المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة التّوبة سورة التّوبة مدنيّة؛ وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٣

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة التّوبة سورة التّوبة مدنيّة؛ وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون

‌سورة التّوبة

سورة التّوبة مدنيّة؛ وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون حرفا، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية.

قوله عز وجل: {بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) أي هذه من الله، فيكون رفعا على الابتداء، ويجوز أن يكون (براءة) رفعا بالابتداء، وخبره:{(إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)} . والبراءة: رفع العصمة، يقال: فلان بريء من فلان، وبرئ الله من المشركين. وإنما ذكر الله تعالى هذه الآية من العهد؛ لأنّ المشركين كانوا ينقضون العهد قبل الأجل، ويضمرون الغدر، فأمر الله بنبذ العهد إليهم، إما بخيانة مستورة ظهرت أمارتها منهم، وإما أن يكون شرط النبيّ عليه السلام لنقضهم في العهد أن يقرّهم ما أقرّهم الله.

فأما ترك البسملة في أوّل هذه السّورة، فقد روي أنّ أبيّ بن كعب سئل عن ذلك فقال:(لأنّها نزلت في آخر ما نزل من القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أوّل كلّ سورة {(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)} ولم يأمر في سورة البراءة بذلك، فضمّت إلى الأنفال لشبهها بها)

(1)

يعني أنّ أمر العهود مذكور في الأنفال، وهذه السّورة نزلت بنقض العهود. سئل عليّ رضي الله عنه عن هذا فقال:(لأنّ هذه السّورة نزلت في السّيف، وليس للسّيف أمان، وبسم الله الرّحمن الرّحيم من الأمان، ولأنّ البسملة رحمة، والرّحمة أمان، وهذه السّورة نزلت بالسّيف ولا أمان فيه)

(2)

.

(1)

هذا الأثر مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: (قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا (بسم الله الرّحمن الرّحيم)

).أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب التفسير: الحديث (3086)،وقال: حديث حسن.

ص: 283

قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ؛} أي سيروا في الأرض على المهل وأقبلوا وأدبروا في الأرض إلى أن يمضي أربعة. وقيل: هو على الخطاب؛ أي قل لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين من قتل ولا أسر ولا نهب.

ويقال: إن قوله: {(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ)} بيان أن هذا السّيح المذكور في أوّل هذه السورة إنّما هو بعد أربعة أشهر، فإنّ عهد الكفّار باق إلى آخر هذه المدّة. قال الحسن:

(أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن ينظر في عهود الكفّار، فيقرّ من كان عهده أربعة أشهر على عهده أن يمضي، ويحطّ من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر، ويرفع عهد من كان له عهد قبل أربعة أشهر فيجعله أربعة أشهر).

واختلفوا في هذه الأربعة أشهر، قال بعضهم: من عشرين ذي القعدة إلى عشرين من ربيع الأوّل. وروي في الخبر: أنّ مكّة فتحت في سنة ثمان من الهجرة، وولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم، واجتمع في تلك السّنة في الوقوف المسلمون والمشركون.

فلمّا كانت سنة تسع ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وبعث معه عشر آيات من أوّل براءة أو تسع آيات، وأمره أن يقرأها على أهل مكّة، وينبذ إلى كلّ ذي عهد عهده

ص: 284

كما وصف الله تعالى، فلمّا خرج أبو بكر رضي الله عنه منها إلى مكّة، نزل جبريل عليه السلام فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:[لا يبلّغ عنك إلاّ رجل من أهل بيتك] فدعا عليّا رضي الله عنه وأمره بالذهاب إلى مكّة، وقال:[كن أنت الّذي يقرأ هذه الآيات على أهل مكّة، ومر أبا بكر فليصلّ بالنّاس].فسار حتى لحق أبا بكر رضي الله عنه في الطريق، فأخبره بذلك فمضيا، وكان أبو بكر على الموسم.

فلمّا كان يوم النحر واجتمع المشركون، قام عليّ رضي الله عنه عند جمرة العقبة وقال:(يا أيّها النّاس؛ إنّي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم) فقالوا: بم ذا؟ فقرأ عليهم (براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتّم

) إلى آخر الآيات التي نزلت

(1)

.

وكان الحجّ في السّنة التي قرأ عليّ رضي الله عنه فيها هذه السّورة في العاشر من ذي القعدة، ثم صار الحجّ في السّنة الثانية في ذي الحجّة، وكان السبب في تقديم الحجّ في سنة العهد ما كان يفعله بنو كنانة في النّسيء وهو التأخير. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأربعة الأشهر المذكورة في هذه الآية هي: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم.

قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ؛} أي غير فائتين عن الله بعد الأربعة الأشهر، فإنّكم إن أجّلتم هذه الأشهر فلن تفوتوا الله تعالى. وقوله تعالى:

{وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} (2)؛أي معذّب الكافرين في الدّنيا بالقتل في الآخرة بالنار. والإخزاء: هو الإذلال على وجهه الأدون.

قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ؛} أي وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النحر، كذا روى ابن عبّاس، وسمي يوم النحر يوم الحجّ الأكبر؛ لأنه اتّفقت فيه الأعياد على قول أهل الملل. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم:[أنّه يوم عرفة]،قال قيس ابن مخرمة: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة فقال: [أمّا بعد؛ فإنّ هذا يوم الحجّ الأكبر]

(2)

.

(1)

في هذه القصة غرابة، فضلا عن الاضطراب في ترتيب أحداثها، وما جاء في الأخبار الصحيحة يظهر خطأ فهم الخبر من الناقل، أو تزوير المعنى، بما يطول ذكره إن أثبتناه.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12740).

ص: 285

ويروى أنّ عليّا رضي الله عنه خرج يوم النّحر على بغلة بيضاء إلى الجبانة، فجاءه رجل فأخذ بلجامها وسأله عن يوم الحجّ الأكبر، فقال:(هو يومك هذا، خلّ سبيله)

(1)

.

وسئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحجّ الأكبر، فقال:(سبحان الله! هو يوم النّحر يوم يهراق فيه الدّماء ونحلق فيه الشّعر ويحلّ فيه المحرّم)

(2)

.

قوله تعالى: {(وَأَذانٌ)} عطف على قوله: (براءة).قوله تعالى: {(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)} أي أن الله ورسوله بريء من المشركين، تقديره: أنّ الله بريء ورسوله أيضا بريء. ومن قرأ «(ورسوله)» بالنصب فعلى معنى وأن رسوله بريء.

قوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛} أي تبتم من الشّرك فهو خير لكم من الإقامة عليه. قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ؛} معناه: وإن أعرضتم، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي؛} فائتين عن؛ {اللهِ} .

وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} (3)؛تكرار للوعيد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراءة إلى مكّة) فقيل لأبي هريرة: بم إذا كنتم تنادون؟ قال: (كنّا ننادي: أنّه لا يدخل الجنّة إلاّ مؤمن، ولا يحجّنّ هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر فإنّ الله بريء من عهد المشركين ورسوله).

قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ؛} استثناء من الله تعالى من قوله: {(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)} وأراد بقوله: {(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ)} بني ضمرة وهم حيّ من بني كنانة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عند البيت، وكان بقي لهم من عهدهم تسعة من بعد يوم النّحر من السّنة التي حجّ

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12748).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (12766) الرابع منها والسادس.

ص: 286

فيها أبو بكر رضي الله عنه، وكانوا لم ينقضوا شيئا من عهودهم، ولم يمالوا عدوّا على رسول الله عليه السلام، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن-أبقى-لهم بعهدهم إلى آخر مدّتهم.

قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (4)؛أي يرضى عمل الذين يتّقون نقض العهد. قرأ عطاء «(ينقضوكم)» بالضّاد المعجمة من نقض العهد.

قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إذا مضت الأشهر التي حرّم الله القتال بالعهد فيها، {(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)} {وَخُذُوهُمْ؛} يقال أراد بذلك الأشهر الحرم المعروفة؛ وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، كأنه قال: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم في الحلّ أو في الحرم، وخذوهم؛ أي ائسروهم، {وَاحْصُرُوهُمْ؛} أي احبسوهم، ويقال: أراد بذلك أن يحال بينهم وبين البيت؛ أي امنعوهم دخول مكّة. وقوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ؛} أي أقعدوا القتال على كلّ طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى التجارة، وهو أمر بتضييق السبيل عليهم.

قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} معناه: فإن تابوا عن الشّرك، وقبلوا إقام الصلاة وإيتاء الزّكاة فأطلقوهم، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لما سلف من شركهم، {رَحِيمٌ} (5)؛بهم حين قبل توبتهم.

قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ؛} معناه: وإن أحد من المشركين استأمنك ليسمع دعوتك واحتجاجك بالعدل، فأمّنه حتى يسمع كلام الله، فإن أراد أن يسلم فردّه إلى موضع أمنه، {ذلِكَ؛} الأمان لهم، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (6)؛أمر الله تعالى.

قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} أي كيف يكون لهم عهد، وهم يضمرون الغدر في عهودهم عند الله وعند رسوله؛ أي لن يكون لهم عهد يجب الوفاء به، {إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ؛} في وفاء العهد فلم ينقضوه كما نقض غيرهم،

ص: 287

{فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ؛} بوفاء أجلهم، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (7)؛ لنقض العهد.

قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً؛} أي كيف يكون لهم العهد، وقال الأخفش:(معناه: كيف لا يقاتلونكم وهم إن يظهروا عليكم لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا)،وقال قتادة:(الإلّ: الحلف)،قال السديّ:(هو العهد)

(1)

ولكنّه كرّره لما اختلف اللّفظان وإن كان معناهما واحد.

قال مجاهد: (الإلّ هو الله عز وجل

(2)

ومنه جبريل وميكائيل، فإنّ معناهما عبد الله. وأبو بكر لمّا سمع كلام مسيلمة قال:(هذا كلام ليس هو إلّ)

(3)

أي لم يتكلّم به الله. وقرأ عكرمة «(إيلا)» بالياء يعني الله عز وجل، مثل جبريل وميكائيل

(4)

.

قوله تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ؛} أي يتكلّمون بالعهد بأفواههم، {وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ؛} إلاّ نقض العهد، {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} (8).أي متمادون في الكفر.

قوله تعالى: {اِشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً؛} أي اختاروا على القرآن عرضا يسيرا من الدّنيا، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (9) فصرفوا الناس عن طاعة الله، فبئس العمل عملهم، وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12825).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12816).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10002).

(3)

في المخطوط: (وبال) وهو تصحيف. ينظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية: ص 827: تفسير الآية. وعند البغوي في معالم التنزيل: ص 542: تفسير الآية؛ قال: ((إن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذّاب، فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة، فقرءوا، فقال أبو بكر: (إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ)؛أي من الله)).

(4)

في جامع البيان: مج 6 ج 10 ص 110؛ قال القرطبي: (والإلّ: اسم يشتمل معان ثلاثة: وهي العهد والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى الله. فإذا كانت الكلمة تشتمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمن الله، ولا قرابة، ولا عهدا، ولا ميثاقا).

ص: 288

قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً؛} فإن قيل: لم أعاد قوله تعالى: {(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً)؟} قيل: ليس هذا بإعادة؛ لأنّ الأول ورد في جميع الكفّار الذين نقضوا العهد، والثاني إنّما ورد في طائفة من اليهود الذين كانوا ينقضون العهد، فإنّ هذه الطائفة منهم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا؛ فإنّهم كانوا يكتمون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من المواكلة كانوا يأخذونها من سفلتهم، وكانوا يأخذون الرّشاء على الحكم الباطل، ويغيّرون أحكام الله التي أنزلها على أنبيائهم.

وقوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} (10)؛يعني في نقض العهد.

قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ؛} أي فإن تابوا عن الكفر وقبلوا إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، فهم إخوانكم في دين الإسلام، {وَنُفَصِّلُ؛} ونأتي ب، {الْآياتِ؛} آية بعد آية، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (11)؛أمر الله وأحكامه.

قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ؛} أي نقضوا أيمانكم والحلف من بعد العهود التي عاهدتّهم أن لا يقاتلوك ولا يعينوا عليك ولا على حلفائك، {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ؛} الإسلام وعابوه، وذلك أنّهم قالوا: ليس دين محمّد بشيء، {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ؛} أي رءوس الكفر، {إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ} .

قال ابن عباس: (نزلت في أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الّذين ينقضون العهد، وهم الّذين همّوا بإخراج الرّسول)

(1)

.وقال مجاهد: (هم أهل فارس والرّوم)

(2)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12832 و 12833 و 12837) عن قتادة. وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10022) عنه أيضا. والأثر (12831) عن ابن عباس من غير ذكر أسمائهم. وينظر: اللباب في علوم الكتاب: نقله عن ابن عباس أيضا. ومعالم التنزيل: ص 542.

(2)

حكاه أهل التفسير؛ ينظر: معالم التنزيل: ص 543.واللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 34. ويقوي معناه أثر حذيفة رضي الله عنه قال: ((ما قوتل أهل هذه الآية بعد)).أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12838).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10024).

ص: 289

وقوله تعالى {(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)} أي لا عهود لهم؛ جمع يمين، وقال قطرب:

(لا وفاء لهم بالعهد).وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر (لا إيمان) بكسر الهمزة؛ أي لا تصديق لهم، قال عطيّة:(لا دين لهم) أي هم قوم كفّار. وقيل: معناه: لا أمان لهم فلا تؤمّنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، فيكون مصدر أمّنته إيمانا. قوله تعالى:

{لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (12)؛أي ليرجى منهم الانتهاء عن الكفر ونقض العهد.

وفي الآية بيان أنّ أهل العهد متى خالفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نقض العهد، وأما إذا طعن واحد منهم في الإسلام: فإن كان شرط في عهودهم أن لا يذكروا كتاب الله ولا يذكرون محمّدا صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز، ولا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يقطعوا عليه طريقا ولا يعينوا أهل الحرب بدلالة على المسلمين، فإنّهم إذا فعلوا ذلك في عهودهم وطعنوا في القرآن وشتموا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففيه خلاف بين الفقهاء.

قال أصحابنا: يعذرون ولا يقتلون، واستدلّوا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ امرأة يهوديّة أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء فقيل: ألا تقتلوها؟ قال:

[لا]

(1)

.ولحديث عائشة: أنّ قوما من اليهود دخلوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السّام عليك! ففهمت عائشة فقالت: وعليكم السّام واللّعنة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[مهلا يا عائشة! فإنّ الله عز وجل يحبّ الرّفق في الأمر كلّه] فقالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟! فقال: [بلى قد قلت: عليكم]

(2)

ولم يقتلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك

(3)

.فذهب مالك إلى أنّ من شتم النبيّ صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم.

قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛} قال ابن عبّاس: (ذلك أنّ قريشا

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الهبة: باب قبول الهدية من المشركين: الحديث (2617).

(2)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الاستتابة: باب إذا عرّض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (6927).

(3)

جاء في حديث أنس رضي الله عنه: أنّ اليهوديّ قال: السّام عليك؛ فقالوا: يا رسول الله! ألا نقتله؟ قال: [لا؛ إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم].أخرجه البخاري في الصحيح: الحديث (6926).

ص: 290

أعانوا بني الوليد بن بكر وكانوا حلفاءهم على خزاعة؛ وخزاعة حلفاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهزموا خزاعة، فجاء وفد خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصّة، وناشدوا حلفه فقال قائلهم

(1)

:

يا رب إنّي ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنّا والدا وكنت ولدا

(*)

ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وبيّتونا بالوتير هجّدا

نتلوا القرآن ركّعا وسجّدا

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: [لا نصرت إن لم أنصركم] فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أتنصرهم على قومنا؟! قال: [لا نصرت إن لم أنصركم] ثمّ أمر النّاس أن يتجهّزوا إلى فتح مكّة، ففتحها الله تعالى على يديه.

وأحلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتال لخزاعة ولم يحلّه لأحد غيرهم، فذلك قوله تعالى:{(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ)} أي نقضوا عهودهم يعني قريشا، {(وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ)} من مكّة حين اجتمعوا على قتله في دار النّدوة (وهم بدءوكم أوّل مرّة) أي هم الذين بدءوا بنقض العهد حين قاتلوا خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، {أَتَخْشَوْنَهُمْ؛} أي تخافون أن ينالكم مكروه في قتالهم فتتركوا قتالهم، {فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ؛} تخافوه في ترككم لقتالهم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (13)؛مصدّقين بعقاب الله وثوابه.

قوله تعالى: {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ؛} أي قاتلوا أهل مكّة يعذّبهم الله بأيديكم بالسّيف، {وَيُخْزِهِمْ؛} أي يذلّهم، {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}

(1)

هو عمرو بن سالم؛ في الدر المنثور: ج 4 ص 138 - 139؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن اسحاق والبيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة)) وفيه بعض اختلاف.

(*) في المخطوط: (ووالد لكنت وكنّا ولدا) ولا يستقيم المعنى.

ص: 291

{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (14)؛يعني بني خزاعة يوم فتح مكّة الذين قاتلهم بنو بكر،

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ؛} بني خزاعة، فشفى الله صدور بني خزاعة وأذهب غيظ قلوبهم؛ أي كربها ووجدها.

وقوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ؛} استثناء كلام الله؛ أي يتوب الله على من يشاء من أهل مكّة فيهديه للإسلام، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بجميع الأشياء، {حَكِيمٌ} (15)؛في جميع الأمور.

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً؛} معناه: إن ظننتم أيّها المؤمنون أن تتركوا على الإقرار والتصديق فلا تؤمروا بالجهاد، قوله:{(وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ)} أي ولمّا ير الله جهادكم حين تجاهدون، ولمّا ير الله الذين لم يتّخذوا منكم من الكفار بطانة يفشون إليهم سرّهم وأمرهم. وكان الله تعالى قد علم أمرهم بالقتال، من يقاتل ممّن لا يقاتل، ولكنّه يعلم ذلك عيانا، وأراد العلم الذي يجازى عليه وهو علم المشاهدة؛ لأنه يجازيهم على عملهم لا على علمه فيهم.

والوليجة: المدخل في القوم من غيرهم؛ من ولج شيء يلج إذا دخل. والخطاب في الآية للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوا، فأنزل الله هذه الآية {(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا)} فلا تؤمروا بالجهاد وتمتحنوا به؛ ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي، وقال قتادة:(معنى وليجة أي خيانة)،وقال الضحّاك:

(خديعة)،وقال ابن الأنباريّ:(الوليجة: الدّخيلة)،وقال عطاء:(أولياء)،قال الحسن:(كفر ونفاق)

(1)

.وقيل: الوليجة: الرجل من يختص يدخله مودّة دون الناس، يقال: هو وليجة وهم وليجة، للواحد والجمع. قوله تعالى:{وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (16)؛أي عالم بأعمالكم، وفي هذا تهديد للمنافقين وعظة للمخلصين.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12854).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10047).

ص: 292

قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ؛} قال ابن عبّاس:

(لمّا أسر العبّاس يوم بدر، أقبل عليه المسلمون يعيّرونه بالكفر وقطيعة الرّحم وعون المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظ عليّ رضي الله عنه القول له، فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا؟! فقال له عليّ رضي الله عنه: ألكم محاسن؟! قال:

نعم؛ إن كنتم تجاهدون الأعداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاجّ، ونفكّ الأسير، فنحن أفضل منك أجرا. فأنزل الله هذه الآية ردّا على العبّاس)

(1)

.ومعناها: ما كان للمشركين أن يقوموا بعمارة المسجد، وأنّ المساجد لله. والعمارة على وجهين؛ تذكر ويراد بها البناء وتجديد ما انهدم منها، ويؤنّث ويراد بها الزيادة، ومن ذلك العمرة ومعناها زيارة البيت، فانتظمت الآية، نهى المشركين عن بناء المساجد وعن عمارتها بالطاعة، فإنّهم إنما يعمرونها بعبادة الأوثان ومعصية الله.

ومن قرأ «(مسجد الله)» على التوحيد أراد المسجد الحرام خاصّة وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابن عبّاس، وقرأ الباقون «(مساجد)» بالجمع، وإنما قال (مساجد) لأنه قبلة المساجد كلّها. وقيل لعكرمة: لم تقرأ «(مساجد)» وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال: (إنّ الصّفا والمروة من مساجد الله).

قوله تعالى: {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ؛} نصب (شاهدين) على الحال على معنى: ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر، وهم كانوا لا يقولون نحن كفّار، ولكن كان كلامهم يدلّ على كفرهم، وهذا كما يقال للرجل:

كلامك يشهد أنّك ظالم، وهو قول الحسن، وقال السديّ:(شهادتهم على أنفسهم بالكفر، أنّ اليهوديّ لو قلت له: ما أنت؟ قال: يهوديّ، ويقول النّصرانيّ: هو نصرانيّ، ويقول المجوسيّ: هو مجوسيّ)

(2)

.

وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنّها مخلوقة. قوله تعالى: {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ؛} معناه: إنّ الكفر أذهب

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12861).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12856 و 12857).

ص: 293

ثواب أعمالهم وهي التي من جنس طاعة المسلمين. قوله تعالى: {وَفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ} (17)؛ظاهر المراد.

ثم بيّن الله تعالى من يكون أولى بعمارة المسجد الحرام: قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (18)؛معناه: إنما يعمر مساجد الله بطاعة الله من كان في هذه الصّفة، قوله:{(وَأَقامَ الصَّلاةَ)} يعني إقام الصلاة المفروضة {(وَآتَى الزَّكاةَ)} الواجبة في ماله، وقوله تعالى:{(وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ)} أي لم يخف من غير الله، ولم يرج إلا ثوابه. وكلمة عسى من الله واجبة، والفائدة في ذكرها في آخر هذه الآية ليكون الإنسان على حذر من فعل ما يحبط ثواب عمله.

قوله تعالى: {*أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} روي عن ابن عبّاس أنه قال: (قال العبّاس: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ. فأنزل الله هذه الآية).يعني أنّ ذلك كان منكم في الشّرك ولا أقبل ما كان في الشرك. وروي أنّ المشركين قالوا: عمارة المسجد الحرام وقيام على السّقاية خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفتخرون بالحرم، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمّاره، فأنزل الله هذه الآية، وأخبرهم أنّ عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السّقاية لا ينفعهم عند الله من الشّرك بالله.

