المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا - تفسير المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

الفصل: وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا

وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (4: 17) وَقَوْلِهِ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (5:‌

‌ 3

9) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3: 135) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ (كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، يُهْلِكُهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ عليهم السلام فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ عليه السلام وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (100 - 103) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ - تَعَالَى - كَامِلًا شَامِلًا.

وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللهُ - تَعَالَى - لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا ((سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ)) وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَدِيثِ ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ)) وَهُوَ صَحِيحٌ

ص: 8

أَيْضًا، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ - يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ - يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (7) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْذَارِ:(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ:

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أَيْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ.

قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ ; لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَصِفَتِهِمْ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، افْتُتِحَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِيَتَأَمَّلَهَا السَّامِعُ وَيَتَصَوَّرَهَا فِي صِفَتِهَا الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيْرَةِ وَالْعَجْزِ وَمُنْتَهَى الْجَهْلِ، يُقَالُ: ((ثَنَى الثَّوْبَ إِذَا عَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَطَوَاهُ، وَأَثْنَاءُ الثَّوْبِ أَطْوَاؤُهُ وَمَطَاوِيهِ، وَثَنَاهُ عَنْهُ لَوَاهُ وَحَوَّلَهُ، وَثَنَاهُ عَلَيْهِ أَطْبَقَهُ وَطَوَاهُ لِيُخْفِيَهُ فِيهِ، وَثَنَى عِنَانَهُ عَنِّي أَيْ تَحَوَّلَ وَأَعْرَضَ، وَثَنَى عِطْفَهُ أَيْ أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ تَكَبُّرًا، وَمِنْهُ فِي الْمُجَادِلِ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ 22: 9 وَالِاسْتِخْفَاءُ مُحَاوَلَةُ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ:

ص: 9

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ)(4: 108) وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ التَّغَطِّي بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام:(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)(71: 7) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، ((أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)) ، فَسَّرَ بَعْضُهُمْ ثَنْيَ الصُّدُورِ هُنَا بِالْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَالِاسْتِدْبَارِ لِلرَّسُولِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ثَنْيِ الْعِطْفِ وَالْجَانِبِ، وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِطَيِّهَا عَلَى مَا هُوَ مَكْنُونٌ فِيهَا مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ تَصْوِيرًا لِمَا كَانَ يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ بِتَنْكِيسِ الرَّأْسِ، وَثَنْيِ الصَّدْرِ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ، حَتَّى يَخْفَى فَاعِلُهُ بَيْنَ الْجَمْعِ، خَجَلًا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْقَرْعِ وَالصُّدَاعِ، فَالْمَعْنَى: أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْكَارِهِينَ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ يَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ وَيُنَكِّسُونَ رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ طَيَّ صُدُورِهِمْ عَلَى بُطُونِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنًى بَلِيغٌ وَوَاقِعٌ وَأَدْنَى إِلَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ:(لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أَيْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَرَاهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْقَوَارِعِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، أَوْ لِيَسْتَخْفُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ الْمُظْهِرِ لِخِزْيِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، الْمُثْبِتِ لِعَجْزِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي كُلَّمَا تَلَوْتُ الْآيَةَ أَوْ سَمِعْتُهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ

مِمَّا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ مَا قَبْلَهُ فَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللهِ عز وجل وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَنَى صَدْرَهُ لِكَيْ لَا يَرَاهُ فَنَزَلَتْ.

وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَسْتَغْشِي بِثَوْبِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ:(يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يَقُولُ: يُطَأْطِئُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ، أَيْ أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ثَنْيَ صُدُورِهِمْ وَتَنْكِيسَ رُءُوسِهِمْ ; لِيَسْتَخْفُوا مِنَ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ظُهُورِ فَضِيحَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ فَيُغَطُّونَ بِهَا جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَخْلُونَ بِخَوَاطِرِهِمْ وَمَا يُبَيِّتُونَ مِنَ السُّوءِ وَالْمَكْرِ، فَإِنَّ رَبَّهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْهَا لَيْلًا، ثُمَّ مَا يُعْلِنُونَ نَهَارًا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَحْنُونَ صُدُورَهُمْ لِكَيْلَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى -، قَالَ - تَعَالَى -:(أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وَذَلِكَ أَخْفَى مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ إِذَا حَنَى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ، وَأَضْمَرَ هَمَّهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أَيْ إِنَّهُ

-

ص: 10

تَعَالَى - عَلِيمٌ مُحِيطٌ بِأَسْرَارِ الصُّدُورِ، وَخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)(4: 108) .

وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ مَالَا يَظْهَرُ فِي مَعْنَاهَا وَلَا فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَصْدُقُ فِيهِمْ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - تُذَكِّرُهُمْ بِهِ رُؤْيَةُ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَقْتَضِي الْأَدَبُ السَّتْرَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ ثَوْبٌ وَلَا ظُلْمَةُ لَيْلٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قُرِأَ:((أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ)) - بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِالتَّحْتِيَّةِ - مِنِ اثْنَوْنَى كَاحْلَوْلَى، وَكَذَا تَثْنَوِي كَتَرْعَوِي، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى كُلُّهَا شَاذَّةٌ لَا نُعْنَى بِنَقْلِهَا وَلَا بِتَوْجِيهِهَا.

