المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ - تفسير المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

الفصل: تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ

تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ يَتَمَتَّعُ بِهَا، فَضْلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْهَا، فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْيَأْسِ مِمَّا نُزِعَ مِنْهُ، وَالْكُفْرِ بِمَا بَقِيَ لَهُ لِحِرْمَانِهِ مِنْ فَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) النَّعْمَاءُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا - كَالنِّعْمَةِ بِالْكَسْرِ وَالنُّعْمَى بِالضَّمِّ - وَهِيَ مَا يُقَابَلُ بِالضَّرَّاءِ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلَمْ تَرِدِ النَّعْمَاءُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْإِذَاقَةُ أَخَصُّ

مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ كَشْفَ الضَّرَّاءِ السَّابِقَةِ وَإِحْلَالَ مَا هُوَ ضِدُّهَا مَحَلَّهَا، كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَزِيَادَةِ الْعَافِيَةِ وَالْقُوَّةِ السَّابِغَةِ، وَالْمَخْرَجِ مِنَ الْعُسْرِ وَالْفَقْرِ، إِلَى سَعَةِ الْغِنَى وَالْيُسْرِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ، إِلَى بُحْبُوحَةِ الْمَنَعَةِ وَالْعِزِّ. يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ مَنَحْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ الْيَئُوسَ الْكَفُورَ: نَعْمَاءَ، أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا وَنِعْمَتَهَا، بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بِاقْتِرَافِهِ لِأَسْبَابِهَا، إِثْرَ كَشْفِهَا وَإِزَالَتِهَا (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) أَيْ ذَهَبَ مَا كَانَ يَسُوءُنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالضَّرَّاءِ فَلَنْ تَعُودَ، فَمَا هِيَ إِلَّا سَحَابَةُ صَيْفٍ تَقَشَّعَتْ فَعَلَيَّ أَنْ أَنْسَاهَا بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أَيْ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَشَدِيدُ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ الَّذِي يُهَيِّجُهُ الْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ، وَمُبَالِغٌ بِالْفَخْرِ وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا، فَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهَا.

رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحَالِهِمَا، وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ لِبَيَانِ حَالَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -:

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَالَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ: الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ عِنْدَ زَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَفَرَحِ الْبَطَرِ وَعَظَمَةِ الْفَخْرِ بِهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا، يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ إِيمَانًا بِاللهِ وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) عِنْدَ كَشْفِهَا وَتَبْدِيلِ النَّعْمَاءِ بِهَا، مِنْ شُكْرِهِ - تَعَالَى - بِاسْتِعْمَالِ النِّعْمَةِ فِيمَا يُرْضِيهِ - تَعَالَى - مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) وَاسِعَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَمْحُو مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا وُفِّقُوا لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَشْمِيرٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بَارًّا لَا يَسْلَمُ فِي الضَّرَّاءِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ قَدْ يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَى أَوْ يُلَابِسُ بَعْضَ الْوِزْرِ، وَفِي حَالِ النَّعْمَاءِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الزَّهْوِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُغْفَرُ لَهُ بِصَبْرِهِ وَشُكْرِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى رَبِّهِ.

وَيُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرّ

ُ

دَعَانَا) ‌

‌(10:

12) إِلَخْ وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ)(10: 12) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (23) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ مَعَ تَفْسِيرِ: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا 10: 58

ص: 25

تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُكَرَّرَةَ بِالْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ الْبَلِيغَةِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَتِكَ لِمَا تُزَكِّي بِهِ نَفْسَكَ وَتُثَقِّفُ طِبَاعَهَا وَعَادَاتِهَا الضَّارَّةَ، وَالْجَامِعُ لِلْمُرَادِ هُنَا بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا، سُورَةُ:(وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(103: 1 - 3) .

(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وَمَوْضُوعِ دَعْوَتِهِ الْعَامَّةِ وَحَالِ النَّاسِ فِيهَا، وَبَيَانِ طِبَاعِهِمْ وَشُئُونِهِمُ الرَّدِيئَةِ إِلَّا مَا هَذَّبَتْهُ هِدَايَةُ الدِّينِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ خَاصَّةٌ بِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ، وَقَدْ بُدِئَتْ بِبَيَانِ غَمِّهِ وَحُزْنِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ وَيَلِيهِ تَحَدِّيهِ بِهِ الْمُثْبِتُ لِوَحْيِهِ.

(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ، الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ جُمْلَةِ لَعَلَّ بِحَسَبِ مَوْقِعِهَا هُنَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ،

أَيْ أَفَتَارِكٌ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، مِمَّا يَشُقُّ سَمَاعُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ، وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ تُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ كَرَاهَةَ (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أَيْ هَلَّا أَعْطَاهُ رَبُّهُ كَنْزًا مِنْ لَدُنْهُ يُغْنِيهِ فِي نَفَقَتِهِ وَيَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَالْكَنْزُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ الْمَالِ فِي الْأَرْضِ، عَبَّرُوا بِهِ عَمَّا يُنَالُ بِغَيْرِ كَسْبٍ، وَبِإِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ يَخُصُّهُ بِهِ (أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يُؤَيِّدُهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ " الْفُرْقَانِ ":(وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أَنْزِلُ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)(25: 7 و8) أَيْ

ص: 26

إِنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ وَكِتْمَانَ بَعْضِ الْوَحْيِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَشَأْنُهُ أَنْ تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، بِحَسَبِ الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، فَهَلْ أَنْتَ مُجْتَرِحٌ لِهَذَا التَّرْكِ، أَوْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَعْرِضُ لَكَ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟ كَلَّا لَا تَفْعَلْهُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ:(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(16: 127) وَقَوْلِهِ: (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(7: 1 و2) وَقَوْلِهِ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(18: 6) وَقَوْلِهِ (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)(26: 1 - 4) أَيْ لَعَلَّكَ قَاتِلُهَا غَمًّا وَانْتِحَارًا؟ أَيْ لَا تَفْعَلْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِنَادَهُمْ وَجُحُودَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَشِدَّةَ اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيمَا لَيْسَ أَمْرُهُ بِيَدِكَ، مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى ذَلِكَ لَوْلَا عِصْمَتُنَا إِيَّاكَ وَتَثْبِيتُنَا لَكَ، فَهَلْ تُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى تَبْخَعَ نَفْسَكَ؟ لَا لَا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَوْنِ الْإِرْشَادِ مَبْنِيًّا عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)(17: 74) .

(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) فَعَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهُ وَتُنْذِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَإِنْ سَاءَهُمْ وَأَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِأُمُورِ

الْعِبَادِ وَالرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ، الَّذِي هُوَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(2: 272) وَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(88: 21 - 22) وَ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(50: 45) .

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَعَلَّ)) لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا رَجَاءٌ وَطَمَعٌ وَشَكٌّ. وَقَالُوا: إِنَّهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْقَطْعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ) وَقَالَ شَيْخُنَا إِنَّهَا لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ ; أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ لِلْفَلَاحِ بِالتَّقْوَى، وَحَقَّقْنَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِإِطْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَإِحْدَاثِ الرَّجَاءِ عِنْدَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَحَصَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَعَانِيَهَا فِي ثَلَاثٍ: 1 - التَّوَقُّعِ: وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ، وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. 2 - التَّعْلِيلِ: قَالَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي فِرْعَوْنَ: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(20: 44) 3 - الِاسْتِفْهَامِ: وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ (أَقُولُ) : وَإِذَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُهُ كَاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَنَا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)

ص: 27

أَيْ بَلْ أَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، لَا تَدَّعُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَإِنَّكُمْ أَهْلُ اللَّسَنِ وَالْبَيَانِ، وَالْمِرَانِ عَلَى الْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَفُنُونِ الشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعُمُرِ الطَّوِيلِ الَّذِي عِشْتُهُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فَأَنْتُمْ بِهِ أَجْدَرُ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَقَصَصِهِ عَنِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ مُفْتَرَيَاتٍ فَأَنْتُمْ عَلَى مِثْلِهَا أَقْدَرُ فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَصْدَقُكُمْ لِسَانًا لَمْ أَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ، فَكَيْفَ أَفْتَرِي عَلَى اللهِ عز وجل وَأَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ مَعَهُ وَالْبَنَاتِ لَهُ وَالشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ، وَتَحْرِيمِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزَّرْعِ

وَالْأَنْعَامِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى وَضْعِهِ مِمَّنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْإِمْكَانِ، فَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِمَّنْ تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ لِيُسَاعِدُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ السُّوَرِ الْعَشْرِ، وَلْتَكُنْ مِثْلَهُ مُفْتَرَيَاتٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ، بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى مِثْلِ مَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيعٍ دِينِيٍّ وَمَدَنِيٍّ وَسِيَاسِيٍّ، وَحِكَمٍ وَمَوَاعِظَ وَآدَابٍ وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنِ الْمَاضِي وَأَنْبَاءٍ غَيْبِيَّةٍ عَلَى أَنَّهَا سَتَأْتِي، بِمِثْلِ هَذِهِ النُّظُمِ الْبَدِيعَةِ، وَالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ وَالْفَصَاحَةِ الْمُسْتَعْذَبَةِ فِي الْأَذْوَاقِ وَالْأَسْمَاعِ، وَالسُّلْطَانِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا كَانَ مَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ أَوَّلًا مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَّسِعُ لِكُلِّ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، أَوْ فَأْتُوا بِنَوْعٍ مِمَّا تَدَّعُونَ افْتِرَاءَهُ كَالْقَصَصِ فِي عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا وَهِدَايَتِهَا، مُكَرَّرًا كَتِكْرَارِهِ لِكُلِّ أَنْوَاعِهَا، هَذَا التَّكْرَارُ الَّذِي لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ، وَلَا تُمَلُّ إِعَادَتُهُ.

هَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ 38 مِنْ سُورَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي تِلْكَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَفِي هَذِهِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَقَدْ وَعَدْتُ فِي تَفْسِيرِهَا بِالْكَلَامِ عَلَى حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ عِنْدَمَا أَصِلُ إِلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ هَذِهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُبَيِّنَهَا هُنَاكَ مُجْمَلَةً لِئَلَّا تَخْتَرِمَنِي الْمَنِيَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنْتُهَا فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِعْجَازِ الْبَلَاغَةِ.

بَلْ سَبَقَ لِي أَنْ بَيَّنْتُ حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَاتِ التَّحَدِّي نُزُولًا، وَوَضَّحْتُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ الَّذِي عَقَدْتُهُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ وَهُوَ إِعْجَازُهُ بِأُسْلُوبِهِ وَنُظُمِهِ الْعَدِيدَةِ وَأَسَالِيبِهِ الْكَثِيرَةِ فِي سُوَرِهِ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ.

ص: 28

خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتِهِمُ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ، زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَحَدَّى فُصَحَاءَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ

لَمْ يَصِحَّ بِهِ نَقْلٌ، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ قَبْلَ أُخْرَى لَا يَقْتَضِي نُزُولَ جَمِيعِ آيَاتِهَا قَبْلَ جَمِيعِ آيَاتِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ فِي تَأَخُّرِ نُزُولِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَلَا يَصِحُّ بِالتَّحَكُّمِ الْمَحْضِ، فِيمَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّقْلِ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ التَّصَوُّرِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سُورَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ.

وَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنَ التَّأَمُّلِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُكَرَّرِ فِي سُوَرِهِ ; لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَطْلُبُوا مَعَانِيَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَلَى قِلَّتِهَا وَقِلَّةِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمِنْ مَدْلُولِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا وَحْدَهَا فِي مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَجُمَلِهَا، بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْفَنِّيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ وَأُصُولِهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَعْوَى الْإِعْجَازِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَسْبِقُ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ إِلَى أَعْلَى عِبَارَةٍ لَهُ وَأَبْلَغِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ مَا عَدَاهَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّابِقَ لَهَا قَدْ تَلَقَّاهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ، وَذَكَرْتُ مَثَلًا لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُعَدُّ كُلٌّ مِنْهَا فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَيَعْجِزُ عَنْهَا جَمِيعُ الْبُلَغَاءِ ثُمَّ بَيَّنْتُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ يُونُسَ أَنَّ الْقَامُوسَ الْأَعْظَمَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ هُوَ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعَشَرَاتِ وَالْمِئَاتِ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ وَقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا فِي قُلُوبِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ لَهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّنَاقُضِ أَوِ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا قَالَ:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(4: 82) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِعْجَازُ بِنَوْعَيْهِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ وَجْهَ وَصْفِهَا بِمُفْتَرَيَاتٍ

، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى بَسْطِ الْمَسْأَلَةِ وَفَاءً بِالْوَعْدِ فَأَقُولُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَرَاهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ تَبْلِيغِهِ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَفِيهَا وَجْهَانِ:(1) أَنَّهُ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَائِهِ أَنَّهُ كَلَامُهُ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْهُ آنِفًا.

(2)

أَنَّهُ افْتَرَى أَخْبَارَهُ الَّتِي يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ; إِذْ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ وَفِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ، وَقَدْ حَكَى الْأَمْرَيْنِ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ

ص: 29

الْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)(25: 4 - 6) فَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قِصَصُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي سَطَرُوهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَلِّي نَفْسَهَا عَنْ جَهْلِهَا بِالْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خُرَافَاتٌ وَأَكَاذِيبُ، فَالتَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ هُوَ الَّذِي يُفَنِّدُ هَاتَيْنِ التُّهْمَتَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْهَضِ حُجَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لَا جَدَلِيَّةٍ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْعَجْزِ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَنُّوا أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوَاحِدَةِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدَةٍ كَانَ أَعْجَزَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَضْلًا عَنْ عَشْرٍ، فَتَفْصُوا مِنْ هَذَا بِدَعْوَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ التَّحَدِّي مُتَّحِدًا مُطْلَقًا وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ وَمُقَيَّدٌ.

ذَلِكَ بِأَنَّ افْتِرَاءَ الْأَخْبَارِ الْمُدَّعَى فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ. وَهِيَ قِسْمَانِ: (1) قِصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَحَدَّى بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهَا غَيْبِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ صلى الله عليه وسلم عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَفِي غَيْرِهِمَا. (2) أَخْبَارُ التَّكْوِينِ ; كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ، لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحَدِّي بِهَا

تَحَدِّيًا خَاصًّا، وَلَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ الْوَارِدَةِ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ النِّعَمِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَوْ سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَجِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذِهِ كُلَّهَا قِسْمًا وَاحِدًا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ.

(وَثَانِيهِمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: (1) وَعْدُ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَارَوْنَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ (2) الْقِيَامَةُ وَبَعْثُ الْخَلْقِ وَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ.

فَأَخْبَارُ الْغَيْبِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ: (1) أَخْبَارُ الْآخِرَةِ. (2) أَخْبَارُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا إِلَّا بِتَأْوِيلِهَا، أَيْ وُقُوعِ مَدْلُولِهَا. (3) قِصَصُ الرُّسُلِ عليهم السلام وَهِيَ

ص: 30

أُمُورٌ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، وَهَاكَ كَلِمَةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، يُعْلَمُ بِهَا تَرْجِيحُ الثَّالِثِ الَّذِي سَمَّوْهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا.

فَأَمَّا آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّوَرِ مِنْ أَطْوَلِهَا إِلَى أَقْصَرِهَا الَّتِي هِيَ سُوَرُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ بِتَكَرُّرِهَا الْمَبْثُوثِ فِي مِئَاتِ الْمَوَاضِعِ مِنَ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَلَاغَةِ الدَّقِيقَةِ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ قِصَارَ الْمُفَصَّلِ الْمَكِّيَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا هِيَ: التِّينُ، وَالْعَادِيَاتُ، وَالْقَارِعَةُ وَالتَّكَاثُرُ، وَالْهُمَزَةُ، وَاللهَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلِهَا مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الضُّحَى، وَلَا يَظْهَرُ لِلتَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْهَا مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ.

وَأَمَّا آيَاتُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلْكَافِرِينَ بِالْخِذْلَانِ وَالْعَذَابِ، فَلَا يُوجَدُ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ صَرِيحٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِشَارَاتٌ فِي بَعْضِهَا (مِنْهَا) سُورَةُ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّادِق

ُ

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِعْطَائِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَمِنْهُ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ الَّذِي كَانَ أَغْنِيَاءُ قَوْمِهِ يُعَيِّرُونَهُ بِهِ، وَالْوَعِيدُ الصَّادِقُ لِعَدُوِّهِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِي سَمَّاهُ أَبْتَرَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ الْقَاسِمِ، بِأَنَّهُ هُوَ الْأَبْتَرُ الَّذِي سَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ بِنَسْلِهِ وَغَيْرِ نَسْلِهِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ بَقَاءَ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِذُرِّيَّتِهِ وَبِآثَارِ هِدَايَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ خُلَاصَةَ تَفْسِيرِهَا فِي بَحْثِ إِعْجَازِ السُّوَرِ الْقِصَارِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَمِنْهَا) سُورَةُ (اللهَبِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهَا خَبَرٌ بِهَلَاكِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا دُعَاءٌ فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَقَدْ صَدَقَ، فَقَدْ مَاتَ أَبُو لَهَبٍ شَرَّ مِيتَةٍ خَارِجَ مَكَّةَ وَبَقِيَ مُلْقًى حَتَّى تَفَسَّخَ وَأَنْتَنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِأَيَّامٍ، وَهِيَ أَوَّلُ انْتِقَامِ اللهِ مِنْ عُتَاةِ قُرَيْشٍ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ:(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(44: 16) وَمِثْلُهَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ، وَقَدْ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَدَقَ بِقَتْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَشَرَّ قِتْلَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ (الْمُدَّثِّرِ) مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ وَعِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَدْ صَدَقَ وَوَقَعَ - فَهَذِهِ أَرْبَعُ سُوَرٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيهَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشَدِّ الْعُتَاةِ الَّذِينَ بَارَزُوهُ الْعَدَاوَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ - مِمَّنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ - مِنَ الْوَعِيدِ لَهُ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ ; لِأَنَّهُ جُزْئِيَّاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ مُجْمَلَةٌ، لَا وَقَائِعُ فَاصِلَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ أَيْضًا.

ص: 31

وَمِنَ الْوَعِيدِ الْعَامِّ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجِنِّ مِنْ تَبْلِيغِهِ صلى الله عليه وسلم الدَّعْوَةَ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)(72: 24 و25) إِلَخْ. وَهَذَا بَعْدَ الْوَعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)(72: 16) .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلَا فِي أَوْسَطِهَا عَشْرُ سُوَرٍ نَاطِقَةٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ فَتَكُونَ هِيَ الْمُرَادَّةَ بِالتَّحَدِّي.

وَأَمَّا طِوَالُ الْمُفَصَّلِ فَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُبْهَمِ فِي سُوَرِ الذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ ; بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا،

ثُمَّ فِي سُوَرِ الْمُلْكِ وَالْقَلَمِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمَعَارِجِ، وَمَجْمُوعُ مَا فِيهِ يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ، إِنْ أُرِيدَ التَّحَدِّي بِهَا أَوْ دُخُولُهَا فِيمَا يُتَحَدَّى بِهَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْأَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِمَّا فَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَخْصِيصُ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ ; لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي سُوَرِهِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ لِذَاتِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ.

وَجْهُ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ:

وَأَمَّا قِصَصُ الرُّسُلِ عليهم السلام فَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ التَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ عَلَى أَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا مِنَ الْوُجُوهِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ مُعَارَضَتِهَا أَقْوَى حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُفْتَرَاةً مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، وَلَا مِمَّا أَعَانَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَصَوَّرُوا وَزَوَّرُوا، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مِثْلِهَا عَامٌّ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً مُسْتَهْدَفِينَ بِاتِّبَاعِهِ لِلْإِيذَاءِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَوْلَا الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَمَلٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَأَيُّ بَاعِثٍ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ مَعَهُ عَلَى تَزْوِيرِ كِتَابٍ عَلَى اللهِ عز وجل يُعَادُونَ بِهِ كُبَرَاءَ قَوْمِهِمْ وَعَصَبِيَّةَ أُمَّتِهِمْ بِمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ كَلِمَتَهَا وَيُضْعِفُونَهَا وَيُذِلُّونَهَا؟ ! وَكَيْفَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَاكِ، وَيُعَرِّضُ الْمُتَمَوِّلُ مِنْهُمْ مَالَهُ لِلزَّوَالِ لِتَأْيِيدِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ كُلُّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ وَسَائِرِ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا كَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَوَعْدِهَا وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُكَرَّرِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ فِي سُوَرِ النَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِنَّ أَنَّ مَوْضُوعَهَا وَقَائِعُ بَشَرِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ لَهَا رِوَايَاتٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ

ص: 32

وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، فَدَعْوَى افْتِرَائِهَا مِنْ أَصْلِهَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ عُرْضَةٌ لِضُرُوبٍ مِنَ الْخَطَأِ

اللَّفْظِيِّ، وَتِكْرَارُهُ مَزَلَّةٌ فِي مَدَاحِضِ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَطَلِ الْبَيَانِيِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَعَارِفِهِمْ وَمَا يَعْهَدُونَهُ بَيْنَهُمْ، لَا كَأُمُورِ الْغَيْبِ فِي غَيْرِ عَالَمِهِمْ، فَتَحَدِّيهِمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ جِنْسِهَا كَالتَّحَدِّي بِمُعَارَضَةِ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ لِمَقَامَاتِ بَدِيعِ الزَّمَانِ وَأَمْثَالِهِمَا، يُمْكِنُ لِأَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَحْكُمُوا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا فِي بَيَانِهِمَا وَحِكْمَتِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا.

وَقَدْ جَاءَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ مُكَرَّرَةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، تَبْتَدِئُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ، وَتَرْتَقِي فِي بَعْضِهَا إِلَى مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا، كَمَا تَرَاهُ فِي ((آلِ حمم)) مِنْ فُصِّلَتْ إِلَى الْأَحْقَافِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ وَ ((ق)) وَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ، وَفِي أَوَّلِ الْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ وَآخِرِ الْبُرُوجِ، فَهَذِهِ سُوَرٌ تَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا عِبَرٌ لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ قَصَصًا.

وَأَمَّا الْقِصَصُ فَقَدْ تَبْلُغُ فِي بَعْضِ سُورِهَا عَشَرَاتِ الْآيَاتِ كَيُونُسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحِجْرِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَتُعَدُّ فِي بَعْضِهَا بِالصَّفَحَاتِ لَا بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا مَا أَكْثَرَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ كَالْأَعْرَافِ وَمَرْيَمَ وَالنَّمْلِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا خَاتِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ كَيُوسُفَ

ص: 33

وَطه وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ، أَوْ فَاتِحَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَقْطَعٍ، كَهُودٍ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام سُورَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةٌ بِهِ وَبِقَوْمِهِ سُمِّيَتْ بِاسْمِهِ عَلَى تَكْرَارِهَا فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ سُورَةُ يُوسُفَ عليه السلام خَاصَّةٌ بِقِصَّتِهِ. كَمَا أَنَّ سُورَتَيْ طه وَالْقَصَصِ فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام وَحْدَهَا، عَلَى كَثْرَةِ تَكْرَارِهَا فِي غَيْرِهِمَا.