وقال الحسن: (نزلت هذه الآية في عليّ والعبّاس وطلحة بن شيبة من بني عبد الدّار، وذلك أنّهم افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، بيديّ مفتاحه، قال العبّاس: أنا صاحب السّقاية، وقال عليّ: أنا صاحب الجهاد. فأنزل الله هذه الآية:

{(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)}

(1)

أي أجعلتم صاحب سقاية الحاجّ وصاحب عمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر، {وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ؛} وقيل: معناه: أجعلتم ساقي الحاجّ وعامر المسجد

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12864) عن محمّد بن كعب القرظي بتمامه، وعن الحسن مختصرا.

ص: 294

الحرام، جعل السقاية بمعنى السّاقي، والعمارة بمعنى العامر، كقوله:{وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى}

(1)

أي للمتّقين.

وقرأ عبد الله بن الزّبير وأبي: «(أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام)» على جميع السّاقي والعامر

(2)

.قوله تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (19)؛أي لا يرشدهم إلى الحجّة ما داموا مصرّين على الكفر، ولا يرشدهم إلى الجنّة والثواب.

قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ؛} معناه: الذين صدقوا بتوحيد الله، وهاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا العدوّ في طاعة الله أعظم درجة عند الله، وهذا كقوله تعالى:

{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}

(3)

.قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} (20)؛معناه: إنّ المهاجرين هم الظّافرون بأمانهم من الخير، النّاجون من النار.

قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنّاتٍ؛} أي يبشّرهم ربّهم في الدّنيا على ألسنة الرّسل نجاة من العذاب في الآخرة، ورضوان عنهم ويبشّرهم بجنات، {لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (21)؛دائم لا يزول عنهم.

وقوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها أَبَداً؛} أي دائمين فيها أبدا مع كون النّعيم مقيما لهم، {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (22)؛أي ثواب كثير في الجنّة.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ؛} نزلت في المهاجرين، ومعناه: لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم الذين بمكّة أولياء، تنصرون بهم وتنصرونهم إن اختاروا الكفر على

(1)

طه 132/.

(2)

في المحرر الوجيز: ص 832؛ قال ابن عطية: ((وقرأ ابن الزبير وأبو وجزة، ومحمد بن علي، وأبو جعفر القارئ، وقال: وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القارئ: (سقاية).))

(3)

الفرقان 24/.

ص: 295

الإيمان، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (23)؛إنما جعل الظالمين لموالاة الكفار؛ لأنّ الراضي بالكفر يكون كافرا، وعن الضحّاك:(لمّا أمر الله المؤمنين بالهجرة وكانوا قبل الفتح بمكّة من آمن ولم يهاجر، لم يقبل الله إيمانه إلاّ بمهاجرة الآباء والأقرباء أي بمجانبتهم إذا كانوا كفّارا، فقال المسلمون: يا رسول الله! إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين، انقطع آباؤنا وعشيرتنا، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا؟ فأنزل الله هذه الآية).

وقال الكلبيّ: (لمّا أمر الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرّجل يقول لأخيه وأبيه وامرأته وأقربائه: إنّا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها، فمنهم من يعجبه ذلك فينازع إليه معهم، ومنهم من يأبى أن يهاجر فيقول الرّجل لهم: والله لا أنفعكم بشيء ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم، ومنهم من تتعلّق به زوجته وولده وعياله، فيقولون له: ننشدك الله أن لا تضيّعنا، فيرقّ ويجلس ويترك الهجرة، فأنزل الله هذه الآية {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ)} أي أصدقاء فتفشون إليهم سرّكم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة والجهاد إن استحبّوا الكفر على الإيمان، ومن يتولّهم منكم فيطلعهم على عورة الإسلام وأهله، ويؤثر المكث معهم على الهجرة، {(فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ)} أي القاضون الواضعون الولاية في غير موضعها.

قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ؛} أي قل يا محمّد للذين تركوا الهجرة إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ونساؤكم وقراباتكم، {وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها؛} اكتسبتموها بمكّة وأصبتموها، {وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها؛} أي عدم نفاقها إذا اشتغلتم بطاعة الله، {وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها؛} ومنازل تعجبكم الإقامة بها بمكّة، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ؛} طاعة، {اللهِ وَرَسُولِهِ؛} بالهجرة إلى المدينة، {وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ،} وأحبّ إليكم من الجهاد في طاعة الله، {فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ،} أي فانتظروا حتى يأتي الله بفتح مكّة، ويقال: حتى يأتي الله بعذاب عاجل أو آجل، {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} (24)؛أي لا يرشد الخارجين عن طاعته إلى معصيته، ولا يهديهم إلى جنّته وثوابه.

ص: 296

قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً؛} وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكّة بعد ما فتحها، وكان انفتاحها في بقيّة أيّام رمضان، فمكث بها حتّى دخل شوّال متوجّها إلى حنين، وبعث رجلا من بني سليم عينا له يقال له عبد الله بن أبي حدرد، فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم، فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه: أنتم اليوم أربعة آلاف رجل، فإذا لقيتم العدوّ فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، فو الله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلاّ أفرج لكم. وكان مالك بن عوف على هوازن، وكنانة بن عبد ياليل على ثقيف، فأقبل ابن أبي حدرد حتّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجّها إليهم في عشرة آلاف رجل، كذا قال الكلبيّ.

وقال مقاتل: (كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة)

(1)

،وقال قتادة: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثنى عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وألفين من الطّلقاء، فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة

(2)

:يا رسول الله لا نغلب اليوم من قلّة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته وابتلى الله المسلمين بذلك، فلمّا التقوا حمل العدوّ عليهم حملة واحد، فلم يقوموا لهم حلب الشّاة أن انكشفوا وتبعهم القوم في أدبارهم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به، والعبّاس أخذ بالثّغر، وحول رسول الله يومئذ نحو من ثلاثمائة رجل من المسلمين وانهزم سائر المسلمين عنه، فجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركّض بغلته نحو الكفّار لا يأل، وكانت بغلته شهباء وهو ينادي:[يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار إليّ، أين أصحاب الصّفّة] أي أصحاب سورة البقرة.

(1)

في تفسير مقاتل بن سليمان: ج 2 ص 42.

(2)

سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي الأنصاري، الصحابي، شهد العقبة الأولى والعقبة الآخرة والمشاهد كلها، واستعمله عمر على اليمامة؛ وتوفي سنة خمس وأربعين بالمدينة وهو ابن سبعين سنة. ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: الرقم (1026).

ص: 297

وكان العبّاس ينادي: يا معشر المهاجرين، أين الّذين بايعوا تحت الشّجرة، يا معشر الّذين آووا ونصروا، هلمّوا فإنّ هذا رسول الله. وكان العبّاس صيّتا جهوريّ الصّوت، يروي أنّه من شدّة صوته أنّه أغير يوما على مكّة فنادى وا صبحاه، فأسقطت كلّ حامل سمعت صوته.

فلمّا صاح بالمسلمين عطفوا حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها، وقال: لبّيك لبّيك، وجاءوا عنقا واحدا لنصر دين الله، وأقبل المشركون ليطفئوا نور الله، فأنزل الله تعالى من السّماء جنودا لم تروها وعذّب الّذين كفروا وأظهر المسلمين عليهم، وحمي الوطيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يتطاول إلى قتالهم، ثمّ أخذ كفّا من الحصى فرماهم به وقال:[شاهت الوجوه، انهزموا ورب الكعبة] فو الله ما زال أمرهم مدبرا وجدّهم كليلا، وهرب حينئذ آمرهم مالك بن عوف)

(1)

.

وقال أبي اسحاق: (قلت للبراء

(2)

:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولّى المسلمون معهم مولّيا؟ قال: لا والّذي لا إله إلاّ هو، ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبرا قطّ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء يركض نحو الكفّار وهو يقول:[أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب] ثمّ قال للعبّاس: [ناد يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين] فعطف المسلمون عليه مسرعين، فأنزل الله جنده ونصر عبده وهزم المشركين ونصر المسلمين)

(3)

.

قال سعيد بن جبير: (أمدّ الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف ملك)،وقال الحسن ومجاهد:(كانوا ثمانية آلاف)،قال قتادة:(كانوا ستّة عشر ألفا)،وقال سعيد بن جبير:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12874 و 12875) عن قتادة، والأثر (12876) عن السدي، والأثر (12877) عن كثير بن عباس، والأثر (12878) عن سعيد بن المسيب. والحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: الحديث (1775/ 76).

(2)

عند البخاري في الصحيح: (قال رجل للبراء:

) في الحديث (2864 و 2874 و 2930).

(3)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد: باب من قاد دابة غيره في الحرب: الحديث (2864).ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب في غزوة حنين: الحديث (1776/ 78).

ص: 298

(حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم لم يقف لنا حلب شاة، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم حتّى انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء-يعني-النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلقّانا رجال بيض الثّياب حسان الوجوه، فقالوا:

شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت ايّاها)

(1)

يعني الملائكة.

وروي أن الملائكة قاتلت يومئذ، في الخبر: أنّ رجلا من بني نضر بن معاوية قال للمؤمنين وهو في أيديهم: أين الخيل البلق؟ والرجال عليهم الثياب البيض؟ ما كنّا نراكم فيهم إلاّ كهيئة الشّامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:[تلك الملائكة]

(2)

.

قال: فلما هرب أمير المشركين مالك بن عوف انهزم المشركون وولّوا مدبرين، وانطلق المسلمون حتى أتوا أوطاسا بها عيال المشركين وأموالهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين رجلا من الأشعريّين أمّره عليهم يقال له أبو عامر، فسار معهم إلى أوطاس فقاتل أهلها حتى هزمهم الله وسبى المسلمون عيال المشركين، وهرب مالك ابن عوف حتى أتى إلى الطائف فتحصّن بها، وأخذ ماله وأهله في من أخذ، وقتل أبو عامر رضي الله عنه. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فحاصرهم بقيّة ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحلّ فيه القتال، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة فأحرم منها بعمرة، وقسّم بها السّبي والمال وغنائم حنين وأوطاس.

وتألّف أناس منهم أبو سفيان بن حرب، وسهل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم وجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل، فقال طائفة من الأنصار: منّ الرجل وآثر قومه بالعجب، إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تردّ عليهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال:[يا معشر الأنصار ما هذا الّذي بلغني عنكم؟] فقالوا: هو الّذي بلغك، وكانوا يكذبون، فقال:[ألم تكونوا ضلاّلا فهداكم الله بي؟ وكنتم أذلّة فأعزّكم الله بي؟ وكنتم وكنتم؟].

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12882) عن سعيد مختصرا، والأثر (12881) عن عبد الرحمن مولى أم برثن.

(2)

ينظر: معالم التنزيل: ص 548،وزاد فيه: أن اسم الرجل (شجرة).

ص: 299

فقال سعد بن عبادة: ائذن لي أتكلّم يا رسول الله؟ قال: [تكلّم] قال: أمّا قولك [كنتم ضلاّلا فهداكم الله بي] بحقّ كنّا كذلك، وأمّا قولك:[كنتم أذلّة فأعزّكم الله بي] فقد علمت العرب أنّه ما كان حيّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا، فقال عمر: يا سعد أتدري من تكلّم؟ قال: نعم يا عمر أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:[والّذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا وسلكت النّاس واديا لسلكت وادي الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم] ثمّ قال: [يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب النّاس بالشّاة والإبل وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم؟] قالوا: بلى رضينا يا رسول الله، والله ما قلنا ذلك إلاّ محبّة لله ولرسوله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم]

(1)

.

فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال: [أمّا خطيب الأنصار؛ ولو قال: كنت طريدا فآويناك، وكنت خائفا فآمنّاك، وكنت مخذولا فنصرناك، وكنت وكنت، لكان قد صدق] فبكت الأنصار. بل الله ورسوله أعظم منّا علينا

(2)

.

وذكر لنا: أن ضئر النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسأله سبايا حنين، فقال صلى الله عليه وسلم:[إنّي لا أملككم وإنّما أملك نصيبي منهم، ولكن ائتيني غدا فسلني والنّاس عندي، فإذا أعطيتك حصّتي أعطاك النّاس] فجاءت من الغد، فبسط لها ثوبه فقعدت عليه، ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه، فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم

(3)

.قال الزهريّ وابن المسيّب: (إنّهم أصابوا يومئذ ألفي سبيّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر مناديا فنادى يوم أوطاس: [أن لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، والحيالى حتّى تستبرئن بحيضة)

(4)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (12874) عن قتادة.

(2)

السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 142 - 143.

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 102؛ قال: (وقال قتادة: وذكر لنا

وذكره)).وذكر ابن هشام قصة الشيماء في السيرة النبوية: ج 3 ص 100 - 101.

(4)

أخرجه ابو داود في السنن: كتاب النكاح: باب في وطء السبايا: الحديث (2155) و (2157) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: هو صحيح من حديث أبي سعيد.

ص: 300

ثم إنّ مالك بن عوف قال لأصحابه: هل لكم أن تصيبوا من محمّد مالا؟ قالوا: نعم، فأرسل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي أريد أن أسلم فما تعطيني؟ قال:[أعطيك مائة من الإبل ورعاتها] فجاء وأسلم وأقام يوما أو يومين، فلمّا رأى المسلمين ورقّتهم وزهدهم واجتهادهم رقّ لذلك، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:[يا ابن عوف ألا نفي لك بما وعدناك؟] قال: يا رسول الله أمثلي يأخذ على الإسلام شيئا؟! ثم أسلم أهل الطائف، وكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن أفتتح عامّة الشام

(1)

.

قوله تعالى: {(فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ)} أي لقد أعانكم الله على أعدائكم في مواضع كثيرة من قتال بدر وحرب بني قريظة والنّضير وحنين وفتح مكة. قوله: {(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)} أي وأعانكم يوم حنين، وحنين: اسم واد بين مكّة والطائف، وأضيف اليوم إلى حنين لوقوع الحرب يومئذ بها.

وقوله تعالى: {(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)} إذ سرّتكم، والإعجاب هو السّرور والتعجّب، فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا ولا دفعت عنكم سوءا. قوله تعالى:

{وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ؛} أي ضاقت عليكم الأرض مع سعتها من خوف العدوّ، فلم تجدوا موضعا للفرار إليه. قوله تعالى:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (25)؛أي أعرضتم منهزمين لا تلوون على أحد. والإدبار الذّهاب إلى الخلف.

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ؛} أي أنزل أمنه ورحمته على رسوله، {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛} حتى عادوا فظفروا. والسّكينة في اللغة اسم لما يسكن إليه القلب، وقال الحسن:(أراد بالسّكينة الوقار).قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها؛} أي أنزل من السّماء ملائكة لنصركم، لم تروها بأعينكم. قوله تعالى:{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} يعني بالقتل والأسر، {وَذلِكَ؛} العقاب، {جَزاءُ الْكافِرِينَ} (26)؛في الدّنيا.

(1)

السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 133 - 134: قصة إسلام مالك بن عوف النصري.

ص: 301

قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ؛} أي ثم يتوب من بعد الهزيمة على من يشاء منهم من كان أهلا لذلك، {وَاللهُ غَفُورٌ؛} لما كان منهم في الشّرك إذا تابوا {رَحِيمٌ} (27)؛بهم في الإسلام.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا؛} معناه: إنما المشركون قذر، وقيل: خبث.

والنّجس: مصدر أقيم مقام الاسم لا يثنّى ولا يجمع، يقال: رجل نجس وامرأة نجس، ورجال ونساء نجس، ولا يؤنّث ولا يجمع؛ فلهذا لم يقل إن المشركين أنجاس، وسمّى المشرك نجسا؛ لأنّ شركه يجري مجرى القذر في أنه يجنب الجنب، كما تتجنّب النجاسات؛ أي يجب التبرّؤ من المشركين وقطع مودّتهم.

والنجاسة على ضربين، نجاسة أعيان، ونجاسة الذّنوب، وكان الحسن يقول:(لا تصافح المشركين، فمن صافحهم فليتوضّأ)

(1)

،وقال قتادة:(سمّاهم الله نجسا لأنّهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضّئون، فمنع من دخول المساجد؛ لأنّ الجنب لا يدخل المسجد)

(2)

.

قوله تعالى: {(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)} أي لا ينبغي لهم أن يقربوه للحجّ والطّواف بعد هذا العام، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر رضي الله عنه، ونادى عليّ رضي الله عنه فيه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة، ثم حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثاني حجّة الوداع في سنة عاشر من الهجرة

(3)

.قوله تعالى: {(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ)} بيان أنّ المراد بالآية إبعاد المشركين عن المسجد الحرام، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه كان ينادي فيهم في ذلك العام:[ألاّ لا يطوفنّ بهذا البيت بعد هذا العام مشرك وعريان].

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12894).

(2)

هذا تأويل الإمام الطبري، وأدرجه المصنف رحمه الله في مجال كلام قتادة. وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12889)؛قال: النجس: الجنابة. والأثر (12891).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12895) عن قتادة.

ص: 302

قال ابن عبّاس

(1)

: (فقال أناس من تجّار بكر بن وائل وغيرهم من المشركين بعد قراءة عليّ رضي الله عنه هذه الآية: ستعلمون يا أهل مكّة إذا فعلتم هذا ماذا تلقون من الشّدّة ومن أين تأكلون، أما والله لتقطّعنّ سبلكم، ولا نحمل إليكم شيئا. فوقع ذلك في نفس أهل مكّة وشقّ عليهم، وألقى الشّيطان في قلوب المسلمين حزنا وقال لهم:

من أين تعيشون وقد نفى المشركين وقطع عنكم الميرة؟ فقال المسلمون: يا رسول الله قد كنّا نصيب من تجاراتهم، فالآن ينقطع عنّا الأسواق والتّجارة ويذهب الّذي كنّا نصيبهم فيها، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} ) معناه: وإن خفتم فقرا من إبعاد المشركين، {(فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)} بغيرهم، فأخصبت تبالة

(2)

وجرش وحملوا إلى مكّة الطّعام والإدام، وأغنى الله أهل مكّة من تجّار بني بكر

(3)

.وروي أن أهل نجد وصنعاء من أهل اليمن أسلموا وحملوا إلى مكّة الطعام في البحر والبرّ.

والعيلة: الفقر والصّفاق، يقال: عالى الرجل يعيل عليه، قال الشاعر:

ولا يدري الفقير متى غناؤه

ولا يدري الغنيّ متى يعيل

أي يفتقر. وفي مصحف عبد الله (وإن خفتم عائلة فسوف يغنيكم الله من فضله)

(4)

.

وقوله تعالى: {إِنْ شاءَ؛} استثناء، فجاء علم الله أنه سيكون لئلا تترك العباد الاستثناء في أمورهم، ولتنقطع الآمال إلى الله في طلب الغنى منه. قوله تعالى:

{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (28)؛أي عليم بخلقه وما يصلحهم، حكيم فيما حكم من أمره.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12896 - 12910) وأدرجها الطبراني في هذا النص.

(2)

في المخطوط: (توبالة).

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 106.

(4)

في المحرر الوجيز: ص 836؛ قال ابن عطية: ((وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود: عائلة وهو مصدر كالقائلة، من قال يقيل، وكالعاقبة والعافية، ويحتمل أن تكون نعتا لمحذوف تقديره: (حالا عائلة).)) وينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 107.

ص: 303

قوله عز وجل: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ؛} معناه: قاتلوا اليهود والنصارى الذين لا يؤمنون بآيات الله التي أنزلها على نبيّه صلى الله عليه وسلم. وقيل: معنى قوله: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ؛} أي كانوا يصفون الله سبحانه بصفة لا تليق به، لأن اليهود مثنّية والنّصارى مثلّثة. وقوله تعالى:

{(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ)} أي لا يحرّمون الخمر والخنزير ونحو ذلك مما لم يقرّوا بتحريمه.

وقوله تعالى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ؛} أي لا يعتقدون دين الإسلام ولا يخضعون لله بالتوحيد، وقيل: معنى {(دِينَ الْحَقِّ)} أي دين الله؛ لأن الله هو الحقّ.

قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ؛} يعني اليهود والنصارى، {حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ؛} أي حتّى تؤخذ الجزية من أيديهم وهم قيّام أذلاّء، والآخذ جالس. ويقال: أراد بالقهر، كأنه قال: عن قهر من المسلمين عليهم واعتراف منهم للمسلمين بأنّ أيدي المسلمين فوق أيديهم، كما يقال: اليد لفلان في هذا الأمر، ويراد به نفاذ أمره. ويحتمل أن يكون المعنى باليد إنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية عنهم.

ويقال: أراد باليد القوّة على معنى أنه ليس على الفقير غير المتموّل جزية.

وأما طعن المخالف

(1)

كيف يجوز إقرار الكفّار على كفرهم بأداء الجزية بدلا عن الإسلام؟ فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون أخذ الجزية عنهم رضى بكفرهم، وإنما الجزية عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر، وإذا جاز إمهالهم بغير الجزية للاستدعاء إلى الإيمان كان إمهالهم بالجزية أولى. قال أبو عبيد:(يقال لكلّ من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد)

(2)

،قال ابن عبّاس:(هو أن يعطيها بأيديهم يمشون بها كارهين، ولا يجيئون ركبانا ولا يرسلون بها)

(3)

.

(1)

في اللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 68؛نقل الخلاف عن ابن الراوندي.

(2)

ينظر: معالم التنزيل: ص 550 - 551.

(3)

علقه الطبري في جامع البيان؛ قال: ((وذلك قول ابن عباس من وجه فيه نظر)).

ص: 304

قوله تعالى: {وَهُمْ صاغِرُونَ} (29)؛أي ذليلون ومقهورون، قال عكرمة:(معنى الصّغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم)

(1)

،وقال الكلبيّ:(هو أنّه إذا أعطى الجزية صفع في قفاه)

(2)

،وقيل: هو أنه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة.

وتؤخذ الجزية أيضا من الصّابئين والسامريّ؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل لأهل البدع فينا، وتؤخذ الجزية أيضا من المجوسيّ؛ لأنه قد قيل إنّهم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم، وعن سعيد بن المسيّب (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس الهجر، وأخذها عمر رضي الله عنه من مجوس أهل السّواد)

(3)

.

روي أنّ عمر رضي الله عنه قال: لا أدري كيف أصنع بالمجوس. فقال له عبد الرّحمن ابن عوف رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غير ناكحين نساءهم ولا آكلي ذبائحهم]

(4)

.

