الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم
قال الله تعالى إخبارا عن عدوه إبليس، لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن يُنْظِره، فأنظره، ثم قال عدو الله:
قال جمهور المفسرين والنحاة: حذف "على" فانتصب بالفعل. والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك. والظاهر: أن الفعل مضمر، فإن القاعد على الشىء ملازم له، فكأنه قال: لألزمنه، ولأرصدنه، ولأعوجنه، ونحو ذلك.
قال ابن عباس: "دينك الواضح" وقال ابن مسعود: "هو كتاب الله" وقال جابر: "هو الإسلام" وقال مجاهد: "هو الحق".
والجميع عبارات عن معنى واحد، وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى، وقد تقدم حديث سبرة بن أبى الفاكه:"إِن الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بأَطْرُقِهِ كُلِّهَا" الحديث.
فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك.
وقوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْديهِمْ} [الأعراف: 17] .
قال ابن عباس، فى رواية عطية عنه:"مِن قِبَل الدنيا" وفى رواية علي عنه "أشككهم فى آخرتهم".
وكذلك قال الحسن: "من قبل الآخرة، تكذيبا بالبعث والجنة والنار".
وقال مجاهد: "من بين أيديهم من حيث يبصرون"
ومن خلفهم.
قال ابن عباس: "أرغبهم فى دنياهم" وقال الحسن: "من قبل دنياهم أزينها لهم وأشَهيها لهم".
وعن ابن عباس رواية أخرى: "من قبل الآخرة".
وقال أبو صالح: "أشككهم فى الآخرة وأباعدها عليهم" وقال مجاهد أيضاً: "من حيث لا يبصرون".
وعن أيمانهم قال ابن عباس: "أشبه عليهم أمر دينهم" وقال أبو صالح: "الحق أشككهم فيه" وعن ابن عباس أيضاً: "من قبل حسناتهم".
قال الحسن: "من قبل الحسنات أثبطهم عنها".
وقال أبو صالح أيضاً: "من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أُنفِّقُه عليهم وأُرَغِّبُهم فيه".
وقال الحسن "وعن شمائلهمالسيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويرغبهم فيها ويزينها فى أعينهم".
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ولم يقل من فوقهم؛ لأنه علم أن الله من فوقهم".
قال الشعبي: "فالله عز وجل أنزل الرحمة عليهم من فوقهم".
وقال قتادة: "أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك. لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله".
قال الواحدي: "وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات، حسن؛ لأن العرب تقول: اجعلني فى يمينك، ولا تجعلني فى شمالك، تريد: اجعلني من المقدمين عندك، ولا تجعلني، من المؤخرين"، وأنشد لابن الدمينة:
ألُبْنَى، أفِى يُمْنَى يَديْكِ جَعَلْتِنِى
…
فَأَفْرَحُ، أمْ صَيَّرْتِنِى فى شِمَالِكِ؟
وروى أبو عبيد عن الأصمعى: "هو عندنا باليمين: أى بمنزلة حسنة، وبضد ذلك هو عندنا بالشمال"، وأنشد:
رَأَيْتُ بَنِى الْعَلاتِ لَمَّا تَظَافَرُوا
…
يَحُوزُونَ سَهْمى بَيْنَهُمْ فى الشَّمائِلِ
أى ينزلونى بالمنزلة السيئة.
وحكى الأزهرى عن بعضهم فى هذه الآية {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17] : "أى لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة {ومن خلفهم} [الأعراف: 17] بأمر البعث {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] : أى لأضلنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا؛ لأنهما الأصل فى التصرف، فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما".
وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشرى، واللفظ لأبى إسحاق: ذكر هذه الوجوه للمبالغة فى التوكيد، أى: لآتينهم من جميع الجهات، والله أعلم، أتصرف لهم فى الإضلال من جميع جهاتهم.
وقال الزمخشرى: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التى يأتى منها العدو فى الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله:
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِسَوْطِكَ وَأجْلِبْ عَلَيهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] .
وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: "أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك". وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قاله السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين.
قال شقيق: "ما من صباح إلا قعد لى الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفى، وعن يمينى، وعن شمالي، فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ:{وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] .
وأما من خلفي فيخوفنى الضيعة على من أخلفه، فأقرأ:{وَمَا مِنْ دَابّةٍ فى الأرْضِ إلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] .
ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء، فأقرأ:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف: 128] .
ومن قبل شمالى فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] .
قلت: السبل التى يسلكها الإنسان أربعة لا غير، فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له، فإن سلكها فى طاعة وجده عليها يُثبِّطه عنها ويقطعه، أو يعوقه ويبطئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا، ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك.
ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] .
قال الكلبي: "ألزمناهم قرناء من الشياطين". وقال مقاتل: "هيأنا لهم قرناء من الشياطين". وقال ابن عباس: "ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة".
والمعنى: زينوا لهم الدنيا حتى آثروها، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها. وقال الكلبى:"زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث، وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة". وهذا اختيار الفراء.
وقال ابن زيد: "زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم، وما يستقبلون منها". والمعنى: على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه.
فقول عدو الله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْديِهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] .
يتناول الدنيا والآخرة، وقوله:{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] .
فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير، فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه، وإن ملك السيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها، وهذا يفصل ما أجمله فى قوله:{فَبِعزَّتِكَ لأغْوِينَّهُمْ أَجْمَعينَ} [ص: 82] وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خسرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُوراً} [النساء: 117 - 120] .
قال الضحاك: "مفروضا أى معلوما" وقال الزجاج: "أى نصيبا افترضته على نفسى" قال الفراء: "يعنى ما جعل له عليه السبيل من الناس، فهو كالمفروض".
قلت: حقيقة الفرض هو التقدير. والمعنى: أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظه المقسوم، فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه، فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وأولياء الله وحزبه وخاصته.
وقوله {ولأضلنهم} يعنى عن الحق {ولأمنيهم} ، قال ابن عباس:"يريد تعويق التوبة وتأخيرها".
وقال الكلبى: "مُنَيِّهم أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث".
وقال الزجاج: "أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة".
وقيل: "لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع".
وقيل: "أمنيهم طول البقاء فى نعيم الدنيا، فأطيل لهم الأمل فيها ليؤثروها على الآخرة".
وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} [النساء: 119] .
البتك: القطع وهو فى هذا الموضع: قطع آذان البحيرة، عن جميع المفسرين، ومن هاهنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذنى الطفل للحلق، ورخص بعضهم فى ذلك للأنثى، دون الذكر، لحاجتها إلى الحلية، واحتجوا بحديث أم زَرْعٍ، وفيه:"أنَاسَ مِنْ حُلِىّ أُذُنَىّ "
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ".
ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك فى حق البنت وكراهته فى حق الصبي.
وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] .
قال ابن عباس: "يريد دين الله". وهو قول إبراهيم، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، والسُّدى، وسعيد بن المسيَّب، وسعيد بن جُبير.
ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة؛ وهى ملَّة الإسلام؛ كما قال تعالى:
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمجِّسَانِهِ كَما تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، فَهَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا".
ثم قرأ أبو هريرة: {فِطرَتَ اللهِ الّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية، متفق عليه.
فجمع النبىّ عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التى خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغيروا الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة.
ثم قال: {يعدهم ويمنيهم} [النساء: 120] فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا إربك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأمانى الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أن الوعد فى الخير والتمنية فى الطلب والإرادة، فيعده الباطل الذى لا حقيقة له- وهو الغرور- ويمنيه المحال الذى لا حاصل له. ومن تأمل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلقين بوعده وتمنيه وهم لا يشعرون أنه يعد الباطل، ويمنى المحال، والنفس المهينة التى لا قدر لها تغتذى بوعده وتمنيته، كما قال القائل:
مُنًى إنْ تَكُنْ حَقا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى
…
وَإِلا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدا
فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانى الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها، كما يفرح بها النساء والصيبان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيه، فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مبطل فله نصيب من قوله:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [النساء: 120] .
ومن ذلك قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] .
قيل: {يعدكم الفقر} [البقرة: 268] : يخوفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، {ويأمركم بالفحشاء} [البقرة: 268] قالوا: هى البخل فى هذا الموضع خاصة، ويذكر عن مقاتل والكلبى كل فحشاء فى القرآن فهى الزنا إلا فى هذا الموضع فإنها البخل.
والصواب: أن الفحشاء على بابها، وهى كل فاحشة، فهى صفة لموصوف محذوف، فحذف موصوفها إرادة للعموم، أى بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء، ومن جملتها البخل، فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها، وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذى خوفه إياه كما ينتظر الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهى المغفرة
والفضل، فالمغفرة: وقاية الشر، والفضل: إعطاء الخير، وفى الحديث المشهور:"إن للمَلك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالوعد"، ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] الآية.
فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهاراً كله، وآخر بضده، نستعيذ بالله تعالى من شر الشيطان.
فصل
ومن كيده للإنسان: أنه يورده الموارد التى يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصْدِرهُ المصادر التى فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى:{وَإِذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمَ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّى أَرَى مَالا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ الله وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] .
فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر فى صورة سراقة بن مالك، وقال: أنا جار لكم من بنى كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدو الله جنود الله تعالى من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم، وأسلمهم، كما قال حسان:
دَلاهُمُ بِغُرُورٍ، ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ
…
إِنَّ الخبِيثَ لمنْ وَالاهُ غَرَّارُ
وكذلك فعل بالراهب الذى قتل المرأة وولدها، أمره بالزنا ثم بقتلها، ثم دل أهلها عليه، وكشف أمره لهم، ثم أمره بالسجود له، فلما فعل فر عنه وتركه. وفيه أنزل الله سبحانه:
وهذا السياق لا يختص بالذى ذكرت عنه هذه القصة، بل هو عام فى كل من أطاع الشيطان فى أمره له بالكفر، لينصره ويقضى حاجته، فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من أوليائه جملة فى النار، ويقول لهم:{إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] .
فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة.
وتكلم الناس فى قول عدو الله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] فقال قتادة وابن إسحاق: "صدق عدو الله فى قوله {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْن} [الأنفال: 48] وكذب فى قوله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم. وكذلك عادة عدو الله بمن أطاعه".
وقالت طائفة: "إنما خاف بطش الله تعالى به فى الدنيا، كما يخاف الكافر والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه، لا أنه خاف عقابه فى الآخرة". وهذا أصح، وهذا الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة.
قال الكلبى: "خاف أن يأخذه جبريل فيعرفهم حاله فلا يطيعونه".
وهذا فاسد، فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه، إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون أن الذى أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد النجعة إن أراد ذلك، وتكلف غير المراد.
وقال عطاء: "إنى أخاف الله أن يهلكنى فيمن يهلك"، وهذا خوف هلاك الدنيا فلا ينفعه.
وقال الزجاج وابن الأنبارى: "ظن أن الوقت الذى أنظر إليه قد حضر". زاد ابن الأنبارى قال: "أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذى يزول معه إنظارى قد حضر فيقع بى العذاب، فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى، فقال ما قال إشفاقا على نفسه".
فصل
ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله سبحانه عنه بهذا فقال:
{إِنَّمَا ذلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] .
المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه. قال قتادة: "يعظمهم فى صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فكلما قوى إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوى خوفه منهم".
ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذى يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذى هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره، فلا إله إلا الله. كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وكم جلا الباطل وأبرزه فى صورة مستحسنة، وشنع الحق وأخرجه فى صورة مستهجنة؟ وكم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين؟ فهو الذى سحر العقول حتى ألقى أربابها فى الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم فى سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك فى مهلك بعد مهلك، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، وأبرز لهم الشرك فى صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه على عرشه وتكلمه بكتبه فى قالب التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله:
{عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] .
والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فى قالب التقليد،
والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدهان فى دين الله فى قالب العقل المعيشى الذى يندرج به العبد بين الناس.
فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية، وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون.
فصل
وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة: أنه ناصح لهما، وأنه إنما يريد خلودهما فى الجنة، قال تعالى:{فَوَسْوسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَانَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشّجرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إنِّى لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22] .
فالوسوسة: حديث النفس والصوت الخفى، وبه سمى صوت الحلى وسواسا، ورجل موسوس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: موسوس؛ لأن نفسه توسوس إليه، قال تعالى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، فإنها معصية، والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما فالمعصية تبدى السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى رؤياه الزناة والزوانى عراة بادية سوآتهم، وهكذا إذا رؤى الرجل أو المرأة فى منامه مكشوف السوأة يدل على فساد فى دينه، قال الشاعر:
إِنِّى كَأَنِّى أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ
…
وَلا أمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانَا
فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسا ظاهرا يوارى العورة ويسترها، ولباسا باطنا من التقوى، يُجَمِّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها.
ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشجَرَةِ إِلا أنْ تَكُونَا مَلَكْين} [الأعراف: 20] .
أى: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا فى الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها، وهذا باب كيده الأعظم الذى يدخل منه على ابن آدم، فإنه يجرى منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذى يحبونه ويهوونه، فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود.
فشام عدو الله الأبوين، فأحسَّ منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد فى تلك الدار فى النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وكان عبد الله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام، ويقول: لم يطمعا أن يكونا من الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك، ويدل على هذه القراءة قوله فى الآية الأخرى:{قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] .
وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب؟ وكان آدم عليه السلام أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولا سيما مما نهاه الله عز وجل عنه؟،
فالجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا فى ذلك أصلاً، وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما، وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التى تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح،
وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة. فلما سماها شجرة الخلد قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا فى الجنة ولا تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون، ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه يموت بعد، واشتهى الخلود فى الجنة، وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه، أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعده القدر، ولما فرغ الله سبحانه من تقديره فأخذتهما سنة الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل:
وَاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ
…
لِيَنْفُذَ الْقَدَرُ المَحْتُومُ فى الأزَلِ
إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله {أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20] . فيقال: الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله، والاعتذار عنه، وإنما يعتذر عن الأب فى كون ذلك راج عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين، وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر: ممكن، وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه فى الأمر الممكن جزم له به ولم يردده.
فقال: {يَا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يْبلَى} [طه: 120] .
فلم يدخل أداة الشك هاهنا كما أدخلها فى قوله: {إلا أَنْ تَكونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فتأمله، ثم قال:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] .
فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد:
أحدها: تأكيده بالقسم.
الثانى: تأكيده بإنّ.
الثالث: تقديم المعمول على العامل، إيذانا بالاختصاص. أى نصيحتى مختصة بكما، وفائدتها إليكما لا إلى.
الرابع: إتيانه باسم الفاعل الدال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على التجدد: أى النصح صفتى وسجيتى، ليس أمرا عارضا لى.
الخامس: إتيانه بلام التأكيد فى جواب القسم.
السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين، فكأنه قال لهما: الناصحون لكما فى ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معى على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به.
سَعَى نَحْوَهَا حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ
…
وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ، وَلَوْ شَاءَ قَلَّلا
وورّث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جاءوه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} [المنافقون: 1] . فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد، وكذلك قوله سبحانه:{وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] .
ثم قال تعالى: {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] .
قال أبو عبيدة: "خذلهما وخلاهما، من تدلية الدلو، وهو إرسالها فى البئر".
وذكر الأزهرى لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: "أصله الرجل العطشان يتدلى فى البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور. فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدى نفعا، فيقال: دلاه، إذا أطمعه"، ومنه قول أبى جندب الهذلى:
أَحُصُّ، فَلَا أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ
…
فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ
أحص: أى أقطع.
الثانى: "فدلاهما بغرور، أى جرأهما على أكل الشجرة، وأصله: دللهما من الدلال والدالة وهى الجراءة"، قال شمر:"يقال: ما دَلَّكَ على أى ما جرأك على"، وأنشد لقيس بن زهير:
أَظنُّ الْحِلْمَ دَلَّ عَلَىَّ قَوْمِى
…
وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الْحَلِيمُ
قلت: أصل التدلية فى اللغة الإرسال والتعليق. يقال: دلى الشىء فى مهواة، إذا أرسله بتعليق. وتدلى الشىء بنفسه. ومنه قوله تعالى:{فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] .
قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها فى البئر. ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر، فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها، ودلاها يدلوها دلوا، إذا نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحم منه، ويشاركه فى الاشتقاق الأكبر الدلالة وهى التوصل إلى الشىء بإبانته وكشفه، ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يتشبه برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى هديه ودله وسمته، فالهدى الطريقة التى عليها العبد، من أخلاقه وأقواله وأعماله، والدل ما يدل من ظاهره على باطنه، والسمت هيأته ووقاره ورزانته.
والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين.
قال مطرف بن عبد الله: "قال لهما إنى خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعانى أرشدكما وحلف لهما، وإنما يخدع المؤمن بالله"، قال قتادة:"وكان بعض أهل العلم يقول من خادعنا بالله خدعنا"، فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم، وفى الصحيح:"أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق، فقال: سرقت؟ فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصرى".
وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله، فظنه المسيح سرقة، وهذا تكلف، وإنما كان الله سبحانه وتعالى فى قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له فى اليمين بالله، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله عز وجل، وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا.
فصل
ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس، حتى يعلم أى القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ فى تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهون عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه ويتهاون يه.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز بالثانى، كما قال بعض السلف:"ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالى بأيهما ظفر".
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل فى هذين الواديين: وادى التقصير، ووادى المجاوزة والتعدى. والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما فى أيديهم وقعدوا كَلا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وكذلك قصر بقوم فى حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصى والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذى ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بنى آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهى نفس فعله لا أفعالهم. والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل البتة.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلا فى خلقه ولا بائنا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو فى كل مكان بذاته، كالهواء الذى هو داخل فى كل مكان.
وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلا وأبدا قائلا: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى، ويقول لموسى {اذهب إلى فرعون} فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعاً منه، كقيام صفة الحياة به.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يشفع أحدا فى أحد البتة، ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم.
وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم.
وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلوا حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها. وربما ادعوا فيهم الإلهية.
وكذلك قصر باليهود فى المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلها يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمراً لازماً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير. وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود.
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم، وسموا أنفسهم الملامية.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا، أو فضولا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده.
وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.
فصل
ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التى هى زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزبد الذى يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التى تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم فى شكهم يعمهون، وفى حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
فصل
ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية فى المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشْكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العريَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان والدين، كإخراج الشعرة من العجين.
فصل
ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم فى قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم فى أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافى عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شىء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذى جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب، فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل عن النهار، ثم أحالهم فى سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها عن الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان.
فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع
لهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم.
فصل
ومن أنواع مكايده ومكره: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور، فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس فى وجهه والإعراض عنه، فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره، وطلاقة وجهه، وحسن كلامه، فيتعلق به، فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته، فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق، وطلاقة الوجه، ومن هاهنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض.
وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان، وقالوا: متى كشفت للمرأة أو الصبى عن بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما.
ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوى الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا ولا طلاقة، فيطمعوا فيك، ويتجرأوا عليك، وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم، وميل قلوبهم إليك، ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء، وبحسن الخلق والبشر مع أولئك، ليفتح لك باب الشر، ويغلق عنك باب الخير.
فصل
ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى فى إذلالها وابتذالها، كجهاد الكفار والمنافقين، وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل، وتسليط الأعداء وطعنهم فيك، فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك.
ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر:
أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ
…
وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا تُهِينُهَا
وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه.
ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر:
أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ
…
وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا تُهِينُهَا
وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه.
فصل
ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه فى مسجد، أو رباط، أو زاوية أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس، وسقطت من أعينهم، وذهبت هيبتك من قلوبهم، وربما ترى فى طريقك منكرا، وللعدو فى ذلك مقاصد خفية يريدها منه: منها الكبر، واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة، ومخالطة الناس تذهب ذلك. وهو يريد أن يزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجىء الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله، ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه.
وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى السوق، قال بعض الحفاظ:"وَكَانَ يَشْتَرِى حَاجَتَهُ وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ".
ذكره أبو الفرج بن الجوزى وغيره.
وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع ويشترى.
ومر عبد الله بن سلام رضى الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا، وقد أغناك الله عز وجل؟ فقال: أردت أن أدفع به الكبر، فإنى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول:"لا يَدْخُلُ الجنَّةَ عَبْدٌ فِى قلبه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ كِبْرٍ".
وكان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة، ويقول:"افسحوا لأميركم، افسحوا لأميركم".
وخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً وهو خليفة فى حاجة له ماشيا، فأعيى، فرأى غلاماً على حمار له، فقال: يا غلام احملنى فقد أعييت، فنزل الغلام عن الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك، فركب خلف الغلام، حتى دخل المدينة والناس يرونه.
فصل
ومن كيده: أنه يغرى الناس بتقبيل يده، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنها، فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض، وبك يدفع البلاء عن الخلق، ظن ذلك حقا، وربما قيل له: إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى به وبحرمته، فيقضى حاجتهم، فيقع ذلك فى قلبه، ويفرح به، ويظنه حقا، وذلك كل الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه، أو قلة خضوع له، تذمر لذلك ووجد فى باطنه، وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها، وهم أقرب إلى السلامة منه.
فصل
ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلى والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم، دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطإ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، والعصمة إنما هى للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله عز وجل وبين خلقه، فى تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ، وليس بحجة على الخلق.
وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول الشىء فيرده عليه
من هو دونه، فيتبين له الخطأ، فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها.
وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شىء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما، ويقول: حدثنى قلبى عن ربى، ونحن أخذنا عن الحى الذى لا يموت، وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق، وأنتم اتبعتم الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذى هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء: ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق؟.
وهذا غاية الجهل، فإن الذى سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن. وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعى أنه يسمع الخطاب من مرسله، فيستغنى به عن ظاهر العلم، ولعل الذى يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعتين، ومنفردتين.
ومن ظن أنه يستغنى عما جاء به الرسول بما يلقى فى قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفى بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقى فى القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة، وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان.
وقد سئل عبد الله بن مسعود عن مسألة المفوضة شهرا، فقال بعد الشهر: "أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله برىء
منه ورسوله".
وكتب كاتب لعمر رضى الله عنه بين يديه: هذا ما أرى الله عمر، فقال: لا. امحه واكتب: هذا ما رأى عمر.
وقال عمر رضى الله عنه أيضا: "أيها الناس اتهموا الرأى على الدين، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته".
واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبر الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأبعدها من الشيطان، فكانوا أتبع الأمة للسنة، وأشدهم اتهاما لآرائهم، وهؤلاء ضد ذلك.
وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شىء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليها شاهدان.
قال الجنيد: قال أبو سليمان الدارانى: "ربما يقع فى قلبى النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة".
وقال أبو زيد: "لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يتربع فى الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى، وحفظ الحدود".
وقال أيضاً: "من ترك قراءة القرآن، ولزوم الجماعات، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادعى بهذا الشأن، فهو مدّع".
وقال سرىّ السقطى: "من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط".
وقال الجنيد: "مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث، ويتفقه، لا يقتدى به".
وقال أبو بكر الدقاق: "من ضيع حدود الأمر والنهى فى الظاهر حرم مشاهدة القلب فى الباطن".
وقال أبو الحسين النورى: "من رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعى فلا تقربه، ومن رأيته يدعى حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه".
وقال أبو سعيد الخراز: "كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل".
وقال الجريرى: "أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد: أن تلزم قلبك المراقبة، ويكون العلم على ظاهرك قائما".
وقال أبو حفص الكبير الشأن: "من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعدوه فى ديوان الرجال".
وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازى: "كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم".
ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: "كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس، واليوم الرجل الذى يهب من الشيطان".
فصل
ومن كيده: أمرهم بلزوم زى واحد، ولبسة واحدة، وهيئة ومشية معينة، وشيخ معين، وطريقة مخترعة، ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض، فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه، وربما يلزم أحدهم موضعاً معيناً للصلاة لا يصلى إلا فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ المَكانَ لِلصَّلاةِ
كَمَا يُوَطِّن الْبَعِيرُ".
وكذلك ترى أحدهم لا يصلى إلا على سجادة، ولم يصل رسول الله عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه، بل كان يصلى على الأرض، وربما سجد فى الطين، وكان يصلى على الحصير، فيصلى على ما اتفق بسطه، فإن لم يكن ثمة شىء صلى على الأرض.
وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة، فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه، ولا مع أهل الحقائق، فصاحب الحقيقة أشد شىء عليه التعبد بالرسوم الوضعية، وهى من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله، فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره. وكان أخس أحواله الوقوف معها، ولا وقوف فى السير، بل إما تقدم وإما تأخر، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] .
فلا وقوف فى الطريق إنما هو ذهاب وتقدم، أو رجوع وتأخر.
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسيرته وجده مناقضا لهدى هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة، والقباء تارة، والجبة تارة، والإزار والرداء تارة، ويركب البعير وحده، ومردفا لغيره، ويركب الفرس مسرجا وعريانا، ويركب الحمار، ويأكل ما حضر، ويجلس على الأرض تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى البساط تارة، ويمشى وحده تارة، ومع أصحابه تارة، وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه، فبين هديه وهدى هؤلاء بون بعيد.
فصل
ومن كيده الذى بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذى كادهم به فى أمر الطهارة والصلاة عند النية، حتى ألقاهم فى الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه.
ولا ريب أن الشيطان هو الداعى إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقى، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن:
"مَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ".
فالموسوس مسىء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعدّ فيه لحدوده؟،
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل هو وعائشة رضى الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال: ما يكفى هذا القدر لغسل اثنين؟ كيف والعجين يحلله الماء فيغيره؟ هذا والرشاش ينزل فى الماء فينجسه عند بعضهم، ويفسده عند آخرين، فلا تصح به الطهارة، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة، مثل ميمونة وأم سلمة، وهذا كله فى الصحيح.
وثبت أيضاً فى الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال: "كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّئُونَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ".
والآنية التى كان رسول الله عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها؛ كأنبوب الحمام ونحوه، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجرى الماء من حافاتها، كما يراعيه جهال الناس ممن بلى بالوسواس فى جرن الحمام.
فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى من رغب عنه فقد رغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى
يفيض، ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه فى استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة.
قال شيخنا: "ويستحق التعزير البليغ الذى يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا فى الدين ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع".
ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان.
قال سعيد بن المسيب: "إنى لأستنجى من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلى".
وقال الإمام أحمد: "من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء".
وقال المروزى: "وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء".
وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم فى الصحيح: "أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ إنَاءٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاُسْتَنْشَقَ".
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فى غسله يدخل يده فى الإناء، ويتناول الماء منه، والموسوس لا يجوز ذلك، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك.
وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يأتى بمثل ما أتى به أبداً، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفَرقَ قريباً من خمسة أرطال بالدمشقى، يغمسان أيديهما فيه، ويفرغان عليهما؟ فالمسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده.
قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، والعمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:
"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَالا يَرِيبُكَ" وقوله: "مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهَ" وقوله: "الإثْمُ مَا حَاكَ فى الصَّدْرِ".
وقال بعض السلف: "الإثم خَوارْ القلوب"، وقد وجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تمرة فقال:
"لَوْلا أَنِّى أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأكَلْتُهَا".
أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا؟ وقد أفتى مالك رحمه الله تعالى فيمن طلق امرأته وشك هل هى واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث، احتياطا للفروج.
وأفتى من حلف بالطلاق: أن فى هذه اللوزة حبتين، وهو لا يعلم ذلك، فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث؛ لأنه حلف على ما لا يعلم.
وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها: يطلق عليه جميع نسائه احتياطا وقطعاً للشك.
وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله تعالى، والحج ماشياً، ويقع الطلاق فى جميع نسائه، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه. وهذا أحد القولين عندهم. ومذهب مالك أيضاً إنه إذا حلف ليفعلن كذا: أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته.
ومذهبه أيضاً: أنه إذا قال: إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثاً: أنها تطلق فى الحال، وهذا كله احتياط.
وقال الفقهاء: "من خفى عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله".
وقالوا: "إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب، وشك فيها، صلى فى ثوب بعد ثوب، بعدد النجس، وزاد صلاة ليتيقن براءة ذمته".
وقالوا: "إذا اشتبهت الأوانى الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم، وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة، فلا يدرى فى أى جهة، فإنه يصلى أربع صلوات عند بعض الأئمة لتبرأ ذمته بيقين".
وقالوا: "من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلى خمس صلوات".
وقد أمر النبى عليه الصلاة والسلام من شك فى صلاته أن يبنى على اليقين.
وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره، كما إذا وقع فى الماء. وحرم أكله إذا خالط كلبه كلباً آخر، للشك فى تسمية صاحبه عليه.
وهذا باب يطول تتبعه.
فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر فى الشرع، وإن سميتموه وسواسا.
وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه فى الطهارة حتى عمى.
وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع فى العضد، وإذا غسل رجليه أشرع فى الساقين.
فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى ما لا يريب، وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم، وتجنبنا محل الاشتباه، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ولا فى البدعة والجين، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال؟ حتى لا يبالى العبد بدينه، ولا يحتاط له، بل يسهل الأشياء ويمشى حالها، ولا يبالى كيف توضأ؟ ولا بأى ماء توضأ؟ ولا بأى مكان صلى؟ ولا يبالى ما أصاب ذيله وثوبه. ولا يسأل عما عهد بل يتغافل، ويحسن ظنه، فهو مهمل لدينه لا يبالى ما شك فيه. ويحمل الأمور على الطهارة، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك. فأين هذا ممن استقصى فى فعل ما أمر به، واجتهد فيه، حتى لا يخل بشىء منه، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور، وأن لا ينقص منه شيئاً؟
قالوا: وجماع ما ينكرونه علينا احتياط فى فعل مأمور، أو احتياط فى اجتناب محظور وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يفضى غالبا إلى النقص من الواجب والدخول فى المحرم، وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا فلستم بأسعد منا بالسنة، ونحن حولها ندندن، وتكميلها نريد.
وقال أهل الاقتصاد والاتباع: قال الله تعالى:
{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَمِنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتّبِعُونِى يُُحْبِبْكمُ اللهُ} [آل عمران: 31] وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {وَأنّ هذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتّبعُوهُ وَلا تَتَّبعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلّكمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .
وهذا الصراط المستقيم الذى وصانا باتباعه هو الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة، وإن قاله من قاله، لكن الجور قد يكون جوراً عظيما عن الصراط، وقد يكون يسيراً، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسى، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جوراً فاحشاً، وقد يجور دون ذلك، فالميزان الذى يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم، أو مجتهد متأول، أو مقلد جاهل. فمنم المستحق للعقوبة. ومنهم المغفور له. ومنهم المأجور أجراً واحداً، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم فى طاعة الله تعالى ورسوله، أو تفريطهم.
ونحن نسوق من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه ما يبين أى الفريقين أولى باتباعه ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه.
ونقدم قبل ذلك ذكر النهى عن الغلو، وتعدى الحدود، والإسراف، وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين.
قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} [النساء: 171] وقال تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنّهُ لا يحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وقال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] .
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، غداة العقبة وهو على ناقته:
"الْقُطْ لِى حصى، فَلَقَطْتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِى كَفِّهِ وَيَقُولُ: أمْثَالَ هؤُلاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ، فَإنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمُ الْغُلُوُّ فى الدِّينِ".
رواه الإمام أحمد والنسائى.
وقال أنس رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدُ اللهُ عَلَيْكُم، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهمْ فَشَدّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ. فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فى الصَّوامِعِ وَالدِّيارِ: رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ".
فنهى النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد فى الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع.
فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم.
قال البخارى: "وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْم الإسْرَافَ فِيه- يَعْنى الوُضُوءَ- وَأَنْ يُجَاوِزوا فِعْلَ النبى صلّى اللهُ تَعَالَى علَيْهِ وَسَلّمَ"، وقَالَ ابْنُ عَمَر رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا:"إسْبَاعُ الْوُضُوءِ: الإنْقَاءُ".
فالفقه كل الفقه الاقتصاد فى الدين، والاعتصام بالسنة.
قال أبى بن كعب رضى الله عنه: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها. وإن اقتصادا فى سبيل وسنة خير من اجتهاد فى خلاف سبيل وسنة. فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم".
قال الشيخ أبو محمد المقدسى فى كتابه ذم الوسواس: "الحمد لله الذى هدانا بنعمه، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبرسالته، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذى جعله علماً على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته، فقال سبحانه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ} إلى قوله: {الّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبىَّ الأمِّىَّ} [الأعراف: 156-157] ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النبى الأُمِّىَّ الّذِى يُؤْمِنْ بِاللهِ وَكِلمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال:{لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيمْاَنهم وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17] . وحذرناً الله عز وجل من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال
سبحانه: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُو فَاتّخِذُوهُ عَدُوا} [فاطر: 6] وقال: {يَا بَنِى آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجنَّةِ} [الأعراف: 27] وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته، وقطعاً للعذر فى متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل، فقال سبحانه:
{وَأَنّ هذَا صِرَاطِى مستقيماً فَاتبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل: {يس وَالْقُرْآنِ الْحكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1- 4] وقال: {وَإِنّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمً} [الحج: 67] وقال: {إِنّكَ لَتهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه فى قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان".
فصل
ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته. وقبلوا قوله، وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام أو صلى كصلاته، فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة. ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فى مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين، أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يده وفيه، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر.
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه، بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه
ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان فى نيته وقصده التى يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله. ومع هذا يقبل قول إبليس فى أنه ما نوى الصلاة، ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحدا ليقين نفسه، حتى تراه متلددا متحيراً، كأنه يعالج شيئاً يجتذبه، أو يجد سيئًا فى باطنه يستخرجه. كل ذلك مبالغة فى طاعة إبليس، وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية فى طاعته.
ثم إنه يقبل قوله فى تعذيب نفسه ويطيعه فى الإضرار بجسده، تارة بالغوص فى الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك. وربما فتح عينيه فى الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزى عن أبى الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس فى الماء مرارا كثيرة وأشك: هل صح لى الغسل أم لا؟ فما ترى فى ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَالصَّبىِّ حَتّى يَبْلُغَ".
ومن ينغمس فى الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون".
قال: وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته فى النية حتى تفونه التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ثم يكذب.
قلت: وحكى لى من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين
دهرا طويلاً، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد ثم إنه حنث فى يمين حلفها ففرق بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها.
وبلغنى عن آخر أنه كان شديد التنطع فى التلفظ بالنية والتقعر فى ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلى، أصلى، مرارا، صلاة كذا وكذا. وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاء لله. فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.
قال: ومنهم من يتوسوس فى إخراج الحرف حتى يكرره مرارا.
قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكبر. قال: وقال لى إنسان منهم: قد عجزت عن قول السلام عليكم، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن، وقد استرحت.
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم فى الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم فى جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق فى اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقة عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير.
{إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] . وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائنا ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان على الصراط المستقيم. ومن شك فى هذا فليس بمسلم. ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته؟ وأى شىء يبتغى العبد غير طريقته؟ ويقول لنفسه: ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هى الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فقل لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعت
سبيله كنت قرينه، وستقولين:{يَا لَيْتَ بَيْنى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقين فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38] . ولينظر أحوال السلف فى متابعتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال: لقد تقدمنى قوم لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته. قلت: هو إبراهيم النخعى.
وقال زين العابدين يوماً لابنه: "يا بنى، اتخذ لى ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإنى رأيت الذباب يسقط على الشىء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال: ما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فتركه".
وكان عمر رضى الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال:"لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب، فإنه قد بلغنى أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبى: ما لك أن تنهى، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست فى زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: صدقت".
ثم ليعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيهم موسوس. ولو كان الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر رضى الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم، وها أنا أذكر ما جاء فى خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلاً:
الفصل الأول: فى النية فى الطهارة والصلاة
النية هى القصد والعزم على فعل الشىء، ومحلها القلب، لا تعلق لها باللسان أصلاً ولذلك لم ينقل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه فى النية لفظ بحال، ولا سمعنا
عنهم ذكر ذلك. وهذه العبارات التى أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركاً لأهل الوسواس، يحبسهم عندها ويعذبهم فيها، ويوقعهم فى طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه فى التلفظ بها، وليست من الصلاة في شىء، وإنما النية قصد فعل الشىء، فكل عازم على فعل فهو ناويه، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها فى حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلى فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل. ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك. ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه. وما كان هكذا فما وجه التعب فى تحصيله؟ وإن شك فى حصول نيته فهو نوع جنون. فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقينى. فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟ ومن قام ليصلى صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك فى ذلك؟ ولو دعاه داع إلى شغل فى تلك الحال لقال: إنى مشتغل أريد صلاة الظهر، ولو قال له قائل فى وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضى؟ لقال: أريد صلاة الظهر مع الإمام، فكيف يشك عاقل فى هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا؟.
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال، فإنه إذا رأى إنساناً جالساً فى الصف فى وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة. وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلى. فإن تقدم بين يدى المأمومين علم أنه يريد إمامتهم، فإن رآه فى الصف علم أنه يريد الائتمام.
قال: فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال، فكيف يجهلها من نفسه، مع اطلاعه هو على باطنه؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له فى جحد العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقيناً. ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة، وعن طريق الصحابة.
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها، والموجودة لا يمكن إيجادها؛ لأن من شرط إيجاد
الشىء كونه معدوما، فإن إيجاد الموجود محال، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شىء، لو وقف ألف عام.
قال: ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه، حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعاً وأدركه. فمن لم يحصل النية فى الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟،
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلاً أو عسيراً، فإن كان سهلاً فكيف يعسره؟ وإن كان عسيراً فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواه؟ وكيف خفى ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم، والتابعين ومن بعدهم؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدى إلى خير؟ وكيف يقول فى صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس؟ أهى ناقصة عنده مفضولة؟ أم هى التامة الفاضلة؟ فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم؟.
فإن قال: هذا مرض بليت به، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة، ونودى عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر؛ لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته، وبين لك عداوته، وأوضح لك الطريق، فمالك عذر ولا حجة فى ترك السنة والقبول من الشيطان.
قلت: قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتى بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلى صلاة الظهر فريضة الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات، مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحنى جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرح بالتكبير. كأنه يكبر على العدو. ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش: هل فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك، لما ظفر به، إلا أن يجاهر بالكذب البحت. فلو كان
فى هذا خير لسبقونا إليه، ولدلونا عليه. فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه، وإن كان الذى كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال: ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله فى التحيات: إت إت، التحى التحى، وفى السلام: أس أس. وقوله فى التكبير: أكككبر ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التى هى من أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه. وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه، وتغرير الجاهل بالاقتداء به؛ فإنه يقول: لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه، وأساء الظن بما جاءت به السنة، وأنه لا يكفى وحده، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر، عقوبة له، وإقامته على الجهل، ورضاه بالخبل فى العقل، كما قال أبو حامد الغزالى وغيره:"الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خبل فى العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب".
فهذه نحو خمسة عشر مفسدة فى الوسواس، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير.
وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّ الشيطان قَدْ حَالَ بَيْنِى وَبَيْنَ صَلاتِى يُلَبِّسُهَا عَلَىَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى علَيْهِ وَسلّم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَاركَ ثَلاثاً، فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَنِّى".
فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه، نعوذ بالله عز وجل منه.
فصل
ومن ذلك الإسراف فى ماء الوضوء والغسل.
وقد روى أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمرو: "أنّ رَسُولَ الله صلّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسّلَم مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضّأُ، فَقالَ: لا تُسْرِفْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَفِى المَاءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ".
وفى جامع الترمذى من حديث أبى بن كعب: أَنّ النّبىَّ صلى اللهُ تَعَالَى عليهِ وسلّمَ قَالَ: "إِنّ لِلْوُضُوءِ شَيْطاناً يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ المَاءِ".
وفى المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جَاءَ أَعْرَابِى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلّم يَسْأَلُهُ عَن الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلاثاً ثلاثاً، وَقالَ: هذا الْوُضُوءُ فَمنْ زَادَ عَلَى هذاَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدّى وَظَلَمَ".
