الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَمَرَ الرَّجُلُ اللهَ بِمَعْنَى عَبَدَهَ، قَالَ: وَالْعِمَارَةُ (بِالْكَسْرِ) مَا يَعْمُرُ بِهِ الْمَكَانُ، وَالْعُمَارَةُ (بِالضَّمِّ) أُجْرَةُ الْعِمَارَةِ. (قَالَ) وَالْعُمْرَةُ (بِالضَّمِّ) طَاعَةُ اللهِ عز وجل، وَالْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَعْرُوفَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَهُوَ الزِّيَارَةُ وَالْقَصْدُ. . . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ زِيَارَةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِالشُّرُوطِ الْمَخْصُوصَةِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا أَعْلَمُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ، وَلَكِنْ
عَمَرَ اللهَ إِذَا عَبَدَهُ، وَعَمَرَ فُلَانٌ رَكْعَتَيْنِ إِذَا صَلَّاهُمَا، وَهُوَ يَعْمُرُ رَبَّهُ يُصَلِّي وَيَصُومُ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعِمَارَةُ نَقِيضُ الْخَرَابِ يُقَالُ: عَمَرَ أَرْضَهُ يَعْمُرُهَا. قَوْلُهُ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ (9:
18)
إِمَّا مِنَ الْعِمَارَةِ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الْبِنَاءِ أَوْ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَارَةُ أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَمَرْتُ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَمْتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَمَرْتُ الْمَكَانَ وَعَمَرْتُ بِالْمَكَانِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ فَلْيُتَحَرَّ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ تُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى النُّسُكِ الْمَخْصُوصِ الْمُسَمَّى بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى لُزُومِهِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ لِخِدْمَتِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَلَى بُنْيَانِهِ وَتَرْمِيمِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُرَادٌ هُنَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ عَيَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ عَلِيٌّ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا، وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّنَا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَخْ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ وَيَفْخَرُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِأَجْلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَلْ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَا مِنْ شَأْنِهِمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
شِرْكُهُمْ، أَوِ الَّذِي يَشْرَعُهُ أَوْ يَرْضَاهُ اللهُ مِنْهُمْ أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ الْأَعْظَمَ وَبَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ لَهُ، وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَزُورُوهُ حُجَّاجًا
أَوْ مُعْتَمِرِينَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ سَائِرِ مَسَاجِدِهِ كَذَلِكَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَإِنَّ عِمَارَةَ مَسَاجِدِ اللهِ الْحِسِّيَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِعِمَارَتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ بِعِبَادَتِهِ فِيهَا وَحْدَهُ، وَلَا تَصِّحُ وَلَا تَقَعُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدِ لَهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْكُفْرِ بِهِ، وَأَيُّ كُفْرٍ بِاللهِ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ مِنَ الشِّرْكِ بِهِ وَمُسَاوَاتِهِ بِبَعْضِ خَلْقِهِ فِي الْعِبَادَةِ؟ وَهُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالِاسْتِشْفَاعِ بِهَا، وَالسُّجُودِ لِمَا وَضَعُوهُ فِي الْبَيْتِ مِنْهَا عَقِبَ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِهِمْ فِيهِ، وَأَيُّ اعْتِرَافٍ بِهِ أَصْرَحُ مِنْ نَصِّ تَلْبِيَتِهَا لَهُ تَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَكَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْضًا، وَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، كَفَرَ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ جُحُودًا وَعِنَادًا وَتَبِعَهُمْ دَهْمَاؤُهُمْ خُضُوعًا لَهُمْ وَتَقْلِيدًا، وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جُحُودِهِمْ آيَةُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِنَادِهِمْ آيَةُ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8: 32) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَاهِدِينَ إِلَخْ. قَيْدٌ لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِعِلَّتِهِ، وَالْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ نَفْسُ الْكُفْرِ لَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَنُكْتَةُ تَقْيِيدِهِ بِهَا بَيَانُ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ مُعْتَرَفٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا الْكُفَّارَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعِمَارَةِ الْحِسِّيَّةِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا، كَأَنْ يَكُونَ نَاظِرُ الْمَسْجِدِ وَأَوْقَافِهِ كَافِرًا، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ لَا وِلَايَةَ فِيهِ، كَنَحْتِ الْحِجَارَةِ، وَالْبِنَاءِ وَالنِّجَارَةِ، فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشَّأْنِ
الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا لَهَا، وَالدَّلَالَةُ فِيهِ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَالْأَفْرَادِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ لَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. (قُلْتُ) : إِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فَسَّرْنَا بِهِ نَفْيَ الشَّأْنِ، وَلَا مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا مِثْلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِمَا ضَرَرٌ آخَرُ دِينِيٌّ وَلَا سِيَاسِيٌّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ عَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِتَرْمِيمِ مَا كَانَ تَدَاعَى أَوْ ضَعُفَ مِنْ بِنَائِهِ أَوْ بَذَلُوا لَهُمْ مَالًا لِذَلِكَ لِمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ الْيَهُودُ الْعَمَلَ
لِمَا عُلِمَ مِنْ طَمَعِهِمْ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَالتَّوَسُّلِ لَهُ بِمَا يَجْعَلُونَهُ ذَرِيعَةً لِادِّعَاءِ حَقٍّ مَا لَهُمْ فِيهِ، عَلَى كُفْرِهِمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكِتَابَيْهِمَا، وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا.
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ بِاللهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَفْخَرُونَ بِهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَقِرَى الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، أَيْ: بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ وَهُوَ - بِالتَّحْرِيكِ - أَنْ تَأْكُلَ الْبَهِيمَةُ حَتَّى تَنْتَفِخَ وَيَفْسَدَ جَوْفُهَا. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (39: 65) وَوَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (6: 88) وَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (18: 105) .
وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ أَيْ: وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْعَذَابِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ دُونَ غَيْرِهَا إِقَامَةَ خُلُودٍ وَبَقَاءٍ، لِكُفْرِهِمُ الْمُحْبِطِ لِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا أَثَرَ لَهَا فِي
تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحَاطَةِ خَطِيئَاتِهِمْ بِهَا وَتَدْسِيَتِهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَدْنَى اسْتِعْدَادٍ لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ - وَمَا ثَمَّةَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (42: 7) .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْمُشْرِكِينَ لِعِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللهِ أَثْبَتَهَا لِلْمُسْلِمِينَ الْكَامِلِينَ، وَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّأْنِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْإِيجَابِ، وَهُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْعِبَادَ، وَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، وَبَيْنَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَتَدَبُّرِ تِلَاوَتِهَا وَأَذْكَارِهَا الَّتِي تُكْسِبُ مُقِيمَهَا مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى وَحُبَّهُ، وَالْخُشُوعَ لَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ - وَإِعْطَاءِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَقْدٍ وَزَرْعٍ وَتِجَارَةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ خَشْيَةِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ رَجَاءً فِي نَفْعِهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَشْيَةِ الدِّينِيُّ مِنْهَا دُونَ الْغَرِيزِيِّ كَخَشْيَةِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي خَشْيَةَ اللهِ، وَلَا يَقْتَضِي خَشْيَةَ الطَّاغُوتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ رَضِيَ النَّاسُ أَمْ سَخِطُوا.
فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَيْ: فَأُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخَمْسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي يَلْزَمُهَا سَائِرُ أَرْكَانِهَا هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ بِحَقٍّ، أَوْ يُرْجَى لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِهِمْ، أَنْ يَكُونُوا مِنْ جَمَاعَةِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْجَامِعِينَ لِأَضْدَادِهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالطَّاغُوتِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ، الَّذِينَ دَنَّسُوا مَسْجِدَهُ
الْحَرَامَ بِالْأَصْنَامِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً كَعَبَثِ الْأَطْفَالِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (8: 34 - 36) فَشُرُورُ هَؤُلَاءِ وَضَلَالُهُمْ وَطُغْيَانُهُمُ الَّتِي هِيَ لَوَازِمُ الشِّرْكِ تُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ حَسَنٍ عَمِلُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
كَلِمَةُ " عَسَى " تُفِيدُ الرَّجَاءَ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى " لَعَلَّ " أَيْ لِلرَّجَاءِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَعَلَّ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ لِلْمُخَاطَبِ بِهَا، فَالرَّجَاءُ هُنَا مَا يَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ بِالْفِعْلِ أَوِ الشَّأْنِ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا كَوْنُ الرَّجَاءِ مِنَ اللهِ عز وجل فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى وَلَا يَرْجُو، وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ ظَنٌّ بِحُصُولِ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ وَاتُّخِذَتْ وَسَائِلُهُ مِنْ مُبْتَغِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِحُصُولِهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ، وَأَلَّا تُعَارِضَهَا الْمَوَانِعُ الَّتِي تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْمُقْتَضَى، كَالزَّارِعِ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْحَبَّ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَعَاهَدُ زَرْعَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَزْقٍ وَسَقْيٍ وَسَمَادٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَظْنُونِ الرَّاجِحِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الْجَوَائِحِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ مَثَلًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُسْتَطَاعِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ بِذَلِكَ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَرَفْعَهَا إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ لِمَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَشَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ عَدَمِ الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا، وَالْخَيْرُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي يَبْعَثُهُ
عَلَى التَّشْمِيرِ، وَأَنْ يُرَجِّحَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءَ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلَا سِيَّمَا مَرَضُ الْمَوْتِ، وَمَنْ أَرَادَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَسْعَ لَهَا سَعْيَهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لَهَا فَهُوَ مِنَ الْحَمْقَى أَصْحَابِ الْأَمَانِيِّ لَا مِنْ أَصْحَابِ الرَّجَاءِ، فَهُوَ
كَمَنْ أَحَبَّ أَنْ تُنْبِتَ لَهُ أَرْضُهُ غَلَّةً حَسَنَةً كَثِيرَةً وَلَمْ يَزْرَعْهَا. . . إِلَخْ. فَسُنَّةُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ " عَسَى " هُنَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَالُوا: إِنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لِلْإِيجَابِ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَقُّعِ وَالظَّنِّ وَعَنِ الْإِطْمَاعِ فِي الشَّيْءِ، وَإِخْلَافِهِ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ، وَرَوَوْا هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ (5: 52) وَقَوْلُهُ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (60: 7) فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ وَعْدٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَسَى: إِبْهَامُهُ وَعَدَمُ إِعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ رَأَى أَنَّ هَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى مَا فَسَّرَ بِهِ " عَسَى " هُنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَدَمُ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ وُقُوعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَادَوْهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَهُوَ مَرْجُوٌّ وَمُتَوَقَّعٌ فِي نَفْسِهِ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيَحْسِبُوا لَهُ حِسَابًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى " لَعَلَّ " فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: الْإِعْدَادُ لِمُتَعَلَّقِهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ رَاجِعْ (ص155 وَمَا بَعْدَهَا ج 1 ط الْهَيْئَةِ) .
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ وَصْفَ عَمَارِ الْمَسَاجِدِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْرَعُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ بِهِ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا
الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ، فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ، وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يُشْغَلُ بِالنَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَيَانُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الَّذِي يَقُومُ أَهْلُهُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِالْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِّ فِيهَا، وَهَذِهِ أُسُسُهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهَا مَدَارُ النَّجَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (2: 62) وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ أَرْكَانِهِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُجَرَّدِينَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ قَبُولَهَا كُلَّهَا، أَوْ مَا عَدَا الْبَاطِنَ مِنْهَا، وَهُوَ الْخَشْيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
وَالزَّكَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ - وَخَشْيَةُ اللهِ وَحْدَهُ أَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ، وَلَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بِدُونِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُهَا، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ فَرَائِضِهَا، وَمِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ لَهَا، وَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ لَا يَبْنِي الْمَسَاجِدَ حَقٌّ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ: إِنَّ الَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا وَذَاكَ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي، وَإِنَّمَا يَبْنِيهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَوْ لِيَجْعَلَ فِيهِ أَوْ فِي قُبَّةٍ بِجَانِبِهِ قَبْرًا لَهُ يُذْكَرُ بِهِ اسْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُسَاعِدُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَلَا يُؤَدِّي جَمِيعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُرَاءٍ يَبْتَغِي بِإِنْفَاقِهِ السُّمْعَةَ وَالصِّيتَ الْحَسَنَ لَا مَثُوبَةَ اللهِ وَمَرْضَاتَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا بَنَى
مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَامَهُ النَّاسُ قَالَ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ كَابْتِدَائِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ بِدُونِ وَصْفٍ لِلْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ بِلَفْظِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا أَوْسَعَ مِنْهُ وَبِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - وَأَنْ تُطَيَّبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَيْ تَكْنِسُهُ فَمَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَاتَتْ فَقَالَ:" أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟ " أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي بِمَوْتِهَا لِأُصَلِّيَ عَلَيْهَا دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا " فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضِ السُّنَنِ أَيْضًا أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا، وَرُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْقَذَرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهُ وَاجِبٌ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الْقَذَرِ بِالطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ.
وَمِنْهَا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَلَاةُ الْجَمِيعِ - وَفِي رِوَايَةٍ - الْجَمَاعَةُ تَزِيدُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصِلَاتِهِ فِي سُوقِهِ
خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُؤْذِ بِحَدَثٍ أَيْ بِحَدَثٍ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَمِنْهُ رَائِحَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوُهُمَا كَالدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ الرَّائِحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرِيَّةُ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالْحَنَابِلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا ذُكِرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا جَمَاعَةَ فِيهَا كَأَوَّلِ النَّهَارِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذْ تَزُولُ الرَّائِحَةُ فِي الْغَالِبِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَقَبْلَ الْفَجْرِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ إِزَالَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَطِّرَةِ كَأَقْرَاصِ النَّعْنَعِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ الْعِطْرِيَّةِ الَّتِي تُمْتَصُّ لِتَطْيِيبِ الْفَمِ.
وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهمْ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهَا خَضْرَوَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ:" قَرِّبُوهَا "(وَأَشَارَ) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: " كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صُنِعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ هُوَ ضَائِفُهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ فِيهِ ثُومٌ (لَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ) وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ " وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ " الثُّومِ " وَالنَّاسُ جِيَاعٌ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا
لَهُ بِالْإِيمَانِ وَتَلَا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعِمَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَافِظَ الذَّهَبِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَمُنْكَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (9: 28) .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ تَكْمِلَةٌ لِمَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَقِّ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِنَوْعَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَفْخَرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِمَارَتِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ فِيهِ، وَإِنْ قَامَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ. وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ
الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. (فَدَخَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَاسْتَفْتَاهُ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
مَكَّةَ فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: أَيْ عَمِّ أَلَا تُهَاجِرُ؟ أَلَا تَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَعْمُرُ الْمَسْجِدَ وَأَحْجُبُ الْبَيْتَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ (أَيِ الْأَسِيرَ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ مَعِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ كُلَّهَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَقَائِعٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا.
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ؛ لِصِحَّةِ سَنَدِهِ وَمُوَافَقَةِ مَتْنِهِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا فِي الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَحُجَّاجِهِ - مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْبَدَنِيَّةِ الْهَيِّنَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ - وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْهِجْرَةِ وَهِيَ أَشَقُّ الْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا. وَفِي أَثَرِ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ ذَكَرَ حِجَابَةَ الْبَيْتِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ السِّقَايَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَالسِّقَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي
يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا الْإِنَاءُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَمِنْهُ: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ (12: 70) سُمِّيَتْ سِقَايَةً؛ لِأَنَّهَا يُسْقَى بِهَا، وَصُوَاعًا لِأَنَّهَا يُكَالُ بِهَا كَالصَّاعِ وَهُوَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ (كَغَيْرِهِ) وَالسِّقَايَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَّخَذُ فِيهِ الشَّرَابُ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا. (ثُمَّ قَالَ) وَفِي الْحَدِيثِ كُلُّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِيَّ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ هِيَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْقِيهِ الْحُجَّاجَ مِنَ الزَّبِيبِ الْمَنْبُوذِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ يَلِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ اهـ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ خُطْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ: سِقَايَةُ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى شَرَفًا، يَسْتَقِي فِيهَا الْمَاءَ؛ لِيَشْرَبَهُ النَّاسُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ زَمْزَمَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، حَكَى الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ السِّقَايَةَ حِيَاضٌ مِنْ أَدَمٍ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ تُوضَعُ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنَ الْآبَارِ عَلَى الْإِبِلِ وَيُسْقَاهُ
الْحَاجُّ، فَجَعَلَ قُصَيٌّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمْرَ السِّقَايَةِ لِابْنِهِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَعَ عَبْدِ مَنَافٍ يَقُومُ بِهَا فَكَانَ يَسْقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ كَرَادِمَ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَنَى هَذَا الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَلَا يَزَالُ مَاثِلًا إِلَى الْآنِ، وَهُوَ حَجَرَةٌ كَبِيرَةٌ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ وَصَفَ مُؤَرِّخُو مَكَّةَ مِسَاحَتَهَا وَبُعْدَهَا عَنْ زَمْزَمَ وَعَنِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا صَارَتِ اسْمَ حِرْفَةٍ، وَكَذَا الْحِجَابَةُ، وَهِيَ سِدَانَةُ الْبَيْتِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مَآثِرِ قُرَيْشٍ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْعَبَّاسِ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَقَوْلَ النَّاسِ فِيهِ كَقَوْلِهِ لَا يُرَادُ بِهِ
أَنَّهُ صَاحِبُ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ الْمَنْبُوذِ فِيهِ، وَلَا ذَلِكَ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِدَارَةَ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ وَنَبْذُهُ بِالْمَاءِ وَوَضْعُ أَوَانِيهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ أَيُّ لُغَوِيٍّ أَوْ مُفَسِّرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمٌ لِمَكَانِ السَّقْيِ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَصْدَرُ سَقَى أَوْ أَسْقَى إِلَخْ.