قوله عز وجل: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ؛} الآية؛ أي قالت اليهود حين قرأ عليهم عزير التوراة عن ظهر قلب: إن الله لم يجعل التوراة في قلب أحد إلا وهو ابنه! وعن ابن عبّاس رضي الله عنه: (أنّ جماعة من اليهود منهم النّعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن صيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أنّ عزيرا ابن الله تعالى! فأنزل الله هذه الآية)

(5)

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12912).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10042) -من تفسير المغيرة في جوابه لرستم لمعنى (الجزية) -.

(2)

أيضا نقله البغوي في معالم التنزيل: ص 551. قلت: وفي هذا القول مبالغة، لا تتفق وعمومات الشريعة، بل الغرض من الجزية في مفهوم ودلائل النصوص الشرعية في الباب؛ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 114 - 115: المسألة الحادية عشرة.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب أهل الكتاب: أخذ الجزية: الأثر (10026) عن الزهري. ومجوس أهل هجر: هم أهل البحرين. والكلمة فارسية معناها: عبدة الفرس. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الجزية: باب المجوس أهل كتاب: الحديث (19169) عن سعيد بن المسيب مرسلا.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب أهل الكتاب: الأثر (10025).والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (19167).وأصله في صحيح البخاري: كتاب الجزية: باب الجزية والموادعة.

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (12914).وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10043).

ص: 305

وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب «(وقالت اليهود عزير ابن الله)» بالتنوين، وقرأ الباقون بغير التنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن يصرف وإن كان أعجميّا مثل نوح وهود ولوط، وقال أبو حاتم والمبرد: اختيار التنوين لأنه ليس بصفة والكلام ناقص، و (ابن) في موضع الخبر وليس بنعت، وإنما يحذف التنوين في النّعت.

ومن ترك التنوين قال لأنه اسم أعجمي. قال الزجّاج: (يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: عزير ابن الله معبود، على أن يكون (ابن) نعتا للعزير).

قوله تعالى: {وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؛} هذا قول نصارى نجران، وقوله تعالى:{ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؛} معناه: أنّهم لا يتجاوزون في القول عن العبادة؛ أي المعنى إذ لا برهان لهم لأنّهم يعترفون أنّ الله لا يتخذ صاحبة، فكيف يزعمون أنّ له ولدا. قوله تعالى:{يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ؛} أي يشابهون في قول ذلك قول أهل مكّة حين قال: اللاّت والعزّى ومناة. وقيل: أراد يشابهون قول الكفّار الذين يقولون الملائكة بنات الله.

قرأ عاصم «(يضاهئون)» بالهمز

(1)

،وقرأ العامّة بغير همز، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد، وقال قتادة والسدي:(ضاهت النّصارى قول اليهود من قبل، فقالت النّصارى: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله)

(2)

.

قوله تعالى: أي يشابهون، يقال: امرأة ضهياء إذا شابهت الرجل في أنّها لا ثدي لها ولا تحيض. قوله تعالى: {قاتَلَهُمُ اللهُ؛} أي لعنهم الله، كذا قال ابن عبّاس، وقال ابن جريج:(معناه قتلهم الله)، {أَنّى يُؤْفَكُونَ} (30)؛أي أنّى يكذبون ويصدفون عن الحقّ بعد قيام الدلالة عليه.

قوله تعالى: {اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ؛} اتخذ النصارى واليهود علماءهم وعبّادهم أربابا؛ أي أطاعوهم في معاصي الله، فجعل

(1)

في جامع البيان؛ قال الطبري: (لغة ثقيف).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12918) عن قتادة، والأثر (12919) عن السدي.

ص: 306

الله طاعتهم عبادتهم؛ لأنّهم اتّبعوهم وتركوا أوامر الله ونواهيه في كتبهم، قال الضحّاك:(الأحبار: العلماء)

(1)

واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وبفتحها، والكسر أفصح، والرّهبان من النّصارى: أصحاب الصّوامع وأهل الاجتهاد في دينهم. وقوله تعالى: {(أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)} أي سادة من دون الله يطيعونهم في معاصي الله. وأما تسمية العالم حبرا فلكثرة كتابته بالحبر، وقيل: لتبحيره المعاني بالبيان الحسن. وأما الراهب فهو الخاشع لله.

وقوله تعالى: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ؛} أي اتّخذ المسيح إلها. وقوله تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً؛} أي لم يؤمروا في جميع الكتب ولا على ألسنة الرّسل إلاّ بعبادة إله واحد. وقوله تعالى: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (31) أي تنزيها لله عن الشّرك وما لا يليق به.

قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ؛} أي يريدون أن يردّ القرآن ودلائل الإسلام بالتكذيب بألسنتهم، وقال الضحّاك:(يريد اليهود والنّصارى أن يهلك محمّد وأصحابه ولا يعبد الله بالإسلام)

(2)

{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؛} ويعلي دينه وكلماته ويظهر الإسلام وأهله على أهل كلّ دين، {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (32)؛ذلك.

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛} أي هو الذي بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن ودين الإسلام، ليظهره على سائر الأديان بالحجّة والغلبة، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33).واختلف العلماء في قوله (ليظهره) قال ابن عبّاس:(إنّها عائدة على الرّسول، يعني ليعمّه بشرائع الدّين كلّه فيظهره عليها حتّى لا يخفى عليه شيء منها)

(3)

.قال آخرون:

(الهاء) راجع الى دين الحقّ.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12924).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10066).

(3)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12935).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10070).

ص: 307

قوله تعالى: {*يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ؛} معناه: يا أيّها الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن إنّ كثيرا من الأحبار وهم من ولد هارون، قوله:{(وَالرُّهْبانِ)} وهم أصحاب الصّوامع وهم دون الأحبار في العلم، قوله تعالى:{(لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ)} أرادوا به أخذ الرّشا على الحكم، وما كان لهم من الهدايا من سفلتهم على كتمان بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته، هكذا روي عن ابن عبّاس، وقال السديّ:(الأحبار علماء اليهود، والرّهبان أصحاب الصّوامع من النّصارى)

(1)

.

وأما تخصيص الأكل في الآية، فلأنّ معظم المقصود من التّمليك الأكل، فوضع الأكل موضع الملك. قوله تعالى:{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} أي يصرفون الناس عن دين الله.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} (34)؛أي يجمعونها ويضعون بعضها فوق بعض، ولا ينفقون الكنوز في طاعة الله. وقيل: معناه: ولا ينفقون الفضّة، وحذف الذهب؛ لأن في بيان أحدهما حكم الآخر، كما قال تعالى:{وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها}

(2)

،والدليل على أنّ هذه الكناية راجعة إلى الذهب والفضّة جميعا أنّها لو رجعت إلى أحدهما لبقي الآخر عاريا عن الجواب، فيصير كلاما منقطعا لا معنى له، وتقدير الآية: لا ينفقون منها؛ أي لا يؤدّون زكاتهما ولا يخرجون حقّ الله منهما، إلاّ أنه حذف (من) وأراد إثباتها، بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى (خذ من أموالهم صدقة) قال النبيّ عليه السلام:[في مائتي درهم خمس دراهم، وفي عشرين مثقالا من الذّهب نصف مثقال]

(3)

ولو كان الواجب إنفاق جميع المال لم يكن لهذا التقدير وجه.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12936).

(2)

الجمعة 11/.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الزكاة: باب نصاب الذهب: الحديث (7626) عن علي رضي الله عنه.

ص: 308

وسمّي الذهب ذهبا؛ لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت فضة لأنّها تنفضّ؛ أي تفرّق ولا تبقى، وحسبك باسمهنّ دلالة على فنائهما وأنه لا بقاء لهما.

وقوله تعالى: {(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)} أي ضع الوعيد لهم بالعذاب موضع بشارة بالنّعم لغيرهم؛ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبع أرضين، وكلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا)

(1)

.

قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ؛} أي يوم يوقد على المكنوز في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم عقوبة، قال ابن عباس:(لا يوضع دينار ولا درهم على دينار ولا على درهم، ولكن توسّع جلودهم لذلك فلا يمسّ دينار دينارا ولا درهم درهما)

(2)

.

قوله تعالى: {هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ؛} أي يقال لهم: هذا ما جمعتم في دار الدّنيا، {فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (35)،فذوقوا عقوبة ما كنتم تجمعون. وسئل أبو بكر الورّاق: لم خصّت الجباه والجنوب والظّهور بالكيّ؟ فقال:

(لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير انعصر وإذا ضمّه وإيّاه مجلس ازورّ عليه وولاّه ظهره)

(3)

.

عن ثوبان مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لمّا نزلت هذه الآية قالت الصّحابة: فأيّ المال نتّخذ؟ فقال عمر: أنا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال عليه السلام:[لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وبدنا صابرا وزوجة تعينك على إيمانك]

(4)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12938 و 12937).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (1081).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12960) بإسنادين. وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10092) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 83.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (12945).والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 278 و 282.والترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3094).

ص: 309

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من صاحب كنز لا يؤدّي زكاته إلاّ أحمي عليه في نار جهنّم فيجعل صفائح فتكوى بها جبينه وجنباه حتّى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار.

وما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها إلاّ بطح لها بقاع قرقر تسير عليه، كلّما مضى عليه آخرها ردّ عليه أوّلها حتّى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار. وما من صاحب بقر لا يؤدّي زكاتها إلاّ بطح لها بقاع قرقر تسير عليه، كلّما مضى آخرها ردّ عليه أوّلها حتّى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار.

وما من صاحب غنم لا يؤدّي زكاتها إلاّ بطح لها بقاع قرقر تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلّما مضى عليه آخرها ردّ أوّلها حتّى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار]

(1)

.

قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} معناه: إن عدّة الشّهور التي تتعلّق بها الأحكام من الحجّ والعمرة والزكاة والأعياد وغيرها اثنا عشر شهرا على منازل العمرة، تارة يكون الحجّ والصوم في الشّتاء، وتارة في الصيف على اعتبار الأهلّة. وقوله تعالى:{(فِي كِتابِ اللهِ)} يعني اللّوح المحفوظ، قوله تعالى:{(يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)} إنّما قال ذلك؛ لأن الله تعالى أجرى الشمس والقمر في السّماوات يوم خلق السموات والأرض.

(1)

أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة: الحديث (987/ 2624) مطولا. والطبري في جامع البيان: الحديث (12947) مختصرا. ولقد كرر الناسخ كلمة (غنم) بدلا من (إبل، وبقر)،وضبطت كما في صحيح مسلم.

ص: 310

قوله تعالى: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛} واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد

(1)

متتابعة، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، سماها حرما لعظم انتهاك حرمتها، كما خصّ الحرم بمثل ذلك، وكانت العرب تعظّمها وتحرّم القتال فيها حتى أن الرجل لو لقي قاتل أبيه أو أخيه فيها لم يهجه.

قوله تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ؛} أي في أشهر الحرم بالعمل بالمعصية وترك الطاعة. وقيل: باستحلال القتل والغارة. وقيل:

معناه: ولا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ. ويقال: معناه: فلا تظلموا في الاثني عشر الشهر أنفسكم. قوله تعالى: {(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)} أي ذلك الحساب المستقيم.

قوله تعالى: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ويجوز أن يكون الكافّة راجعة إلى المسلمين؛ أي قاتلوا جميعا، قوله تعالى:{(كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)} أي كما يقاتلونكم أي جميعا. قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (36)؛أي معهم بالنّصرة.

واختلف العلماء في حرمة القتال في الأشهر الحرم، فقال بعضهم: لا يجوز القتال فيها والغارة لأن الله سمّاها حرما فيكون قوله تعالى: {(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)} دليلا على جواز القتال فيها على وجه الدّفع.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن القتال فيها جائز، والمراد بقوله:{(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)} تعظيم انتهاك حرمتها بالظلم والفساد فيها، وتعظيم ثواب الطاعة التي يفعل فيها. قوله تعالى:{(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)} يدلّ على أنّ الله أخرج هذه الأشهر الحرم من أن تكون حرما.

(1)

في المخطوط: (سرادى).والسّرد: الثقب، وفلان يسرد الحديث: إذا كان جيّد السياق له. وسردها: نسجها؛ وهو تداخل حلقات الدرع بعضها ببعض. وقولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد؛ أي متتابعة، وهي ذو الحجة وذو القعدة والمحرم، وواحد فرد هو رجب. مختار الصحاح:(سرد).

ص: 311

وفي باب الجهاد دليلا تقديرا آخر أن أحد الجهاد داخل تحت قوله: {(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)} وكان الله تعالى ميّز الجهاد من الظلم الذي هو إقدام على النّفوس والأموال، وقوله تعالى:{(كَافَّةً)} منصوب على الحال.

قال قتادة وعطاء: (كان القتال كثيرا في الأشهر الحرم، ثمّ نسخ وأحلّ فيه بقوله: {(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)} يعني فيهنّ وفي غيرهنّ).وقال الزهريّ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّم القتال في الأشهر الحرم، ممّا أنزل الله من تحريم ذلك حتّى نزلت براءة، وأحلّ قتال المشركين)

(1)

.

وقال سفيان الثوريّ لمّا سئل عن القتال في الأشهر الحرم، قال:(لا بأس بالقتال فيهنّ وفي غيرهنّ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وحنينا وثقيفا بالطّائف وحاصرهم في الشّوّال وبعض ذي القعدة، فدلّ على أنّ حرمة القتال فيها منسوخ)

(2)

.

قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً؛} أي إنّما تأخير الشّهر الحرام من المحرّم إلى صفر، واستباحة المحرّم زيادة في الكفر يغلط ويخطئ بالنّساء سائر الكفّار، ومن قرأ (يضل) صفر مكان المحرّم، ويحرّمون المحرّم عاما فلا يقاتلون فيه، ثم يقاتلون في صفر، {(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ)؛} أي ليوافقوا في العدد أربعة أشهر، وكانوا يقولون: هذه أربعة بمنزلة أربعة. والمواطأة الموافقة، وأصل النّسيء الحاضر ومنه بيع النّسيئة، ومنه أنسأ الله في أجل فلان، ومنه المنسأة وهي العصا يرجو بها ويؤخّر.

قرأ قتادة ومجاهد وأبو عمرو ونافع غير ورش

(3)

وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر «(النّسيء)» بالمدّ والهمزة وهو مصدر كالسّعير والحريق ونحوهما،

(1)

نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 134 عن قتادة وعطاء والزهري.

(2)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 134.

(3)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 136؛ قال القرطبي: (قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه (إنّما النّسيّ) بلا همز إلا ورش وحده). قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 117.

ص: 312

ويجوز أن يكون مفعولا مصروفا أي فعيل مثل الجريح والقتيل والصريع، تقديره: إنما الشهر المؤخّر. وقرأ أبو جعفر وورش «(إنّما النّسيّ)» بالتشديد من غير همزة، وروى ذلك ابن كثير على معنى المنسيّ أي المتروك، قال الله تعالى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}

(1)

.

وقوله: {(يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)،} قرأ أهل المدينة وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر بفتح الياء وكسر الضّاد لأنّهم هم الضالّون لقوله: {(يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً)،} وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد ويعقوب بضمّ الياء وكسر الضاد؛ أي يضلّ به الذين كفروا الناس المقتدين بهم، وقرأ أهل الكوفة إلاّ أبا بكر بضمّ الياء وفتح الضاد، وهي قراءة ابن مسعود لقوله:{(زُيِّنَ لَهُمْ)،} وقوله تعالى: {(يُحِلُّونَهُ عاماً)} أي يحلّون النسيء.

وقوله تعالى: {لِيُواطِؤُا؛} أي ليوافقوا، وقيل: ليشبهوا، {عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ؛} أي يحلّوا ما حرّمه الله من الغارة والقتل في الشّهر الحرام، وإنما كان يفعل هكذا بنو كنانة وربّما كانوا يؤخّرون رجبا ويبدّلونه صفرا لتكون الشهور متوالية، وقوله تعالى:{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ؛} أي حسّن في قلوبهم قبح أعمالهم من تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرّم الله، قال الحسن:

(زيّنتها لهم أنفسهم والشّياطين){وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (37) أي لا يوفّقهم مجازاة لكفرهم. وقيل: لا يهديهم إلى الجنّة والثواب.

قال ابن عبّاس: (كان النّاسئ رجلا من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وجنادة بن عوف وكان يقوم على النّاس فيقول: ألا إنّ آلهتكم حرّمت عليكم صفر العام، فيحرّمون فيه الدّماء والأموال ويستحلّون في المحرّم، فإذا كان من قابل نادى: ألا إنّ آلهتكم حرّمت عليكم المحرّم العام، فيحرّمون فيه الدّماء والأموال ويستحلّون صفر ليفيدوا منه)

(2)

.

(1)

التوبة 67/.

(2)

أصوله أخرجها الطبري في جامع البيان: الآثار (12980) عن ابن عباس، و (12983) عن مجاهد، و (12985) عن قتادة.

ص: 313

وفي بعض الرّوايات: أنه كان يقول قبل هذا النداء: يا أيّها الناس أنا الذي أعاب ولا خاب ولا مردّ لما قضيت، فيقول له المشركون: لبّيك ربّنا، ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا فيقول: ألا إن صفر العام حلال يريد به المحرّم، وربّما يقول: حرام، فيحرّمون المحرّم صفرا، وكان إذا قال الناسئ في المحرّم: حلال، عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجة

(1)

وأعلوا السيوف وأغاروا على الناس، وإذا قال: حرّم، حلّوا الأوتار ونزعوا الأزجة وأغمدوا السيوف

(2)

.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؛} وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد مرجعه من الطّائف، ثم أمره الله بالجهاد لغزوة الرّوم وأمره بالخروج إلى غزوة تبوك، وذلك في زمان عسرة وشدّة من الحرّ حين طابت ثمار أهل المدينة فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الجهاد فكانوا يتثاقلون من الخروج ويحبّون الظّلال والثمار، فأنزل الله هذه الآية.

ومعناها: ما لكم إذا قيل لكم اخرجوا إلى جهاد المشركين تثاقلتم إلى الأرض وتكاسلتم واطمأننتم إلى أوطانكم، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؛} استفهام يعني الإنكار؛ أي آثرتم

(3)

عمل الدّنيا على عمل الآخرة، وآثرتم الحياة في الدّنيا على الحياة في الآخرة، {فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ} (38) أي ما منفعة الدّنيا في الآخرة وفي ما يتمتّع به أولياء الله في الجنّة إلا يسير لأن الدّنيا تضمحلّ ويفنى أهلها، والآخرة دار القرار.

قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ؛} أي إلاّ تخرجوا مع نبيّكم في الجهاد يعذّبكم عذاب الاستئصال،

(1)

الزّجّ: زجّ الرّمح؛ والسهم، والجمع: الزّجاج. قال الأزهري: زجّ الرمح: الحديد التي تركّب سافلة الرمح، والسّنان: التي تركب عاليته، والزّجّ يركز به الرمح في الأرض، والسّنان يطعن به. ويقال لنصل السهم: زجّ. قال خالد بن كلثوم: كانوا يستقبلون أعداءهم إذا أرادوا الصلح بأزجّة الرّماح، فإن أجابوهم وإلا قلبوا الأسنّة وقاتلوهم. ينظر: تهذيب اللغة: ج 1 ص 244 (زج).

(2)

نقله أهل التفسير عن الكلبي؛ ينظر: المحرر الوجيز: ص 845.

(3)

في المخطوط: (اخترتم) وهو غير مناسب، فأثبتناه كما يقتضي سياق الكلام.

ص: 314

ويستبدل قوما غيركم أي أطوع لله منكم، {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً؛} أي ولا تنقصوا من ملكه شيئا بقعودكم عن الجهاد، {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؛} من العذاب والإبدال، {قَدِيرٌ} (39).

قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ؛} وذلك أنّ كفار مكّة لمّا أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره جبريل بذلك وأمره بالخروج، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم الله وجهه:[نم مكاني على الفراش] وخرج مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار جبل ثور-وهو جبل بأسفل مكّة-ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أطراف أصابعه حتى حفيت، فلمّا رآه أبو بكر رضي الله عنه وجعل يستند به حتى أتى فم الغار، وكان الغار مقرونا بالهوامّ، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الغار قال له أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتّى أستبرئ الغار. فدخل واستبرأه وجعل يسوّي الجحرة بثيابه خشية أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي جحران فوضع عقبه عليهما ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فكانا في الغار ليلتهما.

فدخل الكفّار على عليّ رضي الله عنه فقالوا له: يا عليّ أين محمّد؟ فقال: لا أدري أين ذهب، فطلبوه من الغد واستأجروا رجلا يقال له كرز بن علقمة الجرّاح، فقفا لهما الأثر حتى انتهى بهم إلى جبل ثور، فقال: انتهينا إلى هنا وهذا أثره فما أدري أين أخذ يمينا أو شمالا أو صعد الجبل، فصعدوا الجبل يطلبونه، وأعمى الله عليهم مكانه فلم يهتدوا إليه.

فقام رجل منهم يبول مستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعورته، فقال أبو بكر: يا رسول الله ما أراه إلاّ قد أبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم [لو أبصرنا ما يستقبلنا بعورته].وأقبل شباب قريش من كلّ بطن، معهم عصيّهم وقسيّهم حتى رأوا باب الغار، وكان صلى الله عليه وسلم مرّ على ثمامة وهي شجرة صغيرة ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلما سار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار، وألهم الله العنكبوت فنسجت حتى سترت وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وبعث الله حمامتين وحشيّتين فأقبلتا حتى وقعتا على باب الغار بين العنكبوت وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامة ونسج العنكبوت علموا أن ليس في الغار أحد، وكان أبو بكر يقول: يا

ص: 315

رسول الله قد أتينا وما أنا إلاّ رجل واحد، فإن قتلت أنت تهلك هذه الأمّة فلا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقال:[لا تحزن يا أبا بكر إنّ الله معنا].

ثم نزل المشركون من الجبل، ولم يقدروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغار ثلاثة أيّام ولياليهنّ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكّة، فلما أمنا طلب «القوم» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالهجرة إلى المدينة، فاستأجر رجلا يقال له عبد الله بن أريقط يهديهم الطريق إلى المدينة فخرج بهما إلى المدينة، فسمع سراقة بن مالك بن مقسم الكناني بخروجه إلى المدينة، فلبس لامته وركب فرسه يتّبع آثارهم حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه، فقال: يا محمّد أدع الله أن يطلق عليّ فرسي فأردّ عنك من أرى من النّاس، فقال صلى الله عليه وسلم:[اللهمّ إن كان صادقا فأطلق فرسه] فرجع سراقة وقدم أبو بكر رضي الله عنه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أتيا المدينة. هكذا روي وفي هذا قصّة طويلة

(1)

.