وفى كتاب الشافى لأبى بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت: قَالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله تَعَالَى عَلْيهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ مُد، والْغُسْلِ صَاعٌ. وَسَيَأْتِى قَوْمٌ يَسْتَقِلُّونَ ذلِكَ، فَأُولِئِكَ خِلافُ أَهْل سُنَّتى، وَالآخِذ بِسُنتِى فى حَضْرَةِ الْقُدُسِ مُنتَزه أَهْلِ الجنَّةِ".
وفى سنن الأثرم من حديث سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال: "يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ، وَمِنَ الْغَسْلِ مِنَ الجنَابَةِ الصَّاعُ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِى، فَغَضِبَ جَابِرٌ حَتّى تَرَبّدَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَكْثَرُ شَعْراً".
وقد رواه الإمام أحمد فى مسنده مرفوعاً. ولفظه عن جابر قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْغَسْلِ الصَّاعُ، وَمِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ".
وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها: "أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِىَ وَالنَّبىُّ صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيباً مِنْ ذلِكَ".
وفى سنن النسائى عن عبيد بن عمير: "أَنّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُنى أَغْتَسِلُ
أنَا وَرَسُولُ اللهِ مِنْ هذَا، فَإِذَا تَوْرٌ مَوْضُوعٌ مِثْلُ الصَّاعِ أوْ دُونَهُ - نَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعاً، فَأَفِيضُ بِيَدَىَّ عَلَى رَأْسِى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَمَا أَنْقُضُ لِى شَعْرًا".
وفى سنن أبى داود والنسائى عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "تَوَضّأَ فَأُتِىَ بمِاءٍ فِى إناء قَدْرِ ثُلُثَىِ المُدَّ".
وقال عبد الرحمن بن عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "إن لى ركوة أو قدحاً، ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، أبول ثم أتوضأ منه، وأفضل منه فضلاً". قال عبد الرحمن: "فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال: وأنا يكفينى مثل ذلك". قال عبد الرحمن: "فذكرت ذلك لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال: وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، رواه الأثرم فى سننه.
وقال إبراهيم النخعى: "كانوا أشد استيفاء للماء منكم، وكانوا يرون أن ربع المد يجزئ من الوضوء".
وهذا مبالغة عظيمة، فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفاً بالدمشقى.
وفى "الصحيحين" عن أنس قال: "كَانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلم يَتَوَضَّأُ بِالمُد، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَة أمْدَاد".
وفى "صحيح مسلم" عن سفينة قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عليْهِ وَسلم يَغْسِلُهُ الصَّاعُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَيُوَضئُهُ المُدُّ".
وقال إبراهيم النخعى: "إنى لأتوضأ من كوز الحب مرتين".
وتوضأ القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل.
وقال محمد بن عجلان: "الفقه فى دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء".
وقال الإمام أحمد: "كان يقال: من قلة فقه الرجل ولعه بالماء" وقال الميمونى: "كنت أتوضأ بماء كثير: فقال لى أحمد: يا أبا الحسن، أترضى أن تكون كذا؟ فتركته".
وقال عبد الله بن أحمد: "قلت لأبى: إنى لأكثر الوضوء، فنهانى عن ذلك، وقال يا بنى، يقال: إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان. قال لى ذلك غير مرة، ينهانى عن كثرة صب الماء، وقال لى: أقلل من هذا الماء يا بنى".
وقال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد: نزيد على ثلاث فى الوضوء؟ فقال: لا والله إلا رجل مبتلى".
وقال أسود بن سالم، الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد:"كنت مبتلى بالوضوء، فنزلت دجلة أتوضأ، فسمعت هاتفاً يقول: يا أسود، يحيى عن سعيد: الوضوء ثلاث، ما كان أكثرلم يرفع، فالتفت فلم أر أحدا".
وقد روى أبو داود فى سننه من حديث عبد الله بن مُغفَّل قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "سَيَكُونُ فى هذِهِ الأُمَّةِ قَوْمَ يَعْتَدُونَ فى الطُهورِ وَالدُّعَاءِ".
فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] . وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت الفرض عنه، فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء.
ومن مفاسد الوسواس: أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكاً لغيره كماء الحمام، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته، ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشئ كثير جداً يتضرر به فى البرزخ ويوم القيامة.
فصل
ومن ذلك الوسواس فى انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه.
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
" إذَا وَجَدَ أَحَدُ كُمْ فى بَطْنِه شَيْئاً فَأَشْكلَ عَلَيْهِ: أَخْرَجَ مِنْهُ شَئْ أَمْ لا؟ فَلَا يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِد حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجَدَ رِيحاً".
وفى الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال:
"شكِىَ إِلى رَسُولِ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَجِدُ الشّئْ فى الصَّلَاةِ، قَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجَد رِيحاً".
وفى المسند وسنن أبى داود عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:
"إنَّ الشّيْطَانَ يِأْتِى أَحَدَكُمْ وَهُوَ فى الصَّلَاةِ، فَيَأخُذُ بِشَعْرَةٍ مِنْ دُبُرِهِ فَيُمِدُّهَا فَيُرَى أَنّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجَدَ رِيحاً" ولفظ أبى داود: "إِذَا أَتَى الشّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فقَالَ لَهُ: إِنّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ لَهُ: كَذَبْتَ، إِلا مَا وَجَدَ ريحِاً بِأَنْفِه أوْ سَمِعَ صَوْتاً بِأُذُنِهِ".
فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فكيف إذا كان كذبه معلوماً متيقناً، كقوله للموسوس: لم تفعل كذا، وقد فعله؟
قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال، ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال: هذا من الماء الذى نضحتا، لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفى، أو الحكم بن سفيان قال:
"كانَ النَّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وسلم إِذا بَالَ تَوَضأَ وينتضح".
وفى رواية: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ".
وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله.
وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال، قال:"ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه".
وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال: "اله عنه". فأعاد عليه المسألة فقال: "أتستدره لا أب لك، أله عنه".
فصل
ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء: السلت، والفطر، والنحنحة، والمشى، والقفز، والحبل، والتفقد، والجور، والحشو، والعصابة، والدرجة.
أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه، على أنه قد روى فى ذلك حديث غريب لا يثبت، ففى المسند وسنن ابن ماجه عن عيسى بن يزداد عن أبيه قال: قال: رَسُولُ اللهِ تعالى عليه وسلَّم: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمْسَحْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".
وقال جابر بن زيد: "إِذَا بُلْتَ فَامْسَح أَسْفَلَ ذَكَرِكَ فإِنَّهُ يَنْقَطِعُ". رواه سعيد عنه.
قالوا: ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء.
قالوا: وإن احتاج إلى مشى خطوات لذلك ففعل فقد أحسن، والنحنحة ليستخرج الفضلة. وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئاً ثم يجلس بسرعة، والحبل يتخذ بعضهم حبلاً يتعلق به حتى يكاد يرتفع، ثم ينخرط منه حتى يقعد، والتفقد: يمسك الذكر ثم ينظر فى المخرج هل بقى فيه شىء أم لا. والوجور: يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء: والحشو: يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها. والعصابة: يعصبه بخرقة، والدرجة يصعد فى سلم قليلا ثم ينزل بسرعة، والمشى يمشى خطوات ثم يعيد الاستجمار.
قال شيخنا: "وذلك كله وسواس وبدعة"، فراجعته فى السلت والنتر فلم يره، وقال:"لم يصح الحديث"، قال:"والبول كاللبن فى الضرع إن تركته قر وإن حلبته در".
قال: "ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفى منه من لها عنه".
قال: "ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه"، وقد قال اليهودى لسلمان:"لقد علمكم نبيكم كل شىء حتى الخرأة، فقال: أجل"، فأين علمنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أو شيئاً منه؟ بلى علم المستحاضة أن تتلجم، وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ، ويشد عليه خرقة.
فصل
ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء.
فمن ذلك المشى حافياً فى الطرقات، ثم يصلى ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود فى
سننه: عن امرأة من بنى عبد الأشهل قالت:
"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَناَ طَرِيقاَ إِلى المَسْجِدِ مُنْتِنَةً، فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا تَطهَّرْنَا؟ قَال: أَلَيْسَ بَعْدَهَا طَرِيقٌ أَطْيَبُ مِنْهَا؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهذِهِ بهذِهِ".
وقال عبد الله بن مسعود: "كُنَّا لا نَتَوَضّأُ مِنْ مَوْطِىٍء".
وعن على رضى الله عنه: أنه خاص فى طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى، ولم يغسل رجليه.
وسئل ابن عباس رضى الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: "إن كانت يابسة فليس بشىء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه".
وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد. فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمى من شىء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطىء الردئ، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- أو قال: النظيف- فيكون ذلك طهوراً، فدخلنا المسجد جميعاً فصلينا.
وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر يمشى بمنى فى الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلى فيه، ولا يغسل قدميه".
وقال عمران بن حُدير: كنت أمشى مع أبى مِجْلز إلى الجمعة، وفى الطريق عذرات يابسة، فجعل يتخطاهن ويقول: ما هذه إلا سوادات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل قدميه".
وقال عاصم الأحول: "أتينا أبا العالية، فدعونا بوضوء، فقال: ما لكم؟ ألستم متوضئين؟ قلنا:
بلى، ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها. قال: هل وطئتم على شىء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا. فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجفّ، فينسفها الريح فى رؤوسكم ولحاكم"؟
فصل
ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض مطلقاً وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة. نص عليه أحمد. واختاره المحققون من أصحابه قال أبو البركات: ورواية: "أَجْزَأَ الدَّلْكُ مُطْلَقاً".
هى الصحيحة عندى لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِذَا وطِىءَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِه الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ"، وفى لفظ:" إِذَا وَطِىءَ أَحَدُكُمُ الأَذَى بخُفّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ". رواهما أبو داود.
وروى أبو سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالهُمْ فلما انْصَرَفَ قَالَ: لِمَ خَلَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا، فقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتانى فَأَخْبَرَنى أَنَّ بهِماَ خَبَثاً، فإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَقلِبْ نَعْلَيهِ ثُمَّ لِيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى خَبَثاً فَلْيَمْسَحْهُ بِالأرْضِ ثُمَّ لِيُصَل فِيهِمَا". رواه الإمام أحمد.
وتأويل ذلك: على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح، لوجوه:
أحدها: أن ذلك لا يسمى خبثاً.
الثانى: أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها.
الثالث: أنه لا تخلع النعل لذلك فى الصلاة، فإنه عمل لغير حاجة، فأقل أحواله الكراهة.
الرابع: أن الدارقطنى روى فى سننه فى حديث الخلع من رواية ابن عباس: أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: "إنّ جِبْرِيلَ أَتَانِى، فَأَخْبَرَنِى أَنّ فِيهِمَا دَمَ حَلَمَةٍ" والحَلَمْ كبار القراد.
ولأنه بمحل يتكرر ملاقاة النجاسة غالبا، فأجزأ مسحه بالجامد، كمحل الاستجمار، بل أولى. فإن محل الاستجمار يلاقى النجاسة فى اليوم مرتين أو ثلاثاً.
فصل
وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة:"إنى أطيل ذيلى وأمشى فى المكان القذر. فقالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يطهره ما بعده" رواه أحمد وأبو داود.
وقد رخص النبى عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخى ذيلها ذراعاً، ومعلوم أنه يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض.
فصل
ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين: الصلاة فى النعال. وهى سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، فعلا منه وأمرا. "كانَ يُصَلّى فى نَعْلَيْهِ"، متفق عليه.
وعن شداد بن أوس قال: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى اللهُ تَعَالى عليه وآله وسلم: "خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فى خِفَافِهِمْ وَلا نِعَالِهمْ". رواه أبو داود.
وقيل للإمام أحمد: أيصلى الرجل فى نعليه؟ فقال: إى والله.
وترى أهل الوسواس إذا بلى أحدهم بصلاة الجنازة فى نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلى فيهما.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى عَلَى نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَليَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل".
فصل
ومن ذلك: أن سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الصلاة حيث كان، وفى أى مكان كان، سوى ما نهى عنه من المقبرة والحمام وأعطان الإبل، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"جُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُورًا، فَحَيْثُمَا أدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتىِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَل".
وكان يصلى فى مرابض الغنم، وأمر بذلك، ولم يشترط حائلا.
قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم، إلا الشافعي". فإنه قال: "أكره ذلك، إلا إذا كان سليماً من أبعارها". وقال: أبو هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلا تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِلِ". رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الَغْنمِ، وَلَا تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِل، أَوْ مَبَارِكِ الإبِل".
وفى المسند أيضاً، من حديث عبد الله بن المغفل قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الغنم وَلَا تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِل، فإنّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ".
وفى الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأسيد بن الحضير وذى الغرة، كلهم رووا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:"صَلوا فى مَرَابِضِ الْغَنمِ".
وفى بعض ألفاظ الحديث: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنمِ، فَإِنَّ فِيهاَ بَرَكَةً".
وقال: "الأرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلا المَقْبَرَةُ وَالْحَمّامُ". رواه أهل السنن كلهم، إلا النسائى.
فأين هذا الهدىُ من فعل من لا يصلى إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير ويضع عليها المنديل؟ ولا يمشى على الحصير ولا على البساط، بل يمشى عليها نقرا كالعصفور. فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود:"لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة ضلالة".
وقد صلى النبى عليه الصلاة والسلام على حصير قد اسودّ من طول ما لبس، فنضح له بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة، وعلى الحصى تارة، وفى الطين تارة، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه.
وقال ابن عمر: "كانَتِ الكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فى المَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ".
رواه البخارى، ولم يقل "وتبول" وهو عند أبى داود بإسناد صحيح بهذه الزيادة.
فصل
ومن ذلك: أن الناس فى عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يأتون المساجد حفاة فى الطين وغيره.
قال يحيى بن وثاب: "قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ ثم يخرج إلى المسجد حافياً؟ قال: لا بأس به".
وقال كميل بن زياد: "رأيت عليا رضى الله عنه يخوض طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه".
قال إبراهيم النخعى: "كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد فيصلون".
وقال يحيى بن وثاب: "كانوا يمشون فى ماء المطر وينتضح عليهم". رواها سعيد بن منصور فى سننه.
وقال ابن المنذر: "وطئ ابن عمر بمنى وهو حاف فى ماء وطين ثم صلى ولم يتوضأ". قال: "وممن رأى ذلك علقمة، والأسود، وعبد الله بن مغفل وسعيد بن المسيب، والشعبى، والإمام أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وأحد الوجهين للشافعية"، قال:"وهو قول عامة أهل العلم، ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة منتفية بالشرع، كما فى أطعمة الكفار وثيابهم، وثياب الفساق شربة المسكر وغيرهم".
قال أبو البركات بن تيمية: "وهذا كله يقوى طهارة الأرض بالجفاف، لأن الإنسان فى العادة لا يزال يشاهد النجاسات فى بقعة من طرقاته التى يكثر فيها تردده إلى سوقه ومسجده وغيرهما، فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها للزمه تجنب ما شاهده من بقاع النجاسات بعد ذهاب أثرها، ولما جاز له التحفى بعد ذلك، وقد علم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك. ويعضده أمره عليه الصلاة والسلام بمسح النعلين بالأرض لمن أتى المسجد ورأى فيهما خبثاً، ولو تنجست الأرض بذلك نجاسة لا تطهر بالجفاف لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك، لأنه يسلكه الحافى وغيره".
قلت: وهذا اختيار شيخنا رحمه الله.
وقال أبو قلابة: "جفاف الأرض طهورها".
فصل
ومن ذلك: أن النبى عليه الصلاة والسلام سئل عن المذى، فأمر بالوضوء منه، فقال:
"كَيْفَ تَرَى بمَا أَصَابَ ثَوْبى مِنْهُ؟ قَالَ: تَأْخُذُ كَفا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضحُ بِه حَيْثُ تَرَى أَنّهُ أصَابَهُ". رواه أحمد والترمذى والنسائى.
فجوّز نضح ما أصابه المذى، كما أمر بنضح بول الغلام.
قال شيخنا: وهذا هو الصواب، لأن هذه نجاسة يشق الأحتراز منها، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب، فهى أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الخف والحذاء.
فصل
ومن ذلك: إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من جواز الاستجمار بالأحجار فى زمن الشتاء والصيف، مع أن المحل يعرق، فينضح على الثوب ولم يأمر بغسله من ذلك.
ومن ذلك: أنه يعفى عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع، فى إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز.
قال الوليد بن مسلم: "قلت للأوزاعى: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه، كالبغل والحمار والفرس؟ فقال: قد كانوا يبتلون بذلك فى مغازيهم، فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب".
ومن ذلك: نص أحمد على أن الوَدْىَ يعفى عن يسيره كالمذى، وكذلك يعفى عن يسير القئ نص عليه أحمد.
وقال شيخنا: "لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المِدَّة والقيح والصديد"، قال:"ولم يقم دليل على نجاسته".
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر، حكاه أبو البركات. وكان ابن عمر رضى الله عنهما لا ينصرف منه فى الصلاة، وينصرف من الدم. وعن الحسن نحوه.
وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب؟ فقال: "ليس بشىء، إنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح".
وقال إسحاق بن راهويه: "كل ما كان سوى الدم فهو عندى مثل العرق المنتن وشبهه، ولا يوجب وضوءا".
وسئل أحمد رحمه الله: الدم والقيح عندك سواء؟ فقال: "لا، الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". وقال مرة: "القيح والصديد والمِدة عندى أسهل من الدم".
ومن ذلك: ما قاله أبو حنيفة: "أنه لو وقع بعر الفأر فى حنطة فطحنت، أو فى دهن مائع جاز أكله ما لم يتغير، لأنه لا يمكن صونه عنه". قال: "فلو وقع فى الماء نجسه".
وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى جواز أكل الحنطة التى أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل. قال: "لأن السلف لم يحترزوا من ذلك".
وقالت عائشة رضى الله عنها: "كُنَّا نَأكُلُ اللَّحْمَ، وَالدَّمُ خُطُوطٌ عَلَى القِدْرِ".
وقد أباح الله عز وجل صيد الكلب وأطلق، ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره، ولا أمر به رسوله، ولا أفتى به أحد من الصحابة.
ومن ذلك: ما أفتى به عبد الله بن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب وطاووس وسالم، ومجاهد، والشعبى، وإبراهيم النخعى، والزهرى، ويحيى بن سعيد الأنصارى، والحكم، والأوزاعى، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور والإمام أحمد فى أصح الروايتين، وغيرهم:"أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالماً بها، أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها، لكنه عجز عن إزالتها أن صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه".
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "كانَ يُصَلى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ ابْنَتِه زَيْنَبَ، فإذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا" متفق عليه.
ولأبى داود: "أَنَّ ذلِكَ كانَ فى إحْدَى صَلَاتَىِ العشى".
وهو دليل على جواز الصلاة فى ثياب المربية والمرضع والحائض والصبى، ما لم يتحقق نجاستها.
وقال أبو هريرة: "كُنَّا مَع النَّبى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلَم فى صَلَاةِ العِشَاءِ فَلمَّا سَجَدَ وَثَبَ الَحْسَنُ وَالْحُسَينُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَلمَّا رَفعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدَه مِنْ خَلْفِه أَخْذًا رَفِيقاً وَوَضَعَهُمَا عَلَى الأرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ". رواه الإمام أحمد.
وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: عن أبيه: "خَرَج عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليهِ وآله وسلم وَهُوَ حامِلٌ الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانى صَلَاتِه سَجْدَة أَطَالهَا. فَلمَّا قضى الصَّلَاةَ قَالَ: إنَّ ابْنِى ارْتحَلَنى فَكرهْتُ أَنْ أُعْجِلَهُ". رواه أحمد والنسائى.
وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها: "كانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلَم يُصَلّى بِاللَّيْلِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِه، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَىَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ". رواه أبو داود.
وقالت: " كُنْتَ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبِيتُ فى الشَّعَارِ الوَاحِدِ، وَأَنَا طَامِثٌ- حَائِضٌ- فَإِنْ أصَابَهُ مِنى شَىْ غَسَلَ مَكَانَهُ، وَلَمَ يَعْدُهْ، وَصَلى فِيهِ" رواه أبو داود.
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلبس الثياب التى نسجها المشركون ويصلى فيها.
وتقدم قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وهَمّه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تصبغ بالبول، وقول أبى له:"مالك أن تنهى عنها، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لبسها، ولبست فى زمانه؟ ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله. قال: صدقت".
قلت: وعلى قياس ذلك: الجوخ، بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب، فتجنبه من باب الوسواس.
ولما قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجابية استعار ثوباً من نصرانى فلبسه، حتى خاطوا له قميصه وغسلوه. وتوضأ من نجرة نصرانية.
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضى الله عنهما فى بيت نصرانية. فقال لها أبو الدرداء: "هل فى بيتك مكان طاهر فنصلى فيه؟ " فقالت: طهرا قلوبكما، ثم صليا اين أحببتما. فقال له سلمان:"خذها من غير فقيه".
فصل
ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأوانى المكشوفة ولا يسألون: هل أصابتها نجاسة، أو وردها كلب أو سبع؟ ففى الموطإ عن يحيى ابن سعيد أن عمر رضى الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو:"يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ "، فقال عمر رضى الله عنه:"لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا".
وفى سنن ابن ماجه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "سُئِلَ: أَنَتَوَضّأُ بمَا أفْضَلَتِ الُحُمرُ؟ قَالَ: نَعمْ، وَبَما أَفْضَلَتِ السبَاعُ".
ومن ذلك: أنه لو سقط عليه شئ من ميزاب، لا يدرى هل هو أو بول. لم يجب عليه أن يسأل عنه. فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك.
ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً، فسقط عليه شئ من ميزاب، ومعه صاحب له، فقال: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر رضى الله عنه: "يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى"، ذكره أحمد.
قال شيخنا: "وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو. واحتج بقصة عمر رضى الله عنه فى الميزاب وهذا هو الفقه، فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هى على العفو. فما عفا الله عنه فلا ينبغى البحث عنه".
فصل
ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم، ولا يعيد.
قال البخارى: قال الحسن رحمه الله: "مازال المسلمون يصلون فى جراحاتهم".
قال: "وعصر ابن عمر رضى الله عنهما بثرة، فخرج منها دم فلم يتوضأ، وبصق ابن أبى أو فى دما ومضى فى صلاته. وصلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجرحه يثعب دما".
ومن ذلك: أن المراضع مازلن من عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى الآن يصلين فى ثيابهن، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك، لأن ريق الرضيع مطهر لقمه لأجل الحاجة. كما أن ريق الهرة مطهر لفمها.
وقد قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم:
"إنّهَا لَيْسَتْ بِنَجِس، إِنّهَا مِنَ الطّوَّافينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ وَكَانَ يُصْغِى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ".
وكذلك فعل أبو قتادة. مع العلم اليقينى أنها تأكل الفأر والحشرات، والعلم القطعى أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعاً.
ومن ذلك: أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم، وقد أصابها الدم. وكانوا يمسحونها، ويجتزئون بذلك.
وعلى قياس هذا: مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة، فإنه يطهرها.
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها.
ومن ذلك: أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس، ثم تجففه الشمس، فينشر عليه الثوب الطاهر. فقال: لا بأس به. وهذا كقول أبى حنيفة: "إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس". وهو وجه لأصحاب أحمد، حتى إنه يجوز التيمم بها. وحديث ابن عمر رضى الله عنهما كالنص فى ذلك وهو قوله:"كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول فى المسجد ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك".
وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس.
ومن ذلك: أن الذى دلت عليه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآثار أصحابه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان يسيراً.
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث. وبه أفتى عطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والأوزاعى، وسفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدى، واختاره ابن المنذر. وبه قال أهل الظاهر. ونص عليه أحمد فى إحدى روايتيه. وإختاره جماعة من أصحابنا، منهم ابن عقيل فى مفرداته وشيخنا أبو العباس، وشيخه ابن أبى عمر.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"المَاء لا يُنَجسُهُ شَئ" رواه الإمام أحمد.
وفى المسند والسنن عن أبى سعيد قال: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَوَضّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِىَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيضُ ولُحُومُ الكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَال: المَاءُ طَهُورٌ، لا يُنَجسُهُ شئ".
قال الترمذى: "هذا حديث حسن". وقال الإمام أحمد: "حديث بئر بضاعة صحيح".
وفى لفظ للإمام أحمد: "إِنّهُ يُسْتَقَىِ لَكَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِىَ بِئْر يُطْرَحُ فِيهَا حَايِضُ النسَاءِ، وَلَحْمُ الْكِلَابِ، وَعَذَر النَّاسِ؟ فَقَالَ رَسولُ اللهِ تعالى عليهِ وَسلم: إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجسُهُ شَىْ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى أمامة مرفوعاً:
"المَاءُ لا يُنَجسُهُ شَىْ إِلاّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، أَوْ طَعْمِهِ، أَوْ لَوْنِه".
وفيها من حديث أبى سعيد الحدرى: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الّتِى بَيْنَ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنِ الطّهَارَةِ بهَا؟ فَقالَ: لَها مَا حَمَلَتْ فى بُطُونهَا وَلنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ".
وإن كان فى إسناد هذين الحديثين مقال. فإنا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد.
وقال البخارى: قال الزهرى: "لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون".
وقال الزهرى أيضاً: "إذا ولغ الكلب فى الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم".
قال سفيان: "هذا الفقه بعينه"، يقول الله تعالى:
" {فَلَمْ تجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] . وهذا ماء، وفى النفس منه شىء يتوضأ به ثم يتيمم" ونص أحمد رحمه الله فى جب زيت ولغ فيه كلب، فقال:"يؤكل".
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يجيب من دعاه، فيأكل من طعامه وأضافه يهودى بخبز شعير وإهالة سنخة. وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب.
وشرط عمر رضى الله تعالى عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وقال:"أطعموهم مما تأكلون". وقد أحل الله عز وجل ذلك فى كتابه.
ولما قدم عمر رضى الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه، فقال:"أين هو؟ " قالوا: فى الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعلى رضى الله عنه:"اذهب بالناس، فذهب على بالمسلمين". فدخلوا وأكلوا، وجعل على رضى الله عنه: ينظر إلى الصور، وقال:"ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل؟ ".
وكان النبى عليه السلام يقبل ابنى ابنته فى أفواههما، ويشرب من موضع فم عائشة رضى الله عنها، ويتعرق العرق، فيضع فاه على موضع فيها، وهى حائض.
وحمل أبو بكر رضى الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه.
وأتى رسول الله عليه السلام بصبى، فوضعه فى حجره، فبال عليه فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله.
وكان يؤتى بالصبيان فيضعهم فى حجره يبرك عليهم، ويدعو لهم.
وهذا الذى ذكرناه قليل من كثير من السنة، ومن له اطلاع على ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لا يخفى عليه حقيقة الحال.
وقد روى الإمام أحمد فى مسنده عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "بُعِثْتُ بِالْحنِيفِيَّةِ السمْحِةِ".
فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة. فهى حنيفية فى التوحيد، سمحة فى العمل. وضد الأمرين: الشرك، وتحريم الحلال، وهما اللذان ذكرهما النبى صلى الله تعالى عليه وآله فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:
" إِنى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ وَإِنّهُمْ أتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينْهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بى مَا لَمْ أُنَزلْ بِهِ سُلْطَاناً".
فالشرك وتحريم الحلال قرينان. وهما اللذان عابهما الله تعالى فى كتابه على المشركين فى سورة الأنعام والأعراف.
وقد ذم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتنطعين فى الدين، وأخبر بمهلكهم حيث يقول:
"أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ". وقال ابن أبى شيبة: حدثنا أبو أسامة عن مسعر قال: "أخرج إلى معن بن عبد الرحمن كتاباً، وحلف بالله أنه خط أبيه، فإذا فيه: قال عبد الله: والله الذى لا إله غيره ما رأيت أحداً كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا رأيت بعده أحداً أشد خوفاً عليهم من أبى بكر، وإنى لأظن عمر رضى الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفاً عليهم".
وكان عليه الصلاة والسلام يبغض المتعمقين، حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال. قال:"لَوْ تَأَخّرَ الهِلالُ لَوَاصَلتُ وِصالا يَدَعُ المُتَعَمقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، كالمَنكلِ بهِمْ".
وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا، اقتداء بنبيهم صلى الله تعالى وسلم. قال الله تعالى:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلفِينَ} [ص: 86] . وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
وقال أنس رضى الله عنه: "كنا عند عمر رضى الله عنه، فسمعته يقول: نهينا عن التكلف".
وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها. من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
وقال مالك: بلغنى أن عمر بن الخطاب كان يقول: "سُنَّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالاً".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " يَحْمِلُ هذا العِلُمَ مِنْ كُل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ".
فأخبر أن الغالبين يحرفون ما جاء به. والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه. والجاهلون يتأولونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة. فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفى عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء.
فصل
ومن ذلك الوسوسة فى مخارج الحروف والتنطع فيها.
ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم:
قال أبو الفرج بن الجوزى: "قد لبس إبليس على بعض المصلين فى مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد، الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة. وتارة يلبس عليه فى تحقيق التشديد فى إخراج ضاد "المغضوب" قال: "ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده. والمراد تحقيق الحرف حسب. وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة فى الحروف عن فهم التلاوة. وكل هذه الوساوس من إبليس".
وقال محمد بن قتيبة فى مشكل القرآن: "وقد كان الناس يقرؤون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا فى كثير من الحروف. وذلوا فأخلواً. ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين. فلم أر فيمن تتبعت فى وجوه قراءته أكثر تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل فى الحروف ما يدعه فى نظيره، ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار فى كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه فى قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه فى المد والهمز والإشباع، وإفحاشه فى الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى، وتضييقه ما فسحه الله. ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها. ففى أى موضع يستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟، وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ فى صلاته بحرفه، أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين. منهم بشر بن الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم. وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها. فإذا رأوه قد اختلف فى أم الكتاب عشرا. وفى مائة آية شهراً، وفى السبع الطوال حولا. ورأوه
عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبين، توهموا أن ذلك لفضله فى القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت سهلة رسلة".
وقال الخلال فى الجامع: عن أبى عبد الله، إنه قال:"لا أحب قراءة فلان"، يعنى هذا الذى أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يعجب من قراءته، وقال:"لا تعجبنى. فإن كان رجل يقبل منك فانهه".
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها.
وقال الفضل بن زياد: "إن رجلاً قال لأبى عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام، والكسر. ليس يعرف فى لغة من لغات العرب".
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: "أكره الكسر الشديد والإضجاع".
وقال فى موضع آخر: "إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به".
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: "أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ "، قال:"أكرهه أشد كراهة، إنما هى قراءة محدثة". وكرهها شديداً حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: "أكرهها أشد الكراهة"، قيل له: ما تكره منها؟ قال: "هى قراءة محدثة، ما قرأ بها أحد".
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها. وقال: "كرهها ابن إدريس"، وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدى. وقال: "ما أدرى، إيش هذه القراءة؟ " ثم قال: "وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب".
وقال عبد الرحمن بن مهدى "لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة".
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد. وعنه رواية أخرى: "أنه لا يعيد".
والمقصود. أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو فى النطق بالحرف.
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة فى إخراج الحروف ليس من سنته.
فصل
فى الجواب عما احتج به أهل الوسواس
أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواساً.
قلنا: سموه ما شئتم، فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره، وما كان عليه أصحابه، أو مخالف؟
فإن زعمتم أنه موافق، فبهت وكذب صريح. فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له، فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطاً. وهذا نظير من ارتكب محظوراً وسماه بغير اسمه، كما يسمى الخمر بغير اسمها، والربا معاملة، والتحليل الذى لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله: نكاحاً، ونقر الصلاة الذى أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل، وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه: تخفيفاً. فهكذا تسمية الغلو فى الدين والتنطع: احتياطاً.
وينبغى أن يعلم أن الاحتياط الذى ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه الاحتياط فى موافقة السنة، وترك مخالفتها. فالاحتياط كل الاحتياط فى ذلك، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة، بل ترك حقيقة الاحتياط فى ذلك.
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق فى موارد النزاع الذى اختلف فيه الأئمة، كطلاق
لمكره، وطلاق السكران، والبتة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية، والطلاق المؤجل المعلوم مجئ أجله، واليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتى تقليدا بغير برهان، وقال: ذلك احتياط للفروج. فقد ترك معنى الاحتياط. فإنه يحرم الفرج على هذا، ويبيحه لغيره. فأين الاحتياط هاهنا؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتى برهان من الله ورسوله على ذلك، لكان قد عمل بالاحتياط. ونص على مثل ذلك الإمام أحمد فى طلاق السكران.
فقال فى رواية أبى طالب: "والذى لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة. والذى يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها الله عليه وأحلها لغيره". فهذا خير من هذا، فلا يمكن الاحتياط فى وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة. أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه.
قال شيخنا: "والاحتياط حسن، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة. فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط"، وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِه وَعِرْضِهِ" وقوله: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" وقوله: "الإِثمُ مَا حَاكَ فى الصَّدْرِ".
فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس.
فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل، والحلال بالحرام، على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين، أو تتعارض الأمارتان عنده، فلا يترجح فى ظنه احداها، فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلى.
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة؟ هذا أحسن أحواله، والواضح الجلى هو اتباع طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما سنه للأمة قولا وعملا. فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح. فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك؟ إذ قد بينت بالسنة أنه تنطع وغلو، فالمصير إليه ترك للسنة، وأخذ بالبدعة، وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأخذ بما يكرهه ويبغضه، ولا يتقرب به إليه البتة، فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء
نفسه. فهذا هو الذى يحيك فى الصدر ويتردد فى القلب، وهو حوازّ القلوب.
وأما التمرة التى ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكلها، وقال:"أَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ".
فذلك من باب اتقاء الشبهات، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام، فإن التمرة كانت قد وجدها فى بيته، وكان يؤتى بتمر الصدقة، يقسمه على من تحل له الصدقة، ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله، فكان فى بيته النوعان، فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه الصلاة والسلام، من أى النوعين هى؟ فأمسك عن أكلها. فهذا الحديث أصل فى الورع واتقاء الشبهات، فما لأهل الوسواس وما له؟.
وأما قولكم: إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا: إنها ثلاث احتياطاً، فنعم، هذا قول مالك، فكان ماذا؟ أفحجة هو على الشافعى، وأبى حنيفة وأحمد، وعلى كل من خالفه فى هذه المسألة؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله، وهذا القول مما يحتج له، لا مما يحتج به، على أن هذا ليس من باب الوسواس فى شىء وإنما حجة هذا القول: أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة. والرجعة ترفع ذلك التحريم، فهو يقول: قد تيقن سبب التحريم، وهو الطلاق، وشك فى رفعه بالرجعة، فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة، ويحتمل أن يكون ثلاثاً، فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم، وشك فيما يرفعه.
والجمهور يقولون: النكاح متيقن. والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه، فإنه يحتمل أن يكون المأتى به رجعياً فلا يزيل النكاح. ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله، فقد تيقنا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله. فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن ما يرفعه.
فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشك فى التحليل، قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا تجوزون وطأها، ويكون رجعة، إذا نوى به الرجعة.
فإن قلتم: بل هى حرام، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء. قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضاً.
فإنه إنما تيقن تحريماً يزول بالرجعة، ولم يتيقن تحريماً لا تؤثر فيه الرجعة.
وليس المقصود تقرير هذه المسألة. والمقصود أنه لا راحة فى ذلك لأهل الوسواس.
فصل
وأما من حلف بالطلاق: أن فى هذه اللوزة حبتين، ونحو ذلك، مما لا يتيقنه الحالف، فبان كما حلف عليه.
فهذا لا يحنث عند الأكثرين. وكذلك لو لم يتبين الحال استمر مجهولا. فإن النكاح ثابت بيقين، فلا يزيله بالشك.
ولمالك رحمه الله أصل نازعه فيه غيره. وهو إيقاع الطلاق بالشك فى الحنث، وإيقاعه بالشك فى عدده كما تقدم. وإيقاعه بالشك فى المطلقة. كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها، ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين، طلق عليه الجميع.
وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان، وهو غير متيقن له، بل هو شاك حال الحلف، فتبين أن الأمر كما حلف عليه. فإنه يحنث عنده، وتطلق امرأته. فمن حلف على رجل أنه زيد فتبين أنه غيره، أو لم يتبين: أهو المحلوف عليه أم لا، حنث عنده. وإن تبين أنه المحلوف عليه- وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته، ولا يغلب على ظنه. ولا طريق له إلى العلم به فى العادة- فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف. فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه. أما فى الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه، وأما فى الخبر فبأن يتبين كذبه. وعند مالك يحنث بأمر آخر، وهو الشك حال اليمين، سواء تبين صدقة أم لا.
وأبلغ من هذا: أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر: أنه حجر، ونحو ذلك مما لا شك فيه.
وعمدته فى الموضعين: أن الحالف هازل. فإن من قال: أنت طالق إذ لم تكونى امرأة، أو إن لم أكن رجلاً، لا معنى لكلامه إلا الهزل، فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه.
قالوا: وإن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له.
وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق، ثم ندم، فوصله بما لا يفيد ليرفعه.
وأما فى القسم الأول: فأصله فيه: تغليب الحنث بالشك، كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا، فإنهم يأمرونه بفراق زوجته، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ على قولين، الأول: لابن القاسم، والثانى: لمالك.
فمالك يراعى بقاء النكاح، وقد شككنا فى زواله، والأصل البقاء. وابن القاسم يقول: قد صار حل الوطء مشكوكاً فيه، فيجب عليه مفارقتها. والأكثرون يقولون: لا يجب عليه مفارقتها، ولا يستحب له، فإن قاعدة الشريعة: أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم، ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه، أو مساو له.
فصل
وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها، أو طلق واحدة مبهمة ولم يعينها، فقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه المسألة على أقوال:
فقال أبو حنيفة، والشافعى، والثورى، وحماد: يختار أيتهن شاء، فيوقع عليها الطلاق فى المبهمة. وأما فى المنسية. وأما فى المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن، حتى ينكشف الأمر. فإن مات الزوج قبل أن يقرع، فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة.
وقال الشافعى: "يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن".
وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده، بأن قال: أنت طالق، ولا يدرى من هى. طلق الجميع. وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها، وقف عنهن حتى يتذكر. فإن طال ذلك ضرب له مدة المولى. فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال: إحداكن طالق، ولم يعينها بالنية طلق الجميع.
وقال أحمد: "يقرع بينهن فى الصورتين"، نص على ذلك فى رواية جماعة من أصحابه، وحكاه عن على وابن عباس.
وظاهر المذهب الذى عليه جل الأصحاب: أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية.
وقال صاحب المغنى: "يخرج المبهمة بالقرعة، وأما المنسية فإنه يحرم عليه الجميع. حتى يتيقن المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع، فإن مات أقرع بينهن للميراث"، قال: وقد روى إسماعيل بن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل فى المنسية لمعرفة الحل، وإنما تستعمل لمعرفة الميراث. فإنه قال:"سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق". قال: "أكره أن أقول فى الطلاق بالقرعة". قلت: "أرأيت إن مات هذا؟ "، قال:"أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال". قال: "وجماعة من روى عنه القرعة فى المطلقة المنسية إنما هو فى التوريث. وأما فى الحل فلا ينبغى أم تثبت القرعة". قال: "وهذا قول أكثر أهل العلم".
واحتج الشيخ لصحة قوله: بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد، ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، فلا يرفع الطلاق عمن وقع عليها، ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة. ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه. ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر. فيجب بقاء التحريم بعد القرعة، كما كان قبلها.
قال: "وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته فلم يدر، واحدة طلق أم ثلاثاً، ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التى وقعت اليمين عليها. فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم، فهاهنا أولى".
