المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه التّوفيق والإعانة   ‌ ‌سورة الأعراف سورة الأعراف أربعة - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٣

[أبو بكر الحداد]

الفصل: بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه التّوفيق والإعانة   ‌ ‌سورة الأعراف سورة الأعراف أربعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه التّوفيق والإعانة

‌سورة الأعراف

سورة الأعراف أربعة عشر ألف حرف وثلاثمائة حرف وعشرة أحرف؛ وثلاثة آلاف كلمة وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة؛ ومائتان وستّ آيات، وهي مكّيّة

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

قوله عز وجل: {المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2)؛قال ابن عبّاس: في قوله:

{(المص)} : (معناه: أنا الله أعلم وأفصّل)

(2)

.وقيل: اللاّم افتتاح اسمه: لطيف؛ والميم افتتاح اسمه: مجيد ومالك؛ والصاد افتتاح اسمه: صمد وصادق الوعد وصانع المصنوعات.

وقيل: هي حرف اسم الله الأعظم. وقيل: هي حروف تحوي معان كثيرة.

وموضعه رفع بالابتداء، و (كتاب) خبره؛ كأنه قال: المص حروف كتاب أنزل إليك.

وقيل: (كتاب) خبر مبتدأ مضمر؛ أي هذا كتاب. وقيل: رفع على التقديم والتأخير؛ يعني: أنزل إليك كتاب؛ وهو القرآن.

قوله: {(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)} أي فلا يقع في نفسك شكّ منه؛ خاطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنى به الخلق كلّهم؛ أي لا ترتابوا وتشكّوا. ويقال: الحرج: الضيّق؛ أي لا يضيق صدرك من تأدية ما أرسلت به، ولا تخافنّ من إبلاغ الرّسالة، فإنك في

(1)

أما أنها مكية؛ في الدر المنثور: ج 3 ص 412؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير)).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11128 - 11129).وينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 3.

ص: 115

أمان الله؛ والله يعصمك من الناس. قوله تعالى: {(لِتُنْذِرَ)} أي أنزل إليك لتخوّف {(بِهِ)} بالقرآن أهل مكة. {(وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)} أي وليكون عظة لمن اتّبعك.

قوله تعالى: {اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؛} أي اعملوا بما أنزل إليكم من ربكم. وحقيقة اتّباع القرآن تصرف الناس تصريف القرآن لهم وتدبّرهم بتدبيره. قوله تعالى: {(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)} أي لا تتّخذوا من دونه أوثانا، ولا تتولّوا أحدا إلا لوجهه. قوله تعالى:{قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} (3)؛أي قليلا ما تتّعظون.

قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} (4) أي وكم من قرية أهلكنا أهلها بأنواع العذاب فجاءها بأسنا ليلا. وسمّى الليل بياتا؛ لأنه بيات فيه. قوله تعالى: {(أَوْ هُمْ قائِلُونَ)} أي وقت الظّهيرة؛ يعني نهارا في وقت القائلة. و {(قائِلُونَ)} :نائمون وقت الهاجرة.

وإنّما خصّ هذين الوقتين بنزول العذاب؛ لأنّهما من أوقات الرّاحة. وقيل:

من أوقات الغفلة. ومجيء العذاب في حال الراحة أغلظ وأشدّ؛ أهلك الله قوم شعيب في نصف النهار، وفي حرّ شديد وهم قائلون. وفائدة هذه الآية: التهديد والوعيد على معنى: إن لم تتّعظوا أتاكم العذاب ليلا أو نهارا كما أتى الأوّلين الذين لم يتّعظوا.

ثم أخبر جلّ ذكره عن حال من أتاهم العذاب فقال عز وجل: {فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاّ أَنْ قالُوا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} (5)؛معناه: لم يكن قولهم ودعاؤهم حين جاءهم عذابنا إلا الاعتراف بالظلم والشّرك؛ أي اعتبروا بهم؛ فكما لم ينفعهم تضرّعهم عند رؤية البأس؛ كذلك لا ينفعكم إذا جاءكم العذاب تضرّعكم.

قال سيبويه: (إنّ الدّعوى تصلح في معنى الدّعاء، ويجوز أن يقال: اللهمّ أشركنا في صالح دعوى المسلمين ودعاء المسلمين)

(1)

.فإن قيل: إنّ الهلاك يكون

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 163؛ نقله القرطبي عن النحويين. وفي اللباب: ج 9 ص 18؛قال الحنبلي: ((حكاه الخليل)).

ص: 116

بعد البأس؛ فكيف قال: {فَأَهْلَكْناهُمْ}

(1)

{أَهْلَكْناها}

(2)

{فَجاءَها بَأْسُنا؟} قيل: إنّهما يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت. ويجوز أن يكون التقدير: أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا.

قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (6) إخبار عن حالهم يوم القيامة. ودخول الفاء أوّل في هذه الآية لتقريب ما بين الهلاك وسؤال يوم القيامة. والمعنى: فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم: هل بلّغتكم الرسل الرسالة؟ وماذا أجبتموهم؟ ولنسألنّ المرسلين: هل بلّغتم قومكم ما أرسلتم به؟ وماذا أجابوكم؟

قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنّا غائِبِينَ} (7)؛أي لنجزينّهم بما عملوا بعلم منّا؛ معناه: إنّا لنسألهم لنعلم أنّ ما نسألهم لإقامة الحجّة عليهم. قوله: {(وَما كُنّا غائِبِينَ)} معناه: إنّا كنّا عالمين بكلّ شيء من تبليغ الرّسالة وجواب الأمم.

قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ؛} أي وزن الأعمال يوم القيامة الحقّ؛ فلا ينقص من إحسان محسن؛ ولا يزاد على إساءة مسيء. وقال مجاهد:

(معناه: والقضاء يومئذ العدل)

(3)

.

قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (8)؛أي من رجحت حسناته على سيّئاته فأولئك هم الظّافرون بالمراد،

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} أي رجحت سيّئاته على حسناته، {فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} عموا حظّ أنفسهم، {بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ} (9)؛أي بما كانوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم يجحدون. فالخسران: ذهاب رأس المال؛ ورأس مال الإنسان نفسه؛ فإذا هلك بسوء عمله فقد خسر نفسه.

(1)

الكهف 59/.

(2)

الأنبياء 6/.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11142 و 11143).

ص: 117

وقد تكلّموا في ذكر الموازين يوم القيامة؛ قال ابن عبّاس: (توزن الحسنات والسّيّئات في ميزان له لسان وكفّتان توضع فيه أعمالهم، فأمّا المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة؛ فيوضع في كفّة الميزان؛ فتثقل حسناته على سيّئاته؛ فيوضع عمله في الجنّة عند منازله، ثمّ يقال له: الحق بعملك؛ فيأتي منازله في الجنّة فيعرفها بعمله.

وأمّا الكافر؛ فيؤتى بعمله في أقبح صورة؛ فيوضع في كفّة الميزان؛ فيخفّ -والباطل خفيف-ثمّ يرفع فيوضع في النّار، ثمّ يقال له: الحق بعملك؛ فيلحق فيأتي منازله في النّار)

(1)

.

وقيل: إنّ المراد بالعمل في هذا الخبر أنّ الله يجعل للحسنات صورة حسنة؛ وللسيّئات صورة قبيحة، إلاّ أن عين الأعمال توزن؛ لأنّ الأعمال أعراض منقضية لا تعاد. وقال ابن عمر:(يؤتى بصحف الطّاعات وصحف المعاصي، فتوزن الصّحف).

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يؤتى بالعبد المؤمن يوم القيامة إلى الميزان، ثمّ يؤتى بتسعة وتسعين سجلا؛ كلّ واحد منهم مدّ البصر؛ فيها خطاياه وذنوبه؛ فتوضع في كفّة الميزان، ثمّ تخرج بطاقة من تحت العرش بمقدار أنملة؛ فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله؛ فتوضع في الكفّة الأخرى. فيقول العبد: يا رب؛ ما تزن هذه البطاقة مع هذه الصّحائف؟! فيأمر الله أن توضع؛ فإذا وضعت في الكفّة طاشت الصّحف ورجحت البطاقة]

(2)

.

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 420؛ قال السيوطي: ((أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس)).وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في حشر الناس: الحديث (282)؛ قال: ((ذهب أهل التفسير إلى إثبات الميزان بكفتيه، وجاء في الأخبار ما يدل عليه. وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس

وذكره)).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11149).ورواه ابن ماجة في السنن: كتاب الزهد: الحديث (4300) عن عبد الله بن عمر. والبيهقي في شعب الإيمان: الحديث (283).

ص: 118

وقال بعضهم: يوزن الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:[يؤتى بالرّجل الأكول الشّروب العظيم فيوزن؛ فلا يزن جناح بعوضة؛ اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً}]

(1)

.

وأما ذكر الموازين بلفظ الجماعة؛ فلأنّ الميزان يشتمل على الكفّتين والخيوط والشاهدين

(2)

.فإن قيل: ما الحكمة في وزن الأعمال، والله قادر عالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إيّاه وبعده؟ قيل: لإقامة الحجّة عليهم، ونظيره قوله تعالى:{إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

(3)

فأخبر بنسخ الأعمال وإثباتها مع علمه بها لما ذكرنا. وقيل:

الحكمة فيه تعريف الله العباد ما لهم عنده من جزاء على الخير والشرّ. وقيل: جعله الله علامة للسعادة والشقاوة. وقيل: لامتحان الله عباده بالإيمان به في الدّنيا.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ؛} أي مكّنّاكم بالتمليك والإقرار ودفع الموانع، وجعلنا لكم في الأرض معايش؛ وهو ما تعيشون به من الرّزق؛ وهو ما يخرج من الأرض من الحبوب والأشجار والثّمار.

وقيل: معنى (المعايش):التواصل إلى ما يعاش به من الحراثة والتجارة، وأنواع الحرف والزراعات. قوله تعالى:{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} (10)؛أي شكركم فيما صنع إليكم قليل. وقيل: معنى قوله: {(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ)} أي تعيشون بها أيّام حياتكم من المآكل والمشارب.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ؛} أي خلقنا آدم الذي هو أصل خلقتكم، ثم صوّرناه إنسانا، {ثُمَّ قُلْنا؛} من بعد خلقه من التراب وتصويره؛ {لِلْمَلائِكَةِ؛} الذين كانوا في الأرض مع إبليس:{اُسْجُدُوا لِآدَمَ؛} سجدة تحيّة؛ {فَسَجَدُوا؛} المأمورون؛ {إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ} (11)؛لآدم.

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب (6):الحديث (4892) عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله: [إنّه ليأتي الرّجل

].ومسلم في الصحيح: كتاب صفة القيامة: الحديث (2785/ 18).

(2)

في المخطوط: (والساهين).

(3)

الجاثية 29/.

ص: 119

وقيل: معنى الآية: ولقد خلقناكم في بطون أمّهاتكم نطفا؛ ثم علقا؛ ثم مضغا؛ ثم عظاما؛ ثم لحما، ثم صوّرناكم: الحسن والذميم؛ والطويل والقصير، وصوّرنا لكم عضوا من العين والأنف والأذن واليد والرّجل وأشباه ذلك.

قوله تعالى: {(ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)} قال الأخفش: ((ثمّ) هاهنا في معنى الواو)

(1)

أي وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآن. قوله تعالى للملائكة:

{(اسْجُدُوا لِآدَمَ)} قبل خلقنا وتصويرنا.

وأنكر الخليل وسيبويه أن تكون (ثمّ) بمعنى (الواو)،ولكن تكون للتراخي.

ويجوز أن يكون معنى (ثمّ) هاهنا التّراخي من حيث الإخبار دون ترادف الحال.

قوله تعالى: {قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؛} أي ما منعك أن تسجد، و (لا) زائدة في الكلام كما في قوله تعالى:{لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ}

(2)

أي ليعلم أهل الكتاب. وقيل: معناه: ما دعاك إلى أن لا تسجد، وقد علم الله ما منعه من السجود، ولكن مسألته إياه توبيخ له وإظهار أنه معاند ركب المعصية. وعن يحيى بن ثعلب أنه قال:(كان بعضهم يكره أن لا ويقول: تقديره: من قال لك لا تسجد؟).

قوله تعالى: {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (12)؛ ليس هذا الجواب عمّا سأله تعالى من جهة اللفظ؛ لأن هذا الجواب جواب: أيّكما خير؟ إلاّ أن هذا جواب من جهة المعنى، فإن معناه: إنّما منعني من السجود له إلا أنّي كنت أفضل منه.

وكان هذا القول من اللّعين تجهيلا منه بخالقه؛ كأن قال: إنّك فضّلت الظّلمة على النّور وليس ذلك من الحكمة. فأعلم الله تعالى أنه صاغر بهذا القول، وليس الأمر على ما قاله الملعون؛ لأنه رأى أنّ جوهر النار أفضل من جوهر الطّين في المنفعة، وليس كذلك لأن عامّة الثّمار والحبوب والفواكه من الطّين، وكذلك الملابس كلّها لا تخرج إلا من الطّين، وعمارة الأرض من الطين، وهو موضع القرار عليه لا

(1)

قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 2 ص 294.

(2)

الحديد 29/.

ص: 120

استغناء عنه في حال من الأحوال. وأما النّار فهي للخراب، وإن كان فيها بعض المنافع.

قال ابن عبّاس: (أوّل من قاس فأخطأ القياس إبليس لعنه الله، فمن قاس الدّين بتبع من رأيه قرنه الله مع إبليس).

(1)

وكان قياس إبليس أنه قال: النار خير وأفضل وأصفى وأنور من الطّين. وقال ابن سيرين: (أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشّمس والقمر إلاّ بالمقاييس).

(2)

وقد أخطأ عدوّ الله حين فضّل النّار على الطّين، بل الطّين أفضل من النّار من وجوه كثيرة؛ أحسنها:

(3)

إنّ جوهر الطّين السّكون والوقار والحياء والصّبر والحلم، وذلك هو الدّاعي لآدم بعد السّعادة الّتي سبقت له إلى التّوبة والتّواضع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية والتّوبة. ومن جوهر النّار الخفّة والطّيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك هو الدّاعي لإبليس بعد الشّقاوة الّتي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه العذاب والهلاك واللّعنة والشّقاء.

والثّاني: أنّ الطّين سبب لجمع الأشياء، والنّار سبب لتفرّقها. والثّالث: أنّ الخبر ناطق بأنّ تراب الجنّة مسك أذفر،

(4)

ولم ينطق الخبر أنّ في الجنّة نارا وفي النّار ترابا. والرّابع: أنّ النّار سبب عذاب الله تعالى لأعدائه، وليس التّراب للعذاب.

والخامس: أنّ التّراب مستغن عن النّار، والنّار تخرج إلى المكان ومكانها التّراب).

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 425؛ قال السيوطي: ((وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر ابن محمّد عن جده: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس، قال الله له: اسجد لآدم، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتّبعه بالقياس)).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11161).

(3)

في المخطوط: (أخسّها).

(4)

أذفر، والذّفر: شدّة ذكاء الريح من طيب أو نتن، وفي صفة الحوض: وطينه مسك أذفر؛ أي طيّب الريح. لسان العرب: (ذفر).

ص: 121

قوله تعالى: {قالَ فَاهْبِطْ مِنْها؛} أي من الجنّة. وقيل: من السّماء إلى الأرض، فإنّ السّماء ليس بموضع للمتكبرين. وقيل: معناه: فاهبط من الأرض؛ أي اخرج منها والحق بجزائر البحار، فإنّما تسلط به في الجزائر فلا تدخل الأرض إلا كهيئة السّارق عليه أطمار يروع فيها، حتى يخرج من الأرض.

قوله تعالى: {فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها؛} أي ليس لك أن تتعظّم في الأرض على بني آدم، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ} (13)؛أي من الأذلاّء.

والصّغار هو الذّلّ.

قوله تعالى: {قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (14)؛أي قال إبليس حين خشي أن يعاجله الله بالعقوبة: أمهلني وأخّر جزائي إلى يوم يبعثون من قبورهم؛ وهي النفخة الأخيرة عند قيام السّاعة.

أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، {قالَ؛} الله تعالى:{إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (15)؛أي المؤخّرين المؤجّلين إلى يوم الوقت المعلوم؛ وهي النفخة الأولى عند موت الخلق كلّهم.

وهذا ليس بإجابة إلى ما سأل؛ لأنه سأل الله الإمهال إلى النفخة الثانية، فأبى الله أن يعطيه ذلك، {قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}

(1)

يعني إلى النفخة الأولى يموت حينئذ أهل السّماوات والأرض، ويموت إبليس معهم. وبين النفخة الأولى والثانية أربعين سنة.

واختلفوا في أنّ الله تعالى هل يجيب دعوة الكافر أم لا؟ قال بعضهم: لا يجيب؛ لأنّ إجابة الدّعاء تكون تعظيما للدّاعي؛ ولهذا يرجو الإنسان أنه مجاب الدّعوة، ولا يحسن من الله تعالى أن يعلم أحدا مدّة حياته لما في ذلك من الإغراء بالمعاصي. وكيف يجوز أن يجيب الله تعالى إبليس إلى ما سأل، ولم يكن سؤاله على جهة التّضرّع والخشوع والرّغبة إلى الله، وإنّما سأل ليغوي الناس ويضلّهم. وقال بعضهم: يجوز إجابة دعاء الكافر استدراجا واستضلالا له ولغيره، ولا تكون إجابة الكافر تعظيما له بحال أبدا.

(1)

الحجر 37/-38.

ص: 122

قوله تعالى: {قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي؛} أي فبما أضللتني عن الهدى، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (16)؛أي لأرصدنّ على طريق بني آدم، وأصدّهم عن دينك المستقيم. وقال الحسن:(معنى: {(أَغْوَيْتَنِي)} لعنتني).وقيل:

(أغويتني) خيّبتني، وقد يكون الغوى بمعنى الخيبة. وقيل:(أغويتني) أي أهلكتني.

قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ؛} قال ابن عبّاس: (معناه: أنّ إبليس قال: لآتينّهم من قبل آخرتهم؛ فلأخبرنّهم أنّه لا جنّة ولا نار، ولا بعث ولا حساب).

(1)

{وَمِنْ خَلْفِهِمْ؛} أي من قبل دنياهم؛ فلآمرنّهم بجمع المال مخافة الفقر وأن لا يؤدوا حقّه، {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ؛} أي من قبل دينهم فأبيّن لهم ضلالتهم، وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتى أخرجهم منه، {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ؛} أي من قبل اللّذات والشّهوات فأزيّنها لهم، {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} (17)؛لنعمتك.

وقال السّدّيّ: (معنى: {(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ)} أراد الدّنيا أغويهم إليها،

(2)

{(وَمِنْ خَلْفِهِمْ)} فمن الآخرة أشكّكهم فيها وأبعدها عليهم، {(وَعَنْ أَيْمانِهِمْ)} قال:

الحقّ أشكّكهم فيه، {(وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)} قال: الباطل أخفيه عليهم وأرغّبهم فيه).

(3)

وقيل: أراد بقوله {(وَعَنْ أَيْمانِهِمْ)} من جهة الحسنات أغفلهم عنها، {(وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)} يعني من جهة السيّئات، فإنّ الحسنات تضاف إلى اليمين، والسيّئات تضاف إلى الشمال. وقيل: معنى الآية: ثم لأحتالنّ في إغوائهم من كلّ وجه. قال قتادة:

(أتاك يا ابن آدم من كلّ وجه، غير أنّه لا يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة ربك، إنّما تأتيك الرّحمة من فوقك).

(4)

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11174 و 11175) ولفظه قريب للفظ قتادة.

(2)

عند الطبري: (أدعوهم إليها).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11178).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11175)،وفيه: (غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع

).

ص: 123

وقال شقيق بن إبراهيم: (ما من صباح إلاّ قعد لي الشّيطان على أربعة مراصد: من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي. أمّا ما بين يديّ؛ فيقول لي: لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم، فأقول: ذلك لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى.

وأمّا من خلفي؛ فيخوّفني الضّيعة على درّيّتي ومن خلفي، فأقول: وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها. وأمّا من قبل يميني؛ فيأتيني من قبل النّساء، فأقول:

والعاقبة للمتّقين. وأمّا من قبل شمالي؛ فيأتيني من اللّذات والشّهوات، فأقول: وحيل بينهم وبين ما يشتهون).

وإنّما ذكر (من) في قوله: {(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ)} وذكر (عن) في قوله:

{(وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)} لأن القدّام والخلف يكون لابتداء الغاية، والغاية تذكر بحرف (من).وأمّا جهة اليمين والشمال فإنّها تكون للانحراف، فذكرها ب (عن).

فإن قيل: من أين علم إبليس أنه لا يكون أكثرهم شاكرين؛ أي أكثر الناس شاكرين؟ قيل: إنّه ظنّ بهم ظنّا، فوافق ظنّه مظنونه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} .

(1)

وإنّما ظنّ ذلك؛ لأنه لمّا تمكّن من استزلال آدم وحوّاء؛ علم أنّ أولادهما أضعف منهما، فيكون تمكّنه منهم أكثر.

قوله تعالى: {قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً؛} أي أخرج من الجنّة.

وقيل: من السّماء، (مذءوما) أي مذءوما معيبا، والذأم والذّيم: شدّة العيب، يقال:

ذامت الرّجل ذومة وذأمة؛ إذا عبته وذمته. قوله: (مدحورا) أي مبعدا من الخير والرحمة. والدّحر: الدّفع على وجه الهوان والذّلّ.

وقال ابن عبّاس: (مذءوما) ممقوتا.

(2)

وقال مجاهد: (مذءوما) صاغرا. وقال أبو العالية: (مذءوما) أي مزدرا. وقال عطاء: (مذءوما) أي ملعونا. وقال الكسائيّ:

(المذموم: المقبوح).

(1)

سبأ 20/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11185).

ص: 124

قوله تعالى: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (18)؛ واللاّم في قوله: (لمن) لام القسم دخلت على لفظ الشّرط والجزاء بمعنى التأكيد والمبالغة؛ كأنه قال تعالى: من تبعك لأبالغنّ في تعذيبه عذابا شديدا، كذلك قوله تعالى:{(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)} أي منك ومن ذرّيّتك ومن كفّار ذرّيّة آدم عليه السلام.

قوله تعالى: {وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ؛} أي اسكن أنت وزوجتك الجنّة؛ لأن الإضافة إليه دليل على ذلك، وحذف التاء أحسن؛ لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى. وأمّا الجنّة التي أسكنهما الله فيها؛ فهي جنّة الخلد في أكثر أقوال أهل العلم، بخلاف ما يقوله بعضهم: إنّها كانت بستانا في السّماء غير جنّة الخلد. وذلك أنّ الله تعالى عرّف الجنّة بالألف واللام على جهة التّشريف.

قوله تعالى: {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما؛} أي من أيّ شيء شئتما موسعا عليكما، {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ} (19)؛يجوز أن يكون منصوبا؛ لأنّه جواب النّهي، ويجوز أن يكون مجزوما عطفا على النّهي، ومعناه:

فتكونا من الضّارّين أنفسكما.

قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ؛} أي زيّن لهم الشيطان الأكل من الشجرة؛ ليظهر لهما ما ستر من عوراتهما. والوسوسة: إلقاء المعنى إلى النّفس بصوت خفيّ. والفرق بين وسوس له ووسوس إليه: أنّ معنى وسوس له:

أوهمه، ومعنى وسوس إليه: ألقى إليه.

وإنّما سميت العورة سوأة؛ لأنه يسوء الإنسان انكشافها. قوله تعالى: {(إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)} قرأ بعضهم: «(ملكين)» بكسر اللاّم، ومعناه: إلاّ أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشرّ، وإن لم تكونا ملكين تكونا من الخالدين لا تموتان.

ص: 125

قوله تعالى: {أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} (20)؛أي لا تموتان فتفنيان أبدا، فذلك قوله تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أي على شجرة من أكل منها لم يمت. وقوله تعالى: {وَمُلْكٍ لا يَبْلى} أي جديد لا يفنى. وعلى قراءة من قرأ «(ملكين)» بكسر اللاّم استدلالا له بقوله تعالى:

{هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} .

قيل: كيف أوهمهما أنّهما إذا أكلا من تلك الشجرة تغيّرت صورتهما إلى صورة الملك، أو يزداد في حياتهما؟ قيل: أوهمهما أنّ من حكمة الله أن من أكل منها صار ملكا أو ليزيد حياته. وقيل: إنّه لم يطمعهما في أن تصير صورتهما كصورة الملك، وإنّما أطمعهما في أن تصير منزلتهما منزلة الملك في العلوّ والرّفعة.

قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} (21)؛أي حلف لهما إنّي لكما لمن النّاصحين فيما أقول. وإنّما قال: {(وَقاسَمَهُما)} على لفظ المفاعلة؛ لأنه قابلهما بالحلف، وهذا كما يقال: عاقبت اللّصّ؛ وناولت الرّجل.

قال قتادة: (حلف لهما حتّى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله تعالى، وقال لهما: إنّي خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتّبعاني أرشدكما).وكان بعض العلماء يقول: (من خادعنا بالله خدعنا). وقال صلى الله عليه وسلم: [المؤمن غرّ كريم، والفاجر خبّ لئيم].

ص: 126

وأنشد نفطويه بعضهم:

إنّ الكريم إذا تشاء خدعته

وترى اللّئيم مجرّبا لا يخدع

قوله تعالى: {فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ؛} أي حدرهما من أعلى إلى أسفل؛ لأنّ الخير عال والشّرّ سافل. وقال بعضهم: معناه: قرّبهما مما أراد من التّورية؛ وهي التقريب مأخوذ من أدلى الدّلو، ويقال: فلان يدلي فلانا بالغرور؛ أي يخدعه بكلام زخرف باطل.

وقال مقاتل: (فدلاّهما بغرور) أي زيّن لهما الباطل. فدلاّهما بغرور؛ الغرور ما تقدّم ذكره بقوله لهما: {(ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)} . وفي بعض الرّوايات: أنّ آدم عليه السلام كان يقول وقت توبته: ما ظننت يا رب أنّ أحدا يجرأ فيحلف باسمك كاذبا.

قوله تعالى: {فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما؛} فيه دليل أنّهما لم يبالغا في الأكل، ولكن لمّا وصل إلى جوفهما تهافت عنهما لباسهما، وظهر لكلّ منهما عورة صاحبه فاستحيا، {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ؛} أي عمدا فأخذا يلزقان عليهما من ورق التّين.

والخصف: الإلزاق بعضه إلى بعض، كما يعمل الخصّاف الذي يرقّع النّعل.

ومعنى (طفقا) أخذا في العمل، يقال: بات يفعل كذا إذا فعله ليلا، وظلّ يفعل كذا إذا فعله نهارا، وطفق يفعل كذا إذا فعل في أيّ وقت كان.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ آدم كان رجلا طوالا كأنّه نخلة سحوق كثير شعر الرّأس، فلمّا وقع بالخطيئة بدت سوأته وكان لا يراها، فانطلق هاربا في الجنّة، فعرضت له شجرة من شجر الجنّة فحبسته بشعره، قال لها: أرسليني! فقالت: لست مرسلتك. فناداه ربّه: يا آدم؛ أمنّي تفرّ؟ قال: لا، ولكن استحييت].

(1)

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11197) عن أبي بن كعب، وهو اللفظ في الحديث (11201) بإسناد آخر.

ص: 127

وقال ابن عبّاس: (قال الله: يا آدم، ألم يكن لك فيما أبحت لك من الجنّة مندوحة عن الشّجرة؟ قال: بلى، ولكن وعزّتك ما ظننت أنّ أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فو عزّتي لأهبطنّك إلى الأرض، ثمّ لا تنال العيش إلاّ بكدّ. فأهبط إلى الأرض هو وحوّاء، فعلّم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزرع، وسقى وحصد، ثمّ درس وروى، ثمّ طحن، ثمّ عجن، ثمّ خبز، ثمّ أكل. فلم يبلغ إلى الأكل حتّى بلغ ما شاء الله أن بلغ).

قوله تعالى: {وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ} (22)؛قال محمد بن قيس: (ناداه ربّه: يا آدم، لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: يا رب؛ أطعمتني حوّاء. قال: يا حوّاء؛ لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحيّة

(1)

.فقيل للحيّة: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قال الله تعالى:

أمّا أنت يا حوّاء؛ فكما أدميت الشّجرة تدمين كلّ شهر، وأمّا أنت يا حيّة فأقطع قوائمك، فتمشين في التّراب على وجهك، وسيشدخ رأسك كلّ من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور)

(2)

.

قوله عز وجل: {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا؛} أي ضررناها بالمعصية، وهذا اعتراف بالخطيئة على أنفسهما، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} (23)؛بالعقوبة.

قوله تعالى: {قالَ اهْبِطُوا؛} أي قال اهبطوا من الجنّة إلى الأرض، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ،} أي في حال عداوة، {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ؛} أي ولكم في الأرض مستقرّ ومنفعة، {إِلى حِينٍ} (24)؛أي إلى منتهى آجالكم.

قوله تعالى: {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ؛} أي في الأرض تعيشون، {وَفِيها تَمُوتُونَ؛} وفي الأرض تقبرون، {وَمِنْها تُخْرَجُونَ} (25)؛أي من قبوركم للبعث.

(1)

في المخطوط: (أطعمتني الحية) وهو تحريف.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11205).

ص: 128

قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً؛} أي أنزل الله المطر من السّماء فكانت الكسوة منه، يعني أنّ لباسهم من نبات الأرض من القطن والكتّان. وهو ماء السّماء، وما يكون من الكسوة من أصواف الأغنام، فقوام الأنعام أيضا من نبات ماء السّماء، كذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:

(وقوله: {(يُوارِي سَوْآتِكُمْ)} قوله تعالى: {(وَرِيشاً)} يعني مالا) هكذا قال ابن عبّاس ومجاهد والضحّاك والسّدّيّ

(1)

.

ويقال: تريّش الرّجل؛ إذ تموّل. وقال ابن زيد: (الرّيش: الجمال)

(2)

.وقرأ عثمان بن عفّان والحسن وقتادة: «(ورياشا)» بالألف وهو جمع ريش

(3)

،مثل ذئب وذئاب. وقال الأخفش:(الرّياش: الخصب والمعاش).وقيل: معنى الرّيش: ما يتأثث به في البيت من متاعه.

قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى؛} قال قتادة والسّدّيّ: (هو العمل الصّالح)

(4)

، {ذلِكَ خَيْرٌ؛} لأنّه يقي من العذاب والعقاب، كأنّه قال: لباس التّقوى خير من الثياب؛ لأنّ الفاجر وإن كان حسن الثياب فهو بادي العورة. قال الشاعر:

إنّي كأنّي أرى من لا حياء له

ولا أمانة وسط القوم عريانا

(1)

في جامع البيان: الأثر (11221) عن ابن عباس، والأثر (11222) عن مجاهد، والأثر (11225) عن الضحاك، والأثر (11223) عن السدي.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11228).

(3)

نقله الطبري في جامع البيان عن زر بن حبيش والحسن البصري: تفسير الآية. وفي الأثر عن الحسن البصري قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكره: الرقم (11235).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11233) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 184؛ قال القرطبي: (وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبد الجهني

) وذكره.