ومعنى الآية: ألاّ تنصروا محمّدا صلى الله عليه وسلم في الخروج معه إلى تبوك فالله ينصره كما نصره إذ أخرجه الكفار من مكّة وهو ثاني اثنين؛ أي لم يكن معهما غيرهما، وقوله تعالى {(ثانِيَ اثْنَيْنِ)} نصب على الحال؛ أي وهو أحد اثنين. وقوله تعالى:{إِذْ هُما فِي الْغارِ؛} أراد به غار ثور حين خرجا إليه. والغار النّقب الذي يكون في الجبل، وقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا؛} معناه:

إذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لا تحزن على قتلي وذهاب الإسلام إنّ الله يحفظنا ويدفع شرّ المشركين عنّا.

قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ؛} أي أنزل طمأنينة على رسوله حتى سكن واطمأنّ. ويقال: أنزل سكينته على صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لنا سكنا، وقوله تعالى:{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها؛} معناه: أعان محمّدا صلى الله عليه وسلم وقوّاه يوم بدر والأحزاب وحنين بجنود لم تعاينوها وهم الملائكة.

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 143 - 146.والمحرر الوجيز: ص 846 - 847.وجامع البيان: تفسير الآية: الآثار (12995 - 1300).وأصلها في الصحيح عند البخاري: كتاب فضائل الصحابة، وصحيح مسلم، والجامع الترمذي، وفي السيرة النبوية.

ص: 316

قوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى؛} أي وجعل كلمة الشّرك مغلوبة مذمومة، وجعل أهلها أذلّة أسفلين، وقوله تعالى:

{وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا؛} أي وجعل كلمة التوحيد هي الكلمة العالية الممدوحة. قوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)؛أي منيع بالنّقمة ممن عصاه وما حكم به من أمره.

وقوله تعالى: {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً؛} أي انفروا إلى الجهاد في سبيل الله شبابا وشيوخا. وقيل: موسرين ومعسرين. وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل. وقيل:

نشّاطا وغير نشّاط، أي خفّت عليكم الحركة أو ثقلت. قوله تعالى:{وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} في طاعة الله، {ذلِكُمْ؛} الجهاد، {خَيْرٌ لَكُمْ؛} من القعود عنه، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (41)؛أنّ الله صادق في وعده ووعيده.

قوله تعالى: {لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ؛} اسم كان مضمر تقديره: لو كان المدعوّ إليه عرضا قريبا؛ أي غنيمة وسفرا سهلا لاتّبعوك؛ أي لو علموا أنّهم يصيبون مغنما لخرجوا معك، نزل هذا فيمن تخلّف من غزوة تبوك من المنافقين.

قوله تعالى: {وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ؛} أي لكن بعدت عليهم المسافة إلى الشّام، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا؛} في اعتذارهم إليكم لو كان لنا سعة في الزاد والمال، {لَخَرَجْنا مَعَكُمْ؛} في غزاتكم، {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ؛} بالأيمان الكاذبة والقعود عن الجهاد، {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} (42)؛أنّ لهم سعة في المال والزاد وإنّهم لكاذبون في هذا الاعتذار، وقيل: معنى قوله: {(وَسَفَراً قاصِداً)} أي موضعا قريبا.

قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا؛} أي تجاوز الله عنك يا محمّد لم أذنت لهم في القعود عن الجهاد حتى يظهر لكم الذين صدقوا في الاعتذار، {وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} (43)؛في عذرهم، قدّم الله العفو على العتاب حتى يسكن قلبه صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد العفو:(لم أذنت لهم)،ولو أنّ الله

ص: 317

أخبره بالذنب قبل أن يخبره بالعفو لكان يخاف على النبيّ صلى الله عليه وسلم من هيبته قوله: {(لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)} .

قوله تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛} أي لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد. وقوله: {(أَنْ يُجاهِدُوا)} معناه: أن لا يجاهدوا، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (44)؛أي عالم بالمخلصين المطيعين فيميّزهم عن المنافقين.

قوله تعالى: {إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} أي إنما يستأذنك في القعود عن الجهاد الذين لا يصدّقون بالله وبيوم البعث، {وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ؛} أي شكّت واضطربت، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (45)؛ شكّهم يتخيّرون. والرّيب: الشكّ مع اضطراب القلب.

قوله تعالى: {*وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً؛} أي لو أراد الله لهم الخروج معك إلى العدوّ لاتّخذوا له أهبة، {وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ؛} أي لكن لم يرد الله خروجهم معك، لأنّهم لو خرجوا لكان يقع خروجهم على وجه الإضرار بالمسلمين وذلك كفر ومعصية.

قوله تعالى: {فَثَبَّطَهُمْ؛} أي حبسهم، يقال: ثبّطه عن الأمر إذا حبسه عنه، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} (46)؛أي اقعدوا مع النّساء والصبيان.

ويجوز أن يكون القائل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر الله، ويجوز أن يكون قد قال بعضهم لبعض. وقيل: قال لهم الشيطان ووسوس لهم.

ثم بيّن الله أن لا منفعة للمسلمين في خروجهم، بل عليهم مضرّة لهم، فقال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً؛} أي لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا شرّا وفسادا. قوله تعالى: {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ؛} أي لأسرعوا فيما بينكم، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ؛} أي يطلبون فساد الرأي وعيوب المسلمين، ويقال:

ساروا فيكم بالنميمة، والإيضاع: الإسراع في السّير، يقال: أوضع البعير إيضاعا.

ص: 318

قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ؛} أي وفيكم قائلون منهم ما يسمعون منهم، ويقال: في عسكركم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون عنكم، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ} (47)؛يجازيهم على سوء أفعالهم.

قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ؛} أي وقد طلب هؤلاء المنافقون صدّ أصحابك عن الدين، وردّهم إلى الكفر، وتحويل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد، وقوله تعالى:{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ؛} أي اختالوا فيك وفي إبطال دينك بالتحويل عنك، وتشتّت أمرك وكلمتك من قبل غزوة تبوك، فقلّبوا لك الأمور ظهرا لبطن، {حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ؛} أي حقّ الإسلام، وأظهره الله على سائر الأديان، {وَهُمْ كارِهُونَ} (48)؛لذلك. قوله تعالى:{وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ؛} أي دين الله.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي؛} نزل في جدّ بن قيس من المنافقين، دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى العدوّ وحرّضه على الجهاد، فقال لجدّ بن قيس:[هل لك في جلاد بني الأصفر، فتتّخذ منهم سراري ووصفاء] يعني الرّوم.

وكان الأصفر رجلا من الحبشة ملك الرّوم، وغلب على ناحية منها، فتزوجت الحبشة من الرّوم، فولدت لهم بنات أخذن من بياض الرّوم وسواد الحبشة، فكنّ صفرا لعسا لم ير مثلهنّ، فقال له جدّ بن قيس: ائذن لي يا رسول الله أن أقيم، ولا تفتنّي ببنات الأصفر، فقد عرف قومي عجبي بالنّساء، وإنّي أرى المرأة تعجبني فما أملك نفسي حتى أضع يدي على المحرّم، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله أعرض عنه وقال:[أذنت لك]

(1)

.

وقوله تعالى: {(وَلا تَفْتِنِّي)} أي ائذن لي في التخلّف ولا تفتنّي ببنات الأصفر، قال قتادة:(معناه ولا تؤثّمني)

(2)

،وقوله تعالى {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي ألا

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (13047 - 13050).وينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 158.وفي المحرر الوجيز: ص 851.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13052).

ص: 319

في الإثم والشّرك وقعوا بنفاقهم ومخالفتهم أمرك في ترك الجهاد، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} (49)؛أي إنّهم يدخلون جهنّم لا محالة؛ لأن الشيء إذا كان محيطا بالإنسان فإنه لا يفوته.

روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [من سيّدكم يا بني سلمة؟] قالوا: جدّ بن قيس، غير أنّه بخيل. قال صلى الله عليه وسلم:[وأيّ داء أدوى من البخل؟! بل سيّدكم الفتى أبيض الجعد بشر ابن البراء بن معرور]

(1)

فقال فيه حسّان الشّعر

(2)

:

وقال رسول الله والحقّ قوله

لمن قال منّا: من تعدّون سيّدا؟

فقلت له: جدّ بن قيس على الّذي

ببخله فينا وإن كان أنكدا

فقال: وأيّ الدّاء أدوى من الّذي

رميتم به لو على به يدا؟!

وسوّد بشر بن البراء لجوده

وحقّ لبشر بن البرا أن يسوّدا

إذا ما أتاه الوفد أذهب

(3)

ماله

وقال: خذوه؛ إنّني عائد غدا

قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ؛} أي إن تصبك يا محمّد حسنة من فتح وغنيمة تسؤهم تلك الحسنة وتحزنهم يعني المنافقين، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ؛} أي قتل وهزيمة ونكبة، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ؛} أي أخذنا حذرنا بالتخلّف عنهم من قبل هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّوْا؛} عنك، {وَهُمْ فَرِحُونَ} (50)؛مسرورون بما أصابك من الشدّة.

قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا؛} أي قل يا محمّد للمنافقين: لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله علينا في اللّوح المحفوظ، قال الحسن:

(معناه: أنّا لسنا بمهملين بل جميع ما يصيبنا من خير أو شرّ فهو مكتوب في اللّوح المحفوظ)،ويقال: معناه: قل لن يصيبنا في عاقبة الأمر إلاّ ما كتب الله لنا من الفتح

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: الحديث (5018)،وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

(2)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 159 ذكر القرطبي بعضه.

(3)

في المخطوط: (أنهب) بدل (أذهب).

ص: 320

والنّصرة على الكفّار، فإن أصابتنا الهزيمة في الحال فإن أمور العبادة لا تجري إلا على تدبير قد أحكم وأبرم. قوله تعالى:{(هُوَ مَوْلانا)} أي وليّنا يحفظنا وينصرنا. قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (51)؛معنى التوكّل على الله:

تفويض الأمر إليه مع ثقة به.

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (52)؛ أي هل تنتظرون بنا إلا النصر على الكفّار والظّفر بهم، أو القتل على وجه الشّهادة في الدّنيا مع ثواب الآخرة، ونحن ننتظر بكم أحد الشرّين: إما أن يصيبكم الله بعذاب الاستئصال من عنده، أو بأن ينصرنا عليكم فنقتلكم بأسيافنا، فانتظروا ما قلت كي ننتظر نحن بكم عذاب الاستئصال والنّصرة عليكم.

قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ؛} معناه: إن أنفقتم في الجهاد طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين مخافة القتل لن يتقبّل منكم ما أسررتم من الكفر والنفاق، وقد يذكر لفظ الأمر ويراد به الشرط الجزاء كما قال الشاعر:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

معناه: إن أحسنت بنا أو أسأت فأنت غير ملومة

(1)

.

قوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ} (53)؛تعليل نفي قبول صدقتهم؛ لأن النفاق يحبط الطاعة، ويمنع من استحقاق الثواب.

قوله تعالى: {وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ؛} ما منعهم عن إيجاب الثواب لهم على نفقاتهم إلا كفرهم بالله وبرسوله، ومعنى {(نَفَقاتُهُمْ)} أي صدقاتهم. قرأ حمزة والكسائي وخلف «(يقبل)» بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء.

(1)

من شواهد الطبري في جامع البيان: تفسير الآية. والبيت لكثير عزة، يعبر فيه عن الثبات في الأمر على حاله والعهد الذي هو عليه.

ص: 321

وقوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى؛} أي متثاقلون لأنّهم لا يرجون بأدائها ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا، والمعنى أنّهم يصلّون مراءاة الناس، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ} (54)؛وكذلك ينفقون في الزكاة وغيرها لأجل التّستّر بالإسلام، لا لابتغاء ثواب الله. وكسالى جمع كسلان كما يقال سكارى وسكران.

قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ؛} أي لا تعجبك يا محمّد كثرة أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدّنيا، {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} وفي الآخرة، قال الحسن:(لا تسرّك أموالهم ولا أولادهم، إنّما يريد الله ليشدّد عليهم في التّكليف بأن يأمرهم بالإنفاق في الزّكاة والغزو وما شاكل ذلك من المكاره الّتي تشقّ عليهم؛ لأنّهم لا يرجون بذلك ثوابا في الآخرة، ويكونون معذّبين بالإنفاق إذ كانوا ينفقونها على كره منهم).وقيل: أراد بقوله {(لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)} أي ما ينالهم من المصائب في أموالهم لا تكون كفّارة لذنوبهم. قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ؛} أي تخرج أنفسهم على الكفر. قوله تعالى: {وَهُمْ كافِرُونَ} (55)؛أي في حال كونهم كافرين. والزّهق خروج الشيء بصعوبة وأصله الهلاك.

قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ؛} معناه: أنّ هؤلاء المنافقين يحلفون للمؤمنين أنّهم على دينهم، يقول الله تعالى:{(وَما هُمْ مِنْكُمْ)} أي ليسوا على دينكم، {وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (56)؛أي يخافون من المسلمين، فأظهروا الإسلام وأسرّوا النفاق.

قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (57)؛معناه: لو يجدون حرزا يلجئون إليه ويتحصّنون فيه، أو غيرانا في الجبال أو سربا في الأرض، أو قوما يمكنهم الدخول فيما بينهم يحفظونهم عنكم، لصبوا إليهم وهم يجمحون؛ أي يسبقون ويسرعون إسراعا لا يردّ وجوههم بشيء.

يقال: فرس جموح إذا ذهب في عدوه لم يرده اللّجام، قال عطاء في معنى قوله لو

ص: 322

يجدون ملجأ: (أي مهربا)

(1)

،وقال ابن كيسان:(قوما يأمنون فيهم).

قرأ عبد الرحمن بن عوف «(أو مغارات)» بضمّ الميم، وقوله تعالى:{(أَوْ مُدَّخَلاً)} قال الكلبيّ: (نفقا في الأرض كنفق اليربوع)

(1)

وقيل: معناه: موضع دخول يدخلون فيه. وقرأ الحسن «(مدخلا)» بفتح الميم وتخفيف الدال، وقرأ أبيّ «(مندخلا)» بإثبات النّون. وقوله تعالى:{(لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)} قرأ الأشهب العقيليّ «(لوالوا إليه)» بالألف من الموالات

(2)

؛أي تابعوا وسارعوا.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ؛} أي من المنافقين من يعيبك في الصّدقات، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها؛} الصدقة مقدار مرادهم، {رَضُوا؛} بالقسمة، {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها؛} لا يرضون بالقسمة.

نزلت هذه الآية في أبي الجوّاظ وغيره من اللمّازين من المنافقين، كما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصدقات فقال أبو الجوّاظ: ما ترون صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، فقال صلى الله عليه وسلم:[لا أبا لك، أما كان موسى عليه السلام راعيا! أما كان داود عليه السلام راعيا!] فذهب أبو الجوّاظ، فقال صلى الله عليه وسلم:[احذروا هذا وأصحابه] فأنزل الله هذه الآية

(3)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التّميميّ فقال: اعدل يا رسول الله، فقال:[ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟!] فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم:[دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته وصومه مع صيامه، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية]

(4)

.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 564.

(2)

ينظر: المحرر الوجيز: ص 854.واللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 119.

(3)

عزاه البغوي في معالم التنزيل: ص 565 إلى الكلبي.

(4)

أخرجه البخاري: كتاب استتابة المرتدين: باب من ترك قتال الخوارج: الحديث (6933).واسم ذي الخويصرة: حرقوص بن زهير؛ قيل: إنه أصل الخوارج. ينظر: فتح الباري: شرح الحديث.

ص: 323

قرأ الحسن ويعقوب «(يلمزك)» بضمّ الميم، وقرأ الأعمش «(يلمّزك)» بضم الياء وتشديد الميم، يقال: لمزه وهمزه إذا أعابه، ورجل همزة لمزة، وقال عطاء:(معنى يلمزك أي يغتابك)

(1)

.قوله تعالى: {إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ} (58)؛قرأ إياد بن لقيط

(2)

«(إذا هم ساخطون)»

(3)

.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛} أي لو رضوا ما رزقهم الله وما يعطيهم رسوله من العطيّة والصدقة، {وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ؛} أي كافينا الله سيعطينا الله من رزقه، وسيعطينا رسوله مما يكون عنده من السّعة والفضل وقالوا:{إِنّا إِلَى اللهِ؛} أي فيما عنده من الثواب، {راغِبُونَ} (59)؛لكان خيرا لهم وأعود عليهم، إلا أنه حذف الجواب؛ لأن الحذف للجواب في مثل هذا الموضع أبلغ من الإثبات؛ لأنّك إذا حذفت الجواب ذهبت فيه النفس كلّ مذهب.

قوله تعالى: {*إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ؛} قال ابن عبّاس والحسن وجابر بن زيد والزهريّ ومجاهد: (الفقير المتعفّف الّذي لا يسأل النّاس، والمسكين الّذي يسأل).ومعنى الآية: إنّما الصدقات لهؤلاء المذكورين لا للمنافقين.

قال ابن عبّاس: (الفقراء هم أصحاب الصّفّة، صفّة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم منازل في المدينة ولا عشائر، فأووا إلى صفّة مسجد رسول الله، يلتمسون الرّزق بالنّهار ويأوون إليه باللّيل، فمن كان عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسوا).قال: (والمساكين هم الطّوّافون الّذين يسألون النّاس).

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10341) قال: ((الطّعن عليك في الصّدقات))

(2)

في تفسير القرآن العظيم: ج 6 ص 1816: النص (10345)؛قال ابن أبي حاتم: ((بسنده عن أبي الفضل قال: سمعت زياد بن لقيط يقرأ. قال: قلت لسهل بن عثمان: لعله إياد بن لقيط، فأبى أن يدع قوله: زياد)).

(3)

في الدر المنثور: ج 4 ص 220؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو الشيخ عن إياد بن لقيط)).

ص: 324

فعلى هذا المسكين أفقر من الفقير، ومن الدليل على ذلك أنّ الله قال:

{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} ثم قال: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ}

(1)

، ومعلوم أن الجاهل بحال الفقير لا يحسبه غنيّا إلاّ وله ظاهر جميل ويده حسنة، وقال تعالى:{أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ}

(2)

.قيل في التفسير: الذي قد لصق بالتّراب وهو جائع عار ليس بينه وبين التراب شيء يقيه. وقال أبو العبّاس ثعلب: (حكي عن بعض أهل اللّغة أنّه قال: قلت لأعرابيّ: أفقير أنت؟ قال: لا؛ بل مسكين. وأنشد الأعرابيّ:

أمّا الفقير الّتي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

(3)

فسمّاه فقيرا مع وجود الحلوبة)

(4)

.وقال محمّد بن مسلمة: (الفقير الّذي لا ملك له) قال: (وكلّ شيء محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه)،واحتجّ من قال: إن الفقير أفقر من المسكين بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}

(5)

فأضاف السفينة إليهم، وهذا لا دلالة فيه لأنه روي أنّهم كانوا فيها أجراء.

قوله تعالى: {وَالْعامِلِينَ عَلَيْها،} يعني السّعاة الذين يجلبون الصّدقة، ويتولّون قبضها من أهلها، يعطون منها سواء كانوا أغنياء أم فقراء، واختلفوا في قدر ما يعطون، قال الضحّاك:(يعطون الثّمن من الصّدقة)

(6)

،وقال مجاهد:(يأكل العمّال من السّهم الثّامن)

(7)

،وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:(يعطون على قدر عمالتهم)

(8)

،وقال الأعمش:(يعطون بقدر أجور أمثالهم وإن كان أكثر من الثّمن)، وقال مالك وأهل العراق:(إنّما ذلك للإمام واجتهاده يعطيهم الإمام قدر ما رأى)، وعن ابن عمر:(يعطون بقدر عملهم)،وعند الشافعيّ:(يعطون ثمن الصّدقات).

(1)

البقرة 273/.

(2)

البلد 16/.

(3)

السّبد: الوبر، وقيل: الشّعر، والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد، أي ما له ذو وبر ولا صوف متلبد، ويكنى بهما عن الإبل والغنم.

(4)

ينظر: لسان العرب: مادة (فقر):ج 10 ص 299.ونقله المنذري عن ابن فهم؛ ينظر: تهذيب اللغة للأزهري: ج 9 ص 103: مادة (فقر).

(5)

الكهف 79/.

(6)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13092).

(7)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13093).

(8)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13094).

ص: 325

قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛} هم قوم كان يعطيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يتألّفهم على الإسلام، كانوا رؤساء في كلّ قبيلة، منهم أبو سفيان بن حرب من بني أميّة، والأقرع بن حابس، وعقبة بن حصن الفزاري وغيرهما من بني عامر بن لؤي، والحارث بن هشام المخزوميّ، وسهيل بن عمرو الجمحيّ من بني أسد، والعباس بن المرداس من بني سليم، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المؤلّفة قلوبهم إلى أبي بكر وطلبوا منه سهمهم، فأمرهم أن يكتبوا كتابا، فجاءوا بالكتاب إلى عمر رضي الله عنه ليشهد، فقال عمر: إيش هذا؟ قالوا: سهمنا، فقال عمر رضي الله عنه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}

(1)

إنّ الإسلام أجلّ أن يرسى عليه. ثم أخذ عمر كتابهم ومزّقه وقال: إنّما كان النّبيّ يعطيكم يتألّفكم على الإسلام

(2)

،فاليوم فقد أعزّ الله الإسلام، فإن ثبتّم على الإسلام وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف. فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟! فقال: هو إن شاء! فبطل سهمهم.

قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ؛} معناه عند أكثر الناس في فكاك الرّقاب وهم المكاتبون، وذهب مالك إلى أنّهم رقاب يبتاعون من الزّكاة ويعتقون، فيكون ولاؤهم لجميع المسلمين دون المعتقين، قال:(ولا يعطى المكاتب من الزّكاة ولا من الكفّارات شيئا).

وقد روي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني عملا يدخلني الجنّة؟ قال: [فكّ الرّقبة وأعتق النّسمة] قال: أوليسا سواء؟ قال: [لا؛ فكّ الرّقبة أن تعين في عتقها]

(3)

،فاقتضى قوله تعالى {(وَفِي الرِّقابِ)} المعوضة في العتق.

