء والزيادة. وقوله تعالى: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ؛} هو موافق للتوراة والإنجيل وسائر كتب الله في أصل الدّين، ويقال: المراد ب {(الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)} النشأة الثانية.
قوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها؛} أي أنزلناه للبركة، ولتخوّف به أهل أمّ القرى، وسميت مكة أمّ القرى لأنّها أصل القرى دحيت الأرض من تحتها، ويقال: لأنّها أعظم القرى شأنا، وقيل: لأنّها قبلة تأمّها الناس بالصلوات إليها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ؛} أي الذين يقرّون ويصدّقون بالبعث يؤمنون بالقرآن، وفي هذا بيان أنّ الإيمان بالحساب والجزاء يقتضي
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 314؛قال السيوطي: ((أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد)).
الإيمان بالقرآن، ولا ينفع بدون الإيمان به وبمحمّد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى:{وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} (92)؛أي يداومون على الصلوات الخمس بركوعها وسجودها ومواقيتها.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في مالك بن الصّيف ومسيلمة الكذاب الّذي كان يدّعي النّبوّة، وفي عبد الله بن سعد بن سرح القرشيّ، كان عبد الله بن سعد يتكلّم بالإسلام، وكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن الّذي ينزل عليه في بعض الأحيان، وكان إذا أملى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله عزيز حكيم، كتب من قلبه: أنّ الله غفور رحيم، وقال: هذا وذاك سواء.
فلمّا نزلت الآية الّتي في سورة قد أفلح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً} ،ثمّ أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أملى عليه قوله:{ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} عجب عبد الله بن سعد من تفصيل خلق الإنسان، فجرى على لسانه: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال صلى الله عليه وسلم: أكتب، هكذا أنزل عليّ. فشكّ عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان محمّد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولإن كان كاذبا فلقد قلت كما قال. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: أيّ أحد أكفر وأشدّ غبنا في كفره ممن اختلق على الله كذبا، بأن جعل له شريكا وولدا كما قال المشركون ومالك بن الصيف:(ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله)،والمراد بالذي {(قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)} مسيلمة الكذاب وكان يسجع ويتكهّن ويدّعي النبوّة ويزعم أنّ الله أوحى إليه. وأما عبد الله بن سرح فارتدّ
ولحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمّد، فلقد كان يملي عليّ فأغيره وأكتب كما شئت
(1)
.
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ؛} أي لو رأيت الظالمين {(فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ)} لرأيت لهم عذابا عظيما. والظالمون هم الكافرون، وقيل: المنافقون رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في صفوف المشركين، وقد نرى مسلمين بمكّة فأخرجهم أهل مكة معهم كرها، فلما رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشّرك، فقالوا: غرّ هؤلاء دينهم، عنوا به المؤمنين، وقاتلوا مع المشركين فقتلوا جميعا عامّتهم.
قوله تعالى: {(فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ)} أي في سكراته ونزعاته وشدائده، وقوله تعالى:{(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ)} معناه: أنّ ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب يبسطون أيديهم عليهم بالعذاب ويقولون لهم: {(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)} أي خلّصوا أنفسكم، ولستم تقدرون على خلاص. وقيل: معناه فارقوا أرواحكم الخبيثة، كما يقول: لأحرقنّك بالعذاب، لأخرجنّ نفسك
(2)
.
قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ؛} أي يقال لهم يوم قبض الرّوح، وقيل: يوم القيامة حين معاينة العذاب: اليوم تجزون العذاب الشّديد الذي تهانون فيه، {بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ،} بكذبكم، {عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93)،وبما كنتم تتعظّمون عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 317؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن أبي حاتم)).
(2)
في المخطوط: (فارقوا أزواجكم الخبيثة؛ كما يقول: ولا لأحرقن الذي يعذبه) وهو تصحيف من الناسخ، ولا يستقيم المعنى المراد؛ إذ المعنى: أخرجوا أرواحكم من أجسادكم؛ وهم عاجزون، فالخطاب بمنزلة قول القائل:((لمن يعذّبه: لأذيقنّك العذاب ولأخرجنّ نفسك)) وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم، بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. فهي عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال كما يفعل الغريم الملازم الملحّ؛ ويقول: أخرج لي ما عليك الساعة، ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 42.واللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 290.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛} أي جئتمونا بلا مال ولا ولد كما خلقناكم في الابتداء، والمعنى: أنه يقال لهم: {(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)} . وفي الخبر: أنّهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، قالت عائشة رضي الله عنها:(وا سوأتاه! الرّجل والمرأة كذلك) فقال صلى الله عليه وسلم: [لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرّجال إلى النّساء، ولا النّساء إلى الرّجال، شغل بعضهم عن بعض]
(1)
.
قوله تعالى: {وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ؛} أي وخلّفتم ما أعطيناكم من الأموال لغيركم أي خلّف عليها غيركم في دار الدّنيا، ولم تقدّموها لأنفسكم، {وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ،} آلهتكم، {الَّذِينَ،} التي، {زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ،} يشفعون لكم ويقرّبونكم إليّ، {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ؛} أي وصلكم
(2)
.
ومن قرأ «(بينكم)» بالنصب فمعناه: تقطع ما بينكم؛ أي ما كنتم فيه من الشّركة، {وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (94)؛أنّها شفعاؤكم عند الله حين لم يقدروا عن دفع شيء من العذاب عنكم.
وقال الحسن: (معنى قوله: {(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)} أي كلّ واحد على حدة)
(3)
.وقال ابن كيسان: (مفردين من المعبودين).وقيل: (فرادى) أي وحدانا لا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10536).وفي الدر المنثور: ج 3 ص 323؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة)).وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الأهوال: باب رحال المتقين: الحديث (8732)؛وقال: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) وقال الذهبي: منقطع. والحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتب الرقاق: باب الحشر: الحديث (6527) من طريق آخر. ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة: باب فناء الدنيا وبيان الحشر: الحديث (2859/ 56).
(2)
على معنى: لقد تقطّع وصلكم بينكم. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 43؛ قال القرطبي: (وفي حرف ابن مسعود ما يدلّ على النصب فيه (لقد تقطع ما بينكم) وهذا لا يجوز فيه إلا النصب؛ لأنك ذكرت المتقطّع وهو-ما-).
(3)
في الدر المنثور: ج 3 ص 323؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو الشيخ عن الحسن
…
وذكره)).
مال لكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم. فرادى: جمع فرد، مثل سكران وسكارى، كسلان وكسالى. ويقال أيضا: فرادى بجزم الرّاء وكسرها وفتحها، وجمعه أفراد.
وقرأ الأعرج: «(فردى)» بغير ألف مثل سكرى.
قوله تعالى: {(كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)} أي حفاة عراة غرلا، (وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم) أي ما أعطيناكم وملّكناكم من الأموال والأولاد والخدم وراء ظهوركم في الدنيا. قوله تعالى:{(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)} قرأ أهل الحجاز والحسن ومجاهد والكسائيّ وحفص بالنصب؛ وهي قراءة أبي موسى الأشعري، وقرأ الباقون بالرفع.
قوله عز وجل: {*إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى؛} أي خالق الحب والنّوى، كقوله تعالى:{فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}
(1)
أي خالقهما. وقال الحسن وقتادة: {(فالِقُ الْحَبِّ)} أي شاقّ الحبّة عن السّنبلة، والنّواة عن النّخلة. والحبّ: جمع حبّة، والنّوى: جمع نواة.
وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ؛} أي يخرج الإنسان من النّطفة، والنطفة من الإنسان. وسميت النطفة ميتا؛ لأنّها من جملة الموات. وقيل: معناه: يخرج النبات الغضّ الطريّ من الحب اليابس، ويخرج الحبّ اليابس من النبات.
وكلّ ما يكون ناميا عند أهل اللغة بمنزلة الحيّ، وما لا يكون ناميا فهو بمنزلة الميت. ويقال: معناه: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وقوله:
{ذلِكُمُ اللهُ؛} أي ذلكم الله الذي يفعل هذا الفعل؛ هو الله، {فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} (95)؛أي فمن أين تصرفون عن الحقّ. والإفك في اللّغة: هو قلب الشّيء وصرفه.
قوله تعالى: {فالِقُ الْإِصْباحِ؛} أي شاقّ عمود الصّبح عن سواد الليل، وقال ابن عبّاس:(معناه: خالق الإصباح).قال الزجّاج: (الإصباح والصّبح واحد،
(1)
الأنعام 14/.
والأصباح جمع الصّبح).ويقال: الإصباح بكسر الألف المصدر؛ ومعناه الدخول في ضوء النّهار.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً؛} لتسكنوا فيه من ظلمته في أوطانكم.
وقرأ الحسن: «(فالق الأصباح)» بالفتح جمع صبح، «(وجاعل اللّيل سكنا)» يسكن فيه خلقه. وقرأ النخعيّ:«(وجعل اللّيل سكنا)» على الفعل في معناه: نوّر النهار بالنور؛ لتبتغوا من فضله، وجعل اللّيل سكنا.
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً؛} نصب الشّمس على معنى:
(وجعل)؛لأنّ في (جاعل) معنى جعل؛ أي جعل منازل الشمس والقمر بحسبان معلوم لا يختلف، إذا انتهى إلى أقصى منازله رجع، فإن الشّمس تدور على الفلك كلّه في ثلاثمائة وخمسة وستّين يوما وربع يوم، والقمر يدور على الفلك كلّه في ثمان وعشرين ليلة، ويكون مستورا في ليلتين، ثم يعود إلى ما كان، فيعرف الناس بذلك آجال عقودهم، وأوقات معاملاتهم وعباداتهم، وسنين أعمارهم.
والحسبان: مصدر، يقال: فلان حسبانه على الله؛ أي حسابه على الله. ويقال:
إنّ الحسبان جمع حساب، كما يقال: شهاب وشهبان. قوله تعالى: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (96)؛أي ذلك الذي وصف تدبير العزيز المنيع في سلطانه، الغالب الذي لا يغلب، العالم بمصالح مملكته.
وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛} أي هو الّذي جعل لكم النّجوم التي تختلف مواضعها من جهة الشّمال والجنوب والدبور والصبا، لتعرفوا بها الطّرق من بلد إلى بلد {(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)} أي في المفاوز ولجج البحار في الليلة المظلمة في السّفن. فإنّ من النّجوم ما يجعله السائر تلقاء وجهه، ومنها ما يجعله خلفه، ومنها ما يجعله على يمينه، ومنها ما يجعله على شماله؛ لتظهر له الطريق التي تؤدّيه إلى بغيته. وقوله تعالى:{قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ؛} أي بيّنا العلامات مفصّلة، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (97).
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ؛} أي أنشأ خلقكم من نفس آدم عليه السلام وحدها؛ فإنه خلقنا جميعا منه، وخلق أمّنا حوّاء من ضلع من أضلاع
آدم عليه السلام، وإنّما منّ علينا بهذا؛ لأنّ الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى أن يألف بعضهم بعضا.
وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ؛} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «(فمستقرّ)» بكسر القاف على معنى فمنكم مستقرّ، وقرأ الباقون بفتحها على معنى: ذلك مستقرّ.
قال ابن عبّاس: (معنى قوله: {(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)} أي مستقرّ في أرحام الأمّهات، ومستودع في أصلاب الآباء)
(1)
.وقال بعضهم على الضدّ من هذا، إلا أنّ لفظ ال (مستقرّ) فيمن خلّف، كلفظ المستودع فيمن لم يخلّف أقرب.
وقال ابن مسعود: (معناه: فمستقرّ في الرّحم إلى أن يولد، ومستودع في القبر إلى أن يبعث)
(2)
.وقال الحسن: (مستقرّ في الدّنيا، ومستودع في القبر).وقال مجاهد:
(فمستقرّ على ظهر الأرض في الدّنيا، ومستودع عند الله في الآخرة)
(3)
.وقال أبو العالية: (مستقرّها أيّام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث).وقال بعضهم:
مستقرّ في الرّحم، ومستقرّ فوق الأرض، ومستقرّ تحت الأرض، اقرأ:{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى}
(4)
و {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}
(5)
.وقيل: المستقرّ في القبر، والمستودع في الدنيا. قال الحسن: (يا ابن آدم، أنت وديعة في أهلك، ويوشك أن تلحق بصاحبك
(6)
،وأنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلاّ وديعة
…
ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وقال آخر:
فجع الأحبّة بالأحبّة قبلنا
…
والنّاس مفجوع به ومفجّع
مستقرّ أو مستودع قد خلا
…
والمستقرّ يزوره المستودع
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10623).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10614) بأسانيد.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10620).
(4)
الحج 5/.
(5)
البقرة 36/.
(6)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 434،ولم يذكر الشعر.
قوله عز وجل: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ؛} أي بيّنا العلامات الدالاّت على توحيد الله مفصّلة، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (98)؛أي لقوم يستدلّون بمعاني الآيات.
والفقه في اللّغة: هو الفهم لمعنى الكلام، إلا أنه قد جعل في العرف عبارة عن علم الغيب، على معنى أنه استدراك معنى الكلام بالاستنباط عن الأصول، ولهذا لا يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه فقيه؛ لأنه يوصف بالعلم؛ والعلم حجّة الاستنباط، ولكنه عالم بجميع الأشياء على وجه واحد.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ؛} أي أنزل من السّماء المطر، فإن الله تعالى منزّل المطر من السماء إلى السّحاب، وينزّل من السحاب إلى الأرض، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً}
(1)
وقوله تعالى: {(فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)} أي فأخرجنا بالمطر نبات كلّ صنف من أصناف الحبوب معاشا لهم.
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: {(فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)} فجعل المطر سببا للنبات، والفاعل بالسبب يكون مستعينا بفعل السبب، والله تعالى مستغن عن الأسباب؟
قيل: إنّما قال الله تعالى: {(فَأَخْرَجْنا بِهِ)؛} لأن المطر سبب يؤدّي إلى النّبات، وليس بمولود له، والله تعالى قادر على إنبات النبات بدون المطر، وإنّما يكون الفاعل بالسبب مستعينا بذلك السبب إذا لم يمكنه فعل ذلك الشّيء إلا بذلك السبب، كما أنّ الإنسان إذا لم يمكنه أن يصعد السطح إلا بالسّلّم، كان السّلّم آلة الصّعود، والطائر إذا صعد السطح بالسّلّم، لم يكن السّلّم آلة له؛ لأنه يمكنه أن يصعد السطح بدون السّلم.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً؛} أي أخرجنا من المطر نباتا أخضر؛ وهو ساق السّنبلة، وقوله تعالى:{نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً؛} أي نخرج من ساق السّنبلة ما قد ركب بعضه بعضا؛ يعني سنابل البرّ والشعير والأرزّ والذرّة وسائر الحبوب، يركب بعضه بعضا.