قال: "وهكذا الحكم فى كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها، ثم اشتبهت بغيرها. مثل أن يرى امرأة فى روزنة، أو مولية، فيقول: أنت طالق، ولا يعلم عينها من نسائه. وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه فى مسألة الطائر وشبهها، فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة. ويؤخذ بنفقة الجميع، لأنهن محبوسات عليه، وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا. ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج، لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة. ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة".
وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن: ثبت حكم الطلاق فيها
فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها. وحل للزوج مَنْ سواها. كما لو كان الطلاق فى واحدة غير معينة.
وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة فى الصورتين.
قلت: وهو منصوص أحمد فى رواية الجماعة. وأما رواية الشالنجى فإنه توقف، وكره أن يقول فى الطلاق بالقرعة، ولم يعين المنسية، ولا المبهمة، وأكثر نصوصه على القرعة فى الصورتين.
قال فى رواية الميمونى، فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن، ولم يدر:"يقرع بينهن، وكذلك فى الأعبد. فإن أقرع بينهن، فوقعت القرعة على واحدة، ثم ذكر التى طلق رجعت هذه التى وقعت عليها القرعة. ويقع الطلاق على التى ذكر. فإن تزوجت فذاك شىء قد مر".
وكذلك نقل أبو الحارث عنه فى رجل له أربع نسوة طلق إحداهن، ولم يكن له نية فى واحدة بعينها:"يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهى المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها".
فنص على القرعة فى الصورتين، مسوياً بينهما.
والذى أفتى به على رضى الله عنه هو فى المنسية. وبه احتج أحمد رحمه الله.
قال وكيع: سمعت عبد الله قال: "سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن، لا يدرى أيتهن طلق"، فقال: قال على رضى الله عنه: "يقرع بينهن".
والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين، والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعاً فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة، ولأن فى الإيقاف والإمساك حتى يتذكر، وتحريم الجميع عليه، وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعاً، ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع، ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات، لا ذوات أزوج ولا أيامى، وتركه هو معلقاً، لا ذا زوج ولا عزباً، وليس فى الشريعة نظير ذلك، بل ليس فيها وقف الأحكام، بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق. فإذا ضاقت الطرق، ولم يبق إلا القرعة، تعينت طريقاً، كما عينها الشارع فى عدة قضايا، حيث لم يكن هناك غيرها، ولم
يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف، فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلى انكشاف الحال، كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التى لا تأتى بها الشريعة. وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التى لم يقع عليها الطلاق وتخطئ المطلقة. وهذا لا يضرها هاهنا، فإنها لما جهل كونها هى التى وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم، وكل ما يقدر من المفسدة فى ذلك فمثلها فى العتق سواء. وقد دلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة، وقد نص أحمد على حل البضع بالقرعة.
فقال- فى رواية ابن منصور وحنبل- إذا زوجها الوليان من رجلين، ولم يعلم السابق منهما أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول.
فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج فى حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة فى تحريم بضعها عنه أولى. فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية، وهو أسرع نفوذا وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة.
وقول الشيخ أبى محمد، قدس الله تعالى روحه:"إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد".
جوابه: بالفرق بين حالتى الدوام والابتداء، فإنه هناك شك فى هذه الأجنبية هل حصل عقد أم لا؟ والأصل فيها التحريم، فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما. وهاهنا ثبت الحل والنكاح. وحصل الشك بعده، هل ترك التحريم فى هذا أو فى هذه. فإما أن يحرما جميعاً أو يحلا جميعاً، أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم، أو يوقف الأمر أبدا، أو تستعمل القرعة، والأقسام الأربعة الأول باطلة، لا أصل لها فى السنة، ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة.
وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى، إذ هناك تحريم متيقن، ونحن
نشك فى حله، وهنا حل متيقن نشك فى تحريمه بالنسبة إلى كل واحدة.
قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه.
فيقال: إذا جهلت المطلقة. ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة، حيث تعينت طريقاً، فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم، ولو كانت مطلقة فى نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما فى نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا. ولهذا لو نسى الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى توفى، كانت أحكامه أحكام الزوج، والنسب لاحق به، والميراث ثابت، وهى مطلقة فى نفس الأمر، ولكن ليست مطلقة فى حكم الله، كما لو طلع الهلال فى نفس الأمر ولم يره أحد من الناس، أو كان الهلال تحت الغيم، فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر، ولا يكون طالعاً فى حكم الله تعالى، وإن كان طالعاً فى نفس الأمر، ونظائر هذا كثيرة جداً.
فغاية الأمر: أن هذه مطلقة فى نفس الأمر، ولا علم له بطلاقها، فلا تكون مطلقة فى الحكم، كما لو نسى طلاقها.
قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر.
جوابه: أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان، فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة، كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه. فإن التراب إنما يعمل عند العجز عن الماء، فإذا قدر عليه بطل حكمه. ونظائر ذلك كثيرة.
منها: أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص، فإذا تبين النص، فلا اجتهاد إلا فى إبطال ما خالفه.
قوله: وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثاً؟ يلزمه الثلاث. ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم
نها ليست التى وقعت اليمين عليها فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم فهاهنا أولى.
فيقال: الخرقى نص على المسألتين مفرقاً بينهما فى مختصره، فقال: وإذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة. وقال: ما حكاه الشيخ عنه فى الموضعين. فأما من شك: هل طلق واحدة أم ثلاثاً، فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة، وهو ظاهر المذهب. والخرقى اختار الرواية الأخرى. وهى مذهب مالك، وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح منهما.
وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك، وبين إخراج المنسية بالقرعة: أن المجهول فى الشرع كالمعدوم. فقد جهلنا وقوع الطلاق بأى الزوجتين، فلم يتحقق تحريم إحداهما. ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما. والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة، بخلاف من أوقع على زوجته طلاقاً قد شك فى عدده فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها؟ فألزمه بالثلاث. فظهر الفرق بينهما على هذا القول.
وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال.
وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت فى تمر، أكل منه واحدة. فقد قال الخرقى: إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن. وهذا يحتمل الكراهة والتحريم. ومذهب الشافعى وأبى حنيفة: أنه لا يحنث، ولا يحرم عليه وطء زوجته: هو اختيار أبى الخطاب، وهو الصحيح. وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك، هل طلق واحدة أم ثلاثاً؟
فصل
وأما من حلف على يمين ثم نسيها. وقولهم: يلزمه جميع ما يحلف به، فقول شاذ جدا. وليس عن مالك، إنما قاله بعض أصحابه. وسائر أهل العلم على خلافه. وأنه لا يلزمه شىء حتى يتيقن، كما لو شك: هل حلف أو لا؟
فإن قيل: فينبغى أن يلزمه كفارة يمين، لأنها الأقل.
قيل: موجب الأيمان مختلف. فما من يمين إلا وهى مشكوك فيها، هل حلف بها أم لا؟
وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمين حسب، لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده.
فصل
وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا. فعند الجمهور هو على التراخى إلى آخر عمره، إلا أن يعين بنيته وقتا، فيتقيد به. فإن عزم الترك بالكلية حنث حالة عزمه، نص عليه أحمد.
وقال مالك: هو على حنث حتى يفعل، فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتى بالمحلوف، عليه وهذا صحيح على أصله فى سد الذرائع، فإنه إذا كان على التراخى إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة، وصار لا فرق بين الحلف وعدمه، والحمل فى ذلك على القرينة والعرف، وإن لم تكن نية. ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة.
فصل
وأما تعليق الطلاق بوقت يجئ لا محالة، كرأس الشهر والسنة، وآخر النهار ونحوه. فللفقهاء فى ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنها لا تطلق بحال، وهذا مذهب ابن حزم، واختيار أبى عبد الرحمن الشافعى، وهو من أجل أصحاب الوجوه.
وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط، كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء.
قالوا: والطلاق لا يقع فى الحال، ولا عند مجئ الوقت. أما فى الحال فلأنه لم يوقعه منجزا، وأما عند مجئ الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ، ولم يتجدد سوى مجئ الزمان. ومجئ الزمان لا يكون طلاقاً.
وقابل هذا القول آخرون، وقالوا: يقع الطلاق فى الحال، وهذا مذهب مالك، وجماعة من التابعين.
وحجتهم أن قالوا: لو لم يقع فى الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت، وذلك غير جائز فى الشرع، لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقاً غير مؤقت، ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه، وكذلك وطء المكاتبة. ألا ترى أنه لو عرى من الأجل، بأن يقول: إن جئتنى بألف درهم فأنت حرة، لم يمنع ذلك الوطء.
قال الموقعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء، فإن الشريعة فرقت بينهما فى مواضع كثيرة، فإن ابتداء عقد النكاح فى الإحرام فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد، دون دوامه، وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه. ونظائر ذلك كثيرة جداً.
قالوا: والمعنى الذى حرم لأجله نكاح المتعة: كون العقد مؤقتا من أصله، وهذا العقد مطلق، وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه، فلا يبطل، كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله، أو يفعله هو ولا بد، ولكن يجوز تخلفه.
والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجئ الوقت المعلوم ثلاثاً وقع فى الحال، وإن كان رجعياً لم يقع قبل مجيئه، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، نص عليه فى رواية مهنا:"إذا قال: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر: هى طالق الساعة. كان سعيد بن المسيب والزهرى لا يوقتون فى الطلاق". قال مهنا: فقلت له: "أفتزوج هذه التى قال لها: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر؟ "، قال "لا: ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت" هذا لفظه.
وهو فى غاية الإشكال، فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزاً، فكيف يمنعها من التزويج؟
وقوله "يمسك عن الوطء أبدا" يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطأها، وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق. فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها.
فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق، ومنعها من التزويج للخلاف فى ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق، ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص.
ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثاً لم يحل وطؤها بعد الأجل. فيصير حال الوطء مؤقتاً، وإن كان رجعياً جاز له وطؤها بعد الأجل. فلا يصير الحال مؤقتا، وهذا أفقه من القول الأول.
والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجئ الأجل، وهو قول الجمهور. وإنما تنازعوا، هل هو مطلق فى الحال، ومجئ الوقت شرط لنفوذ الطلاق، كما لو وكله فى الحال. وقال: لا تتصرف إلى رأس الشهر فمجئ رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه، لا بحصول الوكالة، بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك. وهذا يفرق الشافعى بينهما. فيصحح الأولى ويبطل الثانية، أو يقال: ليس مطلقاً فى الحال. وإنما هو مطلق عند مجئ الأجل، فيقدر حينئذ أنه قال: أنت طالق. فيكون حصول الشرط وتقدير حصول: أنت طالق معاً. فعلى التقدير الأول: السبب تقدم، وتأخر شرط تأثيره، وعلى التقدير الثانى: نفس السبب تأخر تقدير إلى مجئ الوقت. وكأنه قال إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك: أنت طالق فإذا جاء رأس الشهر قدر قائلاً لذلك اللفظ المتقدم.
فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة. فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافاً إلى الشرط، وقيل تحققه لم يكن المعلق عليه علة، بخلاف الوجوب. فإنه ثابت قبل مجئ الشرط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق، والشرط الدخول، وتأثيره فى امتناع وجود العلة قبله، فإذا وجد وجدت.
وأصحاب الشافعى يقولون: أثر الشرط فى تراخى الحكم، والعلة قد وجدت، وإنما تراخى تأثيرها إلى وقت مجئ الشرط، فالمتقدم عله قد تأخر تأثيرها إلى مجئ الشرط.
فصل
وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعى ومالك، فى إحدى الروايتين عنه: أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا؟ وجب عليه أن يتوضأ احتياطاً، ولا يدخل فى الصلاة بطهارة مشكوك فيها فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء.
وقد قال الجمهور، منهم الشافعى، وأحمد، وأبو حنيفة، وأصحابهم، ومالك فى الرواية الأخرى عنه: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلى بذلك الوضوء الذى تيقنه وشك فى انتقاضه.
واحتجوا بما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فى بَطْنِهِ شَيْئاً فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَىْ أمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً".
وهذا يعم المصلى وغيره.
وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابته فى ذمته بيقين، وهو يشك فى براءة الذمة منها بهذا الوضوء، فإنه على تقدير بقائه هى صحيحة، وعلى تقدير انتقاضه باطلة، فلم يتيقن براءة ذمته، ولأنه شك فى شرط الصلاة: هل هو ثابت أم لا؟ فلا يدخل فيها بالشك.
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك فى بطلانها فلا يلتفت إلى الشك، ولا يزيل اليقين به، كما لو شك: هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة؟ فإنه لا يجب عليه غسله، وقد دخل فى الصلاة بالشك.
ففرقوا بينهما بفرقين.
أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط. ولهذا لا يجب نيته، وإنما هو مانع، والأصل عدمه، بخلاف الوضوء، فإنه شرط، وقد شك فى ثبوته، فأين هذا من هذا؟.
الثانى: أنه قد كان قبل الوضوء محدثاً، وهو الأصل فيه. فإذا شك فى بقائه كان ذلك رجوعاً إلى الأصل. وليس الأصل فيه النجاسة، حتى نقول: إذا شك فى حصولها رجعنا إلى أصل النجاسة، فهنا يرجع إلى أصل الطهارة، وهناك يرجع إلى أصل الحدث.
قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة، فصارت هى الأصل، فإذا شككنا فى الحدث رجعنا إليه، فأين هذا من الوسواس المذموم شرعاً، وعقلاً وعرفاً؟.
فصل
وأما قولكم: إن من خفى عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله: فليس هذا من باب الوسواس، وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به. فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه.
فصل
وأما مسألة الثياب التى اشتبه الطاهر منها بالنجس، فهذه مسألة نزاع.
فذهب مالك، فى رواية عنه، وأحمد: إلى أنه يصلى فى ثوب بعد ثوب، حتى يتيقن أنه صلى فى ثوب طاهر.
وقال الجمهور، ومنهم أبو حنيفة، والشافعى، ومالك، فى الرواية الأخرى: إنه يتحرى فيصلى فى واحد منها صلاة واحدة، كما يتحرى فى القبلة.
وقال المزنى وأبو ثور: "بل يصلى عرياناً ولا يصلى فى شىء منها، لأن الثوب النجس فى الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن السترة بثوب طاهر، فيسقط فرض السترة"، وهذا أضعف الأقوال.
والقول بالتحرى هو الراجح الظاهر، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل. وهو اختيار شيخنا. وابن عقيل يفصل، فيقول:"إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل عمل باليقين".
قال شيخنا: "اجتناب النجاسة من باب المحظورات، فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه، لم يحكم ببطلان صلاته بالشك، فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شك فيها فى هذا الثوب، فيصلى فيه، كما لو استعار ثوباً أو اشتراه ولا يعلم حاله".
وقول أبى ثور فى غاية الفساد. فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته عرياناً، بادى السوءة للناظرين.
وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم.
فصل
وأما مسألة اشتباه الأوانى فكذلك ليست من باب الوسواس.
وقد اختلف فيها الفقهاء اختلافاً متبايناً.
فقال أحمد: "يتيمم ويتركها، وقال مرة يريقها ويتيمم، ليكون عادماً للماء الطهور بيقين".
وقال أبو حنيفة: "إن كان عدد الأوانى الطاهرة أكثر، تحرى، وإن تساوت أو كثرت النجسة، لم يتحر". وهذا اختيار أبى بكر وابن شاقلاً والنجاد من أصحاب أحمد.
وقال الشافعى وبعض المالكية: "يتحرى بكل حال".
وقال عبد الملك بن الماجشون: "يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلى".
وقال محمد بن مسلمة من المالكية: "يتوضأ من أحدها ويصلى، ثم يغسل ما أصابه منه، ثم يتوضأ من الآخر ويصلى".
وقالت طائفة- منهم شيخنا- يتوضأ من أيها شاء، بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فتستحيل المسألة، وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها.
فصل
وأما إذا اشتبهت عليه القبلة، فالذى عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلى صلاة واحدة.
وشذ بعض الناس فقال: يصلى أربع صلوات إلى أربع جهات، وهذا قول شاذ مخالف للسنة، وإنما التزمه قائله فى مسألة اشتباه الثياب، وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات عند المضايق، طرداً لدليل المستدل مما لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها.
ونظيره: التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة، لما ألزمهم أصحاب أبى حنيفة بذلك، قال بعضهم: نقول به.
ونظيره: إدراك الجمعة والجماعة بإدراك تكبيرة مع الإمام، لما ألزمت الحنفية من نازعها فى ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم، وقال: نقول به.
فصل
وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها، فاختلف الفقهاء فى هذه المسألة على أقوال.
أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات. نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة وإسحاق، لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك.
القول الثانى: أنه يصلى رباعية ينوى بها ما عليه. ويجلس عقيب الثانية والثالثة والربعة. وهذا قول الأوزاعى، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن مقاتل من الحنفية، بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبى صلى الله تعالى وآله عليه وسلم، وبدون السلام، وأن نية الفرضية تكفى من غير تعيين، كما فى الزكاة، ولا يضر جلوسه عقيب الثالثة، إن كانت المنسية رباعية، لأنه زيادة من جنس الصلاة، لا على وجه العمد.
القول الثالث: أنه يجزيه أن يصلى فجراً، ومغربا ورباعية ينوى ما عليه. وهذا قول سفيان الثورى، ومحمد بن الحسن.
ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفى من غير تعيين.
وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى يُسأل: ما تقول فى رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعينها، فصلى ركعتين وجلس وتشهد، ونوى بها الغداة ولم يسلم، ثم قام فأتى بركعه وجلس وتشهد ونوى بها المغرب، وقام ولم يسلم، وأتى برابعة ثم جلس، فتشهد ونوى بها ظهراً أو عصراً أو عشاء الآخرة ثم سلم؟ فقال له أبى: "هذا يجزيه، ويقضى عنه على مذهب العراقيين،
لأنهم اعتمدوا فى التشهد على خبر ابن مسعود: "إذَا قُلْتَ هذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ".
وأما على مذهب صاحبنا أبى عبد الله الشافعى، ومذهبنا: لا يجزئ عنه، لأنا نذهب إلى قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ".
ونذهب إلى الصلاة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيها"، وهذا لفظه.
قال أبو البركات: "هذا من أحمد يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه، لتعذر التحليل المعتبر لا لفوات نية التعيين، فإذا قضى ثلاثاً كما قال الثورى- اندفع المفسد- وبكل حال فليس فى هذا راحة للموسوسين".
فصل
وأما من شك فى صلاته، فإنه يبنى على اليقين، لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك.
وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء؟ وتحريم أكله
إذا خالط كلابه كلبا من غيره، فهو الذى أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لأنه قد شك فى سبب الحل، والأصل فى الحيوان التحريم. فلا يستباح بالشك فى شرط حله، بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل. فإنه لا يحرم بالشك فى سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاماً، أو ثوباً لا يعلم حاله، جاز شربه وأكله ولبسه. وإن شك هل تنجس أم لا؟ فإن الشرط متى سبق اعتباره، أو كان الأصل عدم المانع، لم يلتفت إلى ذلك.
فالأول: كما إذا أتى بلحم لا يعلم: هل سمى عليه ذابحه أم لا؟. وهل ذكاه فى الحلق واللبة، واستوفى شروط الذكاة أم لا؟ لم يحرم أكله، لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت عائشة رضى الله عنها:
" يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ نَاساً مِنَ الأعْرَابَ يَأْتُونَنَا بِالّلحْمِ، لا نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا".
مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى.
والثانى كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس. فإن الأصل فيها الطهارة، وقد شك فى وجود المتنجس، فلا يلتفت إليه.
فصل
وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر، وأبى هريرة رضى الله عنهما فشئ تفردا به، دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول:"إن بى وسواساً فلا تقتدوا بى".
وظاهر مذهب الشافعى وأحمد: أن غسل داخل العينين فى الوضوء لا يستحب، وإن أمن الضرر. لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله قط، ولا أمر به، وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان، وعلى، وعبد الله بن زيد، والربُّيع بنت معوذ وغيرهم، فلم يقل أحد منهم إنه غسل داخل عينيه. وفى وجوبه فى الجنابة روايتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يجب، وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة، وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة.
وقالت الشافعية والحنفية: يجب، لأن إصابة النجاسة لهما تندر، فلا يشق غسلهما منها.
وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، فأوجب غسلهما فى الوضوء. وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرّج عليه. والصحيح أنه لا يجب غسلهما فى وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة.
وأما فعل أبى هريرة رضى الله عنه فهو شئ تأوله، وخالفه فيه غيره، ينكرونه عليه، وهذه المسألة تلقب بمسألة إطالة الغرة، وإن كانت الغرة فى الوجه خاصة.
وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: يستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة والشافعى، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره.
والثانية: لا يستحب، وهى مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبى العباس.
فالمستحبون يحتجون بحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالى عَليْه وَآلِه وَسَلَّمَ: "أَنْتُمُ الْغُرُّ المُحَجَّلونَ يوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غرَّته وَتَحْجِيلَهُ" متفق عليه، ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
قال النافون للاستحباب: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إنّ الله حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا".
والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين، فلا ينبغى تعديهما، ولأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداهما، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته، ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة، والعبادات مبناها على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ، وإلى الكتف.
وهذا مما لا يعلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة واحدة، ولأن هذا من الغلو، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:"إياكمْ وَالْغُلُوَّ فى الدَّينِ".
ولأنه تعمق، وهو منهى عنه، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة، فكره مجاوزته كالوجه.
وأما الحديث فراويه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه نعيم المجمر. وقد قال: "لا أدرى قوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو من قول أبى هريرة رضى الله عنه؟ "، روى ذلك عنه الإمام أحمد فى المسند.
وأما حديث الحلية، فالحليه المزينة ما كان فى محله، فإذا جاوز محله لم تكن زينة.
فصل
وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق، وإلى آخره.
فلعمر الله إنهما لطرفاً إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين فى غير موضع. كقوله:
{وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وَقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذَّرْ تبذيرا} [الإسراء: 26] . وقوله: {وَالَّذِينَ إذَا أَنْفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . وقوله {وَكُلُوا وَاشْرِبوا ولا تسرفوا إِنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] فدين الله بين الغالى فيه والجافى عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط. والآفات إنما ينتظرون إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها. قال الشاعر:
كانَتْ هِىَ الوَسَطُ المَحْمِى، فَاكْتَنَفَتْ
…
بهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
فصل
ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر فيها إلى
أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا، وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعبدت مع الله تعالى.
وكان أول هذا الداء العظيم فى قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم فى كتابه، حيث يقول:
{قَالَ نُوحٌ رَب إنهم عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا وَمَكرُوا مَكْرًا كبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 21-24] . قال ابن جرير: "وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بنى آدم. وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورّناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: "كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام". حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فى هذه الآية قال: "كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل. وكان يغوث لبنى غطيف من مراد. وكان يعوق لهمدان. وكان نسر لذى الكلاع من حمير". وقال الوالبى، عن ابن عباس:"هذه أصنام كانت تعبد فى زمان نوح عليه السلام".
وقال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس: "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير لآل ذى الكلاع،
أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انْصُبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسى العلم، عبدت".
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضى الله عنها:
"أَنَّ أُمَّ سَلمَةَ رَضىَ اللهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالى عليهِ وَآلِه وَسلمَ كَنِيسَة رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لهَا: مَارِيَة. فَذَ كَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسَلّم: أُولِئكَ قَوْمٌ إذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئكَ شِرَارُ الْخَلقِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى".
وفى لفظ آخر فى الصحيحين:
"أنَّ أُمَّ حَبيبَةَ وَأُمَّ سَلمَةَ ذَكَرَتَا كنَيِسَةً رَأَيْنَهَا".
فجمع فى هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات.
فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد:
{أفَرَأيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] . قال: "كان يلت لهم السويق. فمات، فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: "كان يلت السويق للحاج".
فقد رأيت أن سبب عبادة وَدّ ويغوث ويعوق ونسراً واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
قال شيخنا: "وهذه العلة التى لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هى التى أوقعت كثيراً من الأمم إما فى الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذى يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة
لا يفعلونها فى بيوت الله، ولا وقت السحر. منهم من يسجد لها. وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه فى المساجد. فلأجل هذه المفسدة حسم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة فى المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس. فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد المصلى ما قصده المشركون، سدا للذريعة".
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة فى تلك البقعة، فهذا عين المخادعة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه. فقد صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة. والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله والنهى عنه. ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال:
سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَآله وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلَا تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم قالَ: " قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خشى" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره.
وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ".
وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ" رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عَليْه وسَلمَ زَائرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر. وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه. فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إِلا الْمَقبَرَةَ وَالْحَمامَ".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة، وصححه أبو حاتم بن حبان
وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلى وبين القبلة.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن موضع مسجده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً: ولم ينقل ذلك التراب، بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه، كما ثبت فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال:
"لَمّا قَدِمَ النبىُّ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلم المدِينَة فَنزَلَ بأَعْلَى المدِينَةِ فى حَىّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فأَقَامَ النّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ فيهِمْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى مَلاء بَنىِ النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلدِى السُّيُوفَ، وَكَأَنى أَنْظُرُ إِلى النَّبى صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتهِ، وأبو بكر رِدفَهُ، ومَلأُ بَنِى النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حتى أَلْقَى بِفناءِ أبي أَيُّوبَ. وكان يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّىَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلّى فى مَرَابضِ الْغَنمِ، وَأنّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فأَرْسَلَ إِلى مَلإٍ بَنى النَّجّارِ، فَقَالَ: يَا بنِى النجّارِ، ثَامِنُونى بحَائِطِكُمْ هذَا. قَالُوا: لا واللهِ، مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إلى اللهِ
فكَانَ فيه ما أقُولُ لكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ. وفيه خَرِبٌ. وفيه نخْل. فأمَرَ النّبىُّ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَاله وسلّم بِقُبُورِ المشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخْرِبِ فَسُويَتْ. وَبالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجّعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ. وهم يَرْيَجِزُونَ، وذكر الحديث".
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها فى المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة؟ ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً.
ومنها: أنه قرن فى اللعن بين متخذى المساجد عليها وموقدي السرج عليها. فهما فى اللعنة قرينان. وفى ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها. ولهذا قرن بينهما. فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالي عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا:{لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] . ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد.
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم التى أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم. قال الشافعى:"أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس".
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم فى كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال- بعد أن ذكر حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "جعلت لى الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام" وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نهى عن الصلاة فى سبع مواطن، وذكر منها المقبرة" قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة فى المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد".
فصل
ومن ذلك اتخاذها عيداً.
والعيد: ما يعتاد مجيئه وقصده: من مكان وزمان.
فأما الزمان، فكقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأيَّامُ مِنًى، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ". رواه أبو داود وغيرهُ.
وأما المكان، فكما روى أبو داود فى سننه أن رجلا قال:"يَا رَسُولَ اللهِ، إِنى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فقالَ: أَبِها وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ المُشْرِكِينَ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْياَدِهِمْ؟ قالَ: لا. قال: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" وكقوله: "لا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا".
والعيد: مأخوذ من المعاودة، والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذى بقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة، أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء، ومثابة، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا.
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر.
فاتخاذ القبور عيداً هو من أعياد المشركين التى كانوا عليها قبل الإسلام، وقد
نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى سيد القبور، منبها به على غيره.
فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرنى ابن أبى ذئب عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيداً، وَصَلُّوا عَلَىَّ فإِنَّ صلَاتَكُمْ تَبْلُغُنىِ حَيْثُ كَنْتُمْ".
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير.
وقال أبو يعلى الموصلى، فى مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا زيد ابن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم، من ولد ذى الجناحين، حدثنا على بن عمر عن أبيه عن على بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى عن جدى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى مختاراته.
وقال سعيد بن منصور فى السنن: حدثنا حبان بن على، حدثنى محمد بن عجلان عن أبى سعيد مولى المُهْرى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى".
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرنى سهيل بن أبى سهيل قال: رآنى الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عند القبر، فنادانى، وهو فى بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالى رأتيك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله به، وذلك يقتضى ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟.
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: "ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره أولى بالنهى كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله "ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً" أى لا تعطلوها من الصلاة فيها، والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور. فأمر بتحرى النافلة فى البيوت، ونهى عن تحرى العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم، ثم إنه عقب النهى عن اتخاذه عيداً بقوله: "وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم" يشير بذلك إلى أن ما ينالنى منكم من الصلاة والسلام تحصل مع قربكم من قبرى وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً".
وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذى إنما يكون فى العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذى يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت.
وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التدليس والتلبيس، بعد التناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر ملازمة إتيانه بقوله:"لا تجعلوا عيداً" فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان. فإن لم يكن هذا تنقيصاً فليس للتنقيص حقيقة فينا، كمن يرمى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه برئ، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة، بعد الشرك، أسهل إثما، وأخف عقوبة من تعاطى مثل ذلك فى دينه وسنته. وهكذا
غيرت ديانات الرسل. ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله.
ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ. قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك. فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها واتيانها، ولا تجعل كالعيد الذى يجئ من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك:"ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشى أن يتخذ مسجداً"؟ وكيف يقول: "لا تجعلوا قبرى عيداً، وصلوا على حيثما كنتم"؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين رضى الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، واستدل بالحديث. وهو الذى رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده على رضى الله عنه، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن، شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
قال شيخنا: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرب النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط.
فصل
ثم إن فى اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التى لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من فى قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك.
وَلكِنْ مَا لِجُرْحٍ بمَيتٍ إِيَلامُ
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامهاً، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الْديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التى كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا فى الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدى ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوى الفاقات، ومعافاة أولى العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذى جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا فى التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التى يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه فى السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين. وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام.
هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم. إذ هى فوق ما يخطر بالبال، أو يدور فى الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام فى قوم نوح، كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور،
وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يئول إليه، وأحكم فى نهيه عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى فى اتباعه وطاعته، والشر والضلال فى معصيته ومخالفته.
ورأيت لأبى الوفاء بن عقيل فى ذلك فصلاً حسناً، فذكرته بلفظه، قال:"لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندى كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاى افعل بى كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور. وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ويتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء. ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر، أو محمد وعلى، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر". انتهى.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى القبور، وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ أعياداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، كما روى مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى قال: قال على
بن أبى طالب رضى الله عنه: "أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عليهِ رَسُولُ صلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وَسلّم أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفاً إِلا سَوَّيْتَهُ".
وفى صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شُفَى قال: "كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس. فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون فى مخالفة هذين الحديثين. ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب".
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم فى صحيحه عن جابر قال:" نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِنَاءٌ".
ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود والترمذى فى سننهما عن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"نَهَى أنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا".
قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه" وهؤلاء لا يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.
ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بأجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره.
وأوصى الأسود بن يزيد: "أن لا تجعلوا على قبرى آجرا".
وقال إبراهيم النخعى: "كانوا يكرهون الأجر على قبورهم".
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: "أن لا تضربوا على قبرى فسطاطاً".
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطاً.
والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب. مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليها وسلم،
محادون لما جاء به. وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها. وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسى: "ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبى صلى الله تعالى عليه من فعله. ولأن فيه تضييعا للمال فى غير فائدة، وإفراطاً فى تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر. ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا" متفق عليه. وقالت عائشة:"إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لئلا يتخذ مسجداً" لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها. وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها، والصلاة عندها". انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم فى ذلك كتاباً وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاه منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول فى دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقصده من النهى عما تقدم ذكره فى القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن فى ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.
فمنها: تعظيمها المواقع فى الافتتان بها. ومنها: اتخاذها عيدا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها. وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف، وإلى غير ذلك. ومنها: الدخول فى لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، ومنها: الشرك الأكبر الذى يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم بما يفعل عند قبورهم. ويكرهونه غاية الكراهة. كما أن المسيح يكره
ما يفعله النصارى عند قبره. وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرءون منهم. كما قال تعالى:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتمْ عِبَادِى هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياَءَ وَلكِنْ مَتَّعْتهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُورًا} [الفرقان: 17-18] . قال الله للمشركين {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً} [الفرقان: 19] الآية، وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمىَ إِلهَينْ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍ} [المائدة: 116] الآية، وقال تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءٍ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ، أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِم مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41] . ومنها: مشابهة اليهود والنصارى فى اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير، والإثم العظيم. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله. فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه فى المساجد. ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه.، ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد. ودين الله الذى بعث به رسوله بضد ذلك. ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين، عمروا المشاهد، وأخربوا المساجد.
ومنها: أن الذى شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند زيارة القبور: إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له. فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين وجعلواً المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاورا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت
ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التى شرعها الله تعالي على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التى شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك.
قالت عائشة رضى الله عنها: "كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله تعالى عليهِ وَآلهِ وَسلم كُلّمَا كانَ لَيْلَتُهَا مِنْهُ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ الّليْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ الّلهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقيع الغَرْقَدِ" رواه مسلم.
وفى صحيحه عنها أيضاً: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنّ رَبّكَ يأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: قُولِى: السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الديَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدَمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخَرِينَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ".
وفى صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ يُعَلمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلامُ عَلَى أهل الديَارِ".
وفى لفظ: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية".
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كُنْتَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَمنْ أرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ، وَلا تَقُولُوا هُجْرًا" رواه أحمد والنسائى.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور، سدا للذريعة، فلما تمكن التوحيد فى قلوبهم أذن لهم فى زيارتها على الوجه الذى شرعه ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذى يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً.
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"زُورُوا القُبُورَ، فَإِنّهَا تذكرُ المَوْتَ ".
وعن على بن طالب رضى الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنى كُنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنّهَا تُذكرُكُمُ الآخِرَةَ" رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعالى عليهِ وآلهِ وسلمَ بِقُبُورِ المَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَنَحْنُ بِالأَثَرِ" رواه أحمد، والترمذى وحَسَّنه.
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزوروا القُبُورَ، فَإِنّهَا تُزَهدُ فى الدُّنْيَا، وَتُذَكرُ الآخِرَةَ" رواه ابن ماجه.
وروى الإمام أحمد عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كٌنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزَورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً".
فهذه الزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟.
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك".
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على
النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا.
فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضى الله عنه يسلم على النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو".
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفى الترمذى وغيره مرفوعاً. "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ".
فجرد السلف العبادة الله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من السلام على أصحابها والاستغفار لهم، والترحم عليهم.
وبالجملة. فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له. ولهذا شرع فى الصلاة عليه من الدعاء له، وجوباً واستحباباً، ما لم يشرع مثله فى الدعاء للحى.
قال عوف بن مالك: "صَلّى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِه وَهُوَ يَقُولُ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحمهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسعْ مَدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقهِ مِنَ الْخَطَايَا كما نَقّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أهْلِه، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ. وَأَدْخِلْهُ الجنة، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، أوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. حتى تمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا المَيتُ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله تَعَالَى عليهِ وآلهِ وسلم عَلَى ذلِكَ المَيتِ" رواه مسلم.
وقال أبو هريرة رضى الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول فى صلاته على الجنازة:
"الّلهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا وَأنْتَ هَدَيْتَهَا لِلإِسْلَامِ، وَأنْتَ قَبَضْتَ روُحَهَا وَأنْتَ أعْلَمُ بِسِرهَا وَعَلانِيَتِهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ" رواه الإمام أحمد.
وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الميت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ".
وقالت عائشة، وأنس عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"مَا مِنْ مَيتٍ يُصَلى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إلاّ شفعوا فِيهِ". رواه مسلم
وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم.
فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له والاستغفار، والشفاعة فيه.
ومعلوم أنه فى قبره أشد حاجة منه على نعشه. فإنه حينئذ معرَّض للسؤال وغيره.
وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ".
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، لا نشفع به. فبعد الدفن أولى وأحرى.
فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذى قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به. وقصدوا بالزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إحساناً إلى الميت وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذى هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه فى المساجد، وأوقات الأسحار.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى، أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم. فليوقفوا على أثر واحد: أو حرف واحد مى ذلك، بلى، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التى خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد، كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد فى ذلك عدة
مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة.
وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها. وقد ذكرنا إنكار عمر رضى الله عنه على أنس رضى الله عنه صلاته عند القبر. وقوله له: القبر، القبر.
وقد ذكر محمد بن إسحاق فى مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبى خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا فى بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية. فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبى العالية: ما كان فيه؟ قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم. وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس لا ينبشونه، فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: مُذْ كم وجدتموه مات؟ قال: مذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شىء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع" ففى هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره
لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد.
فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التى خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استشفى به، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ، فلا يخلو، إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه فى غير تلك البقعة، أولا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملاً؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين فى كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً.
فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً.
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.
فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال: "صليت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ بِأَصْحابَ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] .
ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال:"أين يذهب هؤلاء؟ "، فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فهم يصلون فيه، فقال:
"إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا. كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعاً. فمن أدركته الصلاة منكم فى هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض، ولا يتعمدها"، وكذلك أرسل عمر رضى الله تعالى عنه أيضاً فقطع الشجرة التى بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
بل قد أنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها.
فروى البخارى فى صحيحة عن أبى واقد الليثى قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"اللهُ أَكْبَرُ، هذَا كما قَالَتْ بَنُو إِسْرَائيلَ: {اجْعَلَ لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبْلَكُمْ". فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها. فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده؟ فأى نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون.
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها.
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم فى هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شىء والسلف على شىء، كما قيل:
سَارَتْ مُشَرقَة وَسِرْتُ مُغَرباً
…
شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرقٍ وَمُغَربِ
والأمر والله أعظم مما ذكرنا.
وقد ذكر البخارى فى الصحيح عن أم الدرداء رضى الله عنها قالت: "دخل على أبو الدرداء مغضباً، فقلت له: مالك؟ "، فقال:"والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، إلا أنهم يصلون جميعا".
وروى مالك فى الموطأ عن عمه أبى سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: "ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، يعنى الصحابة رضى الله عنهم".
وقال الزهرى: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكى، فقلت له: ما يبكيك؟ "، فقال:"ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت". ذكره البخارى.
وفى لفظ آخر: "ما كنت أعرف شيئاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلا قد أنكرته اليوم".
وقال الحسن البصرى: "سأل رجل أبا الدرداء رضى الله عنه فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين أظهرنا، هل كان ينكر شيئاً مما نحن عليه؟ فغضب، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ ".
وقال المبارك بن فضالة: "صلى الحسن الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: "تلوموننى على البكاء، ولو أن رجلاً من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئاً مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه".
وهذه هى الفتنة العظمى التى قال فيها عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجرى على الناس، يتخذونها سنة إذا غيرت قيل: غيرت السنة، أو هذا منكر".
وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا التفات إليه. فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبى الدرداء وأنس كما تقدم.
وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنى محمد بن عبيد بن ميمون، حدثنى عبد الله
بن إسحاق الجعفرى قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان فى المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله:"أرأيت إن كثر الجهال، حتى يكونواً هم الحكام، فهم الحجة على السنة؟ "، فقال ربيعة:"أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء".
فصل
ومن أعظم مكايده: ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام، التى هى من عمله، وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك، وعلق الفلاح باجتنابه، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخْمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . فالأنصاب: كل ما نصب يعبد من دون الله: من حجر، أو شجر، أو وثن، أو قبر. وهى جمع، واحدها نصب، كطنب وأطناب.
قال مجاهد: وقتادة، وابن جريج:"كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا: وليست بأصنام، إنما الصنم ما يصور وينقش".
وقال ابن عباس: "هى الأصنام التى يعبدونها من دون الله تعالى".
وقال الزجاج: "حجارة كانت لهم يعبدونها، وهى الأوثان".
وقال الفراء: "هى الآلهة التى كانت تعبد، من أحجار وغيرها".
وأصل اللفظة: الشئ المنصوب الذى يقصده من رآه، ومنه قوله تعالى:
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] . قال ابن عباس: إلى غاية، أو علم يسرعون.
وهو قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: "يعنى إلى أنصابهم، أيهم يستلمها أوّلا".
