المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة يونس سورة يونس مكّيّة (1) ،وهي مائة وتسع آيات، وسبعة آلاف وخمسمائة - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٣

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة يونس سورة يونس مكّيّة (1) ،وهي مائة وتسع آيات، وسبعة آلاف وخمسمائة

‌سورة يونس

سورة يونس مكّيّة

(1)

،وهي مائة وتسع آيات، وسبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستّون حرفا، وألف وثمانمائة واثنان وثلاثون كلمة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:

[من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون].

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{الر،} قال ابن عباس: (معناه: أنا الله أرى) وعنه: (أنّه من حروف الرّحمن).وقيل: أنا الربّ لا ربّ غيره. وقوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} (1)؛أي هذه آيات الكتاب، وإنّما أضاف السورة إلى القرآن؛ لأنّها بعض الكتاب، كما تضاف السورة لأنّها بعضه.

وأما وصف القرآن بأنه حكيم؛ فلأنّ القرآن كالناطق بالحكمة بما فيه بين التمييز بين الحقّ والباطل. ويقال: معنى الحكيم المحكم بالحلال والحرام والأمر والنهي، يقال: أحكمت الشيء فهو محكم وحكيم، كما يقال: أكرمت الرجل فهو مكرم وكريم.

قوله تعالى: {أَكانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ} معناه: أعجبت قريش أن أوحينا إلى رجل مثلهم من أهل نسبهم أن خوّف الناس بالعذاب، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛} وذلك أنّ الكفار

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 304؛ قال القرطبي: ((مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلاّ ثلاث آيات من قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ

إلى آخرهنّ)).وقال مقاتل: ((غير آيتين، وهما قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ

إلى قوله: فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)).ينظر: تفسيره: ج 1 ص 80.

ص: 371

كانوا يقولون: لم يجد الله رسولا يبعثه إلينا إلاّ يتيم أبي طالب. ويقال: كانوا يعجبون من البعث بعد الموت.

قوله تعالى: {(قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)} أي أعمالهم الصالحة التي قدّموها لأنفسهم سلف خير عند ربهم يستوجبون بها المنزلة الرفيعة في آخرتهم عند ربهم، وعن ابن عبّاس أنه قال:(قدم صدق: شفاعة بينهم لهم هو إمامهم إلى الجنّة وهم بالأثر).

قوله تعالى: {قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ} (2)؛أي قال كفّار مكة: إنّ هذا القرآن لسحر مبين، وقرأ أهل الكوفة وابن كثير «(لساحر)» بالألف يعنون محمّدا صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ؛} ولو شاء لخلقها في أقلّ من لحظة، ولكنّه خلقها للترتيب؛ ليكون حدوث شيء بعد شيء على الترتيب أبلغ للملائكة في التفكّر بها من حدوثها كلّها في حالة واحدة، وقد تقدّم تفسير الاستواء، ودخلت (ثمّ) على الاستواء وهي في المعنى داخلة على الترتيب، كأنّه قال: ثمّ يدبر الأمر وهو مستو على العرش، فإنّ تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش، ولهذا ترفع الأيدي في قضاء الحوائج نحو العرش.

والاستواء: الاستيلاء، ولم يزل الله سبحانه مستوليا على الأشياء كلّها، إلا أن تخصيص العرش لتعظيم شأنه.

قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؛} أي يقضي القضاء إلى الملائكة من رسله ولا يشركه في تدبير أحد من خلقه. وعن عمرو بن مرّة «عن عبد الرحمن بن سابط»

(1)

قال: [يدبر أمر الدّنيا بأمر الله أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل. أمّا جبريل فعلى الرّياح والجنود، وأمّا ميكائيل فعلى القطر والنّبات، وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأرواح، وأمّا إسرافيل فهو ينزل عليهم بما يؤمرون به]

(2)

.

(1)

سقط من المخطوط، وصححناه من شعب الإيمان للبيهقي.

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في الإيمان بالملائكة: الحديث (158).

ص: 372

قوله تعالى: {ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} جواب قول الكفّار أنّ الأصنام شفعاؤنا عند الله، فبيّن الله تعالى ما من ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فكيف تشفع الأصنام التي ليس لها عقل وتمييز.

قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ؛} أي الذي يفعل ما هو المذكور في هذه الآية من خلق السّماوات والأرض وتدبير الخلق هو الله خالقكم ورازقكم، {فَاعْبُدُوهُ؛} ولا تعبدوا الأصنام فإنّها لا تستحقّ العبادة، وقوله تعالى:{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (3)؛أي هل تتّعظون بالقرآن.

قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا؛} أي إلى الله سبحانه رجوعكم جميعا، وانتصب قوله:{(جَمِيعاً)} على الحال، وقوله:{(وَعْدَ اللهِ)} نصب على المصدر؛ أي وعد الله وعدا، والمعنى وعد الله البعث بعد الموت وعدا حقّا كائنا لا شكّ فيه.

قوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؛} أي يخلقكم في بطون أمّهاتكم نطفا، ثم علقا ثم مضغة ثم عظاما، ثم يخرجكم نسما للتّمام، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يبعثكم بعد الموت، وفي هذا بيان أن خلق الشيء على الترتيب حال بعد حال أدلّ على الترتيب من خلقه جملة واحدة في ساعة واحدة.

قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ؛} فيه بيان أن البعث للجزاء؛ لنجزيهم بالعدل لئلاّ ننقص من ثواب محسن، ولا نزيد على عقاب مسيء، بل يجازي كلاّ على قدر عمله كما قال (جزاء وفاقا)

(1)

.قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ؛} أي من ماء حارّ قد انتهى حرّه، {وَعَذابٌ أَلِيمٌ؛} وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} (4)؛بالكتب والرسل.

(1)

النبأ 26/.

ص: 373

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ؛} أي هو الذي جعل الشمس ضياء للعالمين بالنهار، والقمر نورا بالليل.

روي في الخبر: أنّ وجوههما إلى العرش وظهورهما إلى الأرض، يضيء وجوههما لأهل السموات السّبع، وظهورهما لأهل الأرضين السبع، كما قال (وجعل القمر فيهنّ نورا وجعل الشّمس سراجا)

(1)

.

قوله تعالى: {(وَقَدَّرَهُ)} أي قدّر القمر منازل وهي ثمان وعشرون منزلة في كلّ شهر. وقيل معناه: (وقدّره منازل) لا يجاوزوها ولا يقصروها، وقيل: جعل (قدّر) لهما يعدى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون المعنى وقدّرهما، إلا أنه حذف التثنية للاختصار والإيجاز، كما قال تعالى:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}

(2)

.

قوله تعالى: {ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ؛} أي ما خلق الله الشمس والقمر، إلا لتعلموا الحساب وتعتبروا بهما، وتستدلّوا بطلوعها وغروبها على صانعهما.

وقوله: {(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ)} أي لتعلموا بالشمس حساب السنين وحساب الشّهور والليالي والأيام على ما تقدّم أن القمر يقطع في الشهر ما تقطعه الشمس في السّنة، ويعني بقوله:{(وَالْحِسابَ)} حساب الأشهر والأيام والساعات، وقوله تعالى:{(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ)} ردّه إلى الفعل والخلق والتدبير، ولو أراد الأعيان المذكورة لقال: تلك إلا بالحقّ، ثم يخلقه باطلا، بل إظهار الصّنعة، ودلالته على قدرته وحكمته.

(1)

نوح 16/.

(2)

التوبة 62/. في معاني القرآن: ج 1 ص 458؛ قال الفراء: (ولم يقل: وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة؛ لأن به تعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لهما جميعا، فاكتفى بذكر أحدهما من صاحبه).

ص: 374

قوله تعالى: {يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (5)؛أي نبيّن علامات وحدانيّة الله تعالى بأنه بعد آية {(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)} تفصيل الآيات. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص «(يفصّل)» بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله (ما خلق) فيكون متّبعا له، وقرأ الباقون بالنّون على التعظيم.

قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (6)؛معناه: إنّ في اختلاف ألوان الليل والنهار وتقلّبها بذهاب الليل وجيئة النهار، وذهاب النهار وجيئة الليل، وفيما خلق الله في السّماوات من الشمس والقمر والنجوم والسّحاب والرياح، والأرض من الجبال والشجر والبحار والأنهار والدواب والنبات، لعلامات لقوم يتّقون الله ويخشون عقوبته.

فلم يؤمنوا بهذه الآيات ولم يصدّقوا، فأنزل الله عز وجل:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ} (7)؛معناه: إن الذين لا يخشون عقاب الله، وتنعّموا بالحياة الدّنيا، فلا يعملون إلا بها ولا يرجون إلى ما ورائها (واطمأنّوا بها) أي سكنوا إليها وآثروها على عمل الآخرة، والذين هم عن دلائل توحيدنا غافلون تاركون لها مكذّبون بها.

قوله تعالى: {أُولئِكَ مَأْواهُمُ النّارُ؛} أي أهل هذه الصّفة مصيرهم إلى النار، {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (8)؛يعملون في دار الدّنيا. وقد يذكر الرجاء بمعنى الخوف كما قال الله {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً}

(1)

أي لا تخافون لله عظمة، ويجوز أن يكون المعنى: لا يرجون لقاءنا؛ أي لا يرجون جزاءنا، فجعل لقاء جزائه بمنزلة لقائه.

(1)

نوح 13/.

ص: 375

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ؛} أي إن الذين صدّقوا بمحمّد والقرآن وعملوا الصالحات يرشدهم ربّهم على الصّراط إلى الجنّة بنور إيمانهم. وقيل: يرشدهم إلى منازلهم في الجنة. وقيل: يثبتهم على الإيمان.

وقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} (9)؛ أي تجري الأنهار بين أيديهم وهم في الغرف يتطلّعون عليها كما قال عز وجل حاكيا عن فرعون {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}

(1)

.ويجوز أن يكون معناه: تجري من تحت شجرهم وبساتينهم في جنات تنعمون فيها.

قوله تعالى: {دَعْواهُمْ فِيها؛} أي قولهم ودعاؤهم في الجنّة: {سُبْحانَكَ اللهُمَّ،} فإذا سمع الخدّام ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون، قال ابن جريج:(يمرّ الطّير على الرّجل من أهل الجنّة فيشتهيه، فيسبح الله تعالى، فيقع بين يديه فيأكل منه ما شاء، فإذا فرغ قال: الحمد لله)

(2)

.ويقال معنى قوله: {(دَعْواهُمْ فِيها)} أي مفتتح كلامهم التسبيح، ومختتم كلامهم التحميد، لا أن يكون الحمد آخر كلامهم حتى لا يتكلمون بعده بشيء.

قال طلحة بن عبد الله: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول: سبحان الله، فقال:[هو تنزيه لله من كلّ سوء]

(3)

.وسئل عليّ رضي الله عنه عن ذلك فقال: (كلمة رضيها الله لنفسه)

(4)

.وقال الحسن: (بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأ هذه الآية: [إنّ أهل الجنّة يلهمون الحمد والتّسبيح، كما تلهمون أنفسكم].

قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (10)؛أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، وتحييهم الملائكة بالسلام،

(1)

الزخرف 51/.