ص: 11

أَوَّلُ الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْمَصَاحِفِ:

((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ))

بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ إِثْرَ بَيَانِ مَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ عِلْمِهِ بِهِ، وَبَيَّنَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا شُمُولَ قُدْرَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا يُهِمُّ النَّاسَ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِهِ، وَكِتَابَةِ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِمْ وَشُئُونِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمَكَانَ عَرْشِهِ قَبْلَ هَذَا مِنْ مُلْكِهِ، وَبَلَاءَ الْبَشَرِ خَاصَّةً بِذَلِكَ كُلِّهِ ; لِيُظْهِرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَبَعْثَهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَنَالُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْكَارَ كُفَّارِهِمْ لِهَذَا، قَالَ:

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) الدَّبُّ وَالدَّبِيبُ: الِانْتِقَالُ الْخَفِيفُ الْبَطِيءُ حَقِيقَةً كَدَبِيبِ الطِّفْلِ وَالشَّيْخِ الْمُسِنِّ وَالْعَقْرَبِ وَالْجَرَادِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ كَدَبِيبِ الْجَيْشِ، أَوْ مَجَازًا كَدَبِيبِ السُّكْرِ وَالسُّمِّ فِي الْجِسْمِ، وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ نَسَمَةٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ زَحْفًا أَوْ عَلَى قَوَائِمَ ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ، قَالَ - تَعَالَى -:(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ)(24: 45) أَيْ مِمَّا تَعْلَمُونَ وَمِمَّا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِمَّا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمِمَّا يَسْبَحُ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَغَلَبَةُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عُرْفًا لَا لُغَةً. وَرِزْقُ الدَّابَّةِ غِذَاؤُهَا الَّذِي تَعِيشُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا عَلَى

اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِهِ، فَمِنْهَا الْجِنَّةُ الَّتِي لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ،

ص: 12

وَصِغَارُ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَضِخَامُ الْأَجْسَامِ، وَالْوُسْطَى بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَأَغْذِيَةُ كُلِّ نَوْعٍ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ نَبَاتِيَّةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ، وَقَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهَا خَلْقَهُ الْمُنَاسِبَ لِمَعِيشَتِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى تَحْصِيلِ غِذَائِهِ بِغَرِيزَتِهِ، فَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ خَرَاطِيمَ يَمُصُّ بِهَا غِذَاءَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَوْ دَمِ الْحَيَوَانِ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِنَّ خُرْطُومَ الْبَعُوضَةِ الدَّقِيقَ لَيَخْتَرِقُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْهُ مِنْ جُلُودِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ مَنَاقِيرَ تَلْتَقِطُ الْحُبُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَمْضُغُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ مَضْغًا، وَمَا يَبْلَعُ الْحَشَرَاتِ وَالطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ بَلْعًا، وَمَا لَهُ مَخَالِبُ يُمَزِّقُ بِهَا اللُّحُومَ، وَمَا لَهُ بَرَاثِنُ يَقْتُلُ بِهَا كِبَارَ الْجُسُومِ، وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ كُتُبٌ خَاصَّةٌ مِنْ قَدِيمَةٍ وَحَدِيثَةٍ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - حِكَمٌ فِي خَلْقِهَا وَغِذَائِهَا عَجِيبَةٌ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ أَمْرُ تَغَذِّي الْحَيَّاتِ وَالسَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ وَصِغَارِهَا، وَتَغَذِّي الْأَفَاعِي الْكُبْرَى وَسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مِنْ كِبَارِهَا، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهَا، أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ ذَرْعًا بِكَثْرَةِ أَحْيَائِهَا، أَوْ لَأَنْتَنَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَاتِهَا، وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَا وَبِحِكْمَتِهَا فَعَلَيْكَ بِالْمُصَنَّفَاتِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهَا، وَقَدْ فَتَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا لَكَ أَبْوَابَهَا، وَأَرْشَدَتْكَ إِلَى تِطْلَابِهَا.

وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ التَّعْبِيرُ عَنْ كَفَالَةِ اللهِ لِرِزْقِهَا بِقَوْلِهِ: عَلَى، وَمَا قِيلَ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوُجُوبِ مَعَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمَمْنُوعَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ ذِي حُكْمٍ أَوْ سُلْطَانٍ يُطَالِبُهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النِّظَامِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ الْعَامِّ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَنَفَّذَهُ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي خَلِيقَتِهِ، فَهُوَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ بِسُلْطَانِهِ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانِ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ.

وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ فِيهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ نَوْعٍ - مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ حَتَّى الْإِنْسَانِ - أَفْرَادٌ قَدْ تَضِيقُ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ حَتَّى يَقْضِيَ بَعْضُهُمْ جُوعًا، فَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ كَفَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَخْلُقَ لَهَا مَا تَغْتَذِي بِهِ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، سَوَاءٌ أَطَلَبَتْهُ بِبَاعِثِ غَرِيزَتِهَا أَوْ مَا يَهْدِيهَا إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ أَسْبَابِ

كَسْبِهَا أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنْ خَلْقِهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنْهَا الرِّزْقَ الَّذِي تَعِيشُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَخَّرَهُ لَهَا وَهَدَاهَا إِلَى طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ، كَمَا قَالَ:(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(20: 50) وَبِهَذَا تَعْلَمُ جَهْلَ بَعْضِ الْعِبَادِ وَالشُّعَرَاءِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْخَيَالِيِّينَ الْجَاهِلِينَ، الْمُتَوَاكِلِينَ غَيْرِ الْمُتَوَكِّلِينَ:

جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ

فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ

جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ

وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ

ص: 13

فَهَذَا الشَّاعِرُ أَحَقُّ بِصِفَةِ الْجُنُونِ مِمَّنْ يَصِفُهُمْ بِهَا، فَإِنَّ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ مِنْهُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ نَوْعُهُ بِالتَّجَارِبِ وَالِاخْتِبَارِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آثَارٌ، فَمَا هُمَا سِيَّانِ فِي ذَاتِهِمَا، وَلَا فِي آثَارِهِمَا وَنَتَائِجِهِمَا، وَإِنَّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ الْجَنِينِ فِي غِشَاوَتِهِ بِدَمِ حَيْضِ أُمِّهِ، غَيْرُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)(67: 15) وَبِغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْلِيفِ.

وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَحَدُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَذْكِيَاءِ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَثَرٍ مَوْضُوعٍ، وَيُسْتَحْسَنُ فِي مَوْضُوعِهِ خَيَالُ ابْنِ أُذَيْنَةَ الشَّاعِرِ الْمَخْدُوعِ:

لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الْإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي

أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي

أَسْعَى إِلَيْهِ فَيُعْيِينِي تَطَلُّبُهُ

وَلَوْ أَقَمْتُ أَتَانِي لَا يُعْيِينِي

ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ صَدَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ يَوْمَ وَفَدَ عَلَى هِشَامٍ فَقَرَعَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَدِمَ هِشَامٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ بِجَائِزَتِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ (أَيِ الْمُفَسِّرُ) فِي مَعْنَاهُ قَوْلَ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَلْغَى أَمْرَ الْأَسْبَابِ جِدًّا إِذْ قَالَ:

مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ

مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ

أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا

وَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ

وَقَفَّى عَلَيْهِ - أَعْنِي الْمُفَسِّرَ - بِقَوْلِهِ هُوَ: وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي الْوُثُوقُ بِاللهِ وَرَبْطُ الْقَلْبِ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَقٌّ وُضِعَ مَوْضِعَ الْبَاطِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا الشِّعْرَ أَوْغَلُ فِي الْجَهْلِ الْبَاطِلِ مِمَّا سَبَقَهُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الرِّزْقِ الْمَطْلُوبِ، لَا فِي الرِّزْقِ الْمَكْتُوبِ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ مَانِعًا مِنْ إِدْرَاكِهِ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ بِالْقُعُودِ وَالْكَسَلِ وَالتَّمَنِّي دُونَ الْعَمَلِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَيْلِهِ، فَيَكُونُ تَأْيِيدُ زَعْمِهِ أَوْ تَقْرِيبُهُ بِمَا يَنْبَغِي، بَلْ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْوُثُوقِ بِاللهِ وَرَبْطِ الْقَلْبِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِمَشِيئَتِهِ، مِنْ رَبْطِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ، وَتَأْيِيدِ الْبَاطِلِ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، فَالثِّقَةُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْإِيمَانُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُمَا وَمَوَاضِعِ تَعَلُّقِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَبِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَأَسْبَابِ الرِّزْقِ، أَنَّ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ إِلَّا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ وَحِكْمَتِهِ فِيهَا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالْجَهْلُ بِهَذَا مِمَّا أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ، وَأَضَاعَ جُلَّ مِلْكِهِمْ، وَجَعَلَ

جَمَاهِيرَهُمْ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ.

(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) أَيْ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَيَعْلَمُ اللهُ مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ

ص: 14

تَسْتَقِرُّ وَتُقِيمُ، وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَكُونُ مُودَعَةً إِلَى حِينٍ، فَهُوَ يَرْزُقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنَ الْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ:(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)(6: 98) فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فِي (ص 532 و533 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ فِي ((مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَمَاكِنُهَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، أَوِ الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَوْ مَسَاكِنُهَا مِنَ الْأَرْضِ حِينَ وُجِدَتْ، وَمَوْدَعُهَا مِنَ الْمَوَادِّ وَالْمَقَارِّ حِينَ كَانَتْ بَعْدُ بِالْقُوَّةِ (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَرْزَاقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا ثَابِتٌ مَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَلَوْحٍ مَحْفُوظٍ، كَتَبَ اللهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كُلَّهَا فَهُوَ عِنْدُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 6: 38 ثُمَّ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَهِيَ الْآيَةُ 59 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) فَرَاجِعْهَا فِي (ص 381 ج 7 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مِنْ أَيَّامِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا شَاءَ مِنَ الْأَطْوَارِ، لَا مِنْ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَتْ

بِهَذَا الْخَلْقِ لَا قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَدَّرَ أَيَّامُ اللهِ بِأَيَّامِهَا كَمَا تَوَهَّمَ الْغَافِلُونَ عَنْ هَذَا، وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ قَوْلِهِ:(وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(22: 47) وَقَوْلُهُ: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(70: 4) وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ أَنَّ أَيَّامَ غَيْرِ الْأَرْضِ مِنَ الدَّرَارِيِّ التَّابِعَةِ لِنِظَامِ شَمْسِنَا هَذِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي طُولِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا وَسُرْعَتِهَا فِي دَوَرَانِهَا، وَأَنَّ أَيَّامَ التَّكْوِينِ بِخَلْقِهِ مِنَ الدُّخَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّدِيمِ شُمُوسًا مُضِيئَةً، تَتْبَعُهَا كَوَاكِبُ مُنِيرَةٌ، يُقَدَّرُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ سِنِينِنَا، بَلْ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ 7: 54 وَيُونُسَ 10: 3، وَذُكِرَ بَعْدَهَا اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرُهُ لِأَمْرِ مُلْكِهِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ بَعْدَهَا فِيهِمَا ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) أَيْ وَكَانَ سَرِيرُ مُلْكِهِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ آيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَرْشِ أَنَّهُ مَرْكَزُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَصْدَرُ التَّدْبِيرِ لَهُ، وَأَنَّ الْمُتَبَادِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ اسْتِعْمَالُهُمُ: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى مَلَكَ أَوِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْمُلْكِ لَهُ، وَ: ثُلَّ عَرْشُهُ بِمَعْنَى هَلَكَ وَزَالَ مُلْكُهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُرُوشَ مُلُوكِ الْبَشَرِ تَخْتَلِفُ مَادَّةً وَشَكْلًا، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَصُنْعِ أَيْدِي الْبَشَرِ، كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النِّظَامُ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ فِي عَالَمِنَا هَذَا، فَعَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ الْعَظِيمِ،

ص: 15

كَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْشِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ تَدْبِيرَهَا وَحُكْمَهَا الشُّورِيَّ (الدِّيمُقْرَاطِيَّ) كَانَ دُونَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ، وَرُبَّ عَرْشٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَعَرْشٍ مِنَ الْخَشَبِ، وَأَمَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ عز وجل فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ تَصْوِيرَهُ بِأَفْكَارِنَا، فَأَجْدِرْ بِنَا أَلَّا نَعْلَمَ كُنْهَ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَصُدُورَ تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ عَنْهُ، وَحَسْبُنَا أَنْ نَفْهَمَ الْكِتَابَةَ وَنَسْتَفِيدَ الْعِبْرَةَ، فَمَا أَجْهَلَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ بِأَقْيِسَتِهِمْ وَآرَائِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ! وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللهُ - مِنْ قَوْلِهِمُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فَنَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ دُونَ هَذَا الْعَرْشِ

مِنْ مَادَّةِ هَذَا الْخَلْقِ قَبْلَ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ هُوَ هَذَا الْمَاءُ، الَّذِي أَخْبَرَنَا عز وجل أَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، إِذْ قَالَ:(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)(21: 30) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً لَا فَتْقَ فِيهَا وَلَا انْفِصَالَ - وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ بِالسَّدِيمِ وَبِلُغَةِ الْقُرْآنِ بِالدُّخَانِ - فَفَتَقْنَاهُمَا بِفَصْلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ مِنْهَا مَا هُوَ سَمَاءٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْضٌ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ، فِي الْمُقَابَلَةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْفَاعِلَ لِهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَبَدْئِهِ؟

فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَزَّلُ إِلَيْهِ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَالتَّكْوِينِ مِنْهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، لَا مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَنِّيِّينَ فِي الْمَاءِ وَالْعَرْشِ، مِمَّا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَالْعِبَارَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ ذَاتَ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ كَانَ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ الَّتِي نَرَاهَا رَاسِيَةً فِيهِ الْآنَ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ هُوَ دُونَ فَائِدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْعَرْشِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِرَبِّنَا وَبِحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ نَظَرِيَّاتِ عِلْمِ التَّكْوِينِ وَعِلْمِ الْحَيَاةِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ مِنَ التَّجَارِبِ فِيهَا، وَيُخَالِفُ أَتَمَّ الْمُخَالَفَةِ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْفَلَكِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْمُسَلَّمَةِ. وَبِهَذَا يُعَدُّ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ.

ثُمَّ عَلَّلَ سبحانه وتعالى خَلْقَهُ لِمَا ذَكَرَ بِبَعْضِ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ:

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ بَلَاءً، أَيِ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا لَكُمْ،

ص: 16

فَيَظْهَرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ إِتْقَانًا لِمَا يَعْمَلُهُ، وَنَفْعًا لَهُ وَلِلنَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَجَعَلَكُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِإِبْرَازِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ حِكَمِ خَالِقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ فِيهِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِفْسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِ ; لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ هَذَا الْبَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ

بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (6: 165) وَغَيْرِهِ: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) أَيْ وَتَاللهِ لَئِنْ قُلْتَ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ مِنْ وَحْيِ رَبِّهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِيَجْزِيَكُمْ رَبُّكُمْ بِعَمَلِكُمْ فِيمَا بَلَاكُمْ بِهِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(53: 31) فَإِنَّهُ مَا خَلَقَكُمْ سُدًى، وَلَا سَخَّرَ لَكُمْ هَذَا الْعَالَمَ وَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ عَبَثًا:(لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ لَيُجِيبَنَّكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ قَائِلِينَ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ لِتُسَخِّرَنَا بِهِ لِطَاعَتِكَ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ تَسْحَرُ بِهِ الْعُقُولَ، وَتُسَخِّرُ بِهِ الضَّمَائِرَ وَالْقُلُوبَ، فَتُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَعَشِيرَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، مُعْتَقِدِينَ بِسُلْطَانِ بَلَاغَتِهِ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ ثُمَّ يُبْعَثُونَ وَيُجْزَوْنَ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَ، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) (23: 36) .