قَالَ عز وجل: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ مُقْتَضَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا: أَيَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ وَمُقْتَضَى حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَتَشْبِيهُ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ كَإِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الْمَعْهُودَةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ (2: 177) إِلَخْ. وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ تَحْوِيلُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِيَتَّحِدَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ هُنَا: أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ لِلْبَيْتِ، أَوْ فَاعِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُتَوَلِّيَهُ، كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَوْ يَقُولُونَ: أَجَعَلْتُمْ هَذِهِ السِّقَايَةَ وَالْعِمَارَةَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى النَّهْيِ. أَيْ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ. وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ كَالْفِعْلِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَيْسَ كَالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالدَّرَجَاتِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لَا يُسَاوِي الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ فِي صِفَتِهِ، وَلَا فِي عَمَلِهِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَا فِي مَثُوبَتِهِ وَجَزَائِهِ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفَضِّلَهُ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يَزْعُمُ كُبَرَاءُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ
وَيَسْتَكْبِرُونَ
عَلَى النَّاسِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (23: 67) . عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (بِهِ) لِلْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا:؛ لِأَنَّ اشْتِهَارَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ قُوَّامُهُ وَسَدَنَتُهُ وَعُمَّارُهُ أَغْنَى عَنْ سَبْقِ ذِكْرِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدِينُ لَهُمْ بِذَلِكَ، لِامْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَبِسِقَايَةِ حُجَّاجِهِ، وَكَذَا ضِيَافَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً كَالسِّقَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُجَّاجَ كَانُوا وَمَا زَالُوا أَحْوَجَ إِلَى الْمَاءِ فِي الْحَرَمِ مِنَ الزَّادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَاجٍّ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الزَّادِ مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَفَرِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَعَوْدَتِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبِيُّ الْقَنُوعُ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا نِصْفَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ شُرُوطِ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ الزَّادُ لِإِمْكَانِهِ مَعَ كَفَالَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْحَرَمِ لِتَوْفِيرِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُكُومَةُ السُّنَّةِ السُّعُودِيَّةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ تَزْدَادُ عِنَايَتُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَنَظَافَتِهِ لِمِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا سَقْيُهُمُ الْمَاءَ الْمُحَلَّى فَقَدْ بَطَلَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَذَّرًا لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ رِيعُ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُضْبَطُ وَيُرْسَلُ إِلَى حُكُومَةِ الْحِجَازِ لَأَمْكَنَهَا إِعَادَتُهُ، وَوَضْعُ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِهِ فِي مَكَّةَ أَوْ مِنًى.
هَذَا - وَإِنَّ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي بُنِيَ لِأَجْلِهَا هِيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَدَنَّسُوهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، ثُمَّ بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ (48: 25) ثُمَّ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جِوَارِهِ، لِإِيمَانِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا أَشْرَكُوهُ مَعَهُ كَمَا قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (60: 1) وَقَالَ فِيهِمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ (22: 40) فَأَيُّ مَزِيَّةٍ تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ لِخِدْمَةِ حِجَارَتِهِ، وَاحْتِكَارِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حُجَّاجِهِ؟ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ فِي مَوْضُوعِهِ؟ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا إِلَى الْحُكْمِ
الْعَدْلِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مُهْدِيًا إِلَى مَا هُوَ ضِدُّ صِفَةِ الظُّلْمِ، وَمُنَافٍ لَهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أَشَدُّ إِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْهُدَى بِغُرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ. وَمِنْ أَقْبَحِ هَذَا الظُّلْمِ تَفْضِيلُ خِدْمَةِ حِجَارَةِ الْبَيْتِ، وَحِفْظِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ الْمُطَهِّرِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَأَوْهَامِهِ - وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَزَعُهَا أَنْ تَبْغِيَ وَتَظْلِمَ، وَيُحَبِّبَ إِلَيْهَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيُرَغِّبَهَا فِي الْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ لَا لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ - وَعَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَرْقِيَةِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ يَشْمَلُ الْقِتَالَ وَالنَّفَقَةَ فِيهِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، لِإِبْلَاغِهَا مَقَامَ الْكَمَالِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِبْطَالِ تَبَجُّحِهِمْ وَفَخْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَفْيُ اهْتِدَاءِ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي مَوْضُوعِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا - وَإِنِ اقْتَضَيَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ تَفْضِيلَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى فَرِيقِ السَّدَنَةِ وَالسَّقَّائِينَ - لَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا كُنْهُ هَذَا الْفَضْلِ، وَلَا دَرَجَةُ أَهْلِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَشْرِفُ لَهُ التَّالِي وَالسَّامِعُ، بَيَّنَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ "؟ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ حُكْمِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ: أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَعْلَى مَقَامًا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ مِنْ أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الَّذِي رَأَى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ، الَّذِينَ
لَمْ يَنَالُوا فَضْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ بِنَوْعَيْهِ الْمَالِيِّ وَالنَّفْسِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي التَّفْضِيلِ عَدَمُ ذِكْرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لَهُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ دَرَجَةُ الْإِيمَانِ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَعْظَمُ - وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ ذَلِكَ. (قُلْنَا) لَا مِرَاءَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَكُونُ لِصَاحِبِهَا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِذَا فُعِلَا كَمَا يَرْضَى اللهُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى يُحْبِطُهُمَا وَيُحْبِطُ غَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ أَيْ: وَأُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَثُوبَةِ اللهِ الْفُضْلَى، وَكَرَامَتِهِ الْعُلْيَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ سَقَى الْحَاجَّ، وَعَمَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَثَوَابُ الْمُؤْمِنِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، دُونَ ثَوَابِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا ثَوَابَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُحْبِطُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ فِيهَا حُسْنُ النِّيَّةِ، وَقَلَّمَا يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
وَهَا هُنَا تَسْتَشْرِفُ النَّفْسُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْفَوْزِ الْمُجْمَلِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَيْ: رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ عز وجل وَرِضْوَانٍ أَيْ: نَوْعٍ مِنَ الرِّضَى التَّامِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ، وَلَا يَعْقُبُهُ سَخَطٌ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ لَفْظِ رِضْوَانٍ فِي الْمَبْنَى عَلَى لَفْظِ
رِضًى مَعَ تَنْكِيرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْآتِي وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَيْ: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ عَظِيمٌ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ،
وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً. أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (11: 108) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جل جلاله وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ. فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا -
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (3: 15) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،
قَالُوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَمِنْ تَنَطُّعِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي فَلْسَفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللهِ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَلَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَهُوَ لِقَاؤُهُ وَرِضْوَانُهُ وَرُؤْيَتُهُ عز وجل، وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَهْلِيَّةٌ مِنْ نَزَعَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، مُخَالِفَةٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهَدْيِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُسْلِمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْبِدَعَ الطَّارِئَةَ عَلَى الدِّينِ يُقْصَدُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الدِّينِ تُقَوِّي أُصُولَهُ، وَمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ يَنْتَهِي ذَلِكَ بِهَدْمِ أُصُولِهِ وَمَا شُرِعَ لَهُ. وَإِقَامَةِ الْبِدْعَةِ مَقَامَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ " لِوَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ " مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فَصَوَّرُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَجْلِ الذِّكْرَى وَالِاتِّبَاعِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا صُوَرَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَتْ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ مُنْكَرَةٌ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
دُخُولِهِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ بِدْعَةٍ: يَئُولُ أَمْرُ أَهْلِهَا إِلَى مُحَارَبَةِ السُّنَّةِ، وَعَدَاوَةِ مَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا، وَيُنْكِرُ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَعَنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهَا، كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ دُعَاةِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَصِمِينَ بِهَا أَوْ تَضْلِيلِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ وَبِعَوْدِ حَالَةِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتْ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يُوَفَّى بِهَا، وَلَا أَيْمَانَ يَبَرُّونَهَا، بَلْ يَعْقِدُونَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ، وَيَنْقُضُونَهَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَتْكِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُفَصَّلًا - عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُتِحَ بِهِ بَابٌ لِدَسَائِسِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَرُّمِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ - وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مِنَ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَكْرَارِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ، النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ،
وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الضَّعْفِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ نَعْرَةَ الْقَرَابَةِ، وَرَحْمَةَ الرَّحِمِ، وَبَقِيَّةَ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ ; إِذْ كَانَ لَا يَزَالُ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أُولُو قُرْبَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَيَرْجُونَهُ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ، بَلْ كَانَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ مِنْهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَقَفَّى عَلَيْهِ بِفَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَحُبُوطِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهِ كَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالْعِمَارَةِ الصُّورِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - بَعْدَ هَذَا - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ أَهْلَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْهُ رُضْوَانٌ وَجَنَّاتٌ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَبٍ أَوْ أَخٍ وَلِيًّا لَهُ يَنْصُرُهُ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يُظَاهِرُ لِأَجْلِهِ الْكُفَّارَ، بِأَنْ يَتَّخِذَهُ بِطَانَةً وَوَلِيجَةً يُخْبِرُهُ بِأَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عُلِمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ آيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (16) إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَآثَرُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْحُبِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُبُّ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ، كَمَا عُلِمَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا سِيَّمَا جُمُوعُهُمْ فِي حُنَيْنٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِهَا أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدِ اسْتَخَفَّتْهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ فَكَتَبَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ سِرًّا يُعْلِمُهُمْ فِيهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِتَالِهِمْ ; لِيَتَّخِذَ لَهُ بِذَلِكَ يَدًا عِنْدَهُمْ يُكَافِئُونَهُ عَلَيْهَا بِحِمَايَةِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِمْ وَعَنْ مُوَادَّتِهِمْ، فَتَرَاجَعَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَقْيِيدٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَالَاةِ فَهُوَ
هُنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَقِيلَ: فِيمَا تَقَدَّمَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَبَّاسِ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا دُعِيَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ عِنْدَ مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ شَكَوْا
مِمَّا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحَدَّثُوا بِاسْتِنْكَارِهِ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُزُولِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُ.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (60: 8 و9) فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5: 51) فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ:" بَرَاءَةٍ " بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ " الْمِائِدَةِ ": وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عز وجل الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا; لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ " جِهَادٍ " هُنَا. وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ
دُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ كَابْنِهِ وَزَوْجِهِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْحُبِّ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ مَرَاتِبَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْحُبِّ، وَنُقَفِّي عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَوْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ مِنْهَا، وَلَا يَعْلُو حُبَّهُمَا عِنْدَهُ حُبُّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا:(1) حُبُّ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ لَهُ مَنَاشِئُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ وَشُعُورِهَا وَعَوَاطِفِهَا وَعَوَارِفِهَا وَمَعَارِفِهَا وَطِبَاعِهَا، وَمِنْ عُرْفِ الْأَقْوَامِ وَآدَابِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَشَرَائِعِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَالْوَلَدُ بِضْعَةٌ مِنْ أَبِيهِ يَرِثُ بَعْضَ صِفَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَشَمَائِلِهِ مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَشْعُرُ بِهِ، وَيُنَمَّى فِي نَفْسِهِ بِنَمَاءِ تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ، إِحْسَانُ وَالِدَيْهِ إِلَيْهِ، وَاقْتِرَانُ صُورَتِهِمَا فِي خَيَالِهِ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ لَهُ، وَيَتْلُو هَذَا شُعُورُهُ بِمَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالْعَطْفِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ الْخَالِصِ لَهُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ وَلَا تُهَمَةٌ،
وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ - وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (2: 200) يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ.
تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (17: 23) إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (31: 14) ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (31: 15) .
فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي
نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَنَصْرُ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ لِأَجْلِهِ شِرْكٌ، بَلِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَاءَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَنْصُرُ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ
بِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ حُبِّ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ مَا فِي سَبِيلِهِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي. كَذَلِكَ نَهَاهُمْ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ عَنْ مُوَادَّةِ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ الْمُحَادَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَرْتِيبُ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْحَبِيَّةُ، وَالْمُحَادَّةُ شِدَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَاشْتِرَاكُ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ الْمُحَادِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْمَوَدَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى صِفَتَيْهِمَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مُوَالَاتِهِمْ بَلْ أَخَصُّ مِنْهَا.
(2)
حُبُّ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ لَهُ جَمِيعُ تِلْكَ الْمَنَاشِئِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْعَوَاطِفِ النَّفْسِيَّةِ، وَبَعْضِ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ أَحَرُّ وَأَقْوَى وَأَنْمَى وَأَبْقَى مِنْ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَعْنَى كَوْنِ وَلَدِهِ بِضْعَةً مِنْهُ، وَكَوْنِ وُجُودِهِ مُسْتَمَدًّا مِنْ وُجُودِهِ، وَيَشْعُرُ مَا لَا يَشْعُرُ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُسْخَةً ثَانِيَةً مِنْهُ يُرْجَى لَهَا مِنَ الْبَقَاءِ مَا لَا يُرْجَى لِلنُّسْخَةِ الْأُولَى، فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِهَا فِي حَاضِرِ أَمْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَيُكَابِدُ الْأَهْوَالَ وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِفُ الْحَرَامَ فِي سَبِيلِ السَّعْيِ وَالِادِّخَارِ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (6: 151) الْآيَةَ، أَنَّ عَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يُنَمِّيهَا فِي النَّفْسِ مِنْ قِيَامِ الْوَالِدِ بِشُئُونِ الْوَلَدِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاطِفِ فِي الْحَالِ، وَالذِّكْرَيَاتِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَكَوْنِهِ مَنَاطَ الْآمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (18: 46) قَالُوا: الْمَعْنَى أنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْمَالِ فِيهَا ثَوَابًا، وَخَيْرٌ مِنَ
الْبَنِينَ فِيهَا أَمَلًا، فَهُوَ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْآبَاءِ لِلْبَنِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (3: 14) إِلَخْ.
(3)
حُبُّ الْأُخُوَّةِ يَلِي فِي الرُّتْبَةِ حَبَّ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَالْأَخَوَانِ صِنْوَانِ فِي وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَالْأَخُ الصَّغِيرُ كَالْوَلَدِ، وَالْكَبِيرُ كَالْوَالِدِ، وَيَخْتَلِفَانِ عَنْهُمَا بِشُعُورِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْبَتِ وَطَبَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ يُمَارِي فِيهِ بَعْضُ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ فِطْرَتَهُمْ نَزَعَاتُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ الْعَادِيَّةِ لَا مَنْشَأَ لَهُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ، وَلَا مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ، بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الْأُخُوَّةِ أَعْرَقُ فِي الْغَرِيزَةِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ
مِنْ قَتْلِ أَحَدِ وَلَدَيْ آدَمَ لِأَخِيهِ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، وَعَهْدِ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَأْثِيرِ التَّنَازُعِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ فِعْلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ وَهُمْ مِنْ أَسْلَمِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَخَيْرِهِمْ وِرَاثَةً.
وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (5: 28 و29) وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ
الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5: 30) فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ " بِالتَّطْوِيعِ " مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى شَرْحًا وَاسِعًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ [ص285 ج6 ط الْهَيْئَةِ] .
وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ; لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟ ! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ
لِلْجَهْلِ بِالدِّينِ، وَالْحِرْمَانِ مِنْ هِدَايَتِهِ، بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ
مِنْ إِهْمَالِ تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ - أُذَكِّرُهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ لِلْعَالَمِ الْمَادِّيِّ إِنْكَارَهُ أَوِ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ مِنْ مَنْشَأِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ فِي النَّفْسِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمُ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ طِبَاعِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْعَطْفَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَوْرُوثَةِ وَعَوَاطِفِهَا الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَفِي شُئُونِ الْحَيَاةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَفِي الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا لَيْسَ لِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، بَلْهَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْأَخُ صِنْوُ أَخِيهِ، مَنْبَتُهُمَا وَاحِدٌ، وَدَمُهُمَا وَاحِدٌ، وَوِرَاثَتُهُمَا النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ تَتَسَلْسَلُ مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْعُرُ بِالِاعْتِزَازِ بِعِزَّةِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ يُفْسِدَ فِطْرَتَهُ الْحَسَدُ، وَيَحْفَظَ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا مَا لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتَأْثِيرٌ كَبيرٌ فِي آصِرَةِ الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ، وَمَا زَالَ أَهْلُ الْوَسَطِ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَكَرُمَتْ أَخْلَاقُهُمْ، يُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ كَحُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُوَقِّرُونَ كَبِيرَهُمْ تَوْقِيرَهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَيَرْحَمُونَ صَغِيرَهُمْ رَحْمَتَهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ، وَيَكْفُلُونَ مَنْ يَتْرُكُهُ وَالِدُهُ صَغِيرًا فَيَتَرَبَّى مَعَ أَوْلَادِهِمْ كَأَحَدِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ، وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ هَذِهِ الْإِطَالَةَ النِّسْبِيَّةَ إِلَّا لِيَكُونَ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ دَرْءِ مَفَاسِدِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلْأَرْحَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ.
(4)
حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ شُعُورِ النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ فِي أَنْوَاعِهَا ضُرَيْبٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ مِنْ ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُهَيِّجُهَا دَاعِيَةُ النَّسْلِ، وَغَرِيزَةُ بَقَاءِ النَّوْعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ بِهِ بَشَرَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمًا لِوُجُودِ الْآخَرِ يُنْتِجَانِ بِاتِّحَادِهِمَا بَشَرًا مِثْلَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (3: 14) إِلَى آخِرِهِ وَفِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ)
مِنَ الْمَنَارِ (الْمُجَلَّدُ الثَّامِنُ) وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ هُنَالِكَ عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ أَقْوَى الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَخَّرَهُ هُنَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُبِّ الْمُعَارِضِ لِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا يَخْشَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّمَا تَكُونُ زَوْجُ الرَّجُلِ مُعَارِضَةً لَهُ فِي دِينِهِ وَوِلَايَةِ مَنْ يَدِينُ اللهُ بِوِلَايَتِهِ، كَمَا يُعَارِضُهُ أَبُوهُ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ امْرَأَتِهِ. وَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ فِي عَلَاقَةِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِالْمَرْءِ، وَدَرَجَاتِ لُصُوقِهَا بِهِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
(80: 34 - 36) وَهَذِهِ الْفُرُوقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ هِيَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَنِدُّ عَنْ سَلَائِقِ الْبَشَرِ، وَمَعَارِفِهِمْ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ.
(5)
حُبُّ الْعَشِيرَةِ حُبُّ عَصَبِيَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَاعْتِزَازٍ، وَوِلَايَةٍ وَنَصْرٍ فِي الْقِتَالِ، وَيَكُونُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي أَهْلِ الْبَدَاوَةِ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ، وَقَدْ أَضْعَفَ الْإِسْلَامُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُبِّ وَالْوِلَايَةِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِتَحْرِيمِ الدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَالْقِتَالِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، كَمَا أَضْعَفَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَضَرِيَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي تُوكَلُ فِيهَا حِمَايَةُ الْأَفْرَادِ إِلَى دَوْلَةِ الرَّجُلِ دُونَ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلِهِ، وَتُجْمَعُ الْعَشِيرَةُ عَلَى عَشِيرَاتٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ.