(2)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13618).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الرقم (13624) بسند ضعيف.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13623).

ص: 376

وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام، كما في قوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}

(1)

قرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن «(إنّ الحمد لله)» بكسر (إنّ) وتشديد النون ونصب (الحمد).

قوله تعالى: {*وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ؛} قيل: إنّ هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث حين قال {اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ .. } . الآية

(2)

ثم صارت عامّة في كلّ من يستعجل العقاب الذي يستحقّه بالمعاصي.

معناه: ولو يعجل الله للناس الشرّ كما يعجّل الخير إذا دعوا بالرّحمة والرزق والعافية لماتوا وهلكوا. وقيل: المراد بهذه الآية دعاء الإنسان على نفسه وولده وقومه، مثل قول الرجل إذا غضب على ولده: اللهمّ لا تبارك فيه والعنه، وقوله لنفسه: لا رفعني الله من بينكم، والمعنى على هذا: ولو يعجّل الله للناس إجابة دعائهم في الشرّ كاستعجالهم الإجابة في الخير {(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)} أي لفرغ من عذابهم وماتوا جميعا. وقال شهر بن حوشب: (قرأت في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول للملكين الموكّلين: لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا).

وقرأ ابن عامر ويعقوب «(لقضى)» بفتح القاف والضاد «(أجلهم)» بفتح اللام، وقرأ الأعمش «(لقضينا)» وقرأ العامة «(لقضي)» بضمّ القاف وكسر الضاد، ورفع قوله «(أجلهم)» .

قوله تعالى: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (11) أي نترك الذين لا يخافون البعث في ضلالتهم وكفرهم يتحيّرون ويتردّدون.

قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً؛} نزلت هذه الآية في هشام بن المغيرة المخزوميّ، ومعناه: إذا أصاب الإنسان الشدّة والمرض دعانا لكشفه وهو مضطجع لما به من المرض أو قاعدا إذا هانت العلّة، أو

(1)

الأحزاب 44/.

(2)

الأنفال 32/.

ص: 377

قائما إذا بقي أثر العلّة، أو كان في شدة معيشة أو غيرها، {فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ؛} رفعنا ما كان به من الشدّة استمرّ على الإعراض عن شكرنا ما أنعمنا عليه في كشف الضرّ عنه، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ؛} قطّ؛ أي كأنّه لم يمسّه ضرّ، وكأن لم نكشف الضرّ عنه. قوله تعالى:{كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (12)؛في الشّرك من الدعاء في الشدّة، وترك الدعاء في الرّخاء، فاغترّوا بما زيّن لهم.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا؛} أي ولقد أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم حين كفروا، {وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} بالدلالات الواضحات، {وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا؛} فيه بيان أنّ الله تعالى إنما أهلكهم؛ لأنه كان المعلوم من حالهم أنه لو أبقاهم أبدا لأدبروا ولم يؤمنوا، ولو كان في بقائهم صلاح لهم ولغيرهم لأبقاهم. وقوله تعالى:{كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (13) أي هكذا نجزي القوم المشركين، نهلكهم كما أهلكنا الأوّلين.

قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (14)؛أي ثم أسكنّاكم الأرض من بعد الأوّلين لنجازيكم على ما تعملون من الخير والشرّ، ونشاهد هل تعتبرون بما صنع بالأوّلين أم لا؟ وهذا على التهديد؛ أي إن عاملتكم مثل معاملتهم أهلكتكم كما أهلكتهم.

وإنما قال (لننظر)؛لأنه سبحانه يعامل العبد معاملة المختبر الذي لا يعلم الشيء حتى يكون مظاهرة في العدل، وأنه إنما يجازي العباد على أعمالهم لا على علمه فيهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إنّ الدّنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون]

(1)

،قال قتادة: (وذكر لنا أنّ عمر رضي الله عنه قال: صدق ربّنا ما جعلنا

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير: ج 24 ص 181: الحديث (577 - 589) عن خولة بنت قيس، وفيه:[إنّ الدّنيا خضرة حلوة، فمن أخذها بحقّها بارك الله له فيها، وربّ متخوّض في مال الله ورسوله فيما اشتهت نفسه له النّار يوم القيامة]،وإسناده حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في موارد الضمآن: الحديث (802)،وفي الصحيح: كتاب الجنائز: الحديث (2892).

ص: 378

خلقا إلاّ لينظر إلى أعمالنا، فأدّوا أعمالكم خيرا باللّيل والنّهار والسّرّ والعلانية)

(1)

.

قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ؛} معناه: وإذا قرئ على أهل مكة آياتنا المنزّلة في القرآن، قال الذين لا يخشون عقابنا ولا يطمعون في ثوابنا ولا يقرّون بالبعث: أئت يا محمّد بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا ولا ذكر في البعث والنّشور.

قوله تعالى: {(أَوْ بَدِّلْهُ)} أي قالوا أو بدّل هذه بغيره، قل يا محمّد (ما يكون لي أن أبدّله) أي ما يجوز وما ينبغي لي أن أغيّره من قبل نفسي، ما أقول أو ما أعمل إلا ما يوحى إليّ من القرآن، {إِنِّي أَخافُ؛} أعلم، {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي؛} فبدّلت القرآن أنه يكون عليّ، {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15).

قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ؛} أي قل يا محمّد: لو شاء الله ما قرأت القرآن عليكم بأن كان لا ينزّله عليّ، {وَلا أَدْراكُمْ بِهِ؛} أي ولا أعلمكم الله به؛ أي لو شاء الله أن لا يشعركم، وفي قراءة الحسن «(ولا أدراكم به)» أي ولا أعلمكم به. وقوله تعالى:{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ؛} أي ومكثت فيكم دهرا قبل إنزال القرآن، ولم أقل من هذا شيئا، فليس عليكم ذهن الإنسانيّة أنه ليس من تلقاء نفسي.

قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ؛} (16)؛استفهام بمعنى الإنكار له: أنّ الله خالق السموات والأرض وهو عالم بما فيها، يعلم أن ليس فيهما إله ينفع ويضرّ غيره، فتخبرونه أنتم بشيء لا يعلمه، فيعلم بأخباركم، وهذا نفي للعلم، والمراد به نفي ما قالوه: من أن شفاعة الأصنام «تنفعهم» .

قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي لا أجد ممن اختلق على الله كذبا بأن جعل شريكا له أو ولدا إذا ادّعى النبوة بغير حقّ، أو قال:

أمرنا بعبادة الأصنام فنتقرب بعبادتها إليه. قوله تعالى: {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؛}

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13630)،وله قصة في الأثر (13638).

ص: 379

أي بأنبيائه ورسله وكتبه، وقوله تعالى:{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (17)؛ أي لا يوصلهم إلى مرادهم.

قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ؛} أي وإنّ أهل مكّة يعبدون من دون الله الأصنام التي لا يضرّهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها، {وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ؛} فإنه الذي أذن لنا في عبادتها وأنه يستشفعها فينا، وأرادوا بذلك شفاعة الأصنام في مصالح دنياهم؛ لأنّهم كانوا لا يقرّون بالبعث.

قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؛} هذا لا يكون أبدا. {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} (18)؛أي تنزيها لله عن كلّ صفة لا تليق بذاته، وارتفع وتبرّأ عمّا يشركون به من الأصنام والأوثان.

قوله تعالى: {وَما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا؛} اختلف الناس في المراد بهذه الآية، قال بعضهم: أراد بذلك أنّ الناس كانوا أمّة واحدة في وقت آدم عليه السلام، ثم اختلفوا بأن كفّر بعضهم بعضا، وأوّل من اختلف قابيل وهابيل.

ويقال: أراد به الناس كلّهم ولدوا على الفطرة، ثم اختلفوا بأن غيّر بعضهم الفطرة ولم يغيّر بعضهم، بل ثبت عليها.

وقال بعضهم: أراد بذلك أنّهم كانوا أمة واحدة على عهد إبراهيم ونوح عليهما السلام كلّهم كانوا كافرين، فتفرّقوا بين مؤمن وكافر. ويقال: أراد بالناس ههنا العرب، كانوا على الشّرك قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا بعده، فآمن بعضهم وكفر بعضهم. فالقول الأوّل أقرب إلى ظاهر الآية.

قوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (19)؛لو كان لكم من الله سبق ببقاء التكليف على الناس أي وقت معلوم سواء أطاعوه أو عصوه لما علم من المصلحة لهم ولغيرهم في ذلك، لعجّل لهم العذاب عند العصيان، فاضطرّهم إلى معرفة الحقّ فيما اختلفوا فيه. وقرأ عيسى بن عمر «(لقضى بينهم)» بالفتح.

ص: 380

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ؛} أي يقول كفار مكة: هلاّ أنزل على محمّد آية من ربه، يعنون الآية التي كانوا يقترحونها على سوى الآيات التي أنزل الله تعالى {(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ)} أي قل لهم يا محمّد نزول الآيات لله تعالى لو علم الإصلاح في زيادة الآيات لأنزل. قوله تعالى:

{فَانْتَظِرُوا؛} أي فانتظروا عقاب الله بالقتل في الدّنيا والنار في الآخرة، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (20)؛بهلاككم بما أوعد الله تعالى.

قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا؛} معناه: إذا أعطينا الناس ما يسرّون به من العافية والنّعمة والرحمة والمطر من بعد فقر وبلاء ومرض وقحط وشدّة أصابتهم، إذا لهم مكر في آياتنا بالاحتيال في دفعها والتكذيب بها، كانوا لا يقولون: هو رزق الله ورحمته، و (إذا) تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل، والمعنى إذا مسّتهم راحة ورخاء بعد شدّة وبلاء. وقيل: مطر بعد قحط إذا لهم كفر وتكذيب. قال مقاتل: (لا يقولون هذا رزق الله، وإنّما يقولون: سقينا بنوء كذا) وهو قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}

(1)

.

قوله تعالى: {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً؛} أي أسرع جزاء على المكر وأقدر على ذلك، يسمّى الجزاء باسم المجزيّ عليه. وقيل: معناه: قل الله أعجل عقوبة وأشدّ أخذا وأقدر على الجزاء. قوله تعالى: {إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ} (21)؛أي الكرام الكاتبين، يكتبون ما تمكرون أنتم. قرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «(ما يمكرون)» بالياء.

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛} أي هو الذي يسهّل عليكم السّير ويحفظكم إذا سافرتم في البرّ على الدواب، وفي البحر على السّفن، فالسير في البحر مضاف إلى الله على الحقيقة؛ لأنّ سير السفينة لا يكون إلا بجري الماء، وبالريح للسّفينة.

(1)

الواقعة 82/.

ص: 381

وأما السير في البرّ فإضافته إلى الله تعالى على معنى تسخير المركوب، وتسييره بإمساكه بقدرة الله تعالى أيضا. قرأ ابن عامر وأبو جعفر «(ينشركم)» ،والسّير من النّشر؛ أي نبثّكم في البرّ والبحر.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ؛} أي حتى إذا كنتم في السّفن، وقد يكون الفلك واحدا، وقد يكون جمعا، فمن جعله واحدا فجمعه أفلاك، ومن جعله جمعا فواحد فلك، كما يقال أسد وأسد.