(عِلَاوَةً فِي آيَاتِ التَّكْوِينِ وَمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ) :

إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ عَرْشَهُ مَعَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي بِضْعِ آيَاتٍ بَيَّنَ فِي كُلٍّ مِنْهَا شَأْنًا مَنْ شُئُونِهِ. فَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذَكَرَ سُنَنَهُ فِي إِغْشَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَطَلَبِهِ طَلَبًا حَثِيثًا، وَتَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ هَذَا النِّظَامُ الشَّمْسِيُّ بِدَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ شَمْسِهَا، وَدَوْرَانِ الْقَمَرِ حَوْلَ أَرْضِهِ. وَفِي آيَةِ " يُونُسَ "(3) ذَكَرَ التَّدْبِيرَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَفِيعٍ ; إِذْ أَمْرُ الشُّفَعَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِهِ، ثُمَّ وَضَّحَهُ بِآيَةِ:(جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)(10: 5) وَتَقْدِيرَهُ ((مَنَازِلَ)) وَفِي آيَةِ " هُودٍ "(7) ذِكْرُ مَا لِلْمَاءِ مِنَ الشَّأْنِ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ، وَلِهَذَا الْمَاءِ ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ، أَوْسَطُهَا السَّائِلُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ وَيُسْقَى بِهِ النَّبَاتُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي حَالِ اعْتِدَالِ الْحَرَارَةِ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِلَى دَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ صَارَ ثَلْجًا أَوْ جَلِيدًا، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ صَارَ بُخَارًا، فَإِذَا كَشَفَ سُمِّيَ ضَبَابًا وَسَدِيمًا، فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ سُمِّيَ دُخَانًا. وَفِي آيَةِ " الرَّعْدِ "(2) جَمَعَ بَيْنَ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ وَتَفْصِيلِ الْآيَاتِ، وَآيَةُ " طه " (5) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّ:(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)(20: 6) وَآيَةُ الْفُرْقَانِ (59) ذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ

بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (61) فَذِكْرُ الْبُرُوجِ تَفْصِيلٌ لِنِظَامِ الزَّمَانِ، وَآيَةُ الم السَّجْدَةِ (4) نَفَى فِيهَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ أَوْ شَفِيعٌ، وَقَفَّى عَلَيْهَا بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنَ

ص: 17

السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ يَنْزِلُ مِنْهُ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا نَعُدُّهُ (32: 5) وَقَالَ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)(57: 4) إِلَخْ.

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَكَلَّفُوا تَفْسِيرَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَوْ تَأْوِيلَهُنَّ بِالْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ عِنْدَ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الْمُخَالِفَ لِلْقُرْآنِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْفَلَكِ الْأُورُبِّيَّ قَدْ نَقَضَ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْخَيَالِيَّةَ، بِالْأَدِلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ رِيَاضِيَّةٍ حِسَابِيَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ، وَمِنْ طَبِيعِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ كَتَحْلِيلِ النُّورِ وَسُرْعَتِهِ وَوَزْنِ الْحَرَارَةِ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْفَلَكِ الْحَدِيثِ وَمَبَاحِثِ التَّكْوِينِ قَرِيبٌ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، كَبُعْدِهِ عَمَّا يُخَالِفُ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْيُونَانِ.

وَأَزِيدُكَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي اصْطِلَاحِ الْهَيْئَةِ الْقَدِيمَةِ هِيَ مَرْكَزُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَيُحِيطُ بِهَا فَلَكُ الْقَمَرِ فَهُوَ سَمَاؤُهَا، وَيُحِيطُ بِهِ فَلَكُ عُطَارِدَ فَأَفْلَاكُ الزُّهْرَةِ فَالشَّمْسِ فَالْمِرِّيخِ فَالْمُشْتَرِي فَزُحَلَ فَفَلَكِ النُّجُومِ كُلِّهَا فَالْفَلَكِ الْأَطْلَسِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُقِ اللهُ إِلَّا أَرْضًا وَاحِدَةً فِي قَلْبِ تِسْعِ سَمَاوَاتٍ، وَالسَّمَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا سَمَا وَعَلَا، فَكُلُّ مَا فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ فَهُوَ سَمَاءٌ، وَنَقَلَ الرَّاغِبُ عَنْ بَعْضِهِمْ: كُلُّ سَمَاءٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دُونِهَا فَسَمَاءٌ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى فَوْقِهَا فَأَرْضٌ، إِلَّا السَّمَاءَ الْعُلْيَا فَإِنَّهَا سَمَاءٌ بِلَا أَرْضٍ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ:(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(65: 12) وَالسَّبْعُ مِثْلٌ وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْعَصْرِيَّ بِسُنَنِ التَّكْوِينِ الْعَامَّةِ يَرْتَقِي فِي هَذِهِ الْأَجْيَالِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَ مَا يَنْكَشِفُ مِنْهَا لِلْعُلَمَاءِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْأُصُولِ قَدْ يَنْقُضُ بَعْضَ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُضْ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ عليه الصلاة والسلام فَأَصْلُ السَّدِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(41: 11) وَأَصْلُ خَلْقِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لَا يَزَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتًا عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَدْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَادَّةِ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ خَرَابِ الْعَالَمِ الَّذِي تَرْجِعُ بِهِ هَذِهِ