قال الزجاج: "وهذا على قراءة من قرأ "نصب" بضمتين، كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . قال: ومعناه: أصنام لهم".
والمقصود: أن النصب كل شئ نصب من خشبة، أو حجر، أو علم. والإيفاض الإسراع.
وأما الأزلام. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: "هى قداح كانوا يستقسمون بها الأمور. أى يطلبون بها علم ما قسم لهم".
وقال سعيد بن جبير: "كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو، أو يجلس استقم بها".
وقال أيضاً: "هى القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية فى أمورهم. أحدهما عليه مكتوب: أمرنى ربى، والآخر: نهانى. فإذا أرادوا أمرا ضربوا بها، فإن خرج الذى عليه أمرنى فعلوا ما هموا به. وإن خرج الذى عليه نهانى تركوه".
وقال أبو عبيد: "الاستقسام: طلب القسمة".
وقال المبرد: "الاستقسام: أخذ كل واحد قسمه".
وقيل: الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح، كقسم اليمين.
وقال الأزهرى: "وأن تستقسموا بالأزلام: أى تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين".
وقال أبو إسحاق الزجاج وغيره: "الاستقسام بالأزلام حرام".
ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله تعالى يقول:{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] .
وذلك دخول فى علم الله عز وجل الذى هو غيب عنا. فهو حرام كالأزلام التى ذكرها الله تعالى.
والمقصود: أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام. فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهن، وطلب علم ما استأثر الله به. هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا، والذى جاء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطالهما، وكسر الأنصاب والأزلام.
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين: من شجرة، أو عمود أو وثن، أو قبر أو خشبة، أو غير ذلك. والواجب هدم ذلك كله، ومحو أثره كما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليا رضى الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض. كما روى مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى. قال: قال لى على رضى الله عنه:
"أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ تعالِى عليه وآله وسلم؟ أَنْ لا أَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إِلا سَوَّيْتُهُ".
وعمى الصحابة بأمر عمر رضى الله عنه قبر دانيال، وأخفوه عن الناس. ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التى بايع تحتها رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم أصحابه أرسل فقطعها. رواه ابن وصاح فى كتابه فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: "أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقطع الشجرة التى بويع تحتها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة".
قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: "أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر رضى الله عنه".
فإذا كان هذا فعل عمر رضى الله عنه بالشجرة التى ذكرها الله تعالى فى القرآن، وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان، التى قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البلية بها؟.
وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هدم مسجد الضرار.
ففى هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور. فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها، حتى تسوى بالأرض، وهى أولى بالهدم من مسجد الضرار. وكذلك القباب التى على القبور يجب هدمها كلها، لأنها أسست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم. فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم. وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً.
وقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بهدم القبور المشرفة كما تقدم.
فهدم القباب والبناء والمساجد التى بنيت عليها أولى وأحرى، لأنه لعن متخذى المساجد عليها ونهى عن البناء عليها فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله ونهى عنه. والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما. فهو أشد غيرة وأسرع تغييراً.
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، وطفيه. فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشى: "انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها".
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع: "ومن هذا القسم ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكى لهم حاك أنه رأى فى منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله، وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن فى قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهى من بين عيون، وشجر وحائط، وحجر. وفى مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة. كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، فى نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط التى فى الحديث"، ثم ساق حديث أبى واقد:
"أَنّهُمْ مَرُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عليهِ وآلهِ وَسلم بِشَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ خَضْرَاءَ يقالُ لهَا: ذَات أَنْوَاطٍ، فقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كَما لَهُمْ ذَات أَنْواطٍ. فقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إٍلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة. قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية: "أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح، أو ولد، قال: امضوا بى إلى العافية، فيعرف فيها الفتنة، فخرج فى السحر فهدمها، وأذن للصبح عليها، ثم
قال: اللهم إنى هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن".
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلق، والنصب الذى كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنصب الذى كان تحت الطاحون الذى عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم فى نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه النصب الذى كان عند الرحبة يسرج عنده، ويتبرك به المشركون. وكان عموداً طويلاً على رأسه حجر كالكرة. وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير، يعبده المشركون يسر الله كسره.
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، أى تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب، ويستلمونه. ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذى أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى، كما ذكر الأزرقى فى كتاب تاريخ مكة عن قتادة فى قوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125] . قال: "إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق".
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أنصاب القبور، وهى أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين، وقد تقدم.
ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحى إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته، واتخاذه عيدا، وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه. فيسعى الجاهلون المشركون فى قتله وعقوبته ويكفرونه. وذنبه عند أهل الإشراك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، والدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد لله
وأن لا يعبد إلا الله. فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر. ويسرى ذلك فى نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه، وإن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجاً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فصل
ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهى عن اتخاذ القبور أوثانا وأعياداً وأنصابا، والنهى عن اتخاذها مساجد، أو بناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم، ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه. فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى عليهما السلام، والرافضة مع على رضى الله عنه. فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض.
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه. وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هى باتباع ما دعو إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعياداً.
فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم، فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأى تعظيم لهم واحترام فى هذا؟.
وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التى يكرهها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفاً بما اشتملت عليه من الكلام الطيب والعمل الصالح، مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو فى بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك.
ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه، وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطانى الذى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق فى القلب. وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بكليته، وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه، لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات، التى هى وساوس النفوس وتخيلاتها.
ومن بعد عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه: أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور. وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أى شئ استحسنه ملكه واستعبده.
فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره عبدُ الصُّورَ، شاء أم أبى، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
فصل
فإن قيل: فما الذى أوقع عباد القبور فى الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟
قيل: أوقعهم فى ذلك أمور:
منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك. ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن
عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم.
ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث:"إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التى هى مناقضة لدين الإسلام. وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال. والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته الفتنة بكل طريق كما تقدم.
ومنها: حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلانى فى شدة فخلص منها. وفلاناً دعاه به فى حاجة فقضيت له. وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شىء كثير يطول ذكره. وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات. والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترتاق مجرب. والشيطان له تلطف فى الدعوة فيدعوهم أولا إلى الدعاء، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه، لا لأجل القبر. فإنه لو دعاه كذلك فى الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا فى إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر، ولو كان كافراً. وقد قال تعالى:
{كُلَاّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ ربك ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] وقد قال الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيُر} [البقرة: 126] .
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه، أو يشترط فى دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه. فيظن أن عمله صالح
مرضى لله، ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له فى الخيرات. وقد قال تعالى:
{فَلَمَّا نَسُوا مَاذُكروا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُل شَىءٍ} [الأنعام: 44] . فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعى. وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضى حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده.
والمقصود: أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه فى بيته ومسجده وأوقات الأسحار. فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى، من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذى قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.
فقال أبو الحسين القدورى فى شرح كتاب الكرخى: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: "لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به. قال: وأكره أن يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك. وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام".
قال أبو الحسين: "أما المسألة بغير الله فمنكرة فى قولهم، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وأما قوله: بمعقد العز من عرشك، فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف".
وقال: "وروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا بذلك، قال: ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التى خلق بها العرش، مع عظمته. فكأنه سأله بأوصافه".
وقال ابن بلدجى فى شرح المختار: "ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول فى دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك. وعن أبى يوسف جوازه".
وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا، هو عند محمد حرام. وعند أبى حنيفة وأبى يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.
وفى فتاوى أبى محمد بن عبد السلام: "أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشىء من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف فى نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لاعتقاده أن ذلك جاء فى حديث، وأنه لم يعرف صحة الحديث".
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ فى تعظيمة واحترامه، وأنجع فى قضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله. ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده. ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وآخرتهم.
قال شيخنا قدس الله روحه: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، ابعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتثمل لهم الشيطان فى صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام. وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً. وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله".
والمرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به. وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء فى المسجد
فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين. وهى محرمة، وما علمت فى ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب.
والحكاية المنقولة عن الشافعى أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبى حنيفة، من الكذب الظاهر.
فصل
فى الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين
أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ الآخِرَةَ".
الثانى: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحى مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحى فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى. لأنه قد صار فى دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحى بمن يزوره ويهدى له. ولهذا شرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط. ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعواً بهم، ولا يصلى عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.
قالوا: الميت المعظم الذى لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به.
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابى وغيرهما. وصرح بها عباد الكواكب فى عبادتها.
وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور.
وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذى أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. وهو الذى قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه. فوقف المشركون فى طريقه وناقضوه فى قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى شق، وهؤلاء فى شق.
وهذا الذى ذكره هؤلاء المشركون فى زيارة القبور هو الشفاعة التى ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.
فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذى بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم. وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم.
قال تعالى: {أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43-44] .
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذى يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة فى الحقيقة إنما هى له، والذى يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التى أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهى التى أبطلها الله سبحانه فى كتابه، بقوله تعالى:
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفَاعَةٌ} [البقرة: 123] وقوله {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنُفْقِوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه وَلا خُلّةُ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ} [الأنعام: 51] وقال: {اللهُ الّذِى خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْضَ بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم اُسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] . فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى:
{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] . وقال: {مَنْ ذَا الّذِى يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور.
فالشفاعة التى أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتى أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذى لا يشفع ولا يتقدم بين يدى مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع فى فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لَمِنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِى لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شىء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم فى الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولى.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذى لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم فى الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضى. فأما الغنى الذى غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من فى السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته. لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالي: {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخلق ما يشاء وَاللهُ عَلَى كَل شَىءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، وقال سبحانه فى سيدة آى القرآن: آية الكرسى: {لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال:{قل لله الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 44] .
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.
فتبين أن الشفاعة التى نفاها الله سبحانه فى القرآن هى هذه الشفاعة الشركية التى يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هى المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة فى الحقيقة هى منه، فإنه الذى أذن، والذى قبل، والذى رضى عن المشفوع والذى وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذى يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذى يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟} ، إلى قوله:{قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 43-44]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التى تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده فى أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه
فى أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذى عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذى يوجب الرد، وبين الشفاعة التى تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هى سعى فى سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذى يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذى يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه فى أكثر أموره، وهو فى الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده. فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فماله مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .
فصل
ومن مكايد عدو الله ومصايده، التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه
من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50] .
ولقد أحسن القائل:
تُلِىَ الكتَابُ، فأطْرَقُوا، لا خِيفَةً
…
لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سْاهٍ لاهِى
وأتَى الغِنَاءُ، فكالحَميرِتَنَاهَقُوا
…
وَاللهِ مَا رَقَصُوا لأجْلِ اللهِ
دُفِ وَمِزْمَارٌ، وَنغْمَةُ شَاذِنٍ
…
فمتَى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهى؟
ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لَمَّا رَأوْا
…
تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِى
سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقاً، إِذْحَوَى
…
زَجْرًا وتخْوِيفاً مَنَاهِى
وَرَأَوْهُ أَعْظمْ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ
…
شهَوَاتِها، ياذبحها المُتَناهِى
وَأتى السماعُ مُوافِقاًأَغْرَاضَها
…
فَلأَجْلَ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ
أيْنَ المُسَاعِدُلِلْهَوَىِ مِنْ قاطعٍ
…
أَسْبَابَهُ، عِنْدَ الجَهُولِ السّاهى؟
إنْ لَمْ يَكُنْ خَمَر الجُسُومِ، فإنَّهُ
…
خَمْرُ العُقولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِى
فانظْر إِلى النّشْوان عِنْدَ شَرَابَه
…
وانْظُرْ إلى النَّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِى
وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ
…
مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِى
واحكم فأىَّ الخمرتين أحق بالتحريم، والتأثيم عند الله؟
وقال آخر:
برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ
…
يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا
وكم قلْتُ يَاقَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى
…
شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا
شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة
…
إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا
وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم
…
لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا
فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا
…
رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا
فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى
…
وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشى فى خطبة كتابه، فى تحريم السماع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتى المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغناً أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم فى حب الأغانى واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذى يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِين نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِه جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبه أهل الباطل، بالحجج التى تضمنها كتاب الله، وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم فى أقاصى الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين فى بدعتها. والله ولى التوفيق.
ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه، وقال:"إذا اشترى جارية فوجدها مغنية له أن يردها بالعيب".
وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق".
قال: "وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب"،
وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبى، وغيرهم، لا اختلاف بينهم فى ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة فى المنع منه.
قلت: مذهب أبى حنيفة فى ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهى كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا فى ذلك حديثاً لا يصح رفعه.
قالوا: ويجب عليه أن يجتهد فى أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان فى جواره
وقال أبو يوسف، فى دار يسمع منها صوت المعازف والملاهى:"أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض"، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض".
قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه وضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعى: فقال فى كتاب "أدب القضاء": "إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته".
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضى أبى الطيب الطبرى، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق فى "التنبيه": "ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً".
وقال فى "المهذب": "ولا يجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم".
فقد تضمن كلام الشيخ أمورا.
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثانى: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضاً عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغنى، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله فى مقابلة محرم. وأن بذله فى ذلك كبذله فى مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام.
وإذا كان الزمر، الذى هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغى لمن شم رائحة العلم أن يتوقف فى تحريم ذلك. فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربى الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووى في "روضته".
القسم الثانى: أن يغنى ببعض آلات الغناء، بما هو فى شعار شاربى الخمر، وهو مطرب كالطنبور، والعود والصنبح، وسائر المعازف، والأوتار. يحرم استعماله، واستماعه. قال: وفى اليراع وجهان، صحح البغوى التحريم.
ثم ذكر عن الغزالى الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو الشَّبَّابة.
وقد صنف أبو القاسم الدولعى كتاباً فى تحريم اليراع.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذى جمع الدف والشبابة. والغناء. فقال فى فتاويه:
وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد- ممن يعتد بقوله فى الإجماع والاختلاف- أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعى إنما نقل فى الشبابة منفردة، والدف منفرداً، فمن لا يحصل، أو لا يتأمل، ربما اعتقد خلافاً بين الشافعيين فى هذا السماع الجامع هذه الملاهى، وذلك وهم بين من الصائر إليه، تنادى عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه، ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق أو كاد. قال: وقولهم فى السماع
المذكور: إنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم، فعليه ما فى قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . وأطال الكلام فى الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم: المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه.
والشافعى وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه: من أغلظ الناس قولاً فى ذلك.
وقد تواتر عن الشافعى أنه قال: "خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن".
فإذا كان هذا قوله فى التغبير، وتعليله: أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد فى الدنيا، يغنى به مغنّ فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخذة على توقيع غنائه- فليت شعرى ما يقول فى سماع التغبير عنده كتفلة فى بحر. قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل.
قال سفيان بن عيينة: "كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".
ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين.
فصل
وأما مذهب الإمام أحمد؛ فقال عبد الله ابنه: "سألت أبى عن الغناء؟ فقال: الغناء ينبت النفاق فى القلب، لا يعجبنى"، ثم ذكر قول مالك:"إنما يفعله عندنا الفساق".
قال عبد الله: وسمعت أبى يقول: سمعت يحيى القطان يقول: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة فى النبيذ، وأهل المدينة فى السماع، وأهل مكة فى المتعة، لكان فاسقاً".
قال أحمد: وقال سليمان التيمى: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله".
ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها وعنه فى كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان.
ونص فى أيتام ورثوا، جارية مغنية، وأرادوا بيعها، فقال:"لا تباع إلا على أنها ساذجة؛ فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفاً أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوى ألفين؛ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة".
ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام.
فصل
وأما سماعه من المرأة الأجنبية، أو الأمرد فمن. أعظم المحرمات، وأشدها فساداً للدين.
قال الشافعى رحمه الله: "وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته"، وأغلظ القول فيه. وقال:"هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا".
قال القاضى أبو الطيب: "وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقاً".
قال: وكان الشافعى يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول:"وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن".
قال: "وأما العود والطنبور وسائر الملاهى فحرام، ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما".
قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن. فإنه قال:"وما خالف فى الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجى حكى عنه: أنه كان لا يرى به بأساً، والثانى: عبيد الله بن الحسن العنبرى، قاضى البصرة، وهو مطعون فيه".
قال أبو بكر الطرطوشى: "وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا
وطاعة، ورأت إعلانه فى المساجد والجوامع، وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة. وليس فى الأمة من رأى هذا الرأى".
قلت: ومن أعظم المنكرات: تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله فى المسجد الأقصى، عشية عرفة. ويقيمونه أيضاً فى، مسجد الخيف أيام منى. وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفى مراراً، ورأيتهم يقيمون بالمسجد الحرام نفسه والناس فى الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم. ورأيتهم يقيمون بعرفات، والناس فى الدعاء، والتضرع، والابتهال والضجيج إلى الله، وهم فى هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء.
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح فى عدالة من أقرهم ومنصبه الدينى.
وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم:
أَلا قُلْ لَهُمْ قَوْلَ عَبْدٍ نَصُوحٍ
…
وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمعْ:
مَتَى عَلِمَ الناسُ فى دِينِنا
…
بأَنّ الغِنَا سُنَّةٌ تُتّبَع؟
وأَنْ يأكلَ المَرْءُ أَكْلَ الحِما
…
رِ وَيَرْقُصَ فى الجَمْعِ حَتَّى يقَعْ؟
وقَالُوا: سَكِرْنَا بِحُبَّ الإِلهِ
…
وَمَا أسْكَرَ القَوْمَ إلا القِصَعْ
كَذَاكَ البَهَائمِ إِنْ أُشْبِعَت
…
يُرَقَّصُهَا رِيُّها والشَّبُعْ
ويَسْكِرُهُ النَّاىُ، ثُمَّ الغِنا
…
ويس لَوْ تُلِيَتْ ما انْصَدَعْ
فيَا لَلْعقُولِ، وَيَا لِلنُّهَى
…
أَلا مُنْكِرٌ مِنْكُم لِلبِدَعْ
تُهَانُ مَسَاجِدُنَا بَالسّما
…
عِ وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ البِيَعْ
وقال آخر، وأحسن ما شاء:
ذَهَبَ الرَّجَالُ وحال دُونَ مجَالِهمْ
…
زُمَرَّ مِنَ الأوبْاَشِ وَالأَنذَالِ
زَعَمُوا بأَنّهُمُ عَلَى آثَارِهِمْ
…
سَارُوا، ولكِنْ سِيَرةَ البَطّالِ
لَبِسُوا الدُّلُوقَ مُرقَّعاً، وَتَقَشّفُوا
…
كَتَقَشُّفِ الأَقْطَابِ وَالأَبْدَالِ
قَطَعُوا طَرِيقَ السَّالِكِينَ، وَغَوَّرُوا
…
سُبُل الْهُدَى، بجَهَالةٍ وَضَلالِ
عَمَروُا ظَوَاهِرَهُمْ بأَثوَابِ التٍّقَى
…
وَحَشَوْا بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الأدْغالِ
إِنْ قُلتَ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ
…
هَمزُوكَ هَمْزَ المُنْكِر المُتَغَالى
أَوْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ، والأُولى
…
تَبِعُوهُمُ فى القَوْلِ وَالأَعْمَالِ
أوْ قُلْتَ: قَالَ الآلُ، آلُ المُصْطَفى
…
صَلّى عَليهِ اللهُ، أَفْضَلِ آلِ
أوْ قُلْتَ: قَالَ الشّافِعِىُّ، وأحمد
…
وأَبو حَنِيفَةَ، وَالإِمَامُ العَالِى
أَوْ قُلْتَ: قَالَ صِحَابُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ
…
فَالكُلُّ عِنْدَهُمُ كَشِبْهِ خَيَالِ
وَيَقُولُ: قَلْبى قَالَ لِى، عَنَ سِرَّهِ،
…
عَنْ سر سرى، عَنْ صَفَا أَحْوَالِى
عَنْ حَضْرَتى، عَنِ فِكْرَت عَنْ خَلْوَتى
…
عَنْ شَاهِدِى عَنْ وَارِدِى عَنْ حَالِى
عَنْ صَفْوِ وَقْتى، عَنْ حَقِيقِة مَشهدى
…
عَنْ سِرَ ذَاتى، عَنْ صِفَاتِ فِعَالِى
دَعْوَى، إذَا حقَّقْتَهَا، أَلْفَيْتَهَا
…
أَلْقَابَ زُورٍ، لُفَّفَتْ بِمُحالِ
تَركُوا الحَقَائِقَ وَالشّرائِعَ، وَاقْتدَوْا
…
بِظَوَاهِرِ الجُهَّالِ وَالضُّلالِ
جَعَلُوا المِراد فَتْحاً، وألُفَاظَ الخَنَا
…
شَطْحاً، وَصَالُوا صَوْلَةَ الإِدْلال
نَبِذُوا كِتَابَ اللهِ خَلْفَ ظُهُورِهْم
…
نَبْذَ المُسَافرِ فَضْلَةَ الأَكّالِ
جَعَلُوا السَّماعَ مَطِيّة لِهَوَاهُمُوَ
…
غَلَوْا فَقَالُوا فيهِ كُلَّ مُحَالِ
هُوَ طَاعَةٌ، هُوَ قُرْبةٌ، هُوَ سُنةٌ
…
صَدَقُوا لِذَاكَ الشَّيْخِ ذِى الإضلالِ
شَيْخٌ قَديِمٌ، صَادَهُمْ بَتَحَيل
…
حَتَّى أَجَابُوا دَعوةَ المُحْتَالِ
وَرَأَوْا سَمَاعَ الشعر أنْفَعَ للفَتى
…
مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعٍ لَهُمْ بِتوِالِ
هَجَرُوا لَهُ القُرْآنَ وَالأَخْبَارَ وَالآ
…
ـثارَ، إٍذْ شهِدَتْ لَهُمْ بِضَلالِ
تَاللهِ مَا ظَفِرَ العَدُوُّ بِمثْلِهَا
…
مِنْ مِثْلهِمْ، وَاخَيْبَةَ الآمالِ
نَصَبَ الحِبَال لَهُمْ، فَلمْ يَقَعُوا بهَا
…
فأَتى بِذَا الشّرَكِ المُحِيطِ الغالى
فإذا هموا وَسَطِ العَرِينَ مُمَزَّقىال
…
آثْوابِ، والأدْيَانِ، والأحْوَالِ
لا يَسْمَعُونَ سِوَى الّذِى يَهْوُونهُ
…
شُغُلا بِهِ عنْ سائرِ الأشْغَالِ
ودُعُوا إِلى ذاتِ الْيَمينِ فأَعْرَضُوا
…
عَنْهَا، وسَارَ القَوْمُ ذاتَ شِمَالِ
خَرُّوا عَلَى القرآنِ عِنْدَ سَمَاعه
…
صُمَّا، وعَميَاناً ذَوِى إِهمَالِ
وإذَا تلَا القَارِى عَلَيْهِمْ سُورَةً
…
فأطَالهَا، عَدُّوهُ فى الأثْقَالِ
وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَطَلتَ، وَلَيسَ ذَا
…
عَشْرٌ، فَخَفَّفْ، أَنْتَ ذُو إِملالِ
هذَا، وَكَمْ لَغْو، وَكم صَخَبٍ، وَكَم
…
ضَحِكٍ بِلَا أَدَبٍ، وَلا إجْمَالِ
حَتَّى إذَا قَامَ السَّماعُ لَدَيْهِمُ
…
خَشَعَتْ لهُ الأصْواتُ بالإجْلالِ
وَامْتَدَّتِ الأعْنَاقُ، تَسْمعُ وَحْىَ ذَاِ
…
كَ الشّيخِ مِنْ مُتَرنَمَّ قَوَّالِ
وَتحَرَّكَتْ تِلكَ الرُّءُوسُ، وهَزَّهَا
…
طَرَبٌ، وأشْوَاقٌ لِنَيْلِ وِصَالِ
فَهُنَالِكَ الأشْوَاقُ وَالأشْجَانُ وال
…
أَحوَالُ، لا أهلاً بِذِى الأحوَالِ
تَالله لو كانت صحاة أبصروا
…
ماذا دهاهمْ من قبيحِ فِعَالِ
لكنما سُكْرُ السَّماع أَشدُّ مِنْ
…
سُكرِ المدامِ، وذا بلا إشكالِ
فإذا هُمَا اجتمعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً
…
نالتْ من الخسرانِ كل منَالِ
يَا أمَّةً لَعبتْ بدين نبيها
…
كتلاعب الصبيان فى الأوحالِ
أشمتوا أَهْلَ الكتابِ بدينكمْ
…
والله لن يرضوا بذى الأفعالِ
كم ذا نعير منهم بقريقكم
…
سِرا وجهرا عندَ كل جدالِ
قالوا لنا: دين عبادة أهله
…
هذا السماع، فذاك دين محالِ
بل لا تجئُ شريعة بجوازه
…
فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤالِ
لو قلتموا فسق، ومعصية، وتزْ
…
بين من الشيطان للأنذالِ
كنا شهدنا أنَّ ذا دين أتى
…
بالحق، دين الرسل، لا بضلالِ
والله منهم قدسمعنا ذاإلى اللآ
…
ذان من أفواههم بمقال
…
وَتمَامُ ذَاكَ الْقَوْلِ بالْحِيَلِ الّتى
…
فَسَخَتْ عقُودَ الدينِ فَسْخَ فِصَالِ
جَعَلَتْه كالثَّوْبِ المُهَلْهَلِ نَسْجُهُ
…
فِيهِ تُفَصّلُهُ مِنْ الأوصَالِ
مَا شئت مِنْ مَكْرِ وَمِنْ
…
خِدَع وَمنْحِيَلٍ، وَتَلْبِيسٍ بِلَا إقلالِ
فَاحَتلْ عَلَى إسْقَاطِ كُلِّ فَرِيضةٍ
…
وَعَلَى حَرَامِ اللهِ بِالإِحْلالِ
واحتَلْ عَلَى المَظْلُومِ يُقْلَبُ ظالمًا
…
وَعَلَى الظَّلوم، بِضد تِلكَ الَحالِ
وَاقلِبْ، وَحَولْ، فَالتَّحَيُّل كُلُّهُ
…
فى الْقَلْبِ، وَالتَّحْوِيلُ ذُو إِعمالِ
إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ ذَا ظَفِرْتَ بِكُلِّ ما
…
تَبْغِى مِنَ الأفْعَالِ وَالأَقوَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى شُرْبِ المُدَامِ وسَمها
…
غَيْرَ اُسْمِهَا، وَاللَّفْظُ ذُو إجْمَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى أكْلِ الربَا واهْجُرْ شَنا
…
عَةَ لَفْظهِ، وَاحْتَلْ عَلَى الأبْدالِ
وَاحْتَلْ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَلا تَقُلْ
…
هذَا زِناً، وَانْكَحْ رَخِىَّ البَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى حَل العقُودِ وفَسْخِهَا
…
بَعْدَ اللزُومِ، وَذَاكَ ذُو إِشْكَالِ
إِلا عَلَى المُحْتَالِ، فَهْوَ طِبِيبُهَا
…
يَا مِحْنَةَ الأَدْيَانِ بِالمُحْتَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى نَقْضِ الْوُقُوفِ، وَعَوْدِهاَ
…
طَلْقاً، ولا تَسْتَحِى مِنْ إِبطَالِ
فَكر، وقَدر، ثُمَّ فَصلْ بَعدَ ذَا
…
فإِذَا غُلِبْتَ فَلِجَّ فى الإِشْكالِ
واحتل على الميراث، فانزعه من
…
الورَّاث، ثم أبلَع جميع المالِ
قد أثبتوا نسباً وحصراً فيكم
…
حتى تحوز الإرث للأموالِ
واعمد إلى تلك الشهادة واجعل
…
الإبطال هَّمك تحظَ بالأبطالِ
فالحصر إثبات، ونفىٌ، غير معـ
…
لوم، وهذا موضع الإشكالِ
واحْتَلْ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ، فإِنهُ
…
رِزْقٌ هَنِى مِنْ ضَعِيفِ الحالِ
لا سَوْطَهُ تخْشَى، وَلا مِنْ سَيْفه
…
والقَولُ قولُكَ فى ذهابِ المالِ
وَاحْتَلْ عَلَى أَكْلِ الوُقُوفِ فإِنهَا
…
مِثْلُ السَّوَائِبِ رَبّةِ الإِهمالِ
فَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ هِى بَاطِلٌ
…
فى الأَصَلِ، لَمْ تحْتَجْ إلى إِبْطَالِ
فالمَالُ مَالٌ ضَائِع، أَرْباَبهُ
…
هَلَكُوا فَخُذْ مِنْهُ بِلا مِكْيَالِ
وإذَا تَصِحُّ بحُكْمَ قاضٍ عَادِ
…
لٍفَشُرُوطُهَا صَارَتْ إِلى اضْمِحْلَالِ
قد عَطّلَ النَّاسُ الشُّرُوطَ، وَأَهْملوا
…
مَقْصُودَهَا، فَالكُلُّ فى إهْمال
وَتَمامُ ذَاكَ قُضَاتُنَا، وشُهُودُنا
…
فَاسْأَلْ بهِمْ ذَا خبْرَةٍ بالحَالِ
أمَّا الشُّهودُ فَهُمْ عُدُول عن طري
…
قِ العَدْلَ فى الأَقوَال والأفعالِ
زُورًا وتَنْميقاً وكِتْمَانّا، وَتَلْ
…
بيساً، وَإِسْرَافاً بِأَخْذِ نَوَالِ
يَنْسَى شَهَادَتَهُ، وَيَحْلِفْ إنهُ
…
ناس لهَا، والقَلْبُ ذو إِغْفالِ
فإِذَا رَأَى المنقُوشَ، قال: ذَكَرْتُهَا
…
يَا لَلمْذَكرِ، جِئْتَ بالآمالِ
ويقُول قَائِلُهُمْ: أَخوضُ النَّارَ فى
…
نِزْرٍ يَسِيرٍ؟ ذاكَ عَيْنَ خَبَالِ
ثَقلْ لَى المِيزَانَ، إِنَى خَائِضٌ
…
لِلمْنَكِبَيْنِ، أُجَرُّ بالأغْلالِ
أَمَّا القُضَاةُ فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنُهمُ
…
مَا قَدْ سَمِعْتَ، فَلا تَفُهْ بمَقَالِ
ماذا تقول لمن يقول: حكمت أنـ
…
ك فاسق، أو كافر فى الحالِ؟
فإِذَا اسْتَغَثْتَ أُغِثْتَ بالجَلْدِ الَّذِى
…
قَدْ طَرَّقُوهُ كِمَثْلِ طَرْقِ نِعَالِ
فَيَقُولُ طَقْ، فَتَقُولُ: قَطْ، فَتَعَارَضَا
…
وَيكُونُ قَوْلُ الْجَلدِ ذَا إِعْمالِ
فأجَارَكَ الرَّحْمنُ ضَرْبٍ، وَمنْ
…
عَرْضٍ، وَمِنْ كَذِبٍ وَسُوءِ مَقَالِ
هذَا وَنِسْبَةُ ذَاكَ أَجْمَعِهِ إِلى
…
دِينِ الرَّسولِ، وَذَا مِنَ الأَهْوَالِ
حَاشَا رَسُولُ اللهِ يَحْكُمُ بالهوَى
…
والْجَهْلِ، تِلْكَ حُكُومَةُ الضّلالِ
وَاللهِ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا
…
لاجْتَثَّهَا بالنَّقْضِ وَالإِبطَالِ
إِلا الَّتى مِنْهَا يُوافِقُ حُكْمَه
…
فَهُوَ الَّذِى يَلقَاهُ بالإِقبال
أَحْكَامُه عَدْلٌ، وحَق كُلُّهَا
…
فى رَحْمَةٍ، ومَصالِحٍ، وحَلالِ
شَهِدَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ قاطبة بَما
…
فى حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَكَمالِ
فإِذَا أتَتْ أَحْكَامُهُ أَلْفَيْتَهَا
…
وَفْقَ العقولِ، تُزِيلُ كُلَّ عِقَالِ
حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُونَ لِحُكْمِه
…
مَا بَعْدَ هذَا الحْق غَيْرُ ضَلالِ
للهِ أَحْكامُ الرَّسُولِ وَعَدْلَهُا
…
بَيْنَ العِبَادِ وَنَورُهَا المُتَلالى
كَانَتْ بهَا فى الأرْضِ أعْظَمُ رَحمَةٍ
…
والنَّاسُ فى سَعْدٍ وَفى إِقبَالِ
أَحْكامُهُمْ تجْرِى عَلَى وَجْهِ السَّدَ
…
ادِ، وَحَالُهُمْ فى ذَاكَ أحْسَنْ حَالِ
أَمْناً، وعزا فى هُدًى، وَتَرَاحُمٍ
…
وَتَوَاصُلٍ، وَمَحَبّةٍ، وَجلالِ
فَتَغَيَّرَتْ أَوْضَاعُهَا، حَتَّى غَدَتْ
…
مَنْكُورةً، بِتَلوُّثِ الأعمالِ
فَتَغَيَّرَتْ أَعمالُهُمْ وَتَبدَّلَتْ
…
أَحْوَالُهُمْ بالنَّقْصِ بَعْدَ كمَالِ
لَوْ كانَ دِينُ اللهِ فيهِمْ قائماً
…
لَرَأَيْتَهُمْ فى أَحْسَنِ الأحْوَالِ
وإِذا هُمُوا حَكَمُوا بحُكْمٍ جَائرٍ
…
حَكَمُوا لمُنْكِرِهِ بِكُل وَبَالِ
قُالوا: أتُنْكِرُ حُكمَ شَرْعِ مُحَمدٍ؟
…
حَاشَا لِذَا الشّرْعِ الشَّرِيفِ العَالِى
عَجَّتْ فُرُوجُ النَّاسِ، ثُمَّ حُقُوقُهُم
…
للهِ بِالبُكُرَاتِ والآصَالِ
كمْ تُسْتَحَلُّ بكل حُكْمٍ بَاطِلٍ
…
لا يَرْتَضِيهِ رَبُّنَا المُتَعَالِى
والكلُّ فى قَعْرِ الجَحِيمِ، سِوَى الَّذِى
…
يَقْضِى بِدينِ اللهِ، لا لِنَوَالِ
أَوَ مَا سَمِعْتَ بأَنّ ثُلْثَيْهِمْ غَدا
…
فى النَّار، فى ذَاكَ الزَّمَانِ الَخْالى؟
وَزَمَانُنَا هذَا، فَرَبُّكَ عَالِمٌ
…
هَلْ فيهِ ذَاكَ الثُّلْثُ، أَمْ هُوَ خَالِى؟
يا بَاغِىَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ
…
لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَهِ الآمَالِ
انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى
…
كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِى
واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا
…
خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهمْ سِوَى
…
سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ
دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه
…
وَبِهِ اقْتَدوْا فى سَائرِ الأحوالِ
نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى
…
فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ مآلِ
القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ
…
النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ
التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ منكر
…
وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ
أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيهمْ
…
وَسِوَاهُمُ بِالضِّدَّ فى ذِى الحْالِ
مَا شَانَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْص، وَلا
…
فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِى
عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا، وَلم يَتَكَلّفُوا
…
فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ
وَسوَاهم بالضد فى الأَمْرَيْنِ، قد
…
تَرَكُوا الْهُدَى، وَدَعَوْا لكل ضْلالِ
فَهُمُ الأدِلةُ لِلْحَيارَى، مَنْ يَسرْ
…
بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْش مِنْ إضْلالِ
وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً
…
وعُلوَّ مَنْزِلةً، وبُعْدَ مَنالِ
يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً، نُطْقُهمْ
…
بالَحْق، لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال
حِلماً، وَعِلْمًا، مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ
…
ونَصِيحَةٍ، مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ
…
بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ
وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ
…
مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ
فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ
…
لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ
…
يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ
…
وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى
ولَقدْ أَبَانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ
…
فى سُورَةِ الفَتْحِ المبِينِ العَالِى
وَبِرَابِع السبع الطوَالِ صِفَاتهُم
…
قَوْمٌ يحُبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ
وَبَرَاءَةٍ، والْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ
…
وَبِهَلْ أَتَى، وَبسُورَةِ الأنفالِ
فصل
هذا السماع الشيطانى المضادّ للسماع الرحمانى، له فى الشرع بضعة عشر اسما:
اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق فى القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود:
أسْمَاؤْهُ دَلّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ
…
تَبَّا لِذى الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ
فنذكر مخازى هذه الأسماء، ووقوعها عليه فى كلام الله عز وجل وكلام رْسوله والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا، وأى تجارة رابحة خسروا:
فدع صاحب المزمار والدف والغنا
…
وما اختاره الله عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش في غيه وضلاله
…
على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا
وفي تنتنا يوم المعاد نجاته
…
إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
سيعلم يوم العرض أي بضاعة
…
أضاع، وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان فيه حياته
…
إذا حصلت أعماله كلها هبا
دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه؟
…
فقال لداعي الغي: أهلاً ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى، قائلاً له
…
هواي إلى صوت المعارف قد صبا
يراع، ودف بالصنوج، وشاهد
…
وصوت مغن، صوته يقنص الظبا
إذا ما تغني فالظباء تجيبه
…
إلى أن تراها حوله تشبه الدبا
فما شئت من صيد بغير تطارد
…
ووصل حبيب كان بالهجر عذبا
فيا آمري بالرشد، لو كنت حاضراً
…
لكان توالي اللهو عندك أقربا
فصل
فالاسم الأول: اللهو، ولهو الحديث:
قال الواحدى وغيره: أكثر المفسرين: على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس فى رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود، فى رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة.
وروى ثور بن أبى فاختة عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِى الَجْارِيَةَ تُغَنِّيهِ لِيْلاً وَنهَارًا"}
وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد: "هو اشتراء المغنى والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل" وهذا قول مكحول.
وهذا اختيار أبى إسحاق أيضاً.
قال: أكثر ما جاء فى التفسير: أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء، لأنه يلهى عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدى: قال أهل المعانى: ويدخل فى هذا كل من اختار اللهو، والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر فى الاستبدال، والاختيار، وهو كثير فى القرآن. قال: ويدل على هذا: ما قاله قتادة فى هذه الآية "لعله أن لا يكون أنفق مالاً" قال: "وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق".
قال الواحدى: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء، ثم ذكر كلام الشافعى فى رد الشهادة بإعلان الغناء.
قال: وأما غناء القينات: فذلك أشد ما فى الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:"مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى قَيْنَةٍ صُبَّ فى أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الآنك: الرصاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ففى "مسند الإمام أحمد"، "ومسند عبد الله بن الزبير الحميدى"، "وجامع الترمذى" من حديث أبى أمامة، والسياق للترمذى: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَبِيعُوا الْقينَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فى تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثمَنُهُنَّ حَرَامٌ".
فى مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6] .
وهذا الحديث وإن كان
مداره على عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد الإلهانى عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلى ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله، ويكفى تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود.
قال أبو الصهباء: "سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث} [لقمان: 6] فقال: والله الذى لا إله غيره هو الغناء -يرددها ثلاث مرات.
وصح عن ابن عمر رضى الله عنهما أيضاً أنه: [الغناء] .
قال الحاكم أبو عبد الله فى التفسير، من كتاب المستدرك: "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند.
وقال فى موضع آخر من كتابه: "هو عندنا فى حكم المرفوع".
وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة. وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل.
ولا تعارض بين تفسير "لهو الحديث" بالغناء، وتفسيره: بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث، ولهذا قال ابن عباس:"لهو الحديث: الباطل والغناء".
فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما.
والغناء أشد لهواً، وأعظم ضرراً من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث
بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، وإذا تليى عليه القرآن ولى مستكبراً كأن لم يسمعه، كأن فى أذنيه وقراً، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.
يوضحه: أنك لا تجد أحداً عنى بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنى ويستقصر نوبته، وأقل ما فى هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه
والكلام فى هذا مع من فى قلبه بعض حياة يحس بها. فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة:
فصل
الاسم الثانى والثالث: الزور، واللغو.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِالَّلغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] .