(1)
ق 9/.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ؛} أي عروق قريبة المتناول ينالها القاعد. والقنوان: جمع القنو؛ مثل صنو وصنوان. والقنو: عذق النّخلة والعذق؛ بفتح العين: النّخلة. قال الزّجاج: (في الآية محذوف؛ أي دانية وغير دانية؛ وهي الّتي تكون بعيدة المتناول).
وقرأ الأعرج: «(قنوان)» بضمّ القاف؛ وهي لغة قيس. وقال مجاهد: [معنى قوله:
{(دانِيَةٌ)} ].وقال الضّحاك: (ملزقة بالأرض).
(1)
وقوله تعالى: {وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ؛} عطف على قوله تعالى: {(خَضِراً)} أي وأخرجنا جنّات؛ أي بساتين وأشجار ملتفّة، وكل نبات متكاتف يستر بعضه بعضا فهو جنّة، من جنّ إذا استتر. وقرأ الأعمش ويحيى بن يعمر وعاصم:«(وجنّات)» بالرفع عطفا على {(قِنْوانٌ)} لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها، وكذلك قوله تعالى:{(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)} بالرفع أيضا.
وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ؛} أي وأخرجنا من شجر الزّيتون وشجر الرّمّان، {(مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)؛} أي منها ما يشبه غيره في الصّورة واللّون، ومنها ما لا يشبه. وقيل: معناه: متشابها في المنظر واللّون، وغير متشابه في الطّعم مثل الرّمّان الحامض والحلو. والفائدة في الجمع بين شجر الزيتون وشجر الرّمان في هذه الآية: بأنّهما شجرتان يشتمل ورقهما على الغصن من أوّله إلى آخره مشتبه بأوراقهما، ومختلف ثمارهما.
(2)
قوله تعالى: {اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ؛} أي انظروا إلى خروج الثمر نظر الاعتبار إذا عقد وهو غضّ، وينعه إذا نضج وأخذ اللون من بين أصفر وأبيض وأحمر، فمعناه:{(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)} أي ونضجه وإدراكه. وقرأ
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10643).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 49؛ قال القرطبي: (أي متشابها في الأوراق، أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتماله على جميع الغصن وفي حجم الورق، وغير متشابه في الذّواق؛ عن قتادة وغيره).وفي اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 329؛قال ابن عادل: (وقال قتادة: مشتبها ورقها مختلفا ثمرها).
أبو رجاء: «(ويانعه)» بالألف، وقوله تعالى:{(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)} قرأ أهل الكوفة غير عاصم: «(ثمره)» بضمّ الثاء والميم على جمع الثّمار، فيكون جمع الجمع؛ لأن الثّمر جمع الثمار.
ومعنى الآية: انظروا إلى الثّمر في ابتداء طلوعه، وانظروا إليه في انتهاء حاله وقت إدراكه، {إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (99)؛أي إنّ في خلق هذه الأشياء، وتصريفها ونقلها من حال إلى حال لعلامات دالّة على البعث لقوم يؤمنون بالله. وهذه الآية دالة للمؤمنين وغيرهم، إلا أنه خصّ المؤمنين بالذكر؛ لأنّهم هم الذين ينتفعون بالاستدلال بها.
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في الزّنادقة؛ قالوا: إنّ الله تعالى وإبليس أخوان؛ فالله تعالى خالق النّاس والدّواب والأنعام وكلّ خير، وإبليس خالق السّباع والحيّات والعقارب وكلّ شرّ، فذلك قوله تعالى: {(وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ)}. وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً}
(1)
)
(2)
.وقال مقاتل: (نزلت الآية في جهينة وخزاعة، قالوا: إنّ صنفا من الملائكة يقال لهم الجنّ: بنات الله)
(3)
تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.
وانتصب {(الْجِنَّ)} . لكونه بدلا من {(شُرَكاءَ)} . أو لأنه مفعول ثان على تقدير:
وجعلوا الجنّ شركاء لله؛ كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} .
(4)
قوله تعالى: {وَخَلَقَهُمْ؛} يجوز أن يكون الهاء والميم عائدة إلى أهل الشّرك، ويجوز أن تكون عائدة على الجنّ، على أن المعنى: أنّ الله خالق الجنّ؛ فكيف يكونوا شركاء له؟!
(1)
الصافات 158/.
(2)
ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 333؛قال: (قال ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي).
(3)
قاله مقاتل في التفسير: ج 1 ص 363؛قال: (وذلك أن جهينة، وبني سلمة، وخزاعة وغيرهم قالوا: إن حيّا من الملائكة يقال لهم: الجن بنات الرحمن
…
).
(4)
الزخرف 19/.
وقوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} أي وكذبوا بنسبة البنين والبنات إلى الله تعالى، فإنّ مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى قالوا: المسيح بن الله، واليهود قالوا: عزير بن الله. وكذبوا كلّهم لعنة الله عليهم، يقال: خرق؛ واخترق؛ واختلق؛ وافترى: إذا كذب.
وقرأ أهل المدينة: «(وخرّقوا)» بالتشديد على التكثير. وقوله تعالى: {(بِغَيْرِ عِلْمٍ)} أي بجهلهم بلا حجّة؛ {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ} (100)؛كلمة تنزيه وتبعيد لله تعالى عن كلّ سوء؛ أي سبحوه أيّها المؤمنون عمّا يقول عليه الجاهلون. وقوله تعالى: {(تَعالى)} علوّا من العلوّ؛ أي استعلى عمّا وصفوه به. ويجوز في صفات الله تعالى: (علا) ولا يجوز: ارتفع؛ لأن العلوّ قد يكون بالاقتدار؛ والارتفاع يقتضي الجهة والمكان.
قوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي مبتدع السّماوات والأرض ومنشؤهما ابتداء على غير مثال سبق. وقوله تعالى: {أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؛} أي من أين يكون له ولد؛ وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة، ولا يكون الولد إلا من زوجة.
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ؛} نفي للزوجة والولد؛ أي كيف يكون له ولد وصاحبة وقد خلق الأشياء كلّها، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (101)؛من خلق العباد ومصالحهم؛ وجهل الكفّار وعنادهم.
قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ؛} معناه: إنّ الذي خلق الأشياء كلّها وعملها وأشركتم به هو الله تعالى ربّكم لا إله غيره خالق كلّ شيء من الخلق فأطيعوه ووحّدوه ولا تشركوا بينه وبين غيره في العبادة؛ {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (102)؛أي حافظ.
قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ؛} أي لا تدرك الأبصار كنهه؛ {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ؛} أي يعلم كنهها وماهيّتها؛ فإنه لا أحد يعلم أنّ الإنسان لم صار يبصر من عينيه ولا يبصر بغيرهما؛ وما الشيء الذي يصير به الإنسان مبصرا؛
وكيف حقيقة البصر، فأعلم الله تعالى أنّ خلقا من خلقه لا يدرك كنهه ولا يحيطون بعلمه؛ فكيف يحيطون بالله؟!
فمن حمل الآية على هذا التأويل؛ لم يكن فيه ما ينفي الرؤية في الآخرة؛ لأن معنى الرؤية غير معنى الإحاطة بحقيقة الشيء. وقال بعض المفسّرين: (إنّ الإدراك إذا قرن بالبصر؛ كان المراد منه الرّؤية، فإنّه يقال: أدركت ببصري؛ ورأيت ببصري، بمعنى واحد، كما يقال: أدركت بأذني؛ وسمعت بأذني، بمعنى واحد)
(1)
.
قالوا: وأصل الإدراك: اللّحوق؛ نحو قولك: أدركت زمان فلان؛ وأدرك فلان أبا حنيفة؛ وأدرك الزرع والثمرة؛ وأدرك الغلام إذا لحق حال الرّجال. وإدراك البصر الشيء ولحوقه به برؤيته إيّاه، إلا أنه لا يمتنع أن تكون هذه الآية عامّة من جهة اللفظ والمراد منها الخصوص توفيقا بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ}
(2)
.قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103)؛أي اللّطيف بعباده في التّدبير، الخبير بمصالحهم.
قوله تعالى: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ؛} أي جاء كم القرآن الذي فيه البيان. والبصائر: جمع البصيرة؛ وهي الحجّة البيّنة، فمن أبصر فلنفسه نفعه، {وَمَنْ عَمِيَ؛} عن الحقّ والقرآن؛ {فَعَلَيْها؛} فعلى نفسه ضرر ذلك، {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (104)؛أي برقيب أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، فإنّ الله يجازيكم على أعمالكم.
وقيل: معناه: لست عليكم بحفيظ فأحول بينكم وبين إضراركم بأنفسكم، وإنّما أنا رسول أبلّغكم رسالات ربكم وهو الحفيظ عليكم، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ؛} أي مثل ما صرّفنا الآيات وبيّناها فيما تلي عليك؛ نصرّف الآيات ونبيّنها في المستقبل لئلاّ يقولوا:
(1)
نقله الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: مج 5 ج 7 ص 393 و 394.
(2)
القيامة 22/-23.
تختلقه من تلقاء نفسك، ولئلاّ يقولوا درست؛ أي قرأت كتب أهل الكتاب. ومن قرأ «(دارست)» فمعناه: ذاكرت أهل الكتاب. وكان أهل مكّة يقولون: إنّما يتعلّمه من جبر ويسار؛ وكانا غلامين عبرانيّين بمكّة
(1)
.
ومعنى (درست) أدرست هذه الأخبار التي تتلوها علينا، ومعنى (دارست) أي قارأت أهل الكتاب: تعلّمت منهم وقرأت عليهم وقرءوا عليك.
وقرأ قتادة: «(درّست)» أي قريت وتليت، وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب:
«(درست)» بفتح الدال والرّاء والسين وجزم التاء؛ يعني: تقادمت وانمحت وانمضت، وذكر الأخفش:«(درست)» بضمّ الراء؛ ومعناها: درست؛ إلا أن ضمّ الراء أشدّ مبالغة.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: «(درس)» بفتح السّين من غير تاء؛ يعنون النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (105)؛أي ولنبيّن القرآن والتصريف لقوم يعلمون.
قوله تعالى: {اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؛} أي اعمل يا محمّد بما أنزل إليك من القرآن من حلاله وحرامه، {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} أنزله. وقوله تعالى:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (106)؛أي اتركهم في ضلالتهم. وهذا منسوخ بآية السّيف. وقيل: معناه: أعرض عنهم استجهالا لهم.
(1)
أختلف في اسم الشّخص الذي قالوا إنّما يعلّمه، فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيّا فأسلم، قال القرطبيّ: وذكر النقّاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلّم محمّدا، فيقول: لا والله بل هو يعلّمني ويهديني. وقيل اسمه يعيش عبد لبني الحضرميّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقّنه القرآن. وقيل نصرانيّا بمكّة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ القرآن. أو رجلا كان بمكّة يقال له أبو ميسرة وهو نصرانيّ يتكلّم بالروميّة. وقيل عدّاس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل عابس غلام حويطب بن عبد العزّى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرميّ، وكانا قد أسلما، وهكذا.
وكلّ هؤلاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالسهم ويعلّمهم الإسلام، قال النّحّاس، وهذه الأقوال ليست بمتناقضة-أي أنّ هؤلاء بزعم العرب أنّهم يعلمون الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن-لأنه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنّهم يعلّمونه. والعجمة: الإخفاء وهي خلاف الإبانة، والأعجم من في لسانه ضعف إبانة وهو الذي لا يفصح سواء كان من العرب أم من العجم. وكذلك الأعجم أو الأعجميّ المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا.
قوله عز وجل: {وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا؛} أي لو شاء الله لوفّقهم إلى الإيمان، {وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً؛} أي يمنعهم عما يضرّهم، {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (107)؛أي وما أمرنا أن تلزمهم الإيمان شاءوا أم أبوا، فإنّك لا يمكنك أن تفعل ذلك بهم، وإنّما هو الذي يقدر على فعل هذا، ولكنّه لم يفعل حتى لا يزول التكليف.
وإنّما جمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معناهما، فإن الحافظ للشيء هو الذي يصونه عما يضرّه، والوكيل بالشيء هو الذي يجلب الخير إليه.
قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} وذلك حين قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ}
(1)
قال المشركون: لئن لم تنته يا محمّد عن سب آلهتنا وعيبها لنسبّنّ إلهك الذي تعبده، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أي لا تسبّوا معبودهم الذي يعبدونه من دون الله فيسبّوا الله عدوا وظلما.
ونصب {(عدُواً)} على المصدر؛ أي يعدون عدوا. ويقال: نصب على إرادة اللام؛ أي يسبّون بالعدو. وقوله تعالى: {(بِغَيْرِ عِلْمٍ)} أي بجهلهم يحملهم الغيظ على أن يسبّوا معبودكم.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا أراد أن يأمر غيره بالمعروف، ويعلم أنّ المأمور يقع بذلك فيما هو أشدّ ممّا هو فيه من شتم أو ضرب أو قتل، كان الأولى أن لا يأمره ويتركه على ما هو فيه. وقرأ بعضهم:«(عدوّا بغير علم)» أي أعداء؛ نصب على الحال. وقال قتادة: (كان المسلمون يسبّون أصنام الكفّار، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لئلاّ يسبّوا الله، فإنّهم قوم جهلة)
(2)
.
(1)
الأنبياء 98/-99.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10692).
قوله تعالى: {كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ؛} أي كما زيّنا لك دينك وعملك؛ زيّنّا لهم دينهم وعملهم، {(كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)} الذي يعملونه بميل الطّبائع إليه مجازاة لهم على فعلهم، كما قال تعالى:{بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ}
(1)
.وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ؛} أي مصيرهم ومنقلبهم إلى الله تعالى، {فَيُنَبِّئُهُمْ؛} فيجزيهم؛ {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (108)؛في الدّنيا.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها؛} أي حلفوا بالله واجتهدوا في المبالغة في اليمين {(لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ)} أي علامة لنبوّتك ليصدّقن بها. وعنوا بالآية الآيات التي كانوا يقترحونها عليه، {قُلْ؛} لهم يا محمّد:{إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ؛} إنّ مجيء الآيات من عند الله؛ إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها، وإنما ينزل على حسب المصلحة.