قوله تعالى: {وَالْغارِمِينَ؛} يعني المديونين الذين لا يكون لهم فضل نصاب على الدّين؛ لأنّ المال وإن كان في أيديهم فهو مستحقّ أيديهم، وقال مجاهد

(1)

الكهف 29/.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10376).والطبري في جامع البيان: الأثر (13107) مختصرا.

(3)

أخرجه الدارقطني في السنن: كتاب الزكاة: باب الحث على إخراج الصدقة: ج 2 ص 135: الحديث (1).وفي موارد الضمآن إلى زوائد ابن حبان: الحديث (1209) وإسناده صحيح. وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 240؛قال الهيثمي: ((رواه الإمام ورجاله ثقات)).وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 299.

ص: 326

والزهري: (إنّما تحلّ الصّدقة للمديونين إذا كان الدّين قد لحقه بغير إسراف ولا معصية)

(1)

،وقال قتادة:(الغارمون هم قوم لحقهم ديون في غير تبذير ولا فساد)، وعن مجاهد:(أنّ الغارم من احترق بيته، أو ذهب السّيل بماله، أو أدان على عياله)

(2)

.

قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ؛} أراد به المجاهدين إذا انقطعوا عن أزوادهم وراحلتهم، وقال أبو يوسف:(هم الفقراء الغزاة)،وأما إذا كان الغازي غنيّا اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد:(لا يعطى الغازي الغنيّ)،وقال الشافعيّ ومالك:(يعطى الغازي الغنيّ) وحجّتهما قوله عليه السلام: [لا تحلّ الصّدقة لغنيّ إلاّ لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، ورجل كان له جار مسكين فتصدّق على المسكين فأهدى إليه جاره، وفي سبيل الله وابن السّبيل]

(3)

.

قوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ؛} هو المسافر المنقطع عن ماله، سمّي بذلك لملازمته السّبيل، كما يقال: ابن الغنيّ وابن الفقير، قال مجاهد والزهري:(لابن السّبيل حقّ في الزّكاة وإن كان غنيّا)

(4)

قال قتادة: (ابن السّبيل هو الضّيف)

(5)

.

قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللهِ؛} أي فرض الله هذه الأشياء فريضة، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بمصالح عباده، {حَكِيمٌ} (60)؛في أفعاله. والفرض في ذكر الأصناف في هذه الآية بيان أنه لا يجوز إخراج الصّدقة منهم إلى غيرهم؛ لأن الحاجة في جميع الأصناف المذكورين في هذه الآية موجودة، ولأن من عليه الزكاة إذا حمل الزكاة بنفسه إلى الإمام لم يكن لأحد من العمّال في ذلك نصيب. وقال الشافعيّ:(تقسم الصّدقة على الأصناف الثّمانية، كما هو مذكور في الآية، إلاّ أن يفقد صنف فيقسم على الباقين).وقيل: يقسم على أصله على سبعة أصناف؛ لأن

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13125) عن مجاهد، والأثر (13116) عن الزهري.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13114) بإسنادين.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13122) مرسلا عن عطاء، والحديث (13123) عن أبي سعيد الخدري.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13125).

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13127).

ص: 327

المؤلّفة قد سقطوا، قال:(ويعطى كلّ منهم من الثّمانية ثلثه من أهل كلّ صنف، فإن أعطى اثنين ضمن ثلث سهم).

واختلف العلماء في المقدار الذي إذا ملكه رجل دخل في حدّ الغنى، وخرج من حدّ الفقر، قال بعضهم: إذا كان عند أهله قوت يومهم، واستدلّ بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:

[من سأل عن ظهر غنى، فإنّما يستكثر من جمر جهنّم] قيل: يا رسول الله وما ظهر الغنى؟ قال: [أن تعلم أنّ عند أهله ما يعيّشهم ويغدّيهم]

(1)

.

وقال بعضهم: اذا ملك أربعين درهما أو عدلها من الذّهب، واستدلّ بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:[من سأل منكم وعنده أوقيّة أو عدلها من الذّهب فقد سأل إلحافا]،وكانت الأوقيّة يومئذ أربعين درهما

(2)

.

وقال بعضهم: إذا ملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلاّ جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خدوش] قيل: يا رسول الله وما غناه؟ قال: [خمسون درهما، أو عدلها من الذّهب]

(3)

.

والصحيح: أنّ من ملك مائتي درهم أو عدلها من فرض أو غيره فاضلا عن ما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأتان وفرس، لم تحلّ له الصدقة لقوله عليه السلام:[إنّي أمرت أن آخذ الصّدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم]

(4)

فجعل الناس فريقين، ولا خلاف أن الذي يملك مائتي درهم يكون غنيّا، فوجب أن لا يكون داخلا في الفقراء، ولو كان الاعتبار بالضّرورة لكان الذي له غداء دون العشاء أو عشاء دون الغداء لا

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 180 - 181.وأبو داود في السنن: كتاب الزكاة: باب من يعطى من الصدقة: الحديث (1629).والطبراني في الكبير: الحديث (5620) وإسناده صحيح. وفي الإحسان ترتيب صحيح ابن حبان: الحديث (545).

(2)

أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الزكاة: باب من يعطى من الصدقة: الحديث (1627). والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب قسم الصدقات: الحديث (13487).

(3)

ينظر ما قبله.

(4)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 172.

ص: 328

تحلّ له الصدقة، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:[للسّائل حقّ وإن جاء على فرس]

(1)

والفرس في الكثير الأحوال يساوي أكثر من أربعين درهما.

قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ الجماعة من المنافقين منهم جلاّس بن سويد ومخشيّ بن حميّر

(2)

وأبو ياسر بن قيس وسماك بن يزيد وعبيد بن هلال ورفاعة بن التّابوت

(3)

كانوا يؤذون النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون فيه ما لا يجوز، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنّا نخاف أن يبلغه الخبر، فقال الجلاّس: بل نقول ما شئنا ثمّ نأتيه فيصدّقنا في ما نقول، فإنّ محمّدا أذن سامعة. فأنزل الله هذه الآية)

(4)

.ومعناها: ومن هؤلاء المنافقين من يؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو صاحب أذن يصغي إلى كلّ أحد، ويقبل كلّ ما قيل له.

قوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ؛} أي قيل: هو مستمع بخير لا مستمع بشرّ، وقيل: معناه: هو يستمع إلى ما هو خير لكم وهو الوحي. وقرأ الحسن:

«(هو أذن خير لكم)» كلاهما بالتنوين والضمّ، معناه: إن كان كما قلتم فهو خير لكم يقبل عذركم. وقرأ نافع: «(قل أذن)» بجزم الذال وهو لغة في الأذن. قوله تعالى:

{يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛} أي يصدّق بما أنزل عليه، والإيمان بالله لا يعمل إلا بالحقّ، ويؤمن للمؤمنين أي يصدّق المؤمنين في ما يخبرونه.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 3 ص 131:الحديث (2893).وأصله عند الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 201.وأبي داود في المسند: الحديث (1665 و 1666)،وقد تقدم.

(2)

مخشيّ بن حميّر الأشجعي: حليف لبني سلمة من الأنصار، كان من المنافقين وأرجف يوم تبوك، ثم تاب وحسنت توبته، وسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيدا، قتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر. ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: الرقم (2379).وفي المخطوط: (مخشي ابن خويلد) وهو تصحيف.

(3)

أو رافع بن تابوت، في الإصابة: ج 2 ص 488:الترجمة (2663) رفاعة بن ثابت، وهو غير رفاعة بن تابوت المنافق.

(4)

القصة ذكرها أهل التفسير باختصار وبألفاظ يكمل بعضها بعضا، ينظر: جامع البيان: الأثر (13149 - 13155).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (10300).

ص: 329

واختلفوا في ال (لام) التي للمؤمنين، فقال بعضهم هي زائدة كما في قوله تعالى:{رَدِفَ لَكُمْ}

(1)

معناه: ردفكم. قال بعضهم: إنما ذكر اللام للفرق بين التّصديق والإيمان، فإنه إذا قيل: ويؤمن للمؤمنين لم يقبل غير التصديق، كما في قوله:{وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا}

(2)

أي بمصدّق، وقوله تعالى:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}

(3)

أي لن نصدّقكم.

قوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ؛} قرأ الحسن والأعمش وحمزة بالخفض على معنى: أذن خير وأذن رحمة، وقرأ الباقون:«(ورحمة)» بالرفع يعني: هو رحمة، جعل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمة لهم؛ لأنّهم إنما نالوا الإيمان بدعائه وهدايته. قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (61)؛وعيد من الله لهؤلاء المنافقين على مقالتهم. قال ابن عبّاس: (فلمّا نزلت هذه الآية جاءوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحلفون أنّهم لم يقولوا فأنزل الله هذه الآية:

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ؛} ولم يقل يرضوهما؛ لأنه يكره الجمع بين ذكر اسم الله وذكر اسم رسوله في كناية واحدة، كما روي أنّ رجلا قام خطيبا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال صلى الله عليه وسلم:[بئس الخطيب أنت! هلاّ قلت: ومن يعص الله ورسوله؟]

(4)

.وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: [لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله، ثمّ شاء فلان]

(5)

فكره الجمع بين الله وبين غيره في الذكر تعظيما لله. والضمير في قوله (يرضوه) إلى الواحد؛ لأنّ رضى الله متضمّن رضى رسوله. وقوله: {إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ} (62)؛إن كانوا مصدّقين بقلوبهم غير منافقين كما يدّعون، فطلبهم رضى الله أولى من طلبهم رضاكم.

(1)

النمل 72/.

(2)

يوسف 17/.

(3)

التوبة 94/.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 256.ومسلم في الصحيح: كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة: الحديث (870/ 48).

(5)

عن حذيفة رفعه؛ أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب لا يقال خبثت نفسي: الحديث (4980).وابن ماجة في السنن: كتاب الكفارات: باب النهي أن يقال: الحديث (2118)، وإسناده صحيح.

ص: 330

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها؛} معناه: ألم يخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من خالف الله ورسوله في الدّين فيجعل نفسه في حدّ، والله ورسوله في حدّ فله نار جهنّم، ودخلت (أنّ) مؤكّدة وهي إعادة أن الأولى؛ لأنه لما طال الكلام كانت إعادتها أوكد. ومن قرأ بالكسر فهو على الاستئناف. قوله تعالى:{ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (63)؛أي ذلك الهوان الشديد الدائم.

قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ؛} الكثير من المفسّرين على (أنّ) اخبار من المنافقين أنّهم يحذرون أنّ الله نزّل عليهم سورة تخبر عن ما في قلوبهم من النّفاق والشّرك، فإنّ بعض المنافقين كانوا يعلمون نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يكفرون عند أهل الشّرك عنادا وحسدا، وبعضهم كانوا عند أنفسهم شاكّين غير مستبصرين، وكانوا يخافون إذا أذنبوا ذنبا أن ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرآن ما يكشف عن نفاقهم، وفي الآية ما يدلّ على هذا وهو قوله تعالى:{(مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)} أي مظهر ما تخافون من ظهور النّفاق، وعن هذا سمّيت هذه السورة (سورة الفاضحة)؛لأنّها فضحت المنافقين، وتسمّى أيضا (الحافرة)؛لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين.

وقوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ} (64)؛ تهديد وإن كان لفظ الأمر، كما في قوله:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ}

(1)

،وذهب الزجّاج إلى أنّ قوله:{(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ)} لفظة إخبار ومعناه: الأمر كلّه، كأنه قال: ليحذر، وهذا كما قال:{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ}

(2)

.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ؛} وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينما هو في مسيره راجع من غزوة تبوك، وثلاثة نفر يسيرون بين يديه، فجعل رجلان يستهزءان برسول الله ويقولون: إنّ محمّدا قال: نزل في أصحابنا الّذين يحلفوا كذا وكذا، والثّالث يضحك ممّا يقولون ولا يتكلّم بشيء.

(1)

فصلت 40/.

(2)

البقرة 228/.

ص: 331

فنزل جبريل عليه السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يقولون، فدعا عليه السلام عمّارا وقال:

[إنّهم يتحدّثون بكذا وكذا، ولئن سألتهم ليقولنّ: إنّما كنّا نخوض ونلعب، انطلق إليهم واسألهم عمّا يتحدّثون، وقل لهم: أحرقتم أحرقكم الله] ففعل ذلك عمّار، فجاءوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: كنّا نخوض ونلعب فيما يخوض فيه الرّكب إذا سار. فأنزل الله هاتين الآيتين.

وعن الحسن وقتادة: (أنّهم كانوا في غزوة تبوك، فقالوا: أيطمع هذا الرّجل أن يفتح له قصور الشّام؟ هيهات ما أبعده عن ذلك! فأطلع نبيّه على ذلك)

(1)

.قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ} (65)؛منه ألف استفهام، معناه: النّيّة لهم على ما كانوا يفعلونه.

وقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا؛} أي لا تعتذرون عن مقالتكم، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؛} أي قد أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فإنّهم قطّ لم يكونوا مؤمنين، ولكن كانوا منافقين.

قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً؛} وفيه قراءتان، هذه بالضّمّ على ما لم يسمّ فاعله، والثانية:«(إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة)» بالنصب، قال ابن عبّاس: (معناه: إن يعف عن الرّجل الّذي لم يتكلّم بشيء ولكنّه يضحك وهو مخشيّ بن حميّر

(2)

،يعذّب الرّجلان اللّذان كانا يتكلّمان بالهمز)

(3)

{بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} (66)؛أي كافرين في السّرّ، وكلّ معصية جرم إلاّ أنّه أراد بالجرم ههنا الكفر.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13153) عن قتادة.

(2)

ينظر: معالم التنزيل: ص 569.وفي المخطوط صحف الناسخ الاسم فقال: (جهين بن حميد). ترجم له ابن عبد البر في التمهيد: ج 3 ص 437:الرقم (2379)،وقال:(مخشي بن حمير الأشجعي حليف لبني سلمة من الأنصار، كان من المنافقين، وسار مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك حين أرجفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تاب وحسنت توبته، وسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيدا، لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر).

(3)

أخرجه أبو حاتم الرازي في التفسير: الأثر (10403) مختصرا. والطبري في جامع البيان: الأثر (13156) عن ابن إسحاق وسماه. ينظر: السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 168.

ص: 332

قوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ؛} أي بعضهم مضاف إلى بعضهم لاجتماعهم على الشّرك والاستهزاء بالمسلمين، كما يقال: أنا من فلان وفلان منّي؛ أي أمرنا واحد وكلمتنا واحدة. قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ؛} أي بالكفر والمعاصي، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ؛} أي عن الإيمان والطاعة. وقوله تعالى:{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ؛} قال الحسن ومجاهد:

(أي يمسكونها عن النّفقة في الجهاد)،وقيل: عن الزّكوات المفروضة، وقال قتادة:

(عن الخيرات كلّها).

قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ؛} أي تركوا أمر الله وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسيّ عندهم بإعراضهم عنه، فتركهم الله من رحمته حتى صاروا كالمنسيّين عنده، وإن كان النّسيان مما لا يجوز على الله إلاّ أنه قال (فنسيهم) لمزاوجة الكلام، كما في قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}

(1)

،قال تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}

(2)

،وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (67)؛أي هم المتمرّدون في الكفر والفسق وفي كلّ شيء، والمتمرّد فيه وإن كان النفاق أعظم من الفسق.

وقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها؛} في الآية جمع بين المنافقين وبين الكفّار في التسمية، وإن كان المنافقون هم الكفار؛ لتكون الآية دالّة على أنّ المنافقين يلحقهم الوعيد من جهتين، من جهة الكفر والنّفاق.

وجهنّم من أسماء النار يقول العرب للبئر البعيدة القعر: جهنام، فيجوز أن تكون جهنّم مأخوذة من هذه اللّفظة لبعد قعرها. وقوله تعالى:{هِيَ حَسْبُهُمْ؛} أي كفايتهم على ذنوبهم؛ لأن فيها جزاء أعمالهم. قوله تعالى: {وَلَعَنَهُمُ اللهُ؛} أي أبعدهم من الثواب والمدح في الدّنيا، وعن الثواب والرحمة في الآخرة، {وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} (68)؛أي عذاب دائم.

(1)

البقرة 194/.

(2)

الشورى 40/.

ص: 333

قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً؛} أي وعد الله أهل زمانكم على الكفر والنّفاق نار جهنّم، كما وعد الذين من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة في البدن وأكثر أموالا وأولادا، {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ،} فانتفعوا بنصيبهم وحظّهم في الدّنيا، ولم ينفعهم ذلك حين نزل بهم عذاب الله، فكذلك أنتم، والخلاق هو النصيب من الخير.

وقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ؛} أي فاستمتعتم أنتم بنصيبكم من الدّنيا وخضتم فيها، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا؛} أي خضتم في الكفر والاستهزاء بالمؤمنين كما خاض الأوّلون.

وقوله تعالى: {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ؛} أي أهل هذه الصّفة حبطت أعمالهم التي عملوها على جهة البرّ مثل الإنفاق في وجوه الخير ومثل صلة الرّحم حبطت، {فِي الدُّنْيا؛} حتى لا يستحقّوا بها الإكرام والتعظيم في الدّنيا، و، حبطت في، {وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (69)؛الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، والخسران هو ذهاب رأس المال من دون أصله.

قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ؛} معناه: ألم يأت المنافقين والكفار خبر من قبلهم كيف أهلكهم الله عز وجل حين تمرّدوا في الكفر، واستهزءوا بالمؤمنين وهم قوم نوح، أهلكهم الله بالغرق، وعاد قوم هود أهلكهم الله بالريح، وثمود أهلكهم الله بالصّيحة والرّجفة وهم قوم صالح، وقوم إبراهيم أهلكهم الله نمرودهم بالبعوض وسائر قومه بالهدم، وأصحاب مدين قوم شعيب أهلكهم الله بالصّيحة وعذاب الظّلّة، ومدين بئر مدين بن إبراهيم نسبت القرية إليه.

قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكاتِ؛} أي المنقلبات وهي قريات قوم لوط أهلكهم الله بالخسف، وقلب مدائنهم عليهم. ويقال: أراد بالمؤتفكات كلّ من انقلب أمرهم عليهم من الخير إلى الشرّ. يقال: الهالك انقلبت عليه الدّنيا. قوله تعالى:

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالحجج والبراهين، {فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (70)؛أي لمّا كذبوا الرّسل وكفروا

ص: 334

بالآيات أهلكهم، ولم يكن ذلك ظلما؛ لأنّهم استحقّوا ذلك بعملهم فكانوا هم الظالمين لأنفسهم.

قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ؛} أي بعضهم أنصار بعض. قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي بالتّوحيد واتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم وشرائعه، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛} عن ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ؛} الخمس بشرائطها، {وَيُؤْتُونَ؛} ويؤدّون، {الزَّكاةَ؛} الواجبة في أمواله، {وَيُطِيعُونَ اللهَ؛} في الفرائض، {وَرَسُولَهُ؛} في السّنن، {أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ؛} أي ينعم عليهم في الآخرة، والرحمة هي النّعمة على المحتاج.

وعن بعض أهل الإشارة: سيرحمهم في خمسة مواضع: عند الموت وسكراته، وفي القبر وظلماته، وعند قراءة الكتاب وحسراته، وعند الميزان وندامته، وعند الوقوف بين يدي الله ومسئولاته. وقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) أي غالب في ملكه وسلطانه، تجري أفعاله على ما توجبه الحكمة.

قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} أي بساتين تجري من تحت شجرها وغرفها أنهار الماء والعسل والخمر واللّبن، {خالِدِينَ فِيها؛} أي مقيمين دائمين فيها. قوله تعالى:{وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ؛} أي مساكنها ظاهرة عامرة يطيب بها العيش، قال الحسن:(هي مساكن بناها الله من اللّئالئ واليواقيت الحمر والزّبرجد الأخضر).

وقوله: {(فِي جَنّاتِ عَدْنٍ)} أي في بساتين إقامة، قال ابن عبّاس:(جنّات عدن في وسط الجنّة، والجنّات حولها محدقة بها وهي معطاة منذ خلقها الله حتّى ينزلها أهلها النّبيّون والصّدّيقون والشّهداء والصّالحون).وعن مجاهد قال: (قال عمر رضي الله عنه وهو على المنبر: هل تدرون ما جنّات عدن؟ قصور في الجنّة من ذهب، لكلّ قصر خمسمائة ألف باب، على كلّ باب نحو خمس وعشرين ألفا من الحور العين، لا يدخلها إلاّ نبيّ، وهنيئا لصاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّق، وهنيئا لأبي بكر أو شهيد، وإنّي لعمر الشّهادة).

ص: 335

قوله تعالى: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ؛} أي رضى الرب عنهم أكبر وأعظم من هذا النعيم كلّه لأنّهم إنّما نالوا ذلك كله برضوان الله عز وجل، والرّضوان: إرادة الخير والثواب. قوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (72) أي ذلك الذي ذكرت هو الحياة الوافرة، نجوا من النار وظفروا بالجنّة.

وعن الحسن في قوله تعالى: {(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)} أي سرور في الآخرة برضوان الله عنهم يكون أكثر من سرورهم بهذا النّعيم كلّه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[إذا أنزل الله أهل الجنّة منازلهم، قال: ألا أعطيكم ما هو أكبر من هذا كلّه؟ فيقولون: بلى يا رب وما أكبر من ذلك؟ يقول الله تعالى: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا]

(1)

.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛} أي جاهد الكفّار بالسّيف والمنافقين باللّسان، واغلظ على الفريقين جميعا، {وَمَأْواهُمْ،} ومصيرهم في الآخرة، {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (73)؛ الموضع الذي يصيرون إليه، وقال الحسن:(معناه جاهد الكفّار بالقتال، والمنافقين بالحدود، فإنّهم كثيرو التّعاطي للأسباب الموجبة للحدود)

(2)

.

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت في عبد الله بن أبي والجلاّس بن سويد وعامر ابن النّعمان وغيرهم، كانوا خمسة عشر رجلا، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بتبوك وسمّاهم رجسا، فقال الجلاّس: لئن كان ما يقول محمّد حقّا على إخواننا فنحن شرّ من الحمير، فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إنّ محمّدا لصادق ولأنتم شرّ من الحمير.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13182).والبخاري في الصحيح: كتاب التوحيد: باب كلام الرب مع أهل الجنة: الحديث (5718).ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة: باب إحلال الرضوان على أهل الجنة: الحديث (2829/ 9).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (3188).