قال محمد بن الحنفية: "الزور هاهنا الغناء"، وقاله ليث عن مجاهد، وقال الكلبى: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو فى اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه. ويدخل فى هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها.
قال الزجاج: "لا يجالسون أهل المعاصى، ولا يمالئونهم عليها، ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله".
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: مر بلهو فأعرض عنه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"إِنْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيماً ".
وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه نقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللغو أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] .
وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغواً فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه:"لنا أعمالنا ولكم أعمالكم".
وتأمل كيف قال سبحانه {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] .
ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله؟. والغناء من أعظم الزور.
والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما فى حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال:"هذا الزور" فالزور: القول، والفعل، والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلانا، إذا ملت إليه، وعدلت إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذى لا حقيقة له قولاً وفعلاً.
فصل
الاسم الرابع: الباطل.
والباطل: ضد الحق، يراد به المعدوم الذى لا وجود له، والموجود الذى مضرة وجوده أكثر من منفعته.
فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل، ومن الثانى قوله: السحر باطل، والكفر باطل، قال تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] .
فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع فيه، فالكفر والفسوق والعصيان والسحر، والغناء، واستماع الملاهى: كله من النوع الثانى.
قال ابن وهب: أخبرنى سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: "كيف ترى فى الغناء، قال: فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال له القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: فى النار، قال: فهو ذاك".
وقال رجل لابن عباس رضى الله عنهما: "ما تقول فى الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حراماً إلا ما فى كتاب الله. فقال: أفحلال هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك".
فهذا جواب ابن عباس رضى الله عنهما عن غناء الأعراب، الذى ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات. [فإن غناء القوم لم يكن فيه شىء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا] أعظم قول. فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته.
فمن أبطل الباطل أن تأتى شريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذى هو
سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو أفضل من التخلى لنوافل العبادة، فلو كان نكاح التحليل جائزاً فى الشرع لكان أفضل من قيام الليل، وصيام التطوع، فضلاً أن يلعن فاعله.
فصل
وأما اسم المكاء والتصدية.
فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] .
قال ابن عباس، وابن عمر، وعطية، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة:"المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق".
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا، يمكو، مكاء، إذا جمع يديه ثم صفر فيهما، ومنه: مكت است الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت. ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرغاء، والعواء، والثغاء. قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة، إلا حرفين: النداء، والغناء.
وأما التصدية: فهى فى اللغة: التصفيق، يقال: صدى يصدى تصدية، إذا صفق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
ِإذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ
…
صَلاتُكُمُ التَّصَدِّى وَالمُكاءُ
وهكذا الأشباه يكون المسلمون فى الصلوات الفرض والتطوع، وهم فى الصفير والتصفيق.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: "كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويصفرون ويصفقون".
وقال مجاهد: "كانوا يعارضون النبى صلى الله عليه وسلم فى الطواف ويصفرون ويصفقون، يخلطون عليه صلاته وطوافه"، ونحو ذلك عن مقاتل.
ولا ريب أنهم كانوا يفعلوا هذا وهذا.
فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول، وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثانى.
قال ابن عرفة، وابن الأنبارى: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التى أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته، فجعل جفائى صلتى، أى أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود: أن المصفقين والصفارين فى يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم فى جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال [وقت الحاجة إليه] فى الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصى قولاً وفعلاً؟.
فصل
وإنما تسميته رقية الزنى:
فهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه، فليس فى رقى الزنى أنجع منه، وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض.
قال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض: "الغناء رقية الزنى".
قال: إبراهيم بن محمد المروزى عن أبى عثمان الليثى قال: قال يزيد بن الوليد: "يا بنى أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد فى الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه
لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى".
قال: وأخبرنى محمد بن الفضل الأزدى قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عنى، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعنى ابنته، فإن كففته وإلا خرجت عنك.
ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: "كنا فى عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجئ بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة. ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة، ولا تحل، فخل"[سبيلهم قال:] فخلى سبيلهم".
قال: وأخبرنى الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "جاوروا الحطيئة قوماً من بنى كلاب، فمشى ذو النهى منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم، إنكم قد رميتم بداهية، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظن فيحقِّق، ولا يستأنى فيتثبت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو فى فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب، فنأتيه، وعما تكره، فنزدجر عنه، فقال: جنبونى ندى مجلسكم، ولا تسمعونى أغانى شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنى".
فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان، الذى هابت العرب هجاه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟
ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهو أعلم بالإثم الذى يستحقه.
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطى الليان.
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأنجشة حادية:
"يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَك رِفْقاً بِالْقَوَارِيرِ": يعنى النساء.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من ذى غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشاياً، وكم من معافى تعرّض له فأمسى، وقد حلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا، وكم جرّع من غصة وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة كما قيل:
فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ
…
لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا فى الزَّوَايَا
وَحاذِرْ إذا شُغِفْت بِه سِهَاماً
…
مُرَيشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا
إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْباً كَئِيباً
…
يقلب بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا
وَيُصُبِحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرا
…
عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْداً لِلصّبايَا
وَيُعْطِى مَنْ بهِ يُغنِى غِنَاءً
…
وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا
فصل
وأما تسميته: مُنبت النفاق.
فقال على بن الجعد: حدثنا [محمد بن] طلحة عن سعيد بن كعب المروزى عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء الزرع".
وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: "الغناء ينبت النفاق فى القلب".
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعاً رواه ابن أبى الدنيا فى "كتاب ذم الملاهى".
قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمى بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيخ عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فى القَلْبِ كما يُنْبِتُ المَاءُ البَقْلَ".
وقد تابع حرمى بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم.
قال أبو الحسين بن المنادى فى كتاب "أحكام الملاهى": حدثنا محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوراق، حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث. فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفى رفعه نظر، والموقوف أصح.
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق فى القلب من بين سائر المعاصى؟
قيل: هذا من أدل شئ على فقه الصحابة فى أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمدوى من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التى ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء، وكثرة المرَضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن فى السلف، والعدول عن الدواء النافع الذى ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد المرض وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، قام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير فى صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهى القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغى، وينهى عن اتباع
خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفى تهييجهما على القبائح فرساً رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وخليفته، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذى لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التى لا تفسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل فى مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة، والرعونة، والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن. فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقَلَّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بينى وبين قرآن عدوك فى صدر واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا
…
عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ؟
وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَانى
…
فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ
فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى
…
سُرُورًا، وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِى
إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ
…
أَجابَ الّلهْوُ: حَىَّ عَلَى السَّماحِ
وَلَمْ نْملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئاً
…
أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ المِلَاحِ
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق فى قوم، والعناد فى قوم، والتكذيب فى قوم، والفجور فى قوم، والرعونة فى قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان، كما سيأتى، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن فى قلب أبدا.
وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة فى الله والدار الآخرة وقلبه يغلى بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول الحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاق: قول الباطل، وعمل البغى، هذا ينبت على الغناء.
وأيضاً، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضاً، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث [يظن] أنه يصلحه. والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات، قال الضحاك:"الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهى، التى بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغنى عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغانى، واللهج بها ينبت النفاق فى القلب كما ينبت العشب على الماء".
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة. فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته قرآن الشيطان.
فمأثور عن التابعين، وقد روى فى حديث مرفوع،
قال قتادة: "لما أهبط إبليس قال: يا رب لعنتنى، فما عملى؟ قال: السحر، قال فما قرآنى؟ قال: الشعر، قال: فما كتابى؟ قال: الوشم، قال: فما طعامى؟ قال: كل ميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابى؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنى؟ قال: الأسواق، قال فما صوتى؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدى؟ قال: النساء".
هذا والمعروف فى هذا وقفه، وقد رواه الطبرانى فى "معجمه" من حديث أبى أمامة مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقال ابن أبى الدنيا فى كتاب "مكايد الشيطان وحيله" حدثنا أبو بكر التميمى، حدثنا ابن أبى مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله عليه سلم قال:"إِنّ إِبْليسَ لَمّا أُنْزِلَ إِلَى الأَرْضِ قالَ: يا رب، أَنْزَلْتَنِى إِلى الأَرْضِ، وَجَعَلتَنى رَجِيمِاً، فَاجْعَلْ لِى بَيْتاً، قالَ: الْحَمَّامُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَجْلِساَ، قالَ: الأَسْوَاقُ وَمَجَامِعُ الطُّرُقَاتِ، قالَ: فاجْعَلْ لى طَعاماً، قالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، قالَ: فاجْعَلْ لى شَرَاباً، قالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ، قالَ: فاجْعَلْ لى مُؤَذِّناً، قالَ: المِزْمَارُ، قالَ: فاجْعَلْ لى قُرْآناً، قَالَ: الشَّعْرُ، قالَ: فاجْعَلْ لى كِتَاباً، قالَ: الوَشْمُ، قالَ: فَاجْعلْ لى حَدِيثاً، قالَ: الْكَذِبُ، قالَ: فاجْعَلْ لِى رُسُلاً، قالَ الْكَهَنَةُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَصَايِدَ، قالَ: النِّسَاءُ".
وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شواهد من السنة، أو من القرآن.
فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى:
وأما كونه الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود فى "سننه" من حديث جبير بن مطعم:
"أنّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يُصَلّى، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، الْحْمدُ للهِ كَثِيراً، الْحمْدُ للهِ كَثِيراً، الْحْمدُ للهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ثلاثاً أَعوذُ باللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيم: مِنْ نَفْخِهِ، وَنَفْثِه، وَهَمْزِهِ"، قالَ: نَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الكِبْرُ، وَهَمْزُهُ: المُوتَهُ.
ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان. وأخبر أنه لا ينبغى له، فقال:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ} [يس: 69] .
وأما كون الوشم كتابه، فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الواشمة والمستوشمة" فلعن الكاتبة والمكتوب عليها.
وأما كون الميته ومتروك التسمية طعامه، فإن الشيطان يستحلّ الطعام، إذا لم يذكر عليه اسم الله، ويشارك آكله، والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى، فهى وكلّ طعام إذا لم يذكر عليه اسم الله عز وجل من طعامه، ولهذا لما سأل الجنُّ الذين آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الزاد، قال:"لَكمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ".
فلم يبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية.
وأما كون المسكر شرابه. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَملِ الشَّيْطَان} [المائدة: 90] .
فهو يشرب من الشراب الذى عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم فى عمله. فيشاركهم فى عمله وشربه، وإثمه، وعقوبته.
وأما كون الأسواق مجلسه ففى الحديث الآخر: "أَنّهُ يَرْكُزُ رَايَتَهُ بِالسُّوقِ" ولهذا يحضره
اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش. وكثير من عمله، وفى صفة النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الكتب المتقدمة:
"أَنّهُ لَيْسَ صَخّابًا بالأَسْوَاقِ".
وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة، وفى حديث أبى سعيد:
"الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إٍلا المَقْبَرَةُ والْحَمَّامُ".
ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤسس على النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها.
وأما كون المزمار مؤذنّه، ففى غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية صلاته، فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإمام ومأموم. فالمؤذن المزمار، والإمام المغنى، والمأموم الحاضرون.
وأما كون الكذب حديثه، فهو الكاذب، الآمر بالكذب، المزين له، فكل كذب يقع فى العالم فهو تعليمه وحديثه.
وأما كون الكهنة رسله، فلأن المشركين يهرعون إليهم، ويفزعون إليهم فى أمورهم العظام، ويصدقونهم، ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيبات التى لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبه، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"مَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بَما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدِ".
فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع فى العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يبعد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقدر قربه من الكاهن، ويكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن
وقوله: اجعل لى مصايد، قال: مصايدك النساء، فالنساء أعظم شبكة له، يصطاد بهن الرجال، كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى الفصل الذى بعد هذا.
والمقصود أن: الغناء المحرم قرآن الشيطان.
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة وآلات الملاهى والمعازف، وأن يكون من امرأة جملية، أو صبى جميل. ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه، تعويضا به عن القرآن المجيد.
فصل
وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر.
فهى تسمية الصادق المصدوق، الذى لا ينطق عن الهوى.
فروى الترمذى من حديث ابن أبى ليلى عن عطاء عن جابر رضى الله عنه قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ إِلى النَّخْلِ، فإِذَا ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَوَضَعَهُ فى حِجْرِهِ، ففاضت عَيْنَاهُ، فقَالَ عبد الرحمن: أَتَبْكِى، وَأَنْتَ تَنْهَى النَّاسَ؟ قالَ: إِنِّى لَمْ أَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ، وَإنمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أحْمقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةٍ: لْهَوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقَّ جُيُوبٍ، وَرَنّةٍ وَهذَا هُوَ رَحْمَةٌ، وَمَنْ لا يَرْحَمُ لا يرحم لَوْلا أَنّهُ أَمْرٌ حَق، وَوَعْدٌ صِدْقٌ، وَأنّ آخِرَناَ سَيَلْحَقُ أوَّلَنَا، لَحَزِنّا عَلَيْكَ حُزْناً هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذَا، وَإِنّا بِكَ لمَحْزُونُونَ، تَبْكِى الْعَيْنُ وَيَحزَنُ الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ". قال الترمذى: هذا حديث حسن.
فانظر إلى هذا النهى المؤكد، بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وقد أقر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان فى الحديث الصحيح، كما سيأتى، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهى أبدا.
وقد اختلف فى قوله "لا تفعل" وقوله "نهيت عن كذا" أيهما أبلغ فى "التحريم"؟
والصواب بلا ريب: أن صيغة "نهيت" أبلغ فى التحريم، لأن "لا تفعل" يحتمل النهى وغيره، بخلاف الفعل لصريح.
فكيف يستجيز العارف إباحة ما نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وسماه صوتا أحمق فاجراً، ومزمور الشيطان، وجعله والنياحة التى لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهى عنهما مخرجاً واحداً، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا.
وقال الحسن: "صوتان ملعونان: مزمار عند نغمة، ورنة عند مصيبة".
وقال أبو بكر الهذلى: "قلت للحسن: أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم؟ قال: لا، ولكن هاهنا خمش وجوه، وشق جيوب، ونتف أشعار، ولطم خدود، ومزامير شيطان، صوتان قبيحان فاحشان: عند نغمة إن حدثت، وعند مصيبة إن نزلت، ذكر الله المؤمنين فقال:
{وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالهِمْ حَق مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25] .
وجعلتم أنتم فى أموالكم حقاً معلوماً للمغنية عند النغمة، والنائحة عند المصيبة.
فصل
وأما تسميته صوت الشيطان.
فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتُ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [الإسراء: 63-64] .
قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا أبى أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
قال: "كل داع إلى معصية".
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعى إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به. قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى. أخبرنا يحيى بن المغيرة. أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}
قال: "استزل منهم من استطعت قال: "وصوته الغناء، والباطل".
وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال: "صوته المزامير".
ثم روى بإسناده عن الحسن البصرى قال: "صوته هو الدف".
وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، ومصوت بيراع أو مزمار، أو دف حرام، أو طبل، فذلك صوت الشيطان، وكل ساع فى معصية الله على قدميه فهو من رجله، وكل راكب فى معصية الله فهو من خيالته، كذلك قال السلف، كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال:"رجله كل رجل مشت فى معصية الله".
وقال مجاهد: "كل رجل يقاتل فى غير طاعة الله فهو من رجله".
وقال قتادة: "إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس".
فصل
وأما تسميته مزمور الشيطان.
ففى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها قالت: "دَخَلَ عَلَىَّ النَّبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَعِنْدِى جَارِيتَانِ تُغَنِّياَنِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ، فَانْتَهَرَنِى، وَقَالَ: مِزْمَارُ الشّيْطَانِ عِنْدَ النَّبىَّ صَلّى اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ؟ فأَقْبََلَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "دَعْهُمَا"، فَلمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فخرجن".
فلم ينكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أبى بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما، لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب، الذى قيل فى يوم حرب بعاث من الشجاعة، والحرب، وكان اليوم يوم عيد، فتوسع حزب الشيطان فى ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية، أو صبى أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغنى بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمور، مع آلات اللهو التى حرمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى عدة أحاديث، كما سيأتى. مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التى لا يستحلها أحد من أهل الأوثان، فضلاً عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوها فى الشجاعة ونحوها وفى يوم عيد، بغير شبابة ولا دف، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح، لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل.
نعم، نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان فى بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرم وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك، وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته بالسمود.
فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59-61] .
قال عكرمة عن ابن عباس "السمود: الغناء فى لغة حمير". يقال: اسمُدى لنا، أى غنى لنا، وقال أبو زبيد:
وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ
…
لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ
قال أبو عبيدة: "المسمود: الذى غنى له"، وقال عكرمة:"كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، فنزلت هذه الآية".
وهذا لا يناقض ما قيل فى هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشئ، قال المبرد: هو الاشتغال عن الشئ بهمّ أو فرح يتشاغل به، وأنشد:
رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ
…
بمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودَا
وقال ابن الأنبارى: السامد اللاهى، والسامد الساهى، والسامد المتكبر، والسامد القائم.
وقال ابن عباس فى الآية: "وأنتم مستكبرون". وقال الضحاك: "أشرون بطرون"، وقال مجاهد:"غضاب مبرطمون"، وقال غيره:"لاهون غافلون معرضون".
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه.
فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء.
فصل
فى بيان تحريم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف وسيأتى الأحاديث فى ذلك.
عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: حدثنى أبو عامر، أو أبو مالك الأشعرى رضى الله عنهما أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ
والْحَرِيرَ وَالْخمَرَ وَالمَعَازِفَ".
هذا حديث صحيح، أخرجه البخارى فى "صحيحه" محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال:"باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه"، وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابى حدثنى عبد الرحمن بن غنم الأشعرى حدثنى أبو عامر، أو أبو مالك الأشعرى والله ما كذبنى أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول:
"لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتى أقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والْحَرِيرَ وَالْخَمرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقَوُلُوا اُرْجعْ إِلَيْنَا غَداً، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ تَعَالى وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخنازير إِلى يوْمِ الْقِيَامَةِ".
ولم يصنع من قدح فى صحة هذا الحديث شيئاً، كابن حزم، نصرة لمذهبه الباطل فى إباحة الملاهى، وزعم أنه منقطع، لأن البخارى لم يصل سنده به.
وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخارى قد لقى هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال "قال هشام" فهو بمنزلة قوله "عن هشام".
الثانى: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا، وقد صح عنه أنه حدث به. وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته. فالبخارى أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله فى كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإذا توقف فى الحديث أو لم يكن على شرطه يقول:"ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر عنه"، نحو ذلك: فإذا قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً فالحديث صحيح متصل عند غيره.
قال أبو داود فى كتاب اللباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال: سمعت عبد الرحمن ابن غنم الأشعرى قال حدثنا أبو عامر أو أبو مالك، فذكره مختصراً. ورواه أبو بكر الإسماعيلى فى كتابه الصحيح مسنداً، فقال: أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هى آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة فى ذلك. ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخزّ. فإن كان بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام. وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير، غير الذى صح عن الصحابة رضى الله عنهم لبسه. إذ الخز نوعان أحدهما: من حرير. والثانى: من صوف. وقد روى هذا الحديث بالوجهين.
وقال ابن ماجه فى "سننه": حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبى مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعرى عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى الْخمْرَ،
يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالمَعَازِفِ وَالمُغَنَيِّاَتِ، يَخْسِفُ اللهُ بِهمُ الأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وخنازير".
وهذا إسناد صحيح. وقد توعد مستحلى المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير. وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط فى الذم والوعيد.
وفى الباب عن سهل بن سعد الساعدى، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبى هريرة، وأبى أمامة الباهلى، وعائشة أم المؤمنين، وعلى بن أبى طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغازى بن ربيعة رضى الله عنهم.
ونحن نسوقها لتقربّها عيون أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان.
فأما حديث سهل بن سعد، فقال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الهيثم بن خارجة حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبى حازم عن سهل بن سعد الساعدى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"يَكُونُ فِى أُمَّتِى خَسْفٌ وَقَذْفٌُ وَمَسْخٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتِ المَعَازفُ والْقَيْنَاتُ وَاسْتُحِلَّتِ الخْمرَةُ".
وأما حديث عمران بن حصين فرواه الترمذى من حديث الأعمش عن هلال ابن يساف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى قذف وخسف ومسخ، فقال رجل من المسلمين: متى ذاك، يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان، والمعازف، وشربت الخمور" قال الترمذى: هذا حديث غريب.
وأما حديث عبد الله بن عمرو، فروى أحمد فى "مسنده" وأبو داود عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:"إِنّ اللهَ تَعَالى حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِى الْخْمرَ وَالمَيْسِرَ والْكُوبَةَ وَالْغُبَيرَاءَ وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ".
وفى لفظ آخر لأحمد: "إن الله حرم على أمتى الخمر والميسر والمزِر والكوبة والقِنِّين".
وأما حديث ابن عباس ففى المسند أيضاً: عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام" والكوبة الطبل. قاله سفيان وقيل: البربط، والقنين: هو الطنبور بالحبشية، والتقنين: الضرب به، قاله ابن الأعرابى.
وأما حديث أبى هريرة رضى الله عنه. فرواه الترمذى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"إِذَا اتُّخِذَ الْفَئُْ دُوَلاً، وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً، والزَّكَاةُ مَغْرَماً، وَتُعُلَّمَ الْعِلْمُ لِغَيْر الدِّين، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وأَدْنَى صَدِيقَهُ، وأُقْصَى أبَاهُ، وظَهَرَتِ الأصْوَاتُ فى المسَاجدِ، وسَادَ الْقَبيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكانَ زَعِيمَ الْقَوْمِ أَرْذَلُهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ، وشُرِبَتِ الْخَمْرُ، وَلَعَنَ آخِرُ هذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا، فَلْيَرْ تَقِبُوا عِنْدَ ذلِكَ رِيحاً حَمْرَاءَ، وَزَلْزَلَةً وَخَسْفاً، وَمَسْخاً، وَقَذفاً، وآيَاتٍ تتابع كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ".
قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمى حدثنا سليمان بن سالم أبو داود حدثنا حسان بن أبى سنان عن رجل عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ فى آخِر الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ يَشْهَدُونَ أَنْ لا إِلُهَ إِلا اللهُ، وَأَنّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، وَيصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَيَحجُّونَ، قِيلَ: فَمَا بَالُهُمْ؟ قَالَ: اتَّخَذُوا المَعَازِفَ وَالدُّفُوفَ والْقَيْنَاتِ، فَبَاتُوا عَلَى شُرْبهِمْ وَلهْوِهِمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُسِخُواَ قِرَدَةً وخَنَازِيرَ".
وأما حديث أبى أمامة الباهلى فهو فى "مسند" أحمد والترمذى عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "تبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وخَنَازِيرَ، وَيُبْعَثُ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَائهِمْ رِيحٌ، فَيَنْسِفُهُمْ كما نَسَفَ مَنْ كان قَبْلَكمْ، بِاسْتِحْلالَهمُ الْخَمْرَ، وَضَرْبهِمْ بِالدُّفُوفِ، وَاتِّخَاذِهمُ الْقَيْنَاتِ".
فى إسناده فرقد السبخى، وهو
من كبار الصالحين. ولكنه ليس بقوى فى الحديث،
وقال الترمذى: تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمى حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا فرقد السبخى حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب قال: وحدثنى عاصم بن عمرو البجلى عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"يَبِتِ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ، وَشُرْبٍ وَلهْوٍ، فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةْ وَخَنَازِيرَ، وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ: خُسِفَ الَّليْلَهَ بِدَارِ فُلَانٍ، خُسِفَ الَّليْلَةَ بِبَنى فُلَانٍ، وَلُيْرسَلَنَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّماءِ كما أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، على قبائل فيها، وعَلَى دُورٍ فِيهَا، وَلَيُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ الرِّيحُ الْعَقِيمُ الّتِى أَهْلَكَتْ عَادًا، بِشُرْبهِمْ الْخَمر، وَأَكْلِهمْ الرِّبَا، وَاتِّخاذِهِمُ القَيْنَاتِ، وَقَطِيعَتِهُمُ الرَّحِمَ".
وفى "مسند" أحمد من حديث عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِى رَحْمَةً وَهُدىً لِلْعَالمِينَ، وَأَمَرَنى أنْ أَمْحَقَ المَزَامِيرَ وَالْكِبَارَاتِ يَعْنِى البَرَابِطَ، وَالمَعَازِفَ وَالأَوْثَانَ، الّتِى كانَتْ تُعْبَدُ فى الْجَاهِلِيَّةِ".
قال البخارى: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلى بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ثقة.
وفى الترمذى و"مسند" أحمد بهذا الإسناد بعينه: أن النبى صلى الله تعالي عليه وآله وسلم قال: "لا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا تُعَلّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فى تَجِارَةٍ فِيهِنَّ، وَثمَنُهُنَّ حَرَامٌ".
وفى مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
…
الآية} [لقمان: 6] .
وأما حديث عائشة رضى عنها فقال ابن أبى الدنيا: حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى خسف ومسخ وقذف، قالت عائشة: يا رسول الله، وهم يقولون لا إله إلا الله؟ فقال: إذا ظهرت القينات، وظهر الزنى، وشربت الخمر، ولبس الحرير، كان ذا عند ذا".
وقال ابن أبى الدنيا أيضاً: حدثنا محمد بن ناصح حدثنا بقية بن الوليد عن يزيد ابن عبد الله الجهنى حدثنى أبو العلاء عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة رضى الله عنها ورجل معه، فقال لها الرجل:"يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنى، وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله فى سمائه، فقال: تزلزلى [بهم] ، فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم، قال قلت: يا أم المؤمنين، أعذاب لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين، ونكال وعذاب وسخط على الكافرين"، قال أنس:"ما سمعت حدثياً بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنا أشد به فرحاً منى بهذا الحديث".
وأما حديث على فقال ابن أبى الدنيا أيضاً: حدثنا الربيع بن تغلب حدثنا فرج ابن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن على عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا عَمِلَتُ أُمَّتِى خَمْسَ عَشْرَةَ خصلَةً حَلَّ بهَا الْبَلَاءُ، قِيلَ: يَا رَسُول اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قالَ: إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوَلا، وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً، وَالزَّكاةُ مِغْرَماً، وَأَطَاع الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَق أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ فى المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الَحْرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقِيَانُ، وَلَعَنَ آخِرُ هذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذلِكَ رِيحاً حَمْراءَ وَخَسْفاً وَمَسْخاً".
حدثنا عبد الجبار بن عاصم قال: حدثنا أبو طالب قال حدثنا إسماعيل ابن عياش عن عبد الرحمن التميمى عن عباد بن أبى على عن على رضى الله عنه رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: " تمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير، ويخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم، بأنهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير واتخذوا القيان، وضربوا بالدفوف".
وأما حديث أنس رضى الله عنه فقال ابن أبى الدنيا: حدثنا أبو عمرو هارون ابن عمر القرشى حدثنا الخصيب بن كثير عن أبى بكر الهذلى عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليكونن فى هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، ذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف".
قال: وأخبرنا أبو إسحاق الأزدى حدثنا إسماعيل بن أبى أويس حدثنى عبد الرحمن [بن زيد] بن أسلم عن أحد ولد أنس بن مالك، وعن غيره، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أَرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ".
وأما حديث عبد الرحمن بن سابط فقال ابن أبى الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا جرير، عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى خسف وقذف ومسخ، قالوا: فمتى ذاك، يا رسول الله؟ قال: إذا أظهرت المعازف، واستحلوا الخمور".
وأما حديث الغازى بن ربيعة. فقال ابن أبى الدنيا حدثنا: عبد الجبار بن عاصم حدثنا إسمعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد عن أبى العباس الهمدانى عن عمارة بن راشد عن الغازى بن ربيعة رفع الحديث قال: "ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير، بشربهم الخمر، وضربهم بالبرابط والقيان".
قال ابن أبى الدنيا: وحدثنا عبد الجبار بن عاصم قال حدثنى المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "ليستحلن ناس من أمتى الحرير والخمر والمعازف، وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير".
قال ابن أبى الدنيا: حدثنا هارون بن عبيد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلى قال: قلت لفرقد السبخى: أخبرنى يا أبا يعقوب، من تلك الغرائب التى قرأت فى التوراة، فقال: "يا أبا شيبان، والله ما أكذب على ربى، مرتين أو ثلاثاً، لقد قرأت
فى التوراة: ليكونن مسخ وخسف وقذف فى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى أهل القبلة، قال: قلت، يا أبا يعقوب ما أعمالهم؟ قال: باتخاذهم القينات، وضربهم بالدفوف، ولباسهم الحرير والذهب، ولئن بقيت حتى ترى أعمالاً ثلاثة، فاستيقن واستعد واحذر. قال قلت: ما هى؟ قال: إذا تكافأ الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ورغبت العرب فى ابنه العجم، فعند ذلك. قلت له: العرب خاصة؟ قال: لا؛ بل أهل القبلة، ثم قال: والله ليقذفن رجال من السماء بحجارة يشدخون بها فى طرقهم وقبائلهم. كما فعل بقوم لوط، وليمسخن آخرون قردة وخنازير، كما فعل ببنى إسرائيل وليخسفن بقوم كما خسف بقارون".
وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ فى هذه الأمة، وهو مقيد فى أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشرَّاب الخمر، وفى بعضها مطلق.
قال سالم بن أبى الجعد: "ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم، فيطلبون إليه حاجتهم، فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا، وليمرن الرجل على الرجل، حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا".
وقال أبو هريرة رضى الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه".
وقال عبد الرحمن بن غنم: "سيكون حيان متجاورين، فيشق بينهما نهر، فيستقيان منه، قبسهم واحد، يقبس بعضهم من بعض، فيصبحان يوماً من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حى".
وقال عبد الرحمن بن غنم أيضاً: "يوشك أن يقعد اثنان على رحا يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر".
وقال مالك بن دينار: "بلغنى أن ريحا تكون فى آخر الزمان وظُلَم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا".
قال بعض أهل العلم: إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغاً تاما، صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك: من القردة، والخنازير، وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفياً ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة، كما قلب الهيئة الباطنة، ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التى تخلقوا بأخلاقها فى الباطن، فقل أن ترى محتالاً مكاراً مخادعاً ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد، وقل ترى رافضيا إلا وعلى وجهه مسخة خنزير، وقل أن ترى شرها نهما، نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط، فإذا استحكمت الصفات المذمومة فى النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة، ولهذا خوف النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من سابق الإمام فى الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار، لمشابهته للحمار فى الباطن، فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يسلم قبله، فهو شبه الحمار فى البلادة، وعدم الفطنة.
إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا فى هذه الأحاديث، فهم أسرع الناس مسخاً قردة وخنازير، لمشابهتهم لهم فى الباطن، وعقوبات الرب تعالى نعوذ بالله منها جارية على وفق حكمته وعدله.
وقد ذكرنا شبه المغذين والمفتونين بالسماع الشيطانى، ونقضناها نقضا وإبطالا فى كتابنا الكبير فى السماع، وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات،
وذكرنا الشبهة التى دخلت على كثير من العباد فى حضوره حتى عدوه من القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى فى ذلك الكتاب، وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة فى كونه من مكايد الشيطان، وبالله التوفيق.
فصل
ومن مكايده التى بلغ فيها مرادة: مكيدة التحليل، الذى لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله، وشبهه بالتيس المستعار، وعظم بسببه العار والشنار، وعير المسلمين به الكفار، وحصل بسببه من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات، وضاقت به ذرعا النفوس الأبيات، ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت: لو كان هذا نكاحاً صحيحاً لم يلعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنة مقرب غير ملعون، والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتيس المستعار، وسماه السلف بمسمار النار، فلو شاهدت الحرائر المصونات، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرة الشاة إلى شفرة الجازر، وتقول: يا ليتنى قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتخفى والكتمان، فلا جهاز ينقل، ولا فراش إلى بيت الزوج يحول، ولا صواحب يهدينها إليه، ولا مصلحات يجلينها عليه، ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر، ولا وليمة ولا نثار، ولا دف إعلان ولا شعار، والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطلق والولى واقفان على الباب، دنا ليطهرها بمائه النجس الحرام، ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا قضيا عرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التى ذكرها الله تعالى فى التنزيل. فإنها لا تحصل باللعن الصريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائر الصحيح. فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفاً وتعجيلاً، وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلاً. فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق
حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق؟ حتى إذا طهرها وطيبها، وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها. قال لها: اعترفى بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتى المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها: هل كان ذاك؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجراً، وقد أرهقوهما من أمرهما عسراً هذا، وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها فى عقدين، ويجمع ماءه فى أكثر من أربع وفى رحم أختين، وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق بما رواه عبد الله ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال: (لَعَنَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ".
رواه الحاكم فى الصحيح والترمذى وقال: حديث حسن صحيح، قال: والعمل عليه عند أهل العلم. منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين.
ورواه الإمام أحمد فى "مسنده"، والنسائى فى "سننه" بإسناد صحيح، ولفظهما "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ والمُؤْتَشِمَةَ، وَالوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ، وَالمُحَلِّلَ وَالمُحَلِّلَ لَهُ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ".
وفى "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائى" أيضاً: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "آكِلُ الرِّبَا ومُوكِلُهُ وشَاهِدُهُ وكَاتِبُهُ، إِذَا عَلِمُوا بِهِ، والوَاصِلَةُ وَالمُسْتَوْصِلَةُ، وَلاوِى الصَّدَقةِ والمُعْتَدِى فِيهَا، والمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أعْرَابِيا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، والمحلل وَالمُحَلِّلُ لَه: مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه لعن المحلل له"، رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائى.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
"لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات، وثقهم ابن معين وغيره.
وقال الترمذى فى كتاب "العلل": سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة.
وقال أبو عبد الله بن ماجه فى سننه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له".
وعن ابن عباس أيضاً قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنِ المُحَلَّلِ؟ فقَال: لا، إِلا نِكاحَ رَغْبَةٍ، لا نِكاحَ دِلْسَةٍ وَلا اسْتِهْزَاءً بِكِتَابِ اللهِ، ثمَّ تَذوقُ العُسَيْلَةَ".
رواه أبو إسحاق الجوزجانى فى كتاب المترجم قال: أخبرنى إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى جبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه، وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيراً من الحفاظ يضعفه والشافعى حسن الرأى فيه، ويحتج بحديثه.
وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"أَلا أخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هُوَ المُحَلِّلُ. لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمَحَلَّلَ لَهُ".
رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثقون، لم يجرح واحد منهم.
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية، بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئاً من ماله فتزوجها ليحلها له، فقال لا، ثم ذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فَقَالَ: "لا، حَتَّى يَنْكِحَ مُرْتَغِباً لِنَفْسِه، فإذَا فَعَلَ ذلِكَ لَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى يَذُوقُ العُسَيْلَةَ".
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة فى المصنف بإسناد جيد.
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتى، وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة، ومثل هذا حجة
باتفاق الأئمة، وهو والذى قبله نص فى التحليل المنوى، وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما:"أن رجلاً له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، لم يأمرنى، ولم يعلم؟ قال: لا. إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً" ذكره شيخ الإسلام فى إبطال التحليل.
فصل
وأما الآثار عن الصحابة.
ففى كتاب "المصنف" لابن أبى شيبة، و"سنن" الأثرم، و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال:"لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما".
ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: "لا أوتى بمحلل ولا محللاً إلا رجمتهما" وهو صحيح عن عمر.
وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهرى عن عبد الملك بن المغيرة قال: "سئل ابن عمر رضى الله تعالى عنهما عن تحليل المرأة لزوجها؟ فقال: ذاك السفاح"، ورواه ابن أبى شيبة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثورى عبد الله بن شريك العامرى، قال: سمعت ابن عمر رضى الله تعالى عنهما: "سئل عن رجل طلق ابنة عم له، ثم رغب فيها وندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: كلاهما زان، وإن مكث عشرين سنة، أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له".
قال وأنبأنا معمر والثورى عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضى الله عنهما وسأله رجل فقال: "إن عمى طلق امرأته ثلاثاً؟ فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجاً، قال: كيف ترى فى رجل يحللها؟ قال: من يخادع الله يخدعه".
وعن سليمان بن يسار قال: "رفع إلى عثمان رضى الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة". رواه أبو إسحق الجورجانى فى "كتاب المترجم"، وذكره ابن المنذر عنه فى كتاب الأوسط".
وفى "المهذب" لأبى إسحق الشيرازى، عن أبى مرزوق التجيبى:"أن رجلاً أتى عثمان رضى الله عنه فقال: إن جارى طلق امرأته فى غضبه، ولقى شدة، فأردت أن أحتسب نفسى ومالى، فأتزوجها" ثم أبنى بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان رضى الله عنه: لا تنكحها إلا نكاح رغبة".
وذكر أبو بكر الطرطوشى فى خلافه عن يزيد بن أبى حبيب عن على بن أبى طالب رضى الله عنه فى المحلل: "لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله"، وعلى رضى الله عنه هو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"أنه لعن المحلل"، فقد جعل هذا من التحليل.
وروى ابن أبى شيبة فى "مصنفه" عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل له"، وهو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن المحلل. وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة، فكيف بما اتفقا عليه وتراضياً وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة؟
وذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل له".
وروى الجوزجانى بإسناد جيد عن ابن عمر رضى الله عنهما: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال: لعن الله الحال والمحلل له".
قال شيخ الإسلام: وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضى الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه فهى مبينة أن هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعلم بمراده ومقصوده. لاسيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر. هذا مع أنه لم يعلم أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرق بين تحليل وتحليل، ولا رخصوا فى شىء من أنواعه، مع أن المطلقة
ثلاثاً مثل امرأة رفاعة القرظى قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة: وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك. ولو كان التحليل جائزاً لدلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها، لو كان التحليل جائزاً.
قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط فى العقد كثير جدا ليس هذا موضع ذكرها، انتهى.
ذكر الآثار عن التابعين
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة قال: "إذا نوى الناكح، أو المنكح، أو المرأة، أو أحد منهم التحليل. فلا يصلح".
أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "المحلل عامداً، هل عليه عقوبة؟ قال: ما علمت، وإنى لأرى أن يعاقب" قال: وكلهم إن تمالئووا على ذلك مستوون، وإن أعظموا الصداق".
أخبرنا معمر عن قتادة قال: "إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقربها إذا كان نكاحه على وجه التحليل".
أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "فطلق المحلل، فراجعها زوجها؟ قال: يفرق بينهما".
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول، فى رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها؟ فقال الحسن:"اتق الله، ولا تكن مسمار نار فى حدود الله".
قال ابن المنذر: وقال إبراهيم النخعى: "إذا كان نية أحد الثلاثة: الزوج الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة: أنه محلل، فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول".
[قال: وقال الحسن البصرى: "إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد"] .
قال: وقال بكر بن عبد الله المزنى فى الحال والمحلل له: "أولئك كانوا يسمون فى الجاهلية: التيس المستعار".
قال: وقال عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230] .
قال: "إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة" ورواه ابن أبى حاتم فى التفسير عنه.
وقال هشيم: أخبرنا سيار عن الشعبى: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثاً قبل ذلك: أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال: لا، حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه" أى تقيم معه، رواه الجوزجانى.
وروى عن النفيلى، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبى غنية، حدثنا عبد الملك عن عطاء:"فى الرجل يطلق المرأة، فينطلق الرجل الذى يتحزن له، فيتزوجها من غير مؤامرة منه، فقال: إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها، فقد حلت له".
وقال سعيد بن المسيب: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة، قال: إن كان إنما نكحها ليحلها، فلا يصلح ذلك لهما، ولا تحل له" رواه حرب فى مسائله.
وعنه أيضاً قال: "إن الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنى أقول: إذا تزوجها تزويجا صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول" رواه سعيد ابن منصور عنه.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين، وهم: الحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبى رباح وإبراهيم النخعى.
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، وهو لا يعلم، قال لا يصلح ذلك، إذا كان تزوجها ليحلها".