بَيْدَ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحَدِّي بِهَا كُلِّهَا، لَا بِالْقِصَصِ الَّتِي فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ سُوَرٍ وَلَا خَمْسٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ الْحَقِيقِيَّةُ وَسَطٌ بَيْنَ الطُّولِ وَالْمُفَصَّلِ، فَالْأُولَى مِنْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَآيَاتُهَا 206، وَآيَاتُ الْقِصَصِ فِيهَا 112 آيَةً، وَقَبْلَهَا قِصَّةُ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا وَخِتَامُهَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهَا فِيهِ سُورَةُ يُونُسَ، وَهِيَ 109 آيَاتٍ وَقَصَصُهَا 23 آيَةً، وَتَتْلُوهَا سُورَةُ هُودٍ، وَآيَاتُهَا 123 أَكْثَرُهَا فِي الْقَصَصِ، وَهِيَ أَشْبَهُ السُّوَرِ بِهَا فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا وَتَحَدِّيهَا فِي إِبْطَالِ الِافْتِرَاءِ، وَالْمَأْثُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا مُتَمِّمَةً لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَجُمْلَةُ مَا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ مِنْ سُوَرِ الْقَصَصَ: الْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَمَرْيَمُ وَهِيَ 98 آيَةً، وَطه وَهِيَ 135 وَالطَّوَاسِينُ: الشُّعَرَاءُ وَهِيَ 227 وَالنَّمْلُ وَهِيَ 93 وَالْقَصَصُ وَهِيَ 88 وَآيَاتُهُمَا أَطْوَلُ مِنْ آيَاتِ

الشُّعَرَاءِ وَنَزَلْنَ مُتَعَاقِبَاتٍ. وَيَلِيهِنَّ سُورَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ 55 آيَةً وَسُورَةُ ((ص)) وَهِيَ 88 آيَةً وَقَدْ نَزَلَتَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ، فَهَذِهِ تِسْعُ سُوَرٍ، وَسُورَةُ هُودٍ هِيَ الْعَاشِرَةُ لَهُنَّ.

مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِ عِبَارَاتِهَا:

وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّوَرِ تَخْتَلِفُ أَنَاظِيمُ سُوَرِهَا فِي أَوْزَانِهَا وَفَوَاصِلِهَا، وَفِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ اتِّفَاقِهَا وَتَشَابُهِهَا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ الْبَيَانِيَّةِ، فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَالْقَصْرِ وَالْحَصْرِ، وَمَوَاضِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَصِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ وَالشَّرْطِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَدَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْعُمُومِ وَالتَّخْصِيصِ، وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْإِيجَازِ وَالتَّطْوِيلِ، وَالْحَذْفِ وَالتَّكْرِيرِ، وَفُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّعْبِيرِ، كَالِالْتِفَاتِ وَالتَّضْمِينِ، وَصِيَغِ الْأَفْعَالِ وَتَعْدِيَتِهَا، وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا، فَإِنَّ لِعِبَارَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ، مَا لَا يَقْرَبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، وَمِنْ شَأْنِ اخْتِلَافِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ أَنْ تَتَعَارَضَ وَتَتَنَاقَضَ بِتَعَدُّدِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ مِنْهُ، وَقَدْ عَرَضْتُ لِنُكَتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا فِي الْمُقَابَلَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا فِي قِصَصِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ غَيْرِهَا.

ص: 34

ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَغَمًا خَاصًّا بِهِ فِي التَّرْتِيلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ التَّأْثِيرِ، فَاسْتَمِعْ لِمُرَتِّلِ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ طه سَاعَةً (زَمَانِيَّةً لَا فَلَكِيَّةً) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ سَاعَةً ثَانِيَةً، وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَهَا وَهِيَ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَتَأَمَّلْ مَا تَجِدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ فِي سَمْعِكَ، مُتَدَبِّرًا مَا تَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْعِبْرَةِ فِي قَلْبِكَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ جَرِّبْ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الْقِصَصِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، كَهُودٍ وَالنَّمْلِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَالْقَمَرِ، تَجِدُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِجَالِ الْبَيَانِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.

إِذَا فَطِنْتَ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ، بَدَا لَكَ أَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي جُمْلَةِ سُوَرِهَا، بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهَا، وَكُلِّ نَظْمٍ مِنْ

أَنَاظِيمِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْهَا، وَهَأَنَذَا قَدْ ذَكَرْتُ لَكَ عَشْرًا مِنْهَا مُخْتَلِفَاتٍ مُتَّفِقَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ غَيْرَ مُشْتَبِهَاتٍ، وَلَكِنْ حِكْمَةُ الْعَشْرِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى أَكْمَلِهَا فِي الْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنْهَا.

مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهَا الْعِلْمِيِّ:

إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ مِنَ الْإِعْجَازِ الصُّورِيِّ، لَأَشِعَّةٌ مِنْ ضِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، هِيَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، وَأَدَقُّ وَأَخْفَى، وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَجِيئُهَا عَلَى لِسَانِ كَهْلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ مُنْشِئًا وَلَا رَاوِيَةً وَلَا حَافِظًا، أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَأَمَّلْ مَا أَذْكُرُ بِهِ مِنْ مَزَايَاهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُتَشَعِّبَةِ، مِنْهَا:

(1)

بَيَانُ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْعَامَّةِ.

(2)

بَيَانُ أَنَّ وَظِيفَةَ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ فِيمَا وَرَاءَ التَّبْلِيغِ نَفْعًا لِلنَّاسِ - لَا دِينِيًّا كَالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلَا دُنْيَوِيًّا كَالرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، وَلَا كَشْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ كَذَلِكَ - فَقَدْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ وَامْرَأَتُهُ وَامْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ الْكَافِرِينَ.

(3)

شُبْهَةُ الْأَقْوَامِ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِمْ سِحْرٌ، وَاقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَرَدُّهُمْ بِأَنَّ آيَاتِهِمْ مِنْ فِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مِنْ كَسْبِهِمْ بِقُدْرَتِهِمْ.

(4)

بَيَانُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ كَسْبِهِمُ الِاخْتِيَارِيِّ.

ص: 35

(5)

آيَاتُ اللهِ وَحُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَأْيِيدِ رُسُلِهِ، وَطُرُقِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحَدِّي، وَمَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ كَالْأَوْلَادِ لِإِبْرَاهِيمَ وَزَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ، وَمَا ابْتَلَى اللهُ - تَعَالَى - بِهِ يُوسُفَ عليه السلام وَمَا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكَمَةِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (الرُّؤْيَا) وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ اصْطِفَائِهِ لَهُ، وَمِنْ إِدَارَتِهِ لِمُلْكِ مِصْرَ، وَقِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ.

(6)

نَصَائِحُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَوَاعِظُهُمُ الْخَاصَّةُ بِكُلِّ قَوْمٍ بِحَسَبِ حَالِهِمْ كَقَوْمِ نُوحٍ فِي غَوَايَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ، وَآلِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي ثَرْوَتِهِمْ وَعُتُوِّهُمْ، وَقَوْمِ لُوطٍ فِي فُحْشِهِمْ، وَعَادٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَثَمُودَ فِي أَشَرِهِمْ وَبَطَرِهِمْ، وَمَدْيَنَ فِي تَطْفِيفِهِمْ وَإِخْسَارِهِمْ لِمَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَجُمُودِهِمْ.

(7)

بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اسْتِعْدَادِ النَّاسِ النَّفْسِيِّ وَالْعَقْلِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَاسْتِكْبَارِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْآبَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ أَوَّلِ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءَ، وَفِي عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ.

(8)

مَا فِي قِصَصِ الْأَقْوَامِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ، وَالْمَوْضِعِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَحَالِ قَوْمِهِ مَعَهُ فِي خُنُوعِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ، وَفُنُونِهِمْ وَسِحْرِهِمْ، وَعُمْرَانِهِمْ وَعَظَمَةِ مُلْكِهِمْ، وَحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ فِي اسْتِعْبَادِهِ إِيَّاهُمْ وَظُلْمِهِ لَهُمْ، ثُمَّ فِي إِرْثِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِصَبْرِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، ثُمَّ فِي سَلْبِهَا مِنْهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَحَالِ عَادٍ قَوْمِ هُودٍ فِي قُوَّتِهِمْ وَبَسْطَةِ خَلْقِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ فِي اسْتِعْمَارِهِمُ الْأَرْضَ وَنَحْتِهِمُ الْجِبَالَ وَاتِّخَاذِهِمْ مِنْهَا بُيُوتًا حَصِينَةً أَمِينَةً، وَمِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا جَمِيلَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ كُلِّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ فِي إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمْ يَنْجُ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ عَذَابِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَنْجِيَةِ رُسُلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ.

(9)

بَيَانُ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الطِّبَاعِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ الْعَامِّ، وَمَا فِي خَلْقِهِ لِلْعَالَمِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَعَدَمِ مُحَابَاةِ الْأَفْرَادِ وَلَا الْأَقْوَامِ فِي نِعَمِ الدُّنْيَا وَنِقَمِهَا، وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ فِي الْآخِرَةِ ; فَقَدْ كَانَ الرُّسُلُ عليهم السلام يُصَرِّحُونَ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ عَصَى اللهَ لَعَذَّبَهُ وَلَمَا كَانَ لَهُ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ أَوْ يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ - تَعَالَى - خِلَافًا لِتَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي جَعَلَتِ الرُّؤَسَاءَ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، أَوْ وُكَلَاءَ لِلرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَتَقْسِيمِ رِزْقِهِ.

(10)

الِاحْتِجَاجُ بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَتُهُ مِنْ حَقِّيَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ.

ص: 36

فَقَدْ عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ كَانُوا خَيْرَ الْبَشَرِ، وَأَهْدَاهُمْ إِلَى أَصَحِّ الْعَقَائِدِ وَأَكْمَلِ الْفَضَائِلِ وَأَصْلَحِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ آثَارَهُمْ فِي الْهُدَى كَانَتْ أَجَلَّ الْآثَارِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ أَفْضَلَ قُدْوَةٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَعُلِمَ مِنْهَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى نِهَايَةِ بَقَاءِ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَكَانَتْ رِسَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً.

فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَدِيثًا مُفْتَرًى فَإِنَّ مُفْتَرِيَهُ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهِدَايَةً وَإِصْلَاحًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا رُسُلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - أَمْ لَا، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِاتِّبَاعِ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ لَهُ وَاهْتِدَائِهِمْ بِهَدْيِهِ، وَلَنْ يَكْشِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ إِلَّا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ، وَلَوْ مُفْتَرًى فِي صُورَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنَّ الِاحْتِذَاءَ وَالِاتِّبَاعَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالِابْتِدَاعِ، إِذَا كَانَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَلَكِنَّ افْتِرَاءَ الْأُمِّيِّ لِهَذِهِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مُحَالٌ أَيُّ مُحَالٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ، أَفَهَكَذَا يَكُونُ الِافْتِرَاءُ، وَالْحَدِيثُ الْمُفْتَرَى الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ الْعُقَلَاءَ حِرْصًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ الَّذِي كُنَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ؟ ! .

ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَوِ الْمَعَارِفَ الَّتِي أَجْمَلْتُهَا فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ كُلِّيَّةٍ (وَيُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا وَالْمَزِيدُ عَلَيْهَا بِمَا قَدْ يَفْتَحُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمُتَدَبِّرِينَ لِكِتَابِهِ) مُتَفَرِّقَةً فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ، وَلَا نَجِدُ فِيهَا عَلَى تَكْرَارِهَا تَنَاقُضًا وَلَا تَعَارُضًا، وَلَا فِي عِبَارَاتِهَا اخْتِلَافًا وَلَا تَفَاوُتًا، عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَقَبْضٍ، وَمُسَاوَاةٍ وَبَسْطٍ، وَهَذَا مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ أَيْضًا وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّعَدُّدِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تُوجَدُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً فِي سُورَةٍ وَلَا سُورَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَأَحْرَى بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ وَكَلَامِهِمْ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فِي التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتِيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهَا، تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَزَايَا كُلِّهَا ; فَالتَّحَدِّي بِهَذِهِ السُّوَرِ تَوْسِيعٌ عَلَى الْمُنْكِرِينَ إِنْ تَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهَا لَا تَضْيِيقٌ

عَلَيْهِمْ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ مَا قَرَّرْتُهُ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ بِبَلَاغَتِهِ الَّتِي فَسَّرُوهَا بِمُطَابَقَةِ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ فَقَطْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ هُنَا لَمَا كَانَ لِلتَّحَدِّي بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ وَجْهٌ، بَلْ لَكَانَ مُشْكِلًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَجَلٌ عُلِمَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَرِدُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى قَوْلِنَا ; فَإِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ مَنْ يُكَلِّفُ شَاعِرًا أَنْ يَنْظِمَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً بِقَصِيدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنْ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ أَنْ يَنْظِمَهَا بِعِدَّةِ قَصَائِدَ مُخْتَلِفَةِ الرَّوِيِّ وَالْقَوَافِي. وَإِنِّي لَأَعْجَبُ لِدَهَاقِيِ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ كَيْفَ سَكَتُوا عَنْ حِكْمَةِ هَذَا الْعَدَدِ إِلَّا قَوْلَ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ انْتِهَاءٌ إِلَى آخِرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ؟ .

ص: 37

وَإِنَّنِي أَجْزِمُ هُنَا - بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي جَمِيعِ آيَاتِ التَّحَدِّي وَتَارِيخِ نُزُولِ سُوَرِهَا - أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ مُرَاعًى بِهَا التَّرْتِيبُ التَّارِيخِيُّ فِي مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهَا بِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِ سُورَتِهِ، فَسُورَةُ الطُّورِ الَّتِي فِيهَا:(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)(52: 33 و34) وَهُوَ تَحَدٍّ بِجُمْلَتِهِ، قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ اللَّتَيْنِ تَحَدَّاهُمْ فِيهَا بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ. وَسُورَةُ الْإِسْرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَهُنَّ، وَفِيهَا ذِكْرُ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (17: 88) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحَدِّيًا، وَكَانَ آخِرَ مَا نَزَلَ فِي التَّحَدِّي آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) وَهُوَ تَحَدٍّ لِلْمُرْتَابِينَ فِيمَا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ; إِذْ كَانَ نُزُولُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ.

الْخُلَاصَةُ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ الْمُعَانِدِينَ لَمْ يَجِدُوا شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ - بَعْدَ شُبْهَةِ السِّحْرِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَلْقَ رَوَاجًا عِنْدَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ بِلُغَتِهِمْ عَرَفُوهُ وَعَقَلُوهُ وَأَدْرَكُوا عُلُوَّهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ - إِلَّا زَعْمَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدِ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَمَا هُوَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ فِي جُمْلَةِ مَزَايَاهُ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَعُلُومِهِ، وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْإِلَهِيِّ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ فَعَجَزُوا، وَبَقِيَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فِي قِصَصِهِ ; إِذِ ادَّعَى أَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ،

وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ وَيُلَقَّنُهَا لِئَلَّا يَنْسَاهَا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ خَاصَّةٌ مُوَجَّهَةٌ إِلَى قِصَصِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي سُوَرِهِ الْكَثِيرَةِ، لَا يَدْحَضُهَا عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهَا الَّتِي حَصَرُوا الْإِعْجَازَ فِيهَا، وَلَا إِبْدَاعُ نَظْمِهَا وَلَا طَرَافَةُ أُسْلُوبِهَا أَيْضًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، أَيْ مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَهَا إِذَا كَانَتْ جَامِعَةً لِمَزَايَاهَا الْمَعْنَوِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّا أَظْهَرَهَا فِي الْجُمَلِ الْعَشْرِ آنِفًا.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ قَدْ كَانَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا، وَالسُّوَرُ الْمُفَصَّلَةُ فِيهَا الَّتِي تَمَّتْ عَشْرًا بِهَذِهِ السُّورَةِ (هُودٍ) وَكَلَّفَهُمْ دَعْوَةَ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ - تَعَالَى - لِيُظَاهِرُوهُمْ فَعَجَزُوا، وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَا مِنْ فُصَحَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَعَلَى غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّحَدِّي الظَّاهِرَةُ هُنَا.

وَلَهُ حِكْمَةٌ أُخْرَى بَاطِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى هِيَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا الْفَائِدَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوَجِّهُ الْأَنْظَارَ وَيَشْغَلُ الْأَفْكَارَ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِ مَا حَوَاهُ مِنْ حِكْمَةٍ وَعِرْفَانٍ، وَمَا لَهَا فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ مِنْ تَأْثِيرٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْغَافِلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ إِعْجَازَهَا مَحْصُورٌ فِي فَصَاحَةِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ وَبَلَاغَةِ الْبَيَانِ، عَلَى مَا فِي دَلَالَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ

ص: 38

مِنَ الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَذْهَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، أَوِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ مُدَّعِي عِلْمِ الطِّبِّ عَلَى عِلْمِهِ بِكِتَابٍ أَلَّفَهُ فِيهِ يُعَالِجُ بِهِ الْمَرْضَى فَيَبْرَءُونَ. فَالْبَلَاغَةُ تَكُونُ بِالسَّلِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا تَظْهَرُ فَجْأَةً وَكَامِلَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِّ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللهِ - تَعَالَى -، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ عِلْمَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْيٌ بَرَزَ بِكَلَامٍ مُعْجِزٍ لِلْخَلْقِ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آتَى هَذَا الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ مَا لَمْ يُؤْتِ أُولَئِكَ الْجَهَابِذَةَ الْأَقْوِيَاءَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَصَفَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يُحِيطُ

أَحَدٌ بِهِ عِلْمًا، وَأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.

وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْتُهُ قَوْلُهُ عز وجل فِي تَقْرِيرِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ صَحِيحَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَحَدَّى بِهِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ مَنْ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لِيُظَاهِرُوكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ الْمُمَاثِلَةِ لِسُوَرِ الْقُرْآنِ، مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وَتَعْبُدُونَ، وَهَوَاجِسِكُمُ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَكُمُ الشِّعْرَ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَقُرَنَائِكُمْ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَارِفِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِعَجْزِ الْجَمِيعِ عَنْ ذَلِكَ (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ، مُلَابِسًا لَهُ، مُبَيِّنًا لِمَا أَرَادَ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، لَا بِعِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ تَدَّعُونَ زُورًا أَنَّهُمْ أَعَانُوهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ عَلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، كَمَا قَالَ:(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)(7: 7) وَكَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هُودٍ (الْآيَةَ 49) وَمِثْلُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ (12: 102) وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ (28: 44 - 46) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا)(4: 166) وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)(72: 26 و27) إِلَخْ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ لَمْ يَكْسِبْ مِنْهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا.

الِاسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ كَإِجَابَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ دَاحِضَةٌ لِدَعْوَاهُمْ، مُثْبِتَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعُلُومِ الَّتِي فِيهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ الْبَشَرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ

ص: 39

التَّحَدِّي بِمَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَحَضَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهَا وَ ((أَنَّمَا)) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ كَالْمَكْسُورَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ (وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ يُعْبَدُ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَعْجِزَ كُلُّ مَنْ عَدَاهُ عَنْ مِثْلِ مَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا ظَهَرَ بِهَذَا التَّحَدِّي عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ آلِهَتِكُمْ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَعَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَالِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ دَاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِهِ وَحَقِّيَّةِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مُذْعِنُونَ لِأَحْكَامِهِ؟ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ مَحِيصٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَقَدْ دُحِضَتْ شُبْهَتُكُمْ. وَانْقَطَعَتْ مَعَاذِيرُكُمْ، إِلَّا جُحُودَ الْعِنَادِ وَإِعْرَاضَ الِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْإِسْلَامِ وَالْإِذْعَانِ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا إِيقَاعَ الشِّقَاقِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ:(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(5: 91) أَيْ عَنْهُمَا بَعْدَ عِلْمِكُمْ بِهَذَا الرِّجْسِ وَالْمَخَازِي الَّتِي فِيهَا أَمْ لَا؟ وَأَيُّ إِنْسَانٍ يَمْلِكُ مَسْكَةً مِنْ عَقْلٍ وَشَرَفٍ لَا يَقُولُ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَسْلَمْنَا أَسْلَمْنَا، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا؟ . (الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ) أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي لَكُمْ لِلتَّعْظِيمِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَاصٍّ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: إِنَّهُ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَا تَحَدَّيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مُفْتَرَيَاتٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِكَوْنِ أَخْبَارِهَا حَقًّا كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ - وَمَا هُمْ بِمُسْتَجِيبِينَ لَكُمْ لِعَجْزِهِمْ وَعَجْزِ مَنْ عَسَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ لِمُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْهِ - فَاثْبُتُوا عَلَى عِلْمِكُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ، وَازْدَادُوا بِهِ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ؟ أَيِ اثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الثَّانِي، وَلَكِنْ رَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.

ص: 40

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَحَقِّيَّةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَقْطَعُ أَلْسِنَةَ الْمُفْتَرِينَ وَيُبْطِلُ مَعَاذِيرَهُمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الصَّارِفَ النَّفْسِيَّ لَهُمْ عَنْهُ وَكَوْنَهُ شَرًّا لَهُمْ لَا خَيْرًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا شَهَوَاتُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَالْإِسْلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، قَالَ عز وجل:

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أَيْ مَنْ كَانَ كُلُّ حَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ أَدْنَى الْحَيَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ خُلِقَ لَهُمَا وَهِيَ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْوِقَاعُ، وَزِينَتُهَا مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيَاشِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، لَا يُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ اسْتِعْدَادًا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أَيْ نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا، وَافِيَةً تَامَّةً بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) وَهُمْ لَا يُنْقَصُونَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ نَتَائِجِ كَسْبِهِمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَرْزَاقِ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَالِ السَّبَبِيَّةِ، لَا عَلَى النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ، وَلَكِنْ لِهِدَايَةِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ: الْأَمَانَةِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ، وَاجْتِنَابِ الْخِيَانَةِ وَالزُّورِ وَالْغِشِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِأَهْلِهَا الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ فِيهَا، وَكَرَّرَ لَفْظَ ((فِيهَا)) لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فِي وَفَاءِ كَيْلِ الْجَزَاءِ وَفِي بَخْسِهِ، فَإِنَّهُ فِيهَا مَنُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ، وَأَمَّا جَزَاءُ الْآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُبَاشَرَةً:(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(18: 49) .

(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارُ الْعَذَابِ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّارِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا كَالْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا ; فَإِنَّ الْعَمَلَ لَهَا إِنَّمَا هُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَأَعْمَالُ الْبَرِّ وَالْفَضَائِلِ (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) وَفَسَدَ

ص: 41

مَا صَنَعُوا مِمَّا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ

الرَّحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالْقُرْبَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَغْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاعْتِزَازِ بِأُولِي الْقُرْبَى عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ كَالْحَبَطِ ; وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ أَنْ تُكْثِرَ الْأَنْعَامُ مِنْ بَعْضِ الْمَرَاعِي الَّتِي تَسْتَطِيبُهَا حَتَّى تَنْتَفِخَ وَتَفْسُدَ أَحْشَاؤُهَا، فَظَاهِرُ كَثْرَةِ الْأَكْلِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَبَبًا لِلضَّعْفِ، كَذَلِكَ مَا ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ سُوءَ النِّيَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَا (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لَهُ وَلَا أَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِمَقَاصِدِهَا، وَالنَّتَائِجُ تَابِعَةٌ لِمُقَدِّمَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِمْ خَيْرٌ وَنِيَّةٌ حَسَنَةٌ يُجَازَوْنَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.

