المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (8: - تفسير المنار - جـ ١٠

[محمد رشيد رضا]

الفصل: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (8:

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (8: 58) يَعْنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا عَمِلَ فِي نَبْذِ عُهُودِهِمْ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا جَدِيدًا لِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمِلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (9:‌

‌ 4)

وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ " وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. اهـ.

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ الِانْتِقَالُ وَالتَّجْوَالُ الْوَاسِعُ فِيهَا، وَرَجُلٌ سَائِحٌ وَسَيَّاحٌ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَاحَ الْمَاءُ سَيْحًا، وَسَيَّحَ النَّاسُ نَهْرًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ حُرِّيَّةُ السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ مَعَ الْأَمَانِ

مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْرِضُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فِيهَا بِقِتَالٍ، فَلَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُقَاوَمَةِ وَالصِّدَامِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى أَعْدَى أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ، وَلَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، وَدَانَهُمْ بِمَا كَانُوا يُدِينُونَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ؟ .

وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرِ تَبْتَدِئُ مَنْ عَاشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي بُلِّغُوا فِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةَ كَمَا يَأْتِي، وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعِ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ شَهْرَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَوْنِ تَبْلِيغِهِمُ الْبَرَاءَةَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي مِنًى، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَاسَبُوا بِالْمُدَّةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ قَطْعِيٍّ بِأَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِسِيَاحَتِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ مَهْرَبًا مِنْ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَعُدْوَانِكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، بَلْ هُوَ يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ الَّذِي وَعَدَهُمْ، كَمَا نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَكُمْ مَعَهُمْ بَدْءًا أَوِ انْتِهَاءً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

ص: 136

وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أَيْ: وَاعْلَمُوا كَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُخْزِي لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ فِي مُعَادَاتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ لِرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا بِذُلِّ الْخَيْبَةِ وَالْفَضِيحَةِ، ثُمَّ يُخْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَتِلْكَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِيهِمْ كَمَا قَالَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (39: 25 و26) وَقَالَ فِي عَادٍ قَوْمِ هُودٍ: فَأَرْسَلْنَا

عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا مَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلتَّصْرِيحِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي آخِرِ قَوْلِهِ:

وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، مُصَرِّحَةٌ بِالتَّبْلِيغِ الصَّرِيحِ الْجَهْرِيِّ الْعَامِّ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَسَائِرِ خُرَافَاتِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالَاتِهِ، وَمُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِهِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ مَعَ تَرْجِيحِ أَنَّهُ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَأَرْكَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ الْحَاجُّ فِيهِ لِإِتْمَامِ وَاجِبَاتٍ الْمَنَاسِكِ وَسُنَنِهَا فِي مِنًى. وَالْأَذَانُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَطْرُقُ الْآذَانَ بِالْإِعْلَامِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ التَّأْذِينِ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (12: 70) وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَأَذَّنَ بِهَا أَعْلَمَ، وَآذَنَهُ بِالشَّيْءِ إِيذَانًا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَأَذَّنَ بِالشَّيْءِ (كَعَلَّمَ) عَلَّمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ (كَتَعِبَ) اسْتَمَعَ. وَأَعَادَ التَّصْرِيحَ فِي هَذَا الْأَذَانِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللهِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَمِنْ رَسُولِهِ بِصِفَةِ التَّبْلِيغِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الرِّسَالَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا فِي الْبَرَاءَةِ، وَصَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِعُنْوَانِ الشِّرْكِ وَوَصْفِهِ، وَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ مَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَ أَنْ يُخَاطِبُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: قُولُوا لَهُمْ: فَإِنْ تُبْتُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ شِرْكِكُمْ، وَمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَبِلْتُمْ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّبَبُ لِسَعَادَتِهِمَا وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: غَيْرُ فَائِتِيهِ بِأَنْ تُفْلِتُوا مِنْ حُكْمِ سُنَنِهِ وَوَعْدِهِ لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

لِأَنَّهُ نَبَأٌ عَنِ الْغَيْبِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عز وجل، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْبِشَارَةَ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنَ الْأَنْبَاءِ، إِمَّا بِالتَّهَلُّلِ، وَإِشْرَاقِ الْوَجْهِ وَهُوَ السُّرُورُ الَّذِي تَنْبَسِطُ فِيهِ أَسَارِيرُ الْجَبْهَةِ وَتَتَمَدَّدُ، وَإِمَّا بِالْعُبُوسِ وَالْبُسُورِ، وَتَقْطِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْكَدَرِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ. وَغَلَبَ فِي الْأَوَّلِ حَتَّى ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُكَدِّرُ إِنَّمَا يُقَالُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ

ص: 137

ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَبَرَّأَ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَوْعِدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، مَنْ حَافَظُوا عَلَى عَهْدِهِمْ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا، لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ. وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَلَّا يَنْقُضَ الْمُعَاهِدُ عَهْدَهُ، وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يُمَالِئْ عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بِذِمَّتِهِ، وَعَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ اهـ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَنُو ضَمْرَةَ وَحَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ، حَيَّانِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، كَانُوا حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ مَنْ بَنِي تَبِيعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لَبَنِي مُدْلِجٍ وَخُزَاعَةَ عَهْدٌ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ: هُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ

هَذَا إِلَى مُدَّتِهِمْ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عَامٌّ، وَتَعْيِينُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِأَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ الْعَهْدُ مَعْقُودًا، وَعَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَيْنَا مُحَافَظَةُ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا عَلَيْهِ بِحَذَافِيرِهِ، مِنْ نَصِّ الْقَوْلِ وَفَحْوَاهُ وَلَحْنِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِرُوحِهِ، فَإِنْ نَقَضَ شَيْئًا مَا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَأَخَلَّ بِغَرَضٍ مَا مِنْ أَغْرَاضِهِ عُدَّ نَاقِضًا لَهُ، إِذْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى إِخْلَالٍ بِالْعَهْدِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةُ أَبْلَغُ - وَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي يَنْتَقِضُ بِالْإِخْلَالِ بِهَا عَدَمُ مُظَاهَرَةِ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَخُصُومِنَا عَلَيْنَا، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُعَاهَدَاتِ تَرْكُ قِتَالِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَعَاهِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَحُرِّيَّةُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا، فَمُظَاهَرَةُ أَحَدِهِمَا لِعَدُوِّ الْآخَرِ، أَيْ مُعَاوَنَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى قِتَالِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ إِذَا عَاوَنَهُ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ

ص: 138

(33: 26) وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ إِذَا سَاعَدَهُ عَلَيْهِ. وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ تُعَاوِنُوا وَكُلُّهُ مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ بَعِيرٌ ظَهِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الظُّهُورِ.