ص: 336

فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخبره عامر بن قيس بما قال الجلاّس، فقال الجلاّس: يكذب عليّ يا رسول الله! فأمرهما رسول الله أن يحلفان على المنبر، فحلفا جميعا، فرفع عامر بن قيس يده إلى السّماء، فقال: اللهمّ أنزل على نبيّك وبيّن الصّادق، فقال صلى الله عليه وسلم:[آمين] فأنزل الله هذه الآية)

(1)

.ومعناها: يحلفان المنافقون بالله ما تكلّموا بكلمة الكفر ولقد تكلّموا بها وأظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام. وقيل: كفروا بقولهم ذلك بعد ما كانوا أسلموا على زعمهم.

قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا؛} أي قصدوا إلى ما لم يصلوا إلى ذلك، والهمّ بالشّيء في اللّغة: مقاربته دون الوقوع فيه، قيل: إنّهم كانوا همّوا بقتل الذي أنكر عليهم قولهم. وقيل: معنى الآية: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة بني المصطلق، وقد جمعوا له ليقاتلوا، فالتقوا على مائهم فهزمهم الله وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم ورجع، فلما نزل منزلا في الطريق اختصم رجل من أصحاب عبد الله بن أبيّ ورجل من المخلصين غفّاري يقال له جهجاه، فلطم الغفاريّ صاحب عبد الله بن أبي، فغضب عبد الله وقال: ما صحبنا محمّدا إلاّ لتلطم، ثم نظر إلى أصحابه قال: لقد أمرتكم أن تكفّوا طعامكم عن هذا الرجل ومن معه حتى يتفرّقوا فلم يفعلوا، والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فقال الغفاريّ:

أتقول مثل هذا؟! والله لئن شئت لألطمنّك، قال عبد الله: سمّن كلبك يأكلك! فقال زيد بن أرقم وكان غلاما حديث السنّ: يا عدوّ الله وعدوّ رسوله، أتقول هذا؟! والله لأبلّغنّ رسول الله ما قلت.

ثم انطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعلمه وعنده عمر رضي الله عنه، فقال عمر: يا رسول الله مر عبّاد بن قشّ فيقتله، فقال:[يا عمر إذا يحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه] فبلغ عبد الله بن أبي ما قال زيد بن أرقم، فمشى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه أشراف الأنصار يصدّقونه ويكذّبون زيدا ويقولون: يخشى أن يكون زيد قد وهم، وكان ابن أبيّ يحلف بالله ما قال ذلك، فقال أسيد: يا رسول الله ارفق بعبد الله، فو الله لقد جاء الله

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13190 و 13191).

ص: 337

تعالى بك وإنّ قومه ليتوّجونه، فهو يرى أنّك سلبته ملكا عظيما. فساء رسول الله يومه ذلك حتّى أمسى، وليلته حتّى أصبح ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول ابن أبيّ {(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا)} ونزل {(لِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)}

(1)

.

وقوله تعالى: {وَما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ؛} معناه:

وما طعنوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلاّ أن أغناهم الله من فضله وأغناهم رسوله، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة وكان أهلها من شدّة العيش لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة استغنوا.

قوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ؛} أي إن يتوبوا من النّفاق يكن خيرا لهم في الدّنيا والآخرة، {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} وإن يعرضوا عن التوبة يعذّبهم الله في الدنيا بالقتل، ويقال: بإظهار حالهم في الآخرة بالنار، {وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (74)؛أي وما لهم في الأرض من حافظ يحفظهم، ولا دافع يدفع عنهم عذاب الله، قال ابن عبّاس:(فلمّا نزلت هذه الآية قال الجلاّس بن سويد: يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التّوبة، صدق عامر بن قيس فيما قال لك، وأنا أستغفر الله عز وجل وأتوب إليه. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ تاب وحسنت توبته)

(2)

.

قوله تعالى: {*وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ (75) فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (76)؛ قال ابن عبّاس: (معناه: ومن المنافقين من عاهد الله وهو ثعلبة بن حاطب، كان له مال بالشّام فأبطئ عليه، فجهد لذلك جهدا شديدا، فحلف بالله لئن آتانا من فضله يعني المال الّذي له بالشّام لنصّدّقنّ منه، ولنصلنّ الرّحم ولنؤدّينّ من حقّ الله، ولنكوننّ من المقيمين لفرائض الله، فآتاه الله المال الّذي كان له بالشّام، فبخل بما وعد ولم يفعل ما عاهد الله عليه)

(3)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: تفسير الآية 8 من سورة المنافقين: الحديث (26481).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13203) من طريقين.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13204).

ص: 338

وعن أبي أمامة الباهلي: أنّ ثعلبة بن حاطب جاء إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فقال له:[ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه] ثمّ رجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أدع الله أن يرزقني مالا، فقال:

[ويحك يا ثعلبة! أما ترضى أن يكون لك مثل نبيّ الله] فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سألت الله أن يسيّل على الجبال ذهبا وفضّة لسالت، يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فو الله لئن آتاني الله مالا لأوتينّ كلّ ذي حقّ حقّه، فقال صلى الله عليه وسلم:[اللهمّ ارزق ثعلبة مالا] ثلاث مرّات.

فاتّخذ غنما فنمت حتّى ضاقت بها أزقّة المدينة فتنحّى بها، وكان يشهد الصّلوات مع رسول الله ثمّ يخرج إليها، ثمّ نمت حتّى تعذرت بها مرامي المدينة فتنحّى بها، وكان يشهد الجمع مع رسول الله، ثمّ يخرج إليها، ثمّ نمت فترك الجمع والجماعات، فلمّا نزل قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}

(1)

استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلين على الصّدقات، رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم، وكتب لهما الصّدقة وأسنانها وأمرهما أن يأخذا من النّاس، فأتيا ثعلبة، قال لهما: خذا من النّاس فإذا فرغتما فمرّا عليّ، ففعلا فقال: ما هذه إلاّ أخذ الجزية! فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية.

فركب عمر راحلته، ومضى إلى ثعلبة، وقال: ويحك يا ثعلبة! هلكت قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فأقبل ثعلبة يبكي ويحثو التّراب على رأسه ويقول: يا رسول الله هذه صدقتي، فلم يقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم صدقته حتّى قبض، ثمّ أتى إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبل صدقته، ثمّ أتى عمر رضي الله عنه فلم يقبل صدقته، فمات في خلافة عثمان ولم يقبل منه عثمان صدقته

(2)

.

(1)

التوبة 103/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13205)،وفيه أبو عبد الملك علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف من جهة حفظه. وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10408).

ص: 339

قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} (77)؛أي أعقبهم ببخلهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم جزاء البخل. وقيل: معناه: فجازاهم ببخلهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله؛ أي بإخلافهم بما وعدوا من التصدّق وكذبهم فيما قالوا. وقال الحسن: (معناه: أورثهم الله النّفاق في قلوبهم بأن حرمهم التّوبة كما حرم إبليس).قالوا: وإنّما أراد الله بهذا بأنّ الله تعالى دلّنا على أنه لا يتوب، كما دلّنا حال إبليس لأنه لا يتوب؛ لأن الله سلب عنه قدرة التوبة.

قوله تعالى: {(إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)} معناه على قول الحسن وقتادة: (إلى يوم يلقون الله) أي يلقون اليوم الذي لا يملك فيه الحكم والضرّ والنفع إلا الله، وفي هذه الآية دلالة على أن من نذر نذرا فيه قربة يجوز أن يقول: إن رزقني الله ألف درهم فعليّ أن أتصدّق بخمسمائة لزمه الوفاء به، وفيها دلالة جواز تعليق النذر بالشّرط نحو أن يقول:

إن قدم فلان فلله عليّ صيام وصدقة، وإن ملكت عبدا، أو هذا العبد فعليّ أن أعتقه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر]

(1)

.

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} (78)؛ألم يعلم المنافقون أنّ الله يعلم ما يسرّون من الكفر، وما يناجون فيه فيما بينهم، وأنّ الله عالم بكلّ شيء خفيّ على العباد، وهذا استفهام بمعنى التوبيخ.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك يحثّ النّاس على الصّدقة، وقال:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13213).وأصله في الصحيحين: [أربع]؛أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: باب علامة المنافق: الحديث (34).ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب خصال المنافق: الحديث (58/ 106).

ص: 340

[اجمعوا صدقاتكم] فجاء عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [أكثرت! هل تركت لأهلك شيئا؟] قال: يا رسول الله كان لي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة آلاف لأقرضها ربي، فقال صلى الله عليه وسلم [بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت] فبارك له حتّى بلغ ماله حين مات، وطلّق إحدى نسائه في مرضه وصالحوها عن ربع ثمنها على ثمانين ألفا.

وبعده جاء عمر رضي الله عنه بنحو من ذلك، وجاء عثمان رضي الله عنه وصدقته، وجاء عاصم ابن عديّ الأنصاريّ بسبعين وسق من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال: يا رسول الله ليلتي كلّها أجرّ بالحرير حتّى أصبت ثلث صاعين، أمّا أحدهما فأمسكته لعيالي، وأمّا الآخر فأقرضه ربي، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشدّه في الصّدقة. فطعن فيهم المنافقون وقالوا: والله ما جاء هؤلاء بصدقاتهم إلاّ رياء وسمعة، وقالوا في أبي عقيل: إنّه جاء ليذكّر بنفسه ويعطى من الصّدقة أكثر ممّا جاء به، وإنّ الله أغنى عن صاع أبي عقيل، فأنزل الله هذه الآية)

(1)

.ومعناها: الذين يعيبون المطّوّعين من المؤمنين في الصّدقات وهم المنافقون عابوا عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

قوله تعالى: {(وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ)} أي ويعيبون على الذين لا يجدون إلاّ جهدهم؛ أي طاقتهم من الصّدقات، عابوا المكثر بالرّياء، والمقلّ بالإقلال. والجهد بالضمّ والنصب لغتان بمعنى واحد، ويقال: الجهد بالنصب المشقّة، والجهد بالضمّ الطاقة، وقيل: الجهد بالعمل والجهد في القوّة، قرأ عطاء والأعرج «(جهدهم)» وهما لغتان مثل الوجد والوجد، فالضمّ لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد. قوله تعالى:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ؛} أي يستهزءون بهم، {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ؛} أي يجازيهم جزاء سخرتهم، {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (79)؛أي وجيع.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13233) وهو إدراج للأحاديث (13220 - 13233).

ص: 341

قوله تعالى {اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ؛} وذلك لمّا نزلت هذه الآية التي قبل هذه أتى المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فكان عليه السلام يستغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم، وكان إذا مات أحد منهم يسألون رسول الله الدّعاء والاستغفار لميّتهم، فكان يستغفر لهم على أنّهم مسلمون، فأعلمه الله بأنّهم منافقون، وأخبر أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم، فذلك قوله:{(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)} وهذه اللفظة لفظة الأمر، ومعناه الخبر؛ أي إن شئت استغفرت لهم، وإن شئت لا تستغفر، فإنّك إن استغفرت لهم سبعين مرّة لن يغفر الله.

قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛} في بيان العلّة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} (80)؛أي لا يوفّقهم ولا يرشدهم إلى جنّته وثوابه وكرامته، وأما تخصيص (سبعين مرّة) بالذكر فهو لتأكيد نفي المغفرة بهذا؛ لأن الشيء إذا بولغ في وصفه أكّد بالسّبع والسبعين، وهذه كما يقول القائل: لو سألتني حاجتك سبعين مرّة لم أقضها، لا يريد أنه إذا أزاد على السّبعين قضى حاجته، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:

[لو علمت أنّي لو زدت على السّبعين لغفر لهم لزدت عليها]

(1)

.

قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ؛} أي فرح المخلّفون عن غزوة تبوك بقعودهم لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بقعودهم عن الجهاد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ عمرو بن ميمون «(خلف رسول الله)» والمخلّف ما يترك الإنسان خلفه، والمتخلّف الذي يتأخّر بنفسه، والخلاف قد يكون بمعنى المخالفة، وقد يكون بمعنى خلف، كما في قوله تعالى:{وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً}

(2)

،ويقرأ خلافك على المعنيين. قوله تعالى:{وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} أي كرهوا أن يقاتلوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10507).

(2)

الاسراء 76/.

ص: 342

قوله تعالى: {وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ؛} أي قال بعضهم: لا تخرجوا فإن الحرّ شديد والسفر بعيد، وكانوا يدعون إلى غزوة تبوك في وقت نضج الرّطب وهو أشدّ ما يكون من الحرّ. قوله تعالى:{قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا؛} أي قل لهم نار جهنّم التي استحقّوها بترك الخروج الى الجهاد أشدّ حرّا من هذا الحرّ. قوله تعالى:

{لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ} (81)؛أي لو كانوا يفقهون أوامر الله ووعده ووعيده.

قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (82) أي فليضحكوا قليلا لأنّ ذلك لا يبقى، وليبكوا كثيرا في الآخرة في النار، وهذا اللفظ أمر، ومعناه الخبر. وقيل: تقديره: فليضحكوا قليلا فيبكون كثيرا، قال أبو موسى الأشعري:(إنّ أهل النّار ليبكون الدّموع في النّار حتّى لو جريت السّفن في دموعهم لجرت، ثمّ إنّهم ليبكون الدّم بعد الدّموع).

قال ابن عبّاس: (إنّ أهل النّفاق ليبكون في النّار عمر الدّنيا، فلا يرقّ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم)،قال صلى الله عليه وسلم:[يرسل الله البكاء على أهل النّار فيبكون حتّى تنقطع الدّموع، ثمّ يبكون الدّم حتّى يرى وجوههم كهيئة الأخدود]،وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:[لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا]

(1)

.

قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا؛} معناه: إن رجعك الله من تبوك، إلى طائفة من المنافقين بالمدينة فاستأذنوك للخروج معك الى غزوة أخرى فقل: لن تخرجوا معي أبدا إلى الجهاد، ولن تقاتلوا معي عدوّا، {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛} أي في غزوة تبوك، {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} (83)؛أي مع النّساء والصبيان، هذا قول الحسن.

والخالف الذي يبقى بعد الشّاخص، وقيل: هو الذي يبقى لنقص يكون فيه.

وعن ابن عبّاس أن معنى الخالفين: (المتخلّفين بغير عذر)،وقيل: إنّ هذا مأخوذ من قولهم خلف اللّبن إذا فسد، والخالف الفاسد، وقيل الخالفون خساس الناس

(1)

أخرجه الترمذي في الجامع: كتاب الزهد: الحديث (2313)،وقال حديث صحيح.

ص: 343

وأدنياؤهم، ويقال فلان خالفه أهله إذا كان دونهم، وقيل: مع الخالفين أي أهل الفساد من قولهم ينبذ خالف أي فاسد، وخلف اللبن خلوفا إذا حمض من طول وضعه في السقاء، وخلف فم الصّائم اذا تغيّرت رائحته. وقرأ مالك بن دينار «(مع الخلفين)» بغير ألف، وقال الفرّاء: يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفا.

قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ؛} أي لا تصلّ على أحد مات من المنافقين أبدا، ولا تقم على قبر أحد منهم لتدفنه وتدعو له، {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛} وجحدوا بالله ورسوله بقلوبهم، وماتوا على الكفر والنفاق، وقال ابن عبّاس: (لمّا مرض عبد الله بن أبي سلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيه فلمّا دخل عليه طلب منه أن يصلّي عليه إذا مات، وأن يقوم على قبره، وأن يكفّنه في قميصه الّذي يلي جلده، فقبل منه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا مات عبد الله انطلق ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى جنازة أبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ما اسمك؟] قال: الحبّاب بن عبد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أنت عبد الله بن عبد الله، إنّ الحبّاب هو الشّيطان].

ثمّ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فلمّا قام صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه، قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله أتصلّي على عدوّ الله القائل يوم كذا وكذا؟! فقال: [دعني يا عمر] فعاد عمر لمقالته، فقال صلى الله عليه وسلم:[دعني يا عمر] فعاد لمقالته الثّالثة، فقال:[قد خيّرت في ذلك، ولو علمت أنّي إذا استغفرت له أكثر من سبعين مرّة غفر له لفعلت] وقال:

[تأخّر عنّي يا عمر] قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً)} يعني بعد ما صلّيت على عبد الله بن أبي.

وروي أنّ عبد الله بن أبيّ لمّا حضرته الوفاة بعث إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله أحد ثوبيه يكفّن فيه، فبعث إليه بأحدهما، فقال: ما أريد إلاّ الّذي يلي جلدك من ثيابك، فوجّه إليه بذلك، فقيل له في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:[إنّ قميصي لن يغني عنك من الله شيئا، وعسى أن يسلم بسبب هذا القميص خلق كثير] فأسلم ألف من الخوارج! لمّا

ص: 344

رأوه يطلب الاستشفاع بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قال ابن عبّاس: (الله أعلم أيّ صلاة كانت تلك وما خادع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا قطّ)،وقال مقاتل:(إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يصلّي على عبد الله بن أبيّ، جاء إليه ابنه فقال: أنشدك بالله أن لا تشمّت بي الأعداء، وكان ابنه مؤمنا حقّا، فأنزل الله هذه الآية، فانصرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يصلّ عليه).وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراد أن يصلّي عليه فأخذ جبريل بثوبه، فقال:{(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً)} .

قوله تعالى: {وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} (84)؛أي ماتوا على الكفر والنفاق، فلمّا نزلت هذه الآية ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض، وكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما فعل بعبد الله بن أبي، فقال:[وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إنّي كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه]

(2)

.

قوله تعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ؛} أي لا تعجبك كثرة أموالهم وأولادهم في الدّنيا، إنما يريد الله أن يعذّبهم بها، ويخرج أرواحهم بصعوبة، {وَهُمْ كافِرُونَ} (85)؛هذا على التقديم والتأخير في الآية على ما تقدّم ذكره، فأما التأويل على نظم الآية، فمعناه: إنما يريد الله أن يعذّبهم بها في الدّنيا بالتشديد عليهم في التكليف بالإنفاق والأمر بالجهاد.

فإن قيل: لم أعاد قوله {(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ)؟} قيل: فيه قولان:

أحدهما بشدّة التحذير عن الاغترار بالأموال والأولاد، والثاني: أنه أراد بالأول قوما من المنافقين، وأراد بالثاني قوما آخرين منهم، كما يقال: لا تعجبك أموال زيد وأولاده، ولا تعجبك أموال عمرو وأولاده.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13255 - 13262).وأصل هذه الأحاديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب استغفر لهم أو لا: الحديث (4670).ومسلم في الصحيح: كتاب فضائل الصحابة: الحديث (2400/ 25).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13261) مرسلا من حديث قتادة.

ص: 345

قوله تعالى: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ؛} أي إذا أنزلت من القرآن قطعة مشتملة على آيات أحاطت بها أن آمنوا بالله أي صدّقوا وداوموا على الإيمان وجاهدوا الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنك في القعود عن الجهاد ذوو السّعة والغنى منهم، {وَقالُوا ذَرْنا؛} دعنا واذن لنا، {نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} (86)؛عن الجهاد. والطّول في الحقيقة هو الفضل الذي يتمكّن به من مطاولة الأعداء.

قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ؛} أي رضي المنافقون بأن يكونوا في تخلّفهم عن الجهاد مع النساء المتخلّفات في الحيّ بعد غزوة أزواجهنّ. قوله تعالى: {وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (87)؛يعني الطبع في اللغة جعل الشيء كالطّابع نحو طبع الدّينار والدرهم، ويجوز أن يكون الطبع على القلب علامة يقفل الله بها قلب الكافر المعاند ليعلم من يطّلع عليه من الملائكة أنه لا يجتهد في طلب الحقّ، فهم لا يفقهون أوامر الله ونواهيه.

قوله تعالى: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛} لكن الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وهم أهل اليقين من الصحابة، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم على ضدّ ما فعل المنافقون.

قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ؛} يجوز أن يكون معناه: أولئك لهم الحسنات المقبولات، فإن الخيرات منافع تسكن النفس إليها، ويجوز أن يكون معناه: الزّوجات الحسنات في الجنّة، كما قال الله فيهن {خَيْراتٌ حِسانٌ}

(1)

واحدة الخيرات خيرة، وهي الفاضلة في كلّ شيء، قوله تعالى:{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (88)؛أي الظّافرون بالمراد.

قوله تعالى: {أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} أي أعدّ الله لهم في الجنّة بساتين تجري من تحتها وشجرها ومساكنها الأنهار. قوله تعالى:

{خالِدِينَ فِيها؛} أي مقيمين دائمين فيها لا يموتون ولا يخرجون منها، {ذلِكَ}

(1)

الرحمن 70/.

ص: 346

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (89)؛أي هو النجاة الوافرة، فازوا بالجنّة ونعيمها، ونجوا من النار وجحيمها.

قوله تعالى: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ؛} قرأ ابن عبّاس والضحاك ومجاهد: «(المعذرون)» بالتخفيف وهم الذين اعتذروا؛ أي جاءوا بالعذر، وأمرهم رسول الله بالتخلّف بعذرهم وهم من المخلّفين، وقيل: المعذرون بالتخفيف المبالغون في العذر، كان صلى الله عليه وسلم يقول:[لعن الله المعذّرون]

(1)

بالتشديد يعني الذين يقبلون في التخلّف بلا علّة يوهمون أنّ لهم عذرا، ولا عذر لهم، والتعذير التقصير في الشيء مع طلب العذر.

وأما القراءة المشهورة «(المعذّرون)» بالتشديد فمعناها ما تقدّم يعني المقصّرين، قال الفرّاء:(أصله المعتذرون، فأدغمت التّاء في الذال وثقّلت حركة التّاء إلى العين)

(2)

.

قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ؛} قرأ العامّة «(كذبوا)» مخففا يعني المنافقين قعدت طائفة منهم من دون أن يعتذروا، وقرأ أبي والحسن:«(كذبوا)» بالتشديد، وقوله تعالى:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (90)؛ يجوز أن تكون الفائدة في دخول (من) بيان أنّ منهم من يسلم، ومنهم من يموت على كفره ونفاقه.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ؛} أي ليس على المرضى والشّيوخ الكبار، ولا على المرضى الذين لا يقدرون على الخروج إلى الجهاد، ولا على الذين لا يكون عندهم نفقة ينفقونها في الجهاد وهم الفقراء، ليس عليهم مأثم في القعود عن ذلك إذا كان قعودهم على وجه النّصح لله ورسوله، وهو إن سعوا في

(1)

في الدر المنثور: ج 4 ص 260؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن الأنباري في الأضداد عن ابن عباس)).