ص: 129

وقال ابن جريج: (لباس التّقوى هو الإيمان)

(1)

.وقال معبد الجهنيّ: (هو الحياء)

(2)

.وقيل: هو السّمت الحسن بالوجه. وقال وهب: (الإيمان عريان؛ ولباسه التّقوى؛ وريشه الحياء؛ وماله الفقه؛ وثمرته العمل الصّالح)

(3)

.وقيل: لباس التقوى ما يلبس من الثّياب للتّضرّع والتّخشّع مثل الصّوف والثّياب الخشنة، وهو خير من لباس الكبر.

قرأ أهل المدينة والشّام والكسائيّ: «(ولباس)» بالنصب عطفا على قوله: (لباسا).

وقرأ الباقون بالرّفع على الابتداء؛ وخبره (خير).وجعلوا (ذلك) صلة في الكلام، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب:«(ولباس التّقوى خير)» .

قوله تعالى: {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ؛} معناه: إنّ إنزال اللّباس من دلائل الله على إثبات وحدانيّته ونعمه، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (26)،أي لكي يتّعظون فيعرفوا أنّ ذلك كلّه من الله تعالى.

قوله عز وجل: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؛} أي لا يضرّنّكم الشيطان بالدعاء إلى الغيّ والمعصية كما استزلّ أبويكم آدم وحوّاء من الجنّة {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما،} فتسبّب في نزع لباسهما لحملهما على المعصية، وقوله تعالى:{لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما؛} أي ليظهر لهما عوراتهما أنّ ذلك يغيظهما، وإنّما أضاف الإخراج من الجنّة إلى الشيطان؛ لأن ذلك كان بوسوسته وإغوائه.

واختلفوا في لباسهما في الجنّة؛ فقال بعضهم: كان من لباس الجنّة، عن ابن عبّاس:(أنّ لباسهما كان من الظّفر؛ أي كان يشبه الظّفر، فإنّه كان مخلوقا عليهما خلقة الظّفر)

(4)

.وقال وهب: (كان لباسهما من النّور)

(5)

.ومعنى قوله: {(لا يَفْتِنَنَّكُمُ}

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11231).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11232).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 7 ص 189: الأثر (35225).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11241) بأسانيد.

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11242).

ص: 130

{الشَّيْطانُ)} أي كونوا على حذر من ذلك، فإنه عدوّ لكم. وهذا اللفظ أبلغ من أن تقول: لا تقبلوا فتنة الشيطان.

قوله تعالى: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ؛} أي إنّ الشيطان ونسله يرونكم وأنتم لا ترونهم، وإنّما قال هكذا؛ لأنّا إذا لم نراهم لم نعرف قصدهم بالكيد والإغواء حتى نكون على حذر في نجدة نفوسنا من وساوسه.

وفي هذا بيان أنّ أحدا من البشر لا يرى الجنّ، بخلاف ما يقول بعضهم: إنّ منّا من يراهم. وإنّما لا يراهم البشر؛ لأنّهم أجسام رقيقة تحتاج في رؤيتك إلى أفضل شعاع، والله تعالى لم يعطنا من الشّعاع قدر ما يمكننا أن نراهم، وأمّا هم فإنّهم يروننا؛ لأنّهم يرى بعضهم بعضا مع أنّهم أجسام رقيقة، فلأن يرونا ونحن أجسام كثيفة أولى.

وذهب بعض الناس إلى أنه يجوز أن يراهم البشر، بأن يكشفوا أجسامهم، وقال: وهم ممكّنون من ذلك. وقيل: إنّ هذا لا يصلح؛ لأنه لو أمكنهم أن يكشفوا أجسام أنفسهم أمكنهم أن يكشفوا أجسام غيرهم. وقال مالك بن دينار: (إنّ عدوّا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلاّ من عصم الله)

(1)

.

وقيل: هو زيّن لآدم فسكن له، ويجري من ابن آدم مجرى الدّم، وأنت لا تقاومه إلا بعون الله، والشيطان يراك وأنت لا تراه، وهو لا ينساك وأنت تنساه. وفيه يقول بعضهم:

ولا أراه حيثما يراني

وعند ما أنساه لا ينساني

فيبدي إن لم يكن سباني

كما سبى آدم من جنان

وقال ذو النّون: (إن هو يراك من حيث لا تراه، فإنّ الله يراه من حيث لا يرى الله، فاستعن بالله عليه، فإنّ كيد الشّيطان كان ضعيفا).

قوله تعالى: {إِنّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (27)؛أي جعلناهم قرناء للذين لا يؤمنون بالله.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 460.

ص: 131

قوله تعالى: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا؛} معناه: أنّ كفّار مكّة كانوا إذا فعلوا معصية يعظم قبحها نحو طوافهم بالبيت عراة، وتحريمهم ما أحلّ الله تعالى من البحيرة والسّائبة، قالوا: وجدنا عليها آباءنا وأسلافنا، {وَاللهُ أَمَرَنا بِها؛} أي بهذه الأشياء، {قُلْ؛} لهم يا محمّد:{إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ؛} أي لا يأمرنا بالمعاصي، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (28) استفهام بمعنى الإنكار على جهة إلزام الحجّة؛ لأنّهم إن قالوا: نقول على الله ما لم نعلم، فضحوا أنفسهم، وإن قالوا: لا نقول على الله ما لا نعلم، لزمتهم الحجّة؛ لأنّهم لم يكن لهم حجّة على ما قالوا.

قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ؛} أي بالعدل والصّواب، وقال ابن عبّاس:(لا إله إلاّ الله)

(1)

،وقال الضّحاك:(بالتّوحيد). {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ؛} قال مجاهد والسّدّيّ: (أي توجّهوا إلى القبلة في الصّلاة أداء عند كلّ مسجد)،وقال الكلبيّ:(معناه: إذا حضرت الصّلاة وأنتم في مسجد، فصلّوا فيه ولا يقولنّ أحدكم: أصلّي في مسجدي، وإذا لم يكن عنده فليأت أيّ مسجد شاء، وليصلّ فيه).

وهذه الآية تدلّ على وجوب فعل الصّلاة المكتوبة في الجماعة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[من سمع النّداء فلم يجبه، فلا صلاة له]

(2)

.وقال صلى الله عليه وسلم: [لقد هممت أن آمر رجلا يصلّي بالنّاس، ثمّ أنظر إلى قوم يتخلّفون عن الجماعات، فأحرّق عليهم بيوتهم]

(3)

.

قوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛} أي مخلصين له الطاعة والعبادة، قوله تعالى:{كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (29)؛أي خلقكم حين خلقكم

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 188.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 11 ص 353:الحديث (12266)،وإسناده ضعيف؛ فيه أبو خباب الكلبي، والحديث (12265) بإسناد صحيح. وأخرجه ابن حبان في الإحسان: كتاب الصلاة: الحديث (2064).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف: الحديث (1987).وأحمد في المسند: ج 2 ص 531.والبخاري في الصحيح: كتاب الأذان: باب فضل صلاة العشاء: الحديث (657).

ص: 132

مؤمنا وكافرا؛ وشقيّا وسعيدا، فكما خلقكم فكذلك تعودون إليه يوم القيامة،

{فَرِيقاً هَدى؛} وهم المؤمنون، {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ؛} وهم أهل الكفر، وهذا قول ابن عبّاس، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}

(1)

ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا، فيبعث المؤمن مؤمنا؛ والكافر كافرا

(2)

.

وقال الحسن ومجاهد: (معناه: كما بدأكم فخلقكم في الدّنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء)

(3)

.

قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي إنّ أهل الضّلالة اتّخذوا الشياطين أولياء بطاعتهم فيما دعوهم إليه، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (30)؛أي يظنّون أنّهم على الهدى.

قوله تعالى: {*يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ذلك أنّ أهل الجاهليّة كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في الثياب التي أذنبنا فيها ودنّسناها بالذنوب، فكانت المرأة منهم تطوف بالبيت عريانة باللّيل، إلا أنّها كانت تتّخذ سيورا مقطّعة تشدّ في حقويها، فكانت السّيور لا تسترها سترا تامّا.

قال المفسّرون

(4)

:كانت بنو عامر في الجاهليّة يفعلون ذلك، كان رجالهم يطوفون عراة بالنّهار، ونساؤهم ليلا. وحكي أنّ امرأة كانت تطوف عريانة وهي تقول

(5)

.

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

(1)

التغابن 2/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11261).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11270) عن الحسن بإسنادين، والأثر (11273) عن مجاهد.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11247) عن مجاهد، والأثر (11276) عن ابن عباس.

(5)

ينسب إلى ضباعة بنت عامر بن صعصعة من بني سلمة بن قشير. السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 134.

ص: 133

وكانوا إذا قدموا منه طرح أحدهم ثيابه في رجله، فإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه، فأنزل الله هذه الآية:{(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)} يعني الثّياب

(1)

.وقال مجاهد: (يعني: ما يواري عورتكم ولو عباءة)

(2)

.

وقال الكلبيّ: (كانت بنو عامر لا يأكلون من الطّعام إلاّ قوتا، ولا يأكلون دسما في أيّام حجّهم، يعظّمون بذلك حجّهم. وكانت قريش وكنانة يفعلون. فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحقّ أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)}. {وَلا تُسْرِفُوا؛} أي البسوا ثيابكم عند كلّ مسجد، وكلوا اللّحم والدّسم، واشربوا من ألبان السّوائب والبحائر، {(وَلا تُسْرِفُوا)} أي لا تجاوزوا تحريم ما أحلّ الله لكم.

والإسراف: مجاوزة الحدّ؛ فتارة تكون مجاوزة الحلال إلى الحرام؛ وتارة تكون مجاوزة الحدّ في الإنفاق؛ وتارة تكون بأن يأكل الإنسان فوق الشّبع فيؤدّي به ذلك إلى الضّرر.

ويروى: أنّ هارون الرّشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق، فقال لعليّ بن الحسين ابن واقد

(3)

:أليس في كتابكم من علم الطب شيء؟ والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له: إنّ الله تعالى قد جمع الطبّ كلّه بنصف آية من كتابنا. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)} . فقال النصرانيّ: هل يؤثر عن رسولكم شيء من الطب؟ قال: نعم؛ جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطبّ في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: [المعدة بيت الدّاء، والحمية رأس كلّ دواء، وعوّدوا كلّ جسم ما اعتاد]

(4)

.فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا

(5)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان عن ابن عباس: الأثر (11277).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11280).

(3)

علي بن الحسين بن حيان بن عمار بن واقد؛ أبو الحسن، ترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: ج 11 ص 394: الرقم (6274)؛وقال: ثقة.

(4)

في الدر المنثور: ج 3 ص 444؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو محمد الخلال عن عائشة)).

(5)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 192.

ص: 134

قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31)؛أي لا يرضى عملهم، ولا يثني عليهم. فلما نزلت هذه الآية طاف المسلمون في ثيابهم، وأكلوا اللّحم والدسم، فعيّرهم المشركون بذلك، فأنزل الله:

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} أي قل لهم يا محمّد: من حرّم الثياب التي يتزيّن بها الناس، ومن حرّم المستلذات من الرّزق؟ ويقال: أراد بالطيّبات: الحلال من الرّزق، وفي قوله تعالى:{(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)} أمر للإنسان أن يلبس أحسن ثيابه في الأعياد والجمع.

قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} قال ابن عبّاس: (معناه: أنّ المسلمين يشاركون المشركين في الطّيّبات في الدّنيا، فأكلوا من طيّبات طعامهم؛ ولبسوا من خيار ثيابهم؛ ونكحوا من صالح نسائهم، ثمّ يخلص الله تعالى الطّيّبات في الآخرة للّذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء)

(1)

.

وتقدير الآية: قل هي للّذين آمنوا مشتركة في الدّنيا، خالصة يوم القيامة.

وقيل: معناه: هي للمؤمنين في الدّنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقّة.

وقرأ ابن عبّاس وقتادة ونافع: «(خالصة)» بالرفع؛ أي قيل: خالصة. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع، لأنّ الكلام قد تمّ دونه. قوله تعالى:{كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ؛} أي كما فصّلنا لكم الدلائل والأوامر والنواهي، هكذا تفصيلها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32)؛أي يفقهون أوامر الله تعالى.

ثم بيّن الله تعالى ما حرّم عليهم فقال عز وجل: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛} معناه: أنّ الله تعالى لم يحرّم الثياب ولا الطيبات من الرّزق، وإنّما حرّم الذّنوب.

والفواحش: هي الكبائر، وقوله تعالى:{(ما ظَهَرَ مِنْها)} أي ما عمل علانية، {(وَما بَطَنَ)} يعني سرّا. {(وَالْإِثْمَ)} يتناول كلّ ذنب وأن يكون فيه حدّ. وفائدة ذكر الإثم:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11300) بأسانيد.

ص: 135

بيان أنّ التحريم غير مقصور على الكبائر. {(وَالْبَغْيَ)} يتناول الإقدام على الغير {(بِغَيْرِ الْحَقِّ)} .

وقوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ؛} معناه: وحرّم عليكم أن تشركوا بالله، {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً؛} أي عذرا ولا حجّة. ثم بيّن الله تعالى ما يصير جامعا للمحرّمات كلّها؛ وهو تحريم القول الذي لا علم لقائله به فقال:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (33).

وقيل: يعني بالفواحش: الطواف عراة، ويعني بقوله:{(ما ظَهَرَ مِنْها)} طواف الرّجال عراة بالنّهار، {(وَما بَطَنَ)} طواف النّساء بالليل عراة. وقيل: أراد بقوله: {(ما ظَهَرَ مِنْها)} التعرّي عن الثياب في الطّواف، {(وَما بَطَنَ)} يعني الزّنا، ويعني ب {(الْإِثْمَ)} كلّ المعاصي. وقوله تعالى:{(وَالْبَغْيَ)} طلب التّرؤس على الناس بالقهر والاستطالة عليهم بغير حقّ.

وقال الحسن: (يعني ب (الإثم) الخمر)

(1)

.قال بعضهم:

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (34) تخويف ووعيد من الله تعالى لهم، معناه: ولكلّ أهل دين مهلة؛ ولكلّ وقت مؤقّت، فإذا انقضت مهلتهم فلا يستأخرون من بعد الأجل ساعة ولا يستقدمون في الأجل. وليس ذكر السّاعة في الآية على وجه التحديد، فإنّهم لا يستأخرون ولا يستقدمون ساعة ولا أقلّ من ساعة، ولكن ذكرت السّاعة لأنّها أقلّ أسماء الأوقات بين الناس.

فإن قيل: لم قال: {(يَسْتَأْخِرُونَ)} ولم يقل: يتأخّرون؟ قيل: معناه: لا يطلبون التّأخّر عن ذلك لأجل اليأس عنه. وقرأ ابن سيرين: «(فإذا جاء آجالهم)» .

قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي؛} معناه: يا بني آدم إمّا أن يأتيكم رسل من جنسكم يقرءون عليكم ويعرضون عليكم

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 200.

ص: 136

كتابي وكلامي، {فَمَنِ اتَّقى،} الله وأطاع الرسول، {وَأَصْلَحَ؛} العمل، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛} حين يخاف أهل النار، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (35)؛على ما خلّفوا في الدّنيا.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (36)؛ظاهر المعنى. وقيل: معناه: وتكبّروا عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.

قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ؛} أي حظّهم مما قضى الله عليهم في الكتاب؛ وهو سواد الوجوه وزرقة الأعين؛ كما قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}

(1)

.

وقال الحسن: (معناه: ما كتب لهم من العذاب)

(2)

.وقال مجاهد: (ما سبق من الشّقاوة)

(3)

.وقال الربيع: (يعني ينالهم ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال)

(4)

.فإذا فرغت وفنيت؛ {(جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ)} أي يقبضون أرواحهم؛ يعني ملك الموت وأعوانه)

(5)

.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ؛} يعني إذا جاءتهم ملائكة العذاب يذيقونهم عذابا في الآخرة كما قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}

(6)

. {قالُوا؛} أي فتقول لهم الملائكة-وهم خزنة جهنّم:

{أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} يعنون الأصنام. يقولون لهم ذلك توبيخا وتنكيرا وحسرة عليهم، {قالُوا؛} فيقول الكفّار عند ذلك:{ضَلُّوا}

(1)

الزمر 60/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11315).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11318).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11332).

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11334) عن ابن زيد.

(6)

إبراهيم 17/.

ص: 137

{عَنّا؛} أي ذهب الأصنام عنّا؛ فلم يقدروا لنا على نفع ولا دفع ضرّ، {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ؛} أي أقرّوا على أنفسهم، {أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} (37)؛في الدّنيا. قال مقاتل:(يشهدون على أنفسهم بعد ما شهدت عليهم الجوارح بما كتمت الألسن).

قوله تعالى: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النّارِ؛} معناه: قال الله لهم: ادخلوا النار مع أمم قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار.

قوله تعالى: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها؛} في الدّين والملّة. ولم يقل:

أخاها؛ لأنه عنى بها الأمم والجماعة؛ فلعنت المشركون المشركين؛ واليهود اليهود؛ والنصارى النصارى؛ والمجوس المجوس، ويلعن الأتباع القادة ويقولون: لعنكم الله أنتم عزّرتمونا. قوله تعالى: {حَتّى إِذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعاً؛} أي تلاحقوا واجتمعوا في النّار.

قرأ الأعمش: «(حتّى إذا تداركوا فيها)» .وقرأ النخعيّ: «(حتّى إذا ادّرّكوا فيها)» بتشديد الدّال من غير ألف. والمعنى: حتّى إذا اجتمعوا في النّار القادة والأتباع؛ {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ؛} أي قالت أخرى الأمم المكذّبة لأوّل الأمم {رَبَّنا هؤُلاءِ؛} المقدّمون؛ {أَضَلُّونا؛} عن الهدى بإلقاء الشّبهة علينا؛ {فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ؛} أي زدهم في عذابهم، واجعل عذابهم مضاعفا ممّا علينا، {قالَ؛} الله تعالى:{لِكُلٍّ ضِعْفٌ؛} أي لكلّ من الأوّلين والآخرين ضعف من العذاب، {وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} (38)؛أنتم شدّة ما عليهم.

ومن قرأ «(ولكن لا يعلمون)» بالياء؛ فمعناه: لا يعلم كلّ فريق منهم مقدار عذاب الفريق الآخر. وقال مقاتل: (معناه: {(قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ)} أي (أخراهم) دخولا النّار الأتباع (لأولاهم) وهم القادة)

(1)

.وقال السّدّيّ: (أخراهم الّذين أتوا في آخر الزّمان، لأولاهم يعني الّذين شرّعوا لهم ذلك الدّين)

(2)

.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 1 ص 391.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11336).

ص: 138

قوله تعالى: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} أي قالت أوّل الأمم لآخر الأمم، والمتبوعون للتابعين: لم يكن لكم علينا فضل في شيء حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم، وأنتم كفرتم كما كفرنا، ونحن وأنتم في الكفر سواء، وكذا نكون في العذاب سواء. قوله تعالى:

{فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} (39)؛يجوز أن يكون هذا من قول الأوّلين للآخرين، ويجوز أن يكون قال الله لهم ذلك.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ؛} أي الذين جحدوا بآياتنا وتعظّموا عن الإيمان بها؛ لا تفتح لأرواحهم أبواب السّماء إذا ماتوا هوانا، وتفتح للمؤمنين كرامة لهم. وقيل: معناه: لا تفتح لأعمالهم أبواب السّماء؛ لأنّها خبيثة، بل يهوي بعملهم إلى الأرض السّابعة، وترقم في الصّخرة التي تحت الأرضين كما قال الله تعالى:{كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ}

(1)

.

قوله تعالى: {(لا تُفَتَّحُ لَهُمْ)} قراءة الأكثرين بالتّاء المشدّدة راجعة إلى جماعة الأبواب. وقرأ بعضهم بالياء والتخفيف؛ لأن تأنيث الأبواب ليس بحقيقيّ.

قوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ؛} أي لا يدخلون الجنّة أبدا كما لا يدخل البعير في خرم الإبرة. وهذا تمثيل في الدّلالة على يأس الكفّار من دخولهم الجنّة. والعرب إذا أرادت تأكيد النّفي علّقته بما يستحيل كونه، كما قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب

والخياط والمخيط بمعنى واحد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أنّه سئل عن الجمل؛ فقال: هو زوج النّاقة؛ كأنّه استجهل من سأله وتعجّب منه)

(2)

.وفي قراءة ابن عبّاس:

«(حتّى يلج الجمّل)» بضمّ الجيم وتشديد الميم، وهو حبل يسمى القلس. وقال

(1)

المطففين 6/-9.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11352) بأسانيد.

ص: 139

عكرمة: (هو الحبل الّذي يصعد به النّخل).قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (40)؛أي هكذا يجزون.

قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ؛} أي لهم فراش من النار يضطجعون ويقعدون وفوقهم غوائل؛ أي غاشية من فوق غاشية، كما قال تعالى في موضع آخر:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ}

(1)

.وقال صلى الله عليه وسلم: [يلبس الكافر لوحين من النّار في قبره، فذلك قوله تعالى: لهم من جهنّم مهاد]

(2)

.

و (غواش):وأصل غواش: غواشي بإثبات الياء مع الضّمّة، فحذفت الضّمّة والياء استثقالا، وأدخل الثقل ذهاب حركتها ويائه. قوله تعالى:{وَكَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} (41)؛يعني الكافرين.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها؛} أي إنّ الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الطاعات بمقدورهم وبوسعهم. {(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها)} أي طاقتها وقدرتها، {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (42)؛باقون دائمون.

قوله تعالى: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ؛} أي نزعنا ما في قلوبهم من غشّ وحسد وعداء بعضهم على بعض في الدّنيا، وألقينا في قلوبهم التّوادد في الآخرة حتى لا يحسد بعض أهل الجنّة بعضا أعلى درجة منه. قوله تعالى:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ؛} أي من تحت شجرهم وغرفهم الأنهار في حال نزعنا ما في قلوبهم؛ تكون (تجري) في موضع الحال.

قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة وابن مسعود وعمّار بن ياسر وسلمان وأبي ذرّ، ينزع الله في الآخرة ما كان في قلوبهم من غشّ بعضهم لبعض في العداوة والثّقل الّذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

الزمر 16/.

(2)

في الدر المنثور: ج 3 ص 457؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو الحسن القطان في الطوالات وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء)).

ص: 140

والأمر الّذي اختلفوا فيه، فيدخلون إخوانا متقابلين).

قال: (فأوّل ما يدخلون الجنّة تعرض لهم عينان تجريان، فيشربون من أحد العينين، فيذهب الهمّ من غلّ، ثمّ يدخلون العين الأخرى، فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم، وتصقل وجوههم، ويلبسون بهاء النّور، ويطيّب الله ريحهم به)

(1)

.

{وَقالُوا؛} فعند ذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا؛} أي أرشدنا إلى ما صرنا به ربّنا واغتسلنا من العينين. قوله تعالى: {وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ؛} قرأ ابن عامر: «(ما كنّا)» بغير واو. وقرأ الباقون بالواو: «(وما كنّا لنهتدي إلى هذا الذي أكرمنا الله به لولا أنّ الله هدانا إليه)» وقال صلى الله عليه وسلم: [كلّ أهل النّار يرى منزله في الجنّة فيقولون: لولا هدانا الله، فتكون عليهم حسرة. وكلّ أهل الجنّة يرى منزله في النّار فيقولون: لولا أنّ الله هدانا]

(2)

.

قوله تعالى: {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ؛} شهادة منهم بإرساله للحقّ إليهم؛ أي جاءوا بالصّدق؛ فصدّقناهم. قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (43)؛معناه: نادتهم الملائكة: أنّ هذه الجنّة التي وعدتموها في الدّنيا بأعمالكم. وقيل: معنى (أورثتموها) أنزلتموها. وفي الخبر: أنه يقال لهم يوم القيامة: جوزوا الصّراط بعفوي؛ وادخلوا الجنّة برحمتي لا بأعمالكم.

قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ؛} وذلك حين يستقرّ أهل الجنّة في الجنّة؛ وأهل النّار في النار؛ ينادي أصحاب الجنّة أصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربّنا من الثّواب والكرامة حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربّكم من العذاب حقّا؟ قالوا نعم، فاعترفوا في وقت لا ينفعهم الاعتراف. وفي (نعم) قراءتان؛ قراءة الكسائيّ:«(نعم)» بكسر العين في القرآن، وقرأ الباقون بالفتح؛ وهما لغتان.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11380) عن السدي.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11382) عن أبي سعيد.

ص: 141

وإنّما سأل أهل الجنة أهل النار؛ لأنّ الكفار كانوا يكذّبون المؤمنين فيما يدعون لأنفسهم من الثواب ولهم من العقاب، فلذا سألهم المسلمون تبكيتا لهم، ليكون ذلك حسرة للكافرين وسرورا للمؤمنين.

قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ} (44)؛ روي في الخبر: [أنّ مناديا ينادي بين الجنّة والنّار؛ يسمعه الخلائق كلّهم: أنّ رحمة الله تعالى على المحسنين، و {أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ}] أي على الكافرين. وقرأ بعضهم: «(أنّ لعنة الله)» بالتشديد ونصب اللّعنة.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} أي عن الدّين الذي هو طريق الله إلى جنّته، {وَيَبْغُونَها عِوَجاً؛} أي يطلبون لها غيرا أو زيفا بإلقاء الشّبهة التي يلبسون بها على النّاس، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} (45)؛أي هم جاحدون بالبعث بعد الموت.

قوله تعالى: {وَبَيْنَهُما حِجابٌ؛} أي بين الجنّة والنار سور يحجب بين الفريقين، كما قال تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ}

(1)

.قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ؛} أي وعلى أعالي السّور باب؛ يقال: أعالي عرف وجمعه أعراف؛ ومنه عرف الدّيك؛ وعرف الأضراس.

والأعراف: سور بين الجنّة والنّار؛ سمّي أعرافا لأن أصحابه، {يَعْرِفُونَ؛} الناس؛ {كُلاًّ بِسِيماهُمْ؛} يعرفون أهل الجنّة ببياض وجوههم؛ وأهل النّار بسواد الوجوه.

قال عبد الله بن عبّاس: (أصحاب الأعراف: قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم، فحالت حسناتهم بينهم وبين النّار، وحالت سيّئاتهم بينهم وبين الجنّة، فلم يكن لهم حسنات فاضلة يدخلون بها الجنّة، ولا سيّئات فاضلة يدخلون بها النّار، فوقفوا على السّور بين الجنّة والنّار يعرفون الكلّ بسيماهم. فمن دخل الجنّة عرفوه ببياض وجهه

(1)

الحديد 13/.

ص: 142

أغرّ محجّلا من أثر الوضوء؛ ضاحكا مستبشرا. ومن دخل النّار عرفوه بسواد وجهه وزرقة عينيه)

(1)

.

وعن أبي مجلز رحمه الله أنه قال: (هم الملائكة)

(2)

.فبلغ ذلك مجاهد فقال:

(كذب أبو مجلز؛ يقول الله تعالى: {(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ)}. فبلغ ذلك أبا مجلز؛ فقال:

(هم الملائكة، والملائكة ذكور ليس بإناث؛ صورهم صور الرّجال).

وقيل: قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلون الجنّة بفضل رحمته؛ وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنّة وأهل النار. فإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له: نهر الحياة؛ كأفتات الذهب؛ مكلّل باللّؤلؤ؛ ترابه المسك. فيلقوا فيه حتى تصبح ألوانهم في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ثم يؤتى بهم فيدخلون الجنّة، يسمّون مساكين أهل الجنّة.

وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أصحاب الأعراف؟ قال:

[هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم؛ فقتلوا فأعتقوا من النّار بقتلهم في سبيل الله، وحبسوا عن الجنّة بمعصيتهم آباءهم، فهم آخر من يدخل الجنّة]

(3)

.

وروي عن ابن عبّاس أيضا أنه قال: (هم أولاد الزّنا).وعن مجاهد: (أنّهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمّهاتهم، أو أمّهاتهم دون آبائهم، فيحبسون في الأعراف إلى أن يقضي الله بين خلقه، ثمّ يدخلون الجنّة).

قوله تعالى: {وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} (46)؛معناه: أنّ أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب الجنّة قالوا لهم: سلام عليكم، فيردّ أهل الجنّة عليهم السلام. قوله تعالى:{(لَمْ يَدْخُلُوها)} أي لا

(4)

يدخل أصحاب الأعراف الجنّة وهم يطمعون في دخولها، بأن يغفر الله لهم

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11401) مختصرا، والأثر (11403).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11412).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11408) وفيه من لم يسمّ.

(4)

في المخطوط: (دخولها يدخل

) وهو تحريف.

ص: 143

سيّئاتهم ويدخلهم الجنّة بحسناتهم. وما جعل الله الطمع في قلوبهم إلاّ لكرامة يزيدهم بها.

قوله تعالى: {*وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (47)؛معناه: وإذا نظر أصحاب الأعراف إلى أصحاب النّار، دعوا الله تعالى واستعاذوا من النّار وقالوا: ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظّالمين في النّار؛ أي يدعون بذلك خوفا من الله لأجل معاصيهم.

قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (48)؛قال ابن عبّاس: (إنّ أصحاب الأعراف ينادون الكبار من الكفّار الّذين كانوا عظماء في الكفر كالوليد بن المغيرة وأبي جهل وسائر رؤسائهم).يعرفونهم بسيماهم ينادونهم وهم على السّور: يا وليد ابن المغيرة! يا أبا جهل بن هشام! يا فلان ابن فلان؛ ما أغنى عنكم جمعكم في الدّنيا من المال والولد، وما كنتم تستكبرون؛ أي تتعظّمون عن الإيمان بالله عز وجل.

ثم ينظرون إلى الجنّة؛ فيرون فيها الضعفاء والمساكين ممّن كان يستهزئ بهم كفار مكّة؛ مثل صهيب وخبّاب وعمّار وسلمان وبلال وأشباههم، فينادون:

{أَهؤُلاءِ؛} الضعفاء هم، {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ؛} أي حلفتم أيّها المشركون وأنتم في الدّنيا، {لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ؛} يا من أقسمتم لا يدخلهم الله الجنّة.

قال ابن عبّاس: (فيقول الله تعالى لأصحاب الأعراف: {اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (49)).

فإن قيل: كيف يصحّ هذا التأويل في الحجاب بين الجنّة والنار؛ ومعلوم أنّ الجنة في السّماء والنار في الأرض؟ قيل: لم يبيّن الله حال الحجاب بالمذكور في الآية، ولا قدر المسافة، فلا يمتنع أن يكون بين الجنّة والنار وإن بعدت المسافة.

وقرأ بعضهم: «(وما كنتم تستكثرون)» بالثّاء؛ أي تجمعون المال الكثير. وقال مقاتل في تفسير هذه الآية: (إذا قال أصحاب الأعراف لأصحاب النّار: ما أغنى عنكم جمعكم. قال لهم أصحاب النّار: وأنتم ما أغنى عنكم جمعكم، وأقسموا لتدخلنّ النّار معنا).

ص: 144

فيقول الله تعالى، أو تقول الملائكة لأهل النّار: أهؤلاء الّذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؛ أي لا يصيبهم برحمته. ثم يقال لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّه لمّا سكن أهل الجنّة الجنّة؛ وسكن أهل النّار النّار؛ وحرم أهل النّار الماء والثّمار مع ما هم فيه من ألوان العذاب، نادوا أصحاب الجنّة: أن اسقونا شيئا من الماء، أو صبّوا وأفرغوا علينا، وأطعمونا شيئا ممّا رزقكم الله من ثمار الجنّة).فيجيبهم أهل الجنّة: {قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ} (50)،أي شراب الجنّة وثمارها. وإنّما جعل شراب الكافرين الحميم الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود، وطعامهم الضّريع والزّقّوم.