(6)
حُبُّ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَرَفَةِ - أَيِ الْمُكْتَسَبَةِ - طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ ; لِأَنَّ عَنَاءَ الْإِنْسَانِ فِي اقْتِرَافِهَا يَجْعَلُ لَهَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ لِمَا جَاءَهُ عَفْوًا، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (3: 14) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.
(7)
حُبُّ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا، يُرَادُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ عَرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تُجَّارًا كَمَا وَرَدَ، وَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يَخْشَى كَسَادَهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مُسْتَهْلِكِيهَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ أَسْوَاقُهَا تُنْصَبُ فِي أَيَّامِ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ بِمُقْتَضَى الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَاهِيكَ بِحُبِّ أَبِي سُفْيَانَ وَوَلَدِهِ لِلْمَالِ، وَوَلُوعِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْلِيبِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ لِأَجْلِ تِجَارَتِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الشَّامِتِينَ بِهَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَتَأَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، كَمَا اسْتَمَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ:" مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(8)
حُبُّ الْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ مَسْكَنًا يَأْوِيهِ، أَوْ يَمْلِكُ قَصْرًا لَا يُرْضِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدُّورِ الْحَسَنَةِ الَّتِي كَانُوا يَرْضَوْنَهَا لِلْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَيَكُونُونَ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ مَحْرُومِينَ مِنْهَا - وَمَا كَانَ لِبَعْضٍ آخَرَ فِي مَكَّةَ يُعِدُّونَهَا
لِلِاسْتِغْلَالِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ إِذْ يَظْهَرُ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَحْوَالِ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ، وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ مُعَطَّلًا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ مَا بَلَغُوهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ مَعَايِشِ النَّاسِ، قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْعَلَ الْقِتَالَ مَكْرُوهًا فَوْقَ الْكُرْهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ الْوَحْشِيَّةُ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُفَارَقَةِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ بِهَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِحْجَامِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (2: 216) الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (2: 251) وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْإِسْلَامُ أَعْظَمَ مُزِيلٍ لِلْفَسَادِ، وَمُصْلِحٍ لِأَمْرِ الْعِبَادِ، فَرَاجِعْهُ إِنْ كَانَ غَابَ عَنْكَ فَهُوَ يُفِيدُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا. وَزِدْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ إِيثَارُهُ مِنْ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ حُبٍّ، وَتَقْدِيمِ كُلِّ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ عَلَى كُلِّ مَنْفَعَةٍ فِي الْأَرْضِ.
أَمَّا حُبُّ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُبُّ عَبْدِهِ لَهُ - فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ كُلِّ حُبٍّ ; لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْمُتَّصِفُ وَحْدَهُ بِكُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحَبَّ مِنْ جَمَالٍ وَكَمَالٍ، وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ وَمَا يُحَبُّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ صُنْعِهِ وَفَيْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَظْهَرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عَطْفٍ وَأَمَلٍ، شُعْبَةً مِنْ حُبِّ وَاهِبِهِ، وَمُودِعِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ وَالِدَيْهِ لَهُ. وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَمُرَبِّيهِ عِنْدَمَا يَعْقِلُ جُزْءًا مِنْ حُبِّ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهُ لَهُ، وَسَاقَهُ بِغَرِيزَةِ الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ الشَّرِيعَةِ لِتَرْبِيَتِهِ، وَهُوَ عز وجل رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، الْمُرَبِّي الْحَقُّ لِكُلِّ حَيٍّ، بِسُنَنِهِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَلَفُ وَالْعِوَضُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِيَتِيمِهِ، وَمَنْ كُلِّ وَلَدٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْأَخِ لِأَخِيهِ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ حُبُّ الزَّوْجِ لِلزَّوْجِ لَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ الْمَحَبَّةَ الزَّوْجِيَّةَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَمْ يَخُصَّهَا بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) وَحُبُّ الْعَشِيرَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ بِوَشِيجَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ حَلَّ مَحَلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَقْوَى
وَأَعْظَمُ، وَهُوَ تَنَاصُرُ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْكَبِيرَةِ بِمُقْتَضَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصِيرُهُمْ بِوَجْهٍ أَخَصَّ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (3: 126) بِالْوَجْهِ الْأَعَمِّ.
وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا عُرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُرْجَى رَوَاجُهَا، وَيُخْشَى كَسَادُهَا - كُلُّهَا مِنْ جُودِهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْخِيرِهِ - وَحُبُّهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُونَ حُبِّهِ بَلْ هُوَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحُبِّ وَإِنْ فُتِنَ بِهِ أَكْثَرُ الْمَادِّيِّينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ حُرِمُوا تَهْذِيبَ الدِّينِ، فَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَالْمَسَاكِنُ دُونَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَفْقِدُهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ عَنْ كُلِّ مَا فَقَدُوا أَوْ خَافُوا أَنْ يَفْقِدُوا بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَبَ وَهْمُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. وَإِيهَامُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبَبُ الْكَسَادِ وَالْخُسْرَانِ، وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَمْكِينِهِمْ فِيهَا، وَجَعْلِهِمْ أَغْنَى أَهْلِهَا مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (24: 55) إِلَخْ وَلَوْ عَادُوا إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، لَعَادَتْ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخِلَافَةُ.
وَإِنَّ فَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ حُبِّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْخِيرِ قُوَاهَا وَمَنَافِعِهَا لِلنَّاسِ، وَحُبِّهِ لِمَا وَعَدَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَوْعٌ آخَرُ هُوَ حُبُّ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْعُلْيَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَسَبَبَهُ فِي تَفْسِيرِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (2: 165) وَبَيَّنَّا خَطَأَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِ أَنْدَادِهِمْ مَعَهُ فِيهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ يُقَرِّبُونَ مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لِلَّهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ تَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ - وَمِنْ آثَارِهَا التَّدْبِيرُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ خَالِقُهَا وَمُسَخِّرُهَا وَبِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إِنْ شَاءَ وَانْفِرَادُهُ
بِالْأُولُوهِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ وَحْدَهُ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُ مُجْتَمِعٌ ثَابِتٌ كَامِلٌ لَا شَائِبَةَ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا كَوْنَ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَنْدَادِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ نَهْيًا مُقَسَّمًا عَلَى مَعْبُودَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ دَرَجَاتٌ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَعَارِفِهِ بِآيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا قَالَ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (27: 88) وَقَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (32: 7) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (3: 31) كَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَعْنَى حُبِّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَقَدْ جَهِلَ عُلَمَاءُ الْأَلْفَاظِ وَالتَّقَالِيدِ كُنْهَ هَذَا
الْحَبِّ فَتَأَوَّلُوهُ كَمَا تَأَوَّلُوا غَيْرَهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِهِ الْكَمَالِيَّةِ، تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُعَارِضُ تَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ النَّاسِ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمُ التَّعْطِيلَ بِشُبْهَةِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى سَلْبِيٌّ مَحْضٌ ثُمَّ أَعَدْنَا بَيَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (5: 54) .
وَأَمَّا حُبُّ رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ فَهُوَ دُونُ حُبِّهِ عز وجل، وَفَوْقَ حُبِّ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يُحِبُّ مِنَ الْخَلْقِ كَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْمُرْشِدِينَ الْمُرَبِّينَ، وَالْفَنَّانِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالزُّعَمَاءِ السِّيَاسِيِّينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ الْمُثْلَى، فِي أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسَائِرِ هَدْيِهِ، قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِجَعْلِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّ مُتَّبَعِهِ لِلَّهِ عز وجل،
وَجَعَلَ جَزَاءَهُ عِنْدَهُ حُبَّهُ تَعَالَى لِمُتَّبِعِهِ، وَمَغْفِرَتَهُ لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ آيَةِ (3: 31) آلِ عِمْرَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْحُبَّ وَحُبَّ اللهِ تَعَالَى بَيَانًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِمَا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ مُنْكِرًا; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ آيَاتِهِمَا وَنُكْتَةَ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ إِفَادَةُ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَارِكَهُ لِأَجْلِ حُبِّ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِي الْآيَةِ، وَالْجِهَادُ أَنْوَاعٌ تَرْجِعُ إِلَى جِنْسَيْنِ: الْجِهَادُ بِالْمَالِ، وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ. وَالْقِتَالُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الثَّانِي، وَمِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخْرَى عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ. فَمُهَنْدِسُ الْحَرْبِ الْحَقِّ الْعَادِلَةِ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَاضِعُ الرُّسُومِ لِمَوَاطِنِهَا وَطُرُقِهَا كَذَلِكَ، إِلَخْ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ تَامِّ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُ صَحِيحِهِ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ (5: 54) الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا. فَقَوْلُهُ عز وجل فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَ. . . أَبْهَمَ لِتَذْهَبَ أَنْفُسُهُمْ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (52) وَمَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ حُبَّ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى
حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ، وَأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - فَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ (وَكَذَا السُّورَةُ جُلُّهَا أَوْ كُلُّهَا) بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَتَبُوكَ، وَأَنَّهَا مِمَّا بُلِّغَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَوْسِمِ سَنَةِ تِسْعٍ بَعْدَ سُقُوطِ فَرِيضَةِ الْهِجْرَةِ بِنَصِّ حَدِيثِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِلَفْظِ " بَعْدَ الْفَتْحِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ دُونَ الْهِجْرَةِ.
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: خُرُوجُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ عَمَّا كَانَ فِيهِ أَوْ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ أَوِ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرِيعَةِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ فَقَدْ فَسَقَ، قَالَهُ السَّرَقُسْطِيُّ، وَقِيلَ لِلْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسِ فَوَاسِقُ; اسْتِعَارَةً وَامْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، حَتَّى قِيلَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْخُرُوجُ مِنْ حُدُودِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ أَوْ فِيمَا دُونَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَخْصِيصُهُ بِالْأَخِيرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ إِلَى فَسَادِ الطِّبَاعِ، وَمِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (2: 99) بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَمَرِّدًا لَا يَقْبَلُ هِدَايَةَ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ كَالْمُنَافِقِينَ أَوْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَعْرِفُونَ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، فَيُؤْثِرُونَ حُبَّ الْقَرَابَةِ وَالْمَنْفَعَةَ الْعَارِضَةَ كَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُقَابِلِهِ وَعَكْسِهِ فَيُقَالُ:
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ مِنْ مُحِيطِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَنُورِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى أَوِ التَّقْلِيدِ أَوْ يُحْرَمُوا مِنْ فِقْهِ هِدَايَةِ الدِّينِ فَلَا يَعْقِلُونَهَا وَأَهَمُّهَا الْعِلْمُ بِمَا فِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَحُبِّ رَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَلَاءُ وَالِاتِّحَادُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِزَالَةِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَفَاسِدِهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ ثَبَاتِ الْمُلْكِ.
وَصْلٌ فِي كَمَالِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ اكْتِسَابِهِ
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي دِينِ الْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ حُبَّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ، وَلَا حُبَّ الْمَالِ وَالْكَسْبِ وَالاتِّجَارِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ إِيثَارَ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُبِّ مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ إِذَا وَجَبَ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّسَامُحِ فِي الدِّينِ دُونَ تَكْلِيفِ بُغْضِ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ وَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ مَعَهُ بِرَّ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالْعَدْلَ وَالْقِسْطَ فِي مُعَامَلَتِهِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (60: 8، 9) وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا إِلَخْ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (3: 119) وَأَبَاحَ لَهُمْ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْقُلُوبَ مِنْ حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (30: 21) .
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْحُبِّ الْمَشْرُوحِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا - وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ
وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" الْآنَ يَا عُمَرُ ".
وَقَدْ حَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ حُبَّ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِجْلَالِ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرِسَالَتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ وِجْدَانًا مِنْ قَبِيلِ حُبِّ الطَّبْعِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى النَّفْسُ، فَهُوَ كَمَالٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُشَّاقِ لِلْحِسَانِ يَصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْحِسَانِ غَيْرُ أَهْلٍ لِعُشْرِ هَذَا الْحُبِّ، لَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ، فَأَيْنَ مِنْهُ حُبُّ مَنْ هُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَحُسْنٍ وَإِحْسَانٍ، يَتَجَلَّى فِي كُلِّ مَا عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامِ الْأَكْوَانِ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلَ؟ ! .
وَالطَّرِيقُ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحُبِّ كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْتِزَامِ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الذِّكْرُ ذِكْرُ الْقَلْبِ، مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ، وَتَأَمُّلِ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي الْخَلْقِ، بِأَنْ تَذْكُرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ حَسَنٍ وَجَمَالٍ وَكَمَالٍ فِي الْكَوْنِ أَنَّهُ مِنَ اللهِ عز وجل، وَأَنْ تَذْكُرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ نَاطِقٍ مَفْهُومٍ، وَصَامِتٍ مَعْلُومٍ، كَخَرِيرِ الْمِيَاهِ، وَهَزِيزِ الرِّيَاحِ، وَحَفِيفِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْرِيدِ الْأَطْيَارِ. وَكَذَا نَغَمَاتُ الْأَوْتَارِ. وَتَتَذَكَّرَ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ، وَمِنْ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَسْبِيحِ نَبِيِّهِ دَاوُدَ عليه السلام،
فِي زَبُورِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (38: 18، 19) .
وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي خَاتِمَةِ الزَّبُورِ وَهُوَ الْمَزْمُورُ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ: " سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ، سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ، سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ، سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ، سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ، سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ، سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ، سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ، كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ هَلِّلُوا " اهـ.
وَفِي الْمَزَامِيرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ التَّسَابِيحِ فِي الْمَعَازِفِ، وَكَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِنَا، وَشَعَائِرِ شَرِيعَتِنَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنْ نُحْدِثَ شَيْئًا فِي دِينِهِ بِآرَائِنَا وَأَهْوَائِنَا، وَهُوَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَبَلَّغَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَقَالَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَدَعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِدْخَالَ الْمَعَازِفِ وَالرَّقْصِ فِي ذِكْرِ اللهِ بِمَا يَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَجْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّعَائِرِ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ، إِثْبَاتُ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (17: 44) .
فَالَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَسَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، أَنَّهُ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا آخَرَ غَيْبِيًّا لَا نَفْقَهُهُ بِكَسْبِنَا; لِأَنَّنَا لَا نُدْرِكُ حَيَاتَهَا، وَقَدْ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ ثَمَرَةً رُوحِيَّةً لِمَنْ زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ إِلَى نُورِ قُدْسِهِ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
(33: 41 - 43) .
وَمَنْ أَقَامَ فَرَائِضَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ كَمَا نَهَى، وَدَاوَمَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ كَمَا نَدَبَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا أَحَبَّ، فَإِنَّهُ يَصِلُ بِفَضْلِ اللهِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ:" وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " الْحَدِيثَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ كَمَتْنِهِ غَرَابَةٌ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ صِفَةً أَوْ عُضْوًا لِغَيْرِهِ - وَلَا ذَاتَ الْمَخْلُوقِ أَيْضًا - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ هُوَ الشَّاغِلَ الْأَعْظَمَ لِسَمْعِ مَنْ أَحَبَّهُ إِذَا سَمِعَ، وَبَصَرِهِ إِذَا أَبْصَرَ إِلَخْ. وَلِهَذَا مَرَاتِبُ:(أَوَّلُهَا) أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ سَمْعَهُ إِلَّا لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ يَذْكُرُهُ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ كُلِّ إِدْرَاكٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَيَزْدَادُ بِهِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا، وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُ كَلَامِنَا فِي السَّمَاعِ آنِفًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَكُونُ مَوْضُوعَ عِنَايَةِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَسْمَعُهُ عَلَى حَدٍّ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (8: 23) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسْمَعُ، وَرُؤْيَةِ مَا يُبْصِرُ مِنَ الْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقْصِدُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْكَسْبِيَّتَيْنِ. (رَابِعُهُمَا) مَا يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي اللهِ، وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ الْعَبْدُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَالشُّعُورِ بِإِرَادَتِهِ وَحِسِّهِ، وَيَبْقَى لَهُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ بَعْضِ صِفَاتِ رَبِّهِ، وَمَوْضِعٌ تَجَلِّي مَا شَاءَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ عز وجل هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ عليه السلام: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (12: 21) وَهَذَا الْفَنَاءُ وَالشُّعُورُ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ، بِقَطْعِ الْمَرَاحِلِ، وَالتَّنَقُّلِ فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي مِنْ قَبْلِهِ، إِلَّا اللَّمْحَةَ بَعْدَ اللَّمْحَةِ، وَالْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ وَحْدَةُ الشُّهُودِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَرَاءَ هَذِهِ تُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ وُجُودِ الْخَلْقِ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْعَبْدِ هِيَ ذَاتَ الرَّبِّ أَوْ لَا عَبْدَ وَلَا رَبَّ،
وَمَا ثَمَّ إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرُ وَأَطْوَارٌ، كَظُهُورِ الْمَاءِ فِي صُوَرِ الثَّلْجِ الْجَامِدِ وَالسَّائِلِ وَالْبُخَارِ، وَقَدْ يَحْتَجِبُ بِالِانْحِلَالِ إِلَى عُنْصُرِيَّةِ (الْأُكْسُجِينِ وَالْأَدْرُجِينِ) عَنِ الْأَبْصَارِ، فَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَادِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ، اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ صُوفِيَّةِ الْبُوذِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَهِيَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَخُرُوجٌ مِنْ مِلَلِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، وَقَدْ فُتِنَ بِهَا بَعْضُ صُوفِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِيَّاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ، مَا أَضَلَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَبِهَا كَمَا ضَلَّ آخَرُونَ بِالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْإِعْجَابِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ كَشَفَ شُبُهَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَنَّدَهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَبَيَّنَ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ حَقَائِقَ التَّصَوُّفِ
الْمُوَافِقَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ) الَّذِي شَرَحَ بِهِ كِتَابَ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) تَأْلِيفَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ قَدَّسَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَإِنَّنَا نُتِمُّ فَائِدَةَ هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ; لِزَيْغِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، مَعَ اعْتِرَافِ جَمِيعِ أَئِمَّةِ شُيُوخِهِمْ بِأَنَّهُمَا أَصْلُ طَرِيقَتِهِمْ، وَالْبَحْرُ الَّذِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ دُرَرِ حَقَائِقِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَحُبِّهِ يَحْصُلُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَذْوَاقِ الرُّوحِيَّةِ مَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَوَاطِرِهِ وَذَوْقِهِ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْعُرُ بِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا الْكَشْفُ، كَمَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفَلْسَفَةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا حَقَائِقُ أَثْبَتَهَا الْعَقْلُ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَفْتُونَيْنِ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَإِنْ خَالَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ كَلَامَهُمْ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ كَشْفًا، أَوْ تَلَقِيًّا مِنْ مَلَكِ الْإِلْهَامِ،
أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَقَظَةِ أَوِ الْمَنَامِ. وَقَدْ أَبْطَلَتِ الْعُلُومُ الْعَصْرِيَّةُ أُصُولَ فَلْسَفَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ الشَّرْعِيِّينَ فِي حُبِّ اللهِ مَنَازِلُ عَالِيَةٌ وَمَقَامَاتٌ رَاسِخَةٌ. وَمَعَارِفُ وَاسِعَةٌ فِي حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ بِحُبِّ اللهِ مَعَ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ حَقَّهُ فِيمَا يُبْغِضُ اللهُ: وَمَا يُحِبُّ اللهُ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ:
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الْهَوَى
…
وَحُبًّا لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَا
فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الْهَوَى
…
فَشَيْءٌ شُغِلْتُ بِهِ عَنْ سِوَاكَا
وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ
…
فَكَشْفُكَ لِيَ الْحُجْبَ حَتَّى أَرَاكَا
وَالَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ هَذَا الشِّعْرِ أَنَّ الْحُبَّ الْأَوَّلَ هُوَ حُبُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ حَيْرَةٌ شَاغِلَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهَا. وَالثَّانِي حُبُّ الْمَعْرِفَةِ وَغَايَتُهَا رَفْعُ الْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِكَرَامَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى وَهَذِهِ الْحُجُبَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الرُّؤْيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ كَتَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَيَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَعُدُّهُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ حُبُّهُ حُبَّ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْرِفَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ مِنْ هَذَا الْحُبِّ فَعَلَيْكَ بِمَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
هَذَا - وَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الرَّقِيقَةِ فِي صِفَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لِلْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ، وَالْمَدَدِ الْأَكْمَلِ فِي الشَّرِيعَةِ الشَّامِلَةِ لِلطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ، خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّشْرِيعِ السَّمَاوِيِّ، وَمُشْرِقِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ، الرَّحْمَةِ الْمُرْسَلَةِ لِلْعَالِمِينَ، مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مَا يَجْعَلُ حُبَّهُ هُوَ الْمِعْرَاجَ الْأَعْلَى إِلَى حُبِّ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَاتِّبَاعَهُ هُوَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ إِلَى نَيْلِ مَقَامِ الْحُبِّ مِنَ اللهِ، بِنَصِّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (3: 31) مَعَ التَّفْرِقَةِ التَّامَّةِ بَيْنَ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ
وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَطْلُبُ إِلَّا مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لِلَّهِ بَلْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا اللهَ، كَمَا نُورِدُ فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا الدُّعَاءَ.