وقوله تعالى: {(وَجَرَيْنَ بِهِمْ)} أي السّفن جرين بأهلها بريح ليّنة ساكنة، وفرحوا بسكون ريحها وأعجبوا، قال الزجّاج:(ابتداء الكلام خطاب، وبعد ذلك إخبار عن معانيه؛ لأنّ مخاطبة الله لعباده لا تكون إلاّ على لسان الرّسول، وذلك بمنزلة الإخبار عن الغائب)

(1)

.

قوله تعالى: {وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ؛} أي ركوبهم الموج من كلّ جانب. وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ؛} أي أيقنوا أنه قد دنا هلاكهم، تقول العرب لكلّ من وقع في الهلاك، أو بليّة عظيمة: أحيط بفلان؛ أي أحاط به الهلاك.

قوله تعالى: {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛} أي دعوا الله ليكشف ذلك عنهم، مخلصين له الاعتقاد، لا يدعون عند الشدّة غيره، قال الحسن: (ليس هو إخلاص الإيمان، ولكنّه لعلمهم بأنّه لا ينجيهم من تلك الشّدّة إلاّ الله عز وجل.

قوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ؛} أي من هذه الرّيح الشديدة والغرق، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ} (22)؛لك على نعمائك.

قوله تعالى: {فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛} فلما أنجاهم من البحر إذا هم يتطاولون على أنبياء الله وأوليائه، ويعملون بالمعاصي

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 3 ص 11.وفي المطبوع اختصر العبارة أو سقطت منه. وعبارة الإمام الطبراني أتم وأوضح في المعنى.

ص: 382

والفساد، والدعاء إلى غير عبادة الله. والبغي في اللغة: التّرامي إلى الفساد، يقال: بغى الجرح بغيا إذا ترامى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فسدت.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي إنّما ظلمكم وتطاولكم يعود ضرره عليكم، ويرجع وباله إليكم، وقوله تعالى:

{(مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا)} أي هو تمتّع قليل في الدّنيا، ومتاع يذهب ويفنى، ويجوز أن يكون قوله:{(مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا)} خبر لقوله {(إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)} أي لا يتهيّأ لكم إلاّ أن يبغي على بعض في مدّة يسيرة من الدّنيا مع سرعة انقضائها، {ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ؛} بعد الموت، {فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (23)؛وقرأ حفص «(متاع)» بالنصب على المصدر.

قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ؛} معناه: إنما صفة حياة الناس الدّنيا وهي الحياة الأولى، صفة ما أنزل الله فينبت به أنواع النبات، واختلط بعضه إلى بعض؛ لأن المطر يختلط بالنبات ويدخل في خلاله. قوله تعالى:{مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ؛} أي مما يصير إلى الناس من الحبوب والثمار، وبعضه علفا للدّواب من العشب والكلإ.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ؛} أي زيّنها من النبات، والزّخرف: حسن الشّيء، وقوله (وازّيّنت) أي تزيّنت بنباتها وأثمارها من الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان التي لا غاية لها في الحسن بعدها.

قوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها؛} حسب أهلها إدراك الانتفاع بها. قوله تعالى: {أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً؛} أي أتاها عقابنا في ليل أو نهار، إما ببرد أو بصواعق محرقة أو غيرها، ويسمّى العقاب أمرا؛ لأنّ أفعال الله سبحانه تضاف إليها بلفظ الأمر؛ لأنّ ذلك أدلّ على سرعة السّكون من غير استبطاء ولا تعب.

قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ؛} أي كأن لم يكن بذلك المكان شيء من الخضر والحسن والنبات، والمغنى: هو الموضع الذي يقام فيه ويعمر، والمغاني:

المنازل التي يعمّرها الناس بالنّزول بها، كما يقال غنينا بمكان كذا إذا نزاد به، ووجه

ص: 383

تشبيه الحياة الدنيا بالمطر الذي ينزل فينبت به النبات، ثم يقضى فينقطع أنه كما لا يبقى من ذلك شيء من ذلك النبات، كذلك المتمسّك بالدنيا أقوى ما ينتهي إليه أمر دنياه يأتيه الموت.

وقرأ ابن مسعود «وتزيّنت» ،وقرأ أبو عثمان الشهدي والضحّاك «(وازّانت)» على وزن (احمارّت)،وقرأ أبو رجاء والشعبيّ والحسن «(وازّيّنت)» على مثال (افّعّلت) مقطوعة الألف ساكنة الزاي، قال قطرب معناه:(أتت بالزّينة) كما يقال: أذكَرت المرأة وأنّثت إذا أتت بالذّكور والإناث.

قوله تعالى: {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ؛} أي كما فصّلناكم، فكذلك نبيّن الآيات في القرآن، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24)؛في أمر الدّنيا والآخرة، وإنما خصّ بذلك من يتفكّر؛ لأن الغافل عن ذلك والمتغافل لا يكاد ينتفع بهذه الأمور، بل هو كالأنعام وأضلّ.

قوله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ؛} قال ابن عبّاس: (والله يدعو إلى عمل الجنّة)،وقال:(الله السّلام، وداره الجنّة){وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (25)؛أي يكرم من يشاء بالكرامة وبالهداية إلى دين القيم، قائم برضاء الله وهو الإسلام، ويقال: معنى دار السّلام الدار التي يسلم أهلها عن الآفات والأمراض والهرم والموت، والسّلام بمعنى كالرّضاع والرّضاعة.

قوله تعالى: {*لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ؛} أي للّذين أحسنوا العمل في الدّنيا لهم الحسنى وهي الجنة ولذاتها. قوله تعالى: {(وَزِيادَةٌ)} روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال حين تلا هذه الآية: (أتدرون ما الزّيادة؟ قالوا: ما هي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحسنى الجنّة والزّيادة النّظر إلى وجه الله تعالى)

(1)

.

وعلى هذا القول حذيفة وأبو موسى وصهيب

(2)

وعبادة بن الصّامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعيد والحسن وعكرمة وأبو الجوزاء والضحّاك والسديّ وعطاء

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10341).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13650)،وقال:(وقتادة).

ص: 384

ومقاتل، وهو قول أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:[إذا دخل أهل الجنّة نودوا: أن أهل الجنّة إنّ لكم عند الله موعدا لم تروه، فيقولون: وما هو؟! ألم يبيّض وجوهنا ويزحزحنا عن النّار ويدخلنا الجنّة؟ قال: فيكشف الحجاب وينظرون إليه عز وجل، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحبّ إليهم منه]

(1)

.

وقال ابن عبّاس: (للّذين أحسنوا الحسنى؛ أي للّذين شهدوا أن لا إله إلاّ الله الجنّة)،وروى عطيّة:(أنّ الحسنى هي الواحدة من الحسنات بواحدة، والزّيادة التّضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)

(2)

.

وقيل: الحسنى النّصرة، والزّيادة النّظر، قال الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ}

(3)

،وعن عليّ رضي الله عنه قال:(الزّيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب)

(4)

،ويقال: الزيادة رضا الرب، كما روي أنّ أهل الجنّة يؤتون بالتّحف والكرامات ويقول لهم رسول رب العزّة (إنّ الله تعالى يقول لكم: قد رضيت عنكم فهل رضيتم عنّي؟).

قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (26)؛أي لا يعلو وجوههم ولا يلحقها سواد وهو كسوف الوجه (وذلّة) أي ولا هوان ولا حزن، ولا يكون نعيم الجنة كنعيم الدّنيا، ولا يشوبه التنغيص ولا التنكيد. والرّهق في اللغة هو الرّهوق ومنه قولهم للصبيّ إذا قارب البلوغ: مراهق؛ أي قارب أن يبلغ الاحتلام. والقتر: غبرة فيها سواد. وقرأ الحسن «(قتر)» بإسكان التاء، وهما لغتان. وباقي الآية ظاهر المعنى.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (7314).ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب إثبات رؤية المؤمنين: الحديث (180/ 296).وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10340).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان بمعناه عن ابن عباس في الرقم (13672)،وعن الحسن في الرقم (13674).

(3)

القيامة 22/ و 23.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13671).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10342).

ص: 385

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها؛} معناه: والذين أبوا طاعة الله في ما أمرهم به ونهاهم عنه، يجازيهم الله بما يستحقّونه على العقوبة، ولا يجازيهم بأكثر من الاستحقاق، بخلاف الطاعة فإنه تعالى قد يتفضّل على المطيع بزيادة الأجر، فإنه كان يجوز أن يتّصل ابتداء بتلك الزيادة، والجزاء مرفوع بإضمار، كقوله {فَفِدْيَةٌ}

(1)

أي فعليه ذلك، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء خبر (بمثلها) أي مثل، الباء فيه زائدة.

قوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ؛} أي يعلوهم كآبة وكسوف وهوان؛ لأن العقاب لا يكون عقابا بمجرّد الألم، وإنما يكون عقابا بما يقارنه بإرادة الإذلال والإهانة. قوله تعالى:{ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ؛} أي ما لهم من حافظ يدفع عنهم عقاب الله. وقوله تعالى {(مِنْ عاصِمٍ)} من ههنا صلة.

وقوله: {كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً؛} أي كأنّما ألبست وجوهم قطعا من اللّيل، أكثر القراءة على فتح الطّاء وهو جمع قطعة، ويكون (مظلما) على هذه القراءة نصبا على الحال، والقطع دون النعت كأنّه أراد قطعا من الليل المظلم، فلما حذف الألف واللام نصب على القطع. ويجوز أن يكون حالا؛ أي قطعا من الليل في حال الظّلمة.

وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب «(قطعا)» ساكنة الطّاء؛ أي بعضا كقوله تعالى:

{بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}

(2)

ويكون (مظلما) نعتا للقطع، وقوله تعالى:{أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (27)؛ظاهر المعنى.

قال ابن عبّاس رضي الله عنه: (نزلت هذه الآية في أهل الشّرك).وقوله: {(جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)} أي قصاص الشّرك بالله النار، ليس في النار زيادة على جزاء المثل، إذ لا ذنب أعظم من الشّرك، ولا عقاب أشدّ من النار، كما قال تعالى:{جَزاءً وِفاقاً}

(3)

.وقال

(1)

البقرة 196/.

(2)

الحجر 65/.

(3)

النبأ 26/.

ص: 386

صلّى الله عليه وسلّم: [أوقد على النّار ألف سنة حتّى احمرّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى ابيضّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى اسودّت، فهي سوداء كاللّيل المظلم إلى يوم القيامة، وإنّ لونها أشدّ سوادا من القبر في عينين خضراوين، وأهلها سود، فكذلك طعامها وشرابها، والّذي نفس محمّد بيده، لو اطّلع رجل من أهلها على الأرض لأسودّت بها الأرض من شدّة سواده]

(1)

.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً؛} أي يوم نجمعهم جميعا من قبورهم إلى المحشر للفصل بينهم. ونحشر في اللغة: جمع الحيوان من كلّ مكان. قوله تعالى:

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا؛} أي نقول للذين أشركوا في عبادتهم مع الله غيره، وأشركوا في أموالهم كما أخبر الله عنهم بقوله:{هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا}

(2)

.