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: لِنَقْضِ الْعُهُودِ وَإِخْفَارِ الذِّمَمِ، وَلِسَائِرِ الْمَفَاسِدِ الْمُخِلَّةِ بِالنِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ وَالْأَذَانِ بِهَا - أَيِ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الْعَلَنِيِّ لَهَا - أَحَادِيثُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ نَقْتَصِرُ عَلَى أَمْثَلِهَا وَأَثْبَتِهَا، وَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُزِيلُ تَعَارُضَهَا. فَجُمْلَةُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ

سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْحَجَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ عليه السلام، لِيُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ نَبْذَ عُهُودِهِمُ الْمُطْلَقَةِ، وَإِعْطَاءَهُمْ مُهْلَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْعُهُودَ الْمُؤَقَّتَةَ أَجَلُهَا نِهَايَةُ وَقْتِهَا. وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمَسْأَلَةِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَهِيَ 40 أَوْ 33 آيَةً، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ 30 و40 فَتَعْبِيرٌ بِالْأَعْشَارِ، مَعَ إِلْغَاءِ كَسْرِهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعُهُودَ وَنَبْذَهَا إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ عَاقِدِهَا أَوْ أَحَدِ عَصَبَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ إِمَارَةِ الْحَجِّ لِأَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانَ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ بِمُسَاعَدَتِهِ.

أَمَّا الشَّيْخَانِ فَقَدْ أَخْرَجَا فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كُتُبِ الطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ وَالْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، فَنَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي تَفْسِيرِ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الْآيَةَ. عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِـ (بَرَاءَةٌ) وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ مَا نَصُّهُ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَمَلَ قِصَّةَ تَوَجُّهِ عَلِيٍّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَمَلَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 139

وَقَوْلُهُ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ إِلَخْ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ

إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَكَيْفَ يُؤَذِّنُ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ أَذَّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (28) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، وَبِمَا أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذَّنَ بِهِ أَيْضًا. (قُلْتُ) وَفِي قَوْلِهِ: يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبِضْعٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً مُنْتَهَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ (بَرَاءَةٌ) ، ثُمَّ صَدَرْنَا حَتَّى رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ فَطَفِقْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ.

ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ كِلَاهُمَا عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعْنَا رَغْوَةَ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا،

فَقَالَ لَهُ: أَمِيرٌ أَوْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: بَلْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِـ (بَرَاءَةٌ) أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ فَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ بِمَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ (بَرَاءَةٌ) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَوْمَ النَّفْرِ كَذَلِكَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا كُلَّهَا فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ إِلَخْ. وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ فِي الْأَذَانِ بِذَلِكَ.

" وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ـ

ص: 140

بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - الْحَدِيثَ - وَفِيهِ فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ. فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي بِهَا، فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا ".

" وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِـ (بَرَاءَةٌ) مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: " لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ (بَرَاءَةٌ) بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي بَكْرٍ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ " فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، فَقَالَ: " لَا " إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ عَنِّي - أَوْ - وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ " قَالَ الْعِمَادَ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ (قُلْتُ) : وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (9: 28) اهـ.

هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ

فِي نُزُولِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَخِيرًا - وَقَدْ ذَكَرَ إِسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ - هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ.

وَأَزِيدُ عَلَيْهِ انْتِقَادَ مَتْنِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عَلِيًّا بِهَا، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَضَافِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الَّتِي أُطْلِقَ فِي بَعْضِهَا أَوَّلُ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَفِي بَعْضِهَا عَدَدُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْهَا - أَيْ بِالتَّقْرِيبِ، وَفِي بَعْضِهَا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) ، وَهِيَ لَا تَنَافِي بَيْنَهَا، فَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عَقِبَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ رَمَضَانَ وَشَوَّالَ وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى هَذَا كَانَ صَحِيحًا وَإِلَّا فَلَا.

وَأَمَّا ضَعْفُ إِسْنَادِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فَمِنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِيِّ الْكُوفِيِّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ كَثِيرَ الْوَهْمِ فِي الْأَخْبَارِ يَنْفَرِدُ عَنْ عَلِيٍّ بِأَشْيَاءَ لَا تُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ حَتَّى صَارَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَ عَنْهُ سِمَاكٌ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: سَاقِطٌ مُطَّرِحٌ، وَلِأَئِمَّةِ الْجَرْحِ فِي تَضْعِيفِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الْمُنْكَرَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ سِمَاكٌ هُوَ هَذَا، عَلَى أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ هَذَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ جَرْحٍ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ،

ص: 141

وَمِمَّا قِيلَ عَنْهُ أَنَّهُ خَرِفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ كَيْفَ سَكَتَ عَنْ ضَعْفِ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ تَذَكُّرِ عِبَارَةِ ابْنِ كَثِيرٍ فِيهِ.

وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بَعَثَهَ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَّا يَحُجَّنَّ

بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرِ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ اهـ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ صَالِحٍ مِنَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ: وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ - هُوَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (3) وَمِنْ مُنَادَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ النَّحْرِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَادَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُنَادِي بِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ شَيْئَانِ: مَنْعُ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعُ طَوَافِ الْعُرْيَانِ. وَأَنَّ عَلِيًّا أَيْضًا كَانَ يُنَادِي بِهِمَا، وَكَانَ يَزِيدُ: مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخِيرَةُ كَالتَّوْطِئَةِ، لِئَلَّا يَحُجَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ. وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتُصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَلَّا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ بِـ (بَرَاءَةٌ) ، فَكُنَّا نُنَادِي أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.

ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قِيلَ (الْأَكْبَرِ) إِلَخْ. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

ص: 142

وَأَصْلُهُ فِي هَذَا الصَّحِيحِ رَفْعُهُ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ:" هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ".

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْعُمْرَةُ، وَصَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّازِقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْقِرَانُ، وَالْأَصْغَرُ: الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَتَكَمَّلُ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَيَّامُ الْحَجِّ تُسَمَّى يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْفَتْحِ، وَأَيَّدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ عَلِيًّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا كَانَ صَبِيحَةُ النَّحْرِ وَقَفَ الْجَمِيعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقِيلَ لَهُ الْأَكْبَرُ: لِاجْتِمَاعِ الْكُلِّ فِيهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ حَجِّ جَمِيعِ الْمِلَلِ فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفُتِ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَاتَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ. وَقَوْلُهُ: فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ. هُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ مِنْ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْصَحَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَبْلِيغِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِـ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ قَائِلِهِ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ (بَرَاءَةٌ) كُلِّهَا، وَلَيْسَ

الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهَا أَوَائِلَهَا فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا حَتَّى خَتَمَهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ النَّقْلَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ إِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ. نَعَمْ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ عَامًا شَهْرًا، وَعَامًا شَهْرَيْنِ، يَعْنِي: يَحُجُّونَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِي الثَّالِثِ فِي شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قَالَ: فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِلَّا فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَ حَجُّ

ص: 143

أَبِي بَكْرٍ وَافَقَ ذَلِكَ الْعَامَ أَشْهُرَ الْحَجِّ فَسَمَّاهُ اللهُ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ فِي تَلْخِيصِ الرِّوَايَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا بِحُرُوفِهِ.

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ أُخْرَى فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ نَقَلَهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ آنِفًا، وَقَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى شَاذَّةً مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَجُّ أَهْلِ الْوَبَرِ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَالْعَوَامُّ يُسَمُّونَ كُلَّ عَامٍ يَكُونُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَالَ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا "؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ:" هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا عَنْهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ.

شُبْهَةٌ لِلشِّيعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ

إِنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ يُكَبِّرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لَعَلِيٍّ عليه السلام كَعَادَتِهِمْ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهَا مَا لَا تَصِحُّ بِهِ رِوَايَةٌ، وَلَا تُؤَيِّدُهُ دِرَايَةٌ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ تَبْلِيغِ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُ، وَلَا يَخُصُّونَ هَذَا النَّفْيَ بِتَبْلِيغِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَجْعَلُونَهُ عَامًّا لِأَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِوُجُوبِ تَبْلِيغِ الدِّينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً كَالْجِهَادِ فِي حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَكَوْنِهِ فَرِيضَةً لَا فَضِيلَةً فَقَطْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَسْمَعِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّاسِ:" أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ " فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " إِلَخْ. وَحَدِيثُ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ فِي الْعَالَمِ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ إِمَارَةِ الْحَجِّ وَوَلَّاهَا عَلِيًّا، وَهَذَا بُهْتَانٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. وَالْحَقُّ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ خَاصٍّ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تَابِعًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي إِمَارَتِهِ الْعَامَّةِ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ

ص: 144

الْعَامِّ، حَتَّى كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَيِّنُ لَهُ الْوَقْتَ الَّذِي يُبَلِّغُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَقُولُ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى هَذَا التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

وَلِقَدْ كَانَ تَأْمِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُلُوصِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى مَكَّةَ، وَمَشَاعِرِ الْحَجِّ كُلِّهَا، كَتَقْدِيمِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكِلَاهُمَا تَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ زُعَمَاءِ الصَّحَابَةِ فِي

إِقَامَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يَقُومُ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَعَدَّهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ تَرْشِيحًا لَهُ لِتَوَلِّيَ الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهُ، فَالْوَاقِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَكُونُ إِمَامًا فِي وَقْتِهِ. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ نُكْتَةً فِي نَصْبِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا لِلنَّاسِ فِي حَجِّهِمْ، وَنَصْبِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ مُبَلِّغًا نَقْضَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ الْمَحْفَلِ، وَهِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مَظْهَرًا لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ أَحَالَ إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مَوْرِدُ رَحْمَةِ، وَلَمَّا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ الَّذِي هُوَ أَسَدُ اللهِ مَظْهَرَ جَلَالِهِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَقْضَ عَهْدِ الْكَافِرِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْقَهْرِ، فَكَانَا كَعَيْنَيْنِ فَوَّارَتَيْنِ يَفُورُ مِنْ إِحْدَاهُمَا صِفَةُ الْجَمَالِ، وَمِنَ الْأُخْرَى صِفَةُ الْجَلَالِ، فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ أُنْمُوذَجًا لِلْحَشْرِ وَمَوْرِدًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. انْتَهَى وَلَا يَخْفَى حُسْنُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُهُ صلى الله عليه وسلم لِتَبْلِيغِ عَلِيٍّ نَبْذَ الْعُهُودِ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ عِلَّةً، فَهُوَ لَا يَأْبَى أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً.