وَإِذَا صَحَّ لِلْإِنْسَانِ حُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ وَكَمُلَ فِيهِمَا، صَارَتْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ الْحَيَوَانِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْمُنَادَى تَابِعَةً وَمُمِدَّةً لَهُمَا، حَتَّى تَغْرَقَ أَوْ تَفْنَى فِيهِمَا، فَهُوَ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ الْفِطْرِيِّ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَوَسُّلًا بِهِ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَتَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيضِ الْخَنْسَاءِ رضي الله عنها لِأَوْلَادِهَا عَلَى الْجِهَادِ بِشِعْرِهَا حَتَّى قُتِلُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُزْنِهَا عَلَى أَخَوَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. وَمَا فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ السِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْحُبِّ الْمَادِّيِّ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِشَهَوَاتِهِمْ، وَإِيثَارِهِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ أَعْدَائِهِمْ، وَلَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِتَرْبِيَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى تَوْطِينِهَا عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يُتَحْ لَهُ الْمَوْتُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَعَلَيْهِ بِطَلَبِ الْمَوْتِ الْإِرَادِيِّ فِي جِهَادِ النَّفْسِ، فَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتٍ، وَالْمَوْتُ آيَةُ الْحُبِّ الصَّادِقِ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ بِهِ
…
شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ
وَلَهُ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا يَجْعَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مُشَاهَدَةً مَاثِلَةً، وَالدَّلَائِلَ الشَّرْعِيَّةَ وَقَائِعَ حِسِّيَّةً، فِي آثَارِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَإِيثَارِ الْأَنْصَارِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَبَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْمُنَافِقِينَ، فِيمَا كَانَ مِنْ خِذْلَانٍ وَهَزِيمَةٍ، وَمِنْ نَصْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ الْكَثِيرَةِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ عَدَدُهُمْ وَعَتَادُهُمْ قَلِيلًا لَا يُرْجَى مَعَهُ النَّصْرُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَةِ، وَابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْهَزِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى عَجَبِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهَا، وَنَصْرِهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ لَدُنْهُ - ; لِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ عِنَايَتَهُ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ، أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَدْنَى إِلَى النَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، كَالْكَثْرَةِ الْعَدَدِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَعَلَ هَذَا التَّذْكِيرَ تَالِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ آبَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِلْوَعِيدِ عَلَى إِيثَارِ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْعَشِيرَةِ " وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ " وَالْمَالُ وَالسَّكَنُ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، تَفْنِيدًا لِوَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ - مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ - لَهُمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ عَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْ قِتَالِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ، وَلِكَسَادِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُ الْمُهِمَّ مِنْهُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، قَالَ عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ
الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَهْيٍ وَوَعِيدٍ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ لِلْمُؤْمِنِ فِي تَرْكِ وِلَايَةِ أُولِي الْقُرْبَى مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ أُولِي الْقُرْبَى وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ مِمَّا يُحِبُّ لِلْقُوَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَلِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِ
الدُّنْيَا، فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ لَمْ يَكُنْ بِقُوَّةِ عَصَبِيَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا بِقُوَّةِ الْمَالِ، وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الزَّادِ وَالْعَتَادِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْوَمُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ.
وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهِيَ مَشَاهِدُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِعُهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَقَرُّ الْإِنْسَانِ وَمَحَلُّ إِقَامَتِهِ كَالْوَطَنِ. وَوَصَفَهَا بِالْكَثِيرَةِ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرَ سَرَايَاهُ الَّتِي أَرْسَلَ فِيهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْغَزْوَةِ - وَمِثْلُهَا الْغَزَاةُ وَالْمَغْزَى - إِلَّا عَلَى مَا تَوَلَّاهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ مِنْ قَصْدِ الْكُفَّارِ إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنْ بِلَادِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. وَسَأَلَهُ: كَمْ غَزَا مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ: كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ الْغَزَوَاتُ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدَ الْغَزَوَاتِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا، فَفَاتَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذِكْرُ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا الْأَبْوَاءُ وَبُوَاطٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ بِنَفْسِهِ فِي ثَمَانٍ: بَدْرٍ ثُمَّ أُحُدٍ ثُمَّ الْأَحْزَابِ ثُمَّ الْمُصْطَلِقِ ثُمَّ خَيْبَرَ ثُمَّ مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، (قَالَ) وَأَهْمَلَ غَزْوَةَ قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّهُ ضَمَّهَا إِلَى الْأَحْزَابِ; لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي أَثَرِهَا، وَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ لِوُقُوعِهَا مُنْفَرِدَةً بَعْدَ هَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ. وَكَذَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ عَدُّ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً لِتَقَارُبِهِمَا، فَيَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَوْلُ جَابِرٍ. وَقَدْ تَوَسَّعَ ابْنُ سَعْدٍ فَبَلَغَ عَدَدُ الْمَغَازِي الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِدَيَّ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا عَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ وَادِيَ الْقُرَى مِنْ خَيْبَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ، وَكَأَنَّ السِّتَّةَ الزَّائِدَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. إِلَخْ. وَوَضَّحَ الْحَافِظُ هَذَا الْبَسْطَ مِنْ جَانِبٍ، وَتَدْخُلُ بَعْضُ الْمَغَازِي الْمُتَقَارِبَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَانَ خَيْرَ جَمْعٍ بَيْنَ الْأَقْوَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ
ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ (كَذَا) وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ سِتًّا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ الْمَسْعُودِيِّ سِتِّينَ، وَبَلَغَهَا شَيْخُنَا زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِينَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَمَّ الْمَغَازِي إِلَيْهَا. اهـ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُغَازِيَ وَالسَّرَايَا كُلَّهَا ثَمَانُونَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا كُلُّهَا قِتَالٌ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِيهَا، كَمَا أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ إِمَّا نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا كَامِلًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَاسِيَّمَا بَدْرٌ وَالْخَنْدَقُ وَغَزَوَاتُ الْيَهُودِ وَالْفَتْحُ، وَإِمَّا نَصْرًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْبِيَةِ عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا كَمَا وَقَعَ فِي أُحُدٍ إِذْ نَصَرَهُمُ اللهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَظْهَرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ الْقَائِدِ الْأَعْظَمِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ أَوَامِرِ الْحَرْبِ، وَهُوَ حِمَايَةُ الرِّمَايَةِ لِظُهُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِهَا - وَكَمَا
كَانَ فِي حُنَيْنٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ، وَالنَّصْرِ الْعَزِيزِ التَّامِّ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا، وَهُوَ وَادٍ إِلَى جَانِبِ ذِي الْمَجَازِ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، هَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّ لَيَالٍ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي لِلْآلُوسِيِّ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الطَّائِفِ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ أَوْطَاسًا وَغَزْوَةَ هَوَازِنَ. وَأَوْطَاسٌ كَمَا فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَادٍ فِي أَرْضِ هَوَازِنَ كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَنِي هَوَازِنَ، وَمِثْلُهُ فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا لِغَزْوَةِ أَوْطَاسٍ بَعْدَ سُوقِ الرِّوَايَاتِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَرْبِ حُنَيْنٍ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَادِيَ أَوْطَاسٍ غَيْرُ وَادِي حُنَيْنٍ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَطَائِفَةٌ إِلَى بَجِيلَةَ، وَطَائِفَةٌ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَسْكَرًا مُقَدَّمَهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَنْ مَضَى إِلَى أَوْطَاسٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ إِلَى الطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللهِ الْبَكْرِيُّ: أَوْطَاسٌ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُنَاكَ عَسْكَرُوا هُمْ وَثَقِيفٌ ثُمَّ الْتَقَوْا بِحُنَيْنٍ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الِاسْمَيْنِ: وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ
بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمَّى غَزْوَةً; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَرْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا جُمُوعَ الْعَرَبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى لِقِتَالِهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا هُمُ الْمُوقِدِينَ لِنَارِ الْحَرْبِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بَدَلٌ مِنْ " يَوْمِ حُنَيْنٍ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا سَبَقَهُ أَنَّهُ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ فِيهَا بِالنَّصْرِ بِمَحْضِ اسْتِعْدَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ; لِقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعَتَادِكُمْ، وَنَصَرَكُمْ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَعْجَبَتْكُمْ فِيهِ كَثْرَتُكُمْ إِذْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ الْكَافِرُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَطْ، فَقَالَ قَاتِلُكُمْ مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِ الْكَثِيرِينَ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْكَثْرَةُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ رُوَاةِ السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَنَرُدُّهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. اهـ. أَيْ وَقَعَتْ بِأَسْبَابِهَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَتَرْبِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى الْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الْكَثِيرَةِ لِلنُّصْرَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قِيمَةَ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالصَّبْرِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 249) وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ بِأَسْبَابِهَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ.
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ وَغَرَّتْكُمْ كَافِيَةً لِانْتِصَارِكُمْ بَلْ لَمْ تَدْفَعْ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَارِ الْغَلَبِ وَالْهَزِيمَةِ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أَيْ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا وَسِعَتِهَا فَلَمْ تَجِدُوا لَكُمْ فِيهَا مَذْهَبًا وَلَا مُلْتَحَدًا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ وَلَّيْتُمْ ظُهُورَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ مُدْبِرِينَ لَا تَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السِّكِّينَةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ النَّفْسِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ ضِدُّ الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَفْرَغَ مِنْ سَمَاءِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَكِينَتَهُ اللَّدُنِّيَّةَ عَلَى رَسُولِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ لَهُ مَا عَرَضَ مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ كَالطَّوْدِ الرَّاسِي نَفَسًا، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَبَأْسًا
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ وَأَحَاطُوا بِبَغْلَتِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ اللُّهَامِ كَمَا يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ، ثُمَّ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فَأَذْهَبَ رَوْعَهُمْ، وَأَزَالَ حَيْرَتَهُمْ وَاضْطِرَابَهُمْ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ زَالَ أَوْ زُلْزِلَ مِنْ ثَبَاتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ مَا سَمِعُوا نِدَاءَهُ صلى الله عليه وسلم وَنِدَاءَ الْعَبَّاسِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ بِأَمْرِهِ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ " وَعَلَيْكُمْ " ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَتَأْتِي شَوَاهِدُهُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أَيْ: وَأَنْزَلَ مَعَ هَذِهِ السِّكِّينَةِ جُنُودًا رُوحَانِيَّةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَرَوْهَا بِأَبْصَارِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُمْ أَثَرَهَا فِي قُلُوبِكُمْ، بِمَا عَادَ إِلَيْهَا مِنْ ثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ، مَا دَامُوا يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ وَيُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا وَعَدَكُمْ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَوِ الْبَلَاغِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (14) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي قِتَالِ مَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا التَّعْذِيبِ الَّذِي يَكُونُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحِطْ بِهِمْ خَطِيئَاتُ جَهَالَةِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخْتِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ، أَوِ الْجُمُودِ عَلَى مَا أَلِفُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَاللهُ غَفُورٌ لِمَنْ يَتُوبُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي رَحِيمٌ بِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ " يَتُوبُ " إِعْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي حُنَيْنٍ مِنْ إِيمَانِ أَكْثَرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ غُلِبُوا وَعُذِّبُوا بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، سَيَقَعُ مِثْلُهُ لِكُلِّ الَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَمَا مِنْ حَرْبٍ مِنْ حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا وَكَانَ عَاقِبَتُهَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا صَارَ الْإِسْلَامُ جِنْسِيَّةً، وَحُرُوبُ أَهْلِهِ أَهْوَاءً دُنْيَوِيَّةً فَقَدُوا ذَلِكَ.
(فَصْلٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، الْمُفَسِّرَةِ لِإِجْمَالِيِّ هَذِهِ الْآيَاتِ)
الْخُرُوجُ إِلَى حُنَيْنٍ وَالْقِتَالِ وَالْهَزِيمَةِ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ أَهْلُ الْمَغَازِي: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ لَسِتٍّ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْخُرُوجِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، وَسَارَ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَكَانَ وُصُولُهُ
إِلَيْهَا فِي عَاشِرِهِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ جَمَعَ الْقَبَائِلَ مِنْ هَوَازِنَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَفِيُّونَ، وَقَصَدُوا مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ: حَدَّثَنَا الْحِزَامِيُّ
يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ - حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قِصَّةِ الْفَتْحِ - فَذَكَرَ لَهُ وَقْتَهَا - فَأَقَامَ عَامَئِذٍ بِمَكَّةَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَتَاهُ أَنَّ هَوَازِنَ وَثَقِيفًا قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا يُرِيدُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَئِيسُهُمْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظَعْنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:" تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ اهـ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بَكْرٍ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَيِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَقُولُ: وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْآلَافِ فَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عِبَارَةٌ مُبْهَمَةٌ بَلْ غَلَطٌ فِي هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ الْتَفَتْ عَنْ يَسَارِهِ (فَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ) إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: مِنَ الطُّلَقَاءِ غَلَطٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَمِنَ الطُّلَقَاءِ. وَهِيَ مُبْهَمَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهِيَ " وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ " إِلْخَ. وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَهَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءُ كَانُوا أَلْفَيْنِ. وَكَانَ حَالُ بَعْضِ الْأَلْفَيْنِ وَخِفَّةُ بَعْضِ الشُّبَّانِ هُمَا السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِلْهَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُنَافِقًا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ وَوَطَنِهِ وَمَهْدِ دِينِهِ وَمَعْهَدِ عِزِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَبَعْضُهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَأَلَّفُهُمْ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ وَفَضْلُهُ
بِالْعَمَلِ وَمُعَاشَرَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيَزُولُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أُلْفَةِ الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ - بَلِ الْكُفْرَ - عِنْدَ مَا وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْوِي قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ. كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ فِي الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي لِلْهَزِيمَةِ فَهُوَ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا عَنِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَتْهُمْ هَوَازِنُ وَبَنُو نَصْرٍ بِالسِّهَامِ، وَكَانُوا رُمَاةً لَا يَكَادُ يُخْطِئُ لَهُمْ سَهْمٌ.
رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مَنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ - وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا - وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا وَلَّى. وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخَفَاءً مِنَ النَّاسِ وَحَسْرَةً؟ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " اللهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ " قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهَنَا الْعَدُوُّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي فَمَا دَرِيتُ مَا أَصْنَعُ، وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِأَحَدِهِمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا " فَلَمَّا غَشَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ.