وقوله تعالى: {مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ؛} أي يقال لهم: قفوا أنتم وآلهتكم، وهذه كلمة تهديد، كما يقال للغير: مكانك؛ أي الزم مكانك حتى تنتظر ماذا حلّ بك بسوء صنيعك، وحتى نفصل بينك وبين خصمك.

قوله تعالى: {فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ؛} أي ففرّقنا بين الكفار وبين آلهتهم في القول بالاختلاف الذي يكون بينهم، وليس هذا من الإزالة ولكنه من قولك: أزلت الشيء عن مكانه أزله أزيلا، والترسل الكثيرة من هذا الباب، والمزايلة المفارقة.

قوله تعالى: {وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ} (28)؛معناه: إن الله يسأل الأصنام التي عبدوها: هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيقولون للذين كانوا يعبدونها ردّا عليهم: {(ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ)} بأمرنا ولم نعلم بعبادتكم، ولم يكن فينا روح فنفعل بعبادتكم، فيقول الكفار: بلى قد عبدناكم، وأمرتمونا فأطعناكم،

فتقول الأصنام، كما قال تعالى:{فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ؛} أي كفى بالله فاصلا للحكم بيننا وبينكم، {إِنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ} (29)؛لا نعلم شيئا

(1)

أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب صفة جهنم: الحديث (2591) وضعفه، وقال:((حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكر عن شريك)).

(2)

الأنعام 136/.

ص: 387

من ذلك. والفائدة في اختصار الأصنام أن يظهر الله للمشركين ضعف معبودهم، وليزيدهم ذلك حسرة على عبادتهم.

قوله تعالى: {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ؛} من قرأ «(يبلو)» بالياء فالمعنى فنخبر كلّ نفس ما قدّمت من خير أو شر، ومن قرأ «(تبلو)» بالتاء فالمعنى تقرأ كل «نفس» كتاب عملها. ويجوز أن يكون معناه: تتّبع كلّ نفس جزاء عملها، و {(هُنالِكَ)} من الظّروف، أصله هناك، واللام زائدة والكاف للمخاطبة، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف.

وقوله تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ؛} أي ردّوا إلى جزاء الله وإلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه أحد إلا الله، والحقّ هو الذي يكون معنى اللفظ حاصلا فيه على الحقيقة، والله تعالى حقّ لأنّ الإلهيّة حاصلة له على الحقيقة؛ لاقتداره على جميع الأشياء. قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} (30)؛وبطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب بالأصنام أنّها آلهة وأنّها تشفع عند الله.

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ؛} أي قل لكفّار مكّة: من يرزقكم من السّماء المطر؛ و؛ من {وَالْأَرْضِ؛} النبات والثمار، {أَمَّنْ يَمْلِكُ} يقدر على أن يخلق لكم، {السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ؛} أي من يخرج الحيّ من النّطفة، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؛} أي من يخرج النطفة من الحيّ، والفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ، والسّنبلة من الحبّة، والحبة من السّنبلة، {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؛} أمر العباد على وجه الحكمة، {فَسَيَقُولُونَ اللهُ،} فيعرفون بالله تعالى هو الذي يفعل هذه الأشياء، وأنّ الأصنام لا تقدر على شيء من هذا، {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (31)؛فقل لهم يا محمّد: أفلا تخافون من عقاب الله، ولم تعبدون الأصنام.

قوله تعالى: {فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ؛} أي الذي يرزقكم من السّماء والأرض، ويخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويدبر الأمر، وهو ربّكم الحقّ دون الأصنام الباطلة. قوله تعالى:{فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ؛} أي فما

ص: 388

يردّكم عن عبادة الله وهو الحقّ إلى عبادة الأصنام الباطلة إلا الضّلال، ومن أين {فَأَنّى تُصْرَفُونَ} (32)؛عن الإيمان بالله وإخلاص الطاعة له بعد المعرفة.

قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (33) أي كما وجبت كلمة العذاب فيهم، وجب على كلّ من تمرّد بالكفر، وقوله:{(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)} يجري مجرى التّعليل، كأنّه قال بإصرارهم على الكفر؛ لأنه كلما كان تمرّدهم أكثر، كانوا في الكفر أشدّ ضلالة، وإلا فقد آمن كثير من الكفار، وقال ابن عبّاس:

(وجبت كلمة العذاب عليهم وهم في صلب آدم عليه السلام.

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؛} أي قل لهم يا محمّد: هل من شركائكم الذين أشركتم مع الله في العبادة من ينشئ الخلق من النّطفة بعد أن لم يكن، ويجعل فيه الروح؟ قوله تعالى:{(ثُمَّ يُعِيدُهُ)} فيه اختصار؛ لأنّ الإعادة ردّ الشيء إلى الحالة الأولى، ولا يكون ذلك إلا بعد فناء، فيكون تقدير الآية: من يبدأ الخلق من النطفة، ثم يفنيه، ثم يعيده في الآخرة. {قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} (34)؛أي من أين تصرفون عن الإيمان بالله وإخلاص الطاعة له.

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؛} أي قل هل من آلهتكم من يهتدي إلى الرّشد، وما فيه صلاح لهم، {قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ؛} أي الرّشاد وما فيه صلاح الإنسان، يقال: هديت إلى الحقّ، وهديت للحقّ بمعنى واحد.

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى} معناه: أفمن يدعو إلى عمل الحقّ أحقّ أن يطاع ويعمل بأمره، أمّن لا يهتدي طريقا إلا أن يحمل فيذهب به حيث يراد، يعني الأصنام، كأنه قال: إن «الأصنام» التي يعبدونها من دون الله لا تهتدي بأنفسها إلا أن يهدى بها عند غيرها

(1)

.

واختلف القرّاء في قوله: {(أَمَّنْ لا يَهِدِّي)،} وأجودها قراءتان: «(يهدّي)» فتح الهاء، و «(يهدّي)» بكسر الهاء، والأصل في ذلك يهتدي أدغمت التاء في الدّال، وطرح فتحها على الهاء، وكسرت الهاء لالتقاء السّاكنين.

(1)

في المخطوط: (إلا أن بهديها عند غيرها).

ص: 389

قوله تعالى: {فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (35)؛معناه: أيّ شيء لكم في عبادة الأوثان؟ فكيف تقضون لأنفسكم، فتعبدون من لا يستحقّ العبادة؟

قوله تعالى: {وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا؛} أي ما يعبد أكثرهم الأصنام إلاّ تقليدا لآبائهم وقبائلهم بظنّ يظنّونه في غير يقين، يعني أنّ رؤساءهم قالت لهم: إن الأصنام تشفع لهم عند الله، وأما السّفلة فلا يعلمون إلا ما قالت رؤساؤهم.

وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً؛} أي إنّ الظنّ في موضع يمكن الوقوف فيه على العلم لا يغني عن الحقّ شيئا؛ لأنه لا يكون ذلك بمنزلة من عرف شيئا باليقين ثم ترك ما عرف بالظنّ، فإن علمه بالظنّ لا يغني عن عمل الحقّ شيئا، وعبادة الصّنم بالظنّ لا تغني من عذاب الله شيئا. قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} (36)؛وعيد لهم على كفرهم.

قوله تعالى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ؛} هذا جواب عن دعواهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم الافتراء على الله وقولهم: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، معناه: إن القرآن كلام الله في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام، فليس هذا مما يقدر أحد أن يفتريه على الله، {وَلكِنْ تَصْدِيقَ؛} الكتب المنزّلة، {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ،} من التوراة والإنجيل والزّبور؛ لمجيئه شاهدا لها بالصّدق، وبكونه مصادقا بما تضمّنته تلك الكتب من البشارة.

ويجوز أن يكون معنى التصديق لما {(بَيْنَ يَدَيْهِ)} أي التصديق بما بين يدي القرآن من البعث والنّشور والحساب. قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ؛} معناه: وتبيين المعاني المختلفة من الحلال والحرام والأمر والنهي، {لا رَيْبَ فِيهِ؛} أي لا شكّ فيه أنه حقّ، {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} (37).

قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ؛} معناه: بل يقولون: إنّ محمّدا اختلق هذا القرآن من تلقاء نفسه! قل يا محمّد: إن كان هو اختلقه فأتوا بسورة من مثل ((سور)) القرآن، فإنّما قال ذلك؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وتعلّم اللغة منهم، فإذا لم يأتوا مع حرصهم على تكذيبه وإبطال أمره، دلّ أنّ مثله غير

ص: 390

مقدور للبشر. ومعنى الآية: فلو قدر هو على افتراء القرآن لقدرتم أنتم على الإتيان بسورة مثله.

قوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي استعينوا على الإتيان بسورة مثل القرآن بكلّ من قدرتم عليه، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (38)؛أن محمّدا اختلقه من تلقاء نفسه، فإنّ العادة لم تجر بأن يستبدّ إنسان بالافتراء على كلام لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.

فلمّا قرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية فلم يجيبوا، فأنزل الله:

قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ؛} أي بل كذبوا بما لم يدركوا من كيفيّة ترتيبه ونظمه، وما فيه من الجنّة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب، {وَلَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؛} أي ولم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب مما يؤول إليه أمرهم من العقوبة والعذاب على التكذيب.

قوله تعالى: {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} أنبياءهم من البعث، {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ} (39)؛يعني أنّ عاقبتهم العذاب والهلاك بتكذيبهم، كذلك يكون عاقبة هؤلاء.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ؛} قال ابن عبّاس: (يعني ومن اليهود من يؤمن بالقرآن في المستقبل، ومنهم من يصرّ على كفره فلا يؤمن به)، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} (40)؛باليهود من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال مقاتل:(نزلت في أهل مكّة).وقيل: في الآية إشارة إلى أنه لولا أنّ الله تعالى علم أنّ منهم من سيؤمن في المستقبل لأهلكهم جميعا في الحال.

قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ؛} أي إن كذبك قومك في ما أتيتهم به فقل: لي جزاء عملي، ولكم جزاء أعمالكم، {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ؛} من جزاء عملي، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} (41)؛من جزاء أعمالكم، وكان هذا القول مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على جهة حسن العشرة معهم لا لأنه كان

ص: 391

شاكّا في جزاء عمله وجزاء عملهم، وقال الكلبي ومقاتل:(هذه الآية منسوخة بآية الجهاد)

(1)

.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ} (42)؛قال ابن عبّاس: (نزلت في يهود المدينة، كانوا يبلغون مكّة فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألونه ويستمعون قراءته فيعجبهم ذلك ويشتهونه؛ ثمّ تغلب عليهم الشّقاوة فلا يؤمنون به).والمعنى: ومنهم من يستمع إليك وهو في المعنى كأنّه متفكّر في ما تقول وهو غير متفكّر فيه.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ} (43)؛نظر من هو في الظاهر مستمع إلى كلامك، وطالب الانتفاع به، وليس في الحقيقة كذلك، قوله:{(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)} أي كما لا يقدر أن يسمع كلامك الصمّ، فكذلك لا يقدر على أن ينتفع من كلامك غير طالب الانتفاع به، وكما أنّك لا تقدر على أن تبصر العمي، فكذلك لا تقدر على أن تنفع بما يأتي من الأدلّة من ينظر ولا يطلب الانتفاع بها. وفي الآية ما يدلّ على تفضيل السّمع على البصر؛ لأنه تعالى ذكر مع الصم فقدان العقل، ولم يذكر مع العمى إلا فقدان البصر.

قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً؛} أي لا ينقص من حسناتهم، ولا يزيد في سيّئاتهم ما يمنعهم الانتفاع بكلامه وأدلّته، {وَلكِنَّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (44)؛بأن لا يطلبوا الانتفاع به ويعرضوا عن التفكّر فيه، أخبر الله في هذه الآية أن تقدير الشّقاوة عليهم لم يكن ظلما منه؛ لأنه يتصرّف في ملكه كيف يشاء، وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء من الله عز وجل.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ؛} أي ويوم يجمعهم في الموقف كأن لم يلبثوا في الدّنيا إلا قدر ساعة من

(1)

عن الكلبي ومقاتل وابن زيد؛ نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 346.وفي جامع البيان: تفسير الآية؛ قال الطبري: ((وقيل: إن هذه الآية، نسخها الجهاد والأمر بالقتال)).

ص: 392

النّهار، وفي هذا بيان أن المكث في الدّنيا وإن طال، كان في جنب الآخرة بمنزلة ساعة من النّهار. قوله تعالى:{(يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ)} أي يعرف بعضهم بعضا، ويكون في معرفة بعضهم لبعض حسرة على من ضلّ بقيام الحجّة عليهم.

وقال ابن عبّاس: (وذلك حين يخرجون من قبورهم ثمّ تنقطع المعرفة)، وقيل: معناه: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من نهارهم، وقال الضحّاك:(قصر عندهم مقدار الوقت الّذي بين موتهم وبعثهم، فصار كالسّاعة من النّهار لهول ما استقبلوا من آخر البعث والقيامة، يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضا، يقول كلّ كافر لآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وأنت أورثتني دخول النّار بما علّمتني وزيّنته لي).

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ؛} أي غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت بذهاب الدّنيا والآخرة عنهم، {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} (45).

قوله تعالى: {وَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ؛} في الآية وعد من الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن ينتقم له منهم، منه في حياته أو بعد مماته، قال المفسّرون: كانت وقعة بدر مما أراه الله في حال حياته مما أوعد المشركين من العذاب {(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)} قبل أن نريك، {(فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ)} بعد الموت فيجزيهم بأعمالهم.

قال الزجّاج: (أعلم الله أنّه إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل)

(1)

.وقوله تعالى: {(فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ)} أي لا يفوتوننا ولا يعجزوننا. وعن ابن عبّاس قال: (نزل جبريل عليه السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: إنّ ربي أمرني أن لا أفارقك اليوم حتّى ترضى، فهل رضيت؟ قال: [نعم؛ أراني بعض ما أوعدهم فله الحمد على ذلك]).وقوله تعالى: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ} (46)؛ من محاربتك وتكذيبك.

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ؛} أي لكلّ أمّة من الأمم رسول يدعوهم إلى ما أمرهم الله به ونهاهم عنه، ويبشّرهم بالجنة ويخوّفهم بالنار، {فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ} يوم القيامة شاهد عليهم بأعمالهم {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا}

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 3 ص 20،والمعنى أتم وأوضح.

ص: 393

{يُظْلَمُونَ} (47)؛بالعدل فيوفّى كلّ إنسان جزاء عمله لا ينقص من ثواب محسن، ولا يزاد على عقاب مسيء.

كما روي في الخبر: [أنّ الله تعالى يقول للأمم المكذّبة يوم القيامة: ألم يأتكم رسلي بكتابي فيه حلالي وحرامي؟ فيقولون: ما أتانا رسول ولا كتاب! ثمّ يؤتى بالرّسول الّذي أرسل إليهم فيقول: بل يا رب قد أبلغتهم كتابك ورسالتك. فيقول:

من يشهد لك؟ فيقول الملائكة: نحن نشهد قد أبلغهم رسالتك وكتابك، فيقولون: يا ربّنا هؤلاء خلقك يشهدون لك بما شئت! فيختم الله على ألسنتهم ويأذن لجوارحهم في الكلام، فيشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون]

(1)

.

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (48)؛أي يقول الكفّار: وقّت لنا وقتا بمجيء هذا الوعد الذي وعدتنا به من العذاب إن كنت من الصّادقين أنّ العذاب ينزل بنا.

قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاّ ما شاءَ اللهُ؛} أي قل يا محمّد: لا أقدر لنفسي على دفع ضرّ وجرّ نفع إلا ما شاء الله أن يقدر لي عليه، فكيف أقدر لكم. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ؛} أي وقت مضروب، {إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (49)؛بعد الأجل ولا يتقدّمون.

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} (50)؛أي قل لهم يا محمّد: إن أتاكم عذاب الله ليلا أو نهارا ما الذي يستعجل من العذاب المشركون، أي كيف يصنعون وكيف يقبل منكم إيمانكم وهو إيمان الإنجاء إذا نزل بهم العذاب.

قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؛} الألف في أوّل هذه الآية ألف استفهام، ذكرت على جهة الإنكار، والمعنى إذا نزل عليكم العذاب آمنتم به؟ قالوا:

نعم، قل لهم يا محمّد:{آلْآنَ؛} تؤمنون {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (51)؛

(1)

سيأتي إن شاء الله في تفسير الآية (20 - 22) من سورة فصلت.

ص: 394

وهو العذاب الدائم الذي لا ينقطع،

{ثُمَّ قِيلَ،} أي يقولون، {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} (52)؛أي تعملون في الدّنيا.

قوله تعالى: {*وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؛} ويستخبرونك يا محمّد: أحقّ ما تعدنا من العذاب والبعث بعد الموت؟ {قُلْ؛} نعم وأحلف عليه {إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ؛} إنه صدق وكائن، {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (53)؛الله عن إحلال العذاب بكم، ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى {(أَحَقٌّ)} هو دين الإسلام؟ قال الزجّاج:(معنى قوله: (إي وربي):نعم إنّه لحقّ؛ أي إنّ العذاب نازل بكم).

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ؛} أي لو أنّ كلّ إنسان ظالم كان له ما في الأرض جميعا لافتدى به من عذاب الله، ثم لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه. قوله تعالى:{(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ)} أي أسرّ القادة

(1)

الندامة عن الأتباع حين رأوا العذاب، والمعنى: أخفى الرؤساء في الكفر الندامة عن الذين أضلّوهم وستروها عنهم، هذا قول عامّة المفسّرين.

وقال أبو عبيد: (الإسرار من الأضداد، يقال: أسررت الشّيء إذا أخفيته، وأسررته إذا أعلنته) قال: (من الإعلان قوله تعالى: {(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ)} أي أظهروها).قيل: معناه: وأخلصوا الندامة، والإسرار الإخلاص. قوله تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ؛} أي قضي بين الخلائق كلّهم بالعدل، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (54)؛بأن لا

(2)

يزاد على عذاب المسيء على قدره المستحقّ.

قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} لا يقدر أحد على منعه من إحلال العقاب بمملوكه، {أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ؛} بإحلال العقاب بالمجرمين، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (56).

(1)

في المخطوط: (العادة) وهو تصحيف.

(2)

(لا) سقطت من المخطوط.

ص: 395

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ؛} يعني قريشا، والموعظة القرآن، والمواعظة التي تدعو إلى الصلاح، {(وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ)} أي دواء لذوي الجهل، والقرآن مزيل للجهل وكاشف لعماء القلوب، {وَهُدىً؛} وبيان من الضّلالة، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (57)؛ أي ونعمة من الله لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ومعنى الموعظة الإيابة بما يدعو إلى الصّلاح بطريق الرّغبة والرهبة. ومعنى الشّفاء ما يجده من يستدلّ إعجاز القرآن من الرّوح بزوال الشّرك والتشبيه، وهو شرح الصّدر الذي ذكره الله بقوله:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}

(1)

.ومعنى (الهدى) بيان الشّرائع من الحلال والحرام والفرض والنّدب والإيابة.

وأما الرّحمة فهي الإنعام على المحتاج بدليل أن ملكا لو أهدى إلى ملك لم يكن له منه رحمة عليه، وأما تخصيص المؤمنين بالرحمة؛ فلأنّهم هم الذين ينتفعون بنعم الدّين.

قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا؛} قال ابن عبّاس ومجاهد والحسن وقتادة: (فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن)

(2)

وهذا قول عامّة المفسّرين. وعن أبي سعيد الخدري قال في معنى هذه الآية: (فضل الله القرآن، ورحمته جعلكم من أهله)

(3)

والمعنى: قل يا محمد لأصحابك: بالقرآن الذي أكرمك الله به والإسلام الذي وفّقكم له فافرحوا، {هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} (58) يجمع اليهود والمشركون من الأموال.

وقرأ بعضهم «(فلتفرحوا)» و «(تجمعون)» كلاهما بالتاء المخاطبة. وعن محمّد بن كعب القرظي قال: (إذا عملت عملا رجاء ثواب الله فافرح، فإنّه خير لك ممّا يجمع أهل الدّنيا).

(1)

الزمر 22/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13699) عن قتادة، والأثر (13700) عن مجاهد، والأثر (13703) عن ابن عباس.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13696).

ص: 396

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ؛} أي قل يا محمّد لأهل مكّة: أرأيتم ما أنزل الله لكم في الكتاب من رزق جعله لكم حلالا طيّبا من الأنعام والحرث، {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً؛} أي جعلتم البحائر والسّوائب حلالا للرّجال منفعة، وحراما على النساء، وجعلتم لآلهتكم من الحرث نصيبا فحرّمتموه على النساء، وأحللتموه للرجال، والله سبحانه لم يحرّم شيئا من ذلك، {قُلْ؛} لهم يا محمد:{آللهُ أَذِنَ لَكُمْ؛} أمركم بتحريمه، {أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} (59)؛تختلقون الكذب، يعني: بيّنوا الحجة في ذلك، وإلاّ فأنتم تفترون على ربكم.

ثم أوعدهم على الكذب فقال: {وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي ما ظنّ الذين يكذبون على الله في التحليل والتحريم ماذا يفعل بهم يوم القيامة، أتظنّون أن الله لا يعاقبهم على افترائهم عليه؟ قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ؛} أي لذو منّ عليهم بتأخير العذاب عنهم، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} (60)؛نعم الله.

قوله تعالى: {وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ؛} أي وما تكون في أمر من الأمور، وقال الحسن:(من شأن الدّنيا وحوائجك فيها، وما تتلوا منه، أي من الله نازل منه من قرآن يوحى إليك من سورة أو آية تقرأ على أمّتك).

والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته داخلون فيه؛ لأنّ خطاب الرئيس خطاب له ولأتباعه، يدلّ على ذلك قوله:{(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً)} أي ما تعملون أنتم جميعا يا بني آدم عامّة ويا أمّة محمّد من خير أو شرّ، إلاّ كنّا على أمركم وتلاوتكم وعملكم شهودا إذ تدخلون فيه. قال الفرّاء:(معناه يقول: الله تعالى شاهد على كلّ شيء)

(1)

والمعنى ألا يعلمه فيجازيكم به. والإفاضة الدخول في العمل، وقال ابن الأنباريّ:(إذ تندفعون فيه) وقال ابن عبّاس: (إذ تأخذون فيه).

(1)

قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 470.

ص: 397

قوله تعالى: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ؛} أي ما يغيب وما يبعد، {مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ،} من وزن نملة حميراء صغيرة من أعمال العباد، {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ} ولا أخفّ من الوزن من الذرّة، {وَلا أَكْبَرَ،} ولا أثقل منه، {إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (61)،إلاّ وهو مع علم الله تعالى ومكتوب في اللوح المحفوظ. والعزوب البعد والذهاب، ويعزب بضمّ الزاي وكسرها لغتان.

قوله تعالى: {(مِثْقالِ ذَرَّةٍ)} أي وزن ذرّة، ومثقال الشيء ما وازنه.

قال الفرّاء: (من نصب قوله تعالى: {(أَصْغَرَ)} و (أكبر) فإنّما أراد الخفض يتبعهما المثقال والذرّة، إلاّ أنّهما لا ينصرفان؛ لأنّهما على وزن أفعل اتّباع معنى المثقال؛ لأنّك لو لقيت من المثقال من كان رفعا وهو كقوله: ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذلك: ما لكم من إله غيره وغيره)

(1)

.

وقيل: رفع على الابتداء، وخبره {(إِلاّ فِي كِتابٍ)} فمن قرأ «(ولا أصغر ولا أكبر)» بالنصب فالمعنى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرّة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ومن رفع فالمعنى: وما يعزب عن ربك مثقال ذرّة، ولا أصغر ولا أكبر.

قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62) معناه: ألا إنّ أولياء الله تولاّهم الله بحفظه وحياطته، لا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما اختلفوا في الدّنيا،

وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} (63)؛تفسير أولياء الله؛ أي الذين يؤمنون بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ويتّقون الشّرك والفواحش، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه سئل عن أولياء الله فقال: [هم المتحابّون في الله]

(2)

،وعنه صلى الله عليه وسلم قال:[هم الّذين إذا رأوا ذكر الله]

(3)

يعني إذا رآهم العامّة ذكر من أجل سيماهم في وجوههم.

(1)

في معاني القرآن: ج 1 ص 470: تفسير الآية.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13728) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13724) بأسانيد عديدة مرسلة، وأصله في الرقم (13721) عن ابن عباس قال:((الذين يذكر الله لرؤيتهم)).

ص: 398

وسئل عيسى عليه السلام عنهم فقال: (هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا حين نظر النّاس إلى ظاهرها، ونظروا إلى آجلها حين نظر النّاس إلى عاجلها، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبّون الله ويحبّون ذكره).

قوله: {لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ؛} معناه: لهم البشرى في الحياة بالقرآن، وفي الآخرة بالجنّة. ويقال: أراد بالبشرى في الدّنيا بشارة الملائكة {أَلاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا .. } . الآية

(1)

.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لم يبق من النّبوّة بعدي إلاّ المبشّرات] قيل:

وما المبشّرات؟ قال عليه السلام: [الرّؤيا الصّالحة يراها العبد الصّالح لنفسه]

(2)

وقرأ له:

[وهي جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة، فمن أري ذلك فليخبر بها]

(3)

.

قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ؛} أي لا خلف في وعد الله، وقوله تعالى:{ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (64)؛أي ذلكم الذي وعدكم الله هو الثواب الوافر والنجاة الوافرة.

قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ؛} أي لا يحزنك يا محمّد تكذيبهم إيّاك وتهديدهم لك بالقتل، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم على كفرهم وتكذيبهم ونسبتهم له إلى الافتراء على ربه، وقوله تعالى:{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً؛} استئناف كلام، ولذلك كسرت (إنّ)،والمعنى: فإنّ القوة لله جميعا يمنعهم عنك بعزّته، ولا يتعذر أحد الا بإذنه وهو ناصرك وناصر دينك، و {هُوَ السَّمِيعُ؛} لمقالة الكفّار {الْعَلِيمُ} (65)؛بضمائرهم. ولا يجوز أن يقرأ «(أنّ العزّة)» بالنصب لاستحالة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحزنه قول الكفار بأنّ العزة لله جميعا.

(1)

فصلت 30/.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (3051) عن حذيفة بأسانيد. وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 173؛قال الهيثمي: ((رواه الطبراني والبزار ورجال الطبراني ثقات)).

(3)

أصله في صحيح البخاري: كتاب الرؤيا: باب رؤيا الصالحين: الحديث (6983)،وباب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (6994) عن أنس بن مالك. وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 172؛قال الهيثمي: ((رواه أبو يعلى والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 399

قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛} أي له من فيهما من الخلق على من لا يعقل. قوله تعالى: {وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ؛} أي ما يتّبعون شركاء على الحقيقة والمعرفة، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ؛} أي ما يدّعونهم إلا بالظنّ بتقليد آبائهم وقول بعضهم:{ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}

(1)

ويظنّون أنّها تشفع لهم يوم القيامة. قوله تعالى:

{وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} (66)؛أي ما هم إلا يكذبون في قولهم إنّها تشفع لهم عند الله.

قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؛} أي هو الذي جعل لكم الليل لتناموا فيه وتستريحوا عمّا لحقكم من النّصب بالنهار، وخلق النهار مضيئا للذهاب والمجيء وطلب المعيشة، وسمّاه مبصرا؛ لأنه يبصر فيه كما قال رؤبة:(قد نام ليلي، وتجلّى همّي).قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ؛} أي في ذلك

(2)

للدلالات، {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (67)؛دلائل الله، ويتفكّرون فيها.

قوله تعالى: {قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ؛} أي قال الكفار:

اتّخذ الله ولدا، فإن المشركين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، سبحانه وتعالى؛ أي تنزيها له عن الولد، والشّريك، {هُوَ الْغَنِيُّ،} هو غنيّ عن اتخاذ الولد.

قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} معناه: إنّ من كان له ملك السّماوات والأرض وما بينهما، فما حاجته الى اتّخاذ الولد؟! وإنما يتخذ الولد ذو الضّعف ليتقوّى به، ويستعين به على بعض أموره، وذو الوحشة ليستأنس به، ومن يخاف الموت على نفسه، فيتّخذ الولد ليخلفه في أملاكه بعد موته، والله تعالى

(1)

الزمر 3/.

(2)

في المخطوط: (ذكرك).

ص: 400

لا يجوز عليه السّرور ولا المنافع والمصارف

(1)

،ولا يلحقه الموت، فهو غنيّ عن اتخاذ الولد.

ثم طالب الكفار بالحجّة والبرهان، فقال عز وجل:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا؛} أي ما عندكم من حجّة وبرهان على هذا القول، ثم أنكر عليهم ذلك تبكيتا لهم فقال تعالى:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (68)؛وهذا على حجّة الإنكار والردّ عليهم؛ أي لم تقولون على الله ما لا علم لكم به ولا حجّة لكم عليه.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} (69) أي قل يا محمّد إن الذين يختلقون كذبا؛ يكذبون به على الله تعالى لا يفلحون في الدّنيا بالحجّة ولا بالآخرة في الثواب، ولا يسعدون في العاقبة وإن اغترّوا بطول السّلامة

(2)

.

قوله تعالى: {مَتاعٌ فِي الدُّنْيا؛} رفع على معنى ذلك متاع في الدّنيا يتمتّعون به قليلا ثم ينقضي. وقيل: لهم متاع في الدّنيا يتمتّعون به أيّاما يسيرة، {ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ؛} الغليظ الذي لا ينقطع، {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ،} (70) أي بكفرهم بالله ورسوله.

قوله تعالى: {*وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ؛} أي اقرأ عليهم خبر نوح، {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ؛} ثقل عليكم وعظم، {مَقامِي،} ومكثي فيكم، {وَتَذْكِيرِي؛} وعظتي لكم {بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ؛} به وثقت واليه فوّضت أمري، وذلك حين قالوا له:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .

قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ؛} أي اعزموا على أمركم مع شركائكم. وقيل: معناه: فاعزموا على أمركم، وادعوا لآلهتكم واستعينوا بهم، وأجمعوا على أمر واحد. ومن قرأ «(فاجمعوا)» بنصب الميم فهو من الجمع.

(1)

هكذا رسمها الناسخ في المخطوط بوضوح، ولعلها (والمضارّ).والله أعلم.

(2)

في المخطوط رسمها الناسخ من غير نقط: (واعروا بطور السلامة).

ص: 401

قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً؛} أي يكن أمركم عليكم ظاهرا منكشفا لا يستره شيء. والغمّة مأخوذة من الغمامة، ويقال: الغمّة الغمّ؛ أي لا يكون أمركم غمّا عليكم وفرّجوا عن أنفسكم، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} (71)؛ أي امضوا بما تقصدون من القتل ولا تمهلون.

قال الزجّاج: (الواو في قوله {(وَشُرَكاءَكُمْ)} بمعنى مع)

(1)

والمعنى فاجمعوا أمركم مع شركائكم ثم لا يكون أمركم عليكم مبهما، يعني ليكن أمركم ظاهرا منكشفا لا تسترون معاداتي، ثمّ امضوا إليّ بمكروهكم وما توعدونني به. معنى قضاء الشيء امضاؤه والفراغ منه، وهذا أحد معجزات نوح عليه السلام؛ لأنه كان وحيدا، وقد قرعهم بالعجز عن الوصول اليه وإلى قتله، فلم يقدروا عليه بسوء.

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ؛} معناه: فإن أعرضتم عن الإيمان بما جئتكم به لم يضرّني إعراضكم، فإنّي لا أطلب منكم أجرا ولا أدعوكم إلى الإيمان لمطمع مني في مالكم، وما دعاني فيما أدعوكم عليه إلا الإيمان بالله، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ؛} أي وقد أمرني، {أَنْ أَكُونَ مِنَ؛} أي مع؛ {الْمُسْلِمِينَ} (72)؛على دينهم.

قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ؛} أي فنجّيناه ومن معه من المؤمنين من الغرق في السفينة، {وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ؛} أي جعل الله الذين نجوا مع نوح عليه السلام من الغرق خلفا ومكانا في الأرض من قوم أهلكوا بالتكذيب، كما قال تعالى {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ}

(2)

وذلك أنّ الناس كانوا من ذرّيته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعا بتكذيبهم لنوح.

قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} أي بدلالتها حسّا، {فَانْظُرْ؛} يا محمّد، {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (73)؛أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا، وهذا تهديد لقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تكذيبه

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 3 ص 23.

(2)

الصافات 77/.