وَرَأَيْتُ فِي مُصَنَّفٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ ضَرْبًا آخَرَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْبِيرِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهَا مِنْ مَنَاقِبِهِ كَرَّمُ اللهُ وَجْهَهُ، مِنْ حَيْثُ يُصَغِّرُ مَنَاقِبَ الشَّيْخَيْنِ إِنْ لَمْ يَجِدْ شُبْهَةً أَوْ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِهَا، حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ تَنْوِيهَ كِتَابِ اللهِ عز وجل بِصُحْبَةِ الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ لِلرَّسُولِ الْأَعْظَمِ فِي هِجْرَتِهِ، وَإِثْبَاتَ مَعِيَّتِهِ عز وجل لَهُمَا مَعًا فِي الْغَارِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ مَزِيَّةً لِلصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ نَشِطُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِدَعَايَةِ الرَّفْضِ وَالْبِدَعِ وَالصَّدِّ عَنِ السُّنَّةِ وَالطَّعْنِ فِي أَئِمَّتِهَا لَمَا جَعَلْنَا شُبْهَةَ التَّبْلِيغِ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ وَهَنُهَا.

ذَلِكَ بِأَنَّهُ اقْتَصَرَ مِنْ رِوَايَاتِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ - يَعْنِي مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - بَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ

ص: 145

أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ فَأَخَذَهَا مِنْهُ. فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " ثُمَّ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَةُ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَصْحَابِهِ وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ شَخْصَ النَّبِيِّ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ كَوْنَ عَلِيٍّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَفْسِهِ نَفْسَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ثَابِتٌ لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ صلى الله عليه وسلم لِذِكْرِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الْعَارِفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْتِيبِ الْأَشْكَالِ، وَقَدْ عَمَدَ بَعْضُ النَّوَاصِبِ إِلَى الْحَطِّ مِنْ هَذِهِ الْكَرَامَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرَادَ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ وَمِنْهُ هُوَ الْقُرْبُ فِي النَّسَبِ دُونَ الْفَضِيلَةِ، مُدَّعِيًا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْبِذَ عَهْدًا نَبَذَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَ بِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ - إِلَى آخِرِ مَا غَالَطَ بِهِ، وَبَنَى عَلَى زَعْمِهِ هَذَا أَنَّ الْعَبَّاسَ أَقْرَبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَلِيٍّ نَسَبًا فَلِمَاذَا لَمْ يُرْسِلْهُ بِهَذَا التَّبْلِيغِ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِمَعْنَى مَا زَعَمَهُ، لَا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَقْرَبِ بَلْ قَالُوا: إِنَّ التَّبْلِيغَ فِي مِثْلِهِ لِعَاقِدِ الْعَهْدِ أَوْ لِأَحَدِ عَصَبَتِهِ الْأَقْرَبِينَ.

وَأَقُولُ فِي قَلْبِ شُبْهَتِهِ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الْمُتَعَصِّبَ اخْتَارَ رِوَايَةَ السُّدِّيِّ مِنْ رِوَايَاتٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَغُلُوِّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا.

(ثَانِيًا) أَنَّ السُّدِّيَّ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

(ثَالِثًا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ قَوْلَ السُّدِّيِّ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ.

(رَابِعًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الَّذِي يَدَّعِي التَّحْقِيقَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ السُّدِّيِّ كُلَّهُ بَلْ أَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَرْوِيَّ عَنْ غَيْرِ السُّدِّيِّ أَيْضًا " أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْ كُنْتَ مَعِيَ فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ "؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَاجِّ وَعَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَقَامَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ. وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ؟ فَأَسْلَمُوا انْتَهَى نَصُّ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ (ص27 ج 10 مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ)

ص: 146

فَإِذَا كَانَ هَذَا الشِّيعِيُّ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَمِنْهُ كَوْنُ الْآيَةِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (40) .

وَلَا يَظْهَرُ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ مَنْ نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِهَا إِلَّا بَيَانَ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَكَانِهِ الْخَاصِّ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَحِكْمَةِ جَعْلِهِ نَائِبًا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْعَامِّ، وَجَعْلِ عَلِيٍّ نَفْسَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ تَحْتَ إِمَارَتِهِ، حَتَّى فِي تَبْلِيغِهِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ الْخَاصَّةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَسْقَطَ الرَّافِضِيُّ بَقِيَّةَ الرِّوَايَةِ عَلَى كَوْنِهِ يُنْكِرُ عَلَى الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ مَزِيَّةَ اخْتِيَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ بِأَمْرِ اللهِ عَلَى مُرَافَقَتِهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أَهَمِّ حَادِثَةٍ مِنْ تَارِيخِ حَيَاتِهِ،

وَهِيَ الْهِجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُنْذُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّحْبَةُ أَمْرًا عَادِيًّا أَوْ صَغِيرَةً لَمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَقْرُونَةً بِتَسْمِيَةِ الصِّدِّيقِ صَاحِبًا لِسَيِّدِ الْبَشَرِ، وَإِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمَا مَعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِهَذِهِ وَبَيْنَ تَعْبِيرِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْأَصْحَابِ تَوَاضُعًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِلصِّدِّيقِ: " وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ " يَدُلُّ عَلَى مَا سَيَكُونُ لَهُ مَعَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالِامْتِيَازِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ شَأْنُهُ فِيهِ كَشَأْنِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَرِدُ الْحَوْضَ لَمَا كَانَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَزِيَّةٌ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنَزَّهُ عَنِ الْعَبَثِ.

(خَامِسًا) أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " فِي رِوَايَةٍ قَدْ فَسَّرَتْهَا الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " وَهَذَا النَّصُّ الصَّرِيحُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ كَلِمَةِ " مِنِّي " بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ كَنَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ أَصْحَابِهِ.