قَالَ - تَعَالَى - فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْإِجْمَالِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)(17: 18 - 21) وَقَالَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

الدِّينُ يُبِيحُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ غَيْرِ الضَّارَّةِ، وَيُبِيحُ الزِّينَةَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا خُيَلَاءٍ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ يَحْتَقِرُ الْمَوَاهِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَرُوحَانِيَّةٍ، فَيَجْعَلُ كُلَّ هَمِّهِ وَحَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي تَفْضُلُهُ بِهَا الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ، فَيَفْضُلُهُ الثَّوْرُ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَالْبَعِيرُ فِي كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَالْعُصْفُورُ فِي كَثْرَةِ السِّفَادِ، وَالطَّاوُسُ فِي زِينَةِ الْأَلْوَانِ وَلَمَعَانِ اللِّبَاسِ. وَمَنِ اخْتَبَرَ أَهْلَ أَمْصَارِنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، عَلِمَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ مَا هُوَ مُفْسِدٌ لِصِحَّتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ حَتَّى نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، وَمَاحِقٌ لِثَرْوَتِهِمْ، وَمُضْعِفٌ لِأُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِضَاعَةُ آخِرَتِهِمْ، وَتَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ حُكُومَتَهُمْ

وَمَدَارِسَهُمْ لَا تُقِيمُ لِلتَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَزْنًا، وَتَجْعَلُ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ اخْتِيَارِيَّةً لَا يُلْزَمُهَا أَحَدٌ مِنْ مُعَلِّمِيهَا وَلَا مِنْ تَلَامِيذِهَا.

وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَخْتَلِفَ الرِّوَايَاتُ فِي الْآيَتَيْنِ، هَلْ نَزَلَتَا فِي الْمُشْرِكِينَ أَمْ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمَا نَزَلَتَا مُنْفَرِدَتَيْنِ فِي طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، بَلْ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ حَيْثُ لَا مُنَافِقُونَ وَلَا أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَوْضُوعُهُمَا عَامٌّ فِيمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا يَعْمَلُونَ لِأَجْلِهَا.

ص: 42

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَنْ يَهْتَدِي وَيَهْدِي بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ عَلَى جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ، أَوْ عِنَادٍ وَجُحُودٍ، فَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ عَلَى الْحُجَّةِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ هَادِيًا مُهْتَدِيًا بِهِ، فَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ; كَالْبُرْهَانِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالنُّصُوصِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، وَالْخَوَارِقِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَالتَّجَارِبِ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَالشَّهَادَاتِ فِي الْقَضَائِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ قَدْ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا تَرَى فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. وَكَانَتْ بَيِّنَاتُهُمْ قِسْمَيْنِ: حُجَجًا عَقْلِيَّةً، وَآيَاتٍ كَوْنِيَّةً، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَقْتَنِعْ بِبَيِّنَةِ الرَّسُولِ أَوْ يُكَابِرُهَا يَقُولُونَ:(مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)(11: 53) وَكَانَ مَنْ جَحَدَ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ بَعْدَ التَّحَدِّي وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ يُهْلَكُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَجِدُ هَذَا وَذَاكَ مُفَصَّلًا فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ:

إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي 6: 57 وَقَوْلِهِ: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(7: 105) فَالْأُولَى مَا عَلِمَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّهِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَبِإِظْهَارِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ:(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(6: 83) أَوْ مَا آتَاهُ مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَسْتَخْذِي لَهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَنْقَطِعُ بِهَا مُكَابَرَتُهُمْ.

وَكَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يُطْلِقُ الْبَيِّنَةَ تَارَةً عَلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً عَلَى آيَتِهِ الْكُبْرَى الْجَامِعَةِ لِلْبَرَاهِينِ الْكَثِيرَةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ:(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)(6: 57) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ)(6: 155 - 157) فَهَذَا

ص: 43

السِّيَاقُ يُشْبِهُ سِيَاقَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.

وَفِي الْمُرَادِ بِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ فِيهَا وَجْهَانِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَامٌّ قُوبِلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مَنْ لَا يُرِيدُونَ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نُورُ الْبَصِيرَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ مِنْ رَبِّهِ - فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)(39: 22)(وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) أَيْ وَيَتْبَعُ هَذَا النُّورَ الْفِطْرِيَّ وَالْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا مُذَكَّرًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَيُؤَيِّدُهُ نُورٌ آخَرُ غَيْبِيٌّ إِلَهِيٌّ مِنْهُ - تَعَالَى - يَشْهَدُ بِحَقِّيَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، الَّذِي هُوَ مَشْرِقُ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْبُرْهَانِ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) وَيَتْبَعُهُ وَيُؤَيِّدُهُ شَاهِدٌ آخَرُ جَاءَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام حَالَ كَوْنِهِ إِمَامًا مُتَّبَعًا فِي الْهُدَى وَالتَّشْرِيعِ، وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: شَهَادَةُ مَقَالٍ وَشَهَادَةُ حَالٍ ; فَالْأُولَى تَصْرِيحُهُ بِالْبِشَارَةِ

بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً فِي تَفْسِيرِ (7: 157) ، وَالثَّانِيَةُ مَا بَيْنَ رِسَالَةِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ التَّشَابُهِ.

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَفَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فِي كَمَالِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، الَّذِي عَرَفَ بِهِ حَقِّيَّةَ الْوَحْيِ الْعَامِّ الْأَخِيرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ، وَعَرَفَ تَأْيِيدَهُ بِالْوَحْيِ السَّابِقِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاتَّسَقَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْحُجَجِ الثَّلَاثِ فِي هِدَايَةِ دِينِهِ، كَمَنْ كَانَ يُرِيدُ مِنْ حَيَاتِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا النَّاقِصَةَ الْفَانِيَةَ وَزِينَتَهَا الْمُوَقَّتَةَ، مَحْرُومًا مِنَ الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ الْعَالِيَةِ، الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ؟ ! .

(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيِّنَةِ الْوَهْبِيَّةِ،

ص: 44

وَشَهَادَةِ الْوَحْيِ لِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِيمَانَ مَعْرِفَةٍ وَإِذْعَانٍ، عَلَى عِلْمٍ بِمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) الَّذِينَ تَحَزَّبُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَزُعَمَاءِ قُرَيْشٍ لِلصَّدِّ عَنْهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيِّ وَآلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَالَّذِينَ سَيَتَحَزَّبُونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أَيْ فَإِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ هِيَ الدَّارُ الَّتِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ - تَعَالَى - آنِفًا (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) (11: 16) وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَالْمَوْعِدُ اسْمُ مَكَانٍ (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أَيْ فَلَا تَكُنْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْعَاقِلُ فِي شَكٍّ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ، أَوْ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقُرْآنِ (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) إِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (مِنْ رَبِّكَ) وَخَالِقِكَ الَّذِي يُرَبِّيكَ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُكَ، وَيُوصِلُكَ إِلَى السَّعَادَةِ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) هَذَا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِاسْتِكْبَارِ زُعَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَتَقْلِيدِ مَرْءُوسِيهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِتَحْرِيفِهِمْ وَابْتِدَاعِهِمْ فِي دِينِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِـ - النَّاسِ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمِيعُ الْكُفَّارِ.

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ كُلَّهُمْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا فِي عَهْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَأَنَّ فِعْلَ الْمُضَارِعِ لِبَيَانِ الْحَالِ الْوَاقِعِ.

(الْوَجْهُ الثَّانِي) فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ ((كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا عِلْمَهُ الْيَقِينِيَّ الضَّرُورِيَّ بِنُبُوَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ 28، وَعَنْ صَالِحٍ فِي الْآيَةِ 63، وَعَنْ شُعَيْبٍ فِي الْآيَةِ 88، وَيَكُونُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ مِنْهُ - تَعَالَى - الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ((الْبَيِّنَةَ)) الْقُرْآنُ، وَ ((الشَّاهِدَ)) جِبْرِيلُ عليه السلام. وَقَوْلُهُ:(وَيَتْلُوهُ) عَلَى هَذَا مِنَ التِّلَاوَةِ لَا مِنَ التُّلُوِّ وَالتَّبَعِيَّةِ، فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ نُزُولِهِ بِهِ، وَكَانَ يُعَارِضُهُ وَيُدَارِسُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ جَمِيعَ مَا نَزَلَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ رَمَضَانَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ صلى الله عليه وسلم عَارَضَهُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ. وَفِي الشَّاهِدِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى ضَعِيفَةُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ ((مِنْهَا)) أَنَّهُ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ جِبْرِيلَ كَانَ يُحَفِّظُهُ الْقُرْآنَ أَنْ يُنْسَى مِنْهُ شَيْءٌ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ لِسَانُهُ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ ((وَمِنْهَا)) أَنَّهُ عَلِيٌّ

-

ص: 45

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَرْوِيهِ الشِّيعَةُ وَيُفَسِّرُونَهُ بِالْإِمَامَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - سُئِلَ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ لِسَانُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَابَلَهُمْ خُصُومُهُمْ بِمِثْلِهَا فَقَالُوا: إِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالْهَوَى، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالْجَلَاءِ وَالضِّيَاءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، بَلْ يَحْتَاجُ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) إِلَى تَأْوِيلٍ مُتَكَلَّفٍ.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي

الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)

هَذِهِ الْآيَاتُ السَّبْعُ بَيَانٌ لِحَالِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُدْمَجَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَبَدَأَ بِوَصْفِ الْأَوَّلِ فَقَالَ:

ص: 46

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فِي وَحْيِهِ وَأَقْوَالِهِ، أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْأَنْعَامِ (1) وَالْأَعْرَافِ (2) وَيُونُسَ (3) وَسَيَأْتِي فِي الْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَيُفَسَّرُ الِافْتِرَاءُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَأَظْهَرُهُ هُنَا اتِّخَاذُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ لَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَزَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، وَالْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُرُشَنَا ابْنُ اللهِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَكَذَا مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ بِتَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ دِينِهِ، لِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِهِ (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُحَاسَبَتِهِمْ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ)

الَّذِينَ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ ((الْأَشْهَادُ جَمْعُ شَاهِدٍ كَأَصْحَابٍ، أَوْ شَهِيدٍ كَأَشْرَافٍ)) (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أَيْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَشْخَاصِهِمْ فَيَفْضَحُونَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْمَقْرُونَةِ بِاللَّعْنَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى خُرُوجِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ مُحِيطِ الرَّحْمَةِ، وَجُمْلَةُ اللَّعْنَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْأَشْهَادِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(40: 51 و52) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ وَيَسْتُرَهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ:(هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ الشَّهَادَةِ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ سُوَرِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهَا بِأَلْفَاظِهَا فِي فَهَارِسِهَا.

ص: 47

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ الْمَلْعُونِينَ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ دِينُهُ الْقَيِّمُ وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أَيْ يَصِفُونَهَا بِالْعِوَجِ وَالِالْتِوَاءِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهَا، أَوْ يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَوْجَاءَ بِمُوَافَقَتِهَا لِأَهْوَائِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَإِبَاحَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِبَعْثٍ وَلَا جَزَاءٍ، وَإِنَّمَا الدِّينُ عِنْدَهُمْ رَابِطَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَشَعَائِرُ قَوْمِيَّةٌ، قَدْ يَتَعَصَّبُونَ لَهَا تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ، وَتَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، الْمُدَّعِينَ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا تَرَاهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

وَزِيَادَةُ - هُمْ - بَيْنَ الْمُتَبَدَّإِ وَالْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ (45) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ.

(أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ اللهَ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَكُفْرِهِمْ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) وَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِهِ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ، وَلَا أَنْصَارُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَلَكِنْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ يَكُونُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَوْ عُوقِبُوا فِيهَا، لَا بِالزِّيَادَةِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي إِفْسَادِ كُفْرِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمْ، وَتَدْسِيَةِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يُضَاعَفُ)) مِنَ الْمُضَاعَفَةِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ ((يُضَعَّفُ)) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّضْعِيفِ. وَعَلَّلَ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ بِقَوْلِهِ:(مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ أَسْمَاعِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ إِصْغَاءً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلَامِ اللهِ عز وجل لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَزُيِّنَ الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بَلْ كَانُوا (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (6: 26) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهِمْ:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(41: 26)(وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَلَوَازِمِهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ، صَارُوا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ وَالْهُدَى كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بِحَيْثُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ سَمَاعُ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةِ، وَمَا يُثْبِتُهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ

ص: 48

أَنَّهُمْ فَقَدُوا حَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَصَارُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِالْفِعْلِ ; بَلْ هُمْ كَمَا يَقُولُ أَمْثَالُهُمْ فِيمَا يُبْغِضُونَ: إِنَّنِي لَا أُطِيقُ رُؤْيَةَ فُلَانٍ، وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَتَذَكَّرْ أَوْ رَاجِعْ قَوْلَهُ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (10: 42) إِلَخْ.

وَأَمْثَالُهُمْ مُشَاهَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَعْطَى رَجُلٌ مُؤْمِنٌ رَجُلًا مُتَفَرْنِجًا مِنْهُمْ كِتَابَ ((الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) الَّذِي شَهِدَ لَهُ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِطَلَاوَةِ عِبَارَتِهِ

وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَمُوَافَقَةِ أُسْلُوبِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ لِذَوْقِ هَذَا الْعَصْرِ، ثُمَّ سَأَلَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ: كَيْفَ رَآهُ؟ ظَانًّا أَنَّهُ قَرَأَهُ كُلَّهُ بِشَغَفٍ وَأَنَّهُ سَيَشْكُرُ لَهُ هَدِيَّتَهُ، فَقَالَ: إِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَقْرَأَ مِنْهُ صَفْحَةً وَاحِدَةً، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ كُتُبَ أَشْهَرِ الْمَلَاحِدَةِ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِلَذَّةٍ وَرَغْبَةٍ كَمَا يَقْرَأُ الْقِصَصَ (الرِّوَايَاتِ) الْغَرَامِيَّةَ! ! ! !

(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّهُمْ دَسُّوهَا وَمَا زَكَّوْهَا فِي الدُّنْيَا فَفَقَدُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ وُجُودٍ لِمَنْ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، فَلَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) مِنَ اتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي سِيَاقِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ:(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ)(7: 44 و45) .

(لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) كَلِمَةُ لَا جَرَمَ تُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ لِمَا بَعْدَهَا ; قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَحُوِّلَتْ إِلَى مَعْنَى الْقَسَمِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى ((حَقًّا)) وَلِهَذَا تُجَابُ بِاللَّامِ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَأَشَدُّ النَّاسِ خُسْرَانًا. وَتَرَى مِثْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ، بِهَذَا وَصَفَ الْفَرِيقَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيَلِيهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خِيَارِهِ وَأَنْصَارِهِ - وَهُوَ:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ خَشَعُوا لَهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَانَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا زِلْزَالٌ وَلَا اضْطِرَابٌ. وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ قَصْدُ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنُّزُولُ فِيهِ، يَقُولُونَ: أَخْبَتَ الرَّجُلُ،

ص: 49

كَمَا يَقُولُونَ: أَنْجِدُوا أَسْهَلَ وَأَنَّهُمْ. وَيُقَالُ: أَخْبَتَ إِلَيْهِ وَأَخْبَتَ لَهُ، وَمِنَ الثَّانِي:(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

(22: 54) وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْمُخْبِتِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَسَطًا بَيْنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ (لَا يَزَالُونَ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا فَعَلَهُ الرَّاغِبُ مِنَ التَّنْظِيرِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْبَتِي الْقُلُوبِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ فِيهِمْ:(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(2: 74)(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِالذَّاتِ الْخَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أَيْ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ اللَّذِينَ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمَا وَبَيَانُ حَالِهِمَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِابْتِلَائِهِ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَالصِّفَةُ الْحِسِّيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِحَالِهِمَا، كَمَثَلِ الْأَعْمَى الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ فِي خِلْقَتِهِ، وَالْأَصَمِّ الْفَاقِدِ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، كَذَلِكَ فِي حِرْمَانِهِ مِنْ مَصَادِرِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ كَامِلُ حَاسَّتَيِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ كِلْتَيْهِمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ الْعِلْمَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ وَالتَّشْرِيعِ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِمَا يَرَى مِنَ الْأَكْوَانِ، وَهُمَا الْيَنْبُوعَانِ اللَّذَانِ يُفِيضَانِ الْعِلْمَ وَالْهُدَى عَلَى عَقْلِ الْإِنْسَانِ (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أَيْ هَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ صِفَةً وَحَالًا وَمَبْدَأً وَمَآلًا؟ كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ أَتَجْهَلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ هَذَا الْمَثَلَ الْحِسِّيَّ الْجَلِيَّ، أَوْ أَتَغْفُلُونَ عَنْهُ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ؟ أَيْ يَجِبُ أَنْ تَتَفَكَّرُوا فَتَتَذَكَّرُوا فَتَعْتَبِرُوا وَتَهْتَدُوا.

شَبَّهَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ أَوَّلًا بِالْأَعْمَى فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِ بَصَرِهِ فِيمَا يَفْضُلُ بِهِ بَصَرَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، مِنْ فَهْمِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَزِيدُهُ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهُدًى رُوحِيًّا، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِالْأَصَمِّ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ عَطْفِهِ عَلَى الْأَعْمَى لِيَتَأَمَّلَ الْعَاقِلُ كُلَّ تَشْبِيهٍ وَحْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(2: 18) بِدُونِ عَطْفٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ: التَّهْوِيلُ بِجَمْعِهِمْ لِلنَّقَائِصِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَبْقَ فِي اسْتِعْدَادِهِمْ مَنْفَذٌ لِلْهُدَى، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ:(فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)(2: 18) وَفِي الْآيَةِ: (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(2: 171) وَمِنَ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ عَطْفُهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَتَرْكُهُ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ التَّوْزِيعَ، وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّشْبِيهَيْنِ الْمُتَضَامِنَيْنِ.

ص: 50

قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)

تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُلَاصَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُخْتَصَرَةً مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ)(10: 71) إِلَخْ، وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا نُكْتَةَ هَذَا الْعَطْفِ فِيهَا، وَوَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَكَانَ مُتَمِّمًا وَشَاهِدًا لَهُ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)(7: 59) وَأَشَرْتُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَامَّةً. وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا بِمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلِي فَنَقُولُ:

- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) قَالَ الْمُعْرِبُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي السُّورَةِ، أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي جُمْلَتِهِ لَا مَعَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَا بُعِثَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَبَعْثِهِ نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ; لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ حَالَهُ مَعَهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عليهم السلام مَعَ أَقْوَامِهِمْ إِجْمَالًا

وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:(سُنَّةَ مِنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)(17: 77) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى قَوْمِكَ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أُصُولِهِ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَخْ.

ص: 51

وَافْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ; لِإِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مَا كَانَ لِلْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي كَلَامِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِبَيَانِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يُذْعِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْإِرْسَالَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ:

(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، بَلِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَاتَّخَذُوا لَهُ الْأَنْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أَيْ شَدِيدِ الْأَلَمِ ; وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِالطُّوفَانِ، وُصِفَ بِالْأَلَمِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ:(عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(7: 59) أَيْ أَلَمُهُ وَهَوْلُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:(عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ نُوحٌ جَامِعًا لِمَعْنَى الْأَلَمِ وَمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ ; إِذِ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْمَعَانِيَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِهِ:(أَفَلَا تَتَّقُونَ)(23: 23) وَمِثْلُهُ فِيهَا عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّقْوَى، كَمَا كَرَّرَ حِكَايَتَهُ عَنْهُمْ فِي الشُّعَرَاءِ، إِذِ التَّقْوَى مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ.

(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ فَبَادَرَ الْمَلَأُ، أَيِ الْأَشْرَافُ وَالزُّعَمَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْجَوَابِ لِيَكُونَ الدَّهْمَاءُ تَبَعًا لَهُمْ كَعَادَتِهِمْ،

وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ هُنَا بِـ ((الْفَاءِ)) ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الرَّدِّ السَّرِيعِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَفْصُولًا وَهُوَ:(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(7: 60) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُرَاجَعَةِ يُقَالُ:. . قَالَ. . . . . وَيُسَمَّى الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمَوْصُولَ بِالْفَاءِ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ بِمَا يُبْطِلُ دَعْوَتَهُ بِزَعْمِهِمْ، وَالْمَفْصُولُ لَيْسَ إِلَّا طَعْنًا وَتَخْطِئَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ لَا يُعْلَمُ مَتَى وَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ جَوَابًا مُتَّصِلًا بِالدَّعْوَةِ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ!

(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) فِي الْجِنْسِ، لَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْنَا تَكُونُ بِهَا نَذِيرًا لَنَا نُطِيعُكَ وَنَتَّبِعُكَ مُذْعِنِينَ لِنَبُّوتِكَ وَرِسَالَتِكَ (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) أَيْ أَرْدِيَاؤُنَا وَأَخِسَّاؤُنَا يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ أَوِ الْمَرْءُ بِضَمِّ الذَّالِ (كَضَخُمَ) فَهُوَ رَذْلٌ بِسُكُونِهَا (كَضَخْمٍ) وَجَمْعُهُ أَرْذُلٌ بِضَمِّ الذَّالِ، وَجَمْعُ

ص: 52

الْجَمْعِ أَرَاذِلُ أَوْ هُوَ جَمْعُ ((أَرْذَلَ)) بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ:(وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(25: 111) وَيَعْنُونَ بِهِمْ مَنْ دُونَ طَبَقَةِ الْأَشْرَافِ وَالْأَكَابِرِ كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إِذَا فَهِمُوهُ لِعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِمْ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) أَيْ اتَّبَعُوكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَيْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ، قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي بَاطِنِهِ، وَالْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِهِ، أَوْ فِي بَدْئِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ قَبْلَ تَكْرَارِ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِ وَتَوَالِيهِ، فَالْيَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَمْزَةٍ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي عُمَرَ بِالْهَمْزَةِ ((بَادِئَ)) وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْلَغُ لِاحْتِمَالِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) أَيْ وَمَا نَرَى لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَيْنَا أَدْنَى فَضْلٍ تَمْتَازُونَ بِهِ فِي جَمَاعَتِكُمْ، كَالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ يَحْمِلُنَا عَلَى اتِّبَاعِكُمْ وَالنُّزُولِ عَنْ جَاهِنَا وَامْتِيَازِنَا عَلَيْكُمْ بِالْجَاهِ وَالْمَالِ لِمُسَاوَاتِكُمْ (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) أَيْ بَلِ الْأَمْرُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّنَا نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ فِي جُمْلَتِكُمْ: الْمَتْبُوعُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّابِعُونَ فِي تَصْدِيقِهِ، فَهِيَ إِذًا ائْتِمَارٌ بِنَا تُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ تَقْلِبُوا الْحَقِيقَةَ فَتَجْعَلُوا الْفَاضِلَ مَفْضُولًا، وَالشَّرِيفَ مَشْرُوفًا

، وَقَدْ كَرَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالتَّكْذِيبِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالظَّنِّ.