وقوله تعالى: {وَما يُشْعِرُكُمْ؛} خطاب للمؤمنين؛ {أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} (109)؛أي وما يدريكم أيّها المؤمنون؛ أنّها إذا جاءتهم لا يؤمنون لما سبق لهم في علم الله تعالى من الشّقاوة.
وقرأ مجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير: «(إنّها)» بالكسر على الابتداء؛ وخبره:
{(لا يُؤْمِنُونَ)} . وقرأ الباقون بالفتح؛ ومعناه عند الخليل وسيبويه: لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وحمزة: «(لا تؤمنون)» بالتاء على مخاطبة الكفّار؛ أي وما يشعركم يا أهل مكّة أنّها إذا جاءت لا تؤمنون. وقرأ الباقون بالياء. وقرأ الأعمش:
(وما يشعركم أنّها إذا جاءتهم لا يؤمنون).
قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛} أي نترك أفئدتهم وأبصارهم منقلبة كما هي في الحيرة التي بهم؛ والغفلة التي فيهم؛ فلا نوفّقهم مجازاة لهم فلا يؤمنون {(كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)} أي أوّل ما رأوا من الآيات.
(1)
النساء 155/.
وقيل: معناه: ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم على جمر جهنّم ونارها؛ جزاء على ترك الإيمان وعقوبة عليه، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (110)؛أي نتركهم في ضلالتهم يتحيّرون ويتردّدون.
وقوله تعالى: {*وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ؛} نزلت هذه الآية في رهط من أهل مكّة من المستهزءين، وهم: الوليد بن المغيرة؛ والعاص بن وائل؛ والأسود بن عبد يغوث؛ وغيرهم. قالوا: يا محمّد؛ ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك: أحقّ ما تقول أم باطل؟ فنؤمن بك، وأرنا الملائكة يشهدون أنّك رسول الله، وائتنا بالله والملائكة قبيلا-أي كفيلا-على ما تقول إنه الحقّ. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعناها: {(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ)} معاينة للشّهادة على نبوّتك كما سألوك، {(وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)} بأنك رسول الله، وأنّ القرآن كلامه، وجمعنا عندهم كلّ شيء من الطّير والوحوش والسّباع وسائر الدواب كفيلا يكفلون بصحّة ما تقول يا محمّد، ما كانوا ليؤمنوا بك إلا أن يوفّقهم الله للإيمان، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (111)؛أنّ الله قادر على ذلك.
ويجوز أن يكون معنى (قبلا)
(1)
أي قبيلا يقابلهم ويواجههم من المقابلة، ويقال: جماعة على معنى أن القبل جمع القبيل، والقبيل جمع القبيلة؛ كسفينة وسفن.
قرأ أهل المدينة والشام: «(قبلا)» بكسر القاف وفتح الباء؛ أي معاينة؛ والمعنى: لو ناطقتهم الأرض والسّماء والطير والوحوش أن محمّدا رسول الله، وأن ما أتاكم به حقّ، قالوا لهم ذلك معاينة ومشافهة؛ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.
قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} أي كما جعلنا لك ولأمّتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه، كذلك جعلنا لمن تقدّمك من الأنبياء وأممهم عدوّا. و (شياطين) نصب على البدل من (عدوّا) ومفسّرا له، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا.
(1)
(قبلا) سقطت من المخطوط.
قال ابن عبّاس في معنى هذه الآية: (إنّ إبليس قسّم جنده فريقين، فبعث فريقا منهم إلى الإنس؛ وفريقا إلى الجنّ. فشياطين الإنس وشياطين الجنّ يلتقي بعضهم ببعض، فيقول بعضهم لبعض: أضللت صاحبي بكذا وكذا، أتيته من قبل الشّهوات واللّذات، ومن قبل المراكب والملابس والطّعام والشّراب، فإن أعياني من وجه أتيته من وجه آخر، فأضلل صاحبك بمثله).
فذلك قوله عز وجل: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ؛} أي يلقي بعضهم إلى بعض ويملي بعضهم إلى بعض؛ {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً؛} أي المموّه الذي يكون فيه تزيين الأعمال القبيحة. وقوله تعالى: {(غُرُوراً)} نصب على المصدر؛ كأنه قال:
يغرون به غرورا.
وذهب بعض المفسّرين: (إلى أنّ الشّياطين اسم لكلّ عات متمرّد؛ من الجنّ ومن الإنس شياطين).كما روي عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأمرني أن أصلّي ركعتين؛ فصلّيت وجلست إليه؛ فقال لي:[يا أبا ذرّ؛ تعوّد بالله من شياطين الإنس والجنّ].فقلت: يا رسول الله؛ أومن الإنس شياطين؟! فقال: [أو ما تقرأ قوله تعالى: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟}]
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ؛} أي لو شاء ربّك أن يمنع الشياطين من الوسوسة ما فعلوه، ولكن يمتحن عباده بما يعلم أنه أبلغ في الحكمة وأجزل في الثواب. قوله تعالى:{فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} (112)؛أي اتركهم وافترائهم وكذبهم على استجهالاتهم، فإنّي القادر عليهم.
قوله تعالى: {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} عطف على (غرورا)؛أي يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول الغرور، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يقرّون بالبعث، ولكن يرضوا القول الزخرف ويكتسبون من الإثم؛ وهو ما قضي عليهم في اللّوح المحفوظ، يقال: اقترف فلان ذنبا؛ إذا عمله. وقيل:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10717 و 10718).والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 178.
معنى {(لِيَقْتَرِفُوا)} أي ليختلقوا ويكذبوا. وقرأ النخعيّ: «(ولتصغي)» بضمّ التاء وكسر الغين؛ أي تميل، والإصغاء: الإمالة؛ ومنه الحديث: [إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء للهرّة]
(1)
.
والأفئدة: جمع فؤاد؛ مثل أغربة وغراب. {وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (113) أي فليكتسبوا ما هم مكتسبون. وقال ابن زيد: (وليعملوا ما هم عاملون).يقال:
اقترف فلان مالا؛ أي اكتسبه، وقارفت الأمر: أي واقعته؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً}
(2)
.ومن قرأ: «(وليرضوه وليقترفوا)» بجزم اللام على لفظ الأمر؛ فمعناه: التهديد؛ أي اعملوا ما شئتم.
قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً؛} وذلك أن نفرا من أهل مكّة قالوا: يا محمّد؛ اجعل بيننا وبينك حكما من اليهود والنّصارى، فإنّهم قرءوا الكتب قبلك. فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: قل لهم يا محمّد: أفغير الله أطلب ربّا ومعبودا يساوي حكمه حكم الله؛ فأجعله حكما وهو الّذي أنزل إليكم القرآن مفصّلا مبيّنا أمره ونهيه بلغة تعرفونها. ويقال: متفرّقا سورة سورة؛ وآية آية.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ؛} أي التّوراة؛ هم عبد الله بن سلام وأصحابه؛ {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ؛} أي القرآن؛ {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ؛} بما تقدّم لهم من البشارة في كتبهم بأنّ الله يبعث في آخر الزمان نبيّا من ولد إسماعيل، وينزّل عليه القرآن. وقوله تعالى:{بِالْحَقِّ؛} أي بما أقام لهم من البراهين على ذلك.
(1)
الحديث عن كبشة بنت كعب بن مالك: أنّ أبا قتادة رضي الله عنه دخل فسكبت له وضوءا، فجاءت هرّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتّى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! فقلت: نعم فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنّها ليست نجسة
…
] الحديث. رواه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: الحديث (75).والترمذي في الجامع: أبواب الطهارة: الحديث (92)،وقال: حسن صحيح.
(2)
الشورى 23/.
وقوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (114)؛أي لا تكوننّ يا محمّد من الشّاكّين في أنّهم يعلمون ذلك. ويقال: هذا خطاب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، كأنه قال: لا تكوننّ أيها الجاهل بأمر محمّد صلى الله عليه وسلم من الشّاكّين في أمره. وقرأ الحسن والأعمش وابن عامر وحفص: «(منزّل)» بالتشديد من التّنزيل؛ لأنه أنزل نجوما مرّة بعد مرّة، وقرأ الباقون بالتخفيف من الإنزال.
قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ؛} قرأ أهل الكوفة ويعقوب: «(كلمة)» على التوحيد، وقرأ الباقون:«(كلمات)» على الجمع.
ومعنى الآية: وتمّ إلزام الحجّة على وجه الحكمة، لا ينقصان في ذلك
(1)
.قوله (صدقا) أي مخبره على ما أخبر به فيما وعد وأوعد، و (عدلا) أي أحكامه كلّها عدل، و {(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)} أي لا مغيّر لحكمه ودينه، فإن اليهود والنصارى-وإن غيّروا التوراة والإنجيل-لن يمكنهم أن يأتوا بحكم حتى يقوم مقام حكمه.
وقيل: معناه: {(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)} أي وجب قول ربك بأنه ناصر محمّدا صلى الله عليه وسلم وأنّ عاقبة الأمر له صدقا وعدلا؛ لا مغيّر لقوله: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}
(2)
.وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (115)؛ظاهر المعنى.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} وذلك أنّ أهل مكّة كانوا يستحلّون أكل الميتة، ويدعون المسلمين إلى أكلها، وكانوا يقولون: إنّما ذلك ذبح الله؛ فهو أحلّ ممّا ذبحتم أنتم بسكاكينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعناها: إن تطع-يا محمّد-أكثر من في الأرض يصرفونك عن دين الله، وإنّما قال:{(أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ)} لأنّ أكثرهم كفّار ضلاّل.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 71: ((قال قتادة: الكلمات هي القرآن، لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون)).
(2)
غافر 51/.
قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ؛} معناه: إن أكثرهم يتّبعون أكابرهم بالشّكّ؛ يتبعونهم فيما يعملون ((ويظنون))
(1)
أنّهم على الحق، وإنّما يعذبون على هذا الظنّ؛ لأنّهم اقتصروا على الظّنّ والجهل واتّبعوا أهواءهم، {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} (116)؛أي ما هم إلا يكذبون في قولهم: ما قتل الله أحقّ أن تأكلوه ممّا قتلتم بسكاكينكم.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ؛} أي عن دين الإسلام وشرائعه؛ {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (117)؛بمحمّد والإسلام، وإنّما قال:(أعلم) لأنّ الله تعالى يعلم الشيء من كلّ جهاته، وغيره يعلم الشيء من بعض جهاته.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؛} عطف على ما دلّ عليه الكلام الذي قبله، كأنه قال: كونوا على الهدى فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه من الذبائح، {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} (118)؛هذا للترغيب في اعتقاد صحّة إباحته وفي أكله.
قوله تعالى: {وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؛} يعني من الذبائح، وموضع (أن) نصب لأنّ (في) سقطت، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؛} أي وقد بين لكم ما حرّم عليكم من الميتة والدّم والخنزير على ما تقدّم في سورة المائدة.
قرأ الحسن وقتادة وأهل المدينة وحفص: «(وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم)» بالفتح فيهما على معنى: فصّل الله. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بضمّهما جميعا. وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا: «(فصّل)» بالفتح «(وحرّم)» بالضّمّ. وقرأ عطية العوفيّ: «(فصل)» بالتخفيف مفتوحا؛ يعني قطع الحكم فيما حرّم عليكم.
وقوله تعالى: {إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ؛} أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله، فقد رخّص لكم حينئذ. قوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيراً؛} يعني الكفار يأكلون
(1)
في المخطوط: (يتبعونهم فيما يعلمون أنهم على الحق) ويبدو أنه تصحيف، وتستقيم العبارة كما أثبتناه، والله أعلم.
الميتة والذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها عمدا، والتي يذبحونها لآلهتهم بلا علم عندهم ولا بصيرة، يتّبعون الهوى والشّهوات في ذلك.
قوله تعالى: {لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} قرأ الحسن وأهل الكوفة بضمّ الياء لقوله: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}
(1)
.وقرأ الباقون بفتحها لقوله: {هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} . فمعنى من قرأ بضمّ الياء: أنّهم يصرفون الناس عن الهدى بالدّعاء إلى أكل الميتة على وجه الجدال والخداع، وقوله:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (119)؛أي أعلم بعقوبة المتجاوزين من الحلال إلى الحرام.
قوله تعالى: {وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ؛} أي لا تقربوا ما حرّم الله عليكم جهرا ولا سرّا، ويقال: أراد بظاهر الإثم: الزّنا الظاهر، وبباطنه: الزّنا السّر.
فالعرب كانوا يرون الزّنا ظاهرا معصية، ولا يرونه في الخفية معصية. وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ} (120)؛أي إنّ الذين يعملون المعصية ظاهرا وباطنا سيعاقبون في الآخرة بما كانوا يكسبون في الدّنيا من المعاصي والفواحش.
قوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؛} يعني الذبائح.
روي عن عبد الله بن عمر: (أنّه أتى حرّا ذبح شاة نسي أن يذكر اسم الله عليها، فأمر ابن عمر غلامه أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري منه قال: إنّ ابن عمر يقول: إنّه لم يذكر عليها اسم الله، فلا تشتري).
وقال ابن سيرين: (إذا ترك التّسمية ناسيا؛ لم تؤكل)
(2)
.إلاّ أن أكثر أهل العلم على أن نسيانها لا يوجب التحريم. هكذا روي عن عليّ وابن عبّاس ومجاهد وعطاء وابن المسيّب؛ قالوا: (إن ترك التّسمية ناسيا لا بأس بأكلها؛ لأنّ خطاب الآية يتناول العامد، إذ النّاسي في حال نسيانه لا يكون مكلّفا).
(1)
الأنعام 116/.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 350؛قال السيوطي: ((أخرجه عبد بن حميد)).