(سَادِسًا) أَنَّ مَا عَزَاهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاصِبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا أَنَّ سَبَبَ نَوْطِهِ بِهِ الْقَرَابَةُ دُونَ الْفَضِيلَةِ، وَأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لَا فَخْرَ فِيهِ، وَلَا فَضْلَ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اعْتَادَ الرَّوَافِضُ افْتِرَاءَهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ عِنْدَ نَبْزِهِمْ بِلَقَبِ النَّوَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي النَّوَاصِبِ مَنْ يُنْكِرُ مَزِيَّةَ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَفِي الرَّوَافِضِ مَنْ يُنْكِرُ مَا هُوَ أَظْهَرُ

ص: 147

مِنْهَا مِنْ مَزِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي نِيَابَتِهِ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي إِمَارَةِ الْحَجِّ، وَإِقَامَةِ رُكْنِهِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَجِّ ذَلِكَ الْعَامَ تَمْهِيدًا لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ، إِذْ كَانَ يَكْرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ، وَيَرَاهُمْ فِي بَيْتِ اللهِ عُرَاةً نِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمْ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي بَيْتِهِ، وَمَا يَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْإِمَارَةَ مِمَّا تَقَدَّمَ

بَيَانُهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ يَعْتَرِفُونَ بِمَزِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا رضي الله عنهما وَعَنْ سَائِرِ آلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَعَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ لِأَهْلِهِ وَمَحَبَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَقَاتَلَ اللهُ الرَّوَافِضَ وَالنَّوَاصِفَ الَّذِينَ يَطِرُونَ بَعْضًا، وَيُنْكِرُونَ فَضْلَ الْآخَرِ، وَيَعُدُّونَ مَحَبَّتَهُ مُنَافِيَةً لِمَحَبَّتِهِ.

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَذَانِ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُوَقَّتِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمُوَقَّتِ، وَهُوَ مُفَصِّلٌ لِكُلِّ حَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْأَذَانِ الْعَامِّ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَوَفَاءٍ وَغَدْرٍ، يَنْتَهِي بِالْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ. وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعَارٌ مِنِ انْسِلَاخِ الْحَيَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُهَا مِنْ جِلْدِهَا، وَيُسَمَّى بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ الْمِسْلَاخُ، يَقُولُونَ: سَلَخَ فَلَانٌ الشَّهْرَ وَانْسَلَخَ مِنْهُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ (36: 37) . وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَكْتُ مِثْلَهُ

كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي

وَالْحُرُمُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الْحَرَامِ (كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ) وَهِيَ الْأَشْهَرُ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا قِتَالَهُمْ فِي الْأَذَانِ وَالتَّبْلِيغِ. الَّذِي بَيَّنَتِ الْآيَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَيْ: آمِنِينَ لَا يَعْرِضُ لَكُمْ أَحَدٌ بِقِتَالٍ فِيهَا. فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ

،

ص: 148

وَلَوْلَا هَذَا السِّيَاقُ لَوَجَبَ تَفْسِيرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالْأَرْبَعَةِ الَّتِي

كَانُوا يُحَرِّمُونَ فِيهَا الْقِتَالَ مِنْ قَبْلُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْهَا بِالنَّسِيءِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 36 و37، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا أَوِ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ لِحُرِّيَّةِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى الْمُحَرَّمِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا وَهُنَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ اعْتَمَدَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ.

قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أَيْ: فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، فَاقْتُلُوهُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَجَدْتُمُوهُمْ فِيهِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَادَتْ حَالَةُ حَرْبٍ كَمَا كَانَتْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَأْمِينُهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْحَةً مِنْكُمْ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا عَدَا أَرْضَ الْحَرَمِ فَهُوَ غَالِطٌ.

وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أَيْ: وَافْعَلُوا بِهِمْ كُلَّ مَا تَرَوْنَهُ مُوَافِقًا لِلْمَصْلِحَةِ مِنْ تَدَابِيرِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْحَرْبِ الْمَعْهُودَةِ، وَأَهَمُّهَا وَأَشْهَرُهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: وَأَوَّلُهَا: أَخْذُهُمْ أُسَارَى، فَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَسْرِ بِالْأَخْذِ وَيُسَمُّونَ الْأَسِيرَ (أَخِيذًا) وَالْأَخْذُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ، فَإِنَّ مَعْنَى الثَّانِي الشَّدَّ بِالْأُسَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَالْأَسِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْأَخِيذُ الَّذِي يُشَدُّ. وَقَدْ أُبِيحُ هُنَا الْأَسْرُ الَّذِي حُظِرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (8: 67) لِحُصُولِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَلَبِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَمَنْ يُسَمِّي مِثْلَ هَذَا نَسْخًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الْأَذَانِ.

وَالثَّانِي: الْحَصْرُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَدُوِّ حَيْثُ يَعْتَصِمُونَ مِنْ مَعْقِلٍ وَحِصْنٍ، بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ وَيُمْنَعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِانْفِلَاتِ إِذَا كَانَ فِي مُهَاجَمَتِهِمْ فِيهِ خَسَارَةٌ كَبِيرَةٌ،

فَاحْصُرُوهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِكُمْ بِشَرْطٍ تَرْضَوْنَهُ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ.

وَالثَّالِثُ: قُعُودُ الْمَرَاصِدِ أَيِ الرَّصْدِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ بِالْقُعُودِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُمْكِنُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةُ تَجْوَالِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ مِنْهُ فَالْمَرْصَدُ اسْمُ مَكَانٍ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَالْفِجَاجِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا لِئَلَّا يَعُودُوا إِلَيْهَا لِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، أَوْ لِلشِّرْكِ فِي الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ فِيهِ عُرَاةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا أَهَمُّ أَفْرَادِهِ. وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَهِيَ الْعَاصِمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ عَجَزُوا عَنْهَا فِي عَهْدِ قُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ.

