المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ت الفقي - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت

- ‌الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب

- ‌الباب الثالث: في انقسام أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية، وشرعية

- ‌الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر وفتنة فيه

- ‌الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له، مؤثرا له على غيره

- ‌الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

- ‌الباب السابع: فى أن القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه

- ‌الباب الثامن: فى زكاة القلب

- ‌الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

- ‌الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته

- ‌الباب الحادى عشر: فى علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان

- ‌الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

الفصل: ‌الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب

‌الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب

قال الله تعالى عن المنافقين {فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]، وقال تعالى {لِيَجْعَل مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] ، وقال تعالى {يَا نِساءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، أمرهن أن لا يَلنَّ فى كلامهن، كما تلين المرأة المعطية الليان فى منطقها، فيطمع الذى فى قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك فلا يخشنّ فى القول بحيث يلتحق بالفحش، بل يقلن قولا معروفا، وقال تعالى {لَئنْ لَمْ ينْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِى المَدينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بهِم} [الأحزاب: 60] ، وقال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيقُولَ الّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَا-لْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [المدثر: 31] .

أخبر الله سبحانه عن الحكمة التى جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، فذكر سبحانه خمس حكم: فتنة الكافرين. فيكون ذلك زيادة فى كفرهم وضلالهم، وقوة يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنهم، فتقوم الحجة على معاندهم، وينقاد للإيمان من يريد الله أن يهديه. وزيادة الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به.

فهذه أربعة حكم: فتنة الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين، وأهل الكتاب.

ص: 14

والخامسة: حيرة الكافر ومن فى قلبه مرض، وعمى قلبه عن المراد بذلك، فيقول:

{مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [البقرة: 26] .

وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفراً وجحوداً. وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا، وقلب يتيقنه، فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجب له حيرة وعمى، فلا يدرى ما يراد به.

واليقين وعدم الريب فى هذا الموضع، إن رجعا إلى شىء واحد، كان ذكر عدم الريب مقررا لليقين ومؤكدا له، ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه. وإن رجعا إلى شيئين، بأن يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة الملائكة، وعدم الريب عائدًا إلى عموم ما أخبر الرسول به، لدلالة هذا الخبر الذى لا يعلم إلا من جهة الرسل على صدقه، فلا يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ظهرت فائدة ذكره.

والمقصود: ذكر مرض القلب وحقيقته.

وقال تعالى {يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبكُمْ وَشِفَاءٌ لما فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .

فهو شفاء لما فى الصدور من مرض الجهل والغى، فإن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى. والغى مرض شفاؤه الرشد، وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين. فقال:

{والنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1،2] .

ووصف رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما فقال: " عَلَيْكُمْ بِسُنّتِى وسُنَّةِ اَلْخْلَفَاءِ الرَّاشِدينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِى".

وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة، وشفاء تاما لما فى الصدور، فمن استشفى به صح وبرئ من مرضه ومن لم يستشف به فهو كما قيل:

ص: 15

ِإذَا بَلَّ مِنْ دَاءٍ بِهِ ظَنَّ أنّهُ

نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الّذِى هُوَ قَاتِلُهْ

وقال تعالى {وَنُنَزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82]

والأظهر أن "من" هاهنا لبيان الجنس، فالقرآن جميعه شفاء ورحمة للمؤمنين.

فصل: فى أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب

ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعى لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف فى آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هى عليه، كما يدرك الحلو مرا، والخبيث طيبا، والطيب خبيثا.

وأما فساد حركته الطبيعية: فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة أو الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة.

وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد فى الكمية أو فى الكيفية.

فالأول: إما لنقص فى المادة، فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها، فيحتاج إلى نقصانها.

والثانى: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعى، فيداوى بمقتضى ذلك، ومدار الصحة على حفظ القوة، والحمية عن المؤذى، واستفراغ المواد الفاسدة. ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.

ص: 16

فأما حفظ القوة: فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا فى رمضان، ويقضى المسافر إذا قدم، والمريض إذا برئ، حفظاً لقوتهما عليهما، فإن الصوم يزيد المريض ضعفا، والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، والصوم يضعفها.

وأما الحمية عن المؤذى: فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد فى الوضوء والغسل، إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذى عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذى له فى باطنه.

وأما استفراغ المادة الفاسدة: فإنه سبحانه أباح للمحرم الذى به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ بالحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه.

وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا، فقال: والله لو سافرت إلى الغرب فى معرفة هذه الفائدة لكان سفرا قليلا، أو كما قال.

وإذا عرف هذا، فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذى الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصى، وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات. ومرضه هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له، وهو الغالب، ولهذا يفسر المرض الذى يعرض له، تارة بالشك والريب، كما قال مجاهد وقتادة فى قوله تعالى:

{فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] . أى شك.

وتارة بشهوة الزنا، كما فسر به قوله تعالى:

{فَيَطْمَعَ الّذِى فِى قَلْبهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] .

ص: 17