(2)

قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 477 وذكره بمعناه.

ص: 347

إصلاح ذات البين وما يرجع على الجهاد، ولا يكون قعودهم للتثريب على المسلمين وإفساد شيء من أمرهم. والنّصح: إخراج الغشّ عن العمل. قوله تعالى: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ؛} أي ما على المطيعين الموحّدين من سبيل في العقاب، {وَاللهُ غَفُورٌ؛} لذنوبهم، {رَحِيمٌ} (91)؛إذ أرخص لهم في القعود بالعذر.

قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ؛} أي وليس على الذين إذا ما أتوك لتحملهم إلى الجهاد بالنّفقة، {قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ،} فهؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الجهاد، قال ابن عبّاس:(نزلت هذه الآية في سالم بن عمير وعبد الرّحمن بن كعب وعمرو بن الحضرميّ وعبيد الله ابن كعب وعبد بن مغفّل ومعقل بن يسار وصخر بن سلمة الّذي كان وقع على امرأته في رمضان، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكفّر، ونفر من بني مزينة من أهل الحاجة، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبيّ الله قد ندبنا للخروج معك، فاحملنا لنغزو معك، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، فقال لهم: [لا أجد ما أحملكم عليه] فتولّوا وهم يبكون)

(1)

فذلك قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} (92)؛وقال الحسن: (نزلت في أبي موسى الأشعريّ وجماعة من الأشعريّين).

قوله تعالى: {*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ} معناه: إنّما السبيل في العقاب على الذين يستأذنونك في القعود عنك وهم أغنياء، {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ؛} أي مع النّساء، {وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ؛} مجازاة لهم على فعلهم، {فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (93)؛أوامر الله عز وجل.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13284).وفي الدر المنثور: ج 4 ص 264؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري)) بطرق وذكره. وقال أيضا: ((أخرجه ابن مردويه عن مجمع بن الحارثة

وذكره)) وتنوع ذكر أسمائهم.

ص: 348

قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ؛} أي يعتذر المنافقون إليكم إذا انصرفتم إليهم من هذه الحرب في قعودهم على الجهاد، {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا؛} فإنه

(1)

بصير بكم وهو الله تعالى، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ؛} لن نصدّقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ؛} قد أخبرنا الله من أسراركم أنه ليس لكم عذر، {وَسَيَرَى اللهُ؛} أي يظهر، {عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ؛} في الآخرة، {إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ؛} ما غاب عن العباد، وما عمله العباد فيجزيكم، {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (94)؛من الخير والشرّ.

قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ؛} أي سيحلف المنافقون بالله في ما يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم لتعرضوا عنهم، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ؛} فلا تعاقبوهم على جهة الهوان لهم، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ؛} أي هم النّتن الذي يجب الاجتناب عنه فاجتنبوهم، {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ؛} ومصيرهم جهنّم، {جَزاءً؛} لهم على فعلهم {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (95).

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ؛} أي يحلفون لكم في الاعتذار لترضوا عنهم أنتم من دون أن يطلبوا رضى الله، {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} فإن أنت رضيت يا محمّد والمؤمنون بحلفهم الكاذب، {فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} (96)؛أي عن الخارجين عن طاعة الله.

قوله تعالى: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً؛} أراد بالأعراب أسدا وغطفان، بيّن الله أنّهم في كفرهم ونفاقهم أشدّ من منافقي أهل المدينة. وقيل: معناه:

أهل البدو أشدّ كفرا ونفاقا من أهل الحضر. قوله تعالى: {وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (97)؛أي أحرى وأولى ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله؛ لأنّهم أبعد من سماع التّنزيل وإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قيل: إن من بعد من الأمصار ونأى من حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسّنن ممن جالسهم ويسمع منهم، ولهذا لا إمامة لأعرابيّ في الصلاة.

(1)

في المخطوط رسمها الناسخ بشكل قريب من (أي) و (أن) والمناسب ما أثبتناه والله أعلم.

ص: 349

قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ} معناه: ومن الأعراب من يتّخذ ما ينفق في الجهاد يحسبه غرما، ولا يحتسب فيه الأجر ولا يرجو الثواب به، إنما ينفق خوفا أو رياء، وينتظر بكم الموت والهلاك، ودوائر الزّمان وصروفه، يعني أنّهم ينتظرون أن ينقلب الزمان عليكم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور المشركين. قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ؛} أي عاقبة السّوء والهلاك، وإنما ينتظرون بكم ما نزل بهم، والسّوء بفتح السّين المصدر، وبالضّمّ الاسم، وقوله تعالى:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (98)؛ظاهر المراد.

قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} معناه:

من الأعراب من يصدّق بالله واليوم الآخر في السرّ والعلانية، قيل: إنّ المراد من هذه الآية أسلم وغفّار.

قوله تعالى: {وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ} أي يتخذ نفقته في الجهاد تقرّبا إلى الله تعالى في طلب المنزلة عنده والثواب، وقوله تعالى:{وَصَلَواتِ الرَّسُولِ} أي يطلب بذلك دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة وصلاح الدّنيا والآخرة، كما يطلب المنزلة عند الله تعالى.

قوله تعالى: {أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ؛} هذه كلمة تنبيه؛ أي سيقرّبهم الله بهذا الإنفاق إذا فعلوه. قوله تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ؛} أي في حسنته وثوابه، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لذنوب العباد، {رَحِيمٌ} (99)؛لمن تاب وأطاع.

قوله تعالى: {وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ؛} أراد بالسّابقين الذين سبقوا إلى الإيمان، وهم الذين صلّوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا، وقال الشعبيّ:(هم الّذين بايعوا بيعة الرّضوان بالحديبية)،وقيل: هم الذين أنفقوا قبل الهجرة، كما قال الله تعالى:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ}

(1)

.

(1)

الحديد 10/.

ص: 350

وإنّما مدح السابقين لأن السابق إمام للتالي، وقوله تعالى:{(وَالْأَنْصارِ)} عطف على المهاجرين، وقرأ بعضهم «(والأنصار)» بالرفع عطفا على السّابقين، وعن عمر رضي الله عنه:

«(والأنصار الّذين اتّبعوهم)» بغير الواو

(1)

،وسمع رجلا قرأ «(والّذين)» بالواو فقال:

(من أقرأك هذه الآية؟ قال: أبيّ بن كعب، قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه، فلمّا أتاه قال له: يا أبيّ أقرأته هذه الآية؟ قال: نعم، قال عمر رضي الله عنه: كنت أظنّ أنّا ارتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدها، فقال أبيّ: تصديق هذه الآية أوّل سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}

(2)

وأوسط سورة الحشر {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ}

(3)

)

(4)

.

وقوله تعالى: {(بِإِحْسانٍ)} والإحسان هو فعل الحسن. قوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ؛} أي رضي الله عنهم بإحسانهم، ورضوا عنه بالثّواب والكرامة. قوله تعالى:{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100)؛في هذا الموضع بغير (من) إلا ابن كثير فانه يقرأ «(من تحتها)» .

قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ؛} أي ومن حول مدينتكم من الأعراب منافقون، قيل: إنّهم مزينة وجهينة. وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛} أي ومن أهل مدينتكم منافقون. قوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ} أي أقاموا وثبتوا على النفاق، {لا تَعْلَمُهُمْ؛} يا محمّد بأعيانهم، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ؛} ونعلم نفاقهم، {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ؛} أراد العذاب الأول الفضيحة والإخراج من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر.

روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا يوم الجمعة، فقال:[يا فلان أخرج فإنّك منافق، يا فلان أخرج فإنّك منافق] فأخرجهم بأسمائهم. وكان عمر رضي الله عنه لم يشهد الجمعة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13304).

(2)

الآية 3/.

(3)

الآية 10/.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (133305).

ص: 351

لحاجة له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ عنهم استحياء؛ لأنّه لم يشهد الجمعة، وظنّ النّاس قد انصرفوا، واختبئوا هم عن عمر رضي الله عنه وظنّوا أن قد علم بأمرهم. فدخل عمر المسجد وإذا هو بالنّاس لم يصلّوا، فقال له رجل: يا عمر قد فضح الله المنافقين.

وقال الحسن: (أراد بالعذاب الأوّل السّبي والقتل، وبالثّاني عذاب القبر)

(1)

، وقوله تعالى:{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ} (101)؛أراد به عذاب جهنّم.

قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً؛} أي في المدينة قوم آخرون أقرّوا بذنوبهم، خلطوا عملا صالحا بعمل سيء؛ أي تخلّفوا عن الغزو ثم تابوا، ويقال: خرجوا إلى الجهاد مرّة وتخلّفوا مرة، فجمعوا بين العمل الصالح والعمل السيّئ، كما يقال: خلط الدنانير والدراهم؛ أي جمعها، وخلط الماء واللّبن؛ أي أحدهما بالآخر.

وقوله تعالى: {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ؛} أي يتجاوز عنهم، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لما سلف من ذنوبهم {رَحِيمٌ} (102)؛بهم إذ قبل توبتهم. وإنما ذكر لفظ (عسى)؛ليكون الإنسان بين الطمع والإشفاق، فيكون أبعد من الاتّكال والإهمال.

قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في لبابة بن المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة ابن حذام وغيرهم، وكانوا عشرة أنفس، تخلّفوا عن غزوة تبوك، فلمّا بلغهم ما أنزل الله عن المتخلّفين ندموا على صنيعهم، فربط سبعة منهم أنفسهم على سواري المسجد، وأقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي يحلّهم، وكانوا لا يخرجون إلاّ لحاجة لا بدّ لهم منها.

(1)

أخرجه الطبري في المعجم الأوسط: ج 1 ص 442:الحديث (796).والطبري في جامع البيان: الحديث (13309).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 33؛قال الهيثمي: ((رواه الطبراني في الأوسط وفيه العنقري وهو ضعيف)).وليس عندها عبارة: (وقال الحسن).

ص: 352

وكانوا على ذلك حتّى قدم صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبر بأمرهم، فقال صلى الله عليه وسلم:[وأنا لا أحلّهم حتّى اؤمر بهم] فنزلت هذه الآية فعرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ (عسى) من الله واجبة، وأمر بحلّهم وانطلقوا إليه، وقالوا: هذه أموالنا الّتي خلّفتنا عنك، فخذها فتصدّق بها عنّا، فقال صلى الله عليه وسلم:[ما أمرت فيها بشيء]

(1)

فأنزل الله تعالى:

قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها؛} ظاهر الآية يقتضي رجوع الكناية في قوله: {(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ)} أي المذكورين، وقيل: وهم الذين اعترفوا بذنوبهم، إلاّ أنّ كلّ حكم حكم الله ورسوله في شخص من عباده، فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص، إلاّ ما قام دليل التخصيص به.

وقيل: قوله تعالى: {(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)} ابتداء ذكر لجميع المسلمين لدلالة الحال على ذلك وإن لم يتقدّم ذكر المسلمين كقوله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}

(2)

يعني القرآن. ومعنى الآية: تطهّرهم عن الذنوب وتزكّيهم بها؛ أي تصلح أعمالهم. وقيل: معناه: تطهّرهم أنت بها من دنس الذّنوب.

قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ؛} أي استغفر لهم وادع لهم، {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ؛} أي إنّ دعاءك واستغفارك طمأنينة، {لَهُمْ؛} في أنّ الله يقبّل توبتهم، {وَاللهُ سَمِيعٌ؛} بمقالتهم، {عَلِيمٌ} (103)؛بنيّاتهم وثوابهم.

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ؛} استفهام بمعنى التّنبيه، وقبول التوبة إيجاب الثواب عليها، وقوله تعالى {(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ)} أراد به أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم والأئمّة بعده؛ لأن أخذهم لا يكون إلاّ بأمر الله، وكأنّ الله هو الآخذ، {وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوّابُ؛} أي المتجاوز عن من تاب، {الرَّحِيمُ} (104)؛عن من مات على التوبة.

قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ؛} أي اعملوا عمل من يعلم أنّ الله يرى عمله ويتجاوز به، ظاهر المعنى. قوله تعالى:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13321).

(2)

القدر 1/.

ص: 353

{وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)؛ ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} معناه: من أهل المدينة قوم آخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم بتخلّفهم عن الجهاد، وإمّا يتجاوز عنهم بتوبتهم عن الذنوب، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بهم {حَكِيمٌ} (106) يحكم في أمرهم ما يشاء. و (إمّا) في الكلام بوقوع أحد الشّيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، إلاّ أنّ هؤلاء العباد خوطبوا بما يتفاهمون فيما بينهم ليكون أمرهم عندكم على هذا، أي على الخوف.

قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في الثّلاثة الّذين خلّفوا وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع العمريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ، وهم من الأنصار تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب بن مالك: أنا أفره أهل المدينة جملا فمتى ما شئت لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام حتّى مضت عليهم ثلاثة أيّام ثمّ آيس أن يلحقهم وندم على صنيعه، وأقام صاحباه معه، وندما لكن لم يفعلا ما فعله أبو لبابة وأوس ووديعة.

ففقدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، ونهى النّاس عن أن يجالسوهم أو يواكلوهم أو يشاربوهم، وأرسل إليهم أن اعتزلوا نساءكم، وأرسل إلى أهليهنّ، فجاءت امرأة هلال فقالت: إنّ هلالا شيخ كبير وإن لم آته بطعام هلك، فقال صلى الله عليه وسلم:

[وإيّاك أن يقربك] قال كعب: فمررت على أبي قتادة فسلّمت عليه ولم يردّ عليّ السّلام، وكلّمته فأبى أن يكلّمني، فاستعبرت وقلت: أما والله إنّك لتعلم أنّي أحبّ الله ورسوله. قال: الله ورسوله أعلم. فمضى على هذا خمسون يوما، فلمّا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أنزل الله (هو التّوّاب الرّحيم)

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب التوبة: باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه: الحديث (2769/ 53)؛عن عبد الله بن كعب عن أبيه.

ص: 354

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ سبعة عشر رجلا من المنافقين من بني عمرو بن عوف قالوا فيما بينهم: تعالوا نبني مسجدا يكون متحدّثنا ومجمع رأينا بأن تأتوا إلى رسول الله وتستأذنوه أن نبني مسجدا لذوي العلّة واللّيلة المطيرة. فأذن لهم فبنوا مسجدا، وكان يؤمّهم في ذلك المسجد مجمع بن الحارثة، وكان قارئا للقرآن فأنزل الله هذه الآية)

(1)

.ومعناها:

والذين اتّخذوا مسجدا للضّرار والكفر والتفريق بين المؤمنين.

قوله تعالى: {(وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)} أي وانتصارا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الراهب كان حارب النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل بناء هذا المسجد، ومضى إلى هرقل ملك الرّوم يستعين به على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا، قال:[لا تسمّوه الرّاهب]،ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات كافرا بقنسرين موضع بالشّام

(2)

.

قوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى؛} معناه: ليحلف المنافقون أنّا لم نرد ببناء هذا المسجد إلا الخير، وهم كذبة في حلفهم لقوله تعالى:{وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} (107)؛ما بنوه للخير.

روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة مهاجرا أقبل إليه أبو عامر هذا المذكور فقال له: ما هذا الّذي جئت به؟ قال: [الحنيفيّة دين إبراهيم عليه السلام] قال أبو عامر: وأنا عليها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[فإنّك لست عليها] قال: بلى؛ ولكنّك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[ما فعلت ذلك، ولكن جئت بها بيضاء نقيّة] فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلى الله عليه وسلم:[آمين] فسمّاه أبو عامر الفاسق.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان عن عبد الله بن عباس وغيره: الحديث (13361 - 13363).

(2)

أخرج القصة الطبري في جامع البيان: الحديث (13363 - 13364).وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10066).

ص: 355

فلم يزل أبو عامر كذلك إلى أن هزمت هوازن، فخرج هاربا إلى الشّام فأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإنّي ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم، وآت بجند من الرّوم وأخرج محمّدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، وكان الّذين بنوه اثنى عشر رجلا.

فلمّا فرغوا منه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا قد بنينا مسجدا لذوي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة واللّيلة الشّاتية، وإنّا نحبّ أن تأتيه فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[إنّي على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا لأتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه].

فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه فسألوه إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزلت هذه الآية وأعلمه الله تعالى بخبرهم وما همّوا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدّهشم ومعن بن عديّ وعامر بن السّكن والوحشيّ قاتل حمزة، وقال لهم:[انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وحرّقوه] فخرجوا سراعا، فأخذوا سعفا من النّخل، وأشعلوا فيه النّار وهدموه، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ كناسة يلقى فيه القمامة والجيف، ومات أبو عامر بالشّام وحيدا غريبا

(1)

.

وقال عكرمة: (سأل عمر رضي الله عنه رجلا منهم: ماذا أعنت في هذا المسجد، قال:

أعنت فيه بسارية، فقال عمر رضي الله عنه: أسر بها في عنقك في نار جهنّم).وروي: (أنّ بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا وسألوا عمر رضي الله عنه أن يصلّي بهم الجماعة مجمع بن الحارثة فقال: لا؛ ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضّرار، فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، فو الله لقد صلّيت فيه وإنّي لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صلّيت معهم، وكنت غلاما وهم شيوخ لا يقرءون من القرآن شيئا، فصلّيت بهم ولا أعلم ما في نفوسهم، فعذره عمر رضي الله عنه وصدّقه، وأمره بالصّلاة في

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13361) مرسلا عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة، والحديث (13371) عن ابن زيد، و (13372).

ص: 356

مسجد قباء)

(1)

.قرأ أهل المدينة والشام الذين اتّخذوا بغير (واو) وكذلك هو في مصاحفهم.

قوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً؛} أي لا تصلّ في مسجد هؤلاء المنافقين أبدا، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ؛} يعني مسجد قباء أسّس لوجه الله منذ أوّل يوم بني، ويقال: هو مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ أن تصلّي فيه، ولا يمتنع أن يكون المراد المسجد الذي أسّس على التّقوى كلا المسجدين، مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء. قوله تعالى:{فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؛} في مسجد قباء رجال يحبّون أن يتطهّروا. قال الحسن: (معناه يتطهّرون من الذّنوب بالتّوبة).

والمشهور أن المراد بالتطهير في هذه الآية الاستنجاء بالماء كما روي: أنّه لمّا نزلت هذه الآية وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب قباء وقال: [يا معشر الأنصار إنّ الله عز وجل قد أحسن الثّناء عليكم في طهوركم، فبم تطّهّرون؟] قالوا: إنّا نتبع الأحجار بالماء

(2)

؛أي نستجمر بالحجر ثم نستنجي بالماء، فقرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وسنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستنجاء بالماء. قوله تعالى:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108)؛ أي أثنى على المطّهّرين من الذّنوب، والمتطهّرين بالماء من الأدناس.

قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ؛} الألف في أوّل الآية ألف استفهام دخلت في الكلام للإنكار، وقوله تعالى {(جُرُفٍ هارٍ)} أي على طرف الهوّة، وقوله (هار) ساقط، وأصله هاير، إلا أنه حذف الياء.

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 255.وهو مجمع بن جارية بن عامر الأنصاري توفي في آخر خلافة معاوية. قال ابن إسحاق: (كان المجمع بن جارية غلاما حدّثا قد جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه جارية ممن اتخذ مسجد الضّرار).ترجم له ابن عبد البر في التمهيد: ج 3 ص 418:الرقم (2334).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13391) عن قتادة، والحديث (13392) عن محمّد ابن عبد الله بن سلام، والحديث (13393) عن عويم بن ساعدة. وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10079).

ص: 357

والجرف: ما تمرّ به السيول من الأودية فتسير جانبه وتنثره، ولو وقف الإنسان عليه لسقط وانهار، وشفا الشّيء حرفه وهو مقصور يكتب بالألف وتثنيته شفوان.

قرأ نافع وأهل الشام بضمّ الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وقرأ الباقون بفتحهما. قوله تعالى:{(عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ)،} قرأ ابن عمر «(تقوى)» منوّن، وقوله تعالى {(جُرُفٍ)} قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر وخلف بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتّثقيل وهما لغتان، وهي البرّ التي لم تمطر، وقال أبو عبيد:(بنى الهوّة والرّمل) والشيء الرّخو وما يجرفه السّيل في الأودية، والهائر الساقط الذي يتداعى بعضه على إثر بعض كما يتهاوى الرمل، والشيء الرّخو، وفي مصحف أبيّ (فانهارت به قواعده في نار جهنّم)

(1)

.قال قتادة: (ذكر لنا أنّه حفرت بقعة منها فرؤي الدّخّان يخرج منها)

(2)

، وقال جابر بن عبد الله:(رأيت الدّخّان يخرج من مسجد الضّرار)

(3)

.

قوله تعالى: {فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؛} أي انهار الجرف بالبناء؛ أي هار به؛ أي كما أنّ من بنى على جانب نهر صفة ما ذكرنا انهار بناؤه في النّهر، فكذلك بناء أهل النّفاق مسجد الشّقاق كبناء على جرف جهنّم يتهوّر بأهله فيها. وقوله تعالى:

{وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (109)؛أي لا يوفّقهم ولا يهديهم الى جنّته وثوابه.

قوله تعالى: {لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ؛} أي لا يزال بنيانهم مسجد الضرار حيرة متردّدة في قلوبهم، ويقال شكّا واضطرابا، يعني أن شكّهم لا يزال وإن زيل ذلك البناء، بل يبقى ذلك في قلوبهم حتى خاب أملهم، اشتدّ أسفهم بأن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن قيس ووحشيا مولى مقطّم بن عديّ فخرّباه وهدماه، ثم أمر الأنصار بإلقاء الجيف والعذرات الكناسات فيه، إذ لم يبن لله تعالى، فبقي ذلك حسرة وندامة في قلوب المنافقين حتى تقطّع قلوبهم؛ أي حتى يموت على ذلك.

(1)

في جامع البيان: الأثر (13405) عن ابن عباس.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13407).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13409).

ص: 358

ويقال: معناه: لا يزالون شاكّين حتى يموتوا، فإذا ماتوا صاروا إلى اليقين حيث لا ينفعهم اليقين، قال السديّ:(معناه: لا يزال هدم بنيانهم الّذي بنوه ريبة في قلوبهم؛ أي حزازة وغيظا في قلوبهم؛ أي أن تصدّع قلوبهم فيموتوا).