عَدَدُ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حُنَيْنٍ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْحَارِثَ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ صلى الله عليه وسلم مَا نَصُّهُ: وَعِنْدَ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ
يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ (قَالَ) وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ لَمُوَلُّونَ وَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ رَجُلٍ. وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ مَنْ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. وَهَذَا لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُرْسَلِ الْحَاكِمِ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا عَشَرَةً فَقَطْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
نَصْرنَا رَسُولَ اللهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً
…
وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا
وَعَاشَرَنَا وَافِيَ الْحَمَامِ بِنَفْسِهِ
…
لِمَا مَسَّهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجَّعُ
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الثَّبْتُ، وَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ عَجَلَ فِي الرُّجُوعِ فَعُدَّ فِيمَنْ
لَمْ يَنْهَزِمْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ
وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعُتْبَةُ وَمُعَتَّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا اسْتَدْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ لَهُ:" قَاتِلِ الْكُفَّارَ " فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا اهـ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَجْنَابِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْنَا شِدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمَّ قَالَ:" إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ " وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
ظُهُورُ شَمَاتَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْهَزِيمَةِ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ. وَصَرَّحَ جِبِلَّةُ بْنُ الْجُنَيْدِ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ صَوَابُهُ كَلَدَةُ - أَلَا قَدْ بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اسْكُتْ فَوَاللهِ لَأَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَعَسَى إِنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غُرَّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ، فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْتُ مُرْصِدًا لِمَا خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إِلَّا قُوَّةً، فَلِمَا اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصَلْتُ السَّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتَّى كِدْتُ أُشْعِرُهُ إِيَّاهُ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ يَكَادُ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَانِي " يَا شَيْبُ ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ
صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ:" اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ " قَالَ: فَوَاللهِ لَهْوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ:" ادْنُ فَقَاتِلْ " فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي - اللهُ أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةِ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَوْقَعْتُ بِهِ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُ أَلْزَمُهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَتَّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ فَكَرُّوا كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَرُبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَوَى عَلَيْهَا وَخَرَجَ فِي إِثْرِهِمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي حُبًّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ، فَقَالَ:" يَا شَيْبُ الَّذِي أَرَاكَ اللهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ " ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ قَطُّ. (قَالَ) فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لِي فَقَالَ:" غَفَرَ اللهُ لَكَ " اهـ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مَنْ هَذَا عَنِ النَّضْرِ أَوِ النَّضِيرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ وَهُوَ كَافِرٌ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِعْرَانَةِ بِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ
فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ نَضِيرٍ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَهُ.
تَرَاجَعُ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَرَ اللهُ لَهُمْ:
رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَفَّاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قَبْلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكُفُّهَا إِرَادَةً أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ " فَقَالَ عَبَّاسٌ (وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ:" انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ " قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ زِيَادَةٌ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ كَلِمَةِ الْعَبَّاسِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرَارَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فَجْأَةً لانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَرَشْقِهِمْ بِالسِّهَامِ، وَلِاخْتِلَاطِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَمِمَّنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ إِلَخْ. وَفِي السِّيَرِ أَنَّ خَبَرَ الْهَزِيمَةِ بَلَغَ مَكَّةَ فَشَمِتَ مُنَافِقُوهَا.
وَفْدُ هَوَازِنَ وَإِسْلَامُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ وَسَبْيُهُمْ:
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ " وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:" أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ " فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ " فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. هَذَا الَّذِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ اهـ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ هُوَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَتَطَيُّبُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ إِعْطَاؤُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
بِلَا مُقَابِلٍ، وَالْعُرَفَاءُ: جَمْعُ عَرِيفٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ
وَيَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ ; لِيُخْبِرَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَحَسُنَ. وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ لِأَجْلِ عِتْقِ السَّبْيِ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: سَاقَ الزُّهْرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَدْ سَاقَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَبِهَا السَّبْيُ - يَعْنِي سَبْيَ هَوَازِنَ - وَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فِيهِمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَهُنَّ مَخَازِي الْأَقْوَامِ فَقَالَ: " سَأَطْلُبُ لَكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَلسَّبْيُ أَمِ الْمَالُ؟ " قَالُوا: خَيَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ فَالْحَسَبُ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ. فَقَالَ: " أَمَّا الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَوْفَ أُكَلِّمُ لَكُمُ الْمُسْلِمِينَ فَكَلِّمُوهُمْ وَأَظْهِرُوا إِسْلَامَكُمْ " فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْهَاجِرَةَ قَامُوا فَتَكَلَّمَ خُطَبَاؤُهُمْ فَأَبْلَغُوا وَرَغِبُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدَّ سَبْيَهُمْ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغُوا فَشَفَعَ لَهُمْ وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَالَ: " لَقَدْ رَدَدْتُ الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِمْ " فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَدَدُ الْوَفْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: وَأَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ قَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّوَاتِيَ فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَكْفُولٍ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ الْمَشْهُورَةَ أَوَّلُهَا:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللهِ فِي كَرَمٍ
…
فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
وَيَقُولُ فِيهَا:
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
…
إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ
ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ نَحْوَ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ اهـ. وَيَعْنِي الشَّاعِرُ الْخَطِيبُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ قَرَابَةِ السَّبَايَا لِلْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم قَرَابَةَ الرَّضَاعِ، فَقَدْ كَانَ بَنُو سَعْدٍ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ فِي السَّبَايَا أُخْتُهُ (الشَّيْمَاءُ) وَقَدْ أَكْرَمَهَا وَحَبَاهَا، وَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ (حَلِيمَةُ) مُرْضِعَتُهُ أَيْضًا، وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الْوَفْدِ عَمُّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو مَرْوَانَ، وَيُقَالُ: ثَرَوَانُ وَبُرْقَانُ، كَمَا كَانَ هَذَا الْخَطِيبُ مِنْهُمْ أَيْضًا.
وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ رِجَالَ الْوَفْدِ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَنَّ مِمَّا قَالَهُ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فِي السَّبَايَا: وَأَنَّ أَبْعَدَهُنَّ قَرِيبٌ مِنْكَ، حِضْنُكَ فِي حُجُورِهِنَّ، وَأَرْضَعْنَكَ بِثَدْيِهِنَّ، وَتَوَرَّكْنَكَ عَلَى أَوْرَاكِهِنَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ.
قِسْمَةُ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ
(وَإِيثَارُ قُرَيْشٍ وَلَاسِيَّمَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَحِرْمَانِ الْأَنْصَارِ) كَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ قَضَى عُرْفُ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ اسْتِرْقَاقَهُمْ، وَأَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِرْضَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْغَانِمِينَ، فَجَمَعَ بَيْنَ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ، وَاتِّقَاءِ تَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَتِ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيَّةٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَثْرَةِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ الَّذِي جَمَعَ الْقَبَائِلَ لِلْقِتَالِ، سَاقَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَثْبُتُوا وَلَا يَفِرُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْخِيرًا مِنَ اللهِ تَعَالَى; لِيَكُونُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَسَّمَهَا وَأَفَاضَ فِي الْعَطَاءِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ طُلَقَاءِ يَوْمِ الْفَتْحِ وَجَدَ الْأَنْصَارُ وَتَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
وَخَطَبَ فِيهِمْ فَأَرْضَاهُمْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَغَازِي فَنَذْكُرُ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! " أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبِهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ".
وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِين أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ
دِمَائِهِمْ. (قَالَ أَنَسٌ) : فَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا
يَنْقَلِبُونَ بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " سَتَجِدُونَ أَثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ " قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ نَصْبِرْ ; لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ - كَذَا فِيهِمَا - بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ " إِلَخْ.
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ وَهُوَ أَخْصَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا: أَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهَ اللهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيـ
…
دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسُ
…
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
…
وَمَنْ تَخَفَّضَ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً اهـ. وَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ الَّذِينَ أَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ فَبَلَغُوا أَرْبَعِينَ وَنَيِّفًا.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُتَقَدِّمِ: " لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا " وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ الرَّاوِي أَدَبًا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فُسِّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظِهِ فَقَالَ: " أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصَدَقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاكَ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ " أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ؟ " فَقَالُوا: بَلِ الْمَنُّ عَلَيْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ. وَأَقُولُ: هَذَا مِنْ عَجَائِبِ تَوَاضُعِهِ وَلُطْفِهِ وَدَقَائِقِ حِكْمَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَ مَا لَعَلَّهُ يَخْتَلِجُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ مَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ بِهِدَايَتِهِ، وَمَا كَانُوا قَبْلَهَا إِلَّا قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُتَعَادِيَةَ الْمُتَبَاغِضَةِ، لَا هَمَّ لِإِحْدَاهُمَا إِلَّا الْفَتْكُ بِالْأُخْرَى فَصَارُوا أَعَزَّ الْعَرَبِ وَمَفْخَرَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَنَزَلَ فِيهِمْ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (3: 103) الْآيَةَ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى يَتَعَبَّدُ الْمَلَايِينُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِتِلَاوَتِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ بَكَى الْقَوْمُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحَاهُمْ بِالدُّمُوعِ رضي الله عنهم. وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ مَا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ نَفَعَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
(فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْغَزْوَةُ) مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْحِكَمِيَّةِ
كَانَ اللهُ عز وجل قَدْ وَعَدَ رَسُولَهُ وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ أَنَّهُ إِذَا فَتَحَ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، وَدَانَتْ لَهُ الْعَرَبُ بِأَسْرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْفَتْحُ الْمُبِينُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ أَمْسِكْ قُلُوبَ هَوَازِنَ وَمَنْ تَبِعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَجْمَعُوا وَيَتَأَلَّبُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ ; لِيَظْهَرَ أَمْرُ اللهِ وَتَمَامُ إِعْزَازِهِ لِرَسُولِهِ وَنَصْرِهِ لِدِينِهِ ; وَلِتَكُونَ غَنَائِمُهُمْ شُكْرَانًا لِأَهْلِ الْفَتْحِ ; وَلِيُظْهِرَ اللهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ
وَقَهْرَهُ لِهَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا فَلَا يُقَاوِمُهُمْ بَعْدُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَلُوحُ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، وَتَبْدُوا لِلْمُتَوَسِّمِينَ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ أَذَاقَ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، لِيُطَامِنَ رُؤُوسًا رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ، وَلَمْ تَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ كَمَا دَخَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعًا رَأْسَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى فَرَسِهِ، حَتَّى إِنَّ ذَقْنَهُ يَكَادُ أَنْ يَمَسَّ سَرْجَهُ، تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ، وَخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِكَانَةً
لِعِزَّتِهِ، أَنْ أَحَلَّ لَهُ حَرَمَهُ وَبَلَدَهُ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، وَلِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ - أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يَنْصُرْهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، وَمَنْ يَخْذُلْهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى نَصْرَ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، لَا كَثْرَتُكُمُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ فَإِنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا فَوَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.
فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ، مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرْوَهَا (26) وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ خَلَعَ النَّصْرَ وَجَوَائِزَهُ إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (28: 5، 6) .
وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا مَنَعَ الْجَيْشَ غَنَائِمَ مَكَّةَ فَلَمْ يَغْنَمُوا مِنْهَا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا مَتَاعًا وَلَا سَبْيًا وَلَا أَرْضًا كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، وَكَانُوا قَدْ فَتَحُوهَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ وَفِيهِمْ حَاجَةٌ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجَيْشُ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ، فَحَرَّكَ سُبْحَانَهُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ لِغَزْوِهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ إِخْرَاجَ أَمْوَالِهِمْ وَنِعَمِهِمْ وَشِيَاهِهِمْ وَسَبْيِهِمْ مَعَهُمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً وَكَرَامَةً لِحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ، وَتَمَّمَ تَقْدِيرَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ أَطْعَمَهُمْ فِي الظَّفَرِ، وَأَلَاحَ لَهُمْ مَبَادِئَ النَّصْرِ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (8: 42) فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَبَرَدَتِ الْغَنَائِمُ لِأَهْلِهَا، وَجَرَتْ فِيهَا
سِهَامُ اللهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي دِمَائِكُمْ، وَلَا فِي نِسَائِكُمْ وَذَرَارِيكُمْ، فَأَوْحَى اللهُ سُبْحَانَهُ إِلَى قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ، فَجَاءُوا مُسْلِمِينَ، فَقِيلَ: إِنَّ مِنْ شُكْرِ إِسْلَامِكُمْ وَإِتْيَانِكُمْ أَنْ نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَسَبْيَكُمْ، إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (8: 70) .
وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ غَزْوَ الْعَرَبِ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَخَتَمَ غَزْوَهُمْ بِغَزْوَةِ حُنَيْنٍ ; وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ بِالذِّكْرِ فَيُقَالُ: بَدْرٌ وَحُنَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعُ سِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ قَالَتْ بِأَنْفُسِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَمَى فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ فِيهِمَا، وَبِهَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ طَفِئَتْ جَمْرَةُ الْعَرَبِ لِغَزْوِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، فَالْأُولَى خَوَّفَتْهُمْ وَكَسَرَتْ مِنْ حَدِّهِمْ، وَالثَّانِيَةُ اسْتَفْرَغَتْ قُوَاهُمْ، وَاسْتَنْفَدَتْ سِهَامَهُمْ، وَأَذَلَّتْ جَمْعَهُمْ، حَتَّى لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَبَرَ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ، وَفَرَّحَهُمْ بِمَا نَالُوهُ مِنَ النَّصْرِ وَالْمَغْنَمِ وَكَانَتْ كَالدَّوَاءِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ كَسْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَيَّنَ جَبَرَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ تَمَامَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا صَرَفَ
عَنْهُمْ مِنْ شَرِّ هَوَازِنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ، وَإِنَّمَا نُصِرُوا عَلَيْهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أُفْرِدُوا عَنْهُمْ لَأَكَلَهُمْ عَدُوُّهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى اهـ.
ثُمَّ عَقَدَ فُصُولًا أُخْرَى لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْفِقْهِ.
افْتِرَاءُ الرَّوَافِضِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ
(وَالطَّعْنُ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ)
مُلَخَّصُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَنْ جَيْشَ الْمُسْمِلِينَ كَانَ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ أَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُ الْمُصِرُّ عَلَى شِرْكِهِ، الَّذِي يَتَرَبَّصُ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ لِيَثْأَرَ مِنْهُمْ، وَالَّذِي يُرِيدُ قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ
ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ وَالشُّبَّانُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْغَنِيمَةِ لَا لِإِعْزَازِ الْحَقِّ بِالْجِهَادِ.
وَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ رَشْقُ النِّبَالِ كَرِجْلِ الْجَرَادِ فَرَّ هَؤُلَاءِ وَأَدْبَرُوا فَذُعِرَ الْجَيْشُ، وَفَرَّ غَيْرُهُمُ اضْطِرَابًا، كَمَا هِيَ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَا جُبْنًا، وَكَانَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ذَلِكَ تَرْبِيَةَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَعَادَتِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُفَارِقُونَهُ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ عَدَّهُمْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَدَّ مَنْ رَآهُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ سَائِرَ الْجَيْشِ قَدِ انْهَزَمَ جُبْنًا، وَتَرَكَ الرَّسُولَ وَهُوَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ عَمْدًا، بَلْ وَلَّى الْجُمْهُورُ مُدْبِرِينَ بِالتَّبَعِ لِلطُّلَقَاءِ وَالْأَحْدَاثِ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْ رَشْقِ السِّهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأُلُوفِ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ عليه الصلاة والسلام، كَمَا عَرَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا الْأَنْصَارُ بِمَكَانِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِدَاءِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه أَسْرَعُوا فِي الْعَطْفِ وَالرُّجُوعِ. هَذَا مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ.
وَأَمَّا الرَّوَافِضُ فَإِنَّهُمْ يَطْعَنُونَ كَعَادَتِهِمْ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرُّوا كُلُّهُمْ جُبْنًا وَعِصْيَانًا لِلَّهِ، وَإِسْلَامًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَاسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، إِلَّا نَفَرَا قَلِيلًا لَا يَتَجَاوَزُونَ الْعَشَرَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ثَبَتُوا بِالتَّبَعِ لِثَبَاتِ عَلِيٍّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ وَحْدَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَقُتِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَزَالَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْأَرْضِ.
ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 3، 4 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كِتَابًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ
كَبَّرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ تِلَاوَةِ (عَلِيٍّ) أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَصَغَّرَ إِمَارَةَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَفَنَّدْنَا شُبَهَهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ كَبَّرَ صَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ ثَبَاتَ عَلِيٍّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حُنَيْنٍ أَضْعَافَ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ، وَحَقَّرَ سَائِرَ الصَّحَابَةِ أَقْبَحَ التَّحْقِيرِ، وَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ
فَرَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ الْفَارِّينَ، وَهَمَّ بِزَعْمِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا عَلِيًّا وَثَلَاثَةَ رِجَالٍ وَقِيلَ تِسْعَةٌ " ثَبَتُوا بِثَبَاتِهِ.
أَمَّا زَعْمُهُ أَنَّ عُمَرَ قَدْ فَرَّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا أَصْحَابُ السِّيَرِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بِهِ رِوَايَةَ قَتَادَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ذَكَرَ فِيهَا هَزِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ انْهَزَمَ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اهـ. فَوَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا فِي كَلَامِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ ; لِئَلَّا يَضِلَّ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى كِتَابِهِ فِي فَهْمِهَا.
قَالَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ إِلَخْ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ رَوَى بِإِسْنَادِهِ، أَنَّهُ رَوَاهُ مُسْنَدًا مَوْصُولًا، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيهِ مُعَلَّقَةٌ بَدَأَهَا الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ إِلَخْ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ (يَعْنِي يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ) وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ اهـ. وَيُرِيدُ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ ذِكْرَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا الرَّافِضِيُّ; لِأَنَّ غَرَضَهُ مَحْصُورٌ فِي قَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ " لِيُفَسِّرَهُ بِأَنَّهُ فِي النَّاسِ الْفَارِّينَ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ مُحْتَمَلَةٌ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ ثَبَتُوا، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْقَسْطَلَانِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ فِي النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَزِمُوا، وَمَتَى كَانَ عُمَرُ جَبَانًا يَفِرُّ مِنَ الْقِتَالِ؟ ! وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو اللهَ بِأَنْ يُعِزَّ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يَشُدُّ بِهِ الدِّينَ " فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا عُبِدَ اللهُ جَهْرَةً حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ.
وَقَدْ طَعَنَ الرَّافِضِيُّ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَلَاسِيَّمَا أَصْحَابُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَقْسَمَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ ; إِذْ قَالَ عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السِّكِّينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (48: 18) ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
(48: 29) وَهَذَا الْكِتَابُ وَسَائِرُ كُتُبِ الرَّوَافِضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ غَيْظًا بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ هَذَا الرَّافِضِيَّ زَعَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فَرُّوا فِي أَثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ:" وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عَلِيٌّ عليه السلام يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِرِكَابِهِ. قِيلَ: وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ وَقِيلَ: ثَبَتَ مَعَهُ تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ الْمُفِيدُ فِي الْإِرْشَادِ " اهـ.
وَهُوَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إِرْشَادِ مُفِيدِهِ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكِبَارِ مُصَنِّفِيهِمْ فِي تَأْيِيدِ نِحْلَتِهِمْ، فَذَكَرَ مَا اعْتَمَدَهُ بِصِيغَةِ التَّعْرِيضِ بَعْدَ جَزْمِهِ هُوَ بِثَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ.
ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصٌّ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ لَهُ: وَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي؟ أَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا قَدِ اضْطَرَبُوا عِنْدَ اضْطِرَابِ الْجُمْهُورِ فِي تِلْكَ الْهَزِيمَةِ؟ أَوَلَيِسَ نُزُولُ السَّكِينَةِ لَازِمًا أَوْ مَلْزُومًا لِعَوْدَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِلَى الْقِتَالِ؟ وَهَلْ عَادُوا إِلَّا بَعْدَ أَنْ زَالَ ذَلِكَ الِاضْطِرَابُ وَاخْتِلَاطُ الْأَمْرِ الَّذِي عَرَضَ لَهُمْ بِفِرَارِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؟ وَهَلْ زَالَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّكِينَةِ لَمَّا سَمِعُوا نِدَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَنِدَاءَ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه وَعَلِمُوا مَكَانَهُ صلى الله عليه وسلم؟ وَهَلْ يَكُونُ أَصْحَابُ هَذِهِ الْكَرَّةِ النَّاهِضَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْفَرَّةِ الْعَارِضَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَوَاقِفِ السَّابِقَةِ وَالْفُتُوحَاتِ اللَّاحِقَةِ
مِنَ الْجُبَنَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَيَكُونُ فِرَارُهُمْ خِذْلَانًا لِلرَّسُولِ وَتَعَمُّدَا لِإِسْلَامِهِ لِلْكُفَّارِ كَمَا افْتَرَى هَذَا الرَّافِضِيُّ الْكُفْرَ؟ .
وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ بِثُمَّ الدَّالِّ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْ تَوَلِّي الْأَدْبَارِ أَنَّ الِاضْطِرَابَ الْمُنَافِيَ لِلسِّكِّينَةِ بِانْهِزَامِ الطُّلَقَاءِ كَانَ عَامًّا ; إِذْ تَبِعَهُ انْهِزَامُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ سَبَبُهُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْمَآلُ فَالْجَيْشُ اضْطَرَبَ لِهَزِيمَةِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْهُ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم اضْطَرَبَ بَالُهُ حُزْنًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ابْتِلَائِهِمْ بِذَلِكَ أَنْزَلَ سَكِينَةً عَلَى رَسُولِهِ، فَأَمَرَ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ بِنِدَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَنَادَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَنْزَلَ اللهُ السِّكِّينَةَ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ وَالْعِلْمِ بِمَكَانِهِ.
إِنَّ الرَّافِضِيَّ عَمَدَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مُجْمَلَ الْقِصَّةِ بِمَا وَافَقَ هَوَاهُ مِنْ نَقْلٍ، وَمَا مَزَجَهُ بِهِ مِنْ تَأْوِيلٍ بَاطِلٍ - إِلَى تَحْرِيفِ الْآيَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَزَعَمَ: أَنَّهُمَا تَوْبِيخٌ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ
ـ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ مَا عَدَا الَّذِينَ ثَبَتُوا وَهُمْ فِي زَعْمِهِ ثَلَاثَةٌ، بَلْ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَخَصَّ أَصْحَابَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالذِّكْرِ، بَلْ بِالذَّمِّ الْمُقْتَضِي لِلْكُفْرِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا صَاحِبَ الدِّينِ " لِجُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَطَغَامِ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ " مَا نَصُّهُ:
فَأَيْنَ مَا بَايَعْتُمْ بِهِ اللهَ سُبْحَانَهُ، وَمَا أَعْطَيْتُمُوهُ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ عَلَى أَلَّا تَفِرُّوا عَنْهُ، وَمَنْ فَرَّ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ؟ فَمَا وَفَيْتُمْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ (كَذَا) إِذْ يَقُولُ: إِنِ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا (9: 111) أَنْقَضْتُمُ الْعَهْدَ؟ أَمِ اسْتَقَلْتُمُ الْبَيْعَ " ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (9: 25) غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (8: 16) انْتَهَى. بِحُرُوفِهِ وَتَحْرِيفِهِ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ تَفْسِيرًا لِآيَةِ يَوْمِ حُنَيْنٍ الَّتِي لَمْ تَكُنْ إِلَّا تَذْكِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالتَّوَلِّي فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا التَّحْرِيفِ أَنْ يَهْدِمَ كُلَّ
مَا لِلصَّحَابَةِ الْكِرَامِ مِنَ الثَّنَاءِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَيَجْعَلَهُمْ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ، وَيُحَوِّلُ رِضْوَانَ اللهِ عَنْهُمْ إِلَى غَضَبِهِ، وَوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِالْجَنَّةِ إِلَى وَعِيدِهِمْ بِالنَّارِ.
أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّافِضِيَّ كَيْفَ لَمْ يُتِمَّ آيَةَ الشِّرَاءِ; لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَمُبْطِلَةٌ لِتَأْوِيلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) فَلَوْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ أَوْ يَسْتَقِيلُونَ هَذَا الْبَيْعَ لَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ بِهِ، وَلَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَمِ اسْتَقَلْتُمُ الْبَيْعَ، إِلَى قَوْلِ الْأَنْصَارِ رضي الله عنهم عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْعِهِ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ - إِذْ قَالُوا: لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ وَرَسُولُهُ لَهُمْ بِالْوَفَاءِ. وَشَهِدَ عَلَيْهِمُ الرَّافِضِيُّ بِالْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَاسْتِقَالَةِ الْبَيْعِ! ! .
وَقَدْ أَعَادَ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ذِكْرَ مَا زَعَمَهُ مِنْ فِرَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي أَعَزَّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَأَنْزَلَ بِمُوَافَقَتِهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ أَعْظَمَ نَاشِرٍ لَهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام.
ثُمَّ فَسَّرَ السِّكِّينَةَ " بِتَثْبِيتِ الْقَلْبِ وَتَسْكِينِهِ وَإِيدَاعِهِ الْجُرْأَةَ وَالْبَسَالَةَ " وَقَالَ: " وَإِنَّمَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ مَرَّ ذِكْرُهُمْ " وَقَدْ جَهِلَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ طَعْنٌ فِيهِمْ; لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ مِنَ السَّكِينَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ، لِعَطْفِ نُزُولِهَا عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ ب " ثُمَّ " الْمُفِيدَةِ لِلتَّرَاخِي، وَالصَّوَابُ اللَّائِقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهم مَا ذَكَرْنَا.
ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الطَّعْنِ فِي جَمِيعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم - وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ عَلَى أَنَّهُ حَصَرَهُ بَعْدُ فِي (عَلِيٍّ) وَحْدَهُ - قَالَ: " فَإِذَا تَدَبَّرْتَ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا قَرَّعَهُمْ فِيهِ وَعَاتَبَهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ وَكَيْفَ بَاهَى اللهُ سُبْحَانَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْعَسْكَرَ الْمِجَرَّ، وَالْجَحْفَلَ الْحَاشِدَ بِأَعْلَامِ الصَّحَابَةِ، وَأَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَصَنَادِيدِهِمْ، وَمَنْ إِلَيْهِمُ الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ - ظَهَرَتْ لَكَ عَظْمَتُهُ وَمَكَانَتُهُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَبْلَغُهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ " إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ وَأَسْهَبَ مِنَ الْمَعَانِي الشَّرِيعَةِ فِي تَحْقِيرِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى خَصَّ بِالذِّكْرِ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ سَيْفَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَفَاتِحَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَرَافِعَ لِوَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَالْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ وَأَبَا أَيُّوبَ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ صَنَادِيدِ الْإِسْلَامِ الْأَعْلَامِ، فَزَعَمَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا أَنَّ تِلْكَ الصَّدْمَةَ " أَطَارَتْ أَفْئِدَتَهُمْ وَشَرَدَتْ بِهِمْ فِي كُلِّ وَادٍ " لِيَقُولَ فِي عَلِيٍّ " وَكَيْفَ قَامَ فِي وَجْهِهَا، وَانْتَصَبَ لِصَدِّهَا، وَأَقْدَمَ عَلَى رَدِّهَا بِصَدْرٍ أَوْسَعَ مِنَ الْفَضَاءِ، وَقَلْبٍ أَمْضَى مِنَ الْقَضَاءِ " وَزَعَمَ بَلْ أَقْسَمَ أَنَّهُ " لَقَدْ فَازَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ بِأَجْرِهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَى فَضْلِهَا وَطَارَ بِفَخْرِهَا " كَأَنَّهُ يَشْعُرُ شُعُورًا خَفِيًّا لَا يُدْرِكُهُ عَقْلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ إِثْبَاتُ غُلُوِّهِ فِيهِ إِلَّا بِافْتِرَاءِ مَنَاقِبَ لَهُ مَقْرُونَةً بِتَحْقِيرِ سَائِرِ إِخْوَانِهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ فِي الْأَمْرَيْنِ، كَزَعْمِهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّعَهُمْ، وَبَاهَى بِهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُزْدَرٍ لِتِلْكَ الْعُصْبَةِ الْهَاشِمِيَّةِ وَهُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا - أَيْ كَمَا ازْدَرَى سَائِرَ الصَّحَابَةِ - وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُمْ مِنَ الِازْدِرَاءِ لِنَسَبِهِمْ لَا لِشَجَاعَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، وَذَلِكَ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، فَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ:" فَوَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا ثَبَتَ أُولَئِكَ إِلَّا بِثَبَاتِهِ، وَلَا رَكَنُوا إِلَّا لِدِفَاعِهِ وَمُحَامَاتِهِ، عِلْمًا مِنْهُمْ بِكِفَايَتِهِ لِحِمَايَتِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَلَمَّ بِالتَّارِيخِ وَقَرَأَ الْيَسِيرَ عَلِمَ أَنَّ أُولَئِكَ الْهَاشِمِيِّينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقِفٌ مَشْهُورٌ، وَلَا مَقَامٌ مَذْكُورٌ، وَلَا دَوَّنَ لَهُمُ التَّارِيخُ قَتْلَ أَحَدٍ " - إِلَى أَنْ قَالَ - غُلُوًّا فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمَدْحِ، وَإِسْرَافًا فِي الْإِزْرَاءِ وَالْقَدْحِ، وَتَهْوِيلًا لِلْأَمْرِ.
" بِرَبِّكَ دَعِ التَّكَلُّفَ وَخَبِّرْنِي مُنْصِفًا لَوْ فَرَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مِنْ بَيْنِ أُولَئِكَ التِّسْعَةِ مَعَ مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ بَأْسِهِ وَشَجَاعَتِهِ أَكَانَ يَثْبُتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ؟ كَلَّا
وَاللهِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى وَالْقَارِعَةُ الْعُظْمَى بِقَتْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدَّوْلَةُ، وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُ الْأُمَمِ بَعْدَ نَجَاتِهَا، وَانْقِرَاضُهَا بَعْدَ حَيَاتِهَا فَثَبَاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُحَامَاتُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ ثَابَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الْفِئَةُ الَّتِي لَمْ تَتَجَاوَزْ مِائَةَ (؟) مُقَاتِلٍ هُوَ السَّبَبُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقَاءِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَنَجَاةِ الْخَلْقِ مِنَ الْهَلَكَةِ ".
ثُمَّ فَرَّعَ مِنْ هَذِهِ التَّخَيُّلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالتَّهْوِيلَاتِ الْخَطَابِيَّةِ، وَالْمُفْتَرَيَاتِ الرَّافِضِيَّةِ، تَخْطِئَةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي تَوْلِيَةِ أَمْرِهَا (يَعْنِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى) غَيْرَ صَاحِبِ هَذِهِ الْمِنَّةِ عَلَيْهَا وَعَلَى الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ وَعَلَى. . . . مَنِ اسْتَغْفَرَ اللهَ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَاكَى الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى تَخْطِئَةِ الْأُمَّةِ بِتَخْطِئَةِ الشَّيْخَيْنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ رُوَاةِ صِحَاحِ السُّنَّةِ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِيَا فِي الْقِصَّةِ مَا افْتَرَاهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَلَى اللهِ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَعَلَى خِيرَةِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَدْ بَدَأَ طَعْنُهُ فِي الشَّيْخَيْنِ بِقَصْدِ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَصَرْفِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: " وَاعْجَبْ لِلشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحِيهِمَا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ وَالنَّصْرِ الْبَاهِرِ شَيْئًا، وَقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَسَنَرُدُّ طَعْنَهُ عَلَى الشَّيْخَيْنِ فِي نَحْرِهِ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا فِي التَّفْسِيرِ الدِّفَاعُ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه هُوَ الَّذِي نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُنَيْنٍ لَا بِمَنْطُوقٍ وَلَا مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ عز وجل فَقَالَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ (25) وَقَالَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (26) وَلَمْ يَقُلْ: (وَعَلَى عَلِيٍّ) وَحْدَهُ، وَلَا عَلَى الثَّلَاثَةِ أَوِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ زَعَمَ الشِّيعَةُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُمْ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا عُرِفُوا بِأَسْمَائِهِمْ وَهُوَ لَا يَنْفِي ثَبَاتَ غَيْرِهِمْ أَيْضًا; لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَقَالَ: وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا (26) وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي عَذَّبَهُمْ،
وَهُوَ الَّذِي هَزَمَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَرُوَاةُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ كَتَمُوهَا; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَحْدَهُ (قُلْنَا) : إِنَّهُمْ لَمْ يَرْوُوا مِنْ مَنَاقِبِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِقَدْرِ مَا رَوَوْا مِنْ مَنَاقِبِهِ رضي الله عنه وَعَنْهُمْ، وَمِمَّا رَوَوْا ثَبَاتُهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَخْصِيصُ الشَّيْخَيْنِ عَبَّاسًا وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بِالذِّكْرِ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمَا بِشُرُوطِهِمَا الْمَعْرُوفَةِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ قَدْ نَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ رِوَايَةً مُعَلَّقَةً زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ مِنَ الْمُدْبِرِينَ، وَلَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا مَا فِي مَنَاقِبِ مُعَاوِيَةَ وَرَوَى الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَدْ تَرَكَا الرِّوَايَةَ عَمَّنْ لَا يَثِقَانِ بِعَدَالَتِهِ مِنَ الرَّوَافِضِ فَهَلْ يُلَازِمَانِ وَنَحْنُ نَرَى مِثْلَ هَذَا الْمُؤَلِّفِ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى غُلُوًّا فِي عَلِيٍّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَأَغْنَاهُ بِمَنَاقِبِهِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ ذَلِكَ) وَإِزْرَاءً وَقَدْحًا فِي خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَطَعْنًا فِيهِمْ بِالْبَاطِلِ؟ .
لَيْسَ فِي الْتِزَامِ الشَّيْخَيْنِ لِلصِّدْقِ مَثَارٌ لِلْعَجَبِ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّافِضِيِّ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْيِ مِنَ اللهِ حَيْثُ أَسْنَدَ إِلَى كِتَابِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، بَلْ مَا فِيهِ خِلَافُهُ أَيْضًا مِنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَحَيْثُ أَقْسَمَ بِهِ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ أَحَدٌ فِي حُنَيْنٍ إِلَّا عَلِيٌّ وَثَلَاثةٌ أَوْ تسعةٌ ثَبَتُوا بِثَبَاتِ عَلِيٍّ رضي الله عنه لَا بِشَجَاعَتِهِمْ وَلَا بِإِيمَانِهِمْ وَلَا بِحِرْصِهِمْ عَلَى حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْيِ مِنْهُ تَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ وَسَيِّدِ خَلْقِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِعَلِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْلَاهُ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدَّوْلَةُ، وَهَلَكَتِ الْأُمَمُ وَانْقَرَضَتْ؟ فَجَعَلَ لَهُ الْمِنَّةَ وَحْدَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى دِينِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِمَا افْتَرَاهُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَحْدَهُ مَعَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ ثَبَاتُهُ وَحْدَهُ لَمَا اقْتَضَى كُلَّ هَذِهِ الْمِنَنِ فَإِنَّ النَّصْرَ لَمْ يَكُنْ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا، بَلْ بِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ تَأْيِيدِهِ، وَبِعَوْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى الْقِتَالِ، وَإِنْزَالِ مَلَائِكَتِهِ لِتَثْبِيتِهِمْ فِي مَوَاقِفِ النِّزَالِ.
أَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى لَهُ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (5: 67) فَكَيْفَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ.
أَوَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ قَصَدُوا قَتْلَهُ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا فَعَصَمَهُ اللهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ مَعَهُ؟ .
أَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَمِنْ إِيعَادِ أَعْدَائِهِ بِالْخِذْلَانِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ جَزْمُهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مَا جَمَعَتْهُ هَوَازِنُ لِقِتَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُنَيْنٍ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا عَلِيٌّ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَزَالَتْ دَوْلَةُ الْإِسْلَامِ وَهَلَكَتِ الْأُمَمُ؟ وَهَلْ كَانَتْ هَوَازِنُ قَادِرَةً عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ سَائِرُ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَقْوَى مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَنَصْرُ اللهِ فَوْقَ ذَلِكَ؟ .
أَلَم يَكْتَفِ بِجَعْلِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَارِ وَالِافْتِرَاءِ ذَرِيعَةً لِلطَّعْنِ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى الثَّلَاثَةِ أَوِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ اعْتَرَفَ بِفَضْلِهِمْ لِنَسَبِهِمْ، وَإِنْزَالِ السِّكِّينَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَجَّلِ رُوَاةِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَمُمَحِّصِيهَا مِنَ الْكَذِبِ، حَتَّى جَعَلَ الْمِنَّةَ لِعَلِيٍّ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي حَيَاتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِ اللهِ وَنَصْرِهِ لَهُ وَبَقَاءِ دِينِهِ وَأُمَّتِهِ؟ ؟ .
أَبِمِثْلِ هَذَا تَكُونُ دَعَايَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الرَّفْضِ وَتَحْقِيرِ الصَّحَابَةِ وَرِجَالِ السُّنَّةِ؟ .
وَالَّذِي يَعْلَمُهُ بِالْبَدَاهَةِ كُلُّ صَحِيحِ الْعَقْلِ مُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ مُطَّلِعٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم لَمْ يَكُونُوا جُبَنَاءَ، بَلْ كَانُوا أَشْجَعَ خَلْقِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُ صلى الله عليه وسلم بِنَصْرِهِ وَبِهِمْ
فِي جُمْلَتِهِمْ لَا بِعَلِيٍّ وَحْدَهُ، كَرَّمَ اللهُ وُجُوهَهُمْ وَوَجْهَهُ، كَمَا قَالَ عز وجل: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (8: 62 و63) الْآيَةَ، وَأَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَدْرٍ وَهُمْ أَذِلَّةٌ جَائِعُونَ، حُفَاةٌ رَاجِلُونَ، قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَنَصَرَهُمُ اللهُ
عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَفُرْسَانِهَا الَّذِينَ هُمْ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِمْ، مَا كَانُوا لِيَجْبُنُوا عَنْ قِتَالِ هَوَازِنَ وَهُمْ عَلَى النِّسْبَةِ الْعَكْسِيَّةِ مِنْ مُشْرِكِي بَدْرٍ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهِ تَمْحِيصًا لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا بِهِ وَبِعِنَايَتِهِ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِالْكَثْرَةِ وَحْدَهَا.