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ؛} أي إنّ أكله لفسق. وقيل: إن ترك التسمية، وقيل: المذبوح بغير تسمية الله فسق فيه حين ذبح على غير وجه الحقّ؛ كقوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ؛} أي إنّ الشياطين ليوسوسون لأوليائهم من الإنس؛ وهم: أبو الأخوص الخثعميّ وبدين ابن ورقاء الخزاعيّ وغيرهما من أهل مكّة؛ كانوا يخاصمون النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أكل الميتة واستحلالها. والوحي: إلقاء المعنى إلى النّفس في الخفية، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ؛} في أكل الميتة واستحلالها من غير اضطرار، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (121)؛مثلهم.
وفي هذا دليل على أنّ من استحلّ شيئا ممّا حرّم الله، أو حرّم شيئا مما أحلّ الله؛ فهو مشرك. وإنّما سمي مشركا؛ لأنه اتّبع غير الله فأشرك بالله غيره.
قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ،} قال ابن عبّاس: (نزلت في عمّار بن ياسر، وأبي جهل).ويقال: إنّ المراد بالآية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو جهل. ومعنى الآية على القول الأوّل: أو من كان كافرا، فهديناه إلى المغفرة والإسلام، {وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً؛} وهو نور القرآن والإيمان والحكمة؛ {يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ؛} يضيء بذلك النور فيما بين النّاس؛ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ؛} أي كمثل من هو في الضّلالة وظلمات الكفر، {لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؛} أبدا.
بيّن الله تعالى بهذه الآية أنّ أبا جهل ليس بخارج من الضّلالة أبدا. وقال بعضهم: المثل زائد؛ تقديره: كمن في الظّلمات.
وعن ابن عبّاس أيضا: (أنّ معناه: {(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)} يريد حمزة بن عبد المطّلب {(كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)} أبا جهل؛ رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة كافر، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه يفوت وبيده قوس، فأقبل وهو غضبان حتّى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرّع ويستكين ويقول: أما ترى ما جاء به محمّدا، قد سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا. فقال حمزة: ومن أسفه
(1)
الأنعام 145/.
منكم؟! تعبدون الحجارة من دون الله، أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(1)
.
قوله تعالى: {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (122)؛ أي كما زيّن لأبي جهل عمله الذي كان يعمل؛ كذلك زيّن للكافرين أعمالهم مجازاة لهم على كفرهم. وقال الحسن: (ما زيّنها لهم إلاّ الشّيطان).
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها؛} أي جعلنا في كلّ قرية ذا نور يمشي به في الناس، كذلك جعلنا في كلّ قرية رؤساءها وكبراء وعظماء أهلها مجرميها. وقيل: معناه: جعلنا في أهل مكّة عظماؤهم مجرميها، كذلك جعلنا في كلّ قرية. وقوله تعالى:{(لِيَمْكُرُوا فِيها)} أي ليصير أمرهم إلى أن يمكروا بالتّكبّر وتكذيب الرسل، {وَما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ} (123)،أنّ كلّ وبال أمرهم يرجع إليهم.
قوله تعالى: {وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ؛} أي إذا جاءت الأكابر المذكورين، وقيل: أهل مكّة؛ إذا جاءتهم دلالة واضحة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: لا نصدّق حتى نعطى من الآيات مثل ما أعطي رسل الله المعجزات والدّلائل.
وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النّبوّة حقّا لكنت أولى بها منك؛ لأنّي أكبر منك سنّا
(2)
وأكثر منك مالا. وقال مقاتل: (قال أبو جهل: زاحمنا بنوا عبد المطّلب في الشّرف؛ حتّى إذا كنّا كفرسي رهان؛ قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتّبعه أبدا؛ إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه. فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(3)
.
(1)
أسباب النزول: ص 150؛ علقه الواقدي. وفي الجامع لأحكام القرآن: ذكره القرطبي مختصرا.
(2)
في المخطوط: (نسبا)،والصحيح:(سنّا) فأثبتناه.
(3)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 368.
يقول الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ؛} أي هو أعلم من يرسل ومن يختصّ بالرسالة ومن هو أهل لها. وهذا جواب يمنعهم أن يكونوا رسلا حين أنفوا أن يكونوا أتباعا للرّسل بعد قيام حجّة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
بيّن الله تعالى أنه إنّما يجعل الرسالة عند من يقوم بأدائها، ولا يجعلها عند من يضيّع ولا يصبر على المكاره. وقيل: إنّما لم يجعل الله الرسل في الرؤساء والأغنياء؛ لأنّ الناس يتبعونهم وإن لم يأتوا بالحجج، فيقول من بعدهم: إنّما اتّبعوهم لأنّهم كانوا رؤساء وأكابر.
وقوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ؛} أي سيصيب الذين اكتسبوا الجرم مذلّة وهوان ثابت لهم عند الله؛ {وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} (124)؛أي بكفرهم وتكذيبهم الرسل.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (ثمّ رجع إلى ذكر عمّار وأبي جهل) فقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ؛} أي فمن يرد الله أن يوفّقه للإسلام يوسع قلبه ويليّنه لقبول الإسلام، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ؛} أي أن يخذله ويجعله في ضلالة الكفر، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} .
{حَرَجاً}
(1)
؛قيل: الحرج: موضع الشّجر الملتف
(2)
؛يعني أنّ قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التفّ فيه الشجر.
(1)
في هامش المخطوط: أشار بعلامة ولم يكتب (صح)،ولعلها نقولات من القراء لما وجدوه في التفاسير:(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) يعني من يرد الله أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه (يشرح صدره للإسلام) أي يوسع قلبه ويليّنه لقبول الإسلام، ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته، قال القتبيّ:(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي يفتحه.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)، قالوا: يا رسول الله؛ وكيف ذلك؟ قال: [إذا دخل النّور في القلب انشرح وانفسح الصّدر] قالوا: وهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: [نعم، التّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت]. (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) عن الإسلام فلا يقبله ويتركه بغير نور (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) يعني غير موسع (حرجا).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 81؛ نقله القرطبي من قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال أهل اللغة: الحرج: أضيق الضيّق. وقال مجاهد: (الحرج: الشّكّ)
(1)
وقال قتادة: (حرجا ملتبسا)
(2)
.وقال النّضر بن شميل: (قلقا)،وقال الكلبيّ:(ليس للخير فيه منفذ).قرأ ابن كثير: «(ضيقا)» بالتخفيف، وشدّده الباقون؛ وهما لغتان مثل هيّن وليّن. وقوله تعالى:«(حرجا)» قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الرّاء، وفتحها الباقون؛ وهما لغتان مثل دنف ودنف.
قوله تعالى: {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ؛} يعني: يشقّ عليه الإيمان ويمتنع ويعجز عنه، كما يشقّ عليه صعود السّماء. واختلف القرّاء في قوله تعالى:
{(يَصَّعَّدُ)} فقرأ أهل المدينة والبصرة والكوفة إلا أبا بكر: «(يصّعّد)» بتشديد الصّاد والعين من غير ألف، وقرأ طلحة والنخعيّ وأبو بكر:«(يصّاعد)» بتشديد الصّاد وبألف بعدها، بمعنى يتصاعد. وقرأ الأعرج وأبو رجاء وابن كثير:«(يصعد)» مخفّفا؛ أي لا يجد مخرجا يمينا ولا شمالا، فكأنه من الضّيق يصعد إلى السّماء ولا يستطيعه. وقرأ عبد الله «(كأنّما يتصعّد)» .
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ؛} أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة؛ {عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (125)؛أي لا يرغبون ولا يصدّقون بالتوحيد.
روي: أنّه لمّا نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله؛ كيف يشرح الله صدره للإسلام؟ قال: [إذا دخل النّور في القلب انشرح واستوسع] قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: [التّجافي عن دار الغرور؛ والإنابة إلى دار الخلود؛ والاستعداد للموت قبل نزول الموت]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10792).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10794).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (10785 - 10787) بأسانيد ضعيفة.
وقال بعض المفسّرين في معنى الآية: {(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)} في الآخرة إلى الثّواب ونيل الكرامة {(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)} في الدّنيا بالدّلالات. ومن يرد أن يقيله عن ثوابه ونيل كرامته في الآخرة {(يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)} في الدّنيا عقوبة له على كفره.
قوله عز وجل: {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً؛} (هذا) إشارة إلى الإسلام، وقيل: إلى بيان القرآن، سمي ذلك مستقيما؛ لأنه يستقيم بمن يسلكه؛ فلا يعرج فيه حتّى يورده إلى الجنّة، وقوله تعالى:{قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ؛} أي أتينا بآية على إثر آية مفصّلة مبيّنة؛ {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (126)؛أي يتّعظون بآيات الله، ويتفكّرون في دلالات القرآن، فلم يبق لأحد عذر في التّخلّف عن الإيمان بعد هذا البيان.
قوله تعالى: {*لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛} قال ابن عبّاس: (الله السّلام، وداره الجنّة)
(1)
.كأنه قيل لهم: جنّة الله. وقال الفرّاء: (معناه: لهم دار السّلام الدّائمة من كلّ آفة وبليّة).وقوله تعالى: {(عِنْدَ رَبِّهِمْ)} أي في الآخرة. وقيل:
معناه: مقيمون عند ربهم؛ {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ؛} أي يتولّى أمرهم بنصرهم في الدّنيا وإكرامهم في الآخرة، {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (127)؛من الطاعة.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} معناه: يوم نحشر الخلائق كلّهم إلى الجزاء، يقول: يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس ممّن أضللتموهم؛ أي أضللتم كثيرا من الإنس وكثير متّبعوكم منهم، {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ؛} أي قرناء الجنّ؛ {مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} .
أما استمتاع الإنس بالجن فما روى الحسن: (أنّ العرب كانوا إذا سافروا فنزلوا واديا؛ خافوا على أنفسهم فقالوا: نعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه؛ فيبيتون في جوار منهم، وكانوا يرون ذلك استجارة بالجنّ).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10806) عن السدي.
وأما استمتاع الجنّ بالإنس؛ فكان عظماء الجنّ يقولون: قد سدنا الإنس مع الجنّ؛ حتى أن الإنس يعوذون بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.
وذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً}
(1)
.
قوله تعالى: {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا؛} أي أدركنا وقتنا الذي وقّت لنا. قيل: إنّ المراد به وقت البعث، وقيل: إن المراد وقت الموت. وفي هذا دليل على أنه لا يكون للمقتول أجلان بخلاف ما يقول بعض القوم: إنّ المقتول لو لم يقتل لكان يبقى حيّا لا محالة. لأنه قد كان في هؤلاء مقتولون وقد أخبروا كلّهم أنّهم قد بلغوا أجلهم الذي أجّله الله لهم.
قوله تعالى: {قالَ النّارُ مَثْواكُمْ؛} أي قال الله تعالى: النّار مقرّكم ومنزلكم؛ فإنكم قد أقررتم على أنفسكم باستحقاق العذاب ولزوم الحقّ عليكم، قوله تعالى:{خالِدِينَ فِيها إِلاّ ما شاءَ اللهُ؛} قال ابن عبّاس: (وكان ما شاء الله بقوله: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
(2)
).
وقيل: معناه: {(إِلاّ ما شاءَ اللهُ)} ما بين البعث من القبر إلى وقت الفراغ من الحساب؛ فإنه لا يكون لهم عذاب في ذلك الوقت. وقيل: معناه: {(إِلاّ ما شاءَ اللهُ)} أن يعذّبهم من صنوف العذاب. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ؛} في عقابه؛ {عَلِيمٌ} (128)؛بقدر ما يستحقّون من العذاب.
قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (129) أي مثل ما قصصنا عليك من تسليط الجنّ على الإنس؛ كذلك نسلّط بعض المجرمين على بعض، ثم ينتقم منهما جميعا في الآخرة بالنّار. وقال بعضهم: معناه:
(1)
الجن 6/.
(2)
النساء 48/.
يتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة. وقال بعضهم: يسلّط بعضهم على بعض، يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:[من أعان ظالما سلّطه الله عليه]
(1)
.
قوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي؛} أي يقول لهم يوم القيامة: يا معشر الجنّ والإنس؛ لماذا فعلتم ما فعلتم ألم يأتكم رسل منكم يقرءون عليكم القرآن، «وينذرونكم؛» أي ويخوّفونكم؛ {لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؛} وهو يوم القيامة.
قال ابن عبّاس: (كانت الرّسل تبعث إلى الإنس؛ وبعث محمّد صلى الله عليه وسلم إلى الجنّ والإنس).قال: (وهذا كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ}
(2)
يخرج من الملح منهما، وكذلك الرّسل من الإنس).
وقوله تعالى: {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا؛} يعني أنّهم لا يجدون جوابا إلاّ الاعتراف بذنوبهم؛ ويقولون: أقررنا على أنفسنا، أنّهم بلّغوا الرسالة، وكفرنا بهم.
يقول الله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا؛} أي بزهرتها ونعيمها، {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ؛} في الآخرة؛ {أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} (130)؛في الدّنيا؛ أي أقرّوا.
قوله تعالى: {ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ} (131)(ذلك) أي ذلك الأمر. وقيل: أراد الإشارة إلى إرسال الرّسل. وقوله تعالى: {(أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ)} أي معناه: لأجل أنه لم يكن ربّك معذّب أهل القرى (بظلم) أي بشركهم وذنوبهم {(وَأَهْلُها غافِلُونَ)} عن الأمر والنّهي وتبليغ الرّسل؛ أي لم يكن يهلكهم بذنوبهم قبل أن يأتيهم رسول يبيّن لهم، وينهاهم عمّا هم عليه من المعصية، فإن رجعوا وإلا عذبهم الله. وقيل: معناه: لا يهلكهم بظلم منه؛ ولا يعذبهم وهم غافلون لما كلّفوا من غير إقامة الحجّة بما يقبّح ويحسّن من غير تنبيه لهم من الرّسل.
(1)
في المقاصد الحسنة: الحديث (1063)؛قال السخاوي: ((رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود مرفوعا، وفيه ابن زكريا وهو العدوي متهم بالوضع فهو آفة، وقال: وبالجملة فمعناه صحيح)).وينظر كشف الخفا: الحديث (2378).
(2)
الرحمن 22/.
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا؛} أي لكلّ عامل من الفريقين مراتب في عمله، لأهل الخير درجات في الجنّة بعضها فوق بعض، ولأهل الشّرك درجات في النار بعضها أشدّ عذابا من بعض، {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} (132)؛أي لا يجري عليه السّهو عن طاعة المطيعين ومعصية العاصين، فيجزي كلّ عامل بما عمل.