ذكر الاثار عن تابعى التابعين ومن بعدهم
قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وقال مالك رحمة الله:"يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخاً بغير طلاق".
وقال سفيان الثورى: "إذا تزوجها، وهو يريد أن يحلها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبنى إلا أن يفارق، ويستقبل نكاحاً جديداً".
قال أحمد بن حنبل: "جيد".
وقال إسحاق: "لا يحل له أن يمسكها، لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح".
وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعى.
وقال الجوزجانى: حدثنا إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل تزوج المرأة وفى نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك؟ فقال: "هو محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون".
قال الجوزجانى: وبه قال أيوب.
وقال ابن أبى شيبة: "لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول".
قال الجوزجانى: وأقول: إن الإسلام دين الله الذى اختاره واصطفاه، وطهره، حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه، وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين، على ما تقدم فيه من النهى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولعنه عليه، ثم ساق الأحاديث المرفوعة فى ذلك والآثار.
فصل
ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
والذى أنزلت عليه هذه الآية
هو الذى لعن المحلل والمحلل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى: فلم يجعلوه زوجاً وأبطلوا نكاحه، ولعنوه.
وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سماه "محللاً" فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللاً.
فيقال: هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن من فعل السنة التى جاء بها، وفعل ما هو جائز صحيح فى شريعته، وإنما سماه محللاً لأنه أحل ما حرم الله، فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق، حتى تنكح زوجاً غيره، والنكاح اسم فى كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذى يتعارفه الناس بينهم نكاحاً، وهو الذى شرع إعلانه، والضرب عليه بالدفوف، والوليمة فيه، وجعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودة ورحمة، وجرت العادة فيه بضد ما جرت به فى نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة ولا كسوة، ولا سكنى، ولا إعطاء مهر، ولا تحصل نسب ولا صهر، ولا قصد المقام مع الزوجة، وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب، ولهذا شبهه به النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثم لعنه، فعلم قطعاً [لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور فى القرآن، ولا نكاحه هو النكاح المذكور فى القرآن، وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا] ليس بنكاح، ولا المحلل بزوج، وأن هذا منكر قبيح تعير به المرأة والزوج، والمحلل والولى، فكيف يدخل هذا فى النكاح الذى شرعه الله ورسوله، وأحبه، وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه؟
وتأمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا جُنَاحِ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] .
أى فإن طلقها هذا الثانى، فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أى ترجع إليه بعقد جديد، فأتى بحرق "إن" الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم، والتحليل الذى يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهى طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها فى وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلواً الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه، والله سبحانه أنه شرع النكاح للوصلة الدائمة
وللاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سبباً لا نقطاعه، ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى وطئ كان وطؤه سبباً لانقطاع النكاح، وهذا ضد شرع الله.
وأيضا. فإن الله سبحانه جعل نكاح الثانى وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه. فهذا زوج، وهذا زوج، وهذا نكاح، وهذا نكاح، وكذلك الطلاق، ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه، ولا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب، قاصد للنكاح. باذل للمهر، ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح، والمحلل برئ من ذلك كله، غير ملتزم لشئ منه.
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرّم نكاح المُتْعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة، وأن يقيم معها زماناً، وهو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذى ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزُو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم.
وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه:
أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعاً فى أول الإسلام، ونكاح التحليل لمُ يشرع فى زمن من الأزمان.
الثانى: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن فى الصحابة محلل قط.
الثالث: أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس، وإن قيل: إنه رجع عنه، وأباحه عبد الله بن مسعود. ففى "الصحيحين" عنه قال:"كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم، وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِى؟ فَنَهانَا عَنْ ذلِكَ، ثُمَّ رَخّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثّوْبِ إِلى أَجَلٍ".
ثم قرأ عبد الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طيِّبَاتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] . وَفتْوَى ابن عباس بها مشهورة.
قال عُروة: "قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم، كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفُ جافٍ، فلعمرى لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
فقال له ابن الزبير: فجرّبْ نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك".
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس فى المتعة، وذاك قولهما وروايتهما فى نكاح التحليل.
الرابع: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يجئ عنه فى لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد، وجاء عنه فى لعن المحلل والمحلل له، وعن الصحابة: ما قد تقدم.
الخامس: أن المستمتع له غرض صحيح فى المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح. فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس. فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولى، وإنما هو كما قال الحسن:"مسمار نار فى حدود الله" وهذه التسمية مطابقة للمعنى.
قال شيخ الإسلام: يريد الحسن: أن المسمار هو الذى يثبت الشئ المسمور، فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها، وقد حرمها الله عليه.
السادس: أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهراً وباطنا، والمحلل ماكر مخادع، متخذ آيات الله هزواً. ولذلك جاء فى وعيده ولعنه ما لم يجئ فى وعيد المستمتع مثله، ولا قريب منه.
السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سر النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه حلها له، ولا يطؤها حراماً، والمحلل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلها لغيره، ولهذا سمى محللاً، فأين من يريد أن يحُل له وَطء امرأة يخاف أن يطأهاً حراماً إلى من لا يريد ذلك، وإنما يريد بنكاحها أن يحُل وطأها لغيره؟ فهذا ضد شرع الله ودنيه، وضد ما وُضع له النكاح.
الثامن: أن الفِطَر السليمة والقلوب التى لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيراً من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول، ولو نفرت منه لم يُبَح فى أول الإسلام.
التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع
والسكنى، وإجارة العبد للخدمة مدة، ونحو ذلك، مما للباذل فيه غرض صحيح. ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح، الذى شرع بوصف الدوام والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل، فإنه لا يشبه شيئاً من ذلك، ولهذا شبهه الصحابة رضى الله عنهم بالسفاح، وشبهوه باستعارة التيس للضراب.
العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب، كالبيع والإجارة، والهبة والنكاح، مفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرَّقبة، والاجارة سبباً لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سبباً لملك البضع وحل الوطء. والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله تعالى ودينه، فإنه جعل نكاحه سبباً لتمليك المطلق- البضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع، وحله له، ولا له غرض فى ذلك، ولا دخل عليه. وإنما قصد به أمراً آخر لم يشرع له ذلك السبب، ولم يجعل طريقاً له.
الحادى عشر: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطنا، وهو فى الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويسمى المهر، ويشهد على رضى المرأة، وفى الباطن بخلاف ذلك، لا يريد أن يكون زوجاً، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن، وأنه مريد لذلك. والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو، والمطلق: أن الأمر كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هى امرأته على الحقيقة.
الثانى عشر: أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطون فى أنكحتهم أموراً منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل، ولا يفعلونه. ففى "صحيح البخارى" عن عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها أخبرته:"أن النكاح فى الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليَّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها". و"نكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته، إذا طهرت من طمثها: أرسلى إلى فلان، فاستبضعى منه، فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، الذى تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك
رغبة فى نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط مادون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليالى بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذى كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، ولا تمنع من جاءها، وهن البغايا. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذى يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله تعالي عليه وآله وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم.
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذى أشارت إليه عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقره ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به.
فصل
وسبب هذا كله: معصية الله ورسوله، وطاعة الشيطان فى إيقاع الطلاق على غير الوجه الذى شرعه الله، والله سبحانه يبغض الطلاق فى الأصل، كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَى الله تَعَالَى الطَّلاقُ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا بَالُ قَوْمٍ يلْعَبُونَ بحُدُودِ اللهِ يَقُولُ: قدْ طَلَّقْتُكِ، قدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلّقْتُكِ".
وفى "صحيح" مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِىءُ
أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فيقَولُ: مَا صَنَعْتُ شَيئاً، قالَ: وَيَجِىء أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِه، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، أَوْ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ، ويَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ أَنْتَ".
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيراَ ما يندم المطلق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى منها وطره، ولابد له من المرأة، فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس.
إحداها: التحيل على عدم وقوع الطلاق، وهو نوعان، تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح، فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك، أو إذا وقع عليك طلاقى، فأنت طالق قبله ثلاثا، فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا، لا مطلقاً ولا مقيدا عن المسرحين، فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل فى عنق الزوج، لا سبيل له إلى طلاقها أبدا.
الحيلة الثانية: التحيل على عدم وقوع الطلاق، يكون النكاح فاسداً، فلا يقع فيه الطلاق، ويتحيلون لبيان فساده من وجوه:
منها: أن عدالة الولى شرط فى صحته، فإذا كان فى الولى ما يقدح فى عدالته، فالنكاح باطل، فلا يقع فيه الطلاق، والقوادح كثيرة، فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحاً.
ومنها: أن عدالة الشهود شرط، والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير، أو استناده إلى مسند حرير، أو جلوسه تحت حركاة حرير، أو تجمره بمجمرة فضة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك.
فيا للعجب، يكون الوطء حلالا، والنسب لاحقاً، والنكاح صحيحاً حتى يقع الطلاق، فحينئذ يطلب وجوه إفساده.
الحيلة الثالثة: التحيل بالمخالعة، حتى يفعل المحلوف عليه، فإذا فعله تزوجها بعقد جديد.
الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس فى الرأس، وحنث، ولابد، اشترى غلاماً دون البلوغ
وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك، فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق، فإن عجزوا عن ذلك وآعوزهم انتقلوا إلى:
الحيلة الخامسة: وهى استكراء التيس الملعون المستعار لينزوا عليها ويحلها بزعمه، فهذه خمس حيل للخاصة.
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأى طريق اتفق 0 قالوا: المقصود هو الرجوع، والحيلة مقصودة لغيرها، وأعيان الحيل ليست مقصودة، فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى.
إحداها: أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله، فيطأها، وهى قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج، ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة. فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود، فما كان أقل فساداً كان أقرب إلى المقصود.
الحيلة الثانية: أن تكون حاملاً فتلد ذكراً، وكأنهم قاسوا الذكر الذى شقها خارجاً على الذكر الذى يشقها داخلاً، وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود.
الحيلة الثالثة: أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها، وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه.
الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه، فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج، ولا أدرى من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك، وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن، وأن السفر قطع حكم ما مضى رأساً.
الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عرفات، فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم، وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم.
فصل
واعلم أن من اتقى الله فى طلاقة، فطلق كما أمره الله ورسوله، وشرعه له. أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] .
فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذى شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. فإن بدا له أن يمسكها فى العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن تستقبل عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة بزوج ولا تحليل.
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: "عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً".
وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفا، فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر، اتخذت آيات الله هزوا".
وقال مجاهد: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. فسكت، حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال:{وَمَنْ يَتَّق اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] ، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ذكره أبو داود.
وقد روى النسائى عن محمود بن لبيد قال: " أُخْبِرَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَاب اللهِ وَأَنَآ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا أَقْتُلهُ؟ ".
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن، فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلاً. قال تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، والمرتان فى لغة العرب، بل وسائر لغات الناس إنما تكون لما يأتى مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى
آخره، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك، كقوله تعالى:
{سَنُعذَبُهُمْ مَرَّتَينِ} [التوبة: 101] وقوله: {أَولَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلَم مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] .
ثم فسرها بالأوقات الثلاثة، وشواهد هذا أكثر من أن تحصى.
ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
فهذه هى المرة الثالثة.
فهذا هو الطلاق الذى شرعه الله سبحانه مرة بعد مرة، فهذا شرعه من حيث العدد.
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة، وقد فسره النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأن يطلقها طاهراً من غير جماع، فلم يشرع جمع ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق فى حيض، ولا فى طهر وطئها فيه، وكان المطلق فى زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كله وزمن أبى بكر كله، وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما، إذا طلق ثلاثاً يحسب له واحدة، وفى ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم فى "صحيحه"، والثانى: رواه الإمام أحمد فى "مسنده".
فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
"كانَ الطّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ وأبى بكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَر: طَلَاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فى أَمْرِ كانَتْ لَهُمْ أنَاةٌ، فَلَوْ أمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس:
"هَاتِ مِنْ هُنَيَّاتِكَ: ألَمْ يَكُنِ الطّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تعَالَى علَيْهِ وآله وسلّمَ، وَأبى بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فقَالَ: قَدْ كانَ ذلِكَ فَلَمَّا كَانَ فى عَهْدِ عُمر تَتَايعَ النَّاسُ فى الطلاقِ، فأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ".
وفى لفظ لأبى داود: "أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال:
أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدرا من إمارة عمر رضى الله عنهما؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجرهن عليهم"، هكذا فى هذه الرواية: "قبل أن يدخل بها" وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخلق من السلف، جعلوا الثلاث واحدة فى غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: "قبل الدخول" ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئاً.
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر: طاوس وهو أجل من روى عنه، وأبو الصهباء العدوى، وأبو الجوزاء. وحديثه عند الحاكم فى "المستدرك".
ولفظه: "أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كنّ يرددن على عهد رسول الله عليه الصلاة السلام إلى واحدة؟ قال: نعم"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس فى شئ منها "قبل الدخول" وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبى الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه. ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة فى حق مطلق قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس، وقال:"كانوا يجعلونها واحدة"، فقال له ابن عباس "نعم" أى الأمر على ما قلت.
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد فى الجواب وقع فى مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
نعم. لو لم يكن السؤال مقيداً فقيد المسئول الجواب، كان مفهومه معتبراً، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت فى سمن، فقال:"إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فى السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلهَا وَكُلُوهُ".
لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة.
وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقاً فى أحد الحديثين،
وذكر بعض أفرادهن فى الحديث الآخر، لا تعارض بينهما.
وأما الحديث الآخر: فقال أبو داود فى "سننه": حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنى بعض بنى أبى رافع- مولى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ- أبُوُ رُكانَةَ وَإِخْوَتِهِ- أُمَّ رُكانَة وَنَكَحَ امْرَأةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى الّنبىِّ صَلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم، فقَالَتْ: مَا يُغنى عَنِّى إِلا كما تُغْنِى هذِه الشعرةُ- لِشعرةٍ أخذَتها منْ رَأَسها- فَفرقْ بْينَىِ وَبَيَنْهُ، فَأَخَذَتِ النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ حَمِيّةٌ، فَدَعَا بِرُكانَة وَإخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لُجُلَسَائِه: "أَتَرَوْنَ فُلاناً يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وكَذَا؟ مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ، وَفُلاناً يشبه مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالُوا: نَعمْ، فقَالَ النّبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"طَلِّقْهَا"، فَفعَلَ، فقَالَ: رَاجِعِ امْرَأتَكَ أُمَّ رُكَانَة، فَقَالَ: إِنِّى طَلّقْتُهَا ثَلاثاَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا، وَتَلا: {يَأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَطَلَقُوهُنَّ لِعدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ
…
الآية} [الطلاق: 1] ".
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا، وتلا الآية التى هى وما بعدها صريحة فى كون الطلاق الذى شرعه الله لعباده هو الطلاق الذى يكون للعدة، فإذا شارفت انقضاءها، فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير، فلعل المطلق أن يندم، فيكون له سبيل إلى الرجعة، وهو قوله تعالى:{لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بعد ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] .
فأمره بالمراجعة، وتلاوته الآية كاف فى الاستدلال على ما كان عليه الحال.
فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بنى [أبى] رافع، والمجهول لا تقوم به حجة.
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام أحمد قد قال فى "المسند": حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبى عن محمد بن إسحق قال: حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال:
"طلق ركانة بن عبد يزيد- أخو المطلب- امرأته ثلاثاً فى مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كيف طلقتها؟ " قال: طلقتها ثلاثاً قال: "فى مجلس واحد؟ " قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، قال: فراجعها" قال: "وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر".
ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى "مختاراته" التى هى أصح من "صحيح الحاكم".
فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبى الصهباء، وأبى الجوزاء عن ابن عباس، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس. فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان يقيده على العلم، وكان طاوس خاصاً عنده يجتمع به كثيراً، ويدخل عليه مع الخاصة. وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحق، لما صح عنده هذا الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول:"جَهِلَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إِلَيْهَا".
فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به.
وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما: موافقة عمر رضى الله عنه تأديبا وتعزيرا للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه.
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس- وحسبك بهذا السند صحة وجلالة- "إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهى واحدة" ذكره أبو داود في "السنن".
الوجه الثانى: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن الكذب مشهوراً فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها.
الوجه الثالث: أن روايته لم يعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين، وحديث أبى الصهباء، فهب أن وجود روايته وعدمها سواء، ففى حديث داود كفاية، وقد زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله "حدثنى به" وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه فى حديث
تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها، وأخذوا به وعملوا بموجبه، مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة فى منع بيع الرطب بالتمر له:
والقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس ومصالح بنى آدم.
أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرجعة فى كل طلاق، إلا طلاق غير المدخول بها، والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين، وليس فى القرآن طلاق بائن قط، إلا فى هذين الموضعين وأحدهما بائن غير محرم، والثانى بائن محرم، وقال تعالى:{الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم.
وأما القياس، فإن الله سبحانه قال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6]، ثم قال:{وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبع شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8] ،
فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إنى صادق، أو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إنه كاذب، كانت شهادة واحدة، ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله، أنت طالق ثلاثاً ثلاث تطليقات؟ وأى قياس أصح من هذا؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه، ولهذا لو قال المقر بالزنى: إنى أقر بالزنى أربع مرات، كان ذلك مرة واحدة، وقد قال الصحابة لماعز:"إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فلو قال: أقر به أربع مرات، كانت مرة واحدة. فهكذا الطلاق سواء.
فهذا القياس، وتلك الآثار، وذاك ظاهر القرآن.
وأما أقوال الصحابة: فيكفى كون ذلك على عهد الصديق، ومعه جميع الصحابة، لم يختلف عليه منهم أحد، ولا حكى في زمانه القولان، حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم وإنما حدث الخلاف فى زمن عمر رضى الله عنه، واستمر الخلاف فى المسألة إلى وقتنا هذا، كما سنذكره.
قالوا: فقد صح بلا شك أنهم كانوا فى زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر مدة خلافته كلها، وصدراً من خلافة عمر رضى الله عنهما يوقعون على من طلق ثلاثاً واحدة.
قالوا: فنحن أحق بدعوى الإجماع منكم، لأنه لا يعرف فى عهد الصديق أحد رد ذلك ولا خالفه، فإن كان إجماع فهو من جانبنا أظهر ممن يدعيه من نصف خلافة عمر رضى الله عنه، وهلم جرا، فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائما، وذكره أهل العلم فى مصنفاتهم قديما وحدثنا.
فممن ذكر الخلاف فى ذلك: داود، وأصحابه، واختاروا أن الثلاث واحدة.
وممن حكى الخلاف: الطحاوى فى كتابه "اختلاف العلماء"، وفى كتاب "تهذيب الآثار"،
وأبو بكر الرازى فى كتاب "أحكام القرآن"، وحكاه ابن المنذر، وحكاه ابن جرير، وحكاه المؤرخ فى "تفسيره"، وحكى حجة القولين، ثم قال: وهى مسألة خلاف بين العلماء، وحكاه محمد بن نصر المروزى، واختار القول بالثلاث: أنها واحدة في حق البكر، ثلاث فى "حق" المدخول بها، وحكاه من المتأخرين المازرى فى كتاب "المَعْلَم"، وحكاه عن محمد بن مقاتل من أصحاب أبى حنيفة، وهو من أجل أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبى حنيفة. فهو أحد القولين فى مذهب أبى حنيفة. وحكاه التلمسانى فى "شرح التفريع فى مذهب مالك"، قولاً فى مذهبه، بل رواية عن مالك، وحكاه غيره قولاً فى المذهب، فهو أحد القولين فى مذهب مالك، وأبى حنيفة، وحكاه شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد، وهو اختياره، وأسوأ أحواله أن يكون لبعض أصحاب الوجوه فى مذهبه، كالقاضى وأبى الخطاب وهو أجل من ذلك، فهو قول فى مذهب، أحمد بلا شك.
وأما التابعون فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار، يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهى واحدة. قال: واختلف فى هذا الباب عن الحسن، فروى عنه أنه ثلاث، وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، وقال: واحدة بائنة.
وقال محمد بن نصر فى كتاب "اختلاف العلماء": أجمع أهل العلم أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقة، ولم يدخل، بها أنها بانت منه، وليس عليها عدة، واختلفوا فى غير المدخول بها، إذا طلقها الزوج ثلاثا بلفظ واحد، فقال الأوزاعى، ومالك، وأهل المدينة: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وروى عن ابن عباس وغير واحد من التابعين أنهم قالوا:"إذا طلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة". وأكثر أهل الحديث على القول الأول.
قال: وكان إسحق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس:
"كانَ الطَّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلّم وَأبى بكرٍ وعُمَر رَضى اللهُ عَنهُمْ يُجْعَلُ وَاحِدَةً"، عَلَى هذَا:
قلت: هذا تأويل إسحاق، وأما أبو داود فجعله منسوخاً، فقال فى كتاب "السنن": باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ثم ساق حديث ابن عباس رضى الله عنهما: "أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
ثم ذكر فى أثناء الباب حديث أبى الصهباء، وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتا، لما كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها، وهذا وهم؛ لوجهين:
أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ، كما كان فى أول الإسلام.
الثانى: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكون الثلاث واحدة قد عمل به فى خلافة الصديق كلها، وأول خلافة عمر رضى الله عنه، فمن المستحيل أن ينسخ بعد ذلك.
وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شيئاً ثم يفتى بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضى الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتى بخلافه، أو يكون ذلك منسوخاً، استدلاًلاً بفتيا ابن عباس، وهذا المسلك ضعيف جداً لوجوه:
أحدها: أن حديث عكرمة عن ابن عباس فى رد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم امرأة ركانة عليه بعد الطلاق الثلاث. يبطل هذا التأويل رأساً.
الثانى: أن هذا لو كان صحيحاً لقال ابن عباس لأبى الصهباء: ما أدرى، أبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو لم يبلغه؟ فلما أقره على ذلك كان إقراره دليلا على أنه مما بلغه.
الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحا، لم يقل عمر:"إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة"، بل كان الواجب أن يبين السنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى خلاف ذلك، وأن هذا العمل من الناس خلاف دين الإسلام، وشرع محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا يقول:"فلو أنا أمضيناه عليهم" فإن هذا إنما يكون إمضاء من الله تعالى ورسوله، لا من عمر.
الرابع: أنه من الممتنع، والمستحيل أن يكون خيار الخلق يطلقون فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعهد خليفته من بعده، ويراجعون على خلاف دينه، فيطلقون طلاقاً محرماً، ويراجعون رجعة محرمة، ولا يعلمون بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو بين أظهرهم.
ثم حديث ابن عباس الذى رواه أحمد يرد ذلك، ثم يرده فتوى ابن عباس فى إحدى الروايتين عنه، وهى ثابته عنه بأصح الإسناد كما أن الرواية الأخرى ثابته عنه.
وكيف يستمر جهل أخيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومدة حياة الصديق كلها، وشطراً من خلافة عمر رضى الله عنهما، ثم ظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان؟
وكيف يصح قول عمر رضى الله عنه: "إن الناس قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة"؟ وكيف يصح قوله: "فلو أنا أمضيناه عليهم"؟ فهذا المسلك كما ترى.
وأما الإمام أحمد فإنما رده بفتوى ابن عباس بخلافه، وهو راوى الحديثين.
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر، وعمر رضى الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة" بأى شىء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه.
وكذلك نقل عنه ابن منصور
وهذا المسلك إنما يجىء على إحدى الروايتين: أن الصحابى إذا عمل بخلاف الحديث لم يحتج به، واتبع عمل الصحابى والمشهور عنه: أن العبرة بما رواه الصحابى لا بقوله، إذا خالف الحديث، ولهذا أخذ برواية ابن عباس فى حديث بريرة، وأن بيع الأمة لا يكون طلاقا لها، لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيرها ولو انفسخ ببيعها لم يخيرها، مع أن مذهب ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها، واحتج بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى:{وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيَمْانُكُمْ} [النساء: 24] .
فأباح وطء مملوكته المزوجة ولو كان النكاح باقيا لم ينفسخ، لم يبح له وطأها.
والجمهور وأحمد معهم خالفوه فى ذلك، وقالوا: لا يكون بيعها طلاقاً.
واحتجوا بحديث بريرة، وتركوا رأيه لروايته، فإن روايته معصومة ورأيه غير معصوم.
والمشهور من مذهب الشافعى: أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبى حنيفة عكس ذلك، وعن أحمد روايتان. فهذا المسلك فى رد الحديث لا يقوى.
وسلك آخرون فى رد الحديث مسلكاً آخر.
فقالوا: هو حديث مضطرب، لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخارى، وترجم فى "صحيحه" على خلافه، فقال: "باب جواز الطلاق الثلاث فى كلمة، لقوله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
ثم ذكر حديث اللعان، وفيه:"فَطَلّقَهَا ثَلاثاً قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَه رسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم"
ولم يغير عليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو لا يقر على باطل".
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس، تارة عن طاوس عن أبى الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبى الجوزاء عن ابن عباس، فهذا اضطرابه من جهة السند.
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: "ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ " وتارة يقول: "ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر، وصدرا من خلافة عمر واحدة؟ " فهذا يخالف اللفظ الآخر.
وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح فى هذا الحديث، ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأى شىء ترده؟ قال: "برواية الناس عن ابن عباس خلافه" ولم يرده بتضعيف، ولا قدح فى صحته، وكيف يتهيأ القدح فى صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ؟ حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار. وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاووس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق، ولا ابن جريج، ولا عبد الله بن طاووس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخارى له لا يوهنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التى تركها البخارى، لئلا يطول كتابه، فإنه سماه:"الجامع المختصر الصحيح" مثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم.
وأما رواية من رواه عن أبى الجوزاء فإن كانت محفوظة فهى مما يزيد الحديث قوة، وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهى وهم فى الكنية، انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبى مليكة من أبى الصهباء، إلى أبى الجوزاء، فإنه كان سىء الحفظ، والحفاظ قالوا:"أبو الصهباء" وهذا لا يوهن الحديث.
وهذه الطريق عند الحاكم فى "المستدرك".
وأما رواية من رواه، مقيداً "قبل الدخول"، فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين، على أنها عند أبى داود عن أيوب عن غير واحد، ورواية الأطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح.
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صريح فى كون الثلاث واحدة فى حق المدخول بها.
وعامة ما يقدر فى حديث أبى الصهباء: أن قوله "قبل الدخول" زيادة من ثقة، فيكون الأخذ بها أولى،
وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت فى حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت فى حكم الثيب أيضاً، فأحد الحديثين يقوى الآخر، ويشهد بصحته. وبالله التوفيق.
وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله:
فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاووس وحده.
قالوا: فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم، الذى الحاجة إليه شديدة جداً؟ فكيف خفى هذا على جميع الصحابة، وعرفه ابن عباس وحده؟ وخفى على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاووس وحده؟
وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأمة الثقات بمثل هذا. فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، لم يروه غيره، وقبلته الأمة كلهم، فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاووس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة؟، ولا نعلم أحداً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابى واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم فى ذلك أقوال، لا يعرف لها قائل من الفقهاء.
قد تفرد الزهرى بنحو ستين سنة، لم يردها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده. هذا، مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضى الله عنهما حديث ركانة، وهو موافق لحديث طاووس عنه، فإن قدح فى عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله؟ أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشاذ: أن يخالف الثقات فيما رووه، فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حدثيا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن الاصطلاح موجباً لرده ولا مسوغاً له.
قال الشافعى رحمه الله: "وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروى خلاف ما رواه الثقات"، قاله فى مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوى به.
ثم إن هذا القول لا يمكن أحداً من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم.
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيراً من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها، لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يعد.
ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدى شيئاً استروح إلى تأويله. فقال: معنى الحديث: أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وعمر واحدة، ولا يوقعون الثلاث، فلما كان فى أثناء خلافة عمر رضى الله عنه أوقعوا الثلاث، وأكثروا من ذلك، فأمضاه عليهم عمر رضى الله عنه. كما أوقعوه، فقوله:"كانت الثلاث على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام واحدة" أى فى التطليق، وإيقاع المطلقين: لا فى حكم الشرع.
قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجاب به، وبه يزول كل إشكال.
ولعمر الله، لو سكت هذا كان خيراً له وأستر، فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل فى الحديث. وسياقه يبين بطلانه بياناً ظاهراً لا إشكال فيه، وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم، مخلدين إلى حضيض التقليد، فروج عليهم مثل هذا، وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث، ولم يعن بطرقه، فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبى الصهباء لابن عباس:"أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما؟ " فأقر ابن عباس بذلك، وقال:"نعم".
وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واحدة، فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن، وحديث محمود بن لبيد:"أن رجلاً طلق امرأته على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً، فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقال: أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " ثم زاد هذا القائل فى الحديث زيادة من عنده، فقال:"وأمضاه عليه، ولم يرده".
وهذه اللفظة موضوعة لا تروى فى شىء من طرق هذا الحديث ألبته، وليست فى شىء
من كتب الحديث، وإنما هى من كيس هذا القائل، حمله عليها فرط التقليد. ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك، من إمضاء أو رد إلى واحدة.
والمقصود: أن هذا القائل تناقص، وتأول الحديث تأويلا بطلانه من سياقه.
ومن بعض ألفاظه: "أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما يرد إلى الواحدة"، وهذا موافق للفظ الآخر:"كان إذا طلق امرأته ثلاثاً جعلوها واحدة"، وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى، يفسر بعضها بعضا.
فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها، والواضح مشكلاً
وكيف يصنع بقوله: "فلو أمضيناه عليهم"؟ فإن هذا يدل على أنه رَأْىٌ من عمر رضى الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه، وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم، وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذى شرعه، وتعديهم حدوده، ومن كمال علمه رضى الله عنه أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه، وراعى حدوده، وهؤلاء لم يتقوه فى الطلاق، ولم يراعوا حدوده، فلا يستحقون المخرج الذى ضمنه لمن اتقاه.
ولو كان الثلاث تقع ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو دينه الذى بعثه الله تعالى به، لم يضف عمر رضى الله عنه إمضاءه إلى نفسه، ولا كان يصح هذا القول منه، وهو بمنزلة أن يقول فى الزنى، وقتل النفس، وقذف المحصنات: لو حرمناه عليهم. [فحرمه عليهم] ، وبمنزلة أن يقول فى وجوب الظهر والعصر، ووجوب صوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة: فلو فرضناه عليهم، ففرضه عليهم.
فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التى كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة فى المسألة، وقوى جانبها عنده، فإنه يرى أن الحديث لا يرد يمثل هذه الأشياء.
وقد سلك أبو عبد الرحمن النسائى فى "سننه" فى الحديث مسلكاً آخر، فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه قال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما فقال: "يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى عليه وآله وسلم
وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم" وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة، وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون أخر. وكأنه لما أشكل عليه وجه الحديث حمله على ماذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر رضى الله عنهما، ثم يتغير فى خلافة عمر رضى الله عنه، ويمضى الثلاث بعد ذلك علي المطلق. فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة.
وسلك آخرون فى الحديث مسلكاً آخر، وقالوا: هذا حديث يخالف أصول الشرع، فلا يلتفت إليه.
قالوا: لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه، فإن قلنا بقول الشافعى ومن وافقه: أن جمع الثلاث جائز، فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا: جمع الثلاث حرام، وهو طلاق بدْعىُّ، فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمعها ما فُسح له فى تفريقه، فلزمه حكمه كما لو فرقه.
قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه، فهذا قياس الأصول، فلا نبطله بخبر الواحد.
قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص، فضلاً عن أن يقدم على النص، وهو قياس مخالف لأصول الشرع، ولغة العرب، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وعمل الصحابة فى عهد الصديق.
فأما مخالفته لأصول الشرع، فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقاً يملك فيه الرجعة ويكون مخيراً فيه بين الإمساك بالمعروف، وبين التسريح بالإحسان، ما لم يكن بعوض أو يستوفى فيه العدد. والقرآن قد بين ذلك كله: فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة، ولا عدة عليها، وبين أن المفتدية تملك نفسها، ولا رجعة لزوجها عليها، وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه، وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وبين
أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة، وهو مخير بين الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان.
وهذا كتاب الله عز وجل قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها، وجعل سبحانه أحكامها من لوازمها التى لا تنفك عنها. فلا يجوز أن تتغير أحكامها البته، فكما لا يجوز فى الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب فيه العدة، ولا فى الطلقة المسبوقة بطلقتين أن تثبت فيها الرجعة، وأن تباح بغير زوج وإصابة، ولا فى طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة، فكذلك لا يجوز فى النوع الآخر من الطلاق أن يتغير حكمه، فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة، فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذى حكم به فيه. وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة.
ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك، فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة، إلا الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع، والطلقة الثالثة. فبيننا وبينكم كتاب الله، فإن كان فيه شىء غير هذا فأوجدونا إياه.
ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعى فى تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث، وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد.
واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
قالوا: ولا يعقل فى لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة.
فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُوِلهِ وَتَعْمَلْ صَالحِاً نُؤْتِهاَ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] .
وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ".فأجابهم الآخرون بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة، والأعيان تارة. وأكثر ما تستعمل فى الأفعال. وأما الأعيان فكقوله فى الحديث:
"انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم مَرّتَيْن ِ".
أى شقتين وفلقتين. ولما خفى هذا على من لم يحط به علماً زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة فى زمانين. وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة، ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله "مرتين" المرة الزمانية.
إذا عرف هذا فقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وقوله "يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ".
أى ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفاً. وهذا يمكن اجتماع المرتين منه فى زمان واحد.
وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما فى زمن واحد، فإنهما مثلان، واجتماع المثلين محال. وهو نظير اجتماع حرفين فى آن واحد من متعلم واحد، وهذا مستحيل قطعاً فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق فى إيقاع واحد.
ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤد للواجب عليه، وإنما يستحب له رمى حصاة واحدة، فهى رمية لا سبع رميات واتفقوا كلهم على أنه لو قال فى اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أنى صادق، كانت شهادة واحدة. وفى الحديث الصحيح:
"مَنْ قَالَ فى يَوْمٍ سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدَ الْبَحْرِ".
فلو قال: سبحان الله وبحمده مائه مرة، هذا اللفظ، لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة.
وكذلك قوله: "تُسَبِّحُونَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاثاَ وَثَلَاثِينَ، وَتحْمَدُونَ ثَلاثاً وَثَلاثِين، وَتُكَبِّرُونَ أَرْبَعاً وَثلاثِينَ".
لو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، لم يكن مسبحاً هذا العدد حتى يأتى به واحدة بعد واحدة.
ونظائر ذلك فى الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر.
قالوا: فقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . إما أن يكون خبراً فى معنى الأمر، أى إذا طلقتم
فطلقوا مرتين. وإما أن يكون خبراً عن حكمه الشرعى الدينى، أى الطلاق الذى شرعته لكم، وشرعت فيه الرجعة: مرتان.
وعلى التقديرين: إما أن يكون ذلك مرة بعد مرة، فلا يكون موقعاً للطلاق الذى شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة، ولا يكون موقعاً للمشروع بقوله: أنت طالق ثلاثاً، ولا مرتين.
قالوا: ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع فى مرتين، فلو شرع جمع الطلاق فى دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحاً، ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة بجمعه. وهذا خلال ظاهر القرآن، وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان. وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك.
قالوا: ويدل عليه أن الطلاق اسم محلى باللام، وليست للعهد بل للعموم، فالمراد بالآية: كل الطلاق مرتان. والمرة الثالثة التى تحرمها عليه، وتسقط رجعته. وهذا صريح فى أن الطلاق المشروع هو المتفرق، لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم.
قالوا: ويدل عليه قول تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْساَنٍ} [البقرة: 229] .
فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها، فإنه لا يبقى بعدها إمساك.
قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] .
و"إذا" من أدوات العموم، كأنه قال: أى طلاق وقع منكم فى أى وقت فحكمه هذا، إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقى ما عدها داخلاً فى لفظ الآية نصاً أو ظاهراً.
قالواً: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] .
فهذا عام فى كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين، فالقرآن يقتضى أن ترجع إلى زوجها إذا أرادت فى كل طلاق ماعدا الثالثة.
قالوا: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتّقُوا اللهَ رَبَّكُمُ لا تُخْرِجُوهنَّ مِنْ بُيُوتهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعَدَ ذلِكَ أمَراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1-2] .
ووجه الأستدلال بالآية من وجوه.
أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أى لاستقبال عدتها. فتطلق طلاقاً يعقبه شروعها فى العدة، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما طلق امرأته فى حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيراً للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق فى قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى فى ذلك الطهر، لأنه غير مطلق للعدة. فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة.
ثم قال الإمام أحمد فى ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك. فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة.
وقال فى رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية فى الطهر الثانى، ويطلقها الثالثة فى الطهر الثالث، وهو قول أبى حنيفة فيكون مطلقاً للعدة أيضا لأنها تبتنى على ما مضى. والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة
أو العقد، لأن الطلاق البائن لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة، فلا يكون مأذوناً فيه. فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى، لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة.
ومن جعله مشروعاً قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها. وكلاهما طلاق للعدة.
وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما فى القراءة الأخرى التى تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن فى قُبُلِ عدِّتهن.
قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فإن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف فى الأطهار من لا يجوزّ الجمع فى الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية.
قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه. ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس،
وإن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] .
فما أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال:{يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] .
ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم، وهذا فهم من دعاً له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ الدِّينِ، وَيُعَلّمَهُ التَّأْوِيلَ".
وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.
الوجه الثانى من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] .
وهذا إنما هو فى الطلاق الرجعى. فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم الصحيحة التى لا مطعن فى صحتها، الصريحة التى لا شبهة فى دلالتها. فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض.
وأبو حنيفة قال: لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها.
والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقاً له فلها عليه حقوق الزوجية، فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] .
فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالماً.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أمْراً} [الطلاق: 1] .
وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر هاهنا هو الرجعة. قالوا "وأىّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ ".
الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] .
فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى:{يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُن لعِدَّتهِنَّ} [الطلاق: 1] .
كما تقدم وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف
الطلاق الطلاق فى طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقاً فى غير قبل العدة، فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى.
قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد فى وقوعه ومفارقة حبيبته. وقد وقت للعدة أجلاً لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة فى حال حيضها، لأنه وقت نفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد فى إمساكها لقضاء وطره. فإذا طلقها فى هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما فى الطلاق فى الحيض من تطويل العدة، وعقيب الجماع من طلاق مَن لعلها. قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها فى هذه الحال إلا لحاجته إليه. فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا فى هذه الحال أو فى حال استبانة حملها، لأن إقدامه أيضاً على طلاقها فى هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق.
وقد أكد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق فى الطهر الذى يلى الحيضة التى طلق فيها، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها. وفى ذلك عدة حكم:
منها: أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهى فى حكم القرء الواحد، فإذا طلقها فى ذلك الطهر فكأنه طلقها فى الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشىء الواحد.
الثانية: أنه لو أذن له فى طلاقها فى ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق، وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد الله تعالى فى شرعه ودينه.
الثالثة: أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما فى نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صلحت الحال بينهما، وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتاً إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذى هو أبعد شىء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقاً بحيث لا يكون له سبباً إليها؟ وكيف يجتمع فى حكمة الشارع وحكمة هذا وهذا؟.
فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هى بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهى الواحدة.
قالوا: فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم، وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا، وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التى ذكرناها.
وقولكم: إن المطلق ثلاثاً قد جمع ما فسح له فى تفريقه: هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقاً لا مجموعاً، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف:"رجل أخطأ السنة، فيرد إليها" فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة.
ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقاً فأراد أن يجمعه كرمى الجمار الذى إنما شرع له مفرقاً، واللعان الذى شرع كذلك، وأيمان القسامة التى شرعت كذلك. ونظير قياسكم هذا: أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها فى وقت واحد، لأنه جمع ما أمر بتفريقه. على أن هذا قد فهمه كثير من العوام، يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع فى وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.