ص: 402

حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه السلام على أذى الكفّار مع قلّة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ؛} أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثل هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم إلى قومهم، {فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} بالحجج والبراهين، {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا؛} ليصدّقوا، {بِما كَذَّبُوا بِهِ؛} في الابتداء، والمعنى: فما كان الذين بعث إليهم الرسل ليؤمنوا بما كذبوا، {مِنْ قَبْلُ؛} يعني قوم نوح عليه السلام؛ أي لم يصدّقوا به، كما كذب قوم نوح، وكانوا مثلهم في الكفر والعنف. قوله:{كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} (74)؛قال ابن عبّاس: (يريد الله تعالى طبع على قلوبهم فأعماها فلا يبصرون سبيل الهدى).

وما بعدها من الآيات:

ظاهر التفسير {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} {(76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ} (77).

قوله تعالى: {قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا؛} أي قالوا لموسى عليه السلام: أجئتنا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا، واللّفت هو الصّرف. قوله تعالى:{وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ؛} أي ويكون لك ولهارون السلطان والملك والشرف في أرض مصر، {وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ} (78)؛أي بمصدّقين.

وإنما سمّى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدّنيا، والكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، فلهذا لا يجوز أن يوصف به أحد غير الله.

قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ} (79)؛أي بكلّ حاذق بالسّحر،

ص: 403

أمر تعجيز كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}

(1)

ولا يجوز أن يكون هذا أمرا بالسّحر، إذ عمل السحر كفر، والأنبياء عليهم السلام لا يأمرون به.

قوله تعالى: {فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ؛} معناه: فلما ألقت السّحرة ما جاءوا به، قال لهم موسى: الذي جئتم به السحر والخداع؛ أي الذي جئتم به سحر. ووقف بعض القرّاء على (ما جئتم) ثم قال: (السّحر) على معنى:

أيّ شيء جئتم به أهو السحر؟ على جهة التوبيخ لهم. قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ؛} أي يبطل عمل السّحرة حتى يظهر الحقّ من الباطل، {إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (81)؛أي لا يرضى عمل السّاحرين.

قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (82)؛ أي ينصر دينه الحقّ بالوعد الذي وعده لموسى كما قال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}

(2)

الى آخر الآية. ويجوز أن يكون معنى الكلمات: ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: {فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ؛} أي ما صدّق بموسى وبما جاء به إلا ذريّته من قوم فرعون، وهم قوم كان آباؤهم من القبط وأمّهاتهم من بني إسرائيل، فآمنوا بموسى واتّبعوا أمّهاتهم وأخوالهم، ولم يسلم آباؤهم الذي كان موسى عليه السلام مبعوثا اليهم.

وقال الحسن: (أراد بقوله تعالى (إلاّ ذرّيّة من قوم موسى) كان فرعون أجبرهم على تعلّم السّحر وجعلهم من أصحاب نفسه، فلمّا أسلمت السّحرة وآمنوا بموسى اتّبعهم هؤلاء الذّرّيّة في الإيمان).وكان يقول:(لم يؤمن من القبط أحد إلاّ المؤمن الّذي يكتم إيمانه من فرعون وقومه).

قوله: {(عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ)} معناه على القول الأول: آمنت به ذريّته على خوف من فرعون وآبائهم وقومهم. وعلى القول الثاني: على خوف من

(1)

البقرة 23/.

(2)

القصص 35/.

ص: 404

فرعون وأشرافهم ورؤسائهم أن يعلم الأشراف أمرهم فيخبروا فرعون فيقتلهم ويعذبهم أو يصرفهم عن دينهم. وقال الزجّاج: (إنّما قال (فرعون وملئهم) لأنّ فرعون ذا أصحاب يأتمرون به).

قوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ؛} أي لمستكبر في أرض مصر، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (83)؛في الكفر والمعاصي، والإسراف: هو التجاوز عن الحدّ في كلّ شيء. وعن محمّد بن المنكدر قال: (عاش فرعون ثلاثمائة واثنين وعشرين سنة لم ير مكروها، ودعا موسى عليه السلام ثلاثين سنة).

قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا؛} أي قال موسى لبني إسرائيل: يا قومي إن كنتم صدّقتم بالله كما تقولون فأسندوا أموركم إليه، {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (84)،إن كنتم مخلصين مستسلمين لأوامره، وذلك حين قالوا لموسى:{أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا}

(1)

.وقيل: إنّ موسى خاطب بالخطاب المذكور في هذه الآية الذريّة التي آمنت على خوف من فرعون وملئهم.

قوله تعالى: {فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا؛} أي قال موسى أسندنا أمورنا إلى الله ووثقنا به، {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (85)؛أي لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنّهم على الحقّ، فيكون ذلك فتنة لهم ولغيرهم. ويقال: يعني لا يمكنهم أن ينزلوا بنا أمرا لا نطيق الصبر عليه فننصرف به عن الدّين.

قوله تعالى: {وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (86)؛أي خلّصنا بطاعتك من استعبادهم إيّانا، فاستجاب الله دعاءهم كما ذكر من بعد.

قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً؛} وذلك أنّ فرعون لمّا أتاه موسى بالرسالة أمر بمساجد بني إسرائيل فكسّرت كلّها وخرّبت، ومنعوهم من الصّلاة علانية، فأنزل الله هذه الآية، وأمروا أن يتّخذوا

(1)

الأعراف 129/.

ص: 405

مساجد في بيوتهم ويصلّون فيها خوفا من فرعون. والمعنى: وأوحينا إليهما أن اتّخذا لقومكما بمصر بيوتا، يقال: بوّأه إذا عدّ لغيره بيتا، وتبوّأ إذا اتخذ لنفسه بيتا.

قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً؛} أي اجعلوها مصلّى، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ،} فصلّوا فيها مستترين من فرعون وقومه. وقيل: معناه:

واجعلوا بيوتكم مساجد. وقال الحسن: (واجعلوا بيوتكم نحو القبلة وجبال الكعبة) قال: (وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه من المؤمنين)

(1)

.

وقيل: إنّما لم يذكر الله الزكاة في هذه الآية؛ لأن فرعون قد استعبدهم وأخذ أموالهم فلم يكن لهم ما يجب الزكاة فيه. قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (87)؛ أي وبشّرهم بالثواب في الآخرة، وبالنّصر في الدّنيا آجلا وعاجلا.

قوله: {وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي قال موسى: إنك أعطيت فرعون وملأه زينة؛ أي زهرة من المركب والحليّ والثياب، وأموالا كثيرة من الدراهم والدنانير والعروض. قوله:

{رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؛} أي ربّنا أعطيتهم الزينة والأموال ليكون عاقبة أمرهم أن يضلّوا عن سبيلك فلا يؤمنوا، وهذه اللام لام العاقبة كما في قوله:

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}

(2)

.

قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ؛} معنى الطّمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها، وحقيقة الطّمس ذهاب الشيء عن صورته بمحق الأثر. قال مجاهد وقتادة:(فغيّر الله أموال فرعون حتّى صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة أنصافا وأثلاثا وأرباعا، وكذلك سائر أموالهم حتّى السّكّر والفواكه).قال قتادة: (بلغنا أنّ حروثا لهم صارت حجارة)

(3)

.وقال عطاء: (لم يبق لهم معدن إلاّ طمس الله عليه، فلم ينتفع به أحد).

(1)

الأقوال في هذا الباب نقلها الطبري في جامع البيان عن ابن عباس في الأثر (13779)،وعن مجاهد في الأثر (13783).

(2)

القصص 8/.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13793).

ص: 406

قوله: {وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ؛} معناه: واربط على قلوبهم بالصبر حتى لا يتحوّلوا عن بلادهم إلى بلاد الخصب فيبقون في هذه العقوبة أبدا. وقيل: معناه:

امنعهم عن الإيمان بك، والمعنى اطبع عليها حتى لا تلين ولا تشرح الايمان. قوله:

{فَلا يُؤْمِنُوا؛} قال الزجّاج والفراء: (هذا دعاء عليهم أيضا)

(1)

،والتأويل فلا آمنوا، {حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} (88)؛يعني الغرق.

قوله تعالى: {قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما؛} أي قال الله تعالى لموسى وهارون: قد أجبت دعوتكما، وذلك أنّ موسى كان يدعو بالدّعاء المذكور في الآية، وكان هارون يؤمّن على دعائه، فسمّاها الله داعين، قوله (فاستقيما) أي فاستقيما في دعاء الناس إلى الإيمان، {وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (89) لأن سبيلهم كان الغيّ والضلال، وخفّف ابن عبّاس (تتبعان) من تبع يتبع، والنون الشديدة إنما دخلت مؤكّدة للنهي.

قوله: {*وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ؛} يعني بحر القلزم وهو بقرب نيل مصر، جعله الله لهم يبسا حتى جاوزوه، {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً؛} ليبغوا عليهم، {وَعَدْواً،} ويظلموهم. قوله: {حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ؛} حتى إذا ألجم فرعون الغرق من إيمان الإنجاء فلم ينفعه ذلك، فلما، {قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90)؛

قال له جبريل: {آلْآنَ؛} أي تؤمن عند الغرق، {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (91)؛بالكفر والمعاصي في وقت المهلة.

روي عن ابن عباس: (أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وفرعون يدعو بكلمة الإخلاص وأنا أدسّه في الماء والطّين لشدّة غضبي عليه مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [يا جبريل وما شدّة غضبك؟] قال: يا محمّد لقوله أنا ربّكم الأعلى وهي كلمته الأخيرة، وإنّما قالها حين انتهى إلى البحر، وكلمته

(1)

قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 477.والزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 3 ص 26.

ص: 407

الأولى: ما علمت لكم من إله غيري، وكان بين الأولى والأخرى أربعين سنة)

(1)

.

وهذه الرواية صحيحة إلاّ قوله: (مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه) لأنه لا يخلو إما أن يكون التكليف ثابتا في ذلك الوقت أو غير ثابت، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة، ولو منعه من التكلّم باللسان لكانت ندامة فرعون بالقلب كافية في توبته؛ لأن الأخرس إذا تاب بالندم بقلبه وعزم على ترك المعاودة إلى القبيح كانت توبته صحيحة.

وإن لم يكن التكليف ثابتا في ذلك الوقت لم يكن للمنع عن التوبة معنى بوجه من الوجوه، وإنما لا يقبل الإيمان في وقت الإلجاء؛ لأنّ الذي يؤمن في تلك الحالة يعلم أنه لو حاول خلاف ما يؤمر به حيل بينه وبينه، فلا يكون مثابا بإعلاء ذلك الإيمان معرفته من طريق الضرورة دون الاجتهاد.

قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ؛} أي فاليوم نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع؛ أي ببدنك أي بدرعك، قال ابن عبّاس:(كان فرعون قصيرا طوله ستّة أشبار، وكانت لحيته قريبا من قامته، وكانت له درع سلاسلها من ذهب يعرفها جميع بني إسرائيل، فسألت موسى بنو إسرائيل فدعا الله فأخرجه ببدنه حتّى واراه، وعرفوا الدّرع فطابت أنفسهم بتلك).