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ؛} أي هو الغنيّ عن إيمان العباد وطاعتهم. والغنيّ: الّذي لا يحتاج إلى شيء؛ فيكون وجود كلّ شيء عنده وعدمه سواء. وقوله تعالى: {(ذُو الرَّحْمَةِ)} بيان أنه تعالى مع كونه غنيّا عن شكر العباد وطاعتهم ذو إنعام عليهم. والمعنى: وربّك الغنيّ عن خلقه ذو الرحمة بهم، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ؛} أي إن يشاء يهلككم يا أهل مكّة؛ {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ؛} ويخلف من بعدكم؛ أي من بعد إهلاككم؛ {ما يَشاءُ؛} خلقا آخر أطوع لله منكم؛ {كَما أَنْشَأَكُمْ؛} أي مثل ما ابتدأ خلقكم قرنا بعد قرن؛ {مِنْ ذُرِّيَّةِ؛} أي من أولاد؛ {قَوْمٍ آخَرِينَ} (133)؛هالكين.
وقوله تعالى: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ؛} أي إنّ الذي تخافون من البعث والعذاب لكائن لا خلف فيه، {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (134)؛أي فائتين لستم تقدرون أن تعجزوا الله عن إدراككم.
قوله تعالى: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ؛} أي قل لهم يا محمّد:
اثبتوا على حالتكم وعلى عملكم القبيح الذي أنتم عليه وعلى منازلكم؛ {إِنِّي عامِلٌ؛} في أمري على منزلتي، وهذا على سبيل الوعيد والتّهديد، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ؛} أي {(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)} أيّنا يكون له العاقبة المحمودة في الدّنيا؛ وفي الآخرة، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ} (135)؛أي لا يظفرون بمرادهم. وقرأ السلميّ وعاصم «(على مكاناتكم)» على لفظ الجماعة. وقرأ مجاهد وأهل الكوفة إلا عاصما:«(من يكون)» بالياء؛ لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي.
وقوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ أهل
الجاهليّة كانوا إذا حرثوا حرثا؛ جعلوا لله خطّا؛ وقالوا: ما دون هذا الخطّ لآلهتنا ينفق عليها وعلى خدّام الأصنام، وما وراء هذا الخطّ لله يتصدّق به على أهل الحاجة والمسكنة والسّائلين.
وكانوا إذا أرسلوا الماء فيما سمّوه لله تعالى، فانفجر منه إلى الّذي جعلوه لآلهتهم تركوه؛ وقالوا: هذا أحوج والله غنيّ عنه، وإذا انفجر من الّذي جعلوه لأصنامهم؛ ردّوه وقالوا: ليس لآلهتنا بدّ من النّفقة. وكانوا إذا هلك الّذي لآلهتهم؛ وكثر الّذي لله؛ أخذوا الّذي لله وأنفقوه على الأصنام، وإذا هلك الّذي لله؛ وكثر الّذي للأصنام قالوا: لو شاء الله لأزكى الّذي له)
(1)
.
ومعنى الآية: وجعل المشركون من أهل مكّة لله ممّا خلق من الزّرع والأنعام نصيبا، وللأصنام نصيبا؛ فقالوا: هذا نصيب الله بقولهم، ولم يأمرهم الله تعالى بذلك، وهذا النصيب الآخر لآلهتنا. وفي الآية إضمار تقديره: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا. وقوله تعالى: {(بِزَعْمِهِمْ)} قرأ السلميّ والأعمش والكسائيّ بضمّ الراء، والباقون بفتحها، وهما لغتان.
وقوله تعالى: {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ؛} أي ما كان من نصيب آلهتهم فلا يرجع إلى الذي جعلوه لله، {وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ؛} اى يرجع الى الذى جعلوه لشركائهم {ساءَ ما يَحْكُمُونَ} (136) أي بئس ما يقضون؛ يوفّون نصيب الأصنام وينقصون نصيب الرّحمن، فبئس الحكم حكمهم في الإشراك وبالقسمة. وكانوا يفعلون بالأنعام الثمانية أزواج ونحوها كذلك.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ؛} قال ابن عبّاس: (كان أهل الجاهليّة يدفنون بناتهم أحياء كراهية للبنات، وكان الرّجل منهم يحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحر أحدهم كما حلف عبد المطّلب على ابنه عبد الله. وكان لآلهتهم خدّام يقومون
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10820 و 10821).
عليهم الّذين كانوا يزيّنون للمشركين قتل أولادهم)
(1)
.
ومعنى الآية: وكما زيّن تحريم الحرث والأنعام؛ زيّن لكثير من المشركين دفن بناتهم أحياء كراهية لهنّ ومخافة الفقر، وقوله تعالى:{(شُرَكاؤُهُمْ)} أي قرناؤهم وشياطينهم، وقيل: سدنة آلهتهم؛ يعني خدّام أصنامهم.
قرأ بعضهم: «(زيّن)» على ما لم يسمّ فاعله، ورفع قوله:«(قتل أولادهم شركاؤهم)» يحمل على المعنى على الفاعل؛ كأنه قال: من زيّن لهم، ثم قال {(شُرَكاؤُهُمْ)} على إضمار (زيّنه).وقرأ ابن عامر بضمّ الزاي، وقيل: بضمّ اللام «(أولادهم)» بالنصب و «(شركائهم)» بالكسر. ومعنى ذلك: على التقديم والتّأخير؛ كأنه قال: زيّن لكثير من المشركين قتل شركايهم
(2)
أولادهم، فيكون معنى الشركاء الكفار القاتلون، المتقدّمون منهم والباقون.
وقوله تعالى: {(لِيُرْدُوهُمْ)} أي ليهلكوهم. يجوز أن تكون هذه لام العاقبة، إن لم يكن غرضهم بذلك الأمر إهلاكهم، ويجوز أن تكون لام الغرض؛ لأنه قد كان فيهم معاندون وغير معاندين؛ فغلبت صفة المعاندين.
قوله تعالى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ؛} أي ليخلطوا ويشبهوا عليهم دينهم دين إسماعيل عليه السلام. قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ؛} أي لو شاء الله لمنعهم من دفن البنات أحياء، {فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} (137)؛أي اتركهم وافتراءهم على الله أنه أمرهم بدفن بناتهم أحياء، فإنّ الله تعالى مع قدرته عليهم تركهم؛ فاتركهم أنت، فإنّ لهم موعدا يحاسبون فيه.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10826) مختصرا.
(2)
شركايهم؛ بياء مضمومة. ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 357 - 358؛ لأن شركاؤهم فاعل، وهي قراءة عامة القراء. والتقدير:(زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايهم) ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 456.وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 92 - 93؛ أتى الإمام القرطبي بفوائد.
وقرئ: «(قتل أولادهم شركائهم)» كلاهما بالكسر، فتكون الشركاء من نعت الأولاد
(1)
؛لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم.
قوله عز وجل: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ؛} أي قالوا: هذه الأنعام والحرث التي جعلوا بعضها لله وبعضها للأوثان حجر؛ أي حرام لا يأكلها ولا يذوقها إلا من يأذن له في أكلها؛ وهم الرجال دون النّساء، {(بِزَعْمِهِمْ)} أي بقولهم.
وقوله تعالى: {وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها؛} هي البحيرة والسّائبة والحام؛ حرّموا الركوب عليها، وأما الوصيلة فإنّها كانت من الغنم خاصّة. قوله تعالى:
{وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا؛} أي وأنعام أخر كانوا يذبحونها للأصنام تقرّبا إليها؛ زعموا أنّ الله أمرهم بذلك.
قوله تعالى: {اِفْتِراءً عَلَيْهِ؛} أي على الله، نصب على معنى:{(لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا)} كذبا على الله أنه أمرهم بذلك. وقيل: نصب على المصدر؛ أي افتروا افتراء. وقوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ} (138)؛أي سيكافئهم بكذبهم وافترائهم على الله.
قوله تعالى: {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا؛} أي قال أهل الجاهليّة: إنّ الأجنّة التي في بطون هذه الأنعام -التي زعموا أنّها لأوثانهم-إذا انفصلت عن الأمّهات؛ فهي حلال لرجالنا منافعها وألبانها، ومحرّم على نسائنا ما دامت تلك حيّة. وأمّا تأنيث ال (خالصة)؛فعلى معنى: سألهم.
قال جماعة: ما في بطون هذه الأنعام أو الأنعام التي في بطون هذه الأنعام. وأما تذكير قوله: {(وَمُحَرَّمٌ)} فلأنه مردود على لفظ (ما).وقرأ الأعمش: «(خالص لذكورنا)» بغيرها، وردّه إلى (ما).ومن نصب (خالصة) فعلى القطع؛ تقديره: ما في بطون هذه الأنعام لذكورنا خالصا. وقرأ ابن عبّاس: «(خالصة)» بالإضافة إلى الهاء.
(1)
في المخطوط: (الأولان) وهو تصحيف من الناسخ.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً؛} أي قالوا: وإن تكن أجنّة هذه الأنعام ميتة؛ {فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ؛} الرّجال والنساء. قرأ أبو جعفر وابن عامر: «(وإن تكن)» بالتاء «(ميتة)» بالرفع على معنى وإن يقع. وقرأ ابن كثير كذلك إلا أنه بالياء، وقرأ أبو بكر التاء «(تكن ميتة)» بالنصب على معنى: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ الباقون «(يكن)» بالياء والنصب، وردّوه إلى ما يؤيّد ذلك قوله:{(فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ)} ولم يقل: فيها.
قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ؛} أي سيجزيهم في الآخرة بوصفهم الذي وصفوا في هذه الأنعام، إلا أنه لمّا حذف الباء انتصب، ويجوز أن يكون معناه:
سيجزيهم جزاء وصفهم، إلا أنه حذف الجزاء، وأجرى إعرابه على {(وَصْفَهُمْ)،} {إِنَّهُ حَكِيمٌ؛} في مجازاتهم؛ {عَلِيمٌ} (139)؛بمقدار جزائهم. والمعنى:
سيجزيهم على وصفهم الكذب على الله.
قوله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} أي الذين قتلوا بناتهم أحياء جهلا منهم، {(بِغَيْرِ عِلْمٍ)} أي بلا بيان ولا حجّة. نزلت في ربيعة ومضر الذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء مخافة السّبي والفقر، إلا من كان من بني كنانة، فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك
(1)
.وقرأ الحسن والسلميّ وأهل مكة والشّام:
«(قتّلوا)» بالتشديد على التّكثير، وخفّف الباقون.
قوله تعالى: {وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ؛} أي حرّموا على أنفسهم ما أعطاهم الله من الرّزق ومن الأنعام والحرث، يعني: أنّ هؤلاء الكفّار لجهلهم يقتلون البنات أحياء مخافة الفقر والإنفاق، ثم يجعلون طائفة من أموالهم للأوثان، ويحرّمونها على إناث أولادهم.
وقوله: {(افْتِراءً عَلَى اللهِ)} أي يفترون ذلك افتراء على الله؛ بأنّ الله حرّم هذه الأشياء. قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا؛} أي ضلّوا في فعلهم هذا عن الهدى، {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} (140)؛من الضّلالة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10862) عن عكرمة.
قوله تعالى: {*وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ؛} أول هذه الآية راجع إلى ما قبلها، كأنه قال: افتراء على الله وهو الّذي أنشأ جنّات؛ أي هو الذي خلق بساتين معروشات؛ وهي الكروم رفع بعض أغصانها على بعض، {(وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)} وهي الشّجر والزّرع وكلّ ما لا يرتفع بعضه على بعض، هكذا روي عن ابن عبّاس والحسن.
ويقال: معنى {(مَعْرُوشاتٍ)} ما لا يرفع له حيطان، {(وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)} ما لا يجعل له حائط، وقيل:{(مَعْرُوشاتٍ)} ما انبسط على الأرض وأنبت مما يغرس مثل الكرم والقرع والبطّيخ وشبهها، {(وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)} ما قام على ساق فطال مثل النّخل والزّرع وسائر الأشجار. وقال الضّحاك:{(مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)} الكرم خاصّة؛ منها ما غرس؛ ومنها ما لم يغرس).وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضا: (أنّ ال (معروشات) ما نبته النّاس، {(وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)} ما أخذ من البراري والجبال من الثّمار)
(1)
.يدلّ عليه قراءة علي رضي الله عنه «(مغروسات وغير مغروسات)» بالغين والسين
(2)
.
قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ؛} معناه: وأنشأ النخل والزرع، وهذا تخصيص بعض ما دخل في عموم الأوّل؛ لكونهما أعمّ نفعا من جملة ما يكون في البساتين. وقوله تعالى:{(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ)} أي مختلفا جملة من الألوان كلّها، ومختلف في الطّعم من الحلو والحامض والمرّ؛ والجيّد والرّديء. ونصب (مختلفا) على الحال؛ أي أنشأه في حال اختلاف أكله. وقد يقال: ارتفع (أكله) بالابتداء (مختلفا) نعته، إلا أنه لمّا تقدّم النعت على الاسم نصب، كما يقال: عندي طبّاخا غلام، قال الشاعر:
الشّرّ مستتر يلقاك عن غرض
…
والصّالحات عليها مغلقا باب
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10868).
(2)
في المخطوط تصحيف: (يدل عليه قراءته رضي الله عنه (معرشات) بالعين والشين)،والصحيح كما أثبتناه من الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 98.
قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ؛} أي وأنشأ شجر الزّيتون والرّمّان، {مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ؛} أي منها ما هو متشابه؛ ومنها ما هو غير متشابه. وقيل:(متشابها) بالنّظر (وغير متشابه) في الطّعم؛ نحو: كالرّمّانتين لونهما واحد؛ وطعمهما مختلف.
قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ؛} هذا أمر إباحة لا أمر إيجاب، والفائدة في قوله تعالى:{(إِذا أَثْمَرَ)} إباحة الأكل من قبل إخراج الحقّ الذي وجب فيه شائعا للمساكين.
قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ؛} أي أعطوا حقّ الله تعالى يوم يحصد، أرادوا العشر فيما سقته السّماء، ونصف العشر فيما سقي بغرب ودالية. قال ابن عبّاس والحسن وقال ابن عمر رضي الله عنه:({وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ؛} ما يتطوّع به الإنسان عند رفع الغلّة والتّصدّق به)
(1)
.