ص: 149

وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ آيَةَ السَّيْفِ هِيَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَثَّرُوا الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةَ أَنَّ آيَةَ كَذَا وَآيَةَ كَذَا مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْجَاهِلِينَ وَالْمُسَالَمَةِ وَحَسُنِ الْمُعَامَلَةِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ فِي شَيْءٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَقْسَامِ النَّسْخِ مِنَ الْإِتْقَانِ مَا نَصُّهُ: (الثَّالِثُ) مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ، كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَسَّأِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَوْ نُنْسِهَا) فَالْمُنَسَّأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنَسَّأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، بَلْ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ مُشْعِرًا بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (2: 109) مُحْكَمٌ غَيْرُ

مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍّ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ اهـ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعَزَاهُ الْآلُوسِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى جَوَازِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاقْتُلُوا الْكُفَّارَ مُطْلَقًا. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِحَدِيثِ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِّي أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَقِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِلتُّرْكِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ يَبْطُلُ أَمْنُ الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعَوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خَصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُمْ

ص: 150

الْجِزْيَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْحَدِيثِ لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ.

وَأَقُولُ: قَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ عَنْ كَوْنِ الْآيَةِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ نُبِذَتْ عُهُودُهُمْ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَوْعِدُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَالْحَبَشَةُ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (5: 82) الْآيَاتِ. وَمِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتُّرْكُ كَانُوا وَثَنِيِّينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ

جَاءَ تَحْذِيرًا مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ، لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ خَطَرًا عَلَى الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ سَيَقَعُ مِنْهُمْ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ، وَنَكَثُوا عُهُودَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (13) وَعَلَى كَوْنِ قِتَالِهِمْ كَافَّةً جَزَاءً بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) فَكَيْفَ يَدْخُلُ وَثَنِيُّو التُّرْكِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عُمُومِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَلَا نَأْتِي هُنَا قَاعِدَةَ كَوْنِ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ مَا كَانَ سَبَبًا لِوُرُودِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يُوضَعْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ كَالْمَجُوسِ مَثَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (ا: 221) الْآيَةَ. [ص276 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ تَفْسِيرُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (5: 5) الْآيَةَ [147 - 162 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] وَيَلِيهِ مَبَاحِثُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحَ الْأَحَادِيثِ يَنْظُرُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ لَمَا وَقَعُوا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الْوَاضِحَةِ، وَلَكُنَّا فِي غِنًى عَنِ الْإِطَالَةِ فِي التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا.

فَإِنْ تَابُوا أَيْ: فَإِنْ تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ - وَعُنْوَانُهُ الْعَامُّ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَانَ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِإِحْدَاهُمَا - وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ مَعَكُمْ كَمَا تُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ الْإِيمَانِ، وَأَكْبَرُ أَرْكَانِهِ الْمَطْلُوبَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَتَسَاوَى فِي طَلَبِهَا وَجَمَاعَتِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْمَأْمُورُ وَالْأَمِيرُ - وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَأَفْضَلُ مُزَكٍّ لِأَنْفُسِهِمْ يُؤَهِّلُهُمْ لِلِقَائِهِ، وَأَفْعَلُ مُهَذِّبٍ لِأَخْلَاقِهِمْ بَعْدَهَا لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ

ص: 151

(29: 45) وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَلِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الْمَالِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُهُ الْعَامُّ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فَاتْرُكُوا لَهُمْ طَرِيقَ حُرِّيَّتِهِمْ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ إِذَا كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَعَنْ حَصْرِهِمْ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَعَنْ رَصْدِ مَسَالِكِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ يَكُونُونَ مُرَاقَبِينَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَيَرْحَمُهُمْ فِيمَنْ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.

وَالْآيَةُ تُفِيدُ دَلَالَةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُوجِبُ لِمَنْ يُؤَدِّيهِمَا حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَفِظَ دَمِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ جِنَايَةٍ تَقْتَضِي حَدًّا مَعْلُومًا، أَوْ جَرِيمَةٍ تُوجِبُ تَعْزِيرًا أَوْ تَغْرِيمًا.

وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا اشْتَرَطَتْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِصْمَةِ دِمَائِهِمْ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ: تَرْكَ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ. فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْإِسْلَامُ الَّذِي يَعْصِمُ دَمَ الْمُشْرِكِ الْمُقَاتِلِ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ، وَمِرَاءُ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ مَرْدُودٌ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَكْفُرُ تَارِكُ الصَّلَاةِ دُونَ مَانِعِ الزَّكَاةِ لِإِمْكَانِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَوُجُوبِ قِتَالِ مَانِعِيهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ.

وَقَدْ عَزَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْنَاهَا كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَكِنِ

اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَذْبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، وَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ تَرْكُ ذَبَائِحِ الشِّرْكِ، يَعْنِي إِنْ ذَبَحُوا وَجَبَ أَنْ يَذْبَحُوا بِاسْمِ اللهِ دُونَ اسْمِ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُهِلُّونَ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ.

وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِتَوَاتُرِهِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَفِي بَعْضِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَلِمَةِ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ

ص: 152

مِنَ الْمَعَاصِي لَا يَخْرُجُ تَارِكُ إِحْدَاهُمَا وَلَا كِلْتَيْهِمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّ فِيهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْكُفْرِ وَالدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ صِيغَةٌ وَعُنْوَانٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا مَوَاقِفُ الْقِتَالِ، وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ يُكْتَفَى مِنَ الْمُشْرِكِ بِكَلِمَةِ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ "؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَتْلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ " صَبَأْنَا " وَقَالَ:" اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولُونَ: صَبَأَ فُلَانٌ، إِذَا أَسْلَمَ، وَالْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ يُعْلَمُ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ عِلْمًا قَطْعِيًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ النُّطْقِ بِعُنْوَانِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهِ،

وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْهَا بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ كَسَلٍ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَهُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَالنُّطْقُ بِهَا وَحْدَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُ أَحَدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَهَا، وَوُجِدَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلَى الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَقٍّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ " لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (34: 28) وَمَا فِي مَعْنَاهُ.

فَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِذْعَانُ الْعَمَلِيُّ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا. وَلَا يَكُونُ الْإِذْعَانُ بِالْعَمَلِ إِسْلَامًا صَحِيحًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ إِذْعَانًا نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا يَبْعَثُهُ الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (63. 1) وَمَتَى كَانَ الْإِيمَانُ يَقِينِيًّا، كَانَ الْإِذْعَانُ نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَتَبِعَهُ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ فِي جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ وَعَامَّةِ الْأَوْقَاتِ. وَلَا يُنَافِيهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِصَارِفٍ عَارِضٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ لِعَارِضٍ غَالِبٍ. بِحَيْثُ إِذَا زَالَ السَّبَبُ نَدِمَ الْمُخَالِفِ. وَلَامَ نَفْسَهُ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ

ص: 153

(4: 17) إِلَخْ. فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً أَوْ أَكْثَرَ لِبَعْضِ الشَّوَاغِلِ، وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ مُذْنِبٌ وَيَرْجُو مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى وَيَنْوِي الْقَضَاءَ، لَا يَكُونُ تَرْكُهُ هَذَا مُنَافِيًا لِإِذْعَانِهِ النَّفْسِيِّ لِأَصْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجَاءُ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ يُعَدُّ مِنَ الْغُرُورِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَوَامِرِهِ، وَعَدَمُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ نَوَاهِيهِ - فَإِنَّهُ يُنَافِي الْإِذْعَانَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْقَلُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِسْلَامٍ، وَلَا إِسْلَامٌ صَحِيحٌ

ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَبَى أَنْ يَلْتَزِمَ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ مُحَرَّمَاتِهِ الْقَطْعِيَّةَ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصَرِّحْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ مُخَادِعٌ قَطْعًا، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقِيَامَ بِبَعْضِهَا نِفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ السِّيَاسِيِّنَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِدُخُولِ الْحِجَازِ أَوِ اخْتِبَارِ الْمُسْلِمِينَ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنِ اشْتِرَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْحُجَّةِ هِيَ تَحَقُّقُ الدُّخُولِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَحْدَهَا وَهِيَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا تَكْفِي لِتَأْمِينِهِمْ، وَإِبَاحَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ لِمَنْ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ وَسَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوِ الشَّهَادَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا كَافِيًا فِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ لِلْكَفِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَامَلَةِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِمَا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ فَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الْأُولَى لِمَنْ كَانَ صَادِقًا فِي النُّطْقِ بِهَا تَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّهَادَتَانِ مُؤَيِّدًا لَهُمَا كَانَتَا خِدَاعًا وَغِشًّا، وَلَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ كَثِيرَةً، وَكَانَ الْكَثِيرُ بِاشْتِرَاطِ الرُّكْنَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ، وَهُمَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ الدِّينِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالزَّكَاةُ وَهِيَ الرَّابِطَةُ الْمَالِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَمَنْ أَقَامَهُمَا كَانَ أَجْدَرَ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمَا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُصَلِّيَ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِذْعَانِ لِصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا،

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَطْعًا، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ مَا شَرَطَهُ فِي إِسْلَامِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الزِّنَا لَهُ، وَإِنَّ بَيْنَ اسْتِبَاحَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِحُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَبَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالْإِيمَانِ فَرْقًا وَاضِحًا وَبَوْنًا بَيِّنًا، وَلَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إِلَى

ص: 154

أَنَّ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، حَتَّى الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَهُمَا يُعَدُّ كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ النُّشُوءِ فِيهِ، حَتَّى مَعَ الِاعْتِرَافِ بِحَقِّيَّتِهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ تَارِكَهُمَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، وَأَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ لَا يُكَفَّرُ تَارِكُهُمَا إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّ هَذَا التَّرْكَ أَوْ جَحَدَ وُجُوبَهُمَا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، أَيْ: لِأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْضِ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالْفِعْلِيِّ، وَهُوَ كُنْهُ الْإِسْلَامِ، وَالْجُحُودَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الِاسْتِكْبَارِ عَنْهُ وَهُوَ كُنْهُ الْإِيمَانِ.

وَالْآيَةُ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ لِكَسَلٍ، أَوْ شَاغِلٍ لَا يُعَدُّ عُذْرًا شَرْعِيًّا، يَكُونُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا لَمْ يَتُبْ عَقِبَ أَوَّلِ فَرِيضَةٍ تَرَكَهَا أَوِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ تُجْمَعَ مَعَهَا بِأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ وَيُصَلِّيهَا، وَلَا يَدُلَّانِ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ حَدًّا كَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِمَا، وَلَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ بِحُجِّيَّتِهِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُ مَا يُشْتَرَطُ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، لَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُنَافِيهِ وَيُعَدُّ ارْتِدَادًا عَنْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي قِتَالِ كُلِّ الْكُفَّارِ، لَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ. قُلْتُ: أَوَّلًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَايَةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْغَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً، وَلَا مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ لِاخْتِلَافِ مَوْرِدِهِمَا، وَهَذَا يُعَارِضُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، فَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا مُحْكَمًا، وَكَانَ مِنْ فِقْهِ الْبُخَارِيِّ فِي أَبْوَابِ

صَحِيحِهِ إِيرَادُهُ تَابِعًا لِلْآيَةِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ.

ثَانِيًا: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ مَنْ يُقَاتِلُنَا مِنَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا.

ثَالِثًا: إِنَّ قِتَالَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ قَتْلِ مَنْ عَسَاهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَقِّقِينَ، فَالْقِتَالُ فِعْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، وَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ تَنْفِيذُ حُكْمٍ عَلَى مُجْرِمٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ.