وَلَوْ أَقْسَمَ مُقْسِمٌ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ هَذَا الشِّيعِيُّ الَّذِي مَلَكَ عَلَيْهِ الْغُلُوُّ أَمْرَهُ، وَسَلَبَ التَّعَصُّبُ عَقْلَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا بَعَثَ مُحَمَّدًا خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ، وَمُكَمِّلًا لِلدِّينِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، إِلَّا وَهُوَ قَدْ كَفَلَ نَصْرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، وَعِصْمَتَهُ مِنِ اغْتِيَالِ الْمُغْتَالِينَ، بِفَضْلِهِ وَحْدَهُ، لَا بِفَضْلِ عَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْلَقْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِ رَسُولِهِ فِي حُنَيْنٍ لَمَا قُتِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا زَالَ دِينُ اللهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ، وَلَوَفَى اللهُ تَعَالَى بِوَعْدِهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كُلِّهِمْ، لَوْ أَقْسَمَ السُّنِّيُّ الْمُحِبُّ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقَسَمَ الْمُوَافِقَ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِلتَّارِيخِ الصَّحِيحِ وَلِلْمَعْقُولِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، لَكَانَ قَسَمُهُ أَبَرَّ وَأَصْدَقَ وَأَرْضَى لِلَّهِ عز وجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِعَلِيٍّ عليه السلام وَالرِّضْوَانُ مِنْ قَسَمِ ذَلِكَ الشِّيعِيِّ عَلَى جَهْلِهِ وَتَعَصُّبِهِ الْمُخَالِفِ لِكُلِّ مَا ذُكِرَ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (13: 33) .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ أَنْ يُبَلِّغَ النَّاسَ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. ثُمَّ أَمَّرَ عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ
يَتْبَعَ أَبَا بَكْرٍ فَيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ أَوَائِلَ سُورَةِ بَرَاءَةٍ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَأَنْ يُنَادِيَ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي أُمِرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِالنِّدَاءِ بِهَا، وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَفْظُ (نَجَسٌ) فِيهَا بِالتَّحْرِيكِ مَصْدَرُ نَجِسَ الشَّيْءُ (مِنْ بَابِ تَعِبَ) فَهُوَ نَجِسٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ - إِذَا كَانَ قَذِرًا غَيْرَ نَظِيفٍ، وَالِاسْمُ النَّجَاسَةُ. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِجَعْلِ الْمَوْصُوفِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الصِّفَةِ. وَإِذَا وُصِفَ الْإِنْسَانُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شِرِّيرٌ خَبِيثُ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ فِي الْحِسِّ. وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الدَّاءُ أَوْ صَاحِبُهُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عُضَالٌ لَا يَبْرَأُ، وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا اللَّفْظُ وَلَا كَلِمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَذِرِ وَالْخَبِيثِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى كَالرِّجْسِ الَّذِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [ص48 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ] .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: النَّجَسُ وَالنَّجِسُ (بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَالنَّجَسُ بِالتَّحْرِيكِ: الْقَذِرُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَذَرْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدَاءٌ نَجِسٌ وَنَاجِسٌ وَنَجِيسٌ عُقَامٌ لَا يُبْرَأُ مِنْهُ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ صَاحِبُ الدَّاءِ، وَالنَّجَسُ اتِّخَاذُ عَوْذَةٍ لِلصَّبِيِّ، وَقَدْ نَجُسَ لَهُ وَنَجَّسَهُ عَوَّذَهُ (قَالَ) الْجَوْهَرِيُّ: وَالتَّنْجِيسُ شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ كَالْعَوْذَةِ تُدْفَعُ بِهَا الْعَيْنُ (وَقَالَ) اللَّيْثُ: الْمَنْجَسُ الَّذِي يُعَلَّقُ عَلَيْهِ عِظَامٌ أَوْ خِرَقٌ وَيُقَالُ لِلْمُعَوِّذِ: مُنَجِّسٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَلِّقُونَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ عُيُونُ الْجِنِّ الْأَقْذَارَ مِنْ خِرَقِ الْمَحِيضِ، وَيَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا تَقْرَبُهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا بِحُرُوفِهِ. وَفِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّنَجُّسِ رَفْعُ النَّجَسِ، يَعْنِي ضَرَرَ الْجِنِّ، كَالتَّحْرِيمِ وَالْمَأْثَمِ وَالتَّحَنُّثِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ فَاعِلُهُ مِنَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْحِنْثِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّجَاسَةُ الْقَذَارَةُ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ، وَضَرْبٌ
يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ. وَالثَّانِي: وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَيُقَالُ: نَجَّسَهُ إِذَا جَعَلَهُ نَجِسًا، وَنَجَّسَهُ أَيْضًا أَزَالَ نَجَسَهُ، وَمِنْهُ تَنْجِيسُ الْعَرَبِ، وَهُوَ شَيْءٌ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ عَوْذَةٍ عَلَى الصَّبِيِّ لِيَدْفَعُوا عَنْهُ نَجَاسَةَ الشَّيْطَانِ. وَالنَّاجِسُ وَالنَّجِيسُ دَاءٌ خَبِيثٌ لَا دَوَاءَ لَهُ اهـ.
أَقُولُ: لَا تَزَالُ سَلَائِلُ الْعَرَبِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ نَجَسٌ بِمَعْنَى خَبِيثٍ ضَارٍّ مُؤْذٍ. كَمَا أَنَّ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ لَا يَزَالُونَ يُعَلِّقُونَ التَّنَاجِيسَ وَالتَّعَاوِيذَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِوِقَايَتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْعَيْنِ الْخَبِيثَةِ مِنَ الْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْعِبْرَانِيُّونَ يُسَمُّونَ الدَّاءَ الْعُضَالَ نَجَسًا وَصَاحِبَهُ نَجَسًا وَشِفَاءَهُ طَهَارَةً.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّجَسِ عَلَى الْقَذَرِ وَالْخُبْثِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الَّذِي أَفْهَمُهُ، وَمِنْهُ الْمَعَاصِي وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَنَقَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ قَدْ زَنَى بِهَا: هُوَ أَنْجَسَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي الدَّاءِ، وَذَكَرَ مِنْهَا شَاهِدًا فِي الْبَيْتِ قَوْلَ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤْيَةَ:
وَالشَّيْبُ دَاءٌ نَجِيسٌ لَا دَوَاءَ لَهُ
…
لِلْمَرْءِ كَانَ صَحِيحًا صَائِبَ الْقَحْمِ
وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ هُوَ دَاءُ عَيَاءٍ لِلرَّجُلِ الصَّحِيحِ الْجَلِدِ الَّذِي إِذَا تَقَحَّمَ فِي الشَّدَائِدِ أَصَابَ فِيهَا وَلَمْ يُخْطِئْ.
(قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَنَجَّسَتْهُ الذُّنُوبُ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَتَقُولُ: لَا تَرَى أَنْجَسَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَا أَنْجَسَ مِنَ الْفَاجِرِ اهـ.
هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى النَّجَسِ وَالنَّجَاسَةِ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ. فَالنَّجَسُ مَا يَجِبُ التَّطْهِيرُ لِمَا يُصِيبُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ قَذِرًا فِي الْحِسِّ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، أَمْ لَا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهَا وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تُصِيبُهُ أَبْدَانُهُمْ مَعَ الْبَلَلِ.
وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَعَنِ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ. وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِهِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا رَاجِحًا فِيهِ، وَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تُؤَيِّدُهُ بَلْ تَنْفِيهِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَهْلَ الْكُتُبِ مُشْرِكِينَ كَالْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ إِبَاحَةَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَهِيَ بَعْدَ سُورَةِ التَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِبَاحَتُهُمَا تَسْتَلْزِمُ طَهَارَتَهُمَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْقَطْعِيِّ لِكُلِّ مُطَّلِعٍ عَلَى السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُعَاشِرُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخَالِطُونَهُمْ وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، إِذَا امْتَنَعَ اضْطِهَادُ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَنْ لَا عَصَبِيَّةَ لَهُ، وَلَا جِوَارَ يَمْنَعُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ رُسُلُهُمْ وَوُفُودُهُمْ تَرِدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَالْيَهُودِ، وَلَمْ يُعَامِلْ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ شَيْءٍ مِمَّا أَصَابَتْهُ أَبْدَانُهُمْ، بَلْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى طَهَارَةِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْيَهُودِ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِلْوَفْدِ مِنَ الْكَفَّارِ وَلَمْ يَأْمُرْ صلى الله عليه وسلم بِغَسْلِ الْأَوَانِي الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْنَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ الْكَافِرِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَاءَ بِلَفْظِ. " الْمُسْلِمُ " مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَكْلِ فِيهَا إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ عِلَّتَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَكَذَا حَدِيثُ إِنْقَاءِ أَوَانِي الْمَجُوسِ غَسْلًا وَالطَّبْخِ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَجَاسَةِ أَعْيَانِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُزَالُ بِالْغَسْلِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَ النَّجَسِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَا بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ بَعْضَ النَّاسِ بِالنَّجَسِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْخُبْثَ الْمَعْنَوِيَّ كَالشَّرِّ وَالْأَذَى، وَإِلَّا لَمَا وَصَفُوا بِهِ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ الْأَسَاسِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَلَا يُطْلِقُونَ النَّجَسَ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُطْلَبُ غَسْلُهُ، حَتَّى إِذَا زَالَ سُمِّيَ طَاهِرًا إِلَّا فِيمَا يُدْرَكُ قَذَرُهُ وَخُبْثُهُ بِالْحِسِّ كَالرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ.
هَذَا هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ. وَمَا أُفِكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ إِلَّا بِتَحْكِيمِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْفُصْحَى الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَخْذُ الرَّازِيِّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بِالْقَوْلِ الشَّاذِّ الْمُخَالِفِ لِلْحِسِّ، وَاسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ فِي نَجَاسَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بَيَانِ الشَّافِعِيِّ الْعَرَبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لِبُطْلَانِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَكَانَ شَافِعِيًّا ثُمَّ صَارَ مُفْتِيًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ، إِلَّا لِتَفْنِيدِ رَأْيِهِمَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الشُّعُوبِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَشَدَّ عِنَايَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّظَافَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُقَلِّدُونَ أَحْكَامًا تَعَبُّدِيَّةً، يُكَابِرُونَ فِيهَا الْحِسَّ وَاللُّغَةَ وَالْقِيَاسَ وَحِكْمَةَ الشَّارِعِ. وَيُوقِعُونَ مُقَلِّدِيهِمْ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ فِي السَّفَرِ، وَفِي عَدَاوَةِ الْبَشَرِ. إِذَا فَهِمْتَ هَذَا فَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا أَيْ: لَيْسَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْجَاسًا فَاسِدِي
الِاعْتِقَادِ، يُشْرِكُونَ بِاللهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَيَعْبُدُونَ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَيَدِينُونَ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَنَزَّهُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَلَا الْآثَامِ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِمَارَ وَالزِّنَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَسْتَبِيحُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ. وَقَدْ تَمَكَّنَتْ صِفَاتُ النَّجَسِ مِنْهُمْ حِسًّا وَمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَيْنُهُ وَحَقِيقَتُهُ، فَلَا تُمَكِّنُوهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرَمِ فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ نَفْسِهِ، وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً فِيهِ، يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ، وَإِذَا صَلَّوْا لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً - وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَجَاسَتِهِمْ تَلَبُّسُهُمْ بِهَا دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَبُّدِهِمْ بِالطَّهَارَةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَظْهَرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهِمْ فَهُوَ لَا مَعْنَى لَهُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَذَارَتَهَا الذَّاتِيَّةَ وَنَتْنَهَا، وَذَوَاتُ الْمُشْرِكِينَ كَذَوَاتِ سَائِرِ الْبَشَرِ بِشَهَادَةِ الْحِسِّ، وَمَنْ كَابَرَ شَهَادَةَ الْحِسِّ كَابَرَ دَلَالَةَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَاللُّغَوِيِّ بِالْأَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَجَاسَةً تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي إِيجَابِ غَسْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَلِ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدِ اتَّبَعَ الْقَائِلُونَ بِهِ سُنَنَ بَعْضِ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ، وَبَعْضِ مُتَعَصِّبِي النَّصَارَى الَّذِينَ يَعُدُّونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ نَجَسًا، وَمَا هَذَا بِمَذْهَبٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ سَخَافَاتِ التَّعَصُّبِ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُودِيَّةَ تُغْنِي صَاحِبَهَا عَنِ الْغَسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ لَنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَمُرُّ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَالْأَحْوَالُ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيُعَلِّلُ بَعْضُ قُسُوسِهِمْ الْمُتَعَصِّبِينَ عِنَايَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِأَنَّ أَبْدَانَهُمْ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّودُ دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِمْ، وَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْدُ فُضَلَاءُ الْمِصْرِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ فِي فَرَنْسَةَ
فَرَأَى أَنَّ غُلَامًا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ فِيهِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى وَالِدَتِهِ فَيُوَشْوِشُهَا، فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ سَأَلَ وَالِدَتَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَا يَقُولُهُ لَهَا؟ فَتَمَنَّعَتْ فَأَلَحَّ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهَا يَا أُمِّي إِنَّنِي لَا أَرَى فِي الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ فِيهِ هَذَا الْمُسْلِمُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ دُودًا كَمَا قَالَ لَنَا مُعَلِّمُنَا الْقِسِّيسُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ لَخَّصَ أَقْوَالَهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْخَازِنُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ وَبِغَيْرِ عَزْوٍ فَقَالَ: وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ أَنْ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ، فَلَوْ جَاءَ رَسُولٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهِدِ دُخُولَ الْحَرَمِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الْحِجَازُ وَحْدَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ وَنَجْدٍ وَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، قِيلَ: نِصْفُهَا تِهَامِيٌّ وَنِصْفُهَا حِجَازِيٌّ، وَقِيلَ: كُلُّهَا حِجَازِيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
حَدُّ الْحِجَازِ مَا بَيْنَ جَبَلَيْ طَيِّئٍ وَطَرِيقِ الْعِرَاقِ، سُمِّيَ حِجَازًا; لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَالسَّرَاةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ وَالشَّامِ. قَالَ الْحَرْبِيُّ: وَتَبُوكُ مِنَ الْحِجَازِ. فَيَجُوزُ لِلْكُفَّارِ دُخُولُ أَرْضِ الْحِجَازِ بِالْإِذْنِ، وَلَكِنْ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. (رَوَى مُسْلِمٌ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا " زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ
مُسْلِمٍ وَأَوْصَى فَقَالَ: " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَجَّلَ لِمَنْ يَقْدَمُ تَاجِرًا ثَلَاثًا. عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ دَيْنَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا. (وَرَوَى مُسْلِمٌ) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ " قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى تُخُومِ الْعِرَاقِ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدُّ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى (عَدَنِ أَبْيَنَ) إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جِدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ وَذِمَّةٍ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ اهـ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، مَعَ بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ الْكَلَامِ عَلَى مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَإِجْلَائِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِجْلَاءِ عُمَرَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ وَنَصَارَى نَجْرَانَ عَمَلًا بِوَصِيَّتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم[ص51 ج 10 ط الْهَيْئَةِ] .
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلًا وَعَيْلَةً (كَكَالَ يَكِيلُ) إِذَا افْتَقَرَ فَهُوَ عَائِلٌ، وَأَعَالَ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَهُوَ يَعُولُ عِيَالًا كَثِيرِينَ أَيْ يُمَوِّنُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ أَمْرَ مَعَاشِهِمْ. وَنَكَّرَ الْعَيْلَةَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِهَا الَّتِي يَخْشَاهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَهِيَ مَا يَحْدُثُ مِنْ قِلَّةِ
جَلْبِ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهَا وَالْمَتَاعِ بِالتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِبُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ تُجَّارِهَا، وَمِمَّنْ حَوْلَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَزَارِعِ فِي شِعَابِهَا وَوِدْيَانِهَا وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا مِنَ الْبِلَادِ ذَاتِ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ كَالطَّائِفِ، وَكَذَا مَا كَانُوا
يَسُوقُونَهُ مِنَ الْهَدْيِ لِلْحَرَمِ، وَيَتَمَتَّعُ بِهِ فُقَرَاؤُهُ، فَأَزَالَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الْعَيْلَةِ بِقِلَّةِ مَوَادِّ الْمَعِيشَةِ إِذَا مُنِعَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهَا بِوَعْدِهِمْ بِأَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ فَقَدْ صَارُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَمَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَرَمِ أَغْنَى مِمَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَهُمُ الْغِنَى مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فَصَارُوا يَجْلِبُونَ لَهُمُ الْمِيرَةَ، بَلْ أَسْلَمَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُمْنَعُ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ يَتَّجِرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَمِنْ أَيْنَ لَنَا الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً إِلَخْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ حِينَ ذَهَبَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُونَ، وَقَدْ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ، وَانْقَطَعَتْ عَنْكُمُ الْعِيرُ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً إِلَخْ. فَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ اهـ. وَيَعْنِي هُنَا الْغَنَائِمَ، وَفِي مَعْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَغْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِزْيَةِ الْجَارِيَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا وَخَافُوا مَا خَافُوا مِنْ عَوَاقِبِهَا نَزَلَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ التَّالِيَةُ لَهَا، بَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كُلُّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً (كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَا يُلْقِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَالشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مَقْرُونًا بِهَذَا الْوَعْدِ، فَلَمْ يَدَعْ لِذَلِكَ مَجَالًا.
وَأَمَّا الْغِنَى مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ مُعَيَّنًا وَمُبْهَمًا، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ
الْغِنَى، فَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْعِبَادَ، فَكَثُرَتِ الْغَنَائِمُ وَالْخَرَاجُ، وَمَهَّدَ لَهُمْ سُبُلَ الْمِلْكِ وَالْمُلْكِ، وَبَسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، مِنْ إِمَارَةٍ وَتِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ، وَكَانَ نَصِيبُ مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ عَظِيمًا بِكَثْرَةِ الْحَاجِّ وَأَمْنِ طُرُقِ التِّجَارَةِ.