الْأَجْرَامُ إِلَى مَادَّتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ 44)(: 10) وَعَبَّرَ عَنْهُ كَذَلِكَ بِالْغَمَامِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)(25: 25) وَقَوْلِهِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)(2: 210) وَالْغَمَامُ فِي اللُّغَةِ السَّحَابُ الرَّقِيقُ، فَالدُّخَانُ وَالْغَمَامُ وَالْبُخَارُ وَالسَّدِيمُ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ اللَّطِيفَةِ (الْمَاءِ) قَالَ حُكَمَاؤُنَا: الْبُخَارُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مَائِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالدُّخَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَنَارِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، وَالْغُبَارُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ وَهَوَائِيَّةٍ، اهـ. وَأَرَقُّهُ الْهَبَاءُ قَالَ - تَعَالَى -:

ص: 18

(إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)(56: 4 - 6) وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالدُّخَانِ عَنِ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ لِلْبُخَارِ وَالدُّخَّانِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ الْمَاءِ، وَالْأُوكْسُجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ النَّارِ، وَالِاسْمُ الْعُرْفِيُّ لِجِنْسِ هَذِهِ الْبَسَائِطِ (الْغَازُ)، وَالسَّدِيمُ فِي اللُّغَةِ: الْغَمَامُ وَالضَّبَابُ وَاخْتَارَهُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ عَلَى الدُّخَانِ وَغَيْرِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.

وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ التَّنْزِيلَ أَرْشَدَنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا عَرْشَهُ الْعَظِيمَ، إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا جَعَلَهُ مَصْدَرًا لَهُ مِنْ سُنَنِ التَّكْوِينِ وَأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، وَفِي آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَرْشَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ سُنَنِهِ وَنِعَمِهِ وَحِكَمِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ وَلَا شُعُوبُ الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ تَعْرِفُهَا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ إِلَّا فِي عَصْرِنَا هَذَا.

مِنْ ذَلِكَ أَصْلُ خَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(22: 5) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(50: 7) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(26: 7) وَقَوْلِهِ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(31: 10) فَالزَّوْجُ الْبَهِيجُ وَالْكَرِيمُ هُوَ الْمُنْبَتُ الْمُنْتَجُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ:(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى)(53: 45 و46) وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ (75: 36 - 39) .

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا انْكَشَفَ لِلْبَشَرِ مِنْ عِلْمِ التَّكْوِينِ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَوِ الْمَنْشَأِ

الْأَوَّلِ لِلْخَلْقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا يُسَمَّى بِالْجَمَادِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَهُوَ اتِّحَادُ ذَرَّاتِهِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا فِي لُغَةِ الْعِلْمِ (بِالْإِلِكْتِرُونِ وَالْبُرُوتُونِ) فَهَلْ لِهَذَا مِنْ أَصْلٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟

قُلْتُ: نَعَمْ ; إِنْ هَذَانِ إِلَّا زَوْجَانِ مُنْتَجَانِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْصُرْ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بَلْ قَالَ - تَعَالَى -:(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(51: 49) وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا فِي الْعُمُومِ، وَأَدْهَشُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْفُهُومِ، وَأَعْظَمُ عِبْرَةً لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْعُلُومِ، قَوْلُهُ عز وجل:(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)(36: 36) فَهُوَ يَشْمَلُ الْكَهْرَبَائِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا عُلِمَ وَمِمَّا قَدْ يُعْلَمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ، لَا يُعْقَلُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ لِيَخْطُرَ بِبَالِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا فِي خَلَدِ أَحَدٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْعَقْلِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ.

عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ النُّورِ وَالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَلْقِ

ص: 19

وَسُنَنِ الْإِبْدَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْكَهْرَبَاءِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَأَظْهَرُهُ آيَةُ النُّورِ الْعُظْمَى فِي سُورَتِهِ:(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(24: 35) وَقَوْلُهُ فِي مَثَلِهِ مِنْهَا: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)(24: 35) وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ خَلَقَ (الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)(55: 15) أَوْ (مِنْ نَارِ السَّمُومِ)(15: 27) وَهِيَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَحَدِ أَيَّامِهَا كُتْلَةً نَارِيَّةً مُشْتَعِلَةٍ، وَرَاجِعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ (7: 134) فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -.

فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ السُّنَنُ الْعَجِيبَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونَ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهَا أَسْبَقَ إِلَى مَا أَظْهَرَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ؟

قُلْنَا: أَوَّلًا - إِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، هُوَ إِيرَادُهَا فِي آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي السُّوَرِ مَمْزُوجَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَالْفَوَائِدِ لَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ سُورَةِ " يُونُسَ " الَّتِي صَدَرَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.