رَابِعًا: مَنْ أَرَادَ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ دَالًّا عَلَى غَيْرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَنْ حُكْمِ رِدَّةٍ أَوْ حَدٍّ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ، يُرَدُّ عَلَيْهِ إِعْلَالُهُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُضَاعَفَةِ مَا اسْتَغْرَبَ مَعَهُ بَعْضُ

ص: 155

نُقَّادِ الْحَدِيثِ تَصْحِيحَ الشَّيْخَيْنِ لَهُ مِنِ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِيرَادِهِ فِي مَسْنَدِهِ عَلَى سَعَتِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ صَرَّحَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاسْتِبْعَادِ صِحَّتِهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَوَاتُرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُعَارِضُهُ نُصُوصٌ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا نُكَفِّرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ لَا خِلَافَ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا فِي دَلَالَتِهِ.

هَذَا - وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ أُخْرَى

هِيَ أَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ تَكَلُّفِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا رَأَيْنَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا. أَصْرَحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ " الشِّرْكِ " وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ يَعْنِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَكِنَّ الْعِتْرَةَ وَجَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ فَيُسْتَتَابُ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى الْجَاحِدِ أَوِ الْمُسْتَحِلِّ لِلتَّرْكِ وَعَارَضُوهَا بِبَعْضِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، وَحَدِيثِ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِمَا يُفَسِّرُ أَوْ يُخَصِّصُ مَعْنَى الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ بِالْخَارِجِ الْمُقَاتِلِ، وَهُوَ:" وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ " وَقَدْ يُقَالُ:

ص: 156

إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ وَمُفَارَقَةٌ لِلْجَمَاعَةِ فَتَارِكُهَا لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي سِيَاقِ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَنْصَارِهِمْ حَتَّى مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ كَالشَّوْكَانِيِّ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَصْدُقُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ،

فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ كَالْجِنْسِ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَمَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِفَرِيضَةِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا، وَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الدُّرُوسِ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِطَلَبِ الْعِلْمِ.

(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَلَّى مَا بَعْدَهَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ مَا تَرَكَ، وَيَعُودُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدَاءِ مَا أَدَّى. (قُلْتُ) إِذَا كَانَ تَرْكُ الْأُولَى كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ فَاعِلِهِ التَّلَبُّسَ بِالثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا جَدَّدَ إِسْلَامَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ أَحْكَامٌ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، مِنْهَا حُبُوطُ جَمِيعِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ. وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ اسْتِتَابَتُهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ تَنَاظَرَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ، أَتَقُولُ إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَالَ: بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُلُ مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَتْرُكْهُ. قَالَ: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ: صَلَاةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْإِسْلَامِ بِهَا، فَانْقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى) .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَقْتَضِيهِ فِقْهُ الدِّينِ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لَا نِقْمَةً، وَمِنْحَةً لَا مِحْنَةً، أَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِعُذْرٍ أَوْ كَسَلٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا بِأَنْ يَجْعَلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمُعَاشِرِينَ أَحْيَانًا، وَيَتْرُكُهَا أَحْيَانًا، بِحَيْثُ إِذَا صَلَّى لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِبَاعِثِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ وَنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا تَرَكَهَا يَتْرُكُهَا غَيْرَ مَالٍّ وَلَا مُتَأَثِّمٍ كَمَا يَتْرُكُ عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، هَذَا شَأْنُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اللَّقَبُ الْمَوْرُوثُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ، وَلَا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ،

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 142) فَهَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا صَادِقًا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي هَذَا؟

وَيُوجَدُ مِنْ مُسْلِمِي التَّقَالِيدِ الْجَاهِلِينَ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَمَا شَرَعَهُ اللهُ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامًا وَشُهُورًا، وَرُبَّمَا تَمُرُّ السَّنَةُ وَالسُّنُونَ لَا يُصَلِّي فِيهَا إِلَّا بَعْضَ

ص: 157

الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَقَلِيلًا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ إِيمَانًا تَقْلِيدِيًّا نَاقِصًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ، فَهُوَ فِي تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثِمٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَى مَغْفِرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَوْ عَلَى مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مِنْ حَجٍّ وَغَيْرِهِ أَوْ عَلَى شَفَاعَاتِ الشَّافِعِينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ، وَهِيَ تُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ الْمَطْبُوعَةِ، الَّتِي يَخْتَارُهَا عَلَى غَيْرِهَا خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، وَالْوُعَّاظُ الْخُرَافِيُّونَ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى الْعَوَامِّ، لِيُهَوِّنُوا عَلَيْهِمُ ارْتِكَابَ الْآثَامِ، وَنَاهِيكَ بِحَدِيثِ عَتْقَى الْمَلَايِينِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَاذَا تَقُولُ فِي حَدِيثِ السِّجِلَّاتِ الَّذِي عُنِيَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِإِثْبَاتِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْمُجَرِّئَاتِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ.

فَهَؤُلَاءِ الْعَوَامُّ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ مَعْذُورُونَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ، وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا يُعَارِضُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْهِيبِ وَالنُّذُرِ، هُمْ مَعْذُورُونَ بِالْجَهْلِ حَتَّى بِمَا كَانَ يُعَدُّ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَعُدْ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ تَعْلِيمُهُمْ مَا يَذْهَبُ بِغُرُورِهِمْ كَتَقْيِيدِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (20: 82) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ

رَحِمْتَهُ (4: 7 - 9) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (4: 17 و18) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَوْسَعِهَا وَأَهَمِّهَا تَفْسِيرُ آيَتَيِ التَّوْبَةِ هَاتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [فِي ص360 - 370 ج 4 ط الْهَيْئَةِ]، وَمِنْهَا تَفْسِيرُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا (4: 14) [ص353 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ، أَيْضًا كُنَّا بَيَّنَّا جَهْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ تَنَالُهُ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَجْهُولٌ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (21: 28) .

وَالْعُلَمَاءُ يَخُصُّونَ مَا وَرَدَ فِي مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتِهَا بِالصَّغَائِرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (4: 31) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ (53: 32) أَيْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ

ص: 158