وَقَيَّدَ هَذَا الْغِنَى بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ إِنَّمَا يَكُونُ أَكْثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ وَاسِعٌ بِسِعَةِ فَضْلِهِ تَعَالَى، وَغَيْبٌ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ أَكْثَرُهُ بِبَالٍ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ بِهِ فَكَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَيَّدَهُ بِمَشِيئَتِهِ الَّتِي لَا يَشُكُّ مُؤْمِنٌ فِي حُصُولِ كُلِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ - لِتَقْوِيَةِ إِيمَانِهِمْ، وَنَوْطِ آمَالِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مُجَرَّدِ كَسْبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالْكَسْبِ، لِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسُبَهُمْ تَوْفِيقَهُ وَتَأْيِيدَهُ لَهُمْ، فَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُمْ وَأَغْنَاهُمْ فِيمَا مَضَى كَمَا وَعَدَهُمْ، وَسَيَزِيدُهُمْ نَصْرًا وَغِنًى إِذَا هُمْ وَفُّوا بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ
بِمِثْلِ قَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (47: 7) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِمَوَاضِعِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَغَيْرِهَا. وَإِنَّمَا كَانَ قَيْدُ الْمَشِيئَةِ بِالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُصَدَّرَةِ بِ (إِنَّ) وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ شَرْطِهَا ; لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مِمَّا مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِأَسْبَابٍ كَسَبِيَّةٍ لَابُدَّ مِنْ قِيَامِهِمْ بِهَا، وَتَوْفِيقٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا تَتِمُّ بِدُونِهِ مُسَبِّبَاتُهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقَطْعُ بِحُصُولِهِ، وَحِكْمَةُ إِبْهَامِهِ أَنْ يُوَجِّهُوا هِمَّتَهُمْ إِلَى الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ جَعَلَ فَاصِلَةَ الْآيَةِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِكُمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنْ نَهْيٍ وَأَمْرٍ، كَنَهْيِهِ عَنْ قُرْبِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ (تِسْعَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ) وَنَهْيِهِ قَبْلَهُ عَنِ اتِّخَاذِ آبَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَأَمَرَكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عُهُودِهِمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعِلْمِهِ بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا يُشَرِّعُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَكُمْ، تَامَّانِ كَامِلَانِ مُتَلَازِمَانِ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ، وَعَلِمْتُمْ مَا شَرَّعَهُ لَكُمْ، وَمَا قَيَّدَ بِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، رَأَيْتُمْ مَشِيئَتَهُ عز وجل مُوَافِقَةً لِذَلِكَ كُلِّهِ.
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
كَانَ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْهِيدٌ لِلْكَلَامِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالشَّامِ، وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْعُسْرَةِ وَالْقَيْظِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ فَضِيحَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ عَنْ إِسْرَارِهِمْ لِلْكُفْرِ، وَمِنْ تَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يُقَاتِلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الرُّومَ الَّذِينَ خَرَجَ لِقِتَالِهِمْ بِسَبَبِهِ الَّذِي سَيُذْكَرُ بَعْدُ، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ وُقُوعِ ذَلِكَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْزِيلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَتْ تَقَعُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِتَالِ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ أَمَرَهُ (تَعَالَى) بِجِهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (8: 39) وَأُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أُعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلَ نَجْرَانَ، قَبْلَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ أَمَرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: " يُقَاتَلُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ غَيْرَهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ، وَكَانَ بَعْدَهُ جِهَادٌ آخَرُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي شَأْنِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ الْآيَةَ (أَقُولُ) وَهَذَا أَصَحُّ وَأَدَقُّ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ رَأْيِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي قِتَالِ الْوَثَنِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ وَالْجَزِيرَةِ، فَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي عَرَبِ الْجَزِيرَةِ خَاصَّةً بِهِمْ وَبِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا قَبْلَهَا فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَيْسَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي التَّشْرِيعِ الْحَرْبِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي غَايَتِهِ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ آيَاتُ سُورَةِ الْحَجِّ: أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (22: 39) إِلَخْ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (2: 190) الْآيَاتِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ الْقِتَالَ الْوَاجِبَ فِي الْإِسْلَامِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَنَشْرِهَا، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: إِنَّ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا، وَكَذَلِكَ حُرُوبُ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الْمُلْكِ، وَكَانَ فِي الْإِسْلَامِ مِثَالُ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ [رَاجِعْ ص 168 - 170 ج 2 ط الْهَيْئَةِ] وَسَنُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَوَصَفَ أَهْلَ
الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ أَرْبَعَ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبِ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ فِي دَارِهِ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ يُفْضِي إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ
أَوْ مُسَاعَدَةِ مَنْ يُهَاجِمُهُمْ فِيهَا كَمَا فَعَلَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ وَجَعَلَهُمْ حُلَفَاءَ لَهُ، وَسَمَحَ لَهُمْ بِالْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِشَرْعِهِمْ فَوْقَ السَّمَاحِ لَهُمْ بِأُمُورِ الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [ص41 - 52 ج 10 ط الْهَيْئَةِ] وَكَمَا فَعَلَ نَصَارَى الرُّومِ فِي حُدُودِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ تَرْكُهَا هِيَ أُصُولُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ (2: 62) وَقَدْ أَمَرَ هُنَا بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَهَا عِنْدَمَا يَقُومُ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِشَرْطِهَا فَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَوَضَعَ تَرْكَهُمْ لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَرَكَ الْخُضُوعَ لِدِينِ الْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِنَّكَ تَرَى فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ قُيُودًا فِي شَرْعِيَّةِ قِتَالِهِمْ بَلْ هِيَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهَا، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ - عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ رَسُولُهُمْ، وَيَدِينُ دِينَ الْحَقِّ بِاعْتِقَادِهِمْ - فَإِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَقَالُوا: إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ دَلَّتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى إِقَامَتِهِمْ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، أَوْ قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ لِكِتَابِهِمْ، وَالِابْتِدَاعِ فِي دِينِهِمْ حَتَّى الشِّرْكِ، أَوِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي نَسَخَ كِتَابُهُ الْكُتُبَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالشَّرَائِعَ الْمُخَالِفَةَ لِشَرْعِهِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَصَرَّحَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةَ قُيُودٌ تُشْتَرَطُ فِي قِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَاقِدُونَ لَهَا، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مُتَّصِفُونَ بِهَا حَرُمَ عَلَيْنَا بَدْؤُهُمْ بِالْقِتَالِ.
فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى، فَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدُوهُ بِهَدْمِ رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُشَرِّعُونَ لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فَيَتْبَعُونَهُمْ، وَذَلِكَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ، فَقَدْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشْرَكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، كَالَّذِينِ قَالُوا: عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا وَذَاكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ السُّورَةِ.
وَقَدْ تَوَسَّعَ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَسَالِيبِهِ الْكَلَامِيَّةِ فَقَالَ: " التَّحْقِيقُ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْمُشَبِّهُ يَزْعُمُ أَنْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْجِسْمُ وَمَا يَحِلُّ فِيهِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا حَالًّا فِيهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ، وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُشَبِّهُ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ.
" فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَهُودُ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَمِنْهُمْ مُوَحِّدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، فَهَبْ أَنَّ
الْمُشَبِّهَةَ مِنْهُمْ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْإِلَهِ، فَمَا قَوْلكُمْ فِي مُوَحِّدَةِ الْيَهُودِ؟ قُلْنَا: أُولَئِكَ لَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ إِيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ " انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمَّاهُ تَحْقِيقًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَلَا مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَظَرِيَّاتٌ كَلَامِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اصْطِلَاحَاتِ جَمَاعَةِ الْأَشَاعِرَةِ حَتَّى فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشَّيْءُ الْجَسِيمُ الضَّخْمُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ كُلُّ شَخْصٍ مُدْرِكٍ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجِسْمُ الْجَسَدُ، وَفِي التَّهْذِيبِ مَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: الْجِسْمُ مُجْتَمَعُ الْبَدَنِ وَأَعْضَاؤُهُ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا عَظُمَ مِنَ الْخَلْقِ الْجِسِيمِ انْتَهَى مِنَ الْمِصْبَاحِ. وَالْيَهُودُ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْإِلَهَ جِسْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَتَعْرِيفُهُ لِلْجِسْمِ بِمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحِ لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا، وَالْإِلَهُ فِي اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ، وَالْيَهُودُ لَا تُنْكِرُ وُجُودَ الْمَعْبُودِ، وَاللهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ،
وَالْيَهُودُ يُثْبِتُونَ هَذَا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَكِنَّ لَهُمْ أَفْهَامًا، فِي نُصُوصِ التَّوْرَاةِ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مَا ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهُ، وَالَّذِينَ يُسَمِّيهِمُ الْمُجَسِّمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا مُجِسَّمَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِمْ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مُجَسِّمَةً; لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَمْثَالِهِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِثْبَاتِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمِي التَّأْوِيلِ الَّذِي يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي بَعْضِ تَأْوِيلَاتِهِمْ لَهَا بِدَعْوَى أَنَّ عَدَمَ تَأْوِيلِهَا يَسْلَتْزِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا، وَهِيَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ صَاحِبُهُ بِنَفْيِ اللُّزُومِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ كَالسَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَنْبِزُهُمْ أَمْثَالُهُ بِلَفْظِ الْمُجَسِّمَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى، وَتَأْوِيلَاتُ أَمْثَالِهِ لِلْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ قَدْ تَسْلَتْزِمُ التَّعْطِيلَ أَوْ تَخْطِئَةَ التَّنْزِيلِ أَوْ قُصُورَهُ عَنْ بَيَانِ عَقَائِدِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ بِدُونِ كَلَامِهِمُ الْمُبْتَدَعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَرَّمَ قِرَاءَتَهَا عَلَى الْعَوَامِّ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِتَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ مَدْلُولِ لُغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ لَازِمَ الْمَذْهَبِ مُطْلَقًا فَهُمُ الْكَافِرُونَ.
وَهُوَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَحْثِهِ فِي الْيَهُودِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي فَهْمِ صِفَاتِ الْإِلَهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، مُبْتَدِئًا بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ " أَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى. (قَالَ) وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى " وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ أَوَّلًا فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ ثُمَّ فِي اخْتِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَتَحَكَّمَ فِي التَّكْفِيرِ لِبَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ دُونَ بَعْضٍ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ الْبَاطِلَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا كَلَامَهُ لِتَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي مَثَلِهِ، وَفِيمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَعَارِضِ، وَهُوَ زَعْمُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ مِنَ الْيَهُودِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقِتَالِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُونَ تَحْتَهَا فِي إِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى هَذَا
بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى بَعْضِهِمْ " وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ "! .
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ (أَوَّلًا) أَنَّهُ لَا قَائِلَ أَيْضًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمِ الْقِتَالِ وَحُكْمِ الْجِزْيَةِ
الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لَهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ؟ وَ (ثَانِيًا) أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَا قَالَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْيَهُودِ إِلَى مُجَسِّمَةٍ وَغَيْرِ مُجَسِّمَةٍ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ. وَ (ثَالِثًا) أَنَّهُ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَبُولُهُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ، وَجَعَلَ عَدَمَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ! ! وَ (رَابِعًا) أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ كَالدُّعَاءِ مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالًّا فِي جِسْمٍ يُنَافِي إِيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةَ صَرَفَتْهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَا يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ فِي الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّصَارَى كَأَتْبَاعِ آرْيُوسَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْعَقْلِيِّينَ الْمُعَاصِرِينَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي سَائِرِ مَا اشْتُرِطَ فِي قِتَالِهِمْ.
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ جَمَاهِيرِ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَوْحِيدِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرِيَّاتٍ كَلَامِيَّةٍ، فَأَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الرَّسْمِيَّةِ مِنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَهُ جَهْرًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَيَقُولُونَ بِالتَّثْلِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ أُمَّهُ مَرْيَمَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ، وَلَا يَعُدُّونَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُوَحِّدُونَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً، وَأُولِي دَوْلَةٍ، بَلْ هُمْ مُتَفَرِّقُونَ فِي جَمِيعِ أُمَمِهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام جَاءَ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي جَمِيعِ الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا نَسَخَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا نَقَلَ عَنْهُ رُوَاةُ الْأَنَاجِيلِ فِي قَوْلِهِ:" مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَأَوَّلُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْرَاةِ فِي الْإِيمَانِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى مِنْ وَصَايَاهَا الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ التَّوْحِيدُ، وَالنَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَنَقَلُوا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ:" وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا تَفْسِيرِ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ.
وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَالْفَرِيقَانِ يُخَالِفَانِ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْمُوَحِّدُونَ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَنَّ حَيَاةَ الْآخِرَةِ رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَكُونُ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهَا إِنْسَانًا لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ، بَلْ يَبْقَى مُؤَلَّفًا مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَيَتَمَتَّعُ الْكَامِلُونَ النَّاجُونَ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ أَقْوَى.
وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَيَانٌ صَرِيحٌ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا فِيهَا وَفِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ إِشَارَاتٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِنَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَاصِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَسَخَ بَعْضَهُ عِيسَى عليهما السلام، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَهُ كُلَّهُ بِالْعَمَلِ، كَاتِّبَاعِهِمْ عَادَاتِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ وَالنَّفْيِ وَمُفَادَاةِ الْأَسْرَى، الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ لَهُمْ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (2: 85) وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي النَّصَارَى أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِمَّا لَمْ يَنْسَخْهُ الْإِنْجِيلُ، وَاتَّبَعُوا مُقَدَّسَهُمْ بُولُسَ فِي إِبَاحَةِ جَمِيعِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِيهَا، إِلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ إِذَا قِيلَ لِلْمَسِيحِيِّ: إِنَّهُ مَذْبُوحٌ لِوَثَنٍ فَيُرَاعِي ضَمِيرَ الْقَائِلِ أَمَامَهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ لَا يُنَجِّسُ الْفَمَ، وَإِنَّمَا يُنَجِّسُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَهَذَا بَعْضُ مَا يُقَالُ فِي النَّصَارَى فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَمَّا نَصَارَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ أُورُبَّةَ، فَإِنَّهُمْ أَبْعَدُ خَلْقِ اللهِ عَنْ كُلِّ مَا فِي أَنَاجِيلِهِمْ مِنَ الزُّهْدِ وَالسِّلْمِ وَالتَّقَشُّفِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا. وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالطُّغْيَانِ فِي الْعُدْوَانِ، وَالْإِلْحَادِ فِي
الدَّيَّانِ، طَفِقُوا يَبْحَثُونَ فِي حَقِيقَةِ الْأَدْيَانِ، فَتَظْهَرُ لَهُمْ أَنْوَارُ الْإِسْلَامِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
اخْتَارَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَضَعَّفَ الثَّانِيَ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: الْمُرَادُ بِهِ أَيْ: مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا وَغَيْرَ مَتْلُوٍّ، فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: رَسُولُهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فَإِنَّهُمْ بَدَّلُوا شَرِيعَتَهُ، وَأَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ لَا يَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَنَا وَلَا شَرِيعَتَهُمْ، وَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ لِقِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيفُ بَعْدَ النَّسْخِ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ اهـ.
وَاخْتَارَ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن الثَّانِيَ فَقَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ: وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأَذَابُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَأَحَلُّوهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي لَا يُصَدِّقُونَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا مَا حَرَّمَ رَسُولُهُ فِي السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ،
بَلْ حَرَّفُوهُمَا وَأَتَوْا بِأَحْكَامٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ اهـ.
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبْلَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِدِينِهِ الْحَقِّ الْكَامِلِ الْأَخِيرِ، الْمُكَمِّلِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّاسِخِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْبَشَرِ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. يُقَالُ: دَانَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرَهُ وَدَانَ بِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الدِّينَ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ دِينٌ تَقْلِيدِيٌّ وَضَعَهُ لَهُمْ أَحْبَارُهُمْ وَأَسَاقِفَتُهُمْ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَأَهْوَائِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ، لَا دِينُ اللهِ الْحَقُّ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، وَكَانَ يَحْكُمُ بِهَا هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُخَالِفُهُمُ الْفَاسِقُونَ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ، إِلَى أَنْ عَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ الْبَابِلِيِّينَ عَلَيْهِمْ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ،
وَأَحْرَقُوا الْهَيْكَلَ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ، وَسَبَقُوا بَقِيَّةَ السَّيْفِ مِنْهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ إِلَى أَرْضِ مُسْتَعْبِدِيهِمْ، فَدَانُوا لِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِمْ، وَلَمَّا أَعْتَقُوهُمْ مِنَ الرِّقِّ وَأَعَادُوهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَانُوا قَدْ فَقَدُوا نَصَّ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَفِظُوا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، كَتَبُوا مَا حَفِظُوا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ، مَمْزُوجًا بِمَا دَانُوا مِنْ شَرِيعَةِ مَلِكِ بَابِلَ كَمَا أَمَرَ كَاهِنُهُمْ عِزْرَا (عُزَيْرًا) ثُمَّ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَلَمْ يُقِيمُوهَا كَمَا أُمِرُوا.
وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا بَلَّغَهُمْ عِيسَى عليه السلام مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَصَايَا وَالْأَحْكَامِ الْقَلِيلَةِ النَّاسِخَةِ لِبَعْضِ تَشْدِيدَاتِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، بَلْ كَتَبَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ تَوَارِيخَ لَهُ، وَأَوْدَعَهَا كُلُّ كَاتِبٍ مِنْهُمْ مَا عَرَفَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَجَاءَتِ الْمَجَامِعُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، فَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعَةَ أَنَاجِيلَ مِنْ زُهَاءِ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا رَفَضَتْهَا وَسَمَّتْهَا [أَبُو كَرَيفٍ] أَيْ غَيْرُ قَانُونِيَّةٍ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا إِنْجِيلُ الْقِدِّيسِ بَرْنَابَا مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ وَرُسُلِهِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الْعَالِيَةِ مَا يَفُوقُ مَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْقَانُونِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخَذُوا بِتَعَالِيمِ بُولُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ يَهُودِيٌّ تَنَصَّرَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَقَبِلَ تَنَصُّرَهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ (الرُّسُلَ) بِشَفَاعَةِ بَرْنَابَا ; لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يَنْقِلُونَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ " وَالنَّامُوسُ: هُوَ شَرِيعَةُ مُوسَى، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (3: 50، 51) وَإِنَّمَا قَالَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيِ: الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ فُقِدَ بِإِحْرَاقِ