وقيل: إنّ أهل النار ينادون أهل الجنّة بعد أن يستغيثوا فيغاثوا بماء كالمهل، ثم يستغيثوا بالطعام فيغاثوا بالزّقّوم والضّريع، فيقبلون على الصّبر فلا يغني عنهم، فيقولون: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، ثم ينادون حينئذ أهل الجنة: يا أهل الجنّة! يا أهل السّعادة! منكم الآباء والأمّهات؛ والأبناء والأخوات؛ والجيران والمعارف والأصدقاء، أفيضوا علينا من الماء حتى تطفئوا حرّ ما نجد من العطش، أو ممّا رزقكم الله من الطعام فنأكله لعلّه يطفئ عنّا الجوع. فلا يؤذن لأهل الجنّة في الجواب مقدار أربعين سنة، ثم يؤذن لهم في جوابهم؛ فيقولون: إنّ الله حرّمهما على الكافرين، يعنون الماء والطعام.

وفي الآية بيان أنّ الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب، قال أبو الجوزائيّ: سألت ابن عبّاس: أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: (الماء، أرأيت أهل النّار لمّا استغاثوا بأهل الجنّة قالوا: أفيضوا علينا من الماء)

(1)

.

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 468؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس)).

ص: 145

قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا؛} أول الآية نعت للكافرين؛ ومعناه: أنّهم اتّخذوا دينهم لهو أنفسهم؛ لاهين لاعبين. ويقال: هم الذين اختاروا في دينهم الباطل واللّعب والفرح والهزء، {(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)} أي غرّهم ما أصابوه من زينة الدّنيا مع ما كانوا فيه من طول الأمل، وكذلك كانوا يستهزءون بالمسلمين، كما روي في الخبر: أنّ أبا جهل بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يستهزئ به: أن أطعمني من عنب جنّتك أو شيئا من الفواكه! فقال أبو بكر رضي الله عنه: (قل إنّ الله حرّمهما على الكافرين).

قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا؛} ({فَالْيَوْمَ)} أي يوم القيامة، معناه: اليوم نتركهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. ويقال: معنى قوله: {(نَنْساهُمْ)} نتركهم، {(كَما نَسُوا)} أي كما أعرضوا عن العمل للقاء يومهم هذا اعراض الناسي للشيء. وقوله تعالى:{وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} (51) في موضع الجرّ عطف على (ما نسوا)؛المعنى: وبجحدهم بآياتنا الدالّة على التوحيد «ننساهم اليوم كما نسوا لقاء يومهم هذا»

(1)

.

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ؛} أي لقد أتيناهم بالقرآن الذي أتينا به آية بعد آية؛ وسورة بعد سورة على علم منّا بأن ذلك أقرب للتّدبّر. وقوله تعالى: {هُدىً وَرَحْمَةً؛} في موضع نصب على تقدير: هاديا وذا رحمة، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (52)؛أي يصدّقون أنه من عند الله.

قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ؛} معناه: ما ينظر أهل مكّة إلا عاقبة ما وعدهم الله به في القرآن أنه كائن، منه ما يكون في الدّنيا؛ ومنه ما يكون في الآخرة.

ويقال معناه: هل ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرهم من البعث والعذاب وورود النّار.

وقوله تعالى: {(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)} أي يوم يأتي عاقبة ما وعدوا فيه؛ وهو يوم القيامة، يقول الّذين كفروا وتركوا العمل له في دار الدّنيا: قد جاءت رسل ربنا

(1)

ما بين (()) ليس في الأصل، وهو ضرورة لإتمام المعنى.

ص: 146

بالصّدق في أمر البعث بعد الموت فكذبناهم، {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ؛} أي يقولون هذا القول حين يرون الشّفعاء يشفعون للمؤمنين، فيقال لهم: ليس لكم شفيع، فيقولون: هل نردّ إلى الدّنيا فنصدّق الرسل، ونعمل الأعمال الصالحة؟ فذلك قوله تعالى:{فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ} . وجواب الاستفهام بالفاء يكون نصبا.

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛} أي غبنوا حظّ أنفسهم من الجنّة، فورثهم المؤمنون. وقوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} (53)؛ أي بطل عنهم فلم ينفعهم، وذهب عنهم آلهتهم؛ وهي التي كانوا يفترون بها على الله تعالى أنّها شفعاؤهم. ويقال: معناه: وضلّ عنهم حينئذ افتراؤهم على الله تعالى.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ؛} وذلك: أنّ الله تعالى لمّا عيّر المشركين بعبادة الأصنام بقوله: {(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)} سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمّد؛ من ربّك الذي تدعونا إليه؟ فأرادوا بذلك أن يجحدوا معنى في أسمائه، وفي شيء من أفعاله، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فتحيّروا وعجزوا عن الجواب.

ومعنى الآية: أنّ خالقكم ورازقكم هو الله الذي ابتدأ خلق السّماوات والأرض لا على مثال سابق؛ فوحّدوه يا أهل مكّة واعبدوه وأطيعوه؛ ودعوا هذه الأصنام؛ فإنّها لم تخلق سماء ولا أرضا.

قوله تعالى: {(فِي سِتَّةِ أَيّامٍ)} قال ابن عبّاس: (أوّلها الأحد وآخرها يوم الجمعة).قال الحسن: (هي ستّة أيّام من أيّام الدّنيا).ويقال: في ستّة ساعات من ستة أيّام من أوّل أيّام الدّنيا. ولو شاء لخلقها في أسرع من اللّحظة، ولكنه علّم عباده التّأنّي والرّفق والتدبير والتثبّت في الأمور.

قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ؛} اختلف المفسّرون في ذلك؛ قال بعضهم: يطلق الاستواء كما نطق به القرآن ولا يكيّف، كما أثبت الله ولا نكيّفه.

وهذا القول محكيّ عن مالك بن أنس، فإنه سئل عن معنى هذه الآية؛ فقال:

ص: 147

(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والجحود به كفر، والسّؤال عنه بدعة).

وقال بعضهم: معنى (استوى):استولى، كما يقال: استواء الأمير على بلد كذا؛ أي استولى عليه واحتوى وأحرزه، ولا يراد بذلك الجلوس. قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أراد بذلك بشر بن مروان، واستواءه على العراق: لا الملك.

وقال بعضهم: لفظ الاستواء في الآية كناية عن نفاذ الأمر وعظم القدرة. وقيل: معناه: ثمّ أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، وكذلك {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ}

(1)

أي عمد إلى خلق السّماء.

فإن قيل: ما معنى دخول (ثمّ) في قوله تعالى: {(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)،} و {(ثُمَّ)} تكون للحادث، واستيلاء الله تعالى واقتداره وملكه للأشياء ثابت فيما لم يزل ولا يزال؟ قيل: معناه: ثمّ رفع العرش فوق السّماوات واستولى عليه

(2)

.وإنّما أدخل (ثمّ) متّصلة في اللفظ بالاستواء؛ لأن الدلالة قد دلّت من جهة العقل على أنّ اقتداره على الأمور ثابت فيما لم يزل. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ}

(3)

أي حتى يجاهد المجاهدون منكم ونحن عالمون بهم.

ويقال: معنى (ثمّ) هنا بمعنى الواو على طريق الجمع والعطف دون التّراخي، فإنّ خلق العرش والاستيلاء عليه كان قبل خلق السّماوات والأرض. وقد ورد في الخبر:[أنّ أوّل شيء خلقه الله القلم، ثمّ اللّوح، فأمر الله القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثمّ خلق العرش، ثمّ خلق السّماوات والأرض]

(4)

.

(1)

فصلت 11/.

(2)

في المخطوط كرر الناسخ السطر السابق كتابة.

(3)

محمّد 31/.

(4)

في المطا لب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: الحديث (2928) علقه ابن حجر وسكت عنه. وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 190؛قال الهيثمي: ((عن ابن عباس رواه البزار ورجاله ثقات. وقال:-

ص: 148

قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ؛} أي يغشي بظلمة الليل ضوء النّهار، ولم يقل: ويغشي النهار الليل؛ لأنّ الكلام دليل عليه، وقد بيّن في آية أخرى فقال عز وجل:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ}

(1)

.وقرأ «(يغشّي)» و «(يغشي)» بالتشديد والتخفيف. وقوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً؛} أي يطلب سواد الليل ضوء النّهار سريعا؛ حتى يغلب بسواده بياضه، وكلّ واحد منهما في طلب صاحبه وتسييره ما بقيت الدّنيا. والحثّ: السريع في السّوق من غير فتور.

قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ؛} أي وخلق منه الأشياء مذلّلات بالمسير في ساعات الليل والنّهار، جاريات على مجاريهنّ بمنافع بني آدم بأمر الله وتدبيره وصنعه. ومن قرأ «(والشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات)» كلّها بالرفع فعلى الابتداء.

قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ؛} كلمة تنبيه؛ معناه: اعلموا أنّ خلق الأشياء كلّها لله، وأنّ الأمر-وهو القضاء-نافذ في خلقه. وقوله تعالى:{تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (54)؛أي تعالى الله وهو ثابت لم يزل ولا يزال. ويقال:

(تبارك) تفاعل من البركة؛ أي البركة كلّها من الله تعالى، واسمه بركة لمن ذكره.

وقوله تعالى: {(رَبُّ الْعالَمِينَ)} أي خالق الخلق أجمعين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لم يحمد الله على «ما عمل من» عمل صالح وحمد نفسه، قلّ شكره

(2)

وحبط عمله. ومن زعم أنّ الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله تعالى:{(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)} ]

(3)

.قال الشاعر:

إلى الله كلّ الأمر في خلقه معاني

وليس إلى المخلوق شيء من الأمر

(4)

-رواه الطبراني ورجاله ثقات مختصرا)).وذكره مطولا وقال: ((رواه الطبراني وفيه الضحاك ضعفه جماعة وو ثقة ابن حبان وقال: لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله وثقوا)).

(1)

الزمر 5/.

(2)

في المخطوط: (فقد كفر) بدل: (قل شكره) وهو تحري ف من الناسخ.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11467).

ص: 149

قوله تعالى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً؛} أي ادعوه علانية وسرّا، فإنّ التّضرّع من الضّراعة وهي إظهار شدّة الحاجة. ويقال: معنى التّضرّع: التّملّق والتّخشّع والميل في الجهاد، يقال: ضرع يضرع ضرعا إذا مال بإصبعيه يمينا وشمالا خوفا وذلاّ.

قوله تعالى: {(وَخُفْيَةً)} أي ادعوا بالخضوع في السّرّ دون العلانية، فكأنّ الله تعالى أمر في الدعاء أن يجمع بين أن يخفيه وبين أن يفعله في غاية الخضوع والانقطاع إليه؛ لأنّ ذلك أبعد من الرّياء.

وهذا القول أصحّ من الأوّل لقوله صلى الله عليه وسلم: [خير الذّكر الخفيّ]

(1)

.وعن الحسن أنه قال: (كانوا يجتهدون في الدّعاء فلا تسمع إلاّ همسا).

وعن عمر رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدّعاء لا يردّهما حتّى يمسح بهما وجهه]

(2)

.وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأشرفوا على واد، فجعل النّاس يكبرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم، فقال:[إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنّكم تدعون سميعا قريبا؛ وإنّه معكم]

(3)

.

وقال الله عز وجل في مدح العبد الصّالح ورضي دعاءه: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا}

(4)

.

قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ؛} (55) أي لا يحبّ المتجاوزين في الدّعاء. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إيّاكم والاعتداء في الدّعاء، فإنّ الله لا يحبّ المعتدين]

(5)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 172.وابن حبان في الإحسان: كتاب الرقاق: باب الأذكار: الحديث (809)؛وقال الشيخ شعيب: إسناده ضعيف.

(2)

أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الدعوات: باب ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء: الحديث (3386)؛وقال: صحيح غريب. والحاكم في المستدرك: كتاب الدعاء: الحديث (2010) وسكت عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب غزوة خيبر: الحديث (4205)،وكتاب الدعوات: باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله: الحديث (6409).

(4)

مريم 3/.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 6 ص 54:الحديث (29401 و 29402) بلفظ: [إنّه-

ص: 150

واختلفوا في الاعتداء في الدّعاء؛ قال بعضهم: هو أن يدعو باللّعن والخزي؛ فيقول: لعن الله فلانا؛ أخزى الله فلانا. أو يدعو بما لا يحلّ فيجاوز حدّ العبوديّة.

وقال بعضهم: هو أن يسأل لنفسه منازل الأنبياء، أو يسأل الله شيئا من حكمته أنه يفعله في الدّعاء. وقيل: هو أن يقول: أسألك بحقّ جبريل وبحقّ الأنبياء أن تعطيني كذا. وقيل: هو أن يدعو بالصياح. وقيل: هو أن يعمل عمل الفجّار ويسأل مسألة الأبرار.

قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها؛} أي لا تفسدوا فيها بالشّرك والمعصية بعد إصلاح الله إيّاها ببعث الرّسل إليها، فأمروا فيها بالحلال ونهوا عن الحرام، فتصلح الأرض بالطّاعة. وقيل: معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر عنها، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقيل: معناه: لا تجوروا في الأرض فتخرّبوها؛ لأنّ الأرض قامت بالعدل، وقد أصلحها الله بالنّعمة.

قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً؛} أي واعبدوه خائفين من عذابه؛ طامعين في رحمته وثوابه. وقال الربيع: {(خَوْفاً وَطَمَعاً)} أي رغبا ورهبا. وقال ابن جريج: (خوف العدل وطمع الفضل).وقال عطيّة: (خوفا من النّيران وطمعا في الجنان).وقال ذو النون المصريّ: (خوفا من الفراق وطمعا في التّلاق).

قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (56)؛معناه:

إنّ إنعام الله قريب من المحسنين. ويقال: إنّ المحسن من أخلص حسناته من الإساءة. وإنّما قال: (قريب) ولم يقل: قريبة؛ لأنّ الرحمة والعفو والغفران في معنى واحد، وما لم يكن فيه تأنيث حقيقيّ كنت بالخيار، إن شئت ذكّرته وإن شئت أنّثته.

وقال ابن جبير: (الرّحمة هنا الثّواب).وقال الأخفش: (هي المطر).فيكون القريب نعتا للمعنى دون اللفظ كقوله: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى}

(5)

-سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الدّعاء].وأخرجه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب الإسراف في الماء: الحديث (96).وابن ماجة في السنن: كتاب الدعاء: الحديث (3864).

ص: 151

{وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}

(1)

ولم يقل: منها؛ لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال، وكذلك قوله تعالى:{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ}

(2)

،والصّاع مذكّر إلاّ أنه أراد به السرقة والسّقاية. وقال الكسائيّ: (أراد إنّ إتيان رحمة الله قريب، كقوله:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}

(3)

؛أي لعلّ إتيانها قريب).

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛} قرأ عاصم «(بشرا)» بالباء المضمومة والشّين المجزومة؛ يعني أنه ينشر بالمطر، يدلّ عليه قوله:{الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ}

(4)

.وقرأ «(بشرا)» بضمّ الباء والشّين على جمع (بشر)؛مثل نذر ونذير. وقرأ ابن عامر: «(نشرا)» بالنون المضمومة وإشكال الشّين. وقرأ حمزة والكسائيّ:

«(نشرا)» بالنون المفتوحة، وجزم الشّين على التخفيف. وقرأ مسروق:«(نشرا)» بفتحتين؛ أراد منشورا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «(نشرا)» بالنون المضمومة وضمّ الشّين.

وقرأ بعضهم: «(وهو الّذي يرسل الرّيح)» بلفظ الوحدان. واختار أبو عبيد لفظ الجماعة، وكان يقول:(كلّ ما في القرآن من الرّياح ذكر فهو للرّحمة، وما كان من ذكر الرّياح أنثى فهو للعذاب).واحتجّ بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا هبّت ريح: [اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا]

(5)

.

والنّشر: جمع النّشور؛ وهي الرّياح الّتي تهبّ من كلّ جانب؛ فتثير السّحاب كصبور وصبر. ومن قرأ «(نشرا)» بضمّة واحدة فللتخفيف، كما يقال: رسل ورسل.

ومن قرأ «(نشرا)» بنصب النون على معنى ننشر السّحاب نشرا. والنّشر خلاف الطّيّ كنشر الثّوب بعد طيّه، قال الفرّاء:(النّشر من الرّياح: الطّيّبة اللّيّنة الّتي تنشئ السّحاب)

(6)

.ومن قرأ «(بشرا)» بالباء والضمّ؛ فهو جمع بشير.

(1)

النساء 8/.

(2)

يوسف 76/.

(3)

الأحزاب 63/.

(4)

الروم 46/.

(5)

أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة: ذكر الرياح: الحديث (873/ 73).

(6)

قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 381.

ص: 152

قوله تعالى: {(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)} أي قدّام المطر، وقوله تعالى:{حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ؛} أي سقنا السّحاب بأمر الله إلى أرض ليس فيها نبات، قال ابن عبّاس:(يرسل الله الرّياح فتحمل السّحاب، فتمرّ به كما يمرّ الرّجل النّاقة والشّاة حتّى تدرّ ثمّ تمطر، فيخرج بالمطر من كلّ الثّمرات).

وقوله تعالى: {(سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)} أو لأحيا بلدا ميّتا لا نبات فيه. وقيل: لا تمطر السّماء حتى يرسل الله أربعة أرياح: فالصّبا تهيّجه، والشّمال تجمعه، والجنوب تدرّه، والدّبور تصرفه.

قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ؛} أي بالسّحاب، وقيل: بالبلد الميّت الذي لا ماء فيه ولا كلأ، ينزل الله به المطر، {فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؛} أي فيخرج به ألوان؛ {كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى؛} أي مثل ذلك الإخراج الذي ذكرناه في إحياء الأرض الميّتة، كذلك نخرج الموتى من قبورهم يوم القيامة، {لَعَلَّكُمْ} بما ينالكم، {تَذَكَّرُونَ} (57)؛أي تستدلّون على توحيد الله وأنه يبعث من في القبور.

وقال ابن عبّاس وأبو هريرة

(1)

: (إذا مات النّاس كلّهم في النّفخة الأولى، مطرت السّماء أربعين يوما قبل النّفخة الأخيرة مثل منيّ الرّجال، فينبتون من قبورهم من ذلك المطر كما ينبتون في بطون أمّهاتهم، وكما ينبت الزّرع من الماء، حتّى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الرّوح، ثمّ يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصّور النّفخة الثّانية-وهي نفخة البوق-جلسوا وخرجوا من قبورهم، وهم يجدون طعم النّوم في رءوسهم، كما يجد النّائم إذا استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. فيناديهم: هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون).

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11474) عن أبي هريرة، ولم يسنده أو أن السدي أرسله هكذا.

ص: 153

قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ؛} يعني: أنّ المكان الزّاكي من الأرض يخرج ريعه بلا كدّ ولا عناء ولا مشقّة فينتفع به، {وَالَّذِي خَبُثَ؛} ترابه؛ وهي الأرض السّبخة، {لا يَخْرُجُ؛} ريعها؛ {إِلاّ نَكِداً؛} أي في كدّ وعناء. قال ابن عبّاس:(هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فإنّ المؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها، وينفعه القرآن كما ينفع المطر البلد الطّيّب، والكافر لا يسمع الموعظة ولا يعمل عملا من الطّاعة إلاّ شيئا يسيرا)

(1)

.

والنّكد في اللّغة: هو القليل الّذي لا ينتفع به. وقيل: معنى قوله تعالى: {(لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً)} أي عسرا قليلا بعناء ومشقّة. وقرأ أبو جعفر: «(نكدا)» بفتح الكاف؛ أي بالنّكد. وقيل: هي لغة في نكد، ويقرأ «(نكد)» بإسكانها لغة أيضا. ويقال: رجل (نكدا)

(2)

؛إذا كان عسرا ممتنعا من إعطاء الحقّ على وجه البخل.

قوله تعالى: {كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ؛} أي كما صرّفنا لكم آية في إثر آية؛ هكذا نبيّن الآيات، {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (58)؛نعم الله تعالى ويعتبرون بآياته وأمثاله.

قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ؛} وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس. وكان نوح نجّارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة

(3)

، {فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ؛} أي وحّدوه وأطيعوه، ولا تعبدوا معه غيره.

قوله تعالى: {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ؛} قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثّاب والأعمش والكسائيّ: «(غيره)» بالخفض نعتا للإله. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: ما لكم إله غيره. وقيل: على نيّة التقديم وإن كان مؤخّرا في اللفظ؛ تقديره: ما لكم غير الله من إله. وقوله تعالى: {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59)؛

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11476).

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 231؛ قال القرطبي: (نصب على الحال؛ وهو العسر الممتنع من إعطاء الخير).

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 233.

ص: 154

معناه: إنّي أخاف عليكم إن لم تؤمنوا عذاب يوم القيامة. وقد يذكر الخوف ويراد به اليقين.

قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؛} (60) أي قال الأشراف والرّؤساء من قومه: إنّا لنراك يا نوح في ذهاب من الحقّ بيّن لنا لمخالفتك.

قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ؛} أي ليس بي ذهاب عن الحقّ فيما أدعوكم إليه، {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} (61)؛أي ولكن أرسلني ربّ العالمين الذي يملك كلّ شيء. وإنّما لم يقل: ليست بي ضلالة؛ لأنّ معنى الضلالة الضّلال. قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي؛} أي أؤدّي إليكم ما حمّلني الله من الرّسالة. وإنّما قال: (رسالات) لأن الرسالة تتضمّن أشياء كثيرة من الأمر والنّهي؛ والتّرغيب والتّرهيب؛ والوعد والوعيد، فذكر تارة بلفظ يدلّ على الفعل؛ وتارة بلفظ يدلّ على الوحدان.

قرأ أبو عمرو: «(وأبلغكم)» بالتخفيف في جميع القرآن كقوله تعالى: {أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي}

(1)

،و {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ}

(2)

.وقرأ الباقون مشدّدا كما قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}

(3)

.

قوله تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ؛} أي أنصح لكم فيما أدعوكم إليه وأحذّركم منه. والنّصح: إخراج الغشّ من القول والفعل، يقال: نصحته ونصحت له؛ وشكرته وشكرت له. قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (62) أي أعلم إن لم تتوبوا من الشّرك أتاكم العذاب.

قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ} الألف في أوّل هذه الآية ألف استفهام، دخل على واو العطف على جهة الإنكار، فبقيت الواو مفتوحة كما كانت. ومعناها: أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على

(1)

الأعراف 79/.

(2)

الجن 28/.

(3)

المائدة 67/.

ص: 155

آدميّ منكم مثلكم تعرفون نسبه فيكم، {لِيُنْذِرَكُمْ؛} أي ليعلمكم بموضع المخافة، {وَلِتَتَّقُوا؛} الشّرك والمعاصي، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (63)؛أي ولكي تطيعوا فترحموا.

قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ؛} أي فكذبوا نوحا فأنجيناه من الطّوفان والمؤمنين الذين كانوا معه في السّفينة، وكانوا نحوا من ثمانين إنسانا-كذا قال الكلبيّ-أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: سام وحام ويافث وأزواجهم، وستّة أناس غيرهم.

قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} أي بدلائلنا وآياتنا كما؛ {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ} (64)؛أي قد عموا عن الحقّ والإيمان.

وواحد ال (عمين):عم؛ وهو الذي قد عمي عن الحقّ. وقيل: معناه: أنّهم كانوا قوما جاهلين لأمر الله. وقيل: (كفّارا).وقيل: عمين عن نزول الغرق بهم.

قوله تعالى: {*وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً؛} أي وأرسلنا إلى عاد؛ وهم قوم من أهل اليمن، وكان اسم ملكهم عادا، فنسبوا إليه، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح

(1)

.قوله تعالى: {(أَخاهُمْ هُوداً)} أي أخوهم في النّسب لا في الدّين، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وإنّما أرسل الله إليهم منهم؛ لأنّهم له أفهم وإليه أسكن. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (65)؛ الآية ظاهرة المعنى.

وقوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ؛} أي قال الأشراف والرّؤساء الذين كفروا منهم: إنّا لنراك في جهالة.

والسّفاهة في اللغة: خفّة الحلم والرّأي. وقوله تعالى: {وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} (66)؛يعني إنّهم كذبوه في دعوى الرسالة ونزول العذاب بهم،

{قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ؛} أي ليس بي جهالة، {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ}

(1)

في جامع البيان: الأثر (11490): ((عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح)).

ص: 156

{رَبِّ الْعالَمِينَ} (67)؛إليكم فيما يأمركم به من عبادته وتوحيده. وفي الآية موضع أدب لخلق وتعلّم من الله حسن جواب السّفهاء؛ لأنّ هودا عليه السلام اقتصر على دفع ما نسبوه إليه بنفي ما قالوه فقط، ولم يقابلهم بشيء من الكلام القبيح، وكذلك فعله نوح عليه السلام؛ فقال: ليس بي ضلالة.

قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ} (68)؛ على التوبة. وقوله: (ناصح) أي أدعوكم إلى التّوبة، وقد كنت فيكم قبل اليوم أمينا، فكيف تتّهمونني اليوم.

قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؛} قد تقدّم تفسيره. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ؛} أي واذكروا هذه النّعمة العظيمة بأن أورثكم الأرض بعد هلاك قوم نوح.

والخلفاء: جمع الخليفة على غير لفظ الوحدان؛ لأن لفظه يقتضي أن يجمع على خلائف كما يقال: صحيفة وصحائف، إلاّ أنه مثل ظريف وظرفاء. قوله تعالى:

{وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً؛} أي فضيلة في الطّول، قال ابن عبّاس:(أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستّون ذراعا).وقال وهب: (كان رأس أحدهم كالقبّة العظيمة، وكان عين أحدهم يفرّخ فيها السّباع وكذلك مناخرهم)

(1)

.قوله تعالى:

{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ؛} أي نعم الله عليكم واعملوا بما تقتضيه نعمه، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (69)؛أي لتظفروا بالنّجاة والبقاء.

قوله تعالى: {قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا؛} أي قالوا: يا هود؛ أتأمرنا أن نعبد ربّا واحدا، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الآلهة، فقال لهم: إن لم تفعلوا ما آمركم به أتاكم العذاب، قالوا:{فَأْتِنا بِما تَعِدُنا؛} أي تخوّفنا من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ؛} (70) أنّك رسول من عند الله.

(1)

هذا التصور الجامح من خيالات القصّاص، وخرافات الرهبان وأساطيرهم، ولا أصل له من رواية صحيحة، والله أعلم.

ص: 157

قوله تعالى: {قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ؛} أي قد وجب عليكم من ربكم عذاب وسخط. والرّجس والرّجز بمعنى واحد. قوله تعالى:

{أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ؛} أي تخاصمونني في آلهتكم وأنتم صنعتموها بأيديكم، {ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؛} أي في عبادتها، {فَانْتَظِرُوا؛} حصول العذاب بكم، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (71)؛أن يهلككم الله بعذاب من عنده.

قوله عز وجل: {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا؛} أي خلّصناه من العذاب والذين معه بنعمة منّا عليهم؛ وأمرناهم بالخروج من بين الكفّار قبل إنزال العذاب عليهم، {وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} أي استأصلناهم بالرّيح العقيم، فما بقي منهم أحد. قوله تعالى:{وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ} (72) أي ما أهلكهم الله إلاّ وكان في علمه أنه لو لم يهلكهم ما كانوا مؤمنين.

فصل: وكانت قصة عاد وإهلاكهم على ما ذكره السّدّيّ وغيره من المفسرين:

(أنّ عادا كان مساكنهم اليمن، وكان مساكنهم الأساف؛ وهي رمال يقال لها: رمل عالج ودهمان ونيران، ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا قد فشوا في الأرض، وقهروا أهلها بقوّتهم التي أعطاهم الله إيّاها، وكانوا يعبدون الأوثان.

فبعث الله إليهم هودا نبيّا عليه السلام من أوسطهم في النّسب، وأفضلهم في الحسب، فأمرهم أن يوحّدوا الله ولا يعبدوا غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه وقالوا: من أشدّ منّا قوّة؟! وتجبّروا في الأرض وبطشوا بطشة الجبّارين، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك.

وكان الناس في ذلك الزّمان إذا أنزل بهم بلاء وجهد مضوا إلى البيت الحرام بمكّة مسلمهم وكافرهم وسألوا الله الفرج، وكلّ الناس مسلمهم وكافرهم معظّما لمكّة حرسها الله، عارفا بحرمتها. وكان أهل مكّة يومئذ العماليق، أبوهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان رئيس العماليق يومئذ بمكة رجلا يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أمّه من عاد.

ص: 158

فلمّا قحط المطر من عاد وجهدوا؛ قالوا: جهّزوا منكم وفدا إلى مكّة يستسقي، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال في سبعين رجلا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو في خارج مكّة، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان؛ وهما قينتان لمعاوية.

فلما رأى طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم؛ شقّ ذلك عليه فقال: إخواني وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي، والله لا أدري ما أصنع بهم، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى حاجتهم، فيظنّون أن ذلك لضيق مكانهم عنده، وقد هلك قومهم من ورائهم جهدا وعطشا، فشكا ذلك إلى قينتيه الجرادتين؟ فقالتا: قل شعرا لنغنّيهم به لا يدرون من قاله، لعلّ ذلك يخرجهم. فقال معاوية:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعلّ الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إنّ عادا

قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشّديد فليس نرجو

به الشّيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير

فقد أمست نساؤهم أيامى

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التّماما

فقبح وفدكم من وفد قوم

ولا لقوا التّحيّة والسّلاما

فلمّا غنّتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: يا قوم، لقد أبطأتم على أصحابكم، فقوموا وادخلوا الحرم واستسقوا، فتقدّموا إلى الحرم. فقام قيل بن عنز يستسقي في المسجد، فقال: اللهمّ إنّي لم أجيء لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهمّ اسقنا فإنا قد هلكنا، اللهمّ اسق عاد ما كنت تسقيهم. وقال قومه: اللهمّ أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤالنا مع سؤله. فأنشأ الله سحابة بيضاء؛ وسحابة حمراء؛ وسحابة سوداء، ونودي: يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك من هذا السّحاب ما شئت.

فقال: اخترت السوداء لأنّها أكثر السّحاب ماء. فنودي: اخترت رمادا رمدا لا يبقي من آل عاد ولدا ولا شيوخا إلا صاروا همّدا.

ص: 159

ثم ساق الله السّحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النّقمة والبلاء إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال لهم: المغيث. فلمّا رأوها فرحوا وقالوا:

هذا عارض ممطرنا. يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ} .

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها}

(1)

أي كلّ شيء مرّت به، فسخّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما؛ أي دائبة. فكانت الريح تحمل الضّعن ما بين السّماء والأرض وتدمغهم الحجارة، وكانوا قد حفروا لأرجلهم في الأرض وغيّبوها إلى ركبهم، فجعلت الريح تدخل تحت أقدامهم، وترفع كلّ اثنين وتضرب بأحدهما على الآخر في الهواء، ثم تلقيهما في الوادي، والباقون ينظرون حتى رفعتهم كلّهم، ثم رمت بالتراب عليهم، فكان يسمع أنينهم من تحت التّراب. فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حضيرة، فما كان يصيبهم من الرّيح إلاّ ما يليّن جلودهم وتلذّ به أنفسهم

(2)

.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه؛ قال: [لمّا أراد الله إرسال الرّيح العقيم إلى عاد، أوحى الله إلى الرّيح أن تخرج إلى عاد فينتقم منهم، فخرجت على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب. فقالت الخزّان: يا رب؛ لن يطيقها ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها.