فصل
فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له فسادها.
فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دالة على خلافه، وذكروا أحاديث.
منها: ما فى الصحيحين عن فاطمة بنت قيس:
"أَنَّ أبَا حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ طَلّقَهَا الْبَتّة، وَهُوَ غَائِبٌ. فأَرْسَلَ إِليْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَجَاءَتْ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذلِكَ. فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ".
وقد جاء تفسير هذه "البتة" فى الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة. فقد أجاز عليه الثلاث، وأسقط بذلك نفقتها وسكناها.
وفى المسند "أن هذه الثلاث كانت جميعاً" فروى من حديث الشعبى:
"أَنّ فَاطِمَةَ خَاصَمَتْ أخَا زَوْجِهَا إلى النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وسلَم لَمَّا أَخْرَجَهَا مِنَ الدَّارِ، وَمَنَعَهَا النَّفَقَةَ. فَقَال: مَالَكَ وَلابْنَةِ قَيْسٍ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنّ أخِى طَلّقَهَا ثَلاثاً جَميعاً" وذكر الحديث.
ومنها ما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: "أَنَّ رَجُلَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثاً. فَتَزَوَّجَتْ، فَطُلِّقَتْ، فَسُئِلَ النَّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليّ وآله وسلم: أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كما ذَاقَ الأوَّلُ".
ووجه الدليل: أنه لم يستفصل، هل طلقها ثلاثاً مجموعة أو متفرقة؟ ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال.
ومنها: ما اعتمد عليه الشافعى فى قصة الملاعنة: "أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلانىَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيْقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفى صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا. قَالَ سَهْلٌ فَتلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم.
فَلمَّا فَرَغَاً مِنْ تَلاعُنِهمَا قَالَ عُوَيَمرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أمْسَكْتُهَا، فَطَلّقَهَا ثلاثاً قَبْلَ أَنْ يأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكانَتْ تِلْكَ سَنَّةُ المتلاعِنَينِ" متفق عَلَى صحته.
قال الشافعى: فقد أقره رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الطلاق ثلاثاً ولو كان حراماً لما أقره عليه.
ومنها: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد قال "أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: أيلعب بكتاب الله. وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ " ولم يقل: إنه لم يقع عليه إلا واحدة، بل الظاهر أنه أجازها عليه، إذ لو كانت زوجته ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك، لأنه إنما طلقها ثلاثاً يعتقد لزومها، فلو لم يلزمه لقال له: هى زوجتك بعد، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه عن ركانة: "أنه طلق امرأته البتة. فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: ما أردت؟ قال: واحدة. قال: الله ما أردت بها إلا واحدة؟ قال: الله ما أردت بها إلا واحدة" ورواه الترمذى وفيه "فقال: يا رسول الله، إنى طلقت امرأتى ألبتة، فقال: ما أردت بها؟ فقلت: واحدة قال: والله؟ قلت: والله، قال: فهو ما أردت" قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وقال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن على بن محمد الطنافسى يقول: ما أشرف هذا الحديث، قال أبو عبد الله بن ماجه:"أبو عبيد" تركه ناجية، وأحمد جبن عنه.
ووجه الدلالة: أنه حلفه "ما أراد بها إلا واحدة" وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك، ولو كانت واحدة مطلقاً لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر، وإذا كان هذا فى الكناية، فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث؟.
ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث حماد بن زيد: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "يَا مُعَاذُ، مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أوْ ثلاثاً أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ".
ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال:
"طَلّقَ بَعْضَ آبَائى امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَانَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلُفاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فقَالَ: إِنّ أبَاكُمْ لَم يَتّقِ اللهَ فَيَجْعَلْ لَهُ مخرجاً بانت منه بِثلاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّة، وَتِسْعُمائَةٍ وَسَبْعَةٌ وتِسْعُونَ إِثْمٌ فى عُنُقِهٍ".
ومنها: ما رواه الدارقطنى أيضاً من حديث زاذان عن على رضى الله عنه قال: "سَمِعَ النَّبىُّ صلى الله تعَالى عليه وآله وسلم رَجُلاً طَلّقَ الْبَتَّةَ فغَضِبَ وقَالَ: أتَتّخِذُونَ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا، أوْ دِينَ اللهِ هُزُواً وَلِعباً؟ مَنْ طَلّقَ الْبَتَّةَ أْلْزَمْنَاهُ ثلاثاً، لا تحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ".
ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث الحسن البصرى قال: حدثنا عبد الله بن عمر "أنه طلق امرأته وهى حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله تعالى. إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق عند ذلك أو أمسك. فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً، أكان يحل لى أن أراجعها؟ قال: لا. كانت تبين منك، تكون معصية".
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائى عن حماد بن زيد قال "قلت لأيوب: هل علمت أحداً قال فى "أمرك بيدك" إنها ثلاث غير الحسن؟ قال: لا. ثم قال: اللهم غفراً إلا ما حدثنى
قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ثلاث". فلقيت كثيراً، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته: فقال: نسى.
ورواه الترمذى وقال: لا نعرفه إلا من حديث سلمان بن حرب عن حماد بن زيد. وحسبك بسليمان بن حرب، وحماد بن زيد، ثقتين ثبتين.
ومنها: ما رواه البيهقى من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثاً. ثم قال: لولا أنى سمعت جدى أو حدثنى أبى أنه سمع جدى يقول:
"أيُّمَا رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً عِنْدَ الأَقْرَاءِ، أَوْ ثَلاثاً مُبْهَمَة لَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَهُ لَرَاجَعْتُهَا".
رواه من حديث محمد بن حميد: حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبى قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد، وهذا مرفوع.
قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر، وعامتها أصح من حديث أبى الصهباء، وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس. فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد، فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض، وإن كان الحديث الفرد متأخراً. كما قدم فى إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها متعددة، وحديث بريدة فى إباحتها فرد وهو متأخر، فإنه قال:"كُنْتُ نَهَيْتُكمْ عَنْ الانْتِباذِ فى الأَوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا فِيماَ بَدَا لَكُمْ، غَيْرَ أن لا تَشْرَبُوا مُسْكِراً".
مع أنه حديث صحيح. رواه مسلم، ولا يعرف له علة.
فصل
قال الآخرون: هذه الأحاديث التى ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا، هى بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها. وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة، لا يصح شئ منها.
ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزال الإشكال.
أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا فى هذه المسألة قد خالفوه ولم يأخذوا به. فأوجبوا للمبتوته النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به، وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه. وأما الشافعى ومالك فأوجبوا لها السكنى. والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به. فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظاً، بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا فى جمع الثلاث. فأما أن يكون حجة لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل.
هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من
المحتج به. ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به. فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث، هكذا جاء مصرحاً به فى الصحيح.
فروى مسلم فى صحيحه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أنا أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبى ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله مالك نفقة إلا أن تكونى حاملاً. فأتت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فَذَكَرْتْ لَهُ قَوْلَهُمَا فَقاَلَ: لا نَفَقَةَ لَكِ" وسَاق الحديث بطوله.
فهذا المفسر يبين ذلك المجمل، وهو قوله "طلقها ثلاثاً".
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبى سلمة عن فاطمة بنت قيس: أنها أخبرته "أنها كانت تحت أبى حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات" وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج وشعيب بن أبى حمزة، كلهم عن الزهرى. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن
الزهرى عن عبيد الله قال: "أَرْسَلَ مَرْوَانْ إلَى فَاطِمَةَ فَسأَلهَا فَأَخْبَرَتْهُ أنّهَا كانَتْ عِنْدَ أبى حَفْصِ ابْنِ المُغِيرَةِ، وَكَانَ النَّبىُّ صلى الله تعالَى عليه وآله وسلم أمَّرَ عَلِىَّ بْنَ أبى طَالِبٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ مَعَهُ زَوْجُها فَبَعَثَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانتْ بَقِيتْ لهَا".
وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب. كذلك ذكره أبو داود فى طريق أخرى.
فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس.
قالوا: ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئاً منه إذ كان صحيحاً صريحاً لا مطعن فيه ولا معارض له. فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار.
وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ "طلقها ثلاثاً" و "طلقها ألبتة" و "طلقها آخر ثلاث تطليقات" و "أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها" و "طلقها ثلاثاً جميعاً".
هذه جملة ألفاظ الحديث، وبالله التوفيق.
فأما اللفظ الخامس وهو قوله "طلقها ثلاثاً جميعاً" هذه القصة عن الشعبى. ولم يقل ذلك عن الشعبى غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبى.
فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله "ثلاثاً جميعاً" وعلى تقدير صحته فالمراد به: أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال طلقها ثلاثا جميعاً. فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع فى الآن الواحد لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ من فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] .
فالمراد حصول الإيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم فى آن واحد، سابقهم ولاحقهم.
فصل
وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضى الله عنها: "أنّ رَجُلاً طلق امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، فَسُئِلَ النّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وآلِه وسلَم: هل تحل لِلأَوَّلِ؟ فقال: لا" الحديث.
هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثاً بفم واحد، فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه.
وقولكم: "ولم يستفصل" جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلوما، وأن الثلاث إنما
تكون ثلاثاً، واحدة بعد واحدة، وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا. فخرج الكلام على المفهوم المتعارف من لغة القوم.
فصل
وأما ما اعتمد عليه الشافعى من طلاق الملاعن ثلاثاً بحضرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم ينكره، فلا دليل فيه. لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا، فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذى هو مقصود اللعان إلا تأكيداً وقوة، وهذا جواب شيخنا رحمه الله.
وقال ابن المنذر: وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث، وأنه بدعة ثم قال: وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث فى مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلانى. فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبية، علم الزوج الذى طلق ذلك أو لم يعلم. لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة، فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعان الزوج وحده، انتهى.
وحينئذ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعى، أو بالتعانهما كما يقوله أحمد، أو يقف على تفريق الحاكم. فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذى وقع منه لغو لم يفد شيئاً ألبتة، بل هو طلاق فى أجنبية. وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا. فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذى هو موجب اللعان ومقصود الشارع. فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق؟.
فصل
وأما حديث محمود بن لبيد فى قصة المطلق ثلاثاً، فالاحتجاج به على الجواز من باب قلب الحقائق، والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة. والاستدلال به على
الوقوع من باب التكهن والخرِصْ، والزيادة فى الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشئ من وجوه الدلالات ألبتة، ولكن المقلد لا يبالى بنصرة تقليده بما اتفق له، وكيف يظن برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره فى شرعه وحكمه ونفذه؟ وقد جعله مستهزئاً بكتاب الله تعالى؟ وهذا صريح فى أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله فى أحكامه.
فصل
وأما حديث ركانة "أنه طلق امرأته البتة، وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استحلفه ما أراد بها إلا واحدة" فحديث لا يصح.
قال أبو الفرح بن الجوزى فى كتاب العلل له: قال أحمد: حديث ركانة ليس بشىء.
وقال الخلال فى كتاب العلل عن الأثرم: قلت لأبى عبد الله: حديث ركانة فى "البتة" فضعفه وقال "ذاك جعله بنيته".
وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخارى، وأبى عبيد، وغيرهم ضعفوا حديث ركانة "البتة" وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل، لا تعرف عدالتهم وضبطهم، قال: وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت. وقال أيضاً: حديث ركانة فى ألبتة ليس بشئ، لأن ابن إسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاث، طلق البتة".
فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث "البتة" أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثا" لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، يعني وهم الذين رووا حديث "البتة".
فقال شيخنا في الجواب: أبو داود إنما رجح حديث "البتة" على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال: حدثنا أحمد ابن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنى بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق
عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا" الحديث، ولم يرو الحديث الذى رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد: حدثني أبى عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "طلق ركانة ابن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد" فلهذا رجح أبو داود حديث "البتة" على حديث ابن جريج. ولم يتعرض لهذا الحديث، ولا رواه فى سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين. وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبى الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج، مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها، أفادت العلم بأنها أقوى من حديث "البتة" بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب فى ذلك. فكيف يقدم الحديث الضعيف الذى ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث؟
فصل
وأما حديث معاذ بن جبل، فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل. والدارقطنى إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به. وفى إسناده: إسماعيل ابن أمية الذارع، يرويه عن حماد. قال الدارقطنى بعد روايته: إسماعيل ابن أمية ضعيف متروك الحديث
فصل
وأما حديث عبادة بن الصامت الذى رواه الدارقطنى. فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقى.
فصل
وأما حديث زاذان عن على رضى الله عنه. فيرويه إسماعيل بن أمية القرشى. قال الدارقطنى: إسماعيل بن أمية هذا كوفى ضعيف.
قلت: وفى إسناده مجاهيل وضعفاء.
فصل
وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطنى: حدثنا على بن محمد بن عبيد الحافظ: حدثنا محمد بن شاذان الجوهرى: حدثنا يعلى بن منصور: حدثنا شعيب بن رزيق: أن عطاء الخرسانى حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر، فذكره. وشعيب وثقه الدارقطنى. وقال أبو الفتح الأزدى فيه لين. وقال البيهقى، وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه، انتهى.
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحيح ولا السنن.
فصل
وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة فقد أنكره كثير لما سئل عنه، ومثل هذا بعيد أن ينسى. وقد أعل البيهقى هذا الحديث، وقال: كثير لم يثبت
من معرفته ما يوجب الاحتجاج به، قال: وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق فى أحكامه" وابن حزم فى كتابه.
فصل
وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازى. قال أبو زرعة الرازى: كذاب، وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكونى، سلمة بن الفضل. قال أبو حاتم: منكر الحديث، وإن كان رواته شتى، فقد ضعفه إسحاق بن راهويه وغيره.
فصل
فما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر، وظنوا أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته.
فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث، وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعى رحمه الله الإجماع أكبر من الخبر المنفرد. وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم.
قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك.
فثبت فى صحيح مسلم أن عمر رضى الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة.
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن شقيق سمع أنساً يقول: قال عمر فى الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، قال: هى ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وكان إذا أتى به أوجعه.
وروى البيهقى من حديث ابن أبى ليلى عن على رضى الله عنه فيمن طلق ثلاثاً قبل الدخول، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على: لا تحل له حتى تنكح غيره.
وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن بعض أصحابه قال: جاء رجل إلى على رضى الله عنه. فقال: طلقت امرأتى ألفاً؟ فقال: ثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرها بين نسائك.
وقال علقمة بن قيس: أتى رجل ابن مسعود رضى الله عنه، فقال: إن رجلاً طلق امرأته البارحة مائة؟ قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم، قال هو كما قلت. وأتاه رجل، فقال: إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم، فقال له مثل ذلك، ثم قال: قد بين الله سبحانه أمر الطلاق. فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له. ومن لبس جعلنا عليه لبسه. والله لا تلبسون إلا على أنفسكم، ونتحمله عنكم؟ هو كما تقولون.
وروى مالك فى الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البُكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتى. فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك. فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك. قال: إنما كان طلاقى إياها واحدة. فقال ابن عباس: إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
وفى الموطأ أيضاً فى هذه القصة: أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير. فقال: إن هذا الأمر مالنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبى هريرة، فإنى تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبى هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحد تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك.
فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير.
وفى الموطأ أيضا: عن النعمان بن أبى عياش عن عطاء بن يسار قال "جاء رجل يستفتى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء فقلت إنما طلاق البكر واحدة. فقال لى عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما أنت قاص. الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره".
وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
وروى البيهقى من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة عن طارق بن عبد الرحمن سمعت قيس بن أبى عاصم قال: سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: ثلاثة تحرم، وسبع وتسعون فضل".
وروى البيهقى عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن، فلما قتل على رضى الله عنه قالت: لنهنئك الخلافة قال: بقتل على تظهرين الشماتة؟ اذهبى فأنت طالق: يعنى ثلاثاً، فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها، فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة، فقالت لما جاءها الرسول: متاع قليل من حبيب مفارق. فلما بلغه قولها بكى، وقال: لولا أنى سمعت جدى، أو حدثنى أبى أنه سمع جدى يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثاً عند الأقراء، أو ثلاثة مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لراجعتها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن على رضى الله عنه أنه قال فى الحرام، والبتة، والبائن، والخلية، والبرية: ثلاثاً، ثلاثاً. قال
شعبة: فلقيت عطاء فقلت: من حدثك عن على؟ قال أبو البخترى قال أحمد: وأنا أهابها، لا أحب فيها لأنه يروى عن عامة الناس أنها ثلاث: على، وزيد، وابن عمر، وعامة التابعين.
وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبى رباح، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبى عياش وغيرهم: أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة.
قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأىّ شئ تردّ حديث ابن عباس "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر وعمر رضى عنهما طلاق الثلاث واحدة" بأى شئ تدفعه؟ قال "برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه" ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، وإلى هذا نذهب.
وذكر البيهقى أن رجلاً أتى عمران بن حصين وهو فى المسجد فقال: رجل طلق امرأته ثلاثاً فى مجلس، فقال: أثم بربه، وحرمت عليه امرأته. فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبى موسى، يريد بذلك عيبه، فقال: ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا؟ فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبى نجيد.
قالوا: فهذا عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، والحسن بن على رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا، ولهذا حكاه غير واحد، منهم أبو بكر بن العربى، وأبو بكر الرازى، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، فإنه
قال فى رواية الأثرم وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يرد إلى السنة، إنه ليس بشىء. وقال: هذا مذهب الرافضة. وظاهر هذا أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة.
قال الآخرون: قد عرفتم ما فى دعوى الإجماع الذى لم يعلم فيه مخالف: أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف، وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة، هذا إذا لم يعلم مخالف، فكيف إذا علم المخالف؟ وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله، ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى، عاص لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، متعرض للحوق الوعيد به. فإن الله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اُللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] .
فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعاً ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله. والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا، وبيان هذا من وجوه:
أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن كرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قال أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهى واحدة وهذا الإسناد على شرط البخارى.
وقال عبد الرزاق. أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهرى بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثاً؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوساً وهو فى المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهرى، قال: فرأيت طاوساً رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة.
أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرنى حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ولم يجمع كنّ ثلاثاً، قال: فأخبرت طاوساً فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة.
فقوله "إذا طلق ثلاثاً ولم يجمع كن ثلاثاً" أى إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. وهذا هو الذى حلف عليه طاووس: أن ابن عباس كان يجعله واحدة.
ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك.
الوجه الثانى: أن هذا مذهب طاوس "، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن بن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقاً ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا إسماعيل بن عليه عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة.
الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبى رباح قال ابن أبى شيبة: حدثنا محمد بن بشر: حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة.
الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم.
الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد فى رواية الأثرم ولفظه، حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً، فجعلها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واحدة. قال أبو عبد الله: وكان هذا مذهب ابن إسحاق يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة.
الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه فى البكر. قال محمد بن نصر المروزى فى كتاب "اختلاف العلماء" له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة. وتأول حديث طاووس عن ابن عباس "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر وعمر يجعل واحدة": على هذا. قال: فإن قال لها ولم يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان، وأصحاب الرأى والشافعى، وأحمد، وأبا عبيدة، قالوا:
بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشىء. لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها. وقال مالك وربيعة، وأهل المدينة والأوزاعى، وابن أبى ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات أنت طالق، نسقاً متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية.
فصار فى وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم.
أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
والثانى: أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ.
والثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهى ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهى واحدة.
الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار فى الطلاق قبل الدخول. قال ابن المنذر فى كتابه الأوسط: وكان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثاً فهى واحدة.
الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبى عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، وإنما هو مذهب سعيد بن جبير.
الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصرى الذى استقر عليه. قال ابن المنذر: واختلف فى هذا الباب عن الحسن. فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وذكر قتادة وحميد ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك فقال: واحدة بائنة.
وهذا الذى ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق فى المصنف فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثاً، فقال الحسن: وما بعد الثلاث فقلت صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع، فقال: واحد تبينها ويحطها، قاله حياته.
الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن [النعمان] بن أبى عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل
يطلق البكر ثلاثاً، فقال إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله ابن عمرو بن العاص: أنت قاص، الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره مالك: فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه.
الوجه الحادى عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبى يوسف عنه.
الوجه الثانى عشر: أنه مذهب محمد بن مقاتل الرازى، حكاه عنه المازرى فى كتابه "المعلم بفوائد مسلم" قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، عباد بن العوام، ووكيع بن الجراح وأبى عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد والبخارى فى صحيحه، وكان ثقة.
الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية منهم التلمسانى صاحب شرح الخلاف، وعزاها إلى ابن أبى زيد أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا فى مذهب مالك وجعله شاذاً.
الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكى حكاه فى كتاب "الوثائق" وهو مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثاً: كذب، لأنه لم يطلق ثلاثاً، ولم يطلق إلا واحدة. كما لو قال: حلفت ثلاثاً كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث.
الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن على بن عبد الله بن إبراهيم اللخمى المشطى، صاحب كتاب الوثائق الكبير الذى لم يصنف فى الوثائق مثله حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال:
وأما من قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد بانت منه، قال "البتة" أو لم يقل. قال: وقال بعض الموثقين، يريد المصنفين فى الوثائق: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذى لا شك فيه، قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس. قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة وأحاديث مسطورة أضربنا عنها واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن
عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً فى مجلس واحد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إنما هى واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فار تجعها"، ثم ذكر حديث أبى الصهباء، وذكر بعض تأويلاته التى ذكرناها.
الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوى حكى القولين فى كتابه "تهذيب الآثار" فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثاً معاً، ثم ذكر حديث أبى الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت فى وقت سنة، وذلك أن تكون طاهراً فى غير جماع، واحتجوا فى ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر رجلاً أن يطلق امرأته فى وقت فطلقها فى غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع؟ إذ كان قد خالف ما أمر به.
ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين فى إنصاف مخالفيهم والبحث معهم،. ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه، ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق، ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجرى معه فى ميدانه، والله سبحانه عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل.
الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبى البركات: أنه كان يفتى بذلك أحيانا سراً، وقال فى بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد.
قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبى حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبى حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.
الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفى فى وثائقه وقد ذكر الخلاف فى المسألة،
ثم قال: ومن بعض حججهم أيضاً فى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
وإذا جمع الإنسان ذلك فى كلمة واحدة وكان ما زاد عليها لغواً، كما جعل مالك رحمه الله رمى السبع الجمرات فى مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقى، ومحمد بن عبد السلام الخشنى، وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم، هذا لفظه.
الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى صاحب كتاب "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام" ذكر الخلاف بين السلف والخلف فى هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها فى مذهب مالك نفسه. وذكر من كان يفتى بها من المالكية. والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جداً، ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر فى العلم باعه وطال فى الجهل والظلم ذراعه، يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلاً منه وظلماً ويحق له وهو الدعى فى العلم وليس منه أقرب رحماً.
قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة. فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذى ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها فى حيض أو نفاس، أو ثلاثاً فى كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق.
فقال على بن أبى طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. وقال: قوله "ثلاثاً" لا معنى له: لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله فى "ثلاث" إذا كان مخبراً عما مضى فيقول طلقت ثلاثاً، بخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه فى ثلاثة أوقات كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذباً. وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثاً يردد الحلف، كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثاً، لم يكن حلف إلا يمينا واحدة. فالطلاق مثله. ومثله
قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، روينا ذلك كله عن ابن وضاح. وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن بقى بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشنى فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.
وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق فى كتابه لفظ الطلاق، فقال:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان} [البقرة: 229] .
يريد أكثر الطلاق الذى يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة فى العدة، ومعنى قوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضى عدتها، وفى ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى:{لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] .
يريد الندم على الفرقة والرغبة فى المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن، لأنه ترك المندوحة التى وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقاً. فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد فتدبره.
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك.
من ذلك: قول الرجل: مالى صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه.
هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه.
أفترى الجاهل الظالم المعتدى يجعل هؤلاء كلهم كفاراً مباحة دماؤهم؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى، أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضى به المقلدون، وردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله.
وَتِلْكَ شَكاةٌُ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود، وأصحابه. وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس وراء ظهورهم، فلم يعبئوا به شيئاً، وخالفهم أبو محمد بن حزم فى ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها.
فهذه عشرون وجها فى إثبات النزاع فى هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذى لم نقف عليه من ذلك كثير.
وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن على وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن
بن عوف وابن عباس. ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلى وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة. ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نعد ما حكى عنهم فى الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه فى مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم، فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين، وثانى الخلفاء الراشدين المحدث الملهم، الذى أمرنا باتباع سنته والاقتداء به؟ أفتظنون به أنه كان يرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة؟ مع أنه أيسر على الأمة وأسهل، وأبعد من الحرج، ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه، فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه، ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة، ويوافقونه ولا يخالفونه؟، ثم هب أنهم خافوا منه في حياته، وكلا، فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك. وكان إذا بينت له المرأة ما خفى عليه من الحق رجع إليه. وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق، وأن يمسكوا عنه خوفاً من عمر رضى الله عنه. فقد دار الأمر بين القدح فى عمر رضى الله عنه والصحابة معه، وبين رد تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ، وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح. ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من جميع من بعدهم؟
قيل: لعمر الله، وإن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم، وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف، فيقول:
الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه. وطائفة اعتذرت عن عمر رضى الله عنه ولم ترد الأحاديث.
فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود
المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر فى المرة الرابعة.
وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدى العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية.
وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب.
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله.
وعزر بالعقوبات المالية فى عدة مواضع.
وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه.
وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالاً قطع فيه، وكاتم الضالة.
وعزر بالهجر ومنع قربان النساء.
ولم يعرف أنه عزر بدرة، ولا حبس، ولا سوط، وإنما حبس فى تهمة، ليتبين حال المتهم.
وكذلك أصحابه تنوعوا فى التعزيرات بعده.
فكان عمر رضى الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب، ويحرق حوانيت الخمارين
والقرية التى تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية.
وكان له رضى الله تعالى عنه فى التعزير اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة، وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتابعوا فيها.
فمن ذلك: أنهم لما زادوا فى شرب الخمر وتتابعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، جعله عمر رضى الله عنه ثمانين ونفى فيه.
ومن ذلك: اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب.
ومن ذلك: اتخاذه داراً للسجن.
ومن ذلك: ضربه لنوائح حتى بدا شعرها.
وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التى لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدماً.
ومن ذلك: أنه رضى الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، رأى إلزامهم بها عقوبة لهم، ليكفوا عنها.
وذلك إما من التعزير العارض الذى يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب فى الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس، وينفى عن الوطن، وكما منع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.
وإما ظناً أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك فى متعة الحج، إما مطلقاً، وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.
وإما لقيام مانع قام فى زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بنى تغلب وغير ذلك. فهذا وجه ثالث:
فإن الحكم ينتفى لانتفاء شروطه، أو لوجود مانعه. والإلزام بالفرقة فسخاً أو طلاقاً لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن تارة يكون حقاً للمرأة، كما فى العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك. وتارة يكون حقاً للزوج، كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله. وتارة يكون حقاً لله تعالى كما فى تفريق الحكمين بين الزوجين عند من يجعلهما وكيلين، وهو الصواب وكما فى وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفئ فى مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: إنهما إذا تطاوعا على الإتيان فى الدبر فرق بينهما.
وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قاله أحمد رحمه الله وغيره.
واحتجوا بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "أمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ، لَمّا أَمَرَهُ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ".
فالإلزام إما من الشارع، وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد.
وأصل هذا: أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوه إبليس حيث يفرح بذلك، ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه، ومفارقة طاعته بالنكاح الذى هو واجب أو مستحب، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق. وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه، شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه. فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة.
فشرع له أن يطلقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها، فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة، كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش، كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت.
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار.
فهذا هو الذى شرعه وأذن فيه.
ولم يأذن فى إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضى بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقى له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق.
فإذا علم أن حبيبته تصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق.
فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثاً بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له. فوافقه أمير المؤمنين فى عقوبته لمن طلق ثلاثاً جميعاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه.
فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذى يترتب عليه.
قيل: نعم لعمر الله، قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه فى آخر أيامه، وود أنه كان فعله.
قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلى فى مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى: حدثنا صالح ابن مالك: حدثنا خالد بن يزيد بن أبى مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما ندمت على شىء ندامتى على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالى، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.
ومن المعلوم أنه رضى الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعى، الذى أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جوازه. ولا الطلاق المحرم الذى أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق فى الحيض، وفى الطهر المجامع فيه. ولا الطلاق قبل الدخول الذى قال الله تعالى فيه:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَّلْقتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] .
هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضى الله عنه أراده: فتعين قطعاً أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا فى شئ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ وهذا كالصريح فى أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى فى التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ. فأمضاه عمر رضى الله عنه عليه، فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه. وهذا مذهب الأكثرين: مالك، وأحمد، وأبى حنيفة رحمهم الله.
فرأى عمر رضى الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به. فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عُدوله إلى تحريم الثلاث الذى يدفع المفسدة من أصلها. واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر فى زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وأول خلافة عمر رضى الله عنهما أولى من ذلك كله. ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة ولا يصلح الناس سواه، ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لابد لهم منهما: إما الدخول فيما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله وتابع عليه اللعنة، وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة.
والذى شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأتى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده، الراغبين عن تقواه وطاعته أبواب اليسر والفرج السهولة. فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله، كما قال تعالى فى السورة التى بين فيها الطلاق، وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاَتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] .
فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقاً أن لا يجعل الله له مخرجاً وأن لا يجعل له من أمره يسراً.
وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس، وابن مسعود، لمن طلق ثلاثاً جميعاً: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً.
وقال شعبة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: عصيت ربك: وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] .
وقال الأعمش: عن مالك بن الحارث عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجاً، فاندمه الله تعالى، أطاع الشيطان فقال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال من يخادع الله يخدعه.
والله تعالى قد جرت سنته فى خلقه بأن يحرم الطيبات شرعاً وقدرَاً على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره، وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله، واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه، كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى.
فهذا نهاية إقدام الناس فى باب الطلاق.
يبقى أن يقال: فإذا خفى على أكثر الناس حكم الطلاق، ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلاً، وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به،
لكونهم لم يتعلموا دينهم الذى أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم كيف يطلقون؟ وماذا أبيح لهم من الطلاق؟ وماذا يحرم عليهم منه؟ أم يقال لا يستحقون العقوبة، لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعاً ولا قدراً إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذَبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] .
وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها، والتعزيرات ملحقة بالحدود.
فهذا موضع نظر واجتهاد، وقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ".
فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلاً، ثم علم به فندم وتاب، فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذى جعله الله تعالى لمن اتقاه، ويجعل له من أمره يسراً.
والمقصود: أن الناس لابد لهم فى باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها.
أحدها: باب العلم والاعتدال الذى بعث الله تعالى به رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم.
والثانى: باب الآصار والأغلال، الذى فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه.
والثالث: باب المكر والاحتيال الذى فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى، واتخاذ آياته هزواً ما فيه، ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم.
فصل
ومن مكايده التى كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذى يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته فى أمره ونهيه، وهى من الرأى الباطل الذى اتفق السلف على ذمه
فإن الرأى رأيان: رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذى اعتبره السلف، وعملوا به.
ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذى ذموه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه.
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.
وقال الإمام أحمد رحمة الله: لا يجوز شئ من الحيل فى إبطال حق مسلم.
وقال الميمونى: قلت لأبى عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولا فى شئ اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم.
فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السلف فى معانى الأسماء التى علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة.. وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها.
وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التى شرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التى تسلك لإبطال مقصوده.
فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن فى النوع الثانى.
قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:
الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8-9] وقال تعالى: {إِنَّ الُمْنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهٌمْ} [النساء: 142] .
وقال فى أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62] .
فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفى المخدوع شر من خدعه.
والمخادعة: هى الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ فى اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفاً للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أى مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه:"الحرب خدعة" وسوق خادعة، أى متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعاً.
فلما كان القائل "آمنت" مظهراً لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعاً، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعاً، كان المتكلم بلفظ "بعت" و "اشتريت" و "طلقت" و "نكحت" و"خالعت" و "آجرت"، و "ساقيت" و "أو صيت" غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعاً، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعاً. ذاك مخادع فى أصل الإيمان، وهذا مخادع فى أعماله وشرائعه.
قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق فى آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق فى أصل الدين.
يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما "أنه جاءه رجل فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه".
وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العينة، يعنى بيع الحريرة؟ فقال: إن الله تعالى لا يخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بمُطَين فى كتاب البيوع له.
وعن ابن عباس: أنه سئل عن العِينة، يعنى بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله، رواه الحافظ أبو محمد النخشى.
فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعاً لله، وهم المرجوع إليهم فى هذا الشأن والمعوّل عليهم فى فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا فى المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة.
قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.
وقال أيوب السختيانى فى المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عياناً كان أهون علىّ.
وقال شريك بن عبد الله القاضى فى كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة.
وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنهم يريدون سلمه، وهم يقصدون بذلك المكُر به من حيث لا يشعر. فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه. كما أن المحلل والمرابى يظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا الطلاق بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد، من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعاً أو عرفاً خديعة.
قال: وتلخيص ذلك أن مخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله.
بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم، وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم.
وبيان الثانى: أن ابن عباس وأنساً وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى، وهم أعلم بكتاب الله تعالى.
الثانى: أن المخادعة إظهار شئ من الخير وإبطان خلافه كما تقدم.
الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غيره، سمى مخادعا لله تعالى، وكذلك المرابى. فإن النفاق والربى من باب واحد. فإذا كان هذا الذى أظهر قولاً غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه، وهذا الذى أظهر فعلاً غير معتقد ولا مريد لما شرع له مخادعاً. فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذى شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذى شرع له. وإذا كان مشاركاً لهما فى المعنى الذى سميا به مخادعين وجب أن يشركهما فى اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق.
الوجه الثانى: أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التى جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التى يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التى بين المتعاقدين وهو يريد بها حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التى جعلت هذه الألفاظ محصلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسئ عشرتها ولا حاجة فى نكاحها، أو ينكحها ليحلها لمطلقها، لا ليتخذها زوجاً، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعاً جائزاً ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزواً. يوضحه:
الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته؟ طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟ " فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئاً بآيات الله تعالى، متلاعباً بحدوده. ورواه ابن بطة بإسناد جيد، ولفظة "خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك".
الوجه الرابع: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد "أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " الحديث، وقد تقدم. فجعله لاعباً بكتاب الله، مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقاً يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقاً لا يملك فيه ردها.
وأيضاً فإن المرتين والمرات فى لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم: لما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات فى مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى وما دل عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذى رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع؟.
الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم ما بلاهم به فى سورة
ن وهم قوم كان للمساكين حق فى أموالهم، إذا جذوا نهاراً، بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق لئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهم نائمون فأصبحت كالصريم. وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجئ المساكين، فكان فى ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.
الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر [الأعراف: 163 167] عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها، ليس المحتال على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه. ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفى بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له فى الحد والحقيقة. فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه
الدين فى بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردة، يشبهونهم فى بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقاً، يوضحه:
الوجه السابع: أن بنى إسرائيل كانوا أكلى الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله
تعالى فى كتابه، وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام فى يوم بعينه، ولذلك كان الربا والظلم حراماً فى شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم أن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة. فيشبه، والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته. ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يقضى به إلى خير ورحمة. ومن أكله مستحلاً له بنوع احتيال تأول فيه، فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد فى حل الحرام، وذلك قد يفضى به إلى شر طويل.
وقد جاء ذكر المسخ فى عدة أحاديث قد تقدم بعضها فى هذا الكتاب كقوله فى حديث أبى مالك الأشعرى، الذى رواه البخارى فى صحيحه:"وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يوْمِ الْقِيَامَةِ".
وقوله فى حديث أنس: "لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ".
وفى حديث أبى أمامة أيضا: "يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الامَّةِ عَلَى طعْمٍ وَشرْبٍ وَلَهْوٍ فَيٍُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ".
وفى حديث عمران بن حصين: "يَكُونَ فى أُمَّتِى قَذْفٌ وَمَسْخٌ وَخَسْفٌ".
وكذلك فى حديث سهل بن سعد وكذلك فى حديث على بن أبى طالب، وقوله:" فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وخسفاً، ومسخاً".
وفى حديثه الآخر: "يمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير".
وفى حديث أنس رضى الله عنه "ليكونن فى هذه الأمة خسف وقذف ومسخ".
وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه "يمسخ قوم من هذه الأمة فى آخر الزمان قردة وخنازير. قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون. قالوا: فما بالهم لله؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، القينات، فباتوا على شربهم ولهوهم. فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير".
وفى حديث جبير بن نفير: ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف. فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف، والقذف، والمسخ، والصواعق.
وقال سالم بن أبى الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً أو خنزيراً، وليمرن الرجل على الرجل فى حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو خنزيراً.
وقال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً. فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه.
وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: "يُوشِكُ أَنْ يْقعُدَ أُثْنَانِ عَلَى ثِفَالِ رَحىً يَطْحَنَانِ، فَيُمْسَخُ أحَدُهُمَا وَالآخَرُ يَنْظُرُ".
وقال مالك بن دينار: بلغنى أن ريحاً تكون فى آخر الزمان، وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا.
وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبى الدنيا فى كتاب ذم الملاهى.
فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع فى هذه الأمة ولا بد وهو فى طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه. فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه. والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم. ومن لم يمسخ منهم فى الدنيا مسخ فى قبره أو يوم القيامة.
وَقد جاءَ فى حديثٍ الله أَعلم بحَالهِ: "يُحشَرُ أكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فى صَوَرِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلابِ مِنْ أَجْلِ حِيَلهِمْ عَلَى الرِّبَا كمَا مُسِخَ أصحاب دَاوُدَ لاحْتِيَالِهمْ عَلَى أخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ".
وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء فى أحاديث كثيرة.
قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة. فإنهم لو استحلوها مع اعتقد أن الرسول حرمها كانوا كفار ولم يكونوا من أمته. ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصى، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: يستحلون. فإن المستحل للشئ هو الذى يفعله معتقداً حله. فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء فى الحديث. فيشربون الأنبذة المحرمة، ولا يسمونه خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة. وهذا لا يحرم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال فى بعض الصور كحال الجرب وحال الحكة. فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال. وهذه التأويلات ونحوها واقعة فى الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وَهَلْ أَفسدَ الدِّينَ إِلا الملُو
…
كُ وَأحبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
ومعلوم أنها لا تغنى عن أصحابها من الله شيئاً بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه
الأشياء بيانا قاطعاً للعذر مقيما للحجة. والحديث الذى رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليشربن ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله تعالى بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير".
الوجه الثامن: أن النبى صلى الله تعالى وآله وسلم قال: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" الحديث.
وهو أصل فى إبطال الحيل وبه احتج البخارى على ذلك. فإن من أراد أن يعامل رجلاً معاملة يعطيه فيها ألفاً بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة، وباعه ثوباً بستمائة يساوى مائة، إنما نوى بإقراض التسعمائة تحصيل الربح الزائد. وإنما نوى بالستمائة التى أظهر أنها ثمن الثوب الربا. والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه، ومن عامله يعلمه، ومن أطلع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة، وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللاً لهذا المحرم.
الوجه التاسع: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"البَيِّعَانِ بِالخْيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلا أنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ. وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِلهُ".
رواه أحمد وأهل السنن، وحسنه الترمذى.
وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل.