قال مجاهد: (إذا حصدت فحضرك المساكين، فاطرح لهم منه، وإذا درسته وذرّيته فاطرح لهم منه، فإذا عرفت كيله فأخرج زكاته)
(2)
.قال إبراهيم النّخعيّ:
(هذه الآية منسوخة بالعشر ونصف العشر)
(3)
.وفي قوله: «(حصاده)» قراءتان بكسر الحاء وفتحها.
قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141)؛هذا خطاب للأئمّة؛ أي لا تأخذوا فوق حقّكم، وقيل: خطاب لأرباب الأموال لا يتصدّقوا بالجميع؛ فلا تبقوا للعيال شيئا. قال ابن عبّاس: (كانوا يتسرّعون بالمعروف عند الحصاد، فيعطون المساكين والفقراء، فعمد ثابت بن قيس بن شمّاس من بينهم خاصّة، فصرم خمسمائة نخلة وقسّمها في موضع واحد، ولم يترك لأهله شيئا، فكره
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10898) بمعناه.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10895)
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10912 و 10914) عن إبراهيم، والأثر (10909) عن ابن عباس.
الله ذلك وأنزل قوله تعالى: {(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)} . أي لا تجاوزوا الحدّ فتحتاجوا إلى ما عند الناس.
وقال الأزهريّ: (الإسراف: هو الإنفاق في معصية الله تعالى).وقال مجاهد:
(لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقته في طاعة الله لم تكن سرفا، ولو أنفقت درهما أو دونه في معصية الله تعالى لكنت مسرفا)
(1)
.
قوله تعالى: {(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)؛} ظاهر المعنى، فقيل: معنى {(لا تُسْرِفُوا)} لا تنقصوا عن العشر أو نصف العشر؛ فتمنعوا الصدقة وتأكلوا حقّ المساكين.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً؛} الحمولة: كبار الإبل الّتي يمكن الحمل عليها، والفرش: صغارها الّتي لا يمكن الحمل عليها، سميت فرشا لاستوائها في الصّغر والانحطاط كما سوّي ما يفرش. وقيل: سميت فرشا؛ لقربها من الإبل، وتسمى أيضا الغنم: فرشا.
والمعنى: مما نشاء من الأنعام حمولة وفرشا. ويقال: أراد بالفرش ما يفرش من الثّياب والبسط التي تعمل من الوبر. إلا أنّ القول الأوّل أقرب؛ لأنّ الله تعالى ذكر في الآية بعدها: {(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)؛} أي أنشأ الله في الحمولة والفرش ثمانية أزواج.
قوله تعالى: {كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ؛} إذن في الأكل من الحرث والأنعام، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛} في تحريم الحرث والأنعام؛ أي ولا تتّبعوا طرق الشيطان، فإنه لا يدعوكم إلاّ إلى المعصية، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (142)؛أي ظاهر العداوة؛ وقد بانت عداوته لأبيكم آدم عليه السلام.
قوله تعالى: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ؛} معناه:
وأنشأ لكم {(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)} أي أصناف، {(مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)} ذكر وأنثى، يعني بالذكر زوجا وبالأنثى زوجا، يقال لكلّ من له قرين: زوج، كما قال تعالى:{اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
(2)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 110.
(2)
الأعراف 19/.
قوله تعالى: {(وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)} أي ذكر وأنثى زوجين اثنين. والضّأن: ذوات الإلية، وهو جمع ضائن، كما يقال: تاجر وتجر، وقيل: واحده ضائنة. والمعز: ذوات الأذناب القصار، وفيه قراءتان: تسكين العين؛ وفتحها.
قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} أي قل لهم يا محمّد: من أين جاء هذا التحريم الذي تذكرونه أيّها الكفار في الولد السّابع في الغنم أنه حرام على النساء؛ حرّم الله الذكر من الضأن؛ والذكر من المعز؛ فحرّم ولدهما لحرمة الإناث؟
فإن جاء هذا التحريم من قبل ذكورهما؛ فيجب أن تكون كلّ أنثى حرام عليكم، وإن كان من قبل اشتمال أرحام الأنثيين؛ فيجب أن يكون كلّ أولادهما من الذكر والأنثى حراما عليكم؛ لأنّ الأرحام تشتمل عليهما جميعا.
قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (143)؛أي قل للكافرين خبروني وفسّروا لي ما حرّم عليكم ببيان حجّة إن كنتم صادقين في مقالتكم: إنّ الله حرّم الوصيلة ونحوها. وإنّما قال: {(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)} لأن الصّدق لا يمكن إلا بعلم.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ؛} أي وأنشأ من الإبل اثنين؛ ذكر وأنثى من جملة الثمانية الأزواج، {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ؛} ذكر وأنثى، {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ؛} أي قل لهم يا محمّد: إنّكم تحرّمون الولد من الجاموس والإبل والبقر على النّساء، فمن أين جاء هذا التحريم؛ من قبل الذكور؛ {أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؛} أي من قبل الإناث؟ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؛} أي من الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللهُ بِهذا؛} أي أم شاهدتم الله تعالى حرّم هذه الأشياء التي تحرّمونها وأمركم بتحريمها.
يعني إذا كنتم لا تقرّون بنبيّ من الأنبياء؛ فمن أين علمتم تحريم الله؛ أبالقياس؟ لأنّ الله تعالى أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يناظرهم، ويبيّن بالحجّة فساد قولهم وبطلان اعتقادهم، فلمّا نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي الأحوص
الجشمي ومالك بن عوف
(1)
-وكان هو الّذي يحرّم لهم، وكانوا يرجعون إليه فيه- فسكت مالك وتحيّر في الجواب. فقال صلى الله عليه وسلم:[ما لك يا مالك لا تتكلّم؟] فقال له مالك: بل تكلّم أنت؛ أنا أسمع
(2)
.
فنزل قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} هذا استفهام بمعنى التّوبيخ والتّعجّب؛ معناه: أيّ أحد أعتى وأجرا على الله ممّن اختلق على الله كذبا {(لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)} أي ليصرف الناس عن دينه وحكمه بالجهل، {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (144)؛أي لا يهديهم إلى الحجّة فيما افتروا على الله، ويقال: لا يهديهم إلى حجّته وثوابه.
فلما نزلت هذه الآية قال مالك بن عوف: فيم هذا التحريم الذي حرّمه آباؤنا من السّائبة والوصيلة والحام والبحيرة؟ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ؛} فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم الآية، ثمّ قال:[يا مالك؛ أسلم] فقال: إنّي امرؤ من قومي فأخبرهم عنك. فأبى قومه؛ فقالوا: كيف رأيت؟ فقال:
رأيت رجلا معلّما. وذكر لهم؛ فقالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون
(3)
.
ومعنى الآية: قل لهم يا محمّد: لا أجد في ما أوحي إليّ من القرآن شيئا محرّما على آكل يأكله إلاّ أن يكون ميتة لم يذكّ؛ وهي تموت حتف أنف. فمن قرأ «(إلاّ أن يكون)» بالياء فعلى معنى: إلاّ أن يكون المأكول ميتة. ومن قرأ بالتاء؛ فعلى
(1)
في الإصابة في تمييز الصحابة: ج 5 ص 744: الرقم (7681)؛قال ابن حجر: (المعروف في والد أبي الأحوص أنه مالك بن نضلة)،وفي الرقم (7698)؛قال:(مالك بن نضلة الجشمي والد أبي الأحوص عوف).وفي ج 4 ص 742:الرقم (6105):ترجمة عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي. وله فيها قصة.
(2)
ذكر القصة مقاتل في التفسير: ج 1 ص 734؛وقال: (كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عوف بن مالك الجشمي، ويكنى أبا الأحوص).
(3)
من وجه آخر أخرج القصة ابن هشام في السيرة النبوية: ج 2 ص 200.
معنى: إلا أن تكون تلك الأشياء ميتة. وقرأ عليّ رضي الله عنه: «(يطّعمه)» بتشديد الطاء، فأدغم التاء في الطاء.
قوله تعالى: {(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)} أي دما مصبوبا سائلا، فكانوا إذا ذبحوا أكلوا الدم كما يأكلون اللّحم. وفي الآية دليل على أن الدّم إذا لم يكن سائلا مثل الدم الذي يكون في عروق اللّحم المذكّى؛ فإنه لا يكون محرّما؛ هكذا قال عكرمة وقتادة، وقال عمران بن حدير:(سألت أبا مجلز عمّا يتلطّخ باللّحم من الدّم حتّى يرى فيه حمرة الدّم؛ قال: لا بأس به؛ إنّما نهي عن الدّم المسفوح وهو المهراق السّائل، لكن يحرم لعينه)
(1)
.وقوله تعالى: {(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)} فيه بيان أنّ لحم الخنزير لا يحرم لكونه ميتة، لكن يحرم لعينه.
وقوله تعالى: {(أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)} عطف على قوله: {(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ)} .
والمراد بالفسق: المذبوح للصّنم؛ وهو الذي يذكر على ذبحه اسم غير الله. ومعنى:
{(أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)} أي رفع به؛ مأخوذ من الإهلال الذي هو رفع الصّوت؛ ومنه إهلال المحرم في الحجّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:[إذا استهلّ الصّبيّ ورث وصلّى عليه]
(2)
.
وأما الرّجس؛ فمعناه: الحرام، وكلّ ما استقذرته فهو رجس، والرّجس العذاب في غير هذا الموضع.
قوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ؛} أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات؛ غير طالب التلذّذ بتناوله، ولا متجاوز قدر المباح منه؛ {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (145)؛إذ رخّص لكم تناول هذه الأشياء عند الضّرورة؛ أي أكل شيء من هذه المحرّمات.
فإن قيل: لم قصر التحريم في هذه الآية على الأشياء المذكورة فيه؛ مع أنه تعالى قد حرّم أشياء غيرها في أوّل سورة المائدة؟ قيل: لأنّ هذه الآية مكيّة؛ نزلت في جواب الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم البحيرة ونحوها، فكانت هذه الأربع
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10957) بإسنادين.
(2)
أخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب الفرائض: الحديث (6032) بإسناد صحيح.
المحرّمات المذكورات في هذه الآية محرّمة يوم المجادلة، ثم نزلت بعد هذه الآية تحريم غيرها بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} في سورة المائدة
(1)
.
وهذه الآية لا تمنع شيئا آخر لخبر الآحاد، والقياس على المحرّمات المنصوصة لاتّفاق الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في هذه الآية كالخمر ولحم القرد والنجاسات. وأما الخبر المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:[نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع؛ وكلّ ذي مخلب من الطّير]
(2)
فهو بمنزلة آية من كتاب الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(3)
.
قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ؛} في هذه الآية بيان ما حرّم الله على اليهود. قال ابن عبّاس: (أراد بقوله: {(كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)} الإبل والنّعام والبطّ والإوزّ وما أشبه ذلك ممّا لا يكون منفرج الأصابع)
(4)
.وقيل: أراد به ما يصيد بالظّفر مثل النّسور والبراري وما يشاكل ذلك من السّباع والكلاب. وقال ابن زيد: (هي الإبل فقط)
(5)
قرأ الحسن: «(كلّ ذي ظفر)» بكسر الظّاء وإسكان الفاء.
وقرأ أبو السّمال: «(ظفر)» بكسرهما جميعا
(6)
؛وهي لغة.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما؛} من الشّحم وهو السّمن، {أَوِ؛} ما حملت؛ {الْحَوايا؛} وهي المباعر والأمعاء التي عليها الشّحم من داخلها؛ واحدتها حاوية وحاوياء
(1)
الآية 3/.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 302.والطبراني في المعجم الكبير: الحديث (12994 و 12995) وإسناده صحيح.
(3)
الحشر 7/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10962).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (10970).
(6)
في اللباب في علوم الكتاب: ج 8 ص 487؛قال الحنبلي: ((نسبها الواحدي قراءة لأبي السّمال)).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 124 - 125؛ قال القرطبي: (وقرأ أبو السّمال (ظفر) بكسر الظاء وإسكان الفاء. وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وإسكان الفاء، ولم يذكر هذه القراءة وهي لغة. و (ظفر) بكسرهما.
وحويّة؛ سميت بذلك لأنّها تحوي ما في البطن. وقوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ؛} أراد به ما يكون من الشّحم المخلّط من اللّحم على عظم الجنب. وأما الإلية؛ فقد كانت داخلة في التحريم.
قوله تعالى: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ؛} أي ذلك التحريم عاقبناهم بظلمهم، {وَإِنّا لَصادِقُونَ} (146)؛فيما نقول إنّ هذه الأشياء كانت حلالا في الأصل؛ فحرّمناها على اليهود بمعصيتهم ومخالفتهم لأنبيائهم، وكانت اليهود مع هذا التحريم يجملون الشّحوم فيبيعونها؛ فيستحلّون تمنها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:[لعن الله اليهود؛ حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها؛ إنّ الله تعالى إذا حرّم شيئا حرّم بيعه وأكل ثمنه]
(1)
.
فلمّا نزلت هذه الآية؛ قال صلى الله عليه وسلم: [هذا ما أوحى الله تعالى إليّ أنّه محرّم منه على المسلمين، ومنه على اليهود]
(2)
.فقال المشركون: إنّك لم تصب فيما قلت، فقال الله عز وجل:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ؛} أي إن أنكروا ولم يقبلوا قولك؛ فقل: {(رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)} بالإمهال بأن لن يعاجلكم بالعقوبة؛ {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (147)؛أي لا يردّ عذابه عن المشركين واليهود إذا جاء وقت العذاب.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا؛} أي آباؤنا من قبلنا الذين استننّا بهم، {وَلا حَرَّمْنا؛} على أنفسنا؛ {مِنْ شَيْءٍ؛} من الحرث والأنعام، ولكنه شاء لنا الشّرك والتحريم.
قال الله تعالى: {كَذلِكَ كَذَّبَ؛} أي قال؛ {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} أي هكذا كذب الذين من قبلهم رسلهم كما كذب قومك، {حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا؛} أي عذابنا. ومن قرأ «(كذلك كذب الّذين)» بالتخفيف؛ فمعناه: كما كذب قومك على الله؛ كذلك كذب من قبلهم من الأمم الخالية على الله؛ حتى ذاقوا عذابنا.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 155:الحديث (12887) عن ابن عباس. وأبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في ثمن الخمر: الحديث (3488) وإسناده صحيح.