فأوحى الله: أخرجي على قدر خرق الخاتم، فخرجت على قدر ذلك].قال السّدّيّ:(فلمّا بعث الله على عاد الرّيح العقيم ودنت منهم، نظروا إلى الإبل والرّجال تطير بهم الرّيح بين السّماء والأرض، فتبادروا إلى البيوت، فأخرجتهم الرّيح من البيوت حتّى أهلكتهم على ما ذكرناه)

(3)

.

وعن عليّ رضي الله عنه أنّه سأل رجلا من حضرموت: (هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه ندرة حمراء فيه أراك وسدر كثير في ناحية كذا من حضرموت؟) قال: نعم يا أمير

(1)

الأحقاف 24/-25.

(2)

هذه القصة بطولها أخرجها الطبري في جامع البيان: النص (11493).ونقلها الثعلبي في الكشف والبيان: ج 4 ص 247.وذكرها البغوي في معالم التنزيل: ص 470 - 471: قصة عاد.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11495).

ص: 160

المؤمنين؛ والله إنّك نعتّه نعت رجل قد رآه! قال: (إنّي لم أره؛ ولكنّي حدّثت عنه).

قال: يا أمير المؤمنين؛ وما شأنه؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام

(1)

.

وعن عبد الرّحمن بن السّائب

(2)

؛قال: (بين الرّكن والمقام وزمزم تسعة وتسعين نبيّا، وإنّ قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة)

(3)

.وفي بعض الأخبار: أنه كان إذا هلك قوم نبيّ ونجا هو ومن معه، أتى مكّة بمن معه، فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا.

قوله تعالى: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ؛} أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا في النّسب.

وثمود: اسم للقبيلة؛ سمّوا بهذا الاسم لأنّهم كانوا على عين قليلة الماء، وموضعهم بالحجر بين الشّام والمدينة، والثّمد: الماء القليل. وثمود في كتاب الله مصروف وغير مصروف، قال الله تعالى:{أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}

(4)

فصرف الأوّل دون الثاني، فمن صرفه جعله اسما للحيّ؛ فيكون مذكّرا سمّي به مذكّر، ومن لم يصرفه جعله اسما للقبيلة.

قوله تعالى: {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي دلالة فاصلة بين الحقّ والباطل من ربكم. وقوله تعالى: {هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً؛} إشارة إلى ناقة بعينها. قال ابن عبّاس: (أتاهم صالح عليه السلام بناقة من الصّخرة الملساء بمسألتهم، فتحرّكت الصّخرة بدعائه، فانصدعت عن ناقة عشراء، فلم يؤمنوا).وفي بعض الرّوايات: أخرج الله من الصخرة ناقة، خلفها سقبها

(5)

الّذي ولدته. قوله تعالى: {(لَكُمْ آيَةً)} أي علامة لنبوّتي، فتعتبروا وتوحّدوا ربّكم.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11492).

(2)

في المخطوط: (عبد الرحمن بن السائط) وهو تحريف، والصحيح عبد الرحمن بن السائب، أخو عبد الله بن السائب، قتل يوم الجمل، ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: الرقم (1425).

(3)

ذكره أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 4 ص 250.

(4)

هود 68/.

(5)

السّقب: ولد الناقة، أو ساعة يولد. ينظر: ترتيب القاموس المحيط: (سقب):ج 2 ص 578.

ص: 161

قوله تعالى: {فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ؛} أي دعوها ترتع في أرض الحجر من العشب، {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ؛} أي بقتل أو ضرب أو مكروه، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (73)؛أي مؤلم إن فعلتم ذلك.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ} أي واذكروا إذ استخلفكم في الأرض من بعد هلاك عاد، {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً؛} أي وأنزلكم في الأرض الحجر تبنون في سهولها قصورا في العيص

(1)

، {وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً؛} في طول الشّتاء. وقيل: إنّهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون أن ينحتوا من الجبال؛ لأن السّقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ؛} أي احفظوا نعم الله عليكم، {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (74)؛أي ولا تعملوا في الأرض بالمعاصي والدّعاء إلى غير عبادة الله تعالى.

قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ؛} أي قال الأشراف الرّؤساء منهم الذين تعظّموا عن الإيمان به {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} للّذين استضعفوا من المؤمنين: أتعلمون أنّ صالحا مرسل إليكم من ربه؟

وفي هذا ذمّ للكافرين من وجهين؛ أحدهما: الاستكبار؛ وهو رفع النّفس فوق قدرها وجحود الحقّ. والآخر: أنّهم استضعفوا من كان يجب أن يعظّموه ويبجّلوه. وفي؛ {قالُوا؛} أي قول قوم صالح: {إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (75)؛مدح لهم حيث ثبتوا على الحقّ، وأظهروه مع ضعفهم من مقاومة الكفّار.

وقوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} (76)؛أي قال رؤساؤهم الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام:

إنّا بالّذي صدّقتم به من رسالته جاحدون.

(1)

العوص: ضد الإمكان واليسر. وعوّص الرجل إذا لم يستقم في قول ولا فعل. لسان العرب: (عوص).

ص: 162

قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ؛} معناه: فعقروا النّاقة التي جعل الله لهم آية ودلالة على نبوّة نبيّهم، وقد كان صالح عليه السلام قال لهم:

{(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ)} . وإنّما أضافها إلى الله على التّخصيص والتّفصيل، كما يقال: بيت الله.

وقيل: أضيفت إلى الله بأنّها كانت بالتّكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم تكن في صلب ولا رحم، ولم يكن للخلق فيها سعي. قوله تعالى:(آية) نصب على الحال.

وقوله تعالى: {(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)} أي تجاوزوا الحدّ في الكفر والفساد. {وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا؛} به من العذاب على قتل النّاقة، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (77).

قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ؛} أي أخذتهم الزّلزلة ثمّ صيحة جبريل عليه السلام كما قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ}

(1)

.والصّاعقة: هي الاحتراق؛ أي احترقوا، {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} (78)؛أي ميتين قد همدوا رمادا جثوما. والجثوم: البروك على الرّكب. وقيل: معنى الصّيحة والصاعقة واحد، فإن الصاعقة اسم لما يصعقون به؛ أي يموتون.

قوله تعالى: {فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ؛} معناه: فأعرض صالح عنهم حين عقروا الناقة، وعرف أنّ العذاب يأتيهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم في أداء الرّسالة إليكم، {وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ} (79)؛أي من ينصح لكم.

قال ابن عبّاس: (فخرج صالح ومن معه من المؤمنين؛ وهم مائة وعشرة؛ حتّى إذا فصل من عندهم وهو يبكي، التفت خلفه فرأى الدّخان ساطعا، فعرف أنّ القوم قد هلكوا، وكان عددهم ألفا وخمسمائة. فلمّا هلكوا رجع صالح ومن آمن معه، فسكنوا ديارهم حتّى توالدوا وماتوا فيها).

(1)

فصلت 17/.

ص: 163

فإن قيل: قوله تعالى: {(فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ)} عطف على قوله: {(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)؛} فكيف تكون الصّيحة بعد هلاكهم؟ قيل: إنّ الفاء في قوله:

{(فَتَوَلّى عَنْهُمْ)} للتّعقيب والإخبار لا لترادف الحال، وهذا راجع إلى حال عقرهم الناقة، لكنّ الله ساق القصّة في أمرهم إلى آخرها، ثم عطف على ذلك ما فعله صالح للكشف عن عذره في مسألة إنزال العذاب بهم بعد كثرة نصحه لهم وإصرارهم على فعلهم. وجواب إخوانه لا يمنع أنّ صالحا قال هذا القول بعد هلاك القوم ليعتبر بذلك من كان معه من المؤمنين.

فصل: وقصّتهم ما حكاه السّدّيّ وغيره: (أنّ عادا لمّا هلكت عمّرت ثمود بعدها، واستخلفوا في الأرض، فنزلوا فيها وكثروا، وكانوا في سعة من عيشهم، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط

(1)

وكبر ولا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون.

فلما ألحّ عليهم في الدّعاء والتّخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فأشاروا له إلى صخرة منفردة من ناحية الحجر، وقالوا له:

أخرج لنا من هذه الصّخرة ناقة جوفاء عشراء، فإن فعلت آمنّا بك وصدّقناك.

فأخذ عليهم صالح عليه السلام المواثيق، ففعلوا، فصلّى ركعتين ودعا ربّه، فتمخّضت الصخرة تمخّض النّتوج بولدها، ثم تحرّكت وانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء، كما وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت سقياء مثلها في العظم، فلمّا خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم.

فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشّجر وتشرب الماء، فكانت ترد الماء غبّا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر يقال لها بئر النّاقة، فما ترفعها حتى قد شربت كلّ ما فيها، لا تدع قطرة واحدة، ثم ترفع رأسها فتنفشج كما تنفحج

(2)

(1)

الشمط: بياض شعر الرّأس يخالط سواده.

(2)

التّفحّج والتّفشّج: هو أن يفرّج من رجليه إذا جلس.

ص: 164

لهم، فيحلبون ما شاءوا من لبنها، فيشربون ويدّخرون، ويملئون آنيتهم كلّها، ثم تصدر من على الفجّ

(1)

الذي وردت منه؛ لأنّها لا تعد أن تصدر من ماء ترد لضيقه.

قال أبو موسى الأشعريّ: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر النّاقة، فوجدته ستّين ذراعا

(2)

.

وكانوا إذا جاء يومهم وردوا الماء فيشربون ويسقون مواشيهم، ويدّخرون من الماء ما يكفيهم اليوم الثاني، فكانوا كذلك، وكانت الناقة إذا رأتها مواشيهم تنفر منها، وكانت الناقة ترعى في وادي الحجر، فكبر ذلك على أهل المواشي منهم، فاجتمعوا وتشاوروا على عقر الناقة.

وكان في ثمود امرأة يقال لها: صدوق، وكانت جميلة الخلق غنيّة ذات إبل وبقر وغنم، وكانت من أشدّ الناس عداوة لصالح عليه السلام، وكانت تحبّ عقر الناقة؛ لأنّها أضرّت بمواشيها، فطلبت من ابن عمّ لها يقال له: مصدع، وجعلت له نفسها إن عقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك. ثمّ طلبت قدار بن سالف، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه ولد زنى، ولكنّه ولد على فراش سالف، فقالت له: يا قدار؛ أزوّجك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان منيعا في قومه، فأجابها أيضا.

فانطلق قدار ومصدع فاستغووا غواة ثمود، فأتاهم تسعة رهط، فاجتمعوا على عقر الناقة، فأوحى الله إلى صالح: أنّ قومك سيعقرون النّاقة. فقال لهم صالح بذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل. ثم تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله. وقالوا: نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه، ثم رجعنا إلى الغار فكنّا فيه، فإذا رجعنا قلنا: ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون؛ أي يعلمون أنّا خرجنا في سفر لنا.

(1)

الفجّ: الطريق الواسع بين جبلين، وكلّ طريق بعد فهو فجّ.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11507).

ص: 165

وكان صالح عليه السلام لا ينام في القرية، وكان له مسجد خارج القرية يقال له:

مسجد صالح يبيت فيه، فإذا أصبح أتاهم ووعظهم، فإذا أمسى خرج إلى المسجد.

فانطلقوا ودخلوا الغار، فلما كان بالليل سقط عليهم الغار فقتلهم، فلما أصبحوا رآهم رجل فصاح في القرية فقال: ما رضي صالح حتى قتلهم، فاجتمع أهل القرية على عقر النّاقة)

(1)

.

وقال ابن إسحاق: (إنّما اجتمع التّسعة الّذين عقروا النّاقة، فقالوا: هلمّ لقتل صالح، فإن كان صادقا فأعجلنا قتله، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته. فأتوه ليلا ليبيّتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة)

(2)

.

وقال بعضهم: انطلق قدار ومصدع وأصحابهما التسعة، فرصدوا الناقة حين صدرت على الماء، وقد كمن بها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى، فمرّت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم خرج قدار فعقرها بالسّيف، فجرت ترغو، ثم طعنها في لبّتها ونحرها، وخرج أهل البلد واقتسموا لحمها. فلما رآها سقبها على ذلك، هرب يرغو فرغا ثلاثا ودموعه تنحدر حتى أتى الصخرة التي خلق منها، فانفتحت له فدخلها.

فبلغ صالحا عليه السلام عقر النّاقة، فأقبل إليهم، فجعلوا يعتذرون إليه ويقولون:

إنّما عقرها فلان ولا ذنب لنا. فقال صالح: انظروا؛ هل تدركون سقبها؟ فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا في طلبه فلم يجدوه، فقال صالح: يا قوم؛ لكلّ دعوة أجل؛ يا قوم تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام، ذلك وعد غير مكذوب.

وقال ابن إسحاق: (عقروا النّاقة وسقبها، وألقوا لحمه ولحم أمّه، فقال لهم صالح: أبشروا بعذاب الله ونقمته. فقالوا له: وما علامة ذلك؟ قال: تصبحون غدا وجوهكم مصفرّة، وبعد غد محمرّة، وبعد ذلك مسودّة. وكانوا عقروها يوم الأربعاء.

(1)

القصة بكاملها ذكرها البغوي في معالم التنزيل: ص 473 - 475.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 476.

ص: 166

فأصبحوا يوم الخميس كأنّ وجوههم طليت بزعفران؛ صغيرهم وكبيرهم؛ وذكرهم وأنثاهم، فأيقنوا بالعذاب، وعلموا أنّ صالحا قد صدق، فطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم واختفى في موضع فلم يجدوه، فجعلوا يعذّبون أصحابه الّذين آمنوا منهم ليدلّوهم عليه.

فلمّا أصبحوا يوم الجمعة أصبحت وجوههم محمرّة كأنّها خضّبت بالدّماء؛ فصاحوا بأجمعهم وضجّوا وبكوا، وعرفوا أنّ العذاب قد دنا إليهم، وجعل كلّ واحد منهم يخبر الآخر بما يرى في وجهه. ثمّ أصبحوا يوم السّبت وجوههم مسودّة كأنّما طليت بالقار والنّيل، فصاحوا جميعا: ألا قد حضر العذاب.

فلمّا أصبحوا يوم الأحد، خرج المسلمون إلى صالح عليه السلام، فمضى بهم إلى الشّام، فلمّا اشتدّ الضّجّ يوم الأحد، أتتهم صيحة من السّماء عظيمة، فيها صوت كلّ صاعقة، فانفطرت قلوبهم في صدورهم وتقطّعت، فلم يبق منهم كبير ولا صغير إلاّ هلك، كما قال الله تعالى:{إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}

(1)

).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: لمّا مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك-يعني مواضع ثمود-قال لأصحابه: [لا يدخلنّ أحد منكم هذه القرية إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم] ثمّ قال: [لا تسألوا رسولكم الآيات، فإنّ هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله إليهم النّاقة، فكانت ترد من هذا الفجّ؛ وتصدر من هذا الفجّ؛ فتشرب ماءهم يوم ورودها] وأراهم مرتقى الفصيل حين ارتقى، ثمّ أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم السّير حتّى جاوزوا الوادي

(2)

.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعليّ رضي الله عنه: [أتدري من أشقى الأوّلين؟] قال:

الله ورسوله أعلم، قال:[عاقر النّاقة].ثمّ قال: [أتدري من أشقى الآخرين؟]

(1)

القمر 31/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (11504 و 11507).والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3301)؛وقال: صحيح الإسناد.

ص: 167

قال: الله ورسوله أعلم، قال:[قاتلك!]

(1)

.

قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} (80)؛معناه: وأرسلنا لوطا إذ قال لقومه: أتأتون السّيّئة؛ وهي إتيان الذّكور في الأدبار. والفاحشة: السّيّئة العظيمة القبح. وقوله تعالى: {(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)} أي لم يفعلها أحد قبلكم.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أوّل ما عملوا عملهم الخبيث أن خصبت بلادهم فانتجعها أهل البلدان، فتمثّل لهم إبليس في صورة شابّ، ثمّ دعا إلى دبره فنكح، فعبثوا بذلك العمل زمانا، فلمّا كثر فيهم عجّت الأرض إلى ربها، فسمعت السّماء فعجّت إلى ربها، فسمع العرش فعجّ إلى ربه، فأمر الله السّماء أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم)

(2)

.

وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؛} أي إنّكم لتأتون الرّجال في أدبارهم شهوة، وتتركون إتيان النّساء التي أباح الله لكم، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (81)؛أي متجاوزون عن الحلال إلى الحرام.

قوله تعالى: {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} أي ما كان جوابهم إذ قالوا لهم ذلك، إلا أن قالوا؛ أي قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطا ومن آمن معه من بلدكم، {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (82) أي يتنزّهون عن فعلنا ويقذّروننا. والعرب تسمّي المدينة قرية.

قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ؛} أي خلّصناه وابنتيه زعوراء وريئياء. وأهل الرّجل: هم المختصّون به اختصاص القرابة، وقوله:{(إِلاَّ امْرَأَتَهُ)} أي

(1)

في مجمع الزوائد: ج 7 ص 14؛قال الهيثمي: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

)،وذكره بلفظ: [أشقى النّاس ثلاثة

]،وقال:(وفيه ابن إسحاق وهو مدلس)،وفي ص 299 قال:(رواه الطبراني وفيه حكيم بن جبير وهو متروك وضعفه الجمهور، وقال أبو زرعة: محله الصدق إن شاء الله، وابن إسحاق مدلس).

(2)

في الدر المنثور: ج 3 ص 496؛ قال السيوطي: ((أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس

وذكره بلفظ قريب منه)).

ص: 168

إلاّ زوجته كانت على دينهم، وقوله تعالى:{كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} (83)؛ أي من الباقين في الغبراء؛ غبرت فيمن غبر. ومعناه: بقيت في العذاب ولم تذهب معه، فهلكت مع القوم فيمن هلكوا.

قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (84)؛قال ابن عبّاس: (أمطرت الحجارة على مسافرهم وعلى الّذين لم يكونوا معهم بالمدينة حتّى هلكوا، فأمّا المدينة فقد جعل الله عاليها سافلها).ويقال: أمطروا أوّلا بالحجارة، ثم خسفت بهم الأرض.

وأما الألف في قوله: {(وَأَمْطَرْنا)؛} قال بعضهم: يقال لكلّ شيء من العذاب:

أمطرت بالألف؛ وللرّحمة: مطرت. وقال بعضهم: أمطرت ومطرت بمعنى واحد. قوله تعالى: {(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)} أي فانظر من معك في آخر أمر الكافرين المكذّبين كيف فعلنا بهم.

قوله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ؛} معناه: ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. قال الضّحاك: (كان شعيب أفضلهم نسبا؛ وأصدقهم حديثا؛ وأحسنهم وجها) يقال: إنه بكى من خشية الله حتى ذهب بصره وصار أعمى. وأما مدين؛ فإنه مدين بن إبراهيم خليل الله، تزوّج ريثاء بنت لوط؛ فولدت له وكثر نسله، فصارت مدين مدينتهم أو قبيلتهم.

قوله تعالى: {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي برهان ودلالة من ربكم على نبوّتي، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ؛} أي أدّوا حقوق الناس بالمكيال والميزان على التّمام، {وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ؛} أي ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} أي لا تعلوا فيها بالمعاصي بعد إصلاح الله إيّاها بالمحاسن.

وقيل: معناه: لا تظلموا الناس في الأرض بعد أن منّ الله فيها بالعدل، {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ؛} أي إيفاء الحقوق وترك الفساد في الأرض خير لكم،

ص: 169

{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (85)؛أي مصدّقين بالله ورسوله. وقد كان لشعيب عليه السلام آية تدلّ على نبوّته، كما قال تعالى:{(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)} إلا أنّها لم تذكر في القرآن كما أنّ أكثر معجزات نبيّنا صلى الله عليه وسلم «ليست» مذكورة في القرآن.

قوله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ؛} أي لا تقعدوا على طريق تخوّفون وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بالله، وذلك أنّهم كانوا يخوّفون بالقتل كلّ من قصد شعيبا بالإيمان به. وقوله تعالى:{وَتَبْغُونَها عِوَجاً؛} أي تطلبون بها غيرا وزيغا وعدولا عن الحقّ.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ؛} أي احفظوا نعم الله عليكم إذ كنتم قليلا في العدد (فكثّركم) فكثّر عددكم، ويقال: معنى (فكثّركم):جعلكم أغنياء ذوي قدرة بعد أن كنتم ضعفاء فقراء.

وقوله تعالى: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (86)؛أي تفكّروا كيف كان آخر أمر من كان قبلكم من الكفّار في إهلاك الله تعالى لهم، وإنزال العذاب بهم، فتحذروا من سلوك مسالكهم.

قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا؛} معناه: وإن كان جماعة منكم صدّقوا بالّذي أرسلت به، وجماعة لم يصدّقوا، {فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا؛} أي حتّى يقضي الله بين المؤمنين والكافرين، {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} (87)؛وهو أعدل القاضين؛ سيجزي كلّ واحد من الفريقين ما يستحقّه على عمله في الدنيا والآخرة. فقضى الله بهلاك قوم شعيب.

قوله تعالى: {*قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا؛} أي قال الّذين تعظّموا عن الإيمان به: لنخرجنّك يا شعيب والّذين آمنوا معك من قريتنا أو لترجعنّ إلى ديننا، ولا ندعكم في أرضنا على مخالفتنا. {قالَ؛} شعيب:{أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ} (88)؛ معناه: أتعيدوننا في ملّتكم وتجبروننا على ذلك وإن كرهنا.

ص: 170

فإن قيل: كيف قالوا لشعيب: {(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)} وشعيب عليه السلام لم يكن في ملّتهم قط؛ لأنّ الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر في حال من الأحوال؟ قيل: يجوز أن يكون المراد بهذا الخطاب قومه الذين كانوا على ملّتهم؛ فأدخلوه معهم في الخطاب. ويحتمل أنّهم توهّموا أنّ شعيبا كان على ملّتهم؛ لأنّهم لم يروا منه المخالفة لهم إلاّ في وقت ما دعاهم إلى نبوّته.

قوله تعالى: {قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها؛} أي قد اختلقنا على الله الكذب فيما دعوناكم إليه إن عدنا في ملّتكم بعد إذ خلّصنا الله منها بالدلالة على بطلانها وتبيين الحقّ لنا وقبولنا له. قوله تعالى:

{وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا؛} قال بعضهم: معناه: ما نعود فيها إلاّ أن يكون في علم الله ومشيئته أن نعود فيها.

وقال بعضهم: معناه: إلاّ أن يشاء الله أن نكره عليها بالقتل، فنظهر كلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان. قوله تعالى:{وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً؛} أي أحاط ربّنا بكلّ شيء علمه، فهو يعلم ما هو أصلح لنا فيتعبّدنا به، وهو يعلم بأنّا هل ندخل في ملّتكم أو لا ندخل.

قوله تعالى: {عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا؛} أي به وثقنا في الانتصار عليكم، قوله تعالى:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ؛} أي اقض بيننا وبينهم بما يدلّ على أنّا على الحقّ وهم على الباطل، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} (89)؛والفاتح هنا: الحاكم بلغة أهل عمان؛ يسمّى فاتحا؛ لأنه يفتح المشكلات ويفصل الأمور.

ويجوز أن يكون معنى الفتح: أظهر أمرنا بإهلاك العدوّ حتى ينفتح ما بيننا وبينهم؛ أي يظهر ويكشف.

قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ} (90)؛معناه: قال الأشراف الّذين كذبوا شعيبا: لئن اتّبعتم شعيبا فيما دعاكم إليه إنّكم إذا بمنزلة من ذهب رأس ماله لإفنائكم العمر في ترك الشّهوات، فتكونون مغبونين جاهلين.

ص: 171

قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ؛} أي الزّلزلة الشّديدة. وقال ابن عبّاس:

(رجفت بهم الأرض وأصابهم حرّ شديد، ورفعت لهم سحابة، فخرجوا إليها يطلبون الرّوح منها، فلمّا كانوا تحتها سالت عليهم بالعذاب ومعه صيحة جبريل عليه السلام

(1)

.قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} (91)؛أي بقرب دارهم تحت الظّلّة كما قال تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

(2)

وقوله تعالى: {(جاثِمِينَ)} أي ميّتين على وجوههم وركبهم. وروي: أنّهم احترقوا تحت السّحابة، فصاروا ميّتين بمنزلة الرّماد الجاثم أجسام ملقاة على الأرض.

قال ابن عبّاس: (فتح الله عليهم بابا من جهنّم، فأرسل عليهم منه حرّا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا جوف البيوت، فلم ينفعهم ماء ولا ظلّ، فأنضجهم الحرّ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيّبة، فوجدوا برد الرّيح وطيبها وظلّ السّحابة، فتنادوا:

عليكم بها؛ فخرجوا نحوها، فلمّا اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم؛ ألهبها الله نارا عليهم، ورجفت بهم الأرض؛ فأحرقوا كما يحترق الجراد المقتول وصاروا رمادا، وهو عذاب يوم الظّلّة)

(3)

.

قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا؛} يقول الله تعالى:

الّذين كذبوا شعيبا كأن لم ينزلوا في دارهم. ويقال معنى {(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)} كأن لم يقيموا فيها مقام المستغني. ويقال: معناه: كأن لم يعيشوا ولم يكونوا. قال الأصمعيّ:

(المغنى: المنزل؛ والمغاني المنازل الّتي كانوا فيها، يقال: غنينا بمكان كذا؛ أي نزلنا فيه).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ} (92)؛فيه بيان أنّ الخسران حلّ بهم دون المؤمنين، وإنّما أعاد ذكر {(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً)} للتّغليظ عليهم.

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 502: شطر حديث طويل؛ قال السيوطي: ((أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر)).

(2)

الشعراء 189/.

(3)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 228.

ص: 172

قوله تعالى: {فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ} (93)؛معناه: فلمّا رأى العذاب مقبلا عليهم أعرض عنهم بعد الإياس منهم، وخرج من بين أظهرهم. وقوله:{(فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)} أي كيف يشتدّ جزعي على قوم كافرين حلّ بهم العذاب باستحقاقهم له بعد أن نصحتهم فلم يقبلوا. والأسى: الحزن؛ والأسى: الصّبر.

قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (94)؛أي وما أرسلنا في مدينة من رسول فكذبوا إلاّ عاقبنا أهلها بالبأساء والضّرّاء. فالبأساء: ما نزل بهم من الشّدّة في نفوسهم، والضّرّاء: ما نزل فيهم من الضّرر في أموالهم. وقيل على عكس هذا، وقيل: البأساء:

البؤس والشّدّة وضيق العيش، والضّرّاء: الفقر والجوع. قوله تعالى: {(لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)} أي لكي يتضرّعوا ويتوبوا.

قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا؛} أي ثم حوّلنا مكان الشّدّة والكرب العاقبة والخصب والسّعة حتى كثروا وكثرت أموالهم ومعاشهم. وإنّما سمّيت الشّدّة سيئة؛ لأنّها تسوء الإنسان؛ كما الإحسان حسنة؛ لأنه يحسن أثره على الإنسان، وإلاّ فالسيّئة هي الفعلة القبيحة، والله تعالى لا يفعل القبيح.

وقال الحسن: (عفوا) أي سمنوا؛ وأراد به السّمن في المال لا في تعظيم الجسم).وقال قتادة: {(حَتّى عَفَوْا)} حتّى أشروا وبطروا ولم يشكروا ربّهم).وأصله من الكثرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [احفوا الشّوارب وأعفوا اللّحية]

(1)

.قال الشاعر:

عفوا من بعد إقلال وكانوا

زمانا ليس عندهم بعير

وقال ابن عبّاس: (حتّى عفوا) أي جموا

(2)

.وقال ابن زيد: (حتّى كبروا كما يكبر النّبات والرّيش)

(3)

.

(1)

تقدم؛ وأخرجه البخاري في الصحيح: كتاب اللباس: باب إعفاء اللحى: الحديث (5893). ومسلم في الصحيح: كتاب الطهارة: باب خصال الفطرة: الحديث (259/ 52).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11555).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11560).

ص: 173

قوله تعالى: {وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرّاءُ وَالسَّرّاءُ؛} أي قالوا: هكذا عادة الزّمان؛ أي يسيء تارة ويحسن أخرى، وهكذا كانت عادته مع آبائنا. فثبتوا على دينهم ولم يقيلوا عنه، فاثبتوا أنتم على دينكم ولا تقيلوا عنه، يقول الله تعالى:

{فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً؛} أي أخذناهم بالعذاب فجأة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (95) أي من حيث لا يشعرون بالعذاب. والمعنى: أخذناهم بالعذاب وهم في أمن وهم لا يشعرون بنزوله.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؛} معناه: لو أنّ أهل القرى الذين أهلكناهم بتكذيبهم الرسل قالوا: آمنّا بالله وبالرّسل واتّقوا الشّرك والمعاصي لفتحنا عليهم بركات نامية من السّماء وهي المطر؛ ومن الأرض وهي النبات والثّمار، {وَلكِنْ كَذَّبُوا؛} الرسل؛ {فَأَخَذْناهُمْ؛} بالعذاب؛ {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (96)؛من المعاصي.

وفي الآية دلالة أنّ الكفاية والسّعة في الرّزق من سعادة المرء؛ أي إذا كان شاكرا. والمراد بقوله: {لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ}

(1)

الكثرة التي تكون وبالا على من لا يشكر الله تعالى.

قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ} (97) معناه: أفأمن أهل القرى المكذّبة لك يا محمّد أن ينزل بهم عذابنا ليلا وهم نائمون في فرشهم ومنازلهم، لا يشعرون بالعذاب لغفلتهم.

قوله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (98) معناه: أو أمن أهل القرى المكذّبة لك أن يأتيهم عذابنا نهارا وهم مشغولون بلهوهم ولعبهم. والضّحى: صدر النّهار عند ارتفاع الشّمس.

قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ؛} معناه: أبعد هذا كلّه أمنوا عذاب الله لهم من حيث لا يعلمون. وإنّما سمّي العذاب مكرا على جهة الاتّساع والمجاز؛

(1)

الزخرف 33/.

ص: 174

لأن المكر ينزل بالممكور من الماكر من حيث لا يشعر، وأما المكر الذي هو الاحتيال للإظهار بخلاف الإضمار؛ فذلك لا يجوز على الله. قوله تعالى:{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} (99).

فإن قيل: أليس الأنبياء قد أمنوا عذاب الله وليسوا من القوم الخاسرين؟ قيل:

معنى الآية: لا يأمن عذاب الله من المذنبين. والأنبياء صلوات الله عليهم لا يأمنون عذاب الله على المعصية؛ ولهذا لا يعصون بأنفسهم.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ؛} قرأ قتادة: «(أولم نهد)» بالنّون على التعظيم، ومعنى الآية:

أولم يبيّن الله للّذين يخلفون في الأرض من بعد أهلها الذين أهلكهم الله بتكذيبهم الرّسل. وقوله تعالى: {(أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)} أي أولم نبيّن لهم مشيئتنا أصبناهم بعقاب ذنوبهم، كما أخذنا من كان قبلهم بذنوبهم.

وقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ؛} أي نختم عليها عقوبة لهم، وليس هو عطفا على {(أَصَبْناهُمْ)} لأنه لو عطف عليه لقال: ولطبعنا؛ لأنّ قوله:

{(أَصَبْناهُمْ)} على لفظ الماضي، وكان معنى {(وَنَطْبَعُ)}:ونحن نطبع. ومعنى الختم على قلوبهم: بأنّهم لا يؤمنون على جهة الذمّ. وقوله تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (100)؛أي لا يقبلون الوعظ.

قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها؛} أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها بجحودهم لآيات الله نقصّ عليك يا محمّد في القرآن من أخبارها كيف أهلكت؛ لما في ذلك من العبرة لمن تدبّر حالهم. {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالحجج والبراهين القاطعة التي لو اعتبروا بها لاهتدوا.

وقوله تعالى: {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا؛} قال مجاهد: (معناه: فما أهلكناهم إلاّ وقد كان معلومنا أنّهم لا يؤمنون أبدا).وقال الحسن: (معناه: فما كانوا ليؤمنوا لعتوّهم وتمرّدهم في الباطل)، {بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} (101)؛أي على قلوب الكافرين بك.

ص: 175

ومعنى الآية: {(تِلْكَ الْقُرى)} أي هذه القرى التي ذكرت لك يا محمّد أمرها وأمر أهلها، يعني قرى قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وشعيب. وقوله تعالى:{(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا)} قال أبيّ بن كعب: (معناه: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرّسل لما سبق في علم الله أنّهم يكذّبون)

(1)

.

قوله تعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ؛} أي ما وجدنا لأكثر المهلكين من وفاء فيما أمروا به. تقول العرب: فلان لا عهد له؛ أي لا وفاء له بالعهد.

وهذا العهد المذكور في الآية يجوز ما أودع الله العقول من شكر النّعمة؛ والقيام بحقّ المنعم؛ ووجوب طاعة المحسن. ويجوز أن يكون ما أخذ عليهم على ألسنة الرّسل من هذه الأمور.

وقوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} (102)؛أي إنّا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد؛ تاركين لما أمروا به من الحلال والحرام. وأمّا دخول (أن) واللام في مثل هذا، فعلى وجه التّأكيد كما يقال: إن ظننت زيدا لقائما، وتريد بذلك تأكيد الظّنّ.

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها؛} معناه: ثمّ بعثنا من بعد أولئك الرّسل الذين سبق ذكرهم موسى بدلائلنا وحججنا من العصا واليد والطّمس وغير ذلك إلى فرعون وأشراف قومه. ويعني بالرّسل الذين بعث موسى من بعدهم: نوحا؛ وهودا؛ وصالحا؛ ولوطا؛ وشعيبا.

واسم (فرعون) أعجميّ لا ينصرف؛ اجتمع فيه العجمة والتّعريف، وكانوا يسمّون كلّ من ملك مصر بهذا الاسم؛ واسمه: الوليد بن مصعب، وكان من القبط، وعمّر أكثر من أربعمائة سنة. قوله تعالى:{(فَظَلَمُوا بِها)} أي جحدوا بالآيات. وسماه ظلما لأنّهم جعلوا بدل وجوب الإيمان بها الكفر، وذلك من أبين الظّلم.

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 507؛ قال السيوطي: ((أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي بن كعب. وذكره بلفظ قريب)).

ص: 176

قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (103)؛أي فانظر كيف صار آخر أمر المفسدين في العقاب. قال ابن عبّاس: (كان طول عصا موسى عشرة أذرع على طوله، فكانت من آس الجنّة، وكان يضرب بها الأرض فيخرج بها النّبات، ويلقيها فإذا هي حيّة تسعى، ويضرب بها الحجر فيتفجّر، وضرب بها باب فرعون ففزع منها؛ فشاب رأسه؛ فاستحيا فخضّب بالسّواد، وأوّل من خضّب بالسّواد فرعون).

قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} (104) وذلك أنّ موسى دخل على فرعون ومعه أخوه هارون، بعثهما الله إليه بالرّسالة، فقال موسى: يا فرعون! إنّي رسول من رب العالمين.

فقال له فرعون: كذبت! فقال موسى: {حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ؛} أي جدير بأن لا أقول على الله إلاّ الحقّ. وقرأ نافع: «(عليّ)» بالتشديد؛ أي واجب عليّ أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ.

وقوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي برهان وحجّة من ربكم، {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} (105)؛أي فأطلق بني إسرائيل، ولا تستعبدهم لأحملهم إلى الأرض المقدّسة. وكان فرعون وقومه القبط يكلّفون بني إسرائيل الأعمال الشّاقّة، مثل حمل الطّين والماء وبناء المنازل وأشباه ذلك.

وقوله تعالى: {قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ،} معناه: قال فرعون: إن كنت جئت بعلامة لنبوّتك، {فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} (106)؛في أنّك رسول الله؛

{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ} (107)؛أي ثعبان بيّن لا لبس فيه ولا تشبيه على أحد أنه ثعبان.

فالثّعبان: الحيّة الصّفراء الذكر الأشعر أعظم الحيّات؛ لها عرف كعرف الفرس. روي أنّها: ملأت دار فرعون، ثم فتحت فاها وأخذت قبّة فرعون بين فكّيها، وتضرّع فرعون إلى موسى، وهرب الناس واستغاثوا بموسى، فأخذها موسى فإذا هي عصا بيده كما كانت.

ص: 177

قال ابن عبّاس والسّدّيّ

(1)

: (لمّا فغرت فاها كان بين لحييها ثمانون ذراعا، وضعت لحيها الأسفل في الأرض، ولحيها الأعلى على سور القصر، ثمّ توجّهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب من سريره وهرب، وهرب النّاس وانهزموا، وكانوا خمسة وعشرين ألفا.

فصاح فرعون: يا موسى! خذها وأنا أؤمن بربك، وأرسل معك بني إسرائيل.

فأخذها؛ فعادت عصا كما كانت. فقال له فرعون: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم؛

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ} (108)؛أي فأدخل يده في جيبه؛ ثم نزعها فإذا هي بيضاء لها شعاع يغلب نور الشّمس.

قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ} (109)؛ أي قال الأشراف من قوم فرعون: إنّ هذا لساحر حاذق بالسّحر

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ؛} أي قال الأشراف: يريد موسى أن يستميل قلوب بني إسرائيل إلى نفسه، ويتقوّى بهم فيقتلكم ويخرجكم من بلادكم، {فَماذا تَأْمُرُونَ} (110) أي تشيرون في أمره. كأنّهم خاطبوا فرعون، ويجوز أن يكون قوله:{(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ)} من مقالة فرعون لقومه، ويعني بقوله:{(مِنْ أَرْضِكُمْ)} أرض مصر. وكان بين اليوم الذي دخل يوسف فيه مصر وبين اليوم الذي دخلها موسى فيه رسولا أربعمائة عام.

قوله تعالى: {قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ؛} أي قالوا لفرعون: احبسه وأخاه إلى آخر أمرهما، ولا تعجل بقتلهما؛ فتكون عجلتك حجّة عليك، {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ} (111)؛أي ابعث الشّرط في المدائن التي حولك يحشرون السّحرة إليك

(2)

.

والسّحر في اللّغة: لطف الحيلة في إظهار الأعجوبة، وأصل ذلك من خفاء الأمر، ومن ذلك سمّي آخر الليل سحرا لخفاء الشّخص بفيء ظلمته، والسّحر:

الرئة؛ سميت بذلك لخفاء أمرها بانتفاخها تارة وضمورها أخرى.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11604) عن ابن عباس، والأثر (11605) عن السدي.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11589) عن ابن عباس، والأثر (11590) عن مجاهد.

ص: 178

قوله تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ} (112)؛قال ابن عبّاس:

(كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم، وكان اللّذان يعلّمانهم مجوسيّين من أهل نينوى)

(1)

.وقال محمد بن إسحاق: (كانوا خمسة عشر ألف ساحر، مع كلّ واحد منهم حبل وعصا)

(2)

.وقال كعب: (كانوا عشرين ألفا)

(3)

.وقال ابن المنكدر: (كانوا ثمانين ألفا).وقال مقاتل: (كان رئيس السّحرة شمعون).

{وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ،} فلما اجتمعوا، {قالُوا؛} لفرعون:

{إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ} (113)؛أي جعلا ومالا؛

{قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (114)؛عندي في المنزلة. قال الكلبيّ: (أي أوّل من يدخل عليّ وآخر من يخرج).

قوله تعالى: {قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (115) أي قالت السّحرة: يا موسى! إمّا أن تلقى ما معك من العصا، وإمّا أن نلقي نحن ما معنا من العصيّ والحبال قبلك.

{قالَ أَلْقُوا؛} ما معكم من الحبال والعصيّ، {فَلَمّا أَلْقَوْا؛} ذلك؛ {سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ؛} أي أخذوا بها أعين النّاس، واستدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس، {وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116)؛في أعين النّاس.

وكانوا قد جعلوا فيها الزّئبق بعد أن صوّروها بصورة الحيّات، فلمّا أوقفوها في الشّمس اضطربت باضطراب ما فيها من الزّئبق؛ لأنه لا يستقرّ؛ ومتى يزداد مكثه في الشمس زادت حركته، وخيّل إلى موسى أنّ حبالهم وعصيّهم حيّات كما كانت عصا موسى عليه السلام.

فإن قيل: كيف يجوز من موسى عليه السلام أن يأمرهم بالإلقاء؛ وكان إلقاؤهم إرادة منهم مغالبة موسى؛ وذلك كفر؛ ولا يجوز على الأنبياء أن يأمروا بالكفر؟ قيل:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11596).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11595).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11598).

ص: 179

معناه: ألقوا إن كنتم محقّين على زعمكم. ويجوز أن يكون أمرهم بالإلقاء لتأكيد معجزته.

قوله تعالى: {*وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ؛} من يدك؛ فألقاها؛ {فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} (117)؛أي تلتقم وتبتلع ما كانوا يكذّبون أنّها حيّات. والإفك: الكذب. وقرئ: «(تلقف)» بجزم اللاّم خفيفة. وقرأ سعيد بن جبير: «(تلقم)» .

قال ابن عبّاس: (لمّا كثرت حيّاتهم جعلت عصا موسى تزداد عظما حتّى سدّت الأفق، ثمّ فتحت فاها فابتلعت جميع ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم، ثمّ هوت بذنبها فعلّقته برأس قبّة فرعون وهو فيها، وفتحت فاها لتبتلعه، فصرخ إلى موسى، فأخذها فإذا هي عصا كما كانت.

(1)

ونظر السّحرة فإذا حبالهم وعصيّهم قد ذهبت، فذلك قوله تعالى:

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (118)؛أي ظهر الحقّ وبطل ما كانوا يعملون من السّحر، وقال النّضر بن شميل:(فوقع الحقّ) أي صدعهم وأفزعهم،

{فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ} (119)؛أي رجعوا ذليلين.

قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} (120)؛قال الأخفش: (من شدّة سرعة سجودهم؛ كأنّهم ألقوا، وقد كانوا في اللّوح المحفوظ سعداء شهداء).

قوله تعالى: {قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ} (121)؛فقال لهم فرعون: إيّاي تعنون؟ قالوا: {رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} (122)؛فبهت فرعون وندم على ما نالهم، فظهر للنّاس إنّهم آمنوا بالله عز وجل.

قوله تعالى: {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؛} أي قال لهم فرعون: أصدّقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم في الأيمان، {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها؛} أي إنّ هذا لشيء واطأتموه عليه حين يدّعى النّبوّة، ثم تظهرون مخالفته في ابتداء الأمر، حتى إذا غلبكم أظهرتم

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11606) عن ابن إسحاق.

ص: 180

موافقته بعد ذلك. أراد فرعون بهذا القول أن يموّه على الناس؛ ليصرف وجوههم إلى نفسه، ثم قال للسّحرة:{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (123)؛ماذا ينزل بكم من النّكال.

قوله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ؛} أي لأقطّعنّ أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى من خلاف، {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (124)؛على شاطئ نهر مصر على جذوع النّخل حتى تموتوا من الجوع والعطش والألم.

قوله تعالى: {قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} (125)؛أي فقالت السّحرة: إنّا لا نبالي من فعلك وعقوبتك، فإنّ مرجعنا إلى الله يوم القيامة، فإن الحياة وإن طالت؛ فإنّها تختم بالممات،

قوله تعالى: {وَما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا؛} أي قالت السّحرة: ما تعيب علينا ولا تنكر علينا إلا لأنّا صدّقنا بعلامات توحيد ربنا؛ لمّا ظهر لنا أنّ ذلك حقّ من الله.

ثم ألهموا الدّعاء فقالوا: {رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} (126) أي أصبب علينا صبرا وأنزله علينا؛ ووفّقنا على الثّبات على الإيمان إلى وقت الوفاة.

قال ابن عبّاس: (فأخذ فرعون السّحرة فقطّعهم، ثمّ صلبهم على شاطئ نيل مصر، وخلّى سبيل موسى وهارون ولم يتعرّض لهما).

(1)

قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ؛} من القبط: {أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ؛} أي أتتركهم ليغيّروا عليك دينك في أرض مصر ويدعو الناس إلى مخالفتك؛ فينتقض بذلك أمرك وملكك؛ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؛} أي يدعك ولا يعبدك؛ ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها.

قال الحسن: (كان فرعون يستعبد النّاس ويعبد الأصنام بنفسه).

(2)

وقال السّدّيّ: (كان يعبد هو ما استحسن من البقر، ومنه أخذ السّامريّ عبادة البقر).

(3)

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11615) عن السدي وابن عباس.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11621).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11620).

ص: 181

وقيل: كان فرعون قد صنع أصناما صغارا، وأمر قومه بعبادتها، وقال: أنا ربّ هذه الأصنام الأعلى، وهم أربابكم.

وقرأ الحسن: «(وما تنقم)» بفتح القاف لغتان، قال الضّحاك:(معناه: وما تطغى علينا).وقال عطاء: (ما لنا عندك من ذنب تعذّبنا عليه إلاّ أن آمنّا بآيات ربنا).وقرأ الحسن: «(ويذرك)» بالرّفع عطفا على (أتذر).وقرأ ابن مسعود وابن عبّاس والضحّاك:

«(وآلهتك)» أي عبادتك، فلا يعبدك.

وقيل: أراد بالآلهة الشّمس، وكان فرعون وقومه يعبدونها. وقال ابن عبّاس:

(كان لفرعون بقرة يعبدها، وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فكذلك أخرج لهم السّامريّ عجلا).وروي: أنه قيل للحسن: هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال: (نعم؛ كان يعبد تيسا).

قوله تعالى: {قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ؛} أي قال فرعون:

سنعود إلى قتل أبنائهم واستخدام نسائهم عقوبة له كما كنّا نفعل وقت ولادة موسى.

وقوله تعالى: {وَإِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} (127)؛أي مستعلون عليهم بالقوّة.

فشكت بنو إسرائيل إلى موسى ف، {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا؛} أي استعينوا بالله على دفع بلاء فرعون عنكم، واصبروا على دينكم، {إِنَّ الْأَرْضَ؛} التي أنتم فيها؛ {لِلّهِ يُورِثُها؛} أي يسكنها، {مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛} فيورثكم هذه الأرض بعد إهلاك فرعون وقومه، {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (128)؛أي آخر الأمر للذين يتّقون الله. وقيل: أراد بالعاقبة الجنة في الآخرة. وقيل: النصر والظّفر. وقيل: السعادة والشهادة.

قوله تعالى: {قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ فرعون عاد إلى قتل أبنائهم، وزاد في إتعابهم في العمل، إذ كان يستعملهم قبل مجيء موسى بضرب اللّبن والبناء، فلمّا أتاهم موسى غضب وكلّفهم أيضا أشدّ من ذلك).

ص: 182

قال وهب: (جعلهم أصنافا في خدمته: قوم يحملون السّواري من الجبال؛ وقد قرحت أعناقهم وعوانقهم ودبرت ظهورهم من ثقل ذلك، وقوم قد جرحوا من ثقل الحجارة والطّين للبناء، وقوم يبنون الطّين ويطبخون الآجرّ، وقوم نجّارون، وقوم حدّادون. وأمّا الضّعفاء الّذين لا يطيقون العمل؛ فجعل عليهم الخراج يؤدّونه كلّ يوم، فمن خرجت عليه الشّمس قبل أن يؤدّي غلّت يمينه إلى عنقه. وأمّا النّساء فيغزلن الكتّان وينسجنه).

فلما شكوا إلى موسى (قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا)، {قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ؛} يعني فرعون وقومه، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ؛} أي ويجعل لكم سكنا في أرض مصر من بعدهم. و (عسى) كلمة إطماع وما أطمع الله فيه فهو واجب؛ لأن الكريم إذا أطمع وإذا وعد وفّى، فيصير كأنه أوجبه على نفسه. وقوله تعالى:{(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)} {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (129)؛أي فيرى عملكم كيف تشكرون صنعه، كأنه قال: ويستخلفكم في الأرض؛ لكي تعملوا بطاعة الله.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ؛} أي أخذنا قوم فرعون وأهل دينه بالجوع عاما بعد عام إلى تسعة أعوام. وآل الرّجل: خاصّته الّذين يؤول أمره إليهم؛ وأمرهم إليه. والسّنون في كلام العرب: الجدب؛ يقال: مسّتهم السّنون؛ أي الجدب. وقوله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ؛} أي زيادة في القحط؛ لأن الثمار قوت الناس وغذاؤهم، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (130)؛أي لكي يتّعظوا فيؤمنوا، فلم يتّعظوا. وقيل: أراد بقوله: {(وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ)} الغلاء.

قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ؛} أي إذا جاءهم الخصب والخير قالوا: نحن أهل لهذه الحسنة وأحقّ بها، فمن عادة بلادنا أنّها تأتي بالسّعة والخصب. ولم يروا ذلك منّا وتفضّلا من الله، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ؛} جدوبة وقحط وبلاء وشدّة؛ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ؛} أي يتشاءموا بموسى

ص: 183

وأصحابه؛ فقالوا: أصابنا هذا البلاء من شؤم هؤلاء. والطّيرة في اللغة: الشّأمة كما روي [أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ الفأل ويكره الطّيرة].

(1)

والأصل في هذا: أن العرب كانوا يتفاءلون بالطّير؛ فإن جاءهم طائر من جهة اليمين وهو السّانح؛

(2)

تبرّكوا به، وإن جاءهم من جهة الشّمال وهو البارح يتشاءموا به، ثم كثر قولهم في الطير حتى استعملوه في كلّ ما تشاءموا به. ومعنى الآية:

{(يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)} أي تشاءموا بهم وقالوا: ما أصابنا بلاء حتى رأيناكم.

وقرأ طلحة «(تطيّروا)» بالتاء وتخفيف الطّاء على الفعل الماضي، قال سعيد بن جبير:(كان ملك فرعون أربعمائة سنة، فعاش ثلاثمائة سنة لا يرى مكروها، ولو رأى في تلك المدّة جوع يوم، أو حمّى يوم، أو وجع ساعة لما ادّعى الرّبوبيّة).

قوله تعالى: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ؛} معناه: الذي أصابهم من الخصب والجدب والخير والشرّ كلّ ذلك من عند الله، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (131)؛أنه أصابهم من عند الله. وقال ابن عبّاس:(معناه: ألا إنّما مصابهم عند الله).وقال ابن جريج: (الأمر كلّه من قبل الله).

وقيل: معناه: ألا إنّما الشؤم الذي يلحقكم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما نالهم من الدّنيا، فإن القحط الذي هم فيه قليل في جنب عقوبة الآخرة. وقرأ الحسن:

«(ألا إنّما طيرهم عند الله)» بغير الألف، والمعنى واحد.

قوله تعالى: {وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها؛} قال الخليل:

(أصل (مهما):مأما، أبدلت الألف الأولى هاء لتخفيف اللّفظ).وقال بعضهم:

معنى (مه):اكفف، ثم قال:{(مَهْما تَأْتِنا بِهِ)} بمعنى الشرط؛ أي ما تأتنا به من علامة يا موسى {(لِتَسْحَرَنا بِها)} أي لتوهمنا أنّها الحقّ، {فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (132) أي بمصدّقين بالرسالة.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 332 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في المخطوط: (الصائح).

ص: 184

وكان موسى عليه السلام رجلا حديدا، فدعا عليهم؛ فأرسل عليهم الطوفان كما قال عز وجل:{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ؛} اختلفوا في الطّوفان ما هو؟ قال الضحّاك: (الغرق).وقال عطاء ومجاهد: (الموت الغالب الشّائع).

(1)

وقال وهب: (الطّوفان: هو الطّاعون بلغة أهل اليمن).وقال أبو قلابة:

(هو الجدريّ؛ وهم أوّل من عذّبوا به، وبقي في النّاس إلى الآن).وقال الأخفش:

(هو السّيل الشّديد).وقال مقاتل: (هو الماء طغى فوق حروثهم).

وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح. والأظهر ما قاله ابن عبّاس: (أنّه المطر الدّائم، أرسل الله المطر عليهم ليلا ونهارا من السّبت إلى السّبت، حتّى خربت أبنيتهم، وكاد أن يصير المطر بحرا، فخافوا الغرق).

قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة:

(2)

(لمّا آمنت السّحرة واغتلب فرعون، وأبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتّمادي في الشرّ، أخذهم الله بالسّنين، ونقص من الثمرات، فلما عالجهم موسى بالآيات الأربع: العصا؛ واليد؛ والسّنين؛ ونقص من الثّمرات، دعا فقال: يا رب! إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتى، وإن قومه قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك، ربي فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم من الأمم عبرة.

فبعث الله عليهم الطوفان؛ وهو الماء أرسله عليهم من السّماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشبكة مختلطة بعضها ببعض، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة واحدة، فأقام ذلك عليهم سبعة أيّام.

فقالوا: يا موسى! أدع لنا ربّك يكشف عنا المطر، فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربّه فكشف عنهم ذلك، وأرسل الريح فجفّفت الأرض، وخرج من

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11647).

(2)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11659) عن سعيد، والأثر (11662).

ص: 185

النبات شيء لم يروا مثله، فقالوا: هذا الذي كنّا نتمنّاه، وما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا، فلا والله لا نؤمن بك يا موسى، ولا نرسل معك بني إسرائيل.

فنقضوا العهد، وعصوا ربّهم واقاموا على كفرهم شهرا، فبعث الله عليهم الجراد، وغشى مصر منه أمر عظيم حال بينهم وبين الماء وغطّى الشمس؛ ووقع على الأرض بعضه على بعض ذراعا، فأكل جميع ما ينبت في الأرض؛ وأكل الأشجار؛ حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة؛ حتى مسامير الحديد، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه شيء، فعجّلوا إلى موسى و؛ {قالُوا:} يا أيّها الساحر! {اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} ،وأرادوا بالساحر العالم يعظّمونه.

فدعا موسى ربّه، فكشف عنهم الجراد بعد أن أقام في أرضهم سبعة أيام فلم يبق في الأرض جرادة واحدة، ثم نظروا فإذا في بعض المواضع من نواحي مصر بقيّة من كلأ وزرع، فقالوا: هذا يكفينا بقيّة عامنا هذا، فلا والله لا نؤمن لك يا موسى ولا نرسل معك بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم القمّل؛ وهم صغار الجراد يقال له الدباء.

وقيل: أرسل الله عليهم سوس الحنطة، فمكث في أرضهم سبعة أيام، فلم يبق لهم عودا خضرا إلا أكله، ولحس جميع ما بقي في أرضهم.

وقال سعيد بن جبير: (القمّل: هو السّوس الّذي يخرج من الحبوب).

(1)

يقال:

إنّ موسى عليه السلام أتى إلى كثيب من كثب قرى مصر، وكان كثيبا أهيل عظيما، فضربه بعصاه، فانبعث قملا، فأكل جميع ما على الأرض حتى لحسها، وكان يدخل بين ثيابهم وجلودهم، فينهشهم ويأكل أشعارهم وحواجبهم وأشعار عيونهم، ومنعهم النوم والقرار، وظهر بهم منه الجدري، وكان أحدهم لا يأكل لقمة إلا مملوءة قملا.

فصرخوا إلى موسى: أدع لنا ربّك في هذه المرّة، ونعطيك عهودا ومواثيق لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11649) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

ص: 186

فدعا ربّه فكشف عنهم بعد أن أقام سبعة أيام، ثم قالوا: وما عسى ربّك أن يفعل بنا وقد أهلك كلّ شيء من نبات أرضنا، فعلى أيّ شيء نؤمن بك؟ اذهب فما استطعت أن تفعله فافعله! فدعا عليهم موسى، فأرسل الله عليهم الضّفادع، خرجت عليهم من البحر مثل اللّيل الدامس، فملأت بيوتهم وطرقهم وأطعمتهم، فلا يكشف أحدهم طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه الضّفادع.

وكان الرجل إذا جلس تراكبت عليه الضفادع حتى يكون إلى فمه، فإذا همّ أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه فانشدخت، وكان أحدهم إذا اضطجع تراكب عليه حتى يكونوا ركاما فوق الذراع بعضه على بعض، حتى لا يستطيع أن ينقلب إلى جنب آخر، ولا يقدر على القيام، وكان إذا فتح أحدهم فمه ليأكل لقمة وثبت الضفدع في فمه فسبقت اللقمة، وكانوا لا يوقدون نارا إلا امتلأت ضفادع، وكان بعضهم لا يسمع كلام بعض من كثرة صراخ الضفادع، وكانوا إذا قتلوا واحدا منها جاف ما حوله حتى لا يستطيعون الجلوس فيه).

قال عكرمة وابن عباس: (كانت الضفادع برّيّة، فلما أرسلها الله على قوم فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التّنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها بالماء، فلما ضاقت الأرض على قوم فرعون، عجّوا وشكوا إلى موسى وبكوا؛ وقالوا: يا موسى! هذه المرة نتوب ولا نعود، ونحلف لك لئن دفعت عنا هذه الضفادع لنؤمننّ لك، فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربّه فكشفها عنهم بريح عظيمة نبذتها في البحر، فقال لهم موسى: ويحكم! أي لم تسخطون ربّكم، أرسلوا معي بني إسرائيل.

فأبوا ونقضوا العهود والمواثيق وعادوا لكفرهم وتكذيبهم، فدعا عليهم، فأرسل الله عليهم الدّم، فجرت أنهارهم وآبارهم دما أحمر عبيطا، وبنو إسرائيل في الماء العذب الطيّب، وكان الإسرائيليّ يستسقي ماء عذبا صافيا، فإذا أخذه القبطيّ تحوّل دما، وكانت القبطيّة تقول للإسرائيليّة: مجّي الماء من فمك إلى فمي، فكانت تمجّه في فمها فيصير في فم القبطيّة دما عبيطا.

ص: 187

وكان فرعون يجمع بين الرّجلين على الإناء الواحد؛ القبطيّ والإسرائيليّ، فيكون مما يلي الإسرائيليّ ماء، ومما يلي القبطيّ دم، وكانا يستقيان من جرّة واحدة، فيخرج للإسرائيليّ ماء عذب زلال صافي، ويخرج للقبطي دم عبيط. وكان النيل ماؤه طيّبا، فإذا أخذه القبطيّ عاد في إنائه وفي فمه دما.

فمكثوا على هذا سبعة أيام لا يشربون إلا الدّم؛ حتى مات كثير منهم، ثم إن فرعون أجهده العطش واشتدّ به، فيأتون بأوراق الأشجار الرطبة، فيمصّها فتصير دما عبيطا وملحا أجاجا، فكانوا لا يأكلون إلا الدّم، ولا يشربون إلا الدم، فقال فرعون:

أقسم بإلهك يا موسى! لئن كشفت عنا الدّم لنؤمننّ لك. فدعا موسى ربّه، فأذهب عنهم الدم، وعذب ماؤهم، فعادوا لكفرهم إلى أن كان من أمر الغرق ما كان.

(1)

قوله تعالى: {آياتٍ مُفَصَّلاتٍ؛} أي دلالات واضحات بعضها منفصل من بعض، كلّ آية من السّبت إلى السبت، وبين كلّ آيتين شهر. قوله تعالى:

{فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} (133)؛أي مقيمين على كفرهم، فمكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات.

قوله تعالى: {وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ؛} معناه: ولمّا وقع عليهم العذاب الذي تقدّم ذكره من الطّوفان وغيره.

وقال عكرمة: (الرّجز: الدّم؛ لأنّه نغّص عيشهم).وقال ابن جبير: (هو الطّاعون).

وذلك أنّ موسى أرى قومه وبني إسرائيل من بعد ما جاء قوم فرعون بالآيات الخمس: الطوفان وغيره، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأرسل عليهم الطاعون، فهلك منهم سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك:{(يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ)} أي بما تقدم به إليك أنه يجيب دعاءك إذا دعوته كما أجاب دعاءك في إنزال هذه الآيات، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ؛} أي هذا الطاعون. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد:«(الرُّجْز)» وهما لغتان كالعُضْو والعِضْو. قوله تعالى: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ؛} أي لنصدّقنّك، {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} (134)؛أي لنطلقنّهم من التسخير والأعمال الشاقّة.

(1)

أخرج الطبري هذه المأثورات في (11659 - 11673).

ص: 188

قوله تعالى: {فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ؛} أي العذاب، {إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ؛} وهو الوقت الذي علم الله من حالهم أن صلاح غيرهم مقالهم إلى ذلك الوقت؛ يعني وقت الغرق، وقوله تعالى:{إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} (135) يعني ينكثون العهد.

وقوله تعالى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فاستعار نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليّهم، وقلن: إن لنا خروجا إلى عيد. فخرج موسى ببني إسرائيل في أوّل الليل، وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبيّ، فبلغ الخبر فرعون، فركب ومعه ألفا ألف ومائتا ألف، فأدركهم فرعون حين طلعت الشمس، وانتهى موسى إلى البحر، فضرب البحر؛ فانفلق اثنا عشر طريقا، وكانت بنو إسرائيل اثنا عشر سبطا، فعبر كلّ سبط طريقا.

فأقبل فرعون ومن معه، فدخلوا بعدهم من حيث دخلوا، فلما صاروا جميعا في البحر، أمر الله البحر فالتطم عليهم فغرقوا، فقال بنو إسرائيل لموسى أن يريهم فرعون، فدعا ربّه فلفظهم البحر ولفظ فرعون، فنظروا إليه وإلى من معه، فلا يقبل الماء غريقا بعد ذلك أبدا، ورجع موسى ببني إسرائيل، فسكنوا الأرض أرض مصر.

ومعنى قوله: {(فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ)} أي في البحر بلسان العبرانيّة. وقوله تعالى:

{(بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا)} أي بتكذيبهم الآيات التّسع التي أتاهم بها موسى: اليد؛ والعصا؛ والسّنون؛ ونقص الثمرات؛ والطوفان؛ والجراد؛ والقمل؛ والضفادع؛ والدم. قوله تعالى: {وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} (136)؛أي عاقبناهم بتعرّضهم لأسباب الغفلة.

وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ} التي كانوا فيها، {وَمَغارِبَهَا؛} معناه: أورثنا القوم الّذين كانوا يستضعفونهم القبط؛ وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض التي كانوا فيها ومغاربها. وقيل: أراد بهذه الأرض الأرض المقدسة: الأردنّ وفلسطين، {الَّتِي بارَكْنا فِيها؛} بارك الله فيها

ص: 189

بكثرة المياه والأشجار والثّمار، قال ابن عبّاس:(إنّ المياه كلّها تخرج من تحت الصّخرة الّتي ببيت المقدس).

قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي وتمّت عدّة ربك؛ يعني قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}

(1)

وقوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}

(2)

.قال ابن عبّاس: (فأهلك الله فرعون وقومه، وأورثهم أرض مصر والشّام).وقوله:

{بِما صَبَرُوا؛} أي بصبرهم على دينهم أن يرجعوا إلى دين فرعون.

قوله تعالى: {وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ؛} من المكائد، وقوله تعالى:{وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} (137)؛أي وما كانوا يبنون من البيوت والقصور والكروم والشّجر، ويستخدمون بني إسرائيل في بنائها ورفعها. قرأ ابن عامر وأبو بكر:«(يعرشون)» بضمّ الراء، وهما لغتان فصيحتان.

قوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ؛} أي أمرناهم بمجاوزته ويسّرناه عليهم حين خلفوا البحر وراءهم على سلامة، وذلك من أعظم نعم الله تعالى، {فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؛} أي يعبدون ويواظبون على عبادة أصنام لهم؛ وهم أهل الرّقة؛ أناس كفروا بعد إبراهيم؛ مرّت بهم بنو إسرائيل وهم قعود حول أصنامهم، {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً؛} نعبده، {كَما لَهُمْ آلِهَةٌ؛} يعبدونها.

وفي هذا بيان غاية جهلهم وعنادهم، فإن الله خلّصهم من عدوّهم ونجّاهم من الغرق، وقالوا هذا القول حين رأوا هؤلاء القوم يعبدون الأصنام.

قوله تعالى: {قالَ؛} لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ؛} (138) صفات الله وما يجوز عليه وما لا يجوز؛ أي لا يعرفون أن الذي يتّخذ إلها هو خالق الأجسام.

ثمّ بيّن أن هؤلاء سيهلكون ويهلك ما يعبدونه فقال: قال الله تعالى:

(1)

القصص 5/.

(2)

الأعراف 129/.

ص: 190

{إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ؛} أي مهلك ما هم فيه؛ {وَبَطَلَ؛} وضلال؛ {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (139)،والتّبار: هو الهلاك.

قوله تعالى: {قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً؛} أي قال لهم: أسوى الله أطلب لكم ربّا تعبدونه، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} (140)؛عالمي زمانكم من القبط وغيرهم بعد ما كنتم مستعبدين أذلاّء.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} أي يولّونكم سوء العذاب {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ؛} أي يذبحونهم، {وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ؛} أي يستبقونهم للاستخدام، {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (141)؛قرأ حمزة والكسائي:«(يعكفون)» بكسر الكاف والباقون بضمّها وهما لغتان. وقرأ أهل الشّام «(وإذ أنجاكم من آل فرعون)» .وقرأ الباقون على التكثير (أنجيناكم).وقوله تعالى: {(يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ)} قرأ نافع بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد على التّكثير.

وقوله تعالى: {*وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ؛} قال مجاهد: (كان الله وعد موسى أن يعطيه التّوراة لثلاثين ليلة؛ يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجّة، كأنّه قال شهرا وعشرة أيّام)

(1)

.

وقال بعضهم: أمر الله موسى إلى موضع بيّنه له أن يعبده في ذلك الموضع ثلاثين يوما، يصوم النهار ويقوم الليل؛ لينزل عليه التوراة، فلمّا صام ثلاثين أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب، فقالت الملائكة: كنا نستنشق منك رائحة المسك فأفسدته بالسّواك، فأمره الله أن يصوم عشرا بعد ذلك الخلوف، فذلك قوله {(وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)}. وقوله تعالى:{فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛} أي تمّ الوقت الذي أمر الله بالعبادة فيه أربعين ليلة.

قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي؛} أي قال موسى لهارون قبل انطلاقه إلى الجبل الذي أمر بالعبادة فيه: قم مقامي في قومي،

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11696) بأسانيد، والأثر (11698) وفيه قال ابن جريج: قال ابن عباس مثله.

ص: 191

{وَأَصْلِحْ؛} فيما بينهم، {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (142) منهم، ولا ترض بعملهم، وذلك أنّ موسى كان يشاهد كثرة خلافهم حالا بعد حال، فأوصاه في أمرهم. ومن قرأ «(هارون)» بالرفع فمعناه: قال هارون.

قوله تعالى: {وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ؛} أي لمّا انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتنا له، وأمرناه بالسّير إليه وهو مدين، وقوله تعالى:{(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)} أي كلّمه من غير ترجمان ولا سفير، كما كلّم الأنبياء على ألسنة الملائكة.

فلما ناجاه ربّه استحلى كلامه، واشتاق إلى رؤية ربه وطمع فيها، ف {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ؛} أي اعطني أنظر إليك، {قالَ لَنْ تَرانِي؛} ولست تطيق النظر إليّ في الدّنيا، فمن نظر إليّ مات، فقال: إني سمعت كلامك واشتقت إلى رؤيتك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إليّ من أن أعيش ولا أراك، فقال الله تعالى:

{وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ؛} أي إلى أعظم جبل لمدين وهو جبل زبير، {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي} .

قوله تعالى: {فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ؛} أي ظهر له من نوره ما شاء، ويقال ألقى عليه نورا من الأنوار، {جَعَلَهُ دَكًّا؛} أي كسّره جبالا صغارا، تقطّع الجبل من هيبة الله عز وجل، فصار ثماني فرق، أربع قطع منه وقعن بمكّة: ثور وثبير وحراء وغار ثور، وأربع قطع وقعن بالمدينة: أحد وروق ورضوى والمهراس.

وقوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً؛} أي سقط مغشيّا عليه، {فَلَمّا أَفاقَ} من غشيته، {قالَ سُبْحانَكَ؛} أي تنزيها لك من قولي ومن كلّ سوء، {تُبْتُ إِلَيْكَ؛} من مسألتي للرّؤية، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (143) من أهل هذا الزّمان إنك لا ترى في الدّنيا.

وقال الحسن: (قال الله تعالى لموسى: أعرض رؤيتي على الجبل، فإن لم يحملها مع عظمه وبقائه على مرّ الزّمان، فأنت أيضا لا تحملها)

(1)

.قال: (معنى قوله

(1)

في الدر المنثور: ج 3 ص 543؛ قال السيوطي: ((أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس

وذكره)).

ص: 192

{(فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)} أي أوحى ربّه).قال: (وما رأى موسى ربّه قط، ولكن أوحى الله إلى الجبل هل تطيق رؤيتي، فساخ الجبل وموسى ينظر)

(1)

.

وقيل: إنّ الله تعالى أبرز من العرش مقدارا الظّفر فتدكدك الجبل؛ لأن أجسام الدّنيا لا تحتمل آيات القيامة والأجسام العلويّة، إذ من حكم الدّنيا أن تفنى بآيات القيامة، فلا تحتملها الدّنيا.

وقرأ بعضهم «(دكّاء)» بالهمز والمدّ؛ أي طار أعلى الجبل وبقي أسفله دكّا، والدّكأ واحد الدّكوات؛ وهي روابي الأرض التي تكون ناشزة لا تبلغ أن تكون جبلا، وناقة دكّاء اذا لم يكن لها سنام. ويحتمل أن يكون معنى الدّكّ دقّ الجبل على الأرض، يقال دكدكت الشيء اذا دققته. وقرأ عاصم «(دكّا)» ههنا بالقصر والتنوين، والتي في الكهف بالمدّ من غير تنوين، ومدّهما حمزة والكسائيّ والباقين مقصورين منوّنين.

وقيل: لمّا سأل موسى ربّه أرسل الله الضباب والصواعق والظّلمة والرعد والبرق، فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى وأمر الله ملائكته يعرضوا على موسى، فقال لهم: اهبطوا إلى عبدي موسى الذي أراد أن يراني، فهبطوا عليه في يد كلّ ملك منهم مثل النّخلة الطويلة نارا شديدة الضوء أشدّ ضوءا من الشمس، ولباسهم كلهب النار، كلّهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبّوح قدّوس ربّ العزّة أبدا لا يموت، وفي رأس كلّ منهم أربعة أوجه.

فلما رآهم موسى فزع وجعل يسبح معهم وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك، فقال له رئيس الملائكة: اصبر لما سألت، ثم رفعت الملائكة أصواتهم، وارتجّ الجبل واندكّ وخرّ العبد موسى صعقا على وجهه، فلما أفاق قال: سبحانك آمنت وصدّقت أنه لا يراك أحد في الدّنيا، فإذا كان من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه، فما أعظمك يا رب.

وعن سهل: (أنّ الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر الدّرهم فجعل الجبل دكّا).

(1)

وبمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11721) عن مجاهد.

ص: 193

قوله تعالى: {(وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)} قال ابن عبّاس: (مغشيّا عليه)

(1)

،وقال قتادة:(ميّتا)

(2)

،وقول ابن عبّاس أظهر؛ لأن الله تعالى قال {(فَلَمّا أَفاقَ)} ولا يقال للميت: أفاق من موته، ولكن يقال: بعث من موته، كما قال تعالى في حديث السّبعين {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}

(3)

.

قوله تعالى: {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي؛} أي قال الله: يا موسى إنّي اتخذتك صفوة برسالتي التي أرسلنا إليك وبكلامي معك من غير وحي، {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ؛} أي اعمل بما علّمتك من التوراة، {وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ} (144)؛لما أعطيتك وأكرمتك.

قوله عز وجل: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي في تسعة ألواح من الزّبرجد الأخضر، وقيل: من الياقوت الأحمر أعطاها الله موسى وفيها التوراة كنقش الخاتم، طول كلّ لوح عشرة أذرع.

وقوله تعالى: {(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)} يعني من أمور الدّين، وقوله تعالى:{مَوْعِظَةً؛} يعني ما يدعو إلى الطاعة، وزجر عن المعصية بالوعد والوعيد وأخبار الأمم الماضين.

وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ؛} معناه: لكلّ أمر من أمور الدّين من الحلال والحرام والأمر والنّهي.

قوله تعالى: {فَخُذْها بِقُوَّةٍ؛} أي اعمل بها بجدّ في طاعة الله ومواظبة عليها. قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها؛} أي أمر قومك يعملوا بأحسن ما بيّن لهم فيها؛ أي أمروا بالخير ونهوا عن الشرّ، وعرفوا ما لهم في ذلك، فمرهم يأخذوا بالأحسن. ويقال: مرهم يأخذوا بالفرائض والنوافل دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب. وقيل: معناه (يأخذوا) بالناسخ والمنسوخ.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11709) عن ابن عباس، والأثر (11711) عن ابن زيد.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11714).

(3)

البقرة 56/.

ص: 194

قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} (145)؛أي سوف أريكم جهنّم في الآخرة هي دار الخارجين عن طاعة الله، ويقال: أراد به ما مرّوا عليه في سفرهم من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا بالتكذيب.

وقال قتادة: (معناه سأدخلكم النّار وأريكم منازل الكافرين)

(1)

.وقيل: معناه سأريكم دار فرعون وقومه وهي مصر.

قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛} أي سأجعل جزاء المتكبرين الذين لا يؤمنون بالمعجزة الإضلال عن الهدى، وعن معرفة ما أودع الله في الكتاب يقرءونه ولا يفهمون ما أراد الله به.

وقيل: معناه: سأصرفهم عن الاعتراض على آياتي بالإبطال، وقيل: معناه:

سأصرف عن نيل ما في آياتي من العزّ والكرامة، ويعني بالذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ هم الذين يرون أنّهم أفضل الخلق، وأنّ لهم ما ليس لغيرهم.

قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها؛} معناه: وإن يروا كلّ آية تدلّ على وحدانيّة الله ونبوّة الأنبياء لا يصدّقوا بها، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ؛} أي سبيل الإسلام، {لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً؛} دينا لأنفسهم، يعني هؤلاء المتكبرين. وقرأ حمزة ومجاهد والأعمش والكسائيّ بالفتح الاستقامة في الدّين، والرّشد بضمّ الراء الاصلاح. وقرأ أبو عبد الرحمن:«(وإن يروا سبيل الرّشاد)» بالألف.

وقرأ مالك بن دينار: «(وإن يروا)» بضمّ الياء.

قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} يحتمل أن يكون ذلك موضع الرفع على معنى أمرهم ذلك، ويحتمل أن يكون نصبا على معنى فعل الله ذلك بهم بتكذيبهم بآياتنا، قال مقاتل:(أراد بقوله بآياتنا التّسع) كأنه ذهب إلى أنه هذا كلّه خطاب موسى. وقال الكلبيّ: (معنى {(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا)} بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن)

(2)

وذهب إلى أنّ قوله: (سأصرف) خطاب

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11741).

(2)

في الدر المنثور: ج 3 ص 562؛ قال السيوطي: ((أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سفيان بن عيينة قال: (أنزع عنهم فهم القرآن).))

ص: 195

لنبيّنا صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} (146)؛أي عنها لاهين ساهين، لا يتفكّرون فيها ولا يتّعظون بها.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ؛} أي بالبعث بعد الموت، {حَبِطَتْ؛} بطلت، {أَعْمالُهُمْ؛} التي عملوها على جهة البرّ، {هَلْ يُجْزَوْنَ؛} في الآخرة، {إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (147)؛في الدّنيا.

قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ موسى كان وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوما، فلمّا تأخّر رجوعه قال لهم السّامريّ-وكان رجلا مطاعا-:إنّكم اتّخذتم الحليّ من آل فرعون فعاقبكم الله بتلك الجناية، ومنع موسى عنكم، فاجمعوا حتّى أحرقها؛ لعلّ الله أن يردّ علينا موسى.

فجمعوا الحليّ، وكان السّامريّ صائغا، فجعل الحليّ في النّار واتّخذ منه عجلا ونفخ فيه التّراب الّذي كان أخذه من أثر فرس جبريل، وكان ذلك الفرس فرس الحياة، ما وضع حافره في موضع إلاّ اخضرّ، فلمّا نفخ فيه شيئا من ذلك التّراب صار عجلا جسدا له خوار، فعبدوه وزفّوا حوله)

(1)

.

وقيل: إن السامريّ حين صاغ العجل جعل فيه خروقا تجري فيها الريح، فكان يسمع من تلك الخروق شبه الخوار، فأوهم بني إسرائيل أنه حيّ يخور.

قال الزجّاج: (معنى قوله: {(جَسَداً لَهُ خُوارٌ)} أي جثّة لا تعقل، ليس له روح ولا عقل ولا كلام إنّما له خوار فقط).وأما إضافة الخوار إلى العجل في الآية فهو كما يقال: صوت الحجر، صوت الطّشت، وأمّا الحليّ فهو جمع الحلية وهو ما يتزيّن به من ذهب وفضّة. وقال عليّ رضي الله عنه:(له جؤار) بالجيم والهمز وهو الصوت

(2)

.

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 284.واللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 316 نقله عن ابن عباس والحسن وقتادة وجماهير أهل التفسير.

(2)

الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: ج 2 ص 154.واللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 316.

ص: 196

وقوله تعالى: {(حُلِيِّهِمْ)} قرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام، وقرأ حمزة والكسائي «(حليّهم)» بكسر الحاء واللام وتشديد الياء أتبعا الحاء كسرة اللام، وقرأ الباقون بضمّ الحاء وكسر اللام وتشديد الياء وهما لغتان.

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً؛} معناه: ألم ينظروا إلى العجل لا يكلّمهم بما يجري عليهم نفعا ويدفع عنهم ضرّا، ولا يرشدهم طريقا إلى خير ليأتوه ولا الى شرّ لينتهوا عنه، ولو كان إلها لهداهم؛ لأنّ الإله لا يهمل عباده. قوله تعالى:{اِتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ} (148)؛يجوز أن يكون معناه: لا يرشدهم الطريق الذي يتّخذونه، ويجوز أن يكون ابتداء على معنى: عبدوه وكانوا بعبادتهم إياه ظالمين.

قوله تعالى: {وَلَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا؛} أي ندموا على عبادتهم العجل، ورأوا أنّهم قد ضلّوا عن الحقّ، {قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا؛} عملنا؛ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} (149)؛ بالعقوبة. قال الزجاج:(يقال للنّادم على ما فعل المتحسّر على ما فرّط منه: قد سقط فلان في يده، وأسقط بمعنى سقط النّدم في أيديهم).

قوله تعالى: {وَلَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً} أي رجع موسى من الجبل إلى قومه شديد الغضب حزينا، {قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي؛} فعلتم خلفي في غيبتي بعبادة العجل، {(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؛} معناه: استبطأتم وعد ربكم الذي وعد في أربعين ليلة، {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ؛} من يده التي كانت فيها التوراة وألقاها من يده، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ؛} قال ابن عبّاس:

(أخذ رأسه بيده اليمنى ولحيته بيده اليسرى)

(1)

.

قوله تعالى: {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي؛} أي قهروني واستذلّوني وهمّوا بقتلي، وكان هارون أخاه لأبيه وأمّه ولكنّه قال {(ابْنَ أُمَّ)} لترفّقه عليه، وعلى هذه طريقة العرب.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11748 و 11749).

ص: 197

قوله تعالى: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ؛} لا تفرّحهم عليّ ولا تظنّ أنّي رضيت بفعل القوم الظالمين، {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (150)؛ فلا تجعلني مع عبدة العجل في الغضب عليّ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى.

قرأ ابن عبّاس والكوفيّون إلاّ حفصا «(يا ابن أمّ)» بكسر الميم هنا، وفي طه فحذفوا ياء الإضافة؛ لأنّ مبنى النداء على الحذف، وبقيت الكسرة على الميم دليلا على ياء الإضافة كقوله (يا عباد، ويا قوم)،وقرأ ابن السّميقع «(يا ابن أمّي)» باثبات الياء، وقرأ الباقون بفتح الميم على معنى يا ابن أمّاه

(1)

.

وقوله تعالى {(اسْتَضْعَفُونِي)} بعبادة العجل، وقوله تعالى:{(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ)،} قرأ مجاهد ومالك بن دينار: «(فلا تشمت)» بفتح التاء والميم

(2)

،ورفع «(الأعداء)» ،والشّماتة هي سرور العدوّ.

فإن قيل: لم جاز لموسى أن يجرّ برأس هارون ولحيته، والانبياء لا يجوز لأحد أن يستخفّ بهم، وكان هارون نبيّا؟ قيل: إنّ هذا كان منه على جهة العتاب لا على جهة الهوان. وقيل: لأنه أجراه مجرى نفسه من حيث أنّهما كانا في النبوّة والأخوّة كالنفس الواحدة، وقد يقبض الإنسان عند الغيظ على لحية نفسه، ويعضّ إبهاميه وشفتيه، كما روي (أنّ عمر رضي الله عنه كان إذا حزبه أمر فتل شاربه).

إلاّ أنّ هارون خاف أن يتوهّم جهّال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كغضبه على من عبد العجل، فقال: {(ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي

)} الآية. وقيل:

إنّ موسى فعل هذا بهارون في حالة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وكان ذلك صغيرة منه، كما ألقى الألواح لشدّة الغضب، وكان الواجب عليه أن يعظّمها.

قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي؛} ما كان منه من التقصير في ردّ القوم عن عبادة العجل، {وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ؛} أي في جنّتك، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} (151)؛أي أرحم بنا منّا، وأرحم بنا من أبنائنا وأمّهاتنا.

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 290.

(2)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 291.

ص: 198

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ؛} معناه: إنّ الذين اتّخذوا العجل إلها سيصيبهم عذاب من ربهم في الآخرة. والغضب من الله: إرادة الانتقام على ما سلف. وقوله تعالى: {وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أراد به ما أمروا به من استسلامهم للفعل بقعودهم، {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (152) أي كما جزينا هؤلاء فكذلك نجزي الكاذبين على الله.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا؛} قيل: أراد بالسّيئات الشّرك وسائر المعاصي إذا تاب صاحبها عنها، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (153)؛ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ؛} أي سكن عن موسى الغضب وزالت قوّة غضبه. وقيل: معناه: سكت موسى عن الغضب، وهذا من المقلوب، كما يقال: أدخلت قلنسوة في رأسي، يريد أدخلت رأسي في قلنسوة. وقوله تعالى:{(أَخَذَ الْأَلْواحَ)} بعد ما كان ألقاها وبعد ما تكسّرت، وذهب منها ستّة أسباعها.

قوله تعالى: {وَفِي نُسْخَتِها؛} قال عطاء: (وفيما بقي منها ولم يذهب)، ويقال: معناه: فيما نسخه موسى مما تكسّر. وقوله تعالى: {هُدىً وَرَحْمَةً؛} أي بيان من الضّلالة ونجاة، {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (154)؛يخشون الله ويعملون بها.

قوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا؛} ومعناه:

واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت الذي وقّتنا له يصحبهم مع نفسه عند الخروج إلى الميقات، فيشهدوا عند قومهم على سماع كلام الله، فإنّهم كانوا لا يصدّقون موسى في أنّ الله كلّمه، وكانوا اثنى عشر سبطا، فاختار موسى من كلّ سبط ستّة، وخلف منهم رجلين، وقال: إنّما أمرت بسبعين فليرجع اثنان منكم، ولهما أجر من حضر، فرجع يوشع بن يونا وكالب بن يوقنّا، وذهب موسى مع السبعين الى الجبل.

ص: 199

قوله تعالى: {فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ؛} أي الزّلزلة الشديدة عند الجبل، {قالَ؛} موسى:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ؛} أن حملتهم إلى الميقات، وأهلكتني معهم بقتل القبطيّ، وظنّ موسى أن الرجفة إنّما أخذتهم بسبب عبادة بني إسرائيل العجل، فقال:{أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا} ثم قال:

{إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ؛} يعني ما عبادة العجل إلاّ بليّتك إذ صار الروح في العجل، {تُضِلُّ بِها؛} بالفتنة، {مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ} .

قوله تعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا؛} أي أنت ناصرنا وحافظنا ومتولّي أمورنا فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا ولا تعذّبنا، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} (155).

وقيل: إنّ موسى عليه السلام لمّا هلك السّبعون، جعل يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، وقد أهلكت خيارهم؟ فبعثهم الله كما قال:

{ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}

(1)

وقد تقدّم تفسير ذلك في البقرة.

قوله عز وجل: {*وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً؛} يعني العلم والعبادة، وقوله تعالى:{وَفِي الْآخِرَةِ؛} أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنّة. قوله تعالى: {إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ؛} أي أنبنا ورجعنا بالتوبة، يقال: هاد يهود؛ إذا رجع، ولم يؤخذ اسم اليهود من هذا، وإنما أخذ من تهوّد.

قوله تعالى: {قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ؛} من عبادي ممّن هو أهل لذلك، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؛} يعني وسعت البرّ والفاجر. قال ابن عبّاس:(لمّا نزلت هذه الآية تطاول لها إبليس وقال: أنا شيء من الأشياء، فأخرجه الله من ذلك بقوله: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}) أي سأوجبها للّذين يتّقون الشّرك والمعاصي، {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} (156)

(2)

.

فقالت اليهود والنّصارى: نحن نتّقي ونؤتي الزّكاة ونؤمن بآيات ربنا، فأخرجهم الله منها بقوله:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ؛}

(1)

البقرة 56/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11805).

ص: 200

يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم سمّاه أمّيّا لأنه لم يحسن الكتابة، قال الله تعالى:{وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}

(1)

،وقال صلى الله عليه وسلم:[إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب]

(2)

.قوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ؛} يعني نعته وصفته وخاتمه الذي بين كتفيه ونعت أمّته وشريعته.

قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي بالتوحيد وشرائع الإسلام؛ {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ؛} أي عن كلّ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة. قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ؛} أي ما اكتسبوه من وجه طيّب، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ؛} ما اكتسبوه من وجه خبيث، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} يعني ثقلهم، قال قتادة:(يعني التّشديد الّذي كان عليهم في الدّين وما أمروا به من قبل أنفسهم في التّوراة، وقطع الأعضاء الخاطئة).

وقال عطاء: (يأمرهم بالمعروف وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وينهاهم عن المنكر أي عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام، ويحلّ لهم الطّيّب يعني الحلال الّتي كانت الجهّال تحرّمها من البحائر والسّوائب والوصائل، ويحرّم عليهم الخبائث يعني الميتة والدّم ولحم الخنزير والرّبا وغيره من المحرّمات).

قوله تعالى: {وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ؛} كناية عن الأمور الشّديدة التي كانت عليهم، كان إذا أصاب ثوب أحدهم شيء من النجاسة وجب قطعه، وكان عليهم أن لا يعملوا في السّبت.

قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ؛} أي فالذين صدّقوا بهذا النبيّ وعظّموه وأعانوه بالسّيف على الأعداء، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ؛} يعني القرآن الذي ضياؤه في القلوب كضياء النّور في العيون، {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157)؛أي الظّافرون بالمراد والبقاء.

(1)

العنكبوت 48/.

(2)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الصوم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكتب: الحديث (1813). ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: الحديث (108/ 15).

ص: 201

قوله عز وجل: {قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً؛} قال ابن عبّاس: (كان كلّ رسول يبعث إلى قومه، وبعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى قومه وغيرهم).ومعنى الآية: قل يا محمّد إنّي رسول الله إليكم كافّة أدعوكم إلى طاعة الله وتوحيده واتّباعي فيما أدّيته إليكم.

قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} تعريف الله الذي أرسله إليهم، وقوله تعالى:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} أي لا شريك له في الإلهيّة، ولا خالق ولا رازق غيره، {يُحيِي وَيُمِيتُ؛} أي يحيي الخلق من النّطفة، ويميتهم عند انقضاء آجالهم، لا يقدر على ذلك أحد سواه. وقيل: معناه: يحيى الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدّنيا.

قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ؛} أي صدّقوا بالله ورسوله النّبيّ الأمّيّ الذي لا يكتب، فيؤمن من جهته أن «لا»

(1)

يقرأ الكتب وينقل إليهم أخبار الماضين، ولكن يتّبع ما يوحى إليه، وقوله تعالى:{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ؛} أي بالله وكتبه. ومن قرأ «(وكلمته)» فهو عيسى، وقوله تعالى:

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (158)؛ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ؛} أي جماعة؛ {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ؛} يدعون إلى الحق، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ؛} (159) وبه يحكمون وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.

وروي عن ابن عبّاس: (أنّهم قوم من بني إسرائيل قبل المشرق، وخلف الصّين عند المطلع أخذوا من بيت المقدس، فرمي بهم هناك متمسّكين بالتوراة مشتاقين إلى الإسلام، يعملون بفرائض الله، بيوتهم مستوية، والأمانة فيهم فاشية، قبورهم عند أبوابهم، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ولا حلف ولا خيانة ولا كذب ولا غشّ، يعملون بالحقّ فيما بينهم بلا أمير ولا قاض، مرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فعرض عليهم الإسلام فقبلوه)

(2)

.

(1)

ما بين (()) ليس في المخطوط.

(2)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11845) عن ابن جريج.

ص: 202

وذكر مقاتل: (أنّ بين الصّين وبينهم واديا جاريا من رمل، فيمنع الناس من إتيانهم واخبارهم، إلاّ أنّا لا نسمع أخبارهم إلاّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره به ربّه عز وجل، واخبره به النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عبّاس. وقال السديّ: (هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد)

(1)

.

قال ابن جريج: (إنّ بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم وكفروا، تبرّأ هؤلاء القوم منهم وسألوا أن يفرّق الله بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فصاروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك مسلمون يصلّون إلى قبلتنا)

(2)

.

وقال الكلبيّ والربيع: (هم قوم خلف الصّين على نهر يجري على الرّمل سمّي نهر أرداف، يمطرون باللّيل، يصبحون بالنهار ويزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا، وهم على الحقّ، ذهب جبريل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة أسري به فكلّمهم.

فقال جبريل: هل تعرفون هذا الذي تكلّمونه؟ قالوا: لا، قال: هذا محمّد صلى الله عليه وسلم رسول الله النبيّ الأمّي، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله؛ إنّ موسى أوصانا فقال: من أدرك منكم محمّدا صلى الله عليه وسلم فليقرئه منّي السّلام، فردّ محمّد صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم السّلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكّة، ولم يكن يومئذ نزلت فريضة غير الصّلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وأمرهم أن يجمّعوا ويتركوا السّبت)

(3)

.

قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً؛} أي فرّقوا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، والسّبط في ولد اسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل، وإنّما ذكر (اثنتي عشرة) على لفظ التّأنيث وإن كان السبط مذكّرا؛ لأن الأسباط هي الفرق والجماعات.

فان قيل: كيف قال (أسباطا) بالجمع ولا يجمع ما بعد العشرة على لفظ الجمع، وإنّما يقال: اثنى عشر درهما ولا يقال اثنى عشر دراهم؟ قيل: ذكر الزجّاج: (أنّ قوله

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11844).

(2)

تقدم؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11845).

(3)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 348.

ص: 203

(أسباطا) بدل لا يميّز، كأنّه قال: قطّعناهم أسباطا اثنتي عشرة).وقرأ أبان بن تغلب ابن زيد عن عاصم «(وقطعناهم)» بالتخفيف

(1)

.

قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ؛} أي أوحينا إليه في التّيه حين طلب قومه منه الماء، {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ؛} قال ابن عبّاس:(كان حجرا يحملونه معهم على حمار) ولهذا عرّف بالألف واللام.

وقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً؛} الانبجاس: خروج الماء قليلا، والانفجار خروجه واسعا، وإنما قال (فانبجست)؛لأن الماء كان يخرج من الحجر في الابتداء قليلا ثم يتّسع فاجتمع فيه صفة الانبجاس والانفجار، وإنما تفجّر منه اثنتا عشرة عينا؛ لأنّهم كانوا اثنتي عشرة سبطا، وكان لا يخالط كلّ سبط السبط الآخر، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ،} كلّ سبط موضع شربه.

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ} أي ظلّلنا عليهم بالنّهار في التّيه ليقيهم حرّ الشّمس، {وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى؛} فالمنّ الترنجبين، والسّلوى طائر يشبه السّماني. قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} أي من خلال ما رزقناكم من المنّ والسّلوى {وَما ظَلَمُونا؛} أي وما ضرّونا بمخالفتهم أمرنا وإعراضهم عن شكر النعمة، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (160)؛ولكن ضرّوا أنفسهم.

قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ؛} أي قيل لهم وقت خروجهم من التّيه اسكنوا القرية أريحا ببيت المقدس، {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ؛} من نعيمها، {وَقُولُوا؛} مسألتنا؛ {حِطَّةٌ؛} أي احطط عنّا ذنوبنا، {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً؛} باب أريحا خاشعين لله خاضعين، {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ؛} ما سلف من ذنوبكم باستغفاركم وخضوعكم.

(1)

في أصل المخطوط: أبان بن زيد عن عاصم. والصحيح كما أثبتناه؛ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 303.واللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 351.

ص: 204

وقرأ أهل المدينة «(تغفر)» بالتاء مضمومة، وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة أخرى «(خطيّتكم)».وقوله تعالى:{سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (161)؛أي الذين لا ذنب لهم في الدّنيا نزيدهم فضلا في الآخرة ثوابا.

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ؛} أي غيّر الذين ظلموا أنفسهم القول الذي أمروا به، فقالوا إطة سمقانا؛ أي حنطة حمراء، ويقال قالوا حطّة، {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ؛} أي عذابا أنزلت بهم نارا وأحرقتهم، {بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} (162)؛بتبديلهم ما أمروا به.

قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ؛} معناه: سل يا محمّد يهود المدينة عن القرية التي كانت بقرب البحر وهي مدينة أيلة على ساحل البحر بين المدينة والشّام، وهذا سؤال توبيخ وتقرير وتعريف لهم، لا سؤال تعريف من قبلهم، وفي السؤال لهم بيان أنّ يهود المدينة جروا على عادة أسلافهم في التمرّد في المعصية، فكأنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم ما فعل الله بأهل تلك القرية، أليس قد جعلهم الله قردة بمخالفتهم أمر الله، فما يؤمّنكم في تكذيب محمّد صلى الله عليه وسلم من عذاب الله.

قوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ؛} أي حيث يتجاوزون الحدّ بأخذهم السّمك في يوم السّبت، وقد أمروا أن لا يصطادوا فيه ويتفرّغوا للعبادة والطاعة. وقوله تعالى:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً؛} قال ابن عباس: (أي ظاهرة على وجه الماء)

(1)

.وقال الضحّاك: (متتابعة مثل الكباش البيض السّمان يومئذ أن تصاد)

(2)

.قوله تعالى: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} أي لا يكون يوم السّبت، كانت الحيتان تغوص في الماء ولا تأتيهم شرّعا.

وقرأ أبو نهيك: «(إذ يعدّون في السّبت)» بضمّ الياء وكسر العين وتشديد الدال؛ يهيّئون الآلة لأخذها. وقرأ ابن السّميقع «(في الأسبات)» على جمع السّبت. وقرأ بعضهم «(إذ تأتيهم حيتانهم يوم أسباتهم شرّعا)» فجعلت طائفة من أهل هذه المدينة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11854).

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 496.

ص: 205

يلقون الشّبكة في الماء في يوم السّبت، ويقولون حتى يقع فيها السّمك، ثم لا يخرجون الشّبكة من الماء إلاّ يوم الأحد، وقالوا إنّما نصطاد في يوم الأحد، قوله تعالى:

{كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (163)؛أي كذلك نشدّد عليهم في التّكليف بعصيانهم وفسقهم.

ووقف بعض القرّاء على قوله: (كذلك) على معنى لا تأتيهم في غير يوم السّبت كما تأتيهم في يوم السّبت، ثمّ ابتدأ فقال {(نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)}. فإن قيل:

كيف عرّف الله الحيتان الفضل من يوم السّبت وغيره من الأيّام؟ قيل: لا يمتنع أنّ الله عرّفها ذلك أو قوّى دواعيها؛ أي إلى الشّروع في يوم السّبت معجزة لنبيّ ذلك الوقت وابتلاء لأولئك القوم.

قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؛} في الآية بيان أنه كان في هذه القرية فرقة يعظون المذنبين، والمعنى:

إذ قالت عصبة من أهل تلك القرية للواعظين لم تعظون قوما الله مهلكم في الدّنيا أو معذّبهم عذابا شديدا في الآخرة؟ ولم يقولوا هذا كراهة للوعظ ولا رضى بالمعصية منهم، ولكن قالوا ذلك ليأسهم عن قبول الوعظ.

وقوله تعالى: {قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ؛} أي قالت الفرقة الواعظة:

موعظتنا إيّاهم معذرة إلى الله أن نبتلى بذلك عذرا عند الله. ومن قرأ «(معذرة)» بالنصب فعلى معنى يعتذرون معذرة. وقوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164)؛ أي ورجاء أن يتقوه، فكأن الواعظين لم ييأسوا من قبولهم الوعظ. وقيل: معناه: لعلهم يتقون صيد الحيتان.

قوله تعالى: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ؛} أي فلمّا تركوا ما وعظوا به، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ؛} أي خلّصنا الذين ينهون عن حبس السّمك في الحظيرة يوم السّبت، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ؛} أي شديد، يقال بئس وبيس وبأس إذا اشتدّ، وبؤس يبؤس بؤسا إذا افتقر. وقوله تعالى:{بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (165)؛أي بفسقهم.

ص: 206

ولم يذكر في الآية حال الفرقة الثالثة، وقد روي عن ابن عبّاس أنه قال:(كان القوم ثلاث فرق، فكانت الفرقة الوسطى تعمل بالسّوء، والفرقة اليمنى تنهى وتحذّرهم بأس الله، وكانت الأخرى تكفّ ألسنتها وتمسك أيديها. فلمّا عملت الوسطى بذلك زمانا، وكثرت أموالهم، ولم ينزل بهم عقوبة، استبشروا وقالوا ما نرى السّبت إلاّ قد حلّ لنا وذهبت حرمته، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، وكانت الفرقة النّاهية نحو اثنى عشر ألفا، يقولون لهم: لا تعدوا، ولا تأمنوا من عذاب الله، فلم يتّعظوا فأصبحوا وقد مسخهم الله قردة خاسئين، فمكثوا كذلك ثلاثة أيّام عبرة للنّاظرين، ثمّ ماتوا)

(1)

.

قال ابن عبّاس: ((وأنجينا الّذين ينهون عن السّوء) وليت شعري ما صنع الله بالّذين لم ينهوا)

(2)

،وقال عكرمة:(بل أهلكهم الله أيضا وما نجّا إلاّ الّذين ينهون عن السّوء، وهلك الباقون بظلمهم بالاستحلال وترك الأمر بالمعروف).فقال ابن عبّاس: (نزل والله بالمداهن ما نزل بالمستحلّ).

وقال الحسن: (نجت فرقتان، وهلكت فرقة) وأنكر القول الذي ذكر له عن ابن عبّاس، وقال:(ما هلكت إلاّ فرقة؛ لأنّه ليس شيء أبلغ في الأمر بالمعروف والوعظ من ذكر الوعيد، وقد ذكرت الفرقة الثّالثة الوعيد فقالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذّبهم عذابا شديدا) وقول الحسن أقرب إلى ظاهر الآية

(3)

.

قوله تعالى: {فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ؛} أي أبوا أن يرجعوا عن المعصية، والعاتي هو شديد الدّخول في الفساد المتمرّد الذي لا يقبل الموعظة. وقوله تعالى:{قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ؛} (166) أي مطرودين مبعدين عن كلّ خير، من قولهم: خسأت الكلب إذا قلت له: اخسأ على الطرد له. قال ابن عبّاس: (يا لها من أكلة ما أوخمها أن مسخوا قردة في الدّنيا وفي الآخرة النّار).

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11867) بمعناه، و (11868 و 11869)

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11868 - 11870).

(3)

وذهب ابن عباس من ثمّة إلى هذا القول، نقله السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 560 عن عكرمة وقال: ((أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر)).

ص: 207

وعن الضحّاك قال: (ألقى الله في فكر النّاهين حتّى باعوا الدّور والمساكن، وخرجوا من القرية، فضربوا الخيام خارجا منها، فأقبل العذاب وهم ينظرون، فبدأ المسخ من الرّأس حتّى صارت لهم أذناب كأذناب القردة، فكان النّاهون لا يرون أحدا يخرج من القرية، قالوا: لعلّ القوم قد خسفوا أو رموا بحجارة من السّماء، فحملوا رجلا منهم على سلّم فأشرف عليهم، فإذا هم قردة لهم أذناب، فصاح فقال:

إنّ القوم قد صاروا قردة، فكسروا الباب، فدخلوا عليهم منازلهم فإذا هم يبكون ويضربون بالأذناب، يعرف الرّجل من المرأة، فقالوا لهم: ألم ننهكم عن معصية الله؟ فأشاروا برءوسهم: بلى؛ ودموعهم تسيل على خدودهم).

قال أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّه سئل: هل في أمّتك خسف؟ قال: [نعم] قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: [إذا لبسوا الحرير، واستباحوا الزّنا، وشربوا الخمور، وطفّفوا المكيال والميزان، واتّخذوا القينات والمعازف، وضربوا بالدّفوف، واستحلّوا الصّيد في الحرم].

وقال عكرمة: (جئت ابن عبّاس وهو يبكي والمصحف في حجره، فقلت: ما يبكيك؟ قال: هؤلاء الورقات، فإذا هي سورة الأعراف، فقال: أتعرف أيلة؟ قلت:

نعم، قال: كان بها حيّ من اليهود في زمان داود، حرّم عليهم صيد الحيتان، واختاروا السّبت فابتلوا فيه، وحرّم عليهم فيه الصّيد، وأمروا بتعظيمه إن أطاعوا أجروا، وإن عصوا عذّبوا.

وكانت الحيتان تأتيهم يوم السّبت شرّعا بيضا سمانا كأنّها الكباش تنطح، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فوسوس لهم الشّيطان، وقال: إنّما نهيتم عن أخذها يوم السّبت، فاتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون إليها الحيتان يوم الجمعة، فتبقى فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلّة الماء فيأخذوها يوم الأحد، فلمّا رأوا العذاب لا يأتيهم أخذوا وأكلوا وعبّوا وكثر مالهم، فلعنهم داود عليه السلام فأصبحوا قردة خاسئين).وقال قتادة:(صار الشّباب قردة، والشّيوخ خنازير)

(1)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11861 و 11862).

ص: 208

قوله تعالى: {(بِعَذابٍ بَئِيسٍ)} أي شديد وجيع، قرأ أهل المدينة بكسر الباء وجزم الياء من غير همز، وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنّه بهمزة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالفتح وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل؛ وقرأ أهل البصرة «(بئيس)» بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعيل، وقرأ الحسن «(بيس)» بكسر الباء وفتح السّين على «(بيس العذاب)» ،وقرأ مجاهد «(بايس)» على وزن فاعل، وقرأ أبو إياس بفتح الباء والياء من غير همز، وقرأ الباقون «(بئيس)» على وزن فعيل.

قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ؛} معناه: وإذ علم ربّك، وقد يأتي تفعّل بمعنى افعل يقال: أوعدني وتوعّدني ومعناهما واحد، وقيل: معنى (تأذن) أقسم ربّك.

قوله تعالى: {(لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)} أي ليبعثنّ على من يبقى منهم من الذين لا يؤمنون من بعدهم الجزية والقتل فبعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم وأمّته فوضعوا عليهم الجزية إلى يوم القيامة، وفي هذه الآية دلالة على أنّ اليهود لا ترفع لهم راية عزّ إلى يوم القيامة. وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ؛} يجوز أن يكون المراد به عقوبة الآخرة وكلّ آت قريب، ويجوز أن يكون المراد به أنه سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدّنيا. وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (167)؛أي لمن تاب عن الكفر والمعاصي.

قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً؛} معناه: وفرّقنا اليهود في البلاد تفريقا شديدا استثنى أمرهم فليس لهم مكان يجتمعون فيه، ولا يمكنهم المقام في موضع إلاّ على ذلّ بالقتل والجزية.

قوله تعالى: {مِنْهُمُ الصّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ؛} أراد بالصّالحين مؤمني أهل الكتاب، وقيل: أراد بهم الذين وراء نهر أرداف، بمعنى الذين وراء رمل عالج من قوم موسى الذين ذكرنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ بهم، وقد ذكرنا في ما تقدّم. وقوله تعالى:{(وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ)} أراد به الكفار منهم كأنّه قال: ومنهم الصّالحون ومنهم سوى الصالحين. وقيل: معناه: ومنهم دون ذلك هم في رمل عالج يعني الذين هم في هذه البلاد من اليهود.

ص: 209

قوله تعالى: {وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ؛} أي اختبرناهم بالخصب والجدب، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (168)؛من الكفر إلى الإيمان.

قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ؛} أي خلف من بعد هؤلاء الذين قطّعناهم في الأرض ذرّية سوء، وهم الذين أدركهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن الأعرابي

(1)

: (الخلف بفتح اللاّم الصّالح، وبإسكان اللام الطّالح)،قال لبيد:

ذهب الّذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ومنه قيل لردّ الكلام خلف، ومنه المثل السائر (سكت ألفا ونطق خلفا)،قال النّضر بن شميل: (الخلف بفتح اللاّم وإسكانها في القرن السّوء، وأمّا القرن الصّالح فتحريكها لا غير، قال الشّاعر:

إنّا وجدنا خلفنا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف

(2)

وقال محمّد بن جرير: (أكثر ما جاء في المدح بفتح اللاّم، وفي الذم بتسكينها، وقد تحرّك في الذمّ ويسكّن في المدح. قال حسّان في المدح:

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع

قال: (وأحسبه في الذمّ مأخوذ من خلف اللّبن إذا حمض من طول تركه في السّقاء حتّى يفسد، ومنه قولهم: خلف فم الصّائم؛ إذا تغيّرت ريحه وفسدت، فكأنّ الرّجل الفاسد مشبّه به)

(3)

.والحاصل أنّ كلا منهما يستعملان في الشرّ والخير، إلاّ أنّ أكثر الاستعمال في الخير بالفتح.

قوله تعالى: {(وَرِثُوا الْكِتابَ)} أي التّوراة، والميراث ما صار للباقي من جهة البادي كأنه قال فخلف من بعد الهالكين منهم خلف ورثوا الكتاب. وقوله تعالى:

(1)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 310.

(2)

في لسان العرب: ج 4 ص 129: (خضف).وخضف: إذا ضرط. والخضيف: الضروط من النساء والرجال.

(3)

قاله الطبري في جامع البيان: مج 6 ج 9 ص 142: تفسير الآية (169) إلا عبارة: (ومنه قولهم: خلف فم الصائم إذا تغيّرت ريحه وفسدت)) فإنها غير موجودة في جامع البيان ولها تصرف من سماع الطبراني أو أنها ساقطة من المطبوع من تفسير الطبري.

ص: 210

{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى؛} يعني به أخذ الرّشوة في الحكم؛ لتغيّر الحقّ إلى الباطل. وقال بعضهم: كانوا يحكمون بالحقّ لكن بالرّشوة، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا لقلّة بقائه كأنه يعرض فيزول. قال الله تعالى:{هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا}

(1)

أراد بذلك السّحاب.

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا؛} أي يقولون مع أخذهم الرّشوة أنه سيغفر لنا ذلك، وما عملناه باللّيل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفّر عنا بالليل، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ؛} معناه: وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه، وفي هذا بيان أنّهم كانوا يصرّون على الذنب وأكل الحرام، وكانوا يستغفرون مع الإصرار، فكيف يغفر لهم.

قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ؛} معناه: ألم يؤخذ عليهم الميثاق في التّوراة ألاّ يقولوا على الله إلا الصّدق، وكان في التوراة أنّ من ارتكب ذنبا عظيما لم يغفر له بالتوبة، {وَدَرَسُوا ما فِيهِ؛} فكانوا يدرسون ما في التّوراة، ويذكرون ما أخذ عليهم من المواثيق، يقولون مع إصرارهم على الذّنوب: سيغفر لنا.

وقال الحسن: (معنى الآية أنّهم كانوا يأخذون الدّنيا من كلّ وجه حرّم عليهم ويمنعون كلّ حقّ، وينفقون في كلّ سرف، ويتمنّون مع هذه الأشياء على الله الأمانيّ، ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه كما أخذوا، ألم يعرفوا في الكتاب خلاف ما هم عليه).وقرأ السلميّ: «(وادّارسوا فيه مثل ادّاركوا)»

(2)

.

قوله تعالى: {وَالدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ؛} أي يتّقون المعاصي والشّرك وأكل الحرام، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (169)؛ما يدرسون في كتابهم، وقيل:

أفلا يعقلون أن الإصرار على الذنب ليس من علامة المغفور لهم.

(1)

الأحقاف 24/.

(2)

في اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 372؛قال: ((وقرأ علي رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن السلمي

)) وذكره.

ص: 211

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ؛} معناه: والذين يعملون بما في كتاب الله، قال مجاهد

(1)

: (هم اليهود والنّصارى الّذين يمسكون بالكتاب الّذي جاء به موسى، لا يحرّفونه ولا يكتمونه، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه، ولا تتّخذونه مأكلة، نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه).

وقال عطاء: (يعني أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم.قوله تعالى: {(وَأَقامُوا الصَّلاةَ)} أي عملوا الصالحات، إلاّ أنّه خصّ الصّلاة بالذّكر لعظم شأنها، وقوله تعالى:{إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (170)؛أي نعطيه أجرهم في القول والعمل.

قوله تعالى: {*وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ؛} معناه: واذكر يا محمّد إذ قلعنا الجبل من أصله فجعلناه كالظّلّة فوق رأس بني إسرائيل، وكلّ شيء اقتلعته فقد نتقته، ومنه نتقت المرأة إذا أكثرت الولد؛ أي اقتلعت ما في رحمها من ولدها، وامرأة منتاق إذا كانت تكثر الولد.

وقال مجاهد: (نتقنا الجبل؛ أي قطعنا الجبل).وقال الفرّاء: (علّقنا).وقال بعضهم: أصل النّتوق والنّتق أن تقطع الشيء من موضعه فترمي به، وقال أبان بن ثعلبة: (سمعت رجلا من العرب يقول لغلامه خذ الجوالق

(2)

وانتقه؛ أي نكّسه).

قوله تعالى: {(كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)} . قال عطاء (كأنّه سقيفة، والظّلّة كلّ ما أظلّك).

قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ؛} أي ظنّوا أنه ساقط عليهم لارتفاعه فوقهم، وكان السبب في رفعه فوقهم أنه لمّا شقّ عليهم ما كان في التوراة من المواثيق، وخافوا أن لا يمكنهم الوفاء به امتنعوا عن التزامه، فرفع الله الجبل فوقهم.

وقوله تعالى: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ؛} أي وقلنا لهم خذوا ما آتيناكم بقوّة؛ أي اعملوا به بجدّ ومواظبة في طاعة، {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (171)

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11896) مختصرا، وهو تفسير قتادة كما في الأثر (11900) والسدي (11902).

(2)

في اللسان: الجوالق والجوالق بكسر اللام وفتحها: وعاء، والجمع: الجوالق بالفتح و (الجواليق).

ص: 212

أي ما في الكتاب الذي أعطيناكم من عظة وجزاء لكي تتّقوا المعاصي، وكان دكّا حين أبوا أن يقبلوا أحكام التّوراة ويعملوا بما فيها، وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عليهم جبلا على مقدار عسكرهم، وكانوا فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتم ما فيها وإلاّ لنوقعنّه عليكم.

قال الحسن: (فلمّا نظروا إلى الجبل، خرّ كلّ رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا أن يسقط عليهم، فلذلك ليس في الأرض يهوديّ إلاّ وهو يسجد على حاجبه الأيسر، ويقولون: هذه السّجدة الّتي رفعت بها عنّا العقوبة)

(1)

.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى؛} قال المفسّرون: لمّا خلق الله آدم مسح ظهره، وأخرج منه ذرّيّته كلّهم كهيئة الذرّ، واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عبّاس:(هو بطن نعمان واد جنب عرفة)

(2)

،وقيل: هي أرض الهند، وقال الكلبيّ:(هو ما بين مكّة والطّائف)

(3)

.

وقال السديّ: (أخرج الله آدم من الجنّة، ولم يهبطه إلى الأرض، فأخرج من ظهره ذرّيّته وكلّ من هو خارج إلى يوم القيامة، فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرّيّة صغارا بيضا مثل اللّؤلؤ، فقال لهم: أدخلوا الجنّة برحمتي، وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرّيّة سودا، وقال لهم: أدخلوا النّار ولا أبالي).

فذلك قوله تعالى: {أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ}

(4)

،و {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} . و {أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ}

(5)

،وركّب

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11914) عن أبي بكر بن عبد الله.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11915) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان] يعني عرفة. وفي الأثر (11916) قال ابن عبّاس: ((بنعمان هذا، وأشار بيده))،وبإسناد آخر عن ابن عباس قال:((بنعمان هذا الّذي وراء عرفة)).

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 316.

(4)

الواقعة 27/.

(5)

الواقعة 8/-9.

ص: 213

فيهم جميع العقول حتى سمعوا كلام الله وفهموا خطابه، فقال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، ولا ربّ لكم سواي، فلا تشركوا بي شيئا، وأنّي مرسل إليكم رسلا يذكّرونكم عهدي وميثاقي ومنزّل عليكم كتابا فتكلّموا ألست بربكم؟ فقالوا: بلى، شهدنا أنّك ربّنا وإلهنا لا ربّ غيرك. فأقرّوا كلّهم طائعين، وأخذ بذلك ميثاقهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصابهم.

فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى فيهم الغنيّ والفقير، وحسن الصّورة وغير ذلك، فقال: يا رب لو شئت سوّيت بينهم، قال: ونظر إلى الأنبياء بينهم يومئذ مثل السّرج، فلما أخذ عليهم الميثاق ردّهم إلى صلب آدم، فالناس محبوسون في أصلاب آبائهم حتى يخرج كلّ من أخرجه في ذلك الوقت، وكلّ من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى، وكلّ من جحد وكفر، فإنّما تغيّر عنها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:[كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، حتّى يعرب عنه لسانه إمّا شاكرا وإمّا كفورا]

(1)

فلا تقوم الساعة حتى يولد كلّ من أخذ ميثاقه، لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم.

وتقدير الآية: وإذ أخذ ربّك من ظهور بني آدم ذرّياتهم، ولم يذكر ظهر آدم، وإنّما أخرجوا يوم الميثاق من ظهره؛ لأنه أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتولّد الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم بقوله:{(مِنْ بَنِي آدَمَ)؛} لأنه قد علم أنّهم كلّهم بنوه، وأخرجوا من ظهره.

قوله تعالى: {شَهِدْنا؛} يجوز أن يكون هذا من قول الذين أخذ عليهم الميثاق. ثم ابتدأ فقال تعالى: {(شَهِدْنا)} {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} (172)؛ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: (بلى) ثم يقول الله تعالى: شهدنا عليكم، وأخذنا الميثاق كيلا يقولوا يوم القيامة:{(إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ)} أي عن هذا الميثاق والإقرار.

(1)

أخرجه الإمام الطبراني في المعجم الكبير: ج 1 ص 283:الحديث (827 و 828) عن الأسود ابن سريع. والإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 353 عن جابر بن عبد الله، واللفظ له. في مجمع الزوائد: ج 7 ص 218؛قال الهيثمي: ((أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله، وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات)).

ص: 214

قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ؛} أي ولكيلا تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنّا ذرّية من بعدهم فاتّبعناهم؛ لأنّا قد جعلنا في عقولكم ما يمكّنكم أن تعرفوا به صحّة ما كان عليه آباؤكم وفساده. وقوله تعالى:{أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (173)؛أي آباؤنا المشركون، يقال لهم: لا نهلككم بما فعل آباؤكم، وإنّما نهلككم بما فعلتم أنتم.

فإن قيل: كيف يكون الميثاق حجّة عليهم-أي على الكفّار منهم-وهم لا يذكرون ذلك حين أخرجهم من صلب آدم؟ قيل: لمّا أرسل الله الرّسل، فأخبروهم بذلك الميثاق، وصار قول الرّسل حجّة عليهم.

قوله: {(ذُرِّيَّتَهُمْ)} قرأ أهل مكّة وأهل الكوفة «(ذرّيّتهم)» بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف على الجمع، وقوله تعالى:{(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ)} {(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ)} قرأ أبو عمرو بالياء، وقرأ الباقون بالتّاء فيهما.

وقوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ؛} أي هكذا نبيّن الآيات كما بيّنّاها في أمر الميثاق، و {(نُفَصِّلُ الْآياتِ)} ذكر آية بعد آية من الموعظة والمعصية والوعد والوعيد. قوله تعالى:{وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (174)؛أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان، والمعنى: ليعلموها مفصّلة ولعلّهم يرجعون.

وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها؛} قال ابن عبّاس وابن مسعود: (نزلت في بلعم بن باعورا)

(1)

،قال مجاهد: (ويقال لهم:

بلعم بن باعر)

(2)

،وقال مقاتل: (ويقال له أيضا: بلعام، وكان عابدا من عبّاد بني إسرائيل، وكان في المدينة التي قصدها موسى عليه السلام، وكان أهل تلك المدينة كفّارا، وكان عنده اسم الله الأعظم، فسأله ملكهم أن يدعو على موسى بالاسم الأعظم

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11941) عن ابن مسعود بأسانيد كثيرة، والأثر (11942) عن ابن عباس. واسم الرجل: بلعم بن باعوراء، بلعام بن عامر، أو ابن أبر أو باعر، بألفاظ كثيرة في كتب التفسير.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11944).

ص: 215

ليدفعه عن تلك المدينة، فقال لهم: دينه وديني واحد، وهذا شيء لا يكون، فكيف ادعو عليه وهو نبيّ الله، ومعه الملائكة والمؤمنون، وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت ذلك ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به يفتنونه بالمال والهدايا حتى فتنوه فافتتن.

فركب أتانا له متوجّها إلى جبل ليدعو عليه، فما سار على الأتان إلاّ قليلا فربضت فنزل عنها، فضربها حتى كاد يهلكها، فقامت فركبها فربضت، فضربها فأنطقها الله تعالى، فقالت: يا بلعم ويحك أين تذهب؟ ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي تردّني عن وجهي؟ فكيف تريد أن تذهب لتدعو على نبيّ الله عليه السلام وعلى المؤمنين؟ فخلّى سبيلها، وانطلق حتى أتى إلى الجبل وحين وصل إلى الجبل، وجعل يدعو فكان لا يدعو بسوء إلاّ صرف الله لسانه إلى موسى، فقال له قومه: يا بلعم! إنّما أنت تدعو علينا وتدعو لهم؟ فقال: هذا والله الذي أملكه، وأنطق الله به لساني.

ثم امتدّ لسانه حتى بلغ صدره، فقال لهم: قد ذهب منّي الآن الدّنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، حلّوا النساء وزيّنوهنّ وأعطوهن الطّيب، وأرسلوهن إلى العسكر ومروهنّ لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا.

فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل، فقام إليها فأخذها بيده حين أعجبته بحسنها، ثم أقبل بها إلى موسى وقال له: إني لأظنّك أن تقول هذه حرام؟ قال: نعم هي حرام عليك لا تقربها، قال: فو الله لا نطيعك في هذا! ثم دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون في الوقت.

وكان فنحاص بن العيزرا صاحب أمر موسى، وكان رجلا له بسطة في الخلق وقوّة في البطش، وكان غائبا حين صنع ذلك الرجل بالمرأة ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها، ثم دخل عليه القبّة، فوجدهما متضاجعين فدقّهما بحربته حتى انتظمهما بها جميعا، فخرج بهما يحملهما بالحربة رافعا بهما إلى السّماء، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه وأسند الحربة إلى لحيته وجعل يقول: اللهمّ هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون

ص: 216

من حينئذ عنهم. فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطاعون، فوجدوهم سبعين ألفا في ساعة من نهار وهو ما بين أن زنى ذلك الرجل بها إلى أن قتل

(1)

.

وقال مقاتل: دعا بلعم على موسى وقومه بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة

(2)

،فاستجيب له ووقع موسى وقومه في التّيه بدعائه عليه، فقال: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التّيه؟ قال: بدعاء بلعم، قال: يا رب فكما سمعت دعاءه فاسمع دعائي عليه، فدعا موسى أن انزع عنه الاسم الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه، ونزع عنه المعرفة، فخرجت منه كحمامة بيضاء، فذلك قوله تعالى:{(فَانْسَلَخَ مِنْها)} .

إلا أنّ في هذا ما يمنع صحّته ولا يجوز أن يستجاب دعاؤه.

وروي عن عبد الله بن عمران: أنّ الآية نزلت في أميّة بن أبي الصّلت الثقفيّ

(3)

، وهو رجل كان في وقت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد أتاه الله العلم والحكمة، وله أشعار في الموت والبعث، وكان قد علم أنّ الله يبعث نبيّا في وقته، وكان يرجو أن يكون ذلك النبيّ، فلما بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم ورأى من أمره ما رأى، عزم أن لا يؤمن به حسدا له، ومعنى الآية: واقرأ يا محمّد خبر الذي آتيناه علم آياتنا وفهم معانيها فصار عالما بها.

والنّبأ: الخبر عن أمر عظيم، وقوله تعالى:{(فَانْسَلَخَ مِنْها)} أي خرج من العلم بها إلى الجهل، ومن الهدى إلى الضلالة، كما يقال: انسلخت الحيّة من جلدها.

وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ؛} أي أتبعه بالتّزيين لذلك الضّلال، ويقال: معنى أتبعه: أدركه، يقال: أتبعت القوم إذا لحقتهم، وتبعتهم إذا سرت إليهم.

وقوله تعالى: {فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ} (175)؛أي كان في علم الله أن يكون في ذلك الوقت من الغاوين، وقيل: صار من الضّالّين. والغيّ يذكر بمعنى الهلاك، ويذكر بمعنى الخيبة.

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها؛} أي بالآيات بأن نميته على الهدى ونعصمه عن الكفر ونحول بينه وبين المعصية. وقيل: معناه: لفضّلناه وشرفناه ورفعناه

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11963) عن سالم أبي النضر.

(2)

ذكر مقاتل القصة في التفسير: ج 1 ص 424 - 425.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11949 - 11950).

ص: 217

منزلة بالآيات. قال مجاهد وعطاء: (معناه: ولو شئنا رفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه، {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ؛} أي ركن إلى الأرض)،وقال مجاهد:

(سكن إلى الأرض)

(1)

،وقال مقاتل:(رضي بالدّنيا)

(2)

،وقيل: مال إلى مسافل الأمور، وترك معاليها.

وأصل الإخلاد البقاء والإقامة واللّزوم على الدوام، كأنه قال: لزم الميل إلى الأرض؛ ليعجل الراحة واللّذات، يقال: فلان مخلّد؛ أي بطيء الشّيب. قوله تعالى:

{وَاتَّبَعَ هَواهُ؛} أي انقاد لهواه، فلم يرفعه بالآيات، قال عطاء:(أراد الدّنيا واتّبع شيطانه)،وقال بعضهم:{(وَاتَّبَعَ هَواهُ)} أي امرأته؛ لأنّها كانت حملته على الخيانة.

قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ؛} اللهث: شدّة النّفس عند الإعياء، وهو في الكلب طبع، فإنّ كلّ شيء يلهث من إعياء وعطش ما خلا الكلب، فإنّه يلهث في الأحوال كلّها، فإنّك إن طردته وزجرته يلهث، وإن تركته يلهث، فكذلك الكافر إن وعظته وزجرته لم يتّعظ، وإن تركته لم يعقل، وقال ابن عبّاس:(معناه أنّ الكافر إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك عنها لم يهتد إليها، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد لهث)

(3)

.

وقيل: هو المنافق لا ينيب إلى الحقّ دعي أم لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث ترك أو طرد، وكذلك الكافر إن وعظته فهو ضالّ، وإن تركته فهو ضالّ كالكلب، ونظيره قوله تعالى:{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ}

(4)

.

قوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} أي ذلك صفة المكذّبين بآياتنا، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ؛} أي اقصص عليهم أخبار المنافقين؛ ليعتبروا

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11970).

(2)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 1 ص 425.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11976) بإسنادين.

(4)

الأعراف 193/.

ص: 218

بهم فلا يسلكوا مسالكهم. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176)؛أي رجاء أن يتفكّروا.

قوله تعالى: {ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؛} أي بئس الوصف وصف القوم الذين كذبوا بآياتنا، وهذا السّوء إنما يرجع إلى فعلهم لا إلى نفس المثل، كأنه قال: ساء فعلهم الذي جلب إليهم الوصف القبيح، فأمّا المثل من الله فحكمة وصواب، و (مثلا) منصوب على التمييز، أي ساء المثل مثلا. قوله تعالى:

{وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ} (177)؛أي إنما يصرفون أنفسهم لمعصيتهم، والله تعالى لا تضرّه معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين.

قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي؛} أي من يوفّقه الله لدينه فهو المهتدي من الضّلالة، {وَمَنْ يُضْلِلْ؛} خذله عن دينه، {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} (178)؛المغبونون بعقوبة الآخرة.

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛} وقال ابن عباس: (معناه: ولقد خلقنا لجهنّم أهلا)

(1)

، {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها؛} الخير، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها؛} الهدى، {وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها؛} الحقّ، {أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ؛} في المأكل والمشرب، والذّهن لا في الصّور، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ؛} لأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. وقوله تعالى:{أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} (179)؛أي عن ما ينفعهم وعن ما يحلّ لهم في الآخرة.

وقيل: إنّ اللام في قوله: (لجهنّم) لام العاقبة، يعني أنّ عاقبتهم إلى المصير إلى جهنّم، وهذا كما قال تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}

(2)

أي كان عاقبتهم أن صار لهم عدوّا وإلاّ فهم التقطوه ليكون لهم قرّة عين، كما قال تعالى:

{وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}

(3)

،ويقال:

(1)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11984) عن مجاهد.

(2)

القصص 8/.

(3)

القصص 9/.

ص: 219

لدّوا للموت وابنوا للخراب

(1)

قال الشاعر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدّهر نبنيها

وقال آخر:

ألا كلّ مولود فللموت يولد

ولست أرى حيّا لحيّ يخلّد

وقال آخر:

وللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّهر تبنى المساكن

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: [إنّ الله تعالى لمّا ذرأ لجهنّم ما ذرأ، كان ولد الزّنا ممّن ذرأ لجهنّم]

(2)

.

قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ؛} سبب نزول هذه الآية: أن ((رجلا)) دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال أبو جهل لعنه الله: أليس يزعم محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنّهم يعبدون ربّا واحدا، فما بال هذا يعبد ربّين اثنين؟! فأنزل الله هذه الآية

(3)

.

ومعناها: ولله الصفات العلى؛ وهي: الرحمن؛ والرحيم؛ والعزيز؛ والجبّار؛ والمؤمن؛ والمهيمن؛ والقدّوس؛ وأشباه ذلك من الصفات التي معانيها {(فَادْعُوهُ بِها)} أي بالأسماء الحسنى، لا ينبغي أن يقول: يا سخيّ؛ يا جلال؛ يا رفيق، ولكن ليقل: يا جواد يا سخيّ يا قويّ يا رحيم كما وصف بها نعته.

قوله تعالى: {(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ)} أي يكذّبون، وقال قتادة:

(يشركون)،وقال عطاء:(يضاهون)،وقال ابن عبّاس: (إلحادهم في أسماء الله أنّهم عدلوا بها عمّا هي عليه، فسمّوا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها، واشتقّوا

(1)

قال الشاعر:

له ملك ينادي كلّ يوم لدّوا للموت وابنوا للخراب

(2)

الحديث عن عمرو بن العاص؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الرقم (11982).

(3)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 1 ص 426 وينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 325.

ص: 220

اللاّت من الله؛ والعزّى من العزيز؛ والمناة من المنّان)

(1)

.

قرأ الأعمش وحمزة «(يلحدون)» بفتح الياء والحاء هنا وفي النحل

(2)

وفي حم

(3)

، وقرأ الباقون بضمّ الياء وكسر الحاء وهما لغتان فصيحتان. والإلحاد: هو الميل عن القصد، وروي عن الكسائيّ أنه الذي في النحل بفتح الياء والحاء، والذي في الأعراف وحم بالضمّ، وكان يفرّق بين الإلحاد فيقول: (الإلحاد: العدول عن القصد، واللّحود:

الرّكون) ويزعم أن الذي في النحل بمعنى الرّكون. قوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (180)؛وعيد لهم على الكفر والتكذيب.

قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (181)؛ قال ابن عبّاس: (وذلك أنّه لمّا ذكر الله تعالى {(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)} قال أناس من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ذكر الله هؤلاء الرّهط بالخير الجسيم، وإن آمنوا بك وصدّقوك جعل الله لهم أجران، ولنا أجر واحد، ونحن صدّقنا بالكتب وبالرّسل، فأنزل الله تعالى:{(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)} يعني أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، لا يخلو الزّمان من فرقة منهم علماء أتقياء يدعون النّاس إلى الحقّ).

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (182) أي الذين كذبوا بدلائلنا سنحطّهم إلى العذاب درجة إلى أن يبلغوا إلى العذاب، وقال عطاء:(سنمكّن لهم من حيث لا يعلمون).وقال الكلبيّ: (نزيّن لهم أعمالهم فنهلكهم).وقال الضحّاك: (كلّما جدّدوا لنا معصية جدّدنا لهم نعمة)

(4)

.وقال الخليل: (سنطوي عمرهم في اغترار منهم).

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11989 و 11990).

ص: 221

وقال أهل المعاني: الاستدراج: أن تندرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا، ولا يتابع ولا يجاهر

(1)

،يقال: استدرج فلانا حتى نعرف ما صنع؛ أي لا تجاهره ولا تكثر عليه السّؤال دفعة واحدة، ولكن كلّمه درجة درجة وقليلا قليلا حتى نعرف حقيقة ما فعل. وقيل: معنى قوله {(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)} سنذيقهم من بأسنا قليلا قليلا.

قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (183)؛أي أمهلهم وأطيل لهم المدة، فإنّهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم ولا يعجزونني عن تعذيبهم. وقوله:

{(إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)} إنّ صنعي شديد محكم، وأخذي قويّ شديد. والكيد: هو الإصرار بالشّيء من حيث لا يشعر به.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؛} قال الحسن وقتادة:

(وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صعد الصّفا ذات ليلة يدعو قريشا إلى عبادة الله قبيلة قبيلة وفخذا فخذا: يا بني فلان، يحذّرهم بأس الله وعقابه، فقال المشركون: إنّ صاحبكم قد جنّ؛ بات ليله يصوّت إلى الصّباح، فأنزل الله هذه الآية)

(2)

.ومعناها: أولم يتفكّروا بقلوبهم ليعلموا ويستيقنوا ما بمحمّد صلى الله عليه وسلم من جنون.

قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (184)؛أي ما هو إلاّ يعلم لموضع المخافة ليتّقى ولموضع الأمن ليبتغى. وقوله تعالى {(مُبِينٌ)} أي بيّن أمره؛ فهلاّ جالسه الكفار فيطلبوا حقيقة أمره، ويتفكّروا في دلائله ومعجزاته.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} معناه: أولم ينظروا في السّماوات والأرض طالبين لما يدلّهم على وحدانيّة الله تعالى، وعلى صدق رسوله في ما دعاهم إليه. والملكوت: هو الملك العظيم. قوله تعالى:

{(وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)} معناه: وما خلقه الله بعد السّماوات والأرض، فإن ذلك يدلّ على وحدانيّة الله تعالى مثل ما تدلّ السموات والأرض. (ما) بمعنى الّذي.

(1)

في المخطوط: (لا يتاعب ولا يهاجر).

(2)

عن قتادة؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11997).

ص: 222

قوله تعالى: {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؛} معناه: أولم ينظروا في أن عسى أن يكون قد دنا هلاكهم بعد قيام الحجّة عليهم. وقوله تعالى:

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (185)؛معناه: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن مع وضوح دلالته فبأيّ حديث بعده يؤمنون، وليس بعده كتاب منزّل ولا نبيّ مرسل.

قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ؛} إليه، وقوله تعالى:

{وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (186)؛أي وندعهم في مجاوزتهم الحدّ في كفرهم يتجرّءون فلا يرجعون إلى الحقّ، ومن قرأ «(ونذرهم)» بالنون وضمّ الراء فهو على الاستئناف، وتقرأ «(ونذرهم)» بالجزم عطفا على موضع الفاء، والمعنى: من يضلل الله يذره في طغيانه عامها.

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها؛} قال الحسن وقتادة:

(سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى السّاعة الّتي تخوّفنا بها؟ فأنزل الله هذه الآية)

(1)

، ومعناها:{(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ)} أي أوان قيامها ومتى مثبتها، يقال: رسي الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه الجبال الرّاسيات؛ أي الثابتات، والمرسى: مستقرّ الشّيء الثقيل، وقال ابن عبّاس:(سألت اليهود محمّدا صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أخبرنا عن السّاعة إن كنت نبيّا فإنّا نعلم متى هي، فأنزل الله هذه الآية)

(2)

.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ؛} أي علم قيامها عند الله سبحانه، ما لي بها من علم، {(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ)} أي لا يكشفها ويظهرها لحينها إلاّ الله عز وجل، وقال مجاهد:(أي لا يأتي بها إلاّ هو)، وقال السديّ:(لا يرسلها لوقتها إلاّ هو)

(3)

.ووجه الامتناع عن الإجابة عن بيان وقتها، أنّ العباد إذا لم يعرفوا وقت قيامها كانوا على حذر من ذلك، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11998).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (11999) وذكر أسماء السائلين: حمل بن أبي قشير، وشمول بن زيد.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12006).

ص: 223

وقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} قال الحسن: (ثقل وضعها على أهل السّماوات والأرض من انتثار النّجوم وتكوير الشّمس وتسيير الجبال).

وقال قتادة: (ثقلت على السّماوات والأرض لا تطيقها لعظمها).وقال السديّ: (ثقل علمها على أهل السّماوات والأرض فلم يطيقوا إدراكها وكلّ شيء خفي فقد ثقل، ولا يعلم قيامها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل)

(1)

.

قوله تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً؛} أي فجأة لا يعلمون وقت قيامها، فتقوم والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقيم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يهوي بلقمته في فمه، فما يدرك أن يضعها في فمه.

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها؛} قال الضحّاك ومجاهد: (معناه كأنّك عالم بها)

(2)

،وقال ابن عبّاس:(هذا على تقديم وتأخير، معناه: {(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)} أي بارّ لطيف بهم من قوله: {إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا}

(3)

)

(4)

،وقيل:

معناه كأنّك فرح بمسألتهم إيّاك، وقيل: معناه: كأنّك حاكم بها، يقال: تحافينا إلى فلان؛ أي تخاصمنا إليه، والحافي هو الحاكم.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ؛} الفائدة في إعادته ردّ المعلومات كلّها إلى الله، فيكون التكرار على وجه التأكيد، وقيل: أراد بالأول علم وقتها، وبالثاني علم كنهها. قوله تعالى:{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (187)؛أنّها كائنة وأن علمها عند الله، وفي الآية دلالة على بطلان قول من يدّعي العلم بمدّة الدّنيا، ويستدلّ بما روي أنّ الدنيا سبعة آلاف سنة؛ لأنه لو كان كذلك كان قيام الساعة معلوما، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:[بعثت أنا والسّاعة كهاتين] وأشار إلى السّبّابة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12007).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12021) عن الضحاك، والأثر (12020) عن مجاهد.

(3)

مريم 47/.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (1295) وأدرجها الطبراني بالمعنى في هذا النص.

ص: 224

والوسطى

(1)

،فمعناه تقريب الوقت لا تحديده كما قال تعالى:{فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها}

(2)

أي بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم من أشراطها.

قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللهُ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمّد ألا يخبرك ربّك بالسّعر الرّخيص قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه، وبالأرض الّتي تريد أن تجدب فنرتحل عنها إلى ما أخصب، فأنزل الله هذه الآية)

(3)

.ومعناها: قل يا محمّد لا أقدر على نفع أجرّه إلى نفسي، ولا على ضرّ أدفعه عن نفسي إلا ما شاء الله أن يملّكني بالتمكين من ذلك.

قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ؛} أي لو كنت أعلم جدوبة الأرض وقحط المطر لادّخرت من السّنة المخصبة للسّنة الجدبة، {وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ؛} الفقر. وقيل: معناه: لو كنت أعلم متى أموت لبادرت بالأعمال الصالحة قبل اقتراب الأجل، فلم أشتغل بغيرها ولا بي جنون ولا آفة كما يقولون.

وقيل: معناه: لو كنت أعلم متى السّاعة لبادرت بالجواب عن سؤالكم، فإنّ المبادرة إلى جواب السائل تكون استكثارا من الخير وما مسّني التكذيب منكم. وقوله تعالى:{إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ؛} أي ما أنا إلا معلّم بموضع المخافة ليتّقى ولموضع الأمن ليختار، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188)؛بالبعث.

قوله تعالى: {*هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ؛} أي نفس آدم، {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها؛} أي خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه، {لِيَسْكُنَ}

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الرقاق: باب (39):الحديث (6503) عن سهل بن سعد. ويشير بإصبعيه فيمدهما، والحديث (6504) عن أنس، والحديث (6505) عن أبي هريرة، وفيه:((يعني إصبعيه)).ومسلم في الصحيح: كتاب الفتن: الحديث (133 و 2951/ 134) عن أنس من طرق عديدة.

(2)

محمد 18/.

(3)

في الدر المنثور: ج 3 ص 622؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي الشيخ وابن أبي حاتم عن ابن عباس .. وذكره بلفظ قريب منه).وينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 414.

ص: 225

{إِلَيْها؛} أي ليطمئنّ إليها ويستأنس بها ويأوي إليها لقضاء حاجته منها، {فَلَمّا تَغَشّاها؛} أي جامعها، {حَمَلَتْ؛} ماءه، {حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ؛} فاستمرّت بذلك الماء؛ أي قامت وقعدت كما كانت تفعل قبل وهي لا تدري أنه حبل أم لا، ولم تكترث بحملها، يدلّ عليه قراءة ابن عبّاس:«(فاستمرّت به)»

(1)

.وقال قتادة:

(معنى {(فَمَرَّتْ بِهِ)} استبان حملها)

(2)

،وقرأ يحيى بن يعمر:«(فمرت به)» مخفّفا من المرية؛ أي شكّت أحملت أم لا.

قوله تعالى: {فَلَمّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما؛} أي لمّا كبر الولد في بطنها وتحرّك وصارت ذات ثقل بحملها وشقّ عليها القيام، أتاها إبليس في صورة رجل، فقال: يا حوّاء ما هذا في بطنك؟ قالت: ما أدري، قال: إنّي أخاف أن يكون بهيمة، وذلك أوّل ما حملت، فقالت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في همّ من ذلك.

ثم عاد إبليس إليها فقال: يا حوّاء أنا من الله بمنزلة! فإن دعوت الله ربي إنسانا تسمّيه بي؟ قالت: نعم، قال: فإنّي أدعو الله، وكانت هي وآدم يدعوان الله، {لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً؛} ولدا حسن الخلق صحيح الجوارح مثلنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ} (189)؛لك في هذه النعمة،

{فَلَمّا آتاهُما صالِحاً؛} سويّا صحيحا أتاها إبليس فقال لها: عهدي! قالت: ما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمّى نفسه فقال عزرائيل لعرفته، ولكنه تسمّى بغير اسمه فسمته: عبد الحرث، ورضي آدم فعاش الولد أيّاما حتى مات

(3)

.

وهذا لا يصحّ؛ لأنّ حوّاء وإن لم تكن نبيّة فهي زوجة نبيّ، وفي الآية ما يدلّ على ذلك؛ لأن الله تعالى قال:{جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؛} ومثل هذه

(1)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 417.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12032).

(3)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 338؛ قال القرطبي: (ونحو هذا مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير وليس لها ثبات، لا يعوّل عليها من كان له قلب؛ فإن آدم وحواء وإن غرهما بالله الغرور، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطّر وكتب). وأخرجه الترمذي في الجامع: أبواب التفسير: الحديث (3077)،وقال:(هذا حديث حسن غريب) وإسناده ضعيف.

ص: 226

القبائح لا يصحّ إضافتها إلى الأنبياء، ولأنّ الله تعالى قال:{فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (190)؛ولأن الواحد منّا لو أتاه من يبعثه على أن يسمّي ولده عبد شمس أو عبد العزّى أو نحو هذا، لم يقبل ذلك، ولو أمكنه أن يعاقبه على ذلك فعل، فكيف يجوز مثل هذا على آدم؟ وقد رفع الله قدره بالنبوّة.

وقال الحسن: (معناه: إنّ الله خلق حوّاء من ضلع آدم وجعلها سكنا له، وكذلك حال الخلق مع أزواجهم، كأنّه قال: وجعل من كلّ نفس زوجها، كما قال في آية أخرى {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً})

(1)

.

قال الحسن: (انقضت قصّة آدم عند قوله {(لِيَسْكُنَ إِلَيْها)} ثمّ أخبر الله عن بعض خلقه أنّه تغشّى زوجته فحملت حملا خفيفا فمرّت به، فلمّا أثقلها ما في بطنها دعوا الله ربّهما لئن آتيتنا صالحا لنشكرنّك، فلمّا آتاهما صالحا جعلا له شركاء بعملهما الّذي عملاه بأن هوّداه أو نصّراه أو مجّساه؛ أي علّماه شيئا من الأديان الخبيثة الّتي يدعو إليها إبليس، ولهذا أعظم الله شأنه في آخر الآية فقال {(فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ)،} ولو كان المراد بالآية آدم وحوّاء لقال: عمّا يشركان).يقال: إنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى، ويقال: ولدت لآدم في خمسمائة بطن ألف ولد.

وقرئ (جعلا له شركا) بكسر الشين على المصدر، وكان من حقّه أن يقال على هذه القراءة جعلا لغيره شركا؛ لأنّهما لا ينكران أنّ الأصل لله، ويجوز أن يكون معناه: جعلا له ذا شرك فحذف كما في قوله {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}

(2)

أي أهل القرية.

قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً؛} معناه أيشركون في العبادة ما لا يقدر على خلق شيء يستحقّ به العبادة؛ لأن الخلق هو الذي يدلّ على الله، والله تعالى إنما يستحقّ العبادة على الخلق لخلقه أصول النّعم التي لا يقدر عليها أحد سواه، مثل الحياة والسّمع والبصر والعقل، فإذا لم تقدر الأصنام على خلق شيء لم تحسن عبادتها. قوله تعالى:{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (191)؛معناه: الأصنام مخلوقة منحوتة، وقيل: أراد به الأصنام والعابدين جميعا.

(1)

الروم 21/

(2)

يوسف 82/.

ص: 227

قوله تعالى: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً؛} أي لا يستطيع الأصنام دفع ضرّ عنهم، ولا جلب نفع إليهم، {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (192)؛ولا أن تنصر نفسها بأن تدفع عن نفسها من أرادها بسوء. فإن قيل: كيف قال: ولا أنفسهم على لفظ من يعقل والأصنام موات؟ قيل: لأن الكفار كانوا يصوّرون منها على صورة من يعقل، ويجرونها مجرى من يعقل، فأجرى عليها لفظ ما قدّروا ما هم عليه.

قوله عز وجل: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ؛} أي إن تدعوا الأصنام إلى الهدى لم تقبل الهدى، فإنّها لا تهدي غيرها، ولا تهتدي بأنفسها ولا تردّ جوابا، وإن دعت إلى الهدى {سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ} (193) أم صمتّم عنهم لا يتّبعوكم.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ؛} أراد الأصنام مملوكة مخلوقة أشباهكم، سمّاها عبادا لأنّهم صوّروها على صورة الإنسان، وقوله تعالى:{فَادْعُوهُمْ؛} ليس هو الدعاء الأوّل، ولكن أراد فادعوهم في مهمّاتكم عند الحاجة إلى كشف الأسواء عنكم.

وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ؛} أي صيغته صيغة أمر

(1)

،ومعناه التعجيز؛ أي فليستجيبوا لكم، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (194)؛في أنّها آلهة.

قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} (195)؛معناه: إن معبودي ينصرني ويدفع كيد الكائدين عنّي، ومعبودكم لا يقدر على نصركم، فإن قدرتم أنتم على ضرّ فاجتمعوا أنتم مع الأصنام على كيد ولا تؤجّلوني.

وهذا لأنّهم كانوا يخوّفون النبيّ صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، عرّف الله الكفار بهذه الآية أنّهم مفضّلون على الأصنام؛ لأن لهم جوارح يتصرّفون بها وليس للأصنام ذلك، فكيف

(1)

في المخطوط: (صيغته صفة) والمعنى لا يستقيم، والصحيح كما أثبتناه. في اللباب في علوم الكتاب؛ قال ابن عادل: واللام؛ لام الأمر على معنى التعجيز).

ص: 228

يعبدون من هم أفضل منهم؟! فالعجب من أنفسهم عن اتّباع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ما أيّده الله به من الآيات والمعجزات والدلائل الظاهرة؛ لأنه بشر مثلهم، ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرّف، وهم أفضل منه في القدرة على التصرّف.

قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ؛} معناه: يتولّى حفظهم، ويكلؤني ويتولّى أمري الذي أنعم عليّ بإنزال القرآن، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} (196)؛أي يتولّى حفظهم، لا يكلهم إلى غيره ولا تضرّهم عداوة من عاداهم.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (197)؛الآية قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا؛} أي كما أنّها لا تهدي غيرها فلا تسمع الهدى، {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ؛} يا محمّد فاتحة أعينهم نحوكم يعني الأصنام ينظرون إليك، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (198)؛وذلك أنّهم كانوا يصوّرونها فيجعلون لها أعينا وآذانا وأرجلا، فإذا نظر الناظر اليها خيّل إليه أنّها تنظر إليه وهي لا تبصر، أو كانوا يلطّخون أفواه الأصنام بالخلوف والعسل، وكانت الذباب يجتمعن عليها، فلا تقدر على دفع الذّباب عن أنفسها.

وقال بعضهم: معناه: وتراهم كأنّهم ينظرون إليك كقوله تعالى {وَتَرَى النّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى}

(1)

أي كأنّهم سكارى، وقال مقاتل:(معنى قوله: {(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا)} أي إن تدعوا يا محمّد أنت والمؤمنون كفّار مكّة إلى الهدى لا يسمعوا، {(وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)} الهدى).

قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} (199)؛ قال ابن عبّاس والسديّ: (معناه: خذ الفضل من أموالهم كما قال تعالى {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}

(2)

وهذا إنّما كان قبل فرض الزّكاة، فصار منسوخا

(1)

الحج 2/.

(2)

البقرة 219/.

ص: 229

بالزّكاة)

(1)

.وقال الحسن ومجاهد: (خذ العفو من أخلاق النّاس في القضاء والاقتضاء وقبول عذرهم وحسن المعاملة معهم وما يسهل عليهم)

(2)

.

وأصل العفو الترك من قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}

(3)

أي ترك، والعفو عن الذنب ترك العقوبة. ويقال: معنى العفو المساهلة في الأمور، يقال: خذ ما أتاك عفوا؛ أي سهلا. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه سأل جبريل عن هذه الآية فقال: حتّى أسأل، فذهب جبريل فقال:[يا محمّد؛ إنّ الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو من ظلمك]

(4)

.

قوله تعالى: {(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)} أي بالمعروف الذي تعرف العقلاء صحّته، وقال عطاء:(يعني لا إله إلاّ الله).وقوله تعالى: {(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)} أي عن أبي جهل وأصحابه، نسختها آية السّيف. ومعنى الإعراض عنهم؛ أي أعرض عنهم بعد إقامة الحجّة عليهم، ووقوع الإياس عن قبولهم، ولا تقابلهم بالسّفه ولا تجاوبهم استخفافا بهم وصيانة لقدرك، فإنّ مجاوبة السّفيه تضع القدر.

قوله تعالى: {وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ؛} معناه:

إمّا يغرينّك بالوسوسة عند الغضب فالتجئ إلى الله واستغث به، {إِنَّهُ سَمِيعٌ؛} لدعائك، {عَلِيمٌ} (200)؛بك. والنّزع هو الإزعاج بالحركة إلى الشّرّ.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا؛} معناه: إنّ الذين اتّقوا الشّرك والمعاصي إذا مسّهم وسوسة من الشيطان بإلقاء خواطر الشّرّ عليهم، فرغوا إلى تذكّر ما أوضح الله من الحجّة، {فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} (201)؛عواقب أمورهم، يرجعون من الهوى إلى الهدى.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12066) عن ابن عباس، والأثر (12067) عن السدي، والأثر (12068) عن الضحاك، وأدرجها الطبري في المتن بنص واحد.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12065) بمعناه.

(3)

البقرة 178/.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12070 و 12071).

ص: 230

قرأ النخعيّ وابن كثير وأبو عمرو والكسائي «(طيف)» ،وقرأ الباقون «(طايف)» وهما لغتان وقيل: الطائف ما يطوف حول الشيء، والطّيف: الوسوسة والخطرة، وقيل: الطائف ما طاف به من الوسوسة، والطّيف اللّمز والمسّ. وقرأ سعيد بن جبير «(طيّف)» بالتشديد، وقال الكلبيّ:(طائف من الشّيطان: ذنب)،وقال مجاهد:

(الغضب)

(1)

،وعن مجاهد:(هو الرّجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه)،وقال السديّ:

(معناه: إذا أذنبوا تابوا)

(2)

.

قوله تعالى: {وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ؛} أي وإخوان المشركين وهم الشياطين يدعونهم إلى المعاصي والجهل، يقال لكلّ كافر أخ من الشّياطين يمدّه في الغيّ. قرأ نافع «(يمدّونهم)» بضمّ الياء وكسر الميم وهما لغتان. قوله تعالى:{ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} (202)؛أي لا يقصر إخوان المشركين من الوسوسة؛ لأنّهم إذا علموا قبولهم لقولهم زادوا في إغوائهم، وزاد الكفار في طاعتهم لهم، فلا يقصرون كما يقصر المتّقون.

وقيل: معنى قوله تعالى: {(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ)} يعني إخوان الشّياطين وهم الضّلاّل يمدّون المشركين في الغيّ. قرأ الجحدريّ «(يمادّونهم)» ،وقرأ عيسى «(ثمّ لا يقصرون)» بفتح الياء وضم الصاد

(3)

.

قوله تعالى: {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها؛} معناه: وإذا لم تأتهم يا محمّد بالآية التي سألوكها تعنّتا قالوا: هلاّ طلبتها من الله فتأتينا بها.

وقيل: معناه: هلاّ أتيت بها من تلقاء نفسك؟ قال الحسن: (كانوا إذا جاءتهم آية كذبوا بها، وإذا أبطأت عليهم التمسوها).

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي قل لهم: ليست الآيات إليّ، ولكنّ الله يوحي بها عليّ ما يعلم من المصلحة، وليس لي أن أسأله إنزالها إلاّ إذا أذن لي في سؤالها. هذا القرآن بصائر من

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12079) بأسانيد.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12082) وقال: ((إذا زلّوا تابوا)).

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 7 ص 352.

ص: 231

ربكم، {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ؛} أي حجج من ربكم وهدى من الضّلالة ونجاة من العذاب، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (203)؛يصدّقون أنه من الله.

قوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) قال ابن عبّاس وابن مسعود وأبو هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيّب والزهريّ: (إنّ هذه الآية نزلت في الصّلاة)

(1)

.عن أبي العالية الرباحيّ قال:

(كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى، قرأ أصحابه خلفه حتّى نزلت هذه الآية، فسكت القوم)

(2)

، وقال بعضهم: المراد بالآية وقت نزول القرآن، أمرهم الله بالاستماع والإنصات.

وقال الزجّاج: (يحتمل أن يكون معنى الاستماع العمل بما فيه)

(3)

،وعن ابن عبّاس قال:(كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلّمون في الصّلاة ويأمرون بحوائجهم، ويجيء الرّجل إلى الرّجل فيقول له: كم صلّيتم؟ فيقول كذا، فأنزل الله هذه الآية).والقول الأوّل أصحّ وأقرب إلى ظاهر الآية؛ لأنه ليس في الآية تخصيص زمان دون زمان، ولا يجب على القوم الإنصات لقراءة من يقرأ في غير الصّلاة.

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ؛} يجوز أن يكون الخطاب في هذه الآية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربّك أيّها المستمع للقرآن إذا تلي عليك.

وقوله تعالى: {(فِي نَفْسِكَ)} يعني التفكّر في النفس والتعرّض لنعم الله مع العلم بأنه لا يقدر عليها أحد سواه، وأنه متى شاء سلبها منه. والمراد بقوله:{(وَدُونَ الْجَهْرِ)} المتكلّم بذكر الله على وجه الخيفة بالتضرّع إليه والمخافة منه، ولأن أفضل الدّعاء ما

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12099) عن ابن عباس، والأثر (120100) عن الزهري، والأثر (12120) عن ابن مسعود.

(2)

في الدر المنثور: ج 3 ص 635؛ قال السيوطي: ((أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي العالية

وذكره).

(3)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 2 ص 322؛قال الزجاج: (ويجوز أن يكون (فاستمعوا له وأنصتوا) اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا).

ص: 232

كان خفيّا على إخلاص وخضوع لا يشوبه رياء وسمعة. وقوله تعالى {(فِي نَفْسِكَ)} إشارة إلى الإخلاص.

وقيل: المراد بقوله {(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ)} الذكر بالكلام الخفيّ، وبقوله {(دُونَ الْجَهْرِ)} إظهار الكلام بالصّوت العالي. وقال ابن عباس:(معنى {(وَاذْكُرْ رَبَّكَ)} يعني القراءة في الصّلاة (تضرّعا) أي جهرا {(وَخِيفَةً)} أي سرّا {(دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)} أي دون رفع الصّوت في خفض وسكون سمّع من خلفك القرآن).

وقال أهل المعاني: {(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ)} أي اتّعظ بالقرآن واعتبر بآياته، واذكر ربّك في ما يأمرك بالطاعة (تضرّعا) أي تواضعا وتخشّعا (وخيفة) أي خيفة من عقابه. وقال مجاهد:(أمر أن يذكر في الصّدور، وأمر بالتّضرّع والاستكانة، ويكره رفع الصّوت والنّداء والصّياح في الدّعاء)

(1)

.

قوله تعالى: {(بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)} أي صلاة الغداة والمغرب والعشاء، والأصيل في اللغة: ما بين العصر إلى اللّيل، وجمعه أصل، ثم آصال جمع الجمع، ثم أصائل. وقيل: يعني (بالغدوّ والآصال):البكر والعشاء. وقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ} (205)؛زيادة تحريض على ذكر الله عز وجل؛ كي لا يغفل الإنسان عن ذلك في أوقات العبادة.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} معناه: أن الملائكة المقرّبين الذين أكرمهم الله لا يتعظّمون عن طاعته إن استكبرتم أنتم فهم أفضل منكم، وهم الملائكة لا يستكبرون عن عبادته وينزّهونه عن ما لا يليق به، {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (206)؛أي يصلّون فيخرّون له سجّدا في صلاتهم. وقوله تعالى:{(عِنْدَ رَبِّكَ)} يريد قربهم من الفضل والرّحمة لا من حيث المكان والمسافة.

وعن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كان جبريل عليه السلام إذا أقبل بشيء من القرآن فيه سجود قرأ ثمّ يخرّ ساجدا ويأمرني بذلك، ثمّ يقول: يا محمّد واجب عليك وعلى أمّتك].وعن إبراهيم قال: (من قرأ آخر الأعراف إن شاء ركع

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (12128) مختصرا.

ص: 233

وإن شاء سجد).وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين النّار سترا يوم القيامة، وكان آدم شفيعا له]

(1)

.

آخر تفسير سورة (الأعراف) والحمد لله رب العالمين

(1)

هو جزء من حديث طويل في فضائل القرآن سورة سورة، وهو حديث موضوع.

ص: 234