ووجه ذلك: أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذى يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما. فحرم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهى طلب الفسخ، سواء كان العقد جائزا أو لازماً، لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق فى العرف له. فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرق لذلك. وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما فى حاجته ومصلحته.
الوجه العاشر: ما روى محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكبَتِ الْيَهُودُ، وَتَسْتَحِلُّواً مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ".
رواه أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام حدثنا الحسن بن الصباح الزعفرانى حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذى.
وهو نص فى تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل. وإنما ذكر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذى قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه.
فمن أسهل الحيل على من أراد فعله: أن يعطيه مثلاً ألفاً إلا درهماً باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوى درهماً بخمسمائة.
وكذلك المطلق ثلاثاً: من أسهل الأشياء عليه أن يعطى بعض السفهاء عشرة دراهم مثلاً. ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعى. فإنه يصعب معه عودها حلالاً إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا احتالواً
فى الاصطياد يوم السبت، بأن حفرواً خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز. لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.
ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم، تأولواً أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب، فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا فى أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشئ فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البدل يسد مسده. فلا فرق بين حال جامده وودكه، فلو كان ثمنه حلالاً لم يكن فى تحريمه كثير أمر، وهذا هو:
الوجه الحادى عشر: وهو ما روى ابن عباس قال: "بَلَغَ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ أنّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً. فقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاناً، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وسّلمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا" متفق عليه.
قال الخطابى: "جملوها" معناه: أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال: جملت الشحم، وأجملته، واجتملته. والجميل: الشحم المذاب.
وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "إِنّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمرِ وَالمَيْتَةِ، وَالْخَنْزِيرِ، وَالأَصّنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فإِنّهَا يُطْلَى بهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِح بهَا النّاسُ؟ فَقَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثمَنَهُ" رواه البخارى وأصله متفق عليه.
قال الإمام أحمد، فى رواية صالح، وأبى الحارث فى أصحاب الحيل: عمدواً إلى السنن، فاحتالوا فى نقضها، فالشئ الذى قيل إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه. ثم احتج بهذا الحديث، وحديث:"لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ".
قال الخطابى قد ذكر حديث الشحوم: فى هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئة وتبديل اسمه، وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تقرب مال اليتيم، فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال: لم آكل نفس مال اليتيم. أو اشترى شيئاً فى ذمته ونقده وقال: هذا قد ملكته وصار عوضه دينا فى ذمتى، فإنما أكلت ما هو ملكى باطناً وظاهراً.
ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود، وكان السابقون منها فقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات: من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها، وبتحريم أثمانها، لطرَّق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم فى الأثمان ونحوها. إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى.
الوجه الثانى عشر: أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشئ بغير اسمه، على تغيير
صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة. فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلل إلى الزوج، وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقة حقيقة التحليل.
ومعلوم قطعاً أن لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذى اللعنة من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله. فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم ولا لمجرد الصورة.
وكذلك المفسدة العظيمة التى اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذى لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
وأىّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلواً ثمنه وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمن، فلم نأكل شحماً.
وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما فى حديث أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "ليشربنّ ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
وإنما أتى هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود فى استحلال بيع الشحم بعد جمله، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أو أوقعوها به يوم السبت فى الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحة لنفس الشحم بل الذى
يستحل الشراب المسكر، زاعما أنه ليس خمراً مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا. فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من وجوه أخرى.
منها: ما رواه النسائى عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" وإسناده صحيح.
ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه الإمام أحمد، ولفظه:"ليستحلنّ طائفة من أمتى الخمر".
ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تذهب الليالى والأيام حتى تشرب طائفة من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها".
فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالاً لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه. وكذلك شبهتهم فى استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة، وفى الحرب. وقد قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتِى أخْرَجَ لِعبَادِهِ} [الأعراف: 32] .
والمعازف قد أبيح بعضها فى العرس ونحوه، وأبيح الحداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل. فإذا كان من عقوبة هؤلاء: أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم، وفعلهم أقبح؟ فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون،. إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضواً عن مقصود الشارع وحكمته فى تحريم هذه الأشياء. ولذلك مسخواً قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم، وخسف ببعضهم كما خسف بقارون، لأن فى الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما فى الزينة التى خرج فيها قارون على قومه، فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين
العقوبتين، وما هى من الظالمين ببعيد وقد جاء ذكر المسخ والخسف فى عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها.
فصل
وقد أخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر.
فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ".
يعنى العينة، وهذا وإن كان مرسلاً فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهى الأحاديث الدالة على تحريم العينة. فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعاً، وفى هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه.
ومن المعلوم أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة فى الحيل الربوية كقيامها فى صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، وإنما توسلاً إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التى حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة.
منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربى صريحاً، لأنه واثق بصورة العقد واسمه.
ومنها: أنه يطالبه مطالبه معتقد حل تلك الزيادة وطيبها بخلاف مطالبه المربى صريحا.
ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة. والنفوس أرغب شئ فى التجارة، فهو فى ذلك بمنزلة من أحب امرأة حباً شديداً ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه. فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته، فصار
يأتيها آمنا. وهما يعلمان فى الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان بها إلى الغرض.
ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التى حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم. والدين اللازم الذى لا ينفك عنه. وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع فى الواقع.
فالربا أخو القمار الذى يجعل المقمور سليبا حزينا محسوراً.
فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد تحريمه، وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حرم التفرق فى الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهماً بدرهم إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافاً مضاعفة؟ ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم. فإن ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له، فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذى بتغيير صورته، مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه، ازداد المريض بتناوله مرضاً إلى مرضه، وترامى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه.
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورتها وأسمائها، والوجدان شاهد بذلك.
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحومها لأجل أسمائها وصورها. ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها، ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن
الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا لم نأكله. وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد.
فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة فى المفسدة التى حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يحرم الشئ لمفسدة ويبيحه لأعظم منها.
ولهذا قال أيوب السختيانى: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون.
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ".
وقال بشر بن السرى وهو من شيوخ الإمام أحمد: نظرت فى العلم، فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت فى الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنة والنار، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير. ونظرت فى الرأى فإذا فيه المكر والخديعة، والتشاح، واستقصاء الحق والمماراة فى الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطيعة الأرحام، والتجرؤ على الحرام.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الحيل فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
والرأى الذى اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله هو الذى اتفق السلف على ذمه وعيبه.
فروى حرب عن الشعبى قال: قال ابن مسعود رضى الله عنه: إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت، ولا تقيسواً شيئاً بشئ فتزل قدم بعد ثبوتها.
وعن الشعبى عن مسروق قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذى بعده شر
منه، لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام وينثلم.
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم وأصحاب الرأى، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم. فعارضوها برأيهم، فإياكم وإياهم.
وقال أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد: لا يجوز شئ من الحيل.
وفى رواية صالح ابنه: الحيل لا نراها.
وقال فى رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمر فى حديث:"الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ وَلا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقَيلَهُ" قال فيه إبطال الحِيل.
وقال فى رواية أبى الحارث: هذه الحيل التى وضعها هؤلاء، احتالوا فى الشئ الذى قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها" فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم. وقد لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له.
وقال فى رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى:{وَلا تنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقَالَ تعَالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] .
وقال فى رواية أبى طالب فى التحيل لإسقاط العدة "سبحان الله، ما أعجب هذا،
أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العدة من الحمل، فليس من امرأة تطلق، أو يموت زوجها، إلا تعتد من أجل الحمل، ففرج يوطأ، ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملا، كيف يصنع؟ يطؤها رجل اليوم، ويطؤها الآخر غداً؟ هذا نقض لكتاب الله والسنة، قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ تَحِيضَ" فلا يدرى هى حامل أم لا؟ سبحان الله ما أَسْمجَ هذا.
وقال فى رواية حبيش بن سندى فى الرجل يشترى الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها:
أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب وقال: هذا أخبث قول.
وقال فى رواية الميمونى: إذا حلف على شئ ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه.
وقال فى رواية الميمونى، فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها: هل يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. فقال له الميمونى: أليس
حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولاً اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون فى رجل حلف على امرأته، وهى على درجة: إن صعدت أو نزلت فأنت طالق. قالوا: تحمل حملاً ولا تنزل. فقال: هذا الحنث بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحنث.
وذكر لأحمد: أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارتددت عن الإسلام بنت منه، ففعلت، فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علمه أو رضى به فهو كافر.
وكذلك قال عبد الله بن المبارك ثم قال: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم.
وقال يزيد بن هارون: أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان
قبيحاً. أفتواً رجلاً حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجوه فبذلت له مالاً كثيراً فى طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يباشرها.
وذكرت الحيلة عند شريك، فقال: من يخادع الله يخدعه.
وقال النضر بن شميل: فى كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر.
وقال حفص بن غياث: ينبغى أن يكتب عليه: كتاب الفجور.
وقال عبد الله بن المبارك فى قصة بنت أبى روح حيث أمرت بالارتداد فى أيام أبى غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن: فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده، أو فى بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر.
وقال أيوب السختيانى: ويل لهم، من يخدعون؟ يعنى أصحاب الحيل.
وقال بعض أصحاب الحيل: ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالاً.
وقال زاذان. قال على رضى الله عنه، يعنى وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله، وتحرمون أشياء قد حللها الله.
قلت: ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها، وسدت عليهم الطرق التى فتحوها للتحيل الباطل.
فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه، ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل.
ومن ذلك: بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصى.
ومن ذلك: بطلان تدبير المدَبَّر إذا قتل سيده ليعجل العتق.
ومن ذلك: تحريم المنكوحة فى عدتها على الزوج، تحريما مؤبداً، عند عمر ابن الخطاب، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم.
ومن ذلك: ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها ترثه مادامت فى العدة، عند طائفة، وعند آخرين ترثه وإن انقضت عدتها، ما لم تتزوج، وعند طائفة: ترث وإن تزوجت.
ومن ذلك: بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له. ونظائر ذلك كثيرة:
فالمحتال بالباطل معامل بنقبض قصده شرعاً وقدراً.
وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمَكْرِمَاتَ بالفقر.
ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها.
وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير.
وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله. كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبى الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] .
فلا بد أن يمحق مال المرابى ولو بلغ ما بلغ.
وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه.
وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه، وإحراق متاعه.
وجعل عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده، وتغريمه نظيره.
وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق.
وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته.
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفى من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفاً.
وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة.
وشرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عقوبة من اطلع فى بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه، إفساداً للعضو الذى خانه، وأولجه بيته بغير إذنه، واطلع به على حرمته.
وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه المقصوده وإن نال بعضه، فالذى ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته:{وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] .
وعاقب من حرص على الولاية، والإمارة والقضاء، بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:" إِنَّا لا نُوَلّى عَمَلَنَا هذَا مَنْ سَأَلهُ".
ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام: بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمله.
وعاقب من اتخذ معه إلها آخر، ينتصر به، ويتعزز به: بأن جعله عليه ضدا يذل به، ويخذل به. كما قال تعالى:{وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81-82] وقال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مْحُضَرُونَ} [يس: 74-75]
وقال تعالى {لا تَجْعَل مَعَ اللهِ إلهَا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولا} [الإسراء: 22] .
ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح.
وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا.
وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوى غيهم وفقيرهم فى الحاجة.
وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم، ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى حديث على رضى الله عنه الذى رواه الترمذى وغيره، وذكر القرآن:
"مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الُهْدَى فى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ".
فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا، فجزاؤه أن يقصمه الله، أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه أن يضله الله.
وهذا باب واسع جدا عظيم النفع. لمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً، دنيا وآخره. وقد اطردت سنته الكونية سبحانه فى عباده، بأن من مكر بالباطل مكربه، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع. قال الله تعالى:
{إِنّ المُنَافِقينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال تعالى {وَلا يَحِيقُُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه} [فاطر: 43] .
فلا تجد ما كراً إلا وهو ممكور به، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع، ولا محتالا إلا وهو محتال عليه.
فصل
وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها. فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك. فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه.
فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟
فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا، على وجه المقابلة.
وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن: "مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ".
ولما جاءت صفية رضى الله تعالى عنها تزوره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال:"عَلَى رِسْلِكُمَا إِنّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. إنى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فى قُلُوبِكُمَا شَراً".
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية.
وأمسك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس:
"إِنّ مُحَّمداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها.
وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة، لئلا تفضى مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها.
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ فى الأوعية التى لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسماً للمادة وسدا للذريعة.
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة، حسماً للمادة وسدا للذريعة.
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور.
ومنعهن من التسبيح فى الصلاة لنائبة تنوب، بل جعل لهن التصفيق.
ومنع المعتدة من الوفاة، من الزينة والطيب والحلى.
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها فى العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضاءها.
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها.
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله.
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها.
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها. كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثاناً. وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده، بل على من قصد خلافه، سدا للذريعة.
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقته سجود الكفار للشمس. ففى الصلاة نوع تشبه بهم فى الظاهر. وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة فى الباطن، وأكد كذلك بالنهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة فى هذا المقصود، وحماية لجانب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك بكل ممكن.
ومنع من التفرق فى الصرف قبل التقابض، وكذلك الربوى إذا بيع بربوى آخر، من غير جنسه، سدا لذريعة النَّساء، الذى هو صلب الربا ومعظمه، بل منع من بيع الدرهم
بالدرهمين نقداً سداً لذريعة ربا النَّساء، كما علل بذلك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، وهذا أحسن العلل فى تحريم ربا الفضل.
وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح فى السلف، بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع.
ومنع البائع أن يشترى السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به، وهى مسألة العينة وإن لم يقصد الربا، لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقداً.
وحرم جمع الشرطين فى البيع، لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة.
ومنع من القرض الذى يجر النفع وجعله ربا.
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض. ففى سنن ابن ماجه عن يحيى بن أبى إسحاق الهنائى. قال سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال، فيهدى إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم:
"إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضاً فأَهْدَى إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابّةِ فَلا يَرْكَبَنّهَا، وَلا يَقْبَلهُ إلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذلِكَ".
وروى البخارى فى تاريخه عن يزيد بن أبى يحيى الهنائى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلا يأْخُذْ هَدِيّةً".
وفى صحيح البخارى عن أبى بردة عن أبى موسى قال: "قَدِمْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ فقَالَ لى: إِنّكَ بأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَق فأَهْدَى إِلَيْكَ حمل تبن أو حْمِل شَعِيرٍ، أوْ حُمِلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنّهُ رِباً".
وروى سعيد بن منصور فى سننه هذا المعنى عن أبى بن كعب.
وجاء عن ابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رضى الله عنهم نحوه.
وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة فى القرض الذى موجبه رد المثل.
ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فلو كان الدينان حالين لم يمتنع، لأنهما يسقطان جميعاً من ذمتيهما، وفى الصورة المنهى عنها ذريعة إلى تضاعف الدين فى ذمة كل واحد منهما فى مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا [النسيئة] بعينها.
ونهى الله سبحانه وتعالى النَّساء أنْ {يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيْعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينتِهِنَّ} [النور: 31] .
فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذى هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه.
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التى هى ذريعة إلى مواقعة المحظور.
وحرم التجارة فى الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها، فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها، ولهذا لما نزلت الآيات فى تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وقرن بها تحريم التجارة فى الخمر، فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال. والخمر ذريعة إلى إفساد العقول. فجمع بين تحريم التجارة فى هذا وهذا.
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة فى الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب.
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار فى مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فإنه إذا أشبه الهدى الهدى أشبه القلب القلب. وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْىَ الْكفَّارِ".
وفى المسند مرفوعاً: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ".
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم. وبهذه العلة بعينها علل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ
ذلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكمْ".
وأمر بالتسوية بين الأولاد فى العطية، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغى الشهادة عليه. وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم، كما هو المشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التى لا معارض لها بالمنع منه، لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضى تحريمه.
ومنع من نكاح الأمة، لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها يملك اليمين لزوال هذه المفسدة.
ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن، وقصر الرجال على الأربع، فسحة لهم فى التخلص من الزنا، وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى.
ومنع من عقد النكاح فى حال العدة وحال الإحرام، وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل، لكون العقد ذريعة إلى الوطء، والنفوس لا تصبر غالباً مع قوة الداعى.
وشرط فى النكاح شروطاً زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما. واشتراط الولى، ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف، والصوت، والوليمة وأوجب فيه المهر.
ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
وسر ذلك: أن فى ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما فى الأثر:
"إِنّ الزَّانِيَةَ هِىَ الّتِى تُزَوِّجُ نَفْسَهَا".
فإِنه لا تشاء زانية تقول: زوجتك نفسى بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت. ومعلوم قطعاً أن مفسدة الرنا لا تنتفى بقولها: أنكحتك نفسى، أو زوجتك نفسى. أو أبحتك منى كذا وكذا. فلو انتفت مفسدة الزنا بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل.
فعظم الشارع أمر هذا العقد. وسد الذريعة إلى مشابهته للزنا بكل طريق. ثم أكد ذلك، بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاماً من المصاهرة وحرمتها، ومن التوارث. ولهذا كان الراجح فى الدليل: أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية. ولا يثبت به النسب، ولا العدة على الصحيح. وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها، ولا يقع فيه طلاق، ولا ظهار، ولا إيلاء. ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها. فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها. فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب. وجمع بينهما فى قوله:{فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] .
فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر.
وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له.
وليس المقصود استيفاء أدلة المسألة من الجانبين، وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سد الذرائع.
ومن ذلك: نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تقام الحدود فى دار الحرب. وأن تقطع الأيدى فى الغزو، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار.
ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب، وخاف على نفسه الزنا عزل
عن امرأته، نص عليه أحمد، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافراً.
ومن ذلك: أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضى المساواة، لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء، وتعاون الجماعة على قتل المعصوم.
ومن ذلك: أن السكران لو قتل اقتص منه، وإن كان فى هذه الحالة لا قصد له. لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص.
ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله.
ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
{رَاعِنَا} [البقرة: 104] .
مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة، لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا.
ومن ذلك: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة، أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يصمد له صمداً سداً لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى.
ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يصلواً جلوساً إذا صلى إمامهم جالساً، سدا لذريعة التشبه بفارس والروم فى قيامهم على ملوكهم وهم قعود.
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله: عن ذلك:
"أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ُائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة. ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه، ويقيم عذره، مع أن ذلك أيضاً ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته، فإن النفوس لا تقتصر فى الاستيفاء غالبا على قدر الحق.
ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشترى سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان. وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر. فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو. فإنه يأخذه بالثمن الذى يأخذه به الأجنبى، ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة، ولا تسقط بالاحتيال. فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التى شرعت لها بالنقض والإبطال.
ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو، ولا الظنين فى تهمة أو قرابة. ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصى فيما هو وصى فيه، ولا الولد على ضرة أمه، ولا يحكم القاضى بعلمه. كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد.
ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع فى الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة.
ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بقطع الشجرة التى كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال، سدا لذريعة الشرك والفتنة. ونهى عن تعمد الصلاة فى الأمكنة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينزل بها فى سفره وقال "أتريدون أن تتخدوا آثار أنبيائكم مساجد؟ من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فلا".
ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضى الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم فى القرآن. ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم.
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الذى أرسل معه بهدية إذا عطب شئ منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذى قلده به بدمه، ويخلى بينه وبين
المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه، أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر فى علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره. فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه.
ومن ذلك: نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الذرائع التى توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال:
"إذَا بُويِعَ لخِليَفَتْينِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا".
سدا لذريعة الفتنة والفرقة.
ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم، والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة فى بقايا تلك الشرور إلى الآن.
ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب، لئلا تفضى مشابهتهم للمسلمين فى ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين فى الإكرام والاحترام ففى إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة.
ومن ذلك: منعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من بيع القلادة التى فيها خرز وذهب بذهب، لئلا يتخذ ذريعة إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه.
ولو لم يكن فى هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود، سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعى، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها
بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعى إليها وتقاضى الطباع لها.
وبالجملة، فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.
والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها.
ففتح باب الذرائع فى النوع الأول كسد باب الذرائع فى النوع الثانى، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم تناقض.
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التى جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها. والتذرع إلى حصول المفاسد التى قصدت دفعها.
وإذا كان الشئ الذى قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره.
وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم فى الشرع ومقاصده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع فى البيع والصرف والنكاح وغيرها، شروطاً سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا، وكمل بها مقصود العقود، ولم يمكن المحتال الخروج منها فى الظاهر. ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشئ الذى سد الشارع الذريعة إليه، لم يبق لتلك الشروط التى أتى بها فائدة ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
قال: واعتبر هذا بالشفعة، فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه، والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها، إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة، وليس فى هذا التكميل ضرر على البائع، لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشترى، شريكاً كان أو أجنبياً، فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع، مضاد له فى حكمه. فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التى ظاهرها مكر وخداع، وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه، وتفويت نفس مقصود الشارع. والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع فى فعله، وأنه مكنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بين لمن تأمله.
قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل، وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى، وأليم عقابه. ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك فى كل حيلة بحسبها. فلا يخلو الاحتيال: إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر، فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا، كما في العينة حكم بفساد العقدين، ويرد إلى الأول رأس ماله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا، لا يحل الانتفاع به، بل يجب رده إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة، أو شراكه أو مساقاة، أو مزارعة، وقرض، حكم بفسادهما، فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذى جعلاه قرضاً، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. وكذلك إن كان نكاحاً تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد، أو وقف فاسد، مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به، فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبتها إياه، فانفسخ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان فى جميع الأحكام.
وإن كان الاحتيال من واحد، فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه. فإن كانت عقداً كان فاسداً، مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة فى شئ من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة فى الباطن فقط.
وإن كانت حيلة لا يستقل بها، مثل أن ينوى التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضراراً بها، أو يهب ماله إضراراً للورثة ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة، فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوب له، والموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك فى الباطن. فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه. وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذى لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر كثيرة فى الشريعة.
وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث. فإنه إنما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البضع.
وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى غرض له مثل أن يسافر فى الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر.
قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يجزه، وعليه إعادة الصلاة أبدا. وإنما تثبت الرخصة فى حق من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما. فيمسح عليهما لمشقة النزع.
وخالفهم باقى الفقهاء فى ذلك، والمنع جار على أصول من راعى المقاصد.
قال شيخنا: وإن كان يفضى إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه، لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها، أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم، فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها، لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا. والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن نجاسات
المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب.
قلت: هذا كان قول الشيخ أولاً ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة. وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة. لينفسخ نكاحها. فإن فسخ النكاح هاهنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد، بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم، فهو بمنزلة أن يلقى فى مائعه ما ينجسه.
قال: وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلاً ليتزوج امرأته، أو يزوجها غيره. فهاهنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به. فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها، أو قتل بحق أو فى سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع، من غير أن يطرح فيها شيئاً. والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال تحرم عليه مع حلها لغيره.
ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام، فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال.
ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث، ولا يمنعه غيره من الورثة. لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل. وكونه يقتله ليتزوجها، فهذا أقل. فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلاً حرمت عليه امرأته، كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه، فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده.
وأكثر ما يقال فى رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل، كذبح الصيد، وتحليل الخمر، والتذكية فى غير المحل. أما المحرم لحق الآدمى، كذبح المغصوب، فإنه بفيد الحل. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه
المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل، فحصل الحل صمنا وتبعاً.
ويمكن أن يقال فى جواب هذا: إن قتل الآدمى حرام لحق الله تعالى وحق الآدمى. ولهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرم لمحض حق الآدمى. ولهذا لو أباحه حل، فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح.
وقد اختلف فى الذبح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء فى ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكى. وفيه حديث رافع بن خديج فى ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر فى المرأة التى أضافت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها، فقال:
"أَطعْمِوُهَا الأُسَارَى".
وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال.
وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها: لا يحل أكلها، يعنى له، قلت لأبى: فإن ردها على صاحبها؟ قال: تؤكل.
فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له فى الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم.
فهذا القول الذى دل عليه الحديث فى الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى.
هذا كله كلام شيخنا.
وبعد، فالتحريم مطرد على قواعد أحمد، ومالك من وجوه متعددة.
منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار، وقاتل مورثه، وقاتل الموصى، والمدبر إذا قتل سيده.
ومنها: سد الذرائع.
ومنها: تحريم الحيل.
ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا، والله تعالى أعلم.
قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال.
فالأقوال: يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة، وفاسدة أخرى.
ثم ما ثبت حكمه، منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح. ومنه مالا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق.
فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم، أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذى يبطل مقصود المحتال، بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فى طلاق الفار.
وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر للقصر والفطر. وإن اقتضت تحريماً على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حلاً عاماً إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب.
وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس أن لا يحل له أيضاً وإن حل لغيره.
وقد دخل فى القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة، فهى لا تمشى غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الردة، أو يقول: بأنها لا تقتل، فالواجب فى مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح، وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما. وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل، غير مرتدة من حيث فساد النكاح، حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها فى حالة الردة، فإن
الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتدت لفسخ النكاح، لم يقبل هذا، فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ، ولأنها متهمة فى ذلك، ولأن الأصل أنها مرتدة فى جميع الأحكام.
فصل
وقد استدل البخارى فى صحيحه على بطلان الحيل بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةَ".
فإن هذا النهى يعم ما قبل الحول وما بعده.
واحتج بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الطاعون: "إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ".
وهذا من دقة فقهه رحمه الله، فإنه إذا كان قد نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرار من قدر الله تعالي إذا نزل بالعبد، رضا بقضاء الله تعالى وتسليماً لحكمه، فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟.
واحتج بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ".
فدل على أن الشئ الذى هو فى نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرماً.
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمحلل، وبقوله "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل".
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله "فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه".
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختيانى، وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى. وقد قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] .
قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه.
ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة فى التصرف والعادات، كما هى معتبرة فى القربات والعبادات، فيجعل الفعل حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وصحيحاً من وجه، فاسداً من وجه، كما أن القصد والنية فى العبادات تجعلها كذلك.
وشواهد هذه القاعدة كثير ة جداً فى الكتاب والسنة.
فمنها: قوله تعالى فى آية الرجعة: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .
وذلك نص فى أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار، فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة.
ومنها: قوله تعالى فى آية الخلع: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَّمِا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيماَ حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، وأن النكاح الثانى إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، فإنه شرط فى الخلع عدم خوف إقامة حدوده، وشرط فى العود ظن إقامة حدوده.
ومنها: قوله تعالى فى آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مضُار} [النساء: 12] .
فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراماً، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله:
{تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار فى هذه الآية دون التى قبلها. لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه وولده.
والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها.
فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصى أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية.
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصى أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] .
وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحاً لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ} [النساء: 19] .
فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدى نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النَّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبعَضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] .
فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئاً مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل.
ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أى وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه. ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33][الزمر: 26] .
ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل، لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره.
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية. فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كَنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلا المَسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيُعونَ حِيَلة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97-99] .
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار، وهو حرام. فعلم أن الحيلة التى تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها. وعامة الحيل التى تنكرونها علينا هى من هذا الباب. فإنها حيل تخلص من الحرام، ولهذا سمى بعض من صنف فى ذلك كتابه:"المخارج الحرام والتخلص من الآثام" واعتبر هذا بحيلة العينة، فإنها تخلص من الربا المحرم.
وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو حرام.
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذى هو حرام أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام.
وكذلك هبة الرجل ماله قبل الحول لولده أو امرأته، يخلصه من إثم منع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلص.
فالحيل تخلص من الحرج وتخلص من الإثم. والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا، وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه، وفتح طريقه.
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك. كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله. فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال، فعل المحلوف عليه، فأى شئ أفضل من تخليصه من هذا وهذا؟
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشد من موته، فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها، ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه، وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء العدة.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شئ فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا؟ وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبى الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة. فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أَمتَه. وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشئ قبلته وأدخلته. وإن لم يأتها بشئ طردته وأغلقت بابها عنه. لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذى له منا نكفر به. إن أقامنى الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثاً، وهو الحزمة من الشئ، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة.
وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شئ وهذا أصلنا فى باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلاً.
قالوا: وقد أرشد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم، ثم يشترى بتلك الدراهم تمراً. وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال:
"جَاءَ بِلالٌ إلى النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلمَ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسلمَ: مِنْ أيْنَ هذَا؟ قَالَ: كانَ عِنْدَنَا تمْرٌ رديء فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لنُطْعِمَ النّبَّى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فَقَالَ لَهُ النّبُّى صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم عِنْدَ ذلِكَ: أوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَن تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" متفق عليه.
وفى لفظ آخر: "بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اُشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً". والجمع والجنيب نوعان من التمر.
وفى لفظ لمسلم: "بِعْهُ بِسِلْعَةٍ، ثُمّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِكَ أَىَّ التَّمْرِ شِئتَ".
فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاع بها تمراً. وهذا ضرب من الحيلة. ولم يفرق بين بيعه ممن يشترى منه التمر، أو من غيره. وقد جاء قوله تعالى:{إِلا أَنْ تَكُونَ تَجَارَة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ} [البقرة: 282] .
وهذا إرشاد إلى حيلة العِينة وما يشبهها. فإن السلعة تدور بين المتعاقدين، للتخلص من الربا.
قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذى يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهى حيلة فى الأقوال، كما أن تلك حيلة فى الأعمال.
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: إن فى معاريض الكلام ما يغنى الرجل عن الكذب.
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما يسرنى بمعاريض الكلام حمر النعم.
وقال الزهرى عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبى معيط، وكانت من المهاجرات الأول:"لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلمَ يُرَخِّصُ فى شَئْ مَّمِا يَقُولُ النَّاسُ إِنّهُ كَذِبٌ إِلا فى ثَلاثٍ: الرَّجُل يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالَّرجُلِ يَكْذِبُ لامْرَأَتِه، وَالْكَذِبِ فى الْحَرْبِ".
ومعنى الكذب فى ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب.
وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طليعة للمشركين، وهو فى نفر من أصحابه فقال المشركون:"مًمَّنْ أَنْتُمْ؟ فقَالَ النَّبُى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ: نَحْنَ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، لَعَلّهُمْ منهم، وَانْصَرَفُوا".
وأراد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله "نحن من ماء" قوله تعالى: {خُلقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] .
ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها فى عنقك. فقال ما فعلت؟ فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن. فقال:
شَهِدْتُ بأَنّ وَعْدَ اللهِ حَق
…
وَأَنّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرينَا
وَأنَّ الْعَرْش فَوْقَ المَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وَتَحْمِلُهُ مَلائِكَةٌ شِدَادٌ
…
مَلائِكَةُ الإلهِ مُسَوَّمِينَا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.
قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة.
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟.
ودعى أبو هريرة رضى الله عنه إلى طعام فقال: "إنى صائم ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إنى صائم. فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صِيامَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهرِ".
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شئ معه، قال: أعطيك فى أحد اليومين إن شاء الله تعالى. فيظن أنه أراد يومه والذى يليه، وإنما أراد يومى الدنيا والآخرة.
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلاناً أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل والله ما أبصر إلا ما سددنى غيرى، يعنى إلا ما أبصرك ربك.
وقال حماد عن إبراهيم فى رجل أخذه رجل، فقال: إن لى معك حقاً. فقال: لا. فقال: احلف بالمشى إلى بيت الله، فقال احلف بالمشى إلى بيت الله واعن مسجد حَيِّك.
وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلاً كان يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يقيمها.
وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه: فيسأله عنه، فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيئ، يعنى ب"ما": الذى.
وقال عقبة بن المعيرة: كنا نأتى إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم ولا فى أى موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون أى موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صدقتم.
وجاءه رجل فقال: إنى اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها، ويريدون أن يحلفونى أنها الدابة التى اعترضت عليها؟ فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكناً. ثم احلف أنها الدابة التى اعترضت عليها.
وقال أبو عوانة عن أبى مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه فى جارية له، وبيده مروحة، فقال: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها. قال: أما رأيتمونى أشير إلى المروحة؟ إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها، وأنا أعنى المروحة.
وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبى: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول فى الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شئ يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل فى حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال فى باطل حتى يموهه، أو يحتال فى شئ حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل الذى قلنا فلا بأس بذلك.
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسى، ضرسى.
ووجه الرشيد إلى شريك رجلاً ليحضره، فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره، ففعل. فحبسه الرشيد، ثم أرسل إليه رسولاً آخر فأحضره، وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله. فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول فى اليوم الذى أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثانى، فصدقه، وأمر بإطلاق الرجل.
وأحضر الثورى إلى مجلس المهدى فأراد أن يقوم فمنع، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد، فقال المهدى: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا:
إنه عاد فأخذ نعله.
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل.
فأبعد الناس عن القول بها مالك، وأحمد، وقد سئل أحمد عن المروزى وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمد إصبعه فى كفه، وقال: ليس المروزى هاهنا. وماذا يصنع المروزى هاهنا؟،.
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق ليطأن امرأته فى نهار رمضان، فقال يسافر بها ويطؤها فى السفر.
وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبى حكيم: حكى أن رجلاً سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر فى رمضان؟ فقال له: اذهب إلى بشر ابن الوليد، فاسأله ثم ائتنى فأخبرنى، فذهب فسأله، فقال له بشر: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السحر، فكل، واحتج بقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ المبَارَكِ" فاستحسنه أحمد.
قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارق ووضع الصواع فى رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك توصلاً إلى أخذ أخيه وجعله عنده. وأجزه الله سبحانه أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف، ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذى رفع به درجات من يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه. فوق كل ذى علم عليم.
فصل
قال منكرو الحيل:
الحيل ثلاثة أنواع:
نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه. وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع.
فإن الحيلة لا تذم مطلقاً، ولا تحمد مطلقاً، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب فى العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف فى تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه.
فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهى من ذوات الواو، وأصلها "حولة" فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد.
قال فى المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى.
فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمراً يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه.
فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقاً ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسناً كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحاً كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقاً كانت الحيلة عليه كذلك.
ولما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محَاَرِمَ اللهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيلِ".
صارت فى عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التى تستحل بها المحارم كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهى مما يستحل بها المحارم.
ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم.
ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة" وقوله فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره:
"كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ فى خِدْعَةِ حَرْبٍ.
ومن النوع المذموم قوله فى حديث عياض بن جمار، الذى رواه مسلم فى صحيحه:"أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِكَ".
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62] .
ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى قتلا، وقتل خالد بن سفيان الهذلى.
ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبى معبد الخزاعى لأبى سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، وردهم من فورهم.
ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعى ليهود بنى قريظة، ولكفار قريش والأحزاب،
حتى ألقى الخلْف بينهم، وكان سبب تفرقهم ورجوعهم. ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك المكر، ينقسم إلى محمود ومذموم. فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده.
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلة لهم بفعلهم، وجزاء لهم بجنس عملهم.
قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون} [النمل: 50] .
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين. قال تعالى: {وَأُمْلِى لَهُمْ إٍنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [الأعراف: 183] وقال تعالى: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] وقال تعالى {إنَّهُمْ يَكِيدُونّ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15-16] .
فصل
إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولاً أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره، أو إبطال حيلة محرمة.
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له. فيصير مخادعاً لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كائداً لدينه، ماكراً بشرعه، فإن مقصوده حصول الشئ الذى حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذى أوجبه بتلك الحيلة.
وهذا ضد الذى قبله. فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى. ودفع معصيته، وإبطال الظلم وإزالة المنكر. فهذا لون، وذاك لون آخر.
ومثال ذلك: التأويل فى اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه، ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده، ثم حلف على إنكاره متأولا، فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمستحلف فى ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين.
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويخلصه من الإثم، وتكون اليمين على نيته.
فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة، أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهى اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق، أو طالق عند الولادة أو طالق من غيرى ونحو ذلك.
أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق، فتأول أنه عتيق أو كريم، من قولهم: فرس عتيق.
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه، فتأول ظهر أمه بمركوبها، فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول: إنه مظاهر من امرأته، تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين، أو جبتين من عند امرأته.
وإن استحلفه بالحرام، تأول أن الحرام الذى حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه، فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول: الحرام يلزمنى من زوجتى، أو أن تكون على حراماً، قيد ذلك بنية: إذا أحرمت، أو صامت، أو قامت إلى الصلاة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بأن كل ماله، أو كل ما يملكه صدقة، تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه.
وإن قال له: قل: وإن جميع ما أملكه: من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين، تأول الفعل المضارع بما يملكه فى المستقبل، بعد كذا وكذا سنة.
فإن ضيق عليه، وقال قل: جميع ما هو جار فى ملكى الآن، نوى إضافة الملك إلى
الآن، لا إلى نفسه، والآن لا يملك شيئاً، فإن قال: مما هو فى ملكى فى هذا الوقت يكون وقفاً، أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر، والعرب تسمى سوار العاج وقفاً.
وإن استحلفه بالمشى إلى بيت الله، نوى مسجداً من مساجد المسلمين.
فإن قال قل: على الحج إلى بيت الله، نوى بالحج القصد إلى المسجد. فإن قال: إلى البيت العتيق، نوى المسجد القديم، فإن قال: البيت الحرام، نوى الحرام هدمه واتخاذه دار أو حماماً ونحو ذلك.
وإن استحلفه بالأمانة، نوى بها الوديعة، أو اللقطة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بصوم سنة، نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما.
هذا كله فى المحلوف به.
وأما المحلوف عليه، فيجرى هذا المجرى.
فإذا استحلفه: ما رأيت فلانا، نوى ما ضربت رئته. أو ما كلمته، نوى ما جرحته. أو ما عاشرته ولا خالطته، نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية. أو ما بايعته ولا شاريته، نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين، ولا شاريته من المشاراة، وهى اللجاج أو الغضب، تقول: شرى، على مثال علم، إذا لج أو استشاط غضباً.
وإن استحلفه لص أنه لا يدل عليه، ولا يعلم به ولا يخبر به أحداً، نوى أنه لا يفعل ذلك مادام معه. وإن ضيق عليه وقال: ما عاش، أو ما بقى، أو مادام فى هذه البلدة، نوى قطع الظرف عما قبله، وأن لا يكون متعلقاً به، أو نوى بما: الذى، أى لا أدل عليك الذى عاش أو بقى بعد أخذك.
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله.
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة، نوى أن لا يتزوجها نكاحاً فاسداً.
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا، أو لا يشتريه، أو لا يؤجره، ونحو ذلك.
وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة، قيد الدخول بنوع معين بالنية.
وكذلك لو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان؟ نوى مكانه الخاص من داره، أو بلده أو سوقه.
ولو استحلفه: أنه ليس عنده فى داره، نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار. فإن ضيق عليه، وقال: الآن، نوى أنه ليس حاضراً معه الآن، وقد بر وصدق.
وإن استحلفه ليس لى به علم، نوى أنه ليس لى علم بسره وما ينطوى عليه، وما يضمره، أو ليس لى علم به على جهة التفصيل، فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده.
فصل
وللمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما: مخرج بالتأويل حال الحلف. فإن فاته فله مخرج يتخلص به بعده إن أمكنه، كما إذا استحلفه قطاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحداً. فالحيلة فى ذلك أن يجمع الوالى المتهمين، ثم يسأله عن واحد واحد، فيبرئ البرئ، ويسكت عن المتهم، وهذا المخرج أضيق من الأول.
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه، ولا يطالبه بحقه، فحلف ولم يتأول أحال عليه بذلك الحق من يطالبه به، ولم يحنث فى يمينه.
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئاً، فله أن يملكه زوجته أو ولده، فإذا باعه بعد فلك كان قد بر فى يمينه، ويمنع من تسليمه مَن مَلَّكه إياه.