(2)
ذكره ابن الجوزي في زاد المسير: ج 4 ص 144.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؛} أي قل لهم يا محمّد: هل عندكم من علم من بيان وحجّة غير ما في القرآن؛ فبيّنوه لنا، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ؛} يعني ظنّهم في تحريم البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام. قوله تعالى:{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} (148)؛أي ما أنتم إلاّ تكذبون على الله.
قال المشركون: لو شاء الله ما أشركنا، على وجه الاستهزاء؛ فكذبهم الله في ذلك، وإن كانت المشيئة حقّا كما في سورة (المنافقون):{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ}
(1)
فكذبهم الله في قولهم: إنّك لرسول الله؛ وإن كان ذلك حقّا؛ لأنّهم قالوا على وجه الاستهزاء.
قوله تعالى: {(وَلا آباؤُنا)} عطف على المضمر المتّصل؛ معناه: ما أشركنا نحن ولا آباؤنا. ثمّ اعلم أنّ بعضهم قال: إنّ مشيئة المعاصي إذا أضيفت إلى الله تعالى كان معناها الخذلان مجازاة لهم على سوء أفعالهم، وإصرارهم على المعصية.
قوله عز وجل: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} (149)؛ أي إنّ الله قد أبلغكم حجّته؛ وهو ما أحلّه من الثمانية أزواج؛ فلو شاء لوفّقكم لدينه وأكرمكم بمعرفته. وقال الحسن: (معناه: قد قامت عليكم الحجّة وجاءكم الرّسول؛ فلو شاء لوفّقكم وأجبركم على الإيمان).و {(الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ):} التّامّة الكافية
(2)
.
قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا؛} أي قل لهم يا محمّد: هاتوا شهداءكم الّذين يشهدون أنّ الله حرّم هذه الأشياء، {فَإِنْ شَهِدُوا؛} بأنّ الله حرّمها، {فَلا تَشْهَدْ،} أنت يا محمّد، {مَعَهُمْ؛} لأنّهم لا يشهدون إلاّ الباطل.
(1)
الآية 1/.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 128؛ قال القرطبي: ((أي التي تقع عند المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبيّن التوحيد في النظر في المخلوقات، وأيّد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن ما أمر به لأمكنه)).
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؛} أي لا تعمل بهوى الذين جحدوا بك وبالقرآن؛ ولا بهوى الذين لا يصدّقون بالبعث. وإنّما فصل بين الفريقين؛ لأنّ من الكفار من يؤمن بالبعث كأهل الكتاب؛ ومنهم من لا يؤمن بذلك كعبدة الأوثان. قوله تعالى: {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (150)؛أي يسوّون بالله تعالى في الطاعة.
قوله عز وجل: {*قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ؛} أي قل يا محمّد لمالك بن عوف الجشمي ولأصحابه: هلمّوا واجتمعوا أقرأ عليكم الذي حرّم ربّكم عليكم.
وقوله تعالى: {أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً؛} أي أوصيكم وآمركم أن لا تشركوا. ويقال: أتلو عليكم أن لا تشركوا كما في قوله: {ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ}
(1)
.
وقوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً؛} أي وأوصيكم بالوالدين؛ أي بالإحسان إلى الوالدين برّا بهما وعطفا عليهما، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ؛} أي لا تدفنوا بناتكم أحياء مخافة الفقر.
والإملاق في اللغة: نفاد الزّاد والنّفقة، يقال: أملق الرجل؛ إذا نفد زاده ونفقته، ومنه الملق؛ وهو بذل المجهود في تحصيل المراد. قوله تعالى:{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ؛} أي علينا رزقكم ورزقهم جميعا.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ؛} أي لا تقربوا الزنا مسرّين ولا معلنين، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ} أي إلاّ بإحدى ثلاث خلال: زنا بعد إحصان؛ وكفر بعد إيمان؛ وقتل نفس بغير حقّ.
وروي أن عثمان رضي الله عنه حين أرادوا قتله أشرف عليهم وقال: (علام تقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان؛ فعليه الرّجم، ورجل قتل عمدا، أو ارتدّ بعد إسلامه].فو الله ما زنيت في جاهليّة ولا إسلام؛ ولا قتلت أحدا فأفتدي نفسي منه؛ ولا ارتددت منذ أسلمت؛
(1)
الأعراف 12/.
إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قوله تعالى: {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ؛} أي هذا الذي ذكر لكم أمركم الله في كتابه لكي تفعلوا ما أمركم به، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (151).
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ؛} أي لا تقربوا مال اليتيم الذي لا أب له إلا لحفظه وتمييزه وإصلاحه، {(حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)}. قال الشعبيّ:(هو بلوغ الحلم؛ حيث تكتب الحسنات وتكتب عليه السّيّئات).
وقال السّدّيّ: (الأشدّ: أن يبلغ ثلاثين سنة)
(2)
.وقال الكلبيّ: (ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة).وجعل أبو حنيفة غاية الأشدّ: (خمسا وعشرين سنة؛ فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوها).
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ؛} أي أتمّوا الكيل والوزن بالعدل عند البيع والشّراء، {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها؛} أي إلاّ طاقتها وجهدها. وهذه الآية أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام، وإنّ كلّ مجتهد مصيب؛ فإذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن، ووقعت فيه زيادة يسيرة أو نقصان يسير لم يؤاخذه الله به إذا اجتهد جهده، وإنه اعتاد الكيل على ذلك فزاد أو نقص أثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين.
قوله تعالى: {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى؛} أي إذا قلتم فاعدلوا في المقالة. قيل: معناه: قولوا الحقّ إذا شهدتم وحكمتم ولو كان المشهود عليه أولي قرابة من الشاهد.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 61 و 65 و 70.وأبو داود في السنن: كتاب الديات: باب الإمام يأمر بالعفو: الحديث (4502).والترمذي في الجامع: أبواب الفتن: الحديث (2158) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11015).
قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا؛} أي أتمّوا فرائض الله التي أمركم بها، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ}
(1)
.ويقال: أراد بالعهد في هذه الآية:
النّذر واليمين، كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ}
(2)
.قوله تعالى:
{ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152)؛أي في هذا الذي ذكره الله لكم وأمركم الله به في الكتاب لكي تتّعظوا فتمتنعوا عن المحرّمات.
قوله عز وجل: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً؛} في الجنّة. وقوله تعالى:
{فَاتَّبِعُوهُ؛} أي اعتقدوا حلال هذا الدين وحرامه ومأمورة ومنهيّه، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ؛} أي ولا تتّبعوا اليهوديّة والنصرانيّة وسائر ملل الكفر؛ فإنّها سبيل الشّيطان وهي طريق النّار.
قوله تعالى: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ؛} أي فيضلّكم ذلك السّبل الذي تتّبعونه بهواكم عن دين الله الذي هو الإسلام، {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ؛} أي هذا الذي أمركم الله به في القرآن، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153)؛أي لتتّقوا السّبل المختلفة وتستقيموا على الإيمان.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (هذه الثّلاث آيات من المحكمات؛ وهنّ إمام في التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان؛ لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب؛ وهي محرّمات على بني آدم كلّهم؛ وهنّ أمّ الكتاب؛ من عمل بهنّ دخل الجنّة؛ ومن تركهنّ دخل النّار)
(3)
.قال كعب الأحبار: (والّذي نفس كعب بيده؛ إنّ هذه لأوّل شيء في التّوراة: بسم الله الرّحمن الرّحيم؛ {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.إلى آخر الآيات الثّلاث)
(4)
.
(1)
يس 60/.
(2)
النحل 91/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11017) مختصرا، وفي الأثر (11024) عن ابن عباس وقال:((أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله)).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11018).
قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ؛} معناه:
بل آتينا موسى الكتاب. وقيل: معنى (ثمّ) معنى العطف كأنه قال تعالى: أتل ما حرّم ربّكم عليكم ثم أتل ما آتاه الله موسى من التّوراة. قوله: {(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)} أي تماما للأحسن على المحسنين النّبيّ موسى عليه السلام أحدهم.
ويقال: معناه: تماما على ما أحسن موسى عليه السلام. وكان موسى عليه السلام محسنا في معرفة العلم وكتب المتقدّمين، فأعطيناه التوراة زيادة على ذلك. و (تماما) نصب على القطع. وقيل: على التّفسير. وقرأ ابن عمر: «(على الّذي أحسن)» بالرفع على معنى:
على الذي هو أحسن.
قوله تعالى: {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (154)؛أي تتميما بالإحسان إليهم؛ وتبيينا لكلّ شيء من الحلال والحرام؛ والهدى من الضّلالة؛ والنجاة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه؛ لعلّهم بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يقرّون ويصدّقون.
قوله تعالى: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ؛} أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه فيه بركة وخير كثير لمن آمن به. ومعنى البركة: ثبوت الخير وديمومته، {فَاتَّبِعُوهُ؛} أي اقتدوا به في أوامره ونواهيه، {وَاتَّقُوا،} مخالفته وسخطه، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (155)؛لتكونوا على رجاء الرّحمة.
قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا؛} أي كراهة أن يقولوا: إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا؛ أراد به التوراة لليهود؛ والإنجيل للنصارى، {وَإِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ} (156)؛أي وقد كنّا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل لغافلين عمّا فيه. وقيل: معناه: وما كنّا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل إلاّ غافلين عمّا فيهما.
قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ؛} أي وكراهة أن يقولوا: لو أنّا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على اليهود والنصارى، لكنّا أسرع إجابة منهم. وذلك: أنّ أهل مكّة كانوا يقولون: قاتل الله اليهود؛ كيف كذبوا على أنبيائهم، والله لو جاءنا نذير وكتاب لكنّا أهدى منهم.
قال الله تعالى: {فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي القرآن بيانا ودلالة من ربكم، {وَهُدىً؛} من الضّلالة؛ {وَرَحْمَةٌ؛} لمن آمن به واتّبعه، رحم الله بإنزاله عباده.
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ؛} أي لا أجد أعتى ولا أجرأ على الله ممّن كذب بآيات الله، {وَصَدَفَ عَنْها؛} أي أعرض عنها، {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ} (157)؛أي سنعاقب الذين يعرضون عن آياتنا بأقبح العذاب وأشدّه بإعراضهم وتكذيبهم.
قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ؛} أي ما ينظر أهل مكة بعد نزول الآيات وقيام الحجج عليهم إلا إتيان ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم؛ أي لم يبق إلاّ هذا. قوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ؛} معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم والانتقام منهم؛ إمّا بعقاب عاجل أو بالقيامة. وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ؛} يعني طلوع الشّمس من مغربها.
قال الحسن: (أو يأتي بعض آيات ربك الحاجّة من التّوبة)،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[بادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشّمس من مغربها؛ ودابّة الأرض؛ وخروج الدّجّال؛ والدّخان؛ وخويصة أحدكم-يعني موته-،وأمر العامّة-يعني القيامة].
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: [باب التّوبة مفتوح من قبل المغرب مسيرة أربعين سنة، وملك قائم على ذلك الباب يدعو النّاس إلى التّوبة، فإذا أراد الله أن تطلع الشّمس من مغربها؛ طلعت من ذلك الباب سوداء لا نور لها؛ فتوسّطت السّماء ثمّ رجعت، فيغلق الباب وتردّ التّوبة، ثمّ ترجع إلى شرقها لتطلع بعد ذلك مائة وعشرين سنة، إلاّ
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 394؛ قال السيوطي: ((أخرجه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة)).وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الفتن: الحديث (8621)؛وقال: ((قد احتج مسلم بعبد الله بن رباح، هذا حديث صحيح ولم يخرجاه)) ولقد وهم فيه الحاكم؛ أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الفتن: باب في بقية من أحاديث الدجال: الحديث (128 و 2941/ 129).
أنّها سوداء تمرّ مرّا].
(1)
وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا غربت الشّمس؛ رفع بها إلى السّماء السّابعة في سرعة طيران الملائكة، وتحبس تحت العرش، فيستأذن من أين تطلع؛ أمن مطلعها أم من مغربها، وكذا القمر، فلا يزالا كذلك حتّى يأتي الله بالوقت الّذي وقّته لتوبة عباده.
وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويكثر المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشّمس تحت العرش، فإذا مضى مقدار ليلة سجدت، واستأذنت ربّها من أين تطلع، فلم يجئ لها جواب حتّى يوافقها القمر، فيسجد معها؛ فلا يعرف مقدار تلك اللّيلة إلاّ المتهجّدون في الأرض؛ وهم يومئذ عصابة قليلة في هوان من النّاس.
فينام أحدهم تلك اللّيلة مثل ما ينام قبلها من اللّيالي، ثمّ يقوم فيتهجّد ورده؛ فلا يصبح؛ فينكر ذلك، فيخرج وينظر إلى السّماء؛ فإذا هي باللّيل مكانها والنّجوم مستديرة، فينكر ذلك ويظنّ فيه الظّنون، فيقول: خفّت قراءتي؛ أو قصرت صلاتي؛ أم قمت قبل حين؟!
ثمّ يقوم فيعود إلى مصلاّه، فيصلّي نحو صلاته في اللّيلة الثّانية، ثمّ ينظر؛ فلا يرى الصّبح، فيخرج فإذا هو باللّيل كما هو، فيخالطه الخوف، ثمّ يعود وجلا خائفا إلى مصلاّه، فيصلّي مثل ورده كلّ ليلة، ثمّ ينظر فلا يرى الصّبح؛ فيشتدّ به الخوف.
فيجتمع المتهجّدون في كلّ ليلة من تلك اللّيالي في مساجدهم، ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء والتّضرّع. فيرسل الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الشّمس والقمر فيقول لهما: إنّ الله يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، فإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور، فيبكيان عند ذلك وجلا من الله بكاء يسمعه أهل السّماوات السّبع وأهل سرادقات العرش، ثمّ يبكي من فيهما من الخلائق من خوف الموت والقيامة.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11085) بلفظ قريب وأسانيد.
فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون والغافلون في غفلاتهم؛ إذا بالشّمس والقمر قد طلعتا من المغرب أسودان لا ضوء للشّمس ولا نور للقمر كصفتهما في كسوفهما، فذلك قوله تعالى:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}
(1)
،فيرتفعان كذلك مثل البعيرين ينازع كلّ واحد منهما استباقا، فيتصارخ أهل الدّنيا حينئذ ويبكون.
فأمّا الصّالحون فينفعهم بكاؤهم، ويكتب لهم عبادة، وأمّا الفاسقون فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم حسرة وندامة. فإذا بلغ الشّمس والقمر سرّة السّماء ومنتصفها، جاء جبريل فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب؛ فيغربان في باب التّوبة].
فقال عمر: بأبي وأمّي أنت يا رسول الله؛ ما باب التّوبة؟ قال: [يا عمر؛ خلق الله بابا للتّوبة خلف المغرب؛ له مصراعان من ذهب؛ ما بين المصراع إلى المصراع أربعون سنة للرّاكب، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك اللّيلة عند طلوع الشّمس والقمر من مغربهما، فإذا غربا في ذلك الباب ردّ المصراعان والتأم ما بينهما، فيصير كأن لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التّوبة لم يقبل للعبد توبة بعد ذلك، ولم ينفعه حسنة يعملها إلاّ من كان قبل ذلك محسنا، فإنّه يجري عليه ما كان يجري قبل ذلك اليوم.
فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً،} قال السّدّيّ: (لا ينفع أحدا فعل الإيمان ولا فعل الخير في تلك الحالة، فإنّما ينفع فعل هذا قبل تلك الحال)
(2)
.
وقيل: معنى (خيرا) إخلاصا؛ أي إذا لم تكن النفس مخلصة قبل مجيء الآيات؛ لا ينفعها الإخلاص بعد مجيء الآيات، {قُلِ انْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ} (158)، فقال أبيّ بن كعب: يا رسول الله؛ وكيف بالشّمس والقمر بعد ذلك؟ وكيف بالنّاس
(1)
القيامة 9/.
(2)
بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11080).عن السدي يقول: (كسبت في تصديقها خيرا عملا صالحا، فهؤلاء أهل القبلة. وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها. وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا، قبل منها).
والدّنيا؟ فقال: [يا أبيّ؛ إنّ الشّمس والقمر يكبتان الضّوء بعد ذلك، ثمّ يطلعان ويغربان كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان. فإنّ النّاس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية، يلحون على الدّنيا
(1)
حتّى تجري إليها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار، ويبنوا فيها البنيان].
فقال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب: كنّا نتذاكر السّاعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: [ما تتذاكرون؟] قلنا: السّاعة يا رسول الله، قال:[إنّها لا تقوم حتّى يخرج الدّجّال؛ ودابّة الأرض؛ ويأجوج ومأجوج؛ ونار تخرج من قعر عدن؛ ونزول عيسى؛ وطلوع الشّمس من مغربها]
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم السّاعة حتى تطلع الشّمس من مغربها؛ فإذا طلعت ورآها النّاس؛ آمنوا جميعا، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا]
(3)
.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ؛} قرأ حمزة والكسائيّ: «(فارقوا)» بالألف؛ أي خرجوا من دينهم وتركوه؛ وهي قراءة عليّ رضي الله عنه
(4)
.وقرأ الباقون «(فرّقوا)» بالتّشديد بغير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود وابن عبّاس وأبيّ بن كعب؛ أي جعلوا دين الله فرقا يتهوّد قوم، ويتنصّر قوم، يدلّ عليه قوله تعالى:{(وَكانُوا شِيَعاً)} أي فرقا مختلفة.
وقال مجاهد: (أراد بهم اليهود)
(5)
فإنّهم كانوا يمالئون المشركين على المسلمين لشدّة عداوتهم. وقال قتادة: (هم اليهود والنّصارى؛ فإنّ بعضهم يكفّر
(1)
في المخطوط: (وأما الناس على الدنيا) وملاحظ فيه الخلل، إذ فيه سقط. فضبط النص كما في تفسير الثعلبي: الكشف والبيان: ج 4 ص 209.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 396 - 398؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن مردويه بسند واه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
وذكره)).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11056) وأصله في الصحيحين.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11082).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11085)،بأسانيد.
بعضا)
(1)
.وعن أبي هريرة أنه قال: (هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة، فإنّ بعضهم يكفّر بعضا بالجهالة)
(2)
.
قوله عز وجل: {وَكانُوا شِيَعاً؛} أي فرقا مختلفة، والشّيع: جمع الشّيعة؛ وهي الفرقة التي يتبع بعضها بعضا؛ يقال: شايعه على الأمر؛ إذا اتّبعه، وقيل: أصل الشّيع الظّهور؛ يقال: شاع الحديث يشيع؛ إذا ظهر.
قوله تعالى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ؛} أي لست من مذاهبهم الباطلة في شيء؛ أي أنت بريء من جميع ذلك، {إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ؛} أي مصيرهم ومنقلبهم إلى الله، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ؛} ثم يجزيهم في الآخرة، {بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} (159)؛أي بما كانوا يعملون في الدّنيا، فيندم المبطل، ويفرح المحقّ.
قوله عز وجل: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها؛} أي من جاء بخصلة من الطاعات فله عشر حسنات، {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها؛} أي من جاء بخصلة من المعصية فلا يجزى إلاّ مثلها، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (160)؛ بالزيادة على مقدار ما يستحقّون من العقاب، وإنّما قال ذلك لأنّ الفضل بالنّعم جائز، والابتداء بالعقاب لا يجوز. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير ويعقوب:«(فله عشر)» بالتنوين «(أمثالها)» بالرّفع على معنى: فله حسنات عشر أمثالها.
وقد تكلّم أهل العلم بالحسنات العشر التي وعد الله في هذه الآية؛ فقال بعضهم: المراد بها التحديد بالعشرة. وقال بعضهم: المراد بها التضعيف دون التّحديد بالعشرة؛ كما يقول القائل: لإن أسديت إليّ معروفا لأكافئنّك بعشرة أمثاله.
ثمّ اختلفوا؛ فقال بعضهم: هو كلّه بفضل وثواب غير ذلك؛ كأنه قال تعالى:
من جاء بالحسنة فله عشر حسنات من النّعم والسّرورة زيادة على ثواب حسنته.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11086).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11091 - 11093).وأخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (668).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 23؛قال الهيثمي: ((رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة)).
قالوا: ولا يجوز أن تساوى منزلة التفضيل بمنزلة الثواب؛ لأن الثواب لا بدّ أن يقارنه التعظيم والإجلال.
وقال بعضهم: هذه الحسنات العشر تفضّل من الله تعالى؛ قالوا: ويجوز أن يتفضّل على من لا يعمل مثل ثواب العامل ابتذالا منه؛ وتفضل في فعله على من لا يستحق عليه شيء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه [إذا حسن إسلام أحدكم؛ فكلّ حسنة يعملها يكتب له عشر أمثالها؛ إلى سبعمائة ضعف؛ إلى ما شاء الله. وكلّ سيّئة يعملها؛ يكتب له مثلها إلى أن يلقى الله تعالى]
(1)
.
وعن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الأعمال ستّة: موجبتان؛ ومثل بمثل؛ وحسنة بحسنة؛ وحسنة بعشر؛ وحسنة بسبعمائة. فأمّا الموجبتان؛ فهو من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة، ومن مات وهو مشرك بالله دخل النّار. وأمّا مثل بمثل؛ فمن عمل سيّئة؛ فجزاء سيّئة بمثلها. وأمّا حسنة بحسنة؛ فمن همّ بحسنة حتّى يشعر بها نفسه ويعلمها الله من قلبه؛ كتب له حسنة. وأمّا حسنة بعشر؛ فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها. وأمّا حسنة بسبعمائة؛ فالنّفقة في سبيل الله]
(2)
.
قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؛} أي قل لهم يا محمّد: إنّني وفّقني ربي وأرشدني إلى دين الحقّ الذي أدعو الخلق إليه. قوله تعالى:
{دِيناً قِيَماً؛} أي دينا هو غاية في الاستقامة.
قرأ أهل الكوفة والشّام: «(قيما)» بكسر القاف وفتح الياء مخفّفا؛ فمعناه: المصدر؛ كالصّغر والكبر، ولم يقل: قوما؛ لأنه من قولك: قام يقوم قياما وقيما. وقرأ الباقون
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 317 من حديث أبي هريرة. ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: الحديث (129/ 205).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (1113) عن قتادة مرسلا. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 4 ص 205:الحديث (4151) -4155).والحاكم في المستدرك: كتاب الجهاد: الحديث (2487).
بالتشديد. وتصديق التشديد: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
(1)
(2)
.والقيّم:
المستقيم. واختلف النّحاة في نصبه؛ فقال الأخفش: (هداني دينا قيّما).وقيل: عرّفني دينا. وقيل: أعني دينا. وقيل: انتصب على الإغراء؛ أي التزموا دينا واتّبعوا دينا.
قوله تعالى: {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً؛} أي دين إبراهيم؛ وهو بدل من قوله (دينا).وقوله {(حَنِيفاً)} أي مائلا عن الشّرك وجميع الأديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه، وهو نصب على الحال؛ كأنه قال: عرّفني دين إبراهيم في حال حنيفيّته. وقوله تعالى:
{وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (161)؛أي ما كان إبراهيم عليه السلام على دين المشركين. وإنّما أضاف هذا الدين إلى إبراهيم؛ لأن إبراهيم كان معظّما في عيون العرب، وفي قلوب سائر أهل الأديان؛ إذ أهل كلّ دين يزعمون أنّهم يبجّلون دين إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (162)؛أي قل لهم يا محمّد: إنّ صلاتي بعد الصّلوات الخمس المفروضة؛ (ونسكي) أي طاعتي، وأصل النّسك: كلّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى، ومنه قولهم للعابد: ناسك. وقال ابن جبير: (معناه: {(وَنُسُكِي)} في الحجّ والعمرة لله رب العالمين).ويقال: أراد بالصلاة صلاة العيد، وبالنّسك الأضحية.
وقوله تعالى: {(وَمَحْيايَ وَمَماتِي)} أي وحياتي وموتي لله رب الخلائق كلّهم.
وإنّما أضاف المحيا والممات إلى الله وإن لم يكن ذلك ممّا يتقرّب به إليه؛ لأن الغرض بالآية التبري إلى الله تعالى من كلّ حول وقوّة والإقرار له بالعبوديّة. وقيل:
المراد بذلك أنّ الله تعالى هو المختصّ بأن يحييه ويميته؛ لا شريك له في ذلك.
قوله تعالى: {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ؛} أي أمرني بذلك، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (163)؛أي أوّل من استقام على الإيمان من أهل هذا الزمان. قرأ أهل المدينة:«(ومحياي)» بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها كيلا يجتمع ساكنان. وقرأ السلميّ: «(ونسكي)» بإسكان السّين.
(1)
التوبة 36/.
(2)
البينة 5/.
وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنّه قرّب كبشا أملح أقرن؛ فقال: [لا إله إلاّ الله؛ والله أكبر؛ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له] الآية، ثمّ ذبح فقال:[شعره وصوفه فداء لشعري من النّار، وجلده فداء لجلدي من النّار، وعروقه فداء لعروقي من النّار] فقالوا: يا رسول الله؛ هنيئا مريئا؛ هذا لك خاصّة؟ فقال: [لا؛ بل لأمّتي عامّة إلى أن تقوم السّاعة، أخبرني بذلك جبريل عليه السلام عن ربي عز وجل].
قوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛} أي قل يا محمّد: أغير الله أطلب إلها لي ولكم {(وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)} أي هو مالكي ومالككم ومالك كلّ شيء؛ فكيف أطلب النفع من مربوب مثلي ومثلكم، وأدع سؤال ربي يملكني ويملككم؛ فهل يجوز هذا؟ وهل يحسن هذا؟ لا بدّ أن يكون جوابه: لا.
قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها؛} أي لا تعمل كلّ نفس طاعة ولا معصية إلاّ عليها. قال أهل الإشارة: ولا تكسب كلّ نفس من خير أو شرّ إلاّ عليها، أما الشّرّ فهو مأخوذ به، وأمّا الخير فهو مطلوب منه صحّة قصده وخلوّه من الرّياء والعجب والافتخار به.
قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى؛} أي ما تحمل حاملة ثقل أخرى، والمعنى: لا يحمل أحدا ذنب غيره، بل كلّ نفس مأخوذة بجرمها وعقوبة إثمها. والوزر في اللغة: هو الثّقل. قوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ؛} أي مصيركم ومنقلبكم، {فَيُنَبِّئُكُمْ؛} أي فيجزيكم؛ {بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (164)؛في دار الدّنيا.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ؛} أي جعلكم يا أمّة محمّد خلفا في الأرض، والخلائف: جمع الخليفة، وكلّ قرن خليفة للقرن الذين كانوا قبلهم في الأرض. وقوله تعالى:{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ؛} أي فضّل بعضكم في المال والمعاش والجاه؛ تقديره: إلى درجات، ثم حذف (إلى) وانتصب (درجات).ويقال: إنّ الدرجات مفعول على تقدير: ورفعكم درجات، كما يقال:
كسوت فلانا ثوبا.
قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ؛} أي ليختبركم فيما أعطاكم؛ يختبر الغنيّ بالفقير؛ والفقير بالغنيّ، فيظهر للناس شكر الشاكرين وصبر الصابرين.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (165)؛أي إذا عاقب فإنه سريع العقاب مع أنه موصوف بالحلم والإمهال؛ لأنّ كلّ ما هو آت قريب.
وقيل: أراد بقوله: {(سَرِيعُ الْعِقابِ)} سريع الحساب. وقوله تعالى: {(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ)} أي غفور لمن تاب من الذنوب، (رحيم) بمن مات على التوبة. وقال عطاء:(سريع العقاب لأعدائه، غفور رحيم لأوليائه)
(1)
.والله أعلم.
آخر تفسير سورة (الأنعام) والحمد لله رب العالمين
تمّ الجزء الأوّل من تفسير كتاب الله العزيز
(2)
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 455.
(2)
هكذا رسمها الناسخ في المخطوط: الورقة ص 188.