ويقال: كان في بني إسرائيل من لا يصدّق بهلاك فرعون، ولذلك سأل موسى عليه السلام أن يلقيه الله على نجوة من الأرض ببدنه؛ أي وحده دون قومه. وقيل: معناه:

ننجيك من الماء ببدنك دون روحك، فأما روحك فتعذب على كلّ حال. قوله:

{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً؛} أي لمن بعدك من الكفّار آية في النّكال، لئلاّ تقول لأحد بعدك مثل مقالتك، وتعرفوا أنّك لو كنت إلها ما غرقت. قوله:{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ} (92)؛يعني لغافلون عن التفكّر في دلائلنا.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان مختصرا وبألفاظ في الرقم (13816 و 13818) عن ابن عباس، و (13817) عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3108) وحسنه.

ص: 408

قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ؛} أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل في موضع خصب وأمن، وهي أرض مصر ما بين أردن وفلسطين، ويقال:

هي الأرض المقدّسة التي ورثوها من أبيهم إبراهيم عليه السلام، وسمّاها منزل صدق؛ لأن فضلها على سائر المنازل كفضل الصّدق على الكذب. وقيل: هم بنو قريظة والنضير أنزلناهم مبوّأ صدق بين المدينة والشّام من أرض يثرب، {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ؛} أي من النّخل وما فيها من الرّطب والتمر.

قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ؛} معناه أنّهم لم يزالوا مؤمنين بمحمّد صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لم يختلفوا في ذلك، بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم.

ومعنى الآية: ما اختلفوا في تصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنه نبيّ حتى جاءهم العلم، قال ابن عبّاس: (يريد القرآن الّذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم،وقال الفرّاء: (العلم محمّد صلى الله عليه وسلم

(1)

لأنّه كان معلوما عندهم بنعته، وذلك أن لمّا جاءهم اختلفوا فيه وفي تصديقه فكفر به أكثرهم).

قوله: {إِنَّ رَبَّكَ؛} يا محمّد، {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ،} بتمييز المحقّ من المبطل، ويجازي كلاّ منهم بما يستحقّه، {فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (93) فيدخل المصدّقين بك الجنة، ويدخل المكذّبين النار.

قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ؛} قال أكثر أهل العلم: هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشّكّاك، ومثل ذلك قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ}

(2)

الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره بدليل قوله: {إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}

(3)

،ولم يقل بما تعمل، قال الزجّاج: (إنّ الله يخاطب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك

(1)

في معاني القرآن: ج 1 ص 478؛ قال الفراء: (والْعِلْمُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وصفته).

(2)

الأحزاب 1/.

(3)

النساء 94/.

ص: 409

الخطاب شامل للخلق، فالمعنى: فإن كنتم في شكّ فاسألوا)

(1)

.

وقال ابن عبّاس: (لم يرد به النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه لم يشكّ في الله ولا في ما أوحى إليه، لكن أراد من آمن به وصدّقه في أمرهم أن يسألوا لئلاّ ينافقوا كما شكّ المنافقون).وعن ابن عبّاس أنه قال: (وذلك أنّ كفّار قريش قالوا: إنّ هذا القرآن الّذي يجيء إلى محمّد ما يلقيه الشّياطين إليه! فأنزل الله هذه الآية).

وأراد بالّذين يقرءون الكتاب مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، فإنّهم يستخبرونك أنّه مكتوب عندهم في التّوراة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[لا أسأل أحدا ولا أشكّ فيه بل أشهد أنّه الحقّ]

(2)

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم بالله تعالى وأشدّ يقينا من أن يسألهم، وإنّما التقدير: فإن كنت في شكّ أيّها السامع مما أنزلنا على نبيّك. ومن عادة العرب أنّهم يخاطبون الرجل بشيء يريدون به غيره كما قالوا: إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

وكانت الناس على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب: مؤمن؛ وكافر؛ وشاكّ، فخاطب الله بهذه الآية الشاكّ أمره بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المبشّر به حتى إذا وافقت صفته في الكتاب المنزّل له قبل القرآن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الشّاكّ هو المبشّر به.

قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ} (95)؛أي الشّاكّين في الحقّ، وما في الآية ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} (96) معناه: إن الذين أخبر الله عنهم أنّهم لا يؤمنون، {وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} (97)؛فيصيرون ملجئين إلى الإيمان، فلم يقبل منهم الإيمان حينئذ.

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 3 ص 27.

(2)

في الدر المنثور: ج 4 ص 389؛ قال السيوطي: ((أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة)). وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13841).

ص: 410

قوله: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها؛} أي هلاّ كانت قرية آمنت عند نزول العذاب فنفعها إيمانها وقبل منهم، {إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ؛} لمّا آمنوا وعلم الله منهم الصدق صرف عنهم عذاب الهون، {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} (98)؛آجالهم المضروبة لهم.

وعن ابن عبّاس: (معنى قوله (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس)

(1)

والمعنى: لم أفعل هذا بأمّة قطّ إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم، فتكون (لولا) معناها النّفي. وقال قتادة:(لم يكن هذا معروفا لأمّة من الأمم كفرت، ثمّ آمنت عند نزول العذاب فكشف عنهم إلاّ قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد أن تدلّى عليهم)

(2)

.

قوله تعالى: {(وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)} آجالهم، وذلك: أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى طاعة الله وترك الكفر فأبوا، قال: رب فدعوتهم فأبوا، فأوحى الله إليه: أن ادعوهم فإن أجابوك، وإلاّ فأعلمهم بأنّ العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيّام.

فدعاهم فلم يجيبوا، فأخبرهم بالعذاب وخرج من بينهم، فقالوا: ما جرّبنا عليه كذبا مذ كان، فاحتالوا لأنفسكم.

فلمّا كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسوادا من السّماء كهيئة النار والدّخان، فجعلوا يطلبون يونس فلم يجدوا، فلما يئسوا من يونس وجعل يحطّ السواد والحمرة، فقال قائل منهم: فإن لم تجدوا يونس فإنّكم تجدوا ربّ يونس، فادعوه وتضرّعوا إليه.

فخرجوا إلى الصحراء، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم، وعجّوا إلى الله مؤمنين به، وارتفعت الأصوات، وقربت منهم الحمرة والدّخان حتى غشي السواد سطوحهم وبلغهم حرّ النار، فلما علم الله منهم صدق التوبة رفع عنهم العذاب بعد ما كان غشيهم.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13844).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13845) مطولا.

ص: 411

قوله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً؛} أي لو شاء ربّك يا محمّد لآمن أهل الأرض كلّهم. وقيل: معناه: لو شاء ربّك لأن يجبر الناس على الإيمان لآمن من في الأرض كلهم جميعا، كما آمن قوم يونس.

قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (99)؛ معناه: أفأنت تريد إكراه الناس على الإيمان إن لم يرد الله إكراههم عليه مع أنه قادر على إكراههم عليه، فلا ينبغي لك أن تريد هذا، وأنت غير قادر على إكراههم عليه.

وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يسلم عمّه أبو طالب وقومه، فأعلمه الله بهذه الآية أنّ إسلامهم ليس بيده.

قوله: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ؛} أي بتوفيقه، ويقال: إلا بأمره وقد أمر الله الكلّ بالإيمان، وقيل: معناه: إلا بتمكين الله. قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (100)؛قال ابن عبّاس:

(السّخط)

(1)

،قال أبو الحسن:(العذاب على الّذين لا يعقلون) أي على الذين لا ينتفعون بعقولهم، وقال الحسن:(يحكم عليهم بالكفر ويذمّهم عليه).

قوله: {قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي قل لهم يا محمّد تفكّروا فيما في السموات والأرض من الآيات والدّلالات نحو مسير الشمس والقمر والنّجوم في مجاريها في أوقات معلومة على الدّوام، ووقوف السّماء بغير عمد ولا علاقة، وخروج النّتاج من الأمّهات، وانظروا إلى الجبال والشّجر وغير ذلك، وكلّ هذا يقتضي مدبر الأمر يشبه الأشياء ولا تشبهه، {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (101).ثم قال حين لم يتفكّروا.

قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} معناه: ما تنفع الآيات، ولا تدفع عمّن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، فهل ينظرون إلا أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم من العذاب، يقال: أيّام فلان؛ ويراد به أيام

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13858).

ص: 412

دولته ومحنته. قوله تعالى: {قُلْ فَانْتَظِرُوا؛} أي انتظروا حلول العذاب الذي أوعدكم به {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (102)،لذلك.

قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا؛} معناه: ثم ننجّي رسلنا والمؤمنين من العذاب الذي يحلّ بالكفّار. قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} (103)؛أي كما ننجي الرسل من العذاب كان علينا أن ننجي المؤمنين كلهم من العذاب الذي ينزل بالكفّار.

قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي قل لهم: يا أهل مكّة إن كنتم في شكّ من ديني الذي أتيتكم به، فأنا مستيقن فلا أشكّ في بطلان دينكم، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله بشكّكم في ديني، {وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ؛} أي يميتكم ويعيدكم، ولا أعبد الذي لا يقدر على الضرّ والنفع والإحياء والإماتة، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (104).

قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً؛} أي وأمرت أن أخلص ديني وعملي لله، والمراد بإقامة الوجه الإقبال على ما أمر به من أمور الدّين، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (105).وقيل: أراد بذلك إقامة الصلاة. والحنيف:

هو المستقيم في الدّين. وقيل: هو العادل عن الأديان الباطلة إلى دين الحقّ.

قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ؛} أي ما لا ينفعك إن دعوته، ولا يضرّك إن تركت عبادته، {فَإِنْ فَعَلْتَ،} فإن دعوت غير الله إلها، {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظّالِمِينَ} (106)؛الضّارّين لنفسك.

قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ؛} معناه:

إن يرد الله بك ضرّا فلا يقدر أحد على دفع ذلك الضرر إلا هو، {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ؛} بنعمة وأمر تسرّ به، {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ؛} مانع لعطيّته. قوله تعالى:

{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي يختصّ بالفضل من يشاء، {مِنْ عِبادِهِ} على ما توجّه الحكمة على ما يستحقّون بأعمالهم، {وَهُوَ الْغَفُورُ؛} لذنوب العباد، {الرَّحِيمُ} (107)؛بمن مات على التوبة.

ص: 413

قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي قل يا محمّد للناس كلهم: قد جاءكم الحقّ من ربكم؛ أي الكتاب والرسول، {فَمَنِ اهْتَدى؛} بالكتاب والرسول، {فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ؛} أي يرجع نفع هدايته إليه، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها؛} فإنّما يكون وبال ضلاله على نفسه، {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (108)؛أي لست بحفيظ عليكم، أدفع عنكم الضرّ، وأطلب إليكم النفع شئتم أو أبيتم.

قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ؛} أي اتّبع يا محمّد ما تؤمر به في القرآن، {وَاصْبِرْ؛} على أذاهم، {حَتّى يَحْكُمَ اللهُ؛} يقضي الله بينك وبينهم، {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} (109)؛أعدل القاضين؛ لأنّ الحاكم لا يكون إلا بالصّلاح والسّداد، وكان حكمه أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتالهم.

آخر تفسير سورة (يونس) والحمد لله رب العالمين

ص: 414