وقرأ الحسن ويعقوب أي (إن) مخفّفا على الغاية، يدلّ عليه تفسير الضحّاك وقتادة، ولا يزالون في شكّ منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا، قرأ شيبة وابن عامر وحمزة وحفص «(تقطّع)» بفتح التاء وتشديد الطاء المعنى تتقطع، ثم حذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمر والكسائي «(تقطّع)» بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب «(تقطع)» بضم التاء خفيفة الطاء من القطع. وروي عن ابن كثير بفتح التاء خفيفة، «(قلوبهم)» نصبا أي بفعل ذلك أنت بهم.

قوله تعالى: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)؛أي عليم بأعمالكم، حكيم في ما حكم من هدم مسجدهم وأظهر نفاقهم.

قوله تعالى: {*إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ؛} معناه: إنّ الله طلب المؤمنين أن يعدّوا أنفسهم وأموالهم ويخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ليثيبهم الجنة على ذلك.

فإن قيل: كيف يصحّ شراء الجنّة على ذلك وهي مملوكة لله تعالى؟ وكيف يشتري أحد ملكه يملكه؟ قيل: إنما ذكر هذا على وجه التلطّف للمؤمنين في تأكيد الجزاء كما قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً}

(1)

فذكر الصدقة بلفظ القرض للتحريض على ذلك والترغيب فيه، إذا القرض يوجب ردّ المفلس لا محالة، وكأن الله عامل عباده معاملة من هو غير مالك، وعن جعفر الصّادق أنه كان يقول:(يا ابن آدم اعرف قدر نفسك، فإنّ الله عز وجل عرّفك قدرك ولم يرض أن يكون لك ثمن غير الجنّة).

(1)

البقرة 245/.

ص: 359

قوله تعالى: {يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ؛} فيه بيان عرض الذي لأجله اشتراهم، وهو أن يقاتلوا العدوّ في طاعة الله، ومعناه: فيقتلون المشركين، ويقتلهم المشركون، وعلى هذا أكثر القرّاء، حمزة والكسائي (فيقتلون) بالرفع، (ويقتلون) بالنصب، واختار الحسن هذه القراءة لأنه إذا قرئ هكذا كان تسليم النفس إلى الشّراء أقرب، وإنما يستحقّ البائع تسليم الثمن إليه تسليم المبيع.

قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا؛} نصب على المصدر؛ أي أوجب الله لهم الجنّة ووعدهم وعد حقّ منه لهم. وإنّما قال (حقّا) للفصل بين الوعد الذي حجره على وجه الجزاء لهم على العمل، وبين الوعد ينجزه للتصديق على وجه التفضيل لا الجزاء لهم على العمل.

قوله تعالى: {فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛} أي أوجب الله الجنة للمؤمنين في جميع كتبه التي أنزلها الله على أنبيائه عليهم السلام، قوله تعالى:{وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ؛} أي ليس أحد أوفى من الله في وعده وشرطه، وعدكم وعدا ولا يخلف لوعده.

قوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ؛} أي ببيعكم أنفسكم من الله، فإنه لا يشري أرفع من الله سبحانه، ولا ثمن أعلى من الجنّة. وقيل: إنّ هذا أنزل في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم صار عامّا في كلّ من يعمل مثل عملهم.

قال محمّد بن كعب: (لمّا بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكّة وهم سبعون نقيبا، قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال:[اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون عنه أنفسكم وأموالكم] قالوا: وإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: [الجنّة]،قال:

ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزل قوله تعالى {(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)} ثمّ هداهم الله بقوله {(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ))} .

قال الحسن: (اسمعوا إلى بيعة رابحة بايع الله بها كلّ مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلاّ وقد دخل في هذه البيعة).قال: (ومرّ أعرابيّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو

ص: 360

يقرأ هذه الآية، فقال: كلام من هذا؟ فقال: [كلام الله تعالى] وقال: بيع واثق مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى العدوّ فاستشهد).وأنشد الأصمعيّ لجعفر رضي الله عنه:

أثامن بالنّفس النّفيسة ربّها

وليس لها في الخلق كلّهم ثمن

بها تشترى الجنّات إن أنا بعتها

بشيء سواها إنّ ذلكم غبن

لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثّمن

وكان جعفر الصادق يقول: (أيا من ليست لهم عنه إنّه ليس لأبدانكم بثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها).وأنشد أبو علي الكوفي:

من يشتري قبّة في عدن عالية

في ظلّ طوبى رفيعات مبانيها

دلاّلها المصطفى والله بائعها

ممّن أراد وجبريل مناديها

قوله تعالى: {وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111)؛أي النجاة العظيمة والثواب الوافر؛ لأنّها نيل الجنّة الباقية بالنفس الفانية.

وقوله تعالى: {التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛} في الآية قولان: أحدهما: أن قوله {(التّائِبُونَ الْعابِدُونَ)} رفع بالابتداء، كأنه قال:

التائبون العابدون

إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا؛ أي من قعد عن الجهاد غير مؤازر ولا قاصد تركه، وهو على هذه الصّفة في هذه الآية فله الجنّة.

والقول الثاني: أنّ قوله {(التّائِبُونَ)} يدلّ على المقاتلين، كأنه قال: المقاتلون التائبون العابدون، ويجوز أن يكون قوله:{(التّائِبُونَ)} رفعا على المدح، أي هم التائبون من الشّرك والذّنوب، المطيعون لله {(الْحامِدُونَ)} الذين يحمدون الله تعالى على كلّ حال، {(السّائِحُونَ)} الصّائمون

(1)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان عن أبي هريرة: الحديث (13349 و 13340)،و (13443) عن ابن عباس بأسانيد. وابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (10028).

ص: 361

كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [سياحة أمّتي الصّوم]

(1)

وإنما سمي الصّائم سائحا تشبيها بالسائح في الأرض؛ لأن السائح ممنوع من الشّهوات، فكذلك الصائم.

قال الحسن: (أراد بالسّائحين صوّامي شهر رمضان)

(2)

،وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [السّائحون الصّائمون]

(3)

.وسئل سعيد بن جبير عن السائحين فقال: (هم الصّائمون)

(4)

،وقال الشاعر:

برّا يصلّي ليله ونهاره

يظلّ كثير الذّكر لله سائحا

أي صائما.

وقال الحسن أيضا: (السّائحون الّذين يصومون عن الحلال وأمسكوا عن الحرام، وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال، ولا يمسكون عن الحرام، والله ساخط عليهم)،وقال عطاء:(السّائحون هم الغزاة والمجاهدون)

(5)

.وسئل عكرمة عن قوله تعالى: {(السّائِحُونَ)} فقال: (طلبة العلم).

قوله تعالى: {(الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ)} أي الذين يؤدّون ما فرض الله عليهم من الرّكوع والسجود المفروضة، وقوله تعالى:{(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)} أي الآمرون بالإيمان والنّاهون عن الشّرك. وقيل: معناه: الآمرون بكلّ معروف، والناهون عن كلّ منكر.

وإنما ذكر الناهون بالواو وبخلاف ما سبق؛ لأن النهي عن المنكر لا يكاد يذكر إلا وهو مقرون بالأمر بالمعروف، فدخل الواو ليدلّ على المقارنة. والمعروف: هو السّنة، والمنكر: هو البدعة.

(1)

في الأصل المخطوط يكرر الناسخ صفحة سابقة من التفسير، ولا يشير إلى تكرارها سهوا منه، وهي من قوله: (واستأذنوه أن يبنوا مسجدا لذي العلة

وحرقوها وخرجوا سراعا).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13449).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (13439 - 13440).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13444).

(5)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 270.

ص: 362

قوله تعالى: {وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ؛} عطف على ما تقدّم. وقيل: المراد بهم جميع المذكورين من أوّل الآية إلى هذا الموضع، وهذه الصّفة من أتمّ ما يكون من المبالغة في وصف العباد بطاعته لله، والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره؛ لأن الله تعالى بيّن حدوده في الأمر والنهي وفي ما ندب إليه فرغّب فيه أو خيّر فيه، وبيّن ما هو الأولى في مجرى طاعة الله تعالى، فإذا قام العبد بفرائض الله وانتهى إلى ما أراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله، كما روي عن خلف بن أيّوب: أنّه أمر امرأته أن تمسك إرضاع ولده في بعض اللّيل وقال: قد تمّت له سنتان، قيل له: لو تركتها حتّى ترضعه هذه اللّيلة، قال: فأين قوله تعالى: {(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ)} . قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (112)؛أي بشّرهم بالجنة.

قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن أبويه أيّهما أحدث عهدا به؟ فقيل: أمّك، فقال:[هل تعلمون موضع قبرها؟ لعلّي آتيه فأستغفر لها، فإنّ إبراهيم عليه السلام استغفر لأبويه وهما مشركان] فقال المسلمون:

ونحن أيضا نستغفر لآبائنا وأهلينا. فانطلق صلى الله عليه وسلم حتّى أتى القبر، فإذا هو بجبريل عليه السلام عند القبر، فوضع يده في صدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية)

(1)

.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [استأذنت ربي أن أستغفر لوالديّ فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرهما فأذن لي]

(2)

.ومعنى الآية: ما ينبغي وما يجوز للنبيّ والذين آمنوا أن يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو دعتهم رقّة القرابة إلى الاستغفار لهم، {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (113)؛أي من بعد ما ظهر لهم أنّهم أصحاب النار بأنّهم ماتوا على الكفر.

(1)

في الدر المنثور: ج 4 ص 302؛ قال السيوطي: ((أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس)).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (14372).ومسلم في الصحيح: كتاب الجنائز: باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (976/ 108).

ص: 363

قوله تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ؛} أي ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أبوه له أن يسلم، {فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ؛} لإبراهيم، {أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ؛} بأن لم يؤمن حتى مات على الكفر، {تَبَرَّأَ مِنْهُ؛} أي من أبيه ومن دينه.

ويقال: إنما هذه الموعدة إنما كانت من ابراهيم لأبيه، فإنه كان قال لأستغفرنّ لك ما دمت حيا، ولم يكن الله تعالى أعلم إبراهيم أنه لا يغفر للمشركين، يدلّ عليه قراءة الحسن «(إلاّ من موعدة وعدها إيّاه)»

(1)

.

قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ} (114)؛الأوّاه: التّوّاب. قال ابن مسعود (هو الدّعّاء)

(2)

،وقال الحسن وقتادة:(هو الرّحيم الرّفيق)،ويقال: هو المؤمن بلغة الحبشة، إلا من قال إنه لا يجوز أن يكون في القرآن شيء غير عربيّ، قال: هذا موافق من العربية بلغة الحبشة. وقيل: الأوّاه الفقيه، وقال كعب:(هو الّذي إذا ذكرت عنده النّار قال: آه)

(3)

،وقيل: هو المتأوّه شفقا وفرقا، المتضرّع نفسا ولزوما للطاعة، وأما الحليم فهو الذي لا يعجّل بعقوبة الجاهل.

قوله تعالى: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل الفرائض وعمل بها النّاس، ثمّ أنزل بعد ذلك ما نسخها وقد مات ناس وهم يعملون بالأمر الأوّل مثل الصّلاة إلى بيت المقدس وشرب الخمر ونحو ذلك، ومات بعض المؤمنين وهم على القبلة الأولى، فذكر المؤمنون ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل هذه الآية)

(4)

.

(1)

(أباه) بالباء الموحدة، ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 222.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (13494).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (13515).

(4)

في معالم التنزيل: ص 586؛ نقله البغوي عن مقاتل والكلبي. وينظر: تفسير مقاتل بن سليمان: ج 1 ص 74.

ص: 364

ومعناها: وما كان الله ليضلّ عمل قوم وينزل قوما منزلة الضّلال بعد إذ هداهم للإيمان حتى يبيّن لهم ما يتّقون من المعاصي، ويقال: حتى يبيّن الناسخ من المنسوخ، {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ؛} من النّاسخ والمنسوخ، وبكل ما فيه مصلحة الخلق، {عَلِيمٌ} (115).

قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ؛} وذلك أنّ الله لمّا أمر المسلمين بقتال المشركين كافّة، وكان في المشركين ملوك لا يطمع المسلمون بهم لشوكتهم وعزّهم، أخبر الله تعالى أن لله ملك السّماوات والأرض، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ؛} يواليكم، {وَلا نَصِيرٍ؛} (116) ينصركم.

قوله تعالى: {لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ؛} معناه: وقد تجاوز الله من تولّى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذنه للمنافقين بالتخلّف، كما قال الله تعالى:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ،} وتجاوز عن ذنوب المهاجرين والأنصار.

وقيل: أراد بذلك قوما منهم تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا فأدركوه في الطريق. وقوله تعالى: {(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ)} صفة مدح لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم باتّباعهم إياه في وقت الشّدة في غزوة تبوك، وكانت بهم العسرة في النفقة والرّكوب والحرّ والخوف، وكانت الدابة الواحدة بين جماعة يتعقّبون عليها، وكانت التمرة تشقّ بالنّصف فيأكلها الرجلان كل واحد نصفها، وربما كانت جماعة يمصّون تمرة واحدة، ويشربون عليها، وربما كانوا ينحرون الإبل فيشربون من ماء كروشها في الحرّ.

قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ؛} أي من بعد ما كاد تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج والجهاد، ويقال من بعد ما كادوا يرجعون عن غزوتهم من الشدّة.

قوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (117)؛ أي ثم خفّف عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادوا يعقلون عن أنفسهم، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ .. } . إلى أن قال: {عَلِمَ أَنْ}

ص: 365

{لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ}

(1)

أي خفّف عنكم، وكقوله:{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ}

(2)

أي خفّف عنكم.

قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛} أي تاب على الثلاثة، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة الذين خلّفوا عن قبول توبتهم، {حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ؛} منع سعتها بامتناع الناس من مكالمتهم، {وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ؛} أي قلوبهم حين كتب قيصر إلى كعب ابن مالك: بلغني أنّ صاحبك قد جفاك، فالحق بنا فإنّ لك عندنا منزل وكرامة، فقال كعب:(من خطيئتي أن يطمع فيّ رجل من أهل الكفر)

(3)

.

قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاّ إِلَيْهِ؛} أي علموا وأيقنوا ألاّ مفرّ من عذاب الله إلا إليه بالتوبة، وقوله تعالى:{ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ؛} أي قبل توبتهم، {لِيَتُوبُوا؛} أي ليرجعوا عن مثل صنيعهم. ويقال: ليتوب الناس من بعدهم، {إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوّابُ؛} أي المتجاوز عن ذنوب المؤمنين، {الرَّحِيمُ} (118)؛بعباده التّائبين.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ} (119) أي يا أيّها الذين آمنوا اخشوا الله ولا تعصوه، وكونوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ومع الذين صدقت نيّاتهم، واستقامت قلوبهم وأعمالهم في الشدّة والرّخاء.

قوله تعالى: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ؛} أي ما جاز لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وهذا نهي ورد بلفظ النّفي، {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ؛} أي لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم آثر وأشفق عن نفس محمّد صلى الله عليه وسلم، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما أوجب له من الحقوق عليهم بدعائه لهم إلى الإيمان حتى اهتدوا به ونجوا من النار.

(1)

المزمل 20/.

(2)

البقرة 187/.

(3)

تقدم عزوه إلى صحيح مسلم. وأخرجه الطبري من حديث طويل أيضا: الرقم (13538).

ص: 366

قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} أي ذلك الزجر بأنّهم في التخلّف عن الجهاد، لا يصيبهم عطش ولا تعب في أبدانهم، ولا شدّة مجاعة في طاعة الله، ولا يجاوزون مكانا فيظهرون فيه من سهل أو جبل مجاوزتهم ذلك المكان، فإنّ الإنسان يغيظه أن يطأ أرضه غيره.

قوله تعالى: {وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (120)؛ أي لا يبطل ثواب من أحسن عملا من جهاد وغيره.

قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً؛} أي لا ينفقون في الجهاد نفقة صغرت أو كبرت، {وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً؛} من الأودية في طلب الكفّار، {إِلاّ كُتِبَ؛} ذلك، {لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ؛} من أعمالهم التي، {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (121)؛في الدّنيا.

قوله تعالى: {*وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً؛} قال ابن عبّاس:

(لمّا نزلت هذه الآية المتقدّمة وما فيها من العيوب وبيان نفاقهم، قال المؤمنون:

والله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سريّة أبدا، فلمّا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالسّرايا إلى الغزو، ونفر المؤمنون جميعا وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، أنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية).

ومعناها: أنه ليس للمؤمنين أن ينفروا كافّة ويخلفوا رسول الله وحده ليس عنده أحد من المسلمين يتعلّم منه الحلال والحرام والشرائع والأحكام، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ؛} أي فهلاّ خرج من كلّ جماعة طائفة إلى الجهاد، وتبقى طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسمع الذين تخلّفوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي، إذا رجعت السّرايا علّموهم ما علموا فيستوون جميعا في العلم في معرفة الناسخ والمنسوخ.

قوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122)؛ أي لينذر الذين تخلّفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومهم الذين نفروا إذا رجعوا إليهم من

ص: 367

غزاتهم، ويخبروهم بما نزل بعدهم من القرآن، لكي يحذروا كلّهم فلا يعملون شيئا بخلاف ما أنزل الله عز وجل.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً؛} أي قاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوّكم مثل بني قريظة والنضير وخيبر؛ أي ابدءوا بمن حولكم، ثم قاتلوا سائر الكفّار، لأن الاشتغال بقتال من بعدهم من المشركين مع ترك قتال من قرب لا يؤمن معه هجوم من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين، قوله تعالى:{(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)} أي ليكن منكم قول غليظ وشدّة عليهم في الوعد؛ كيلا يطمع فيكم أحد من أهل الكفر، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (123)؛في النصر على عدوّهم.

قوله تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؛} معناه: إذا ما أنزلت سورة من القرآن، فمن المنافقين من يقول: أيّكم زادته هذه السّورة إيمانا؟! إنّما كان بعضهم يقول لبعض على جهة الهزء. ويقال: كانوا يقولون للمستضعفين من المسلمين: أيّكم زادته هذه الآية يقينا وبصيرة؟ يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً؛} وهم المخلصون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زادتهم تصديقا مع تصديقهم، {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (124)؛أي يفرحون بكلّ ما ينزل من القرآن.

قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ؛} معناه: وأما الذين في قلوبهم شكّ ونفاق فزادتهم السورة شكّا إلى شكّهم وكفرا إلى كفرهم، لأنّهم كلما كفروا بسورة ازدادوا كفرا، والمؤمنون كلّما صدّقوا بسورة ازدادوا تصديقا. قوله تعالى:{وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} (125)؛ إذ هم لشكّهم فيما أنزله الله من السورة إلى أن ماتوا على الكفر.

وإنما سمّى الله النفاق مرضا؛ لأن الحيرة في القلب مرض في القلب، كما أن الوجع في البدن مرض في البدن.

قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (126)؛معناه: أولا يرى المنافقون أنّهم

ص: 368

يخسرون بالدّعاء إلى الجهاد في كلّ عام مرّة أو مرّتين، ويقال: يهلكون بهتك أسرارهم، ثم يظهر الله من سوء نيّاتهم وخبث سرائرهم

(1)

.ويقال: كانوا ينقضون عهدهم في السّنة مرة أو مرتين فيعاقبون، ثم لا يتوبون عن نفاقهم ولا يذكرون بما صنع الله بهم بنقضهم العهد. وقرأ حمزة ويعقوب:«(أولا ترون)» بالتاء خطابا للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

قوله تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ؛} إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين فخاطبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعرّض لهم في خطبته، نظر بعض المنافقين إلى بعض، {هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ،} من المخلصين إذا هو قائم فخرج من المسجد، فإذا كان لا يراه أحد خرج من المسجد وانصرف، وإن علموا أنّ أحدا يراهم قاموا وثبتوا مكانهم حتى يفرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من خطبته.

قوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا؛} أي انصرفوا عن الإيمان والعمل بترك ما يستمعون، ويقال: انصرفوا عن المكان الذي سمعوا فيه، {صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ؛} باللطف الذي يحدثه للمؤمنين. قوله تعالى:{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (127)؛أي ذلك الصرف بأنّهم قوم لا يفقهون ما يريد الله بخطابه.

قوله تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ؛} هذا خطاب لأهل مكّة، والمعنى: لقد جاءكم رسول من أهل نسبكم ولسانكم، شريف النّسب تعرفونه وتفهمون كلامه. وإنما قال ذلك؛ لأنه أقرب إلى الألفة. وقيل:

إن هذا خطاب لجميع الناس، معناه: جاءكم آدميّ مثلكم، وهذا أوكد للحجّة عليكم؛ لأنّكم تفهمون عن من هو من جنسكم.

وقرأ ابن عبّاس والزهري «(من أنفسكم)» بفتح الفاء؛ أي من أشرفكم وأفضلكم، من قولك: شيء ذو نفس

(2)

،وقال: كان من أعلاكم نسبا، قوله تعالى:

{(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ)} أي شديد عليه عنتكم وإثمكم، العنت: الضيّق والمشقّة.

(1)

في المخطوط: (شرارهم).

(2)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 10 ص 247.

ص: 369

قوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ؛} أي حريص على إيمانكم وهداكم أن تؤمنوا فتنجوا من العذاب وتفوزوا بالجنّة والثواب، والحرص: شدّة الطّلب للشيء مع الاجتهاد فيه. قوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (128)؛كلام مستأنف؛ أي وهو شديد الرحمة لجميع المؤمنين، رفيق لمن اتّبعه على دينه.

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129)؛أي فإن أعرضوا عنك وعن الإيمان بك، فقل الله تعالى حسبي لا إله إلاّ هو؛ أي لا ناصر ولا معين غيره، {(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)} أي به ثقتي، وإليه فوّضت أمري.

قوله تعالى: {(رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)} أي خالق السّرير العظيم الذي هو أعظم من السّماوات والأرض، وإنّما خصّ العرش بذلك؛ لأنه إذا كان ربّ العرش العظيم مع عظمته، كان ربّ ما دونه في العظم. وقيل: إنما خصّ العرش؛ تشريفا للعرش وتعظيما لشأنه. وقرئ في الشواذ (العظيم) بالرفع على نعت الرب

(1)

.

آخر تفسير سورة (براءة) والحمد لله رب العالمين.

(1)

في جامع البيان: الحديث (13587) بأسانيد؛ أخرج الطبري بسنده عن أبي بن كعب؛ قال: (آخر آية نزلت من القرآن: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ

إلى آخر الآية، فقال: أحدث القرآن عهدا بالله الآيتان لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

إلى آخر السورة).

ص: 370