ثَانِيًا - إِنَّ هَذِهِ السُّنَنَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَقِيدَتَيِ: التَّوْحِيدِ، وَالْبَعْثِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ تُذْكَرَ مَعَهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

ثَالِثًا - إِنَّ الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْبَشَرَ بِكَسْبِهِمْ وَبَحْثِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَحْيُ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَيْهَا.

رَابِعًا - لَوْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ تَامٌّ لِجَمِيعِ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ لَتَعَذَّرَ فَهْمُهَا قَبْلَ تَحْصِيلِ مُقَدِّمَاتِهِ بِالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَكَانَتْ فِتْنَةً لِبَعْضِ مَنْ فَهِمَهَا بِالْجُمْلَةِ، وَإِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا وَاضِحَةً كَآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا:(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا)(7: 54) وَفِي غَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَهَا.

خَامِسًا - وَلَوْ لَمْ يَعْرِضْ لِلْحَضَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مَا وَقَفَ بِتَرَقِّي الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، لَسَبَقُوا إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بَعْدَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرْيِ عَلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْكَوْنِيَّةَ يَمُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوقِفُ سَيْرَهَا.

هَذَا، وَإِنَّ مُؤَلِّفَ هَذَا التَّفْسِيرِ الضَّعِيفَ قَدْ صَرَّحَ فِي مَقْصُورَتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي عَهْدِ طَلَبِ الْعِلْمِ بِطَرَابُلُسِ الشَّامِ، بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْأَزْوَاجِ مَصْدَرَ التَّكْوِينِ الْعَامِّ، وَأَشَارَ إِلَى شَوَاهِدِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ مُوَلِّدَاتِ الْفِكْرِ وَالْخَيَالِ فَقَالَ:

ص: 20

تَبَارَكَ الْبَارِئُ مُبْدِعُ الْوَرَى

بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنَى

أَحْكَمَ رَبِّي مَا بَرَاهُ فَانْبَرَى

مُسْتَحْصِفَ الْمَرِيرِ مَشْدُودَ الْعُرَى

أَنْشَأَ فِي الدُّخَانِ كُلَّ صُورَةٍ

فَسَمَكَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ دَحَا

(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) الَّذِي

أَنْشَأَ مِنْهُ كُلَّ حَيٍّ وَبَرَا

وَخَلَقَ الْأَشْيَاءَ أَزْوَاجًا وَمِنْ

ذُرِّيَّةِ الزَّوْجَيْنِ يَذْرُو مَا يَشَا

ثُمَّتَ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)

بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ (ثُمَّ هَدَى)

فَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِقَدَرٍ

لَا أُنُفٌ مُبْتَدَأٌ وَلَا سُدَى

فَابْعَثْ رَسُولَ الطَّرْفِ مِنْكَ رَائِدًا

يَجُوبُ أَجْوَازَ الْبِحَارِ وَالْفَلَا

وَاسْرِ بِهِ لِلْأُفْقِ فِي مَرَاصِدٍ

مِعْرَاجُهَا يُدْنِي إِلَيْكَ مَا نَأَى

وَسَرِّحِ الْفِكْرَ رَبِيئًا ثَانِيًا

لِمَسْرَحِ الْأَرْوَاحِ يَسْعَى وَالنُّهَى

حَتَّى إِذَا جَاسَا خِلَالَ الدَّارِ مِنْ

حِسٍّ إِلَى نَفْسٍ وَرَوْحٍ وَحِجَا

ص: 21

سَائِلْهُمَا هَلْ ثَمَّ مِنْ تَفَاوُتٍ

أَوْ خَلَلٍ فِي الْبَدْءِ كَانَ أَوْ عَرَا

إِنِّي وَتِلْكَ مَظْهَرٌ لِلْحَقِّ فِي

صِفَاتِهِ وَمَا تَسَمَّى مَنْ سُمَا

(فَلَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ) أَنْ يَجْرِي بِهَا

(أَبْدَعَ مِمَّا كَانَ) قَبْلُ وَجَرَى

(ثُمَّ ارْجِعِ) الطَّرْفَ إِلَيْهَا (يَنْقَلِبْ

إِلَيْكَ) خَاسِئًا حَسِيرًا قَدْ عَشَا

يَتْلُ عَلَيْكَ الْآيَ (صُنْعَ اللهِ) مَنْ

(أَتْقَنَ كُلَّ) مَا رَأَيْتَ وَتَرَى

ثُمَّتَ يَتْلُ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ)

مِنْ سُنَنِ الْحَكِيمِ فِي هَذَا الْوَرَى

وَأَنَّهُنَّ سُنَنٌ ثَابِتَةٌ

مِثْلَ نِظَامِ الشَّمْسِ فَاتْلُ (وَالضُّحَى)

قَامَ بِهِنَّ أَمْرُ كُلِّ عَالَمٍ

فِي أَرْضِنَا وَفِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى

مَا ثَمَّ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ عَنْ

شَيْءٍ وَلَا قَوْمٍ فَهُمْ فِيهَا سَوَى

نَاهِيكَ بِالْإِنْسَانِ فِي اجْتِمَاعِهِ

طَرْدًا وَعَكْسًا وَأَمَامًا وَوَرَا

يَجْرِي عَلَى حُكْمِ تَنَازُعِ الْبَقَا

فِي أَرْجَحِ الْأَمْرَيْنِ نَشْأٌ وَارْتِقَا

كَرَاسِبِ الْإِبْلِيزِ وَالْإِبْرِيزِ إِذْ

يَذْهَبُ طَافِي زَبَدِ الْمَاءِ جُفَا

وَسُنَّةُ النِّتَاجِ بِالزَّوَاجِ بَلْ

كُلُّ تَوَلُّدٍ تَرَاهُ فِي الْوَرَى

ص: 22

يَظْهَرُ هَذَا فِي الْمَوَالِيدِ وَفِي الْ

جَمَادِ وَالتَّفْكِيرِ رُبَّمَا بَدَا

فَاجْتَلِهِ فِي الْحَيَوَانِ نَاطِقًا

وَأَعْجَمًا وَفِي النَّبَاتِ الْمُجْتَنَى

بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ بِجِسْمٍ نَبَتَتْ

زَادَ بِهَا الْجِسْمُ امْتِدَادًا وَنَمَى

خَلِيَّةَ يُقْرَنُ فِي غُضُونِهَا

نَوِيَّتَانِ تَنْثَنِي وَهْيَ زَكَا

وَالْكَهْرَبَا زَوْجَانِ إِمَّا اقْتَرَنَا

تَأَلَّقَ الْبَرْقُ وَشِيكًا وَخَفَا

كَالزَّنْدِ وَالزَّنْدَةِ إِمَّا ازْدَوَجَا

بِالِاقْتِدَاحِ أَنْتَجَا نَارَ الصَّلَى

وَالْمُعْصِرَاتُ عِنْدَمَا أَلْقَحَهَا الثَّـ

ـائِبُ جَاءَتْ بِوَلِيدِهَا الْحَيَا

وَلَامَسَ الْبِحَارَ فِي سُكُونِهَا

فَاعْتَلَجَ الْآذِيُّ فِيهَا وَطَغَا

وَالْمَاءُ وَالتُّرْبَةُ إِذْ تَقَارَنَا

تَوَلَّدَتْ صُمُّ الصُّخُورِ وَالْحَصَى

وَافْتَرَشَ الْأَرْضَ الْحَيَا فَانْفَتَقَتْ

عَنْ كُلِّ زَوْجٍ يُرْتَعَى وَيُجْتَنَى

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)

ص: 23

هَذِهِ الْآيَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) إِلَخْ، وَهِيَ كُلُّهَا بَيَانٌ لِحَالِ النَّاسِ تِجَاهَ مَا بُلِّغُوهُ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ التَّوْحِيدُ - وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَذِيرًا وَبَشِيرًا وَمَا أَنْذَرَ وَبَشَّرَ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَالِ الْجَزَاءِ فِيهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِخَلْقِهِ - تَعَالَى - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِاخْتِبَارِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ قُصَارَى مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ الْمُنْكِرُونَ لِإِنْذَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُ فَقَالَ:(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الْآيَةُ شَرْطِيَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(3) عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيهِ، وَالْأُمَّةُ هُنَا: الطَّائِفَةُ أَوِ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَنِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ:(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)(12: 45) وَأَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الدِّينِ وَالْمِلَّةِ الْخَاصَّةِ وَالزَّمَنِ الْخَاصِّ. أَيْ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا وَمَحْدُودَةٍ فِي نِظَامِ تَقْدِيرِنَا وَسُنَّتِنَا فِي خَلْقِنَا، الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِنَا:(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)(13: 38) أَوْ إِلَى أُمَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ

تُعَدُّ بِالسَّنَوَاتِ، أَوْ مَا دُونَهَا مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَيَّامِ (لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) يَعْنُونَ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُ هَذَا الْعَذَابَ مِنَ الْوُقُوعِ إِنْ كَانَ حَقًّا كَمَا يَقُولُ هَذَا النَّذِيرُ؟ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ إِنْكَارًا لَهُ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أَيْ أَلَا إِنَّ لَهُ يَوْمًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ إِذْ تَنْتَهِي الْأُمَّةُ الْمَعْدُودَةُ الْمَضْرُوبَةُ دُونَهُ، وَيَوْمَئِذٍ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ صَارِفٌ وَلَا يَحْبِسُهُ حَابِسٌ. (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وَسَيُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَلَا هُوَ يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يَنْجُونَ مِنْهُ، عَبَّرَ بِـ حَاقَ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْفَاعِلِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ بِفِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَمِرِّ لِلْإِيذَانِ بِعِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَهَذَا الْمَوْضُوعُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ (28، 45 - 55) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ إِبْهَامِ هَذَا الْعَذَابِ بِمَا يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ مِنَ السُّوَرِ.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِبَارِ اللهِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(7) أَيْ لَئِنْ أَعْطَيْنَاهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ رَحْمَةً مِنَّا مُبْتَدَأَةً أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا، فَكَانَ مُغْتَبِطًا بِهَا، كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَالْوَلَدِ الْبَارِّ. (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ مِنْ مَرَضٍ وَعُسْرٍ وَفِتَنٍ وَمَوْتٍ. (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) أَيْ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَشَدِيدُ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَطُوعٌ لِلرَّجَاءِ مِنْ عَوْدَةِ

ص: 24