أَجَابُوهُ بِأَرْبَعِ حُجَجٍ دَاحِضَةٍ: (الْأُولَى) أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَسَاوَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ مِنْ طَبَقَتِهِمْ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي بَيْتِهِ وَفِي شَخْصِهِ، وَهَكَذَا كَانَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُنَافِي دَعْوَى تَفَوُّقِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِجَعْلِ أَحَدِهِمَا تَابِعًا طَائِعًا، وَالْآخَرِ مَتْبُوعًا مُطَاعًا ; لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ.

(وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرَاذِلُهُمْ فِي الطَّبَقَةِ وَالْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ((بَادِيَ الرَّأْيِ)) لَا بِدَلِيلٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَبِهَذَا تَنْتَفِي الْمُسَاوَاةُ فَيَنْزِلُ هُوَ عَنْ رُتْبَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا إِلَى رُتْبَةِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الطَّبَقَاتِ السُّفْلَى، وَهَذَا مُرَجِّحٌ لِرَدِّ دَعْوَتِهِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُ.

(الثَّالِثَةُ) عَدَمُ رُؤْيَةِ فَضْلٍ لَهُ مَعَ جَمَاعَتِهِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ عَصَبِيَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ غَالِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ الْأَرَاذِلَ مِنْ مَقْعَدِهِمْ فِي السِّفْلَةِ، فَيَهُونُ عَلَى الْأَشْرَافِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ.

(الرَّابِعَةُ) أَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِضْرَابِ أَوْ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا ذَكَرُوا مِنَ التَّنَافِي وَالتَّعَارُضِ يُرَجِّحُونَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الدَّعْوَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ الْأَقْوَى لِرَدِّ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ أَخَّرُوهُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوهُ لَمَا بَقِيَ لِذِكْرِ تِلْكَ الْعِلَلِ الْأُخْرَى وَجْهٌ وَهِيَ وَجِيهَةٌ فِي نَظَرِهِمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ بَيَانِهَا، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ طَعْنٌ لَهُمْ عَلَى نُوحٍ عليه السلام أَشْرَكُوهُ فِيهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُجَابِهُوهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنَ الرَّذَالَةِ، وَنَحْنُ نَرَى مَلَاحِدَةَ هَذَا الْعَصْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حُجَجِهِمُ الدَّاحِضَةِ، وَغُرُورِهِمْ وَعَمَى

ص: 53

قُلُوبِهِمْ، لَا يَفْضُلُونَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا الْغُرُورَ بِفُنُونِ الْإِفْرِنْجِ وَقُوَّتِهِمْ، وَجَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى تَقْلِيدِ أَرَاذِلِهِمْ فِي شَرِّ رَذَائِلِهِمْ، وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ تَقْلِيدُ قَوْمِ نُوحٍ لِآبَائِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَالْبَلَاءُ عِنْدَنَا مِنْ فَسَادِ أُمَرَائِنَا وَبَاشَاوَاتِنَا وَأَغْنِيَائِنَا، فَهُمْ فِي مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ كَمَلَأِ نُوحٍ شَرُّ طَبَقَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَشَدُّهَا فَسَادًا وَإِفْسَادًا.

قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ

تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ دَحْضَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي رَدُّوا بِهَا عَلَيْهِ وَشُبُهَاتٍ أُخْرَى مِنْ لَوَازِمِهَا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ حِكَايَتِهَا بِالْعِلْمِ بِهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فَتَأَمَّلْهُ.

(قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) خَاطَبَهُمْ عليه السلام بِلَقَبِ الْقَوْمِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ ((يَا قَوْمِي، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الرَّسْمِ مُرَاعَاةً لِلنُّطْقِ)) اسْتِعْطَافًا وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَكَلِمَةُ ((أَرَأَيْتُمْ)) تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ((10: 50 و59)) وَغَيْرِهَا، وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 17.

أَيْ أَخْبِرُونِي يَا قَوْمِيَ الْأَعِزَّاءَ مَا رَأْيُكُمْ وَقَوْلُكُمْ فِي حَالِي مَعَكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ

ص: 54

ظَاهِرَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ تَبَيَّنَ لِي بِهَا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِي وَكَسْبِيَ الْبَشَرِيِّ

الَّذِي تُشَارِكُونَنِي فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَتَعَالِيمُ الْوَحْيِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ رَحْمَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِمَنْ يَهْتَدِي بِهَا فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِعِبَادِهِ كُلِّهِمْ (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمِيَتْ)) بِالتَّخْفِيفِ كَخَفِيَتْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَمِثْلُهَا (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ) (28: 66) وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ فَحَجَبَهَا عَنْكُمْ جَهْلُكُمْ وَغُرُورُكُمْ وَجَاهُكُمْ فَلَمْ تَسْتَبِينُوا بِهَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِذْ جَعَلْتُمُونِي بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَالتَّعْبِيرُ (بِعُمِّيَتْ) مُخَفَّفَةً وَمُشَدَّدَةً أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِخَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَمَى الْمُقْتَضِي لِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْخَفَاءِ، وَيَجُوزُ عَوْدَةُ الضَّمِيرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِاقْتِضَاءِ خَفَائِهَا خَفَاءَ الرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الدَّلِيلِ مَعَ الْمَدْلُولِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِهَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَخَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللهِ لَكُمْ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِخَفَاءِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ خَاصَّةٌ بِهِ عليه السلام، وَهِيَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ النَّبِيُّ أَنَّهُ نَبِيٌّ (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ إِيَّاهَا بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَارِهُونَ لَهَا إِنْكَارًا وَجُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا؟ أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِيمَانِ الْإِذْعَانِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهُوَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي دِينِ اللهِ - تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ فِي سَابِقِ تَارِيخِهِمْ - وَمَا لَا يَزَالُ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمْ - مِنَ التَّنْصِيرِ بِإِجْبَارِ الْأَقْوَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا امْتَازُوا بِهِ عَلَى أُمَمِ الشَّرْقِ فِي ظُلْمِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّتِهِ عليه السلام وَرَدٌّ لِإِنْكَارِهِمْ لَهَا وَتَكْذِيبِهِ وَمَنْ مَعَهُ فِيهَا، وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمُ الْأُولَى فِي أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَيَدْفَعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْخُبْرِ (بِالضَّمِّ أَيِ الِاخْتِبَارِ) مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالرَّأْيِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، حَتَّى إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَيَأْتِي مِنَ الْإِصْلَاحِ لِقَوْمِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ فِي الْقُرُونِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَكُلُّ هَذَا فِي مُحِيطِ التَّفَاوُتِ الْعَادِيِّ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَفَوْقَهُمَا مَا اخْتَصَّ

اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا لَهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ.

(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) أَعَادَ نِدَاءَهُمْ بِقَوْلِهِ: ((وَيَا قَوْمِ)) اسْتِعْطَافًا وَتَكْرِيرًا لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَالًا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِيهِ عِنْدَهُمْ لِمَكَانَةِ حُبِّ الْمَالِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِزَازِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْمَالُ: مَا يُمْلَكُ وَيُقْتَنَى مِنْ نَقْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَجْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي عَلَى تَبْلِيغِهِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي

ص: 55

أَرْسَلَنِي بِهِ، وَكُلُّ رَسُولٍ بَعْدَهُ أُمِرَ أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ هَذَا، كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَحْكِيًّا عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، وَتَكَرَّرَ مِثْلُهُ بِأَمْرِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(42: 23) فَهُوَ - أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ - مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ، لَكِنْ أَسْأَلُكُمْ مَوَدَّةَ أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ الَّتِي تُبَالِغُونَ فِيهَا وَتُقَاتِلُونَ لِأَجْلِهَا. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَفْعٌ لِشُبْهَةٍ أُخْرَى عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ كَغَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاكَتْ فِي صُدُورِ قَوْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ تَكَلَّمَ بِهَا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا بِالَّذِي يَقَعُ مِنِّي طَرْدُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قُرْبِي وَجِوَارِي لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ، وَوَصْفِكُمْ إِيَّاهُمْ بِالْأَرَاذِلِ جَهْلًا مِنْكُمْ، فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِنَفْيِ لَازِمِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، وَقَدْ يَكُونُونَ صَرَّحُوا بِذِكْرِ هَذَا اللَّازِمِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْكُفَّارِ مِنْ جَمِيعِ أَقْوَامِ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَهَا هُنَا وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِهِمْ، وَتَكَرَّرَ مَعْنَاهَا فِي قَوْمِ خَاتَمِهِمْ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ الطَّرْدِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ:(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(6: 52) الْآيَةَ.

وَفِي مَعْنَاهَا قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي سُورَتِهِ (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) هَذَا تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِنَفْيِ الطَّرْدِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنْ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، فَلَيْسَ يَضُرُّكُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِهِمْ (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أَيْ تُسَفِّهُونَ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْجَهَالَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْحِلْمِ، أَوْ تَجْهَلُونَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَتَظُنُّونَ أَنَّ الِامْتِيَازَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَالِ الْمُطْغِي، وَالْجَاهِ بِالْبَاطِلِ الْمُرْدِي، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ:(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(26: 111 - 115) وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ تَتِمَّةُ الْآيَةِ (6: 52) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) كَرَّرَ هَذَا النِّدَاءَ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَالِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ بِأَنْ يَمْنَعَ عَنِّي مَا أَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِقَابِهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِي وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّايَ فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ الشَّدِيدَ بِعَدْلِ اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا تَكُنْ صِفَةُ مَنِ اقْتَرَفَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (6: 52) (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّائَيْنِ مِنْهُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلٌ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ: أَتُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِكُمْ، أَوْ أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْرُدَهُمْ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ؟ .

ص: 56

(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ فِيهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الَّتِي نَفَاهَا نُوحٌ عليه السلام عَنْ نَفْسِهِ، هِيَ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ثُبُوتَهَا لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ نَفْيُهَا مُتَضَمِّنًا لِرَدِّ شُبْهَةِ حُجَّتِهِمُ الثَّالِثَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم بِنَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 50) وَنَخْتَصِرُ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا لِتَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ.

أَمَّا خَزَائِنُ اللهِ - تَعَالَى - فَالْمُرَادُ مِنْهَا أَنْوَاعُ رِزْقِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا عِبَادُهُ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهَا كَمَا قَالَ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)(17: 100) وَالْمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ بِادِّعَائِي لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِنَّ عِنْدِي خَزَائِنَ رِزْقِ اللهِ - تَعَالَى - أَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ، بِحَيْثُ أُنْفِقَ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَنِي بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ أَنَا وَغَيْرِي مِنَ الْبَشَرِ فِي كَسْبِهَا سَوَاءٌ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ وَلَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَوَظَائِفِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاتَّبَعَ النَّاسُ الرُّسُلَ لِأَجْلِهَا، لَا لِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَأْهِيلِهَا لِلِقَائِهِ - تَعَالَى - وَمَثُوبَتِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِعِلْمِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمُ الْكَسْبِيُّ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَكَسْبِهِمْ، فَيُخْبِرُ بِهَا أَتْبَاعَهُ لِيَفْضُلُوا غَيْرَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَقُولَ لِقَوْمِهِ:(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)(7: 188)

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ نَفْيَ ادِّعَائِهِ الْغَيْبَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ ظَنًّا، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَيَحْكُمَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السَّرَائِرَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ نَفَاهُمَا كِتَابُ اللهِ عَنْ رُسُلِهِ يُثْبِتُهُمَا مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لِمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيِّسِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِرَارًا.

وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا فَهُوَ دَاحِضٌ لِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ إِلَى الْبَشَرِ يَجِبُ أَنْ يَفْضُلَهُمْ وَيَمْتَازَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُفَصَّلَةٌ وَمُكَرَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ جُمْلَةَ مَا جَاءَ فِيهَا مَعَ شَوَاهِدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) فَرَاجِعْهَا فِي

(ص 245 ج8 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .

ص: 57

(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) الِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزِّرَايَةِ، يُقَالُ: زَرَى عَلَى فُلَانٍ يَزْرِي زَرِيَّةً وَزِرَايَةً (بِالْكَسْرِ) إِذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَزْرَى بِهِ إِزْرَاءً تَهَاوَنَ بِهِ، أَيْ: وَلَا أَقُولُ فِي شَأْنِ الَّذِينَ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاحْتِقَارِ فَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُكُمْ لِفَقْرِهِمْ وَرَثَاثَتِهِمْ: (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا وَعَدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ مَا حَكَى الله عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)(46: 11) وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.

(اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ) مِمَّا آتَاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، خِلَافًا لِمَا زَعَمْتُمْ مِنَ اتِّبَاعِي بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنِّي إِذَا قُلْتُ ذَلِكَ فِيهِمْ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، إِذْ أَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِي بِالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ غَيْرَ مَا أَعْلَمُهُ عَنْهُ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَظَالِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِهَضْمِ حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا قُلْتُ شَيْئًا مِمَّا نَفَيْتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، بِأَنِ ادَّعَيْتُ أَنِّي أَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ رِزْقِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، أَوْ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ. لَمِنْ زُمْرَةِ الظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لِاجْتِنَابِ مَا ذُكِرَ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ عليه السلام عَلَيْهِمْ وَدَحْضُهُ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلَ الْمُعْتَرِفِ بِالْعَجْزِ، الْمُنْتَهِي بِهِ عَجْزُهُ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ:

قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِدَالُ: الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَدَلْتُ الْحَبْلَ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ، وَمِنْهُ الْجَدِيلُ (أَيِ الْحَبْلُ الْمَفْتُولُ) وَجَدَلْتُ الْبِنَاءَ أَحْكَمْتُهُ. وَدِرْعٌ مَجْدُولَةٌ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنْيَةِ، وَالْمِجْدَلُ (كَمِنْبَرٍ) الْقَصْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَمِنْهُ

ص: 58

الْجِدَالُ، فَكَأَنَّ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَفْتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ الْآخَرَ عَلَى رَأْيِهِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي الْجِدَالِ الصِّرَاعُ وَإِسْقَاطُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ (بِالْفَتْحِ) الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ اهـ. وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِنْ كَانَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ اهـ، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا:((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.

(قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) أَيْ قَدْ خَاصَمْتَنَا وَحَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا وَاسْتَقْصَيْتَ فِيهِ فَلَمْ تَدَعْ لَنَا حُجَّةً إِلَّا دَحَضْتَهَا، حَتَّى مَلِلْنَا وَسَئِمْنَا وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقُولُهُ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ:(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)(71: 5 و6 إِلَخْ) . وَقَوْلُهُ لَهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ)(10: 71 إِلَخْ)(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) مِنْ عَذَابِ اللهِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَيْنَا، الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ:(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(26) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنَا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. (قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لِلَّهِ وَبِيَدِهِ لَا أَمْلِكُهُ أَنَا، وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَأْتِيكُمْ بِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا شَكَّ فِيهِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وَلَا فَائِتِينَ لَهُ إِنْ أَخَّرَهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، فَهُوَ مَتَى شَاءَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَنَفِيُ الْإِعْجَازِ مُؤَكَّدٌ بِالْبَاءِ.

(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) النُّصْحُ تَحَرِّي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاصِحُ الْعَسَلِ، لِخَالِصِهِ الْمُصَفَّى مِنْهُ، وَنَصَحَ لَهُ أَفْصَحُ مِنْ نَصَحَهُ، وَالْإِغْوَاءُ الْإِيقَاعُ فِي الْغِنَى وَهُوَ الْفَسَادُ الْحِسِّيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ نُصْحِي لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِي لَهُ فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُهُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِمَا عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ نَفْعَ النُّصْحِ لَهُ شَرْطَانِ أَوْ طَرَفَانِ، هُمَا الْفَاعِلُ لِلنُّصْحِ وَالْقَابِلُ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيُّ وَالْفَسَادُ، بِمُقَارَفَةِ أَسْبَابِهِ مِنَ الْغُرُورِ بِالْغِنَى وَالْجَاهِ وَالْكِبْرِ، وَهُوَ غَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ الْمُتَكَبِّرِ لِمَنْ يَزْدَرِي مِنَ النَّاسِ، وَتَعَصُّبُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَحُبُّ الشَّهَوَاتِ الْمَالِنَةِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، فَمَعْنَى إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِإِغْوَائِهِمُ: اقْتِضَاءُ سُنَّتِهِ فِيهِمْ أَنْ

ص: 59

يَكُونُوا مِنَ الْغَاوِينَ، لَا خَلْقُهُ لِلْغَوَايَةِ فِيهِمْ جُزَافًا أَنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا كَسْبٍ مِنْهُمْ لِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ مُقَدَّرَةً بِأَقْدَارِهَا، تَرْتَبِطُ أَسْبَابُهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ يُغْوِيَكُمْ بِيُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْغَيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا)(19: 59) وَحُكِيَ عَنْ طِيِّءٍ قَوْلُهُمْ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا، إِذَا أَصْبَحَ مَرِيضًا، وَأَصْلُ الْغَيِّ فَسَادُ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ سُوئِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ وَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ، وَالْقَرَائِنُ هِيَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْمَعَانِي عَلَى بَعْضٍ، وَمُوَافَقَةُ سُنَنِ اللهِ وَأَقْدَارِهِ شَرْطٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ فِي اخْتِلَافِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.

(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أَيْ هُوَ مَالِكُ أُمُورِكُمْ وَمُدَبِّرُهَا وَمُسَيِّرُهَا عَلَى سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ قَدَرٌ، وَلِكُلِّ قَدَرٍ أَجَلٌ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا لَا يَظْلِمُ أَحَدًا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ حِكَايَةً لِقَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِ هَذِهِ الْقِصَصِ الَّذِي تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مُقْتَضَى لِاعْتِرَاضِهَا فِي وَسَطِهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمَلِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَآيَتَيِ الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ سُورَتِهِ وَهُمَا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)(31: 14) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَبَعْدَهَا:(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ)(16 إِلَخْ) وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ (53 - 55)((مِنْ سُورَةِ طه 20)) قَالُوا: إِنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى عليه السلام وَفِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ. وَلِلْجُمَلِ وَالْآيَاتِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي الْقُرْآنِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ يَقْتَضِيهَا تَلْوِينُ الْخِطَابِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَمَنْعِ السَّآمَةِ وَتَجْدِيدِ النَّشَاطِ فِي الِانْتِقَالِ، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ ; فَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ هُنَا أَنْ يَخْطُرَ فِي بَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ كَمَا زَعَمُوا، لِاسْتِغْرَابِهِمْ هَذَا السَّبْكَ فِي الْجِدَالِ وَالْقُوَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَأَنْ يَصُدَّهُمْ هَذَا عَنِ اسْتِمَاعٍ، فَيَكُونَ إِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ تَجْدِيدًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلِنَشَاطِهِمْ، وَأَعْظِمْ بِوَقْعِهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِرُ عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ

ص: 60

مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِصَّةِ، فَمَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ: لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مِنْ وِجْهَةِ الْأُسْلُوبِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَعْبِيرِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ بِـ ((يَقُولُونَ)) وَعَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِـ ((قُلْ)) الدَّالَّيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَأَبْعَدُ عَنْ سِيَاقٍ حُكِيَ كُلُّهُ بِفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ((قَالُوا: قَالَ)) وَهُوَ سِيَاقُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أَيْ أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدِ افْتَرَى

هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، أَوْ يَقُولُ نُوحٌ: إِنَّهُ افْتَرَى هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ عز وجل فَرْضًا فَهُوَ إِجْرَامٌ عَظِيمٌ عَلَيَّ إِثْمُهُ وَعِقَابُهُ مِنْ دُونِكُمْ ; (إِذِ الْإِجْرَامُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الضَّارُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، مِنَ الْجُرْمِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدُوِّ صَلَاحِهِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى) وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّ هَذَا إِجْرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى اقْتِرَافِهِ (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَدْلَ أَنْ يَجْزِيَ كُلَّ امْرِئٍ بِعَمَلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (2: 286) وَتَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا هُنَا وَهُوَ: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(10: 41) وَقَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِمُ الْإِجْرَامُ هُنَا ; وَمِنْهُ - أَوْ أَشَدُّهُ - تَكْذِيبُهُ وَوَصْفُهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ عز وجل وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَسْتَخِفُّهُ السَّمْعُ، وَيَقْبَلُهُ الطَّبْعُ.

(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)

ص: 61

هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي قَوْمِ نُوحٍ الْمُشْرِكِينَ، وَيَلِيهَا بَيَانُ تَنْفِيذِهِ (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أَيْ

أَوْحَى اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ مَا أَيْأَسَهُ مِنْ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ الْآنِ، غَيْرَ مَنْ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ مِنْهُمْ، فَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِيمَانِهِمْ دَائِمُونَ عَلَيْهِ:(فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ فَلَا يَشْتَدَّنَّ عَلَيْكَ الْبُؤْسُ وَالْحُزْنُ وَاحْتِمَالُ الْمَكَارِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَكَ وَلِمَنْ آمَنَ لَكَ، إِذْ كُنْتَ تَعْرِضُ لَهُ وَتَسْتَهْدِفُ لِسِهَامِهِ ; رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْآنِ مِنْ جِدَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَقَدْ آنَ زَمَنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) الْفُلْكُ: السَّفِينَةُ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِهِ هُنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، أَيْ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ الَّذِي سَنُنَجِّيكَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ فِيهِ حَالَ كَوْنِكَ مَلْحُوظًا وَمُرَاقَبًا بِأَعْيُنِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمَا يَلْزَمُهُ مَنْ حِفْظِنَا فِي كُلِّ آنٍ وَحَالِهِ، فَلَا يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمُلْهَمًا أَوْ مُعَلَّمًا بِوَحْيِنَا لَكَ كَيْفَ تَصْنَعُهُ، فَلَا يَعْرِضُ لَكَ فِي صِفَتِهِ خَطَأٌ، وَجَمَعَ الْأَعْيُنَ هُنَا لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَإِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ ((بِعَيْنِي وَوَحْيِي)) فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْعِنَايَةِ وَبِالْأَعْيُنِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، قَالَ - تَعَالَى - لِمُوسَى عليه السلام: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي 20: 39 وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(52: 48) وَفِي الْأَسَاسِ: وَتَقُولُ لِمَنْ بَعَثْتَهُ وَاسْتَعْجَلْتَهُ: ((بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ)) أَيْ لَا تَلُوِ عَلَى شَيْءٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ اهـ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا

نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ

وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ بَلِ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَ تَأْوِيلًا صُرِفَ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ لِإِيهَامِهِ التَّشْبِيهَ، فَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ لِمَانِعٍ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.

(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ لَا تُرَاجِعْنِي فِي أَمْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَقَضَى عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ الْحَتْمُ بِالْإِغْرَاقِ، فَلَا تَأْخُذْكَ بِهِمْ رَأْفَةٌ وَلَا إِشْفَاقٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تُخَاطِبْنِي بَعْدُ فِي اسْتِعْجَالِ تَعْذِيبِهِمْ وَتَكْرَارِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا

إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَتِهِ:(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا)(71: 26 - 28) أَيْ هَلَاكًا.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أَيْ وَطَفِقَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) اسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَحِكُوا مِنْهُ وَتَنَادُرًا عَلَيْهِ لِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُ مُصَابٌ بِالْهَوَسِ وَالْجُنُونِ،

ص: 62

يُقَالُ: سَخِرَ مِنْ فُلَانٍ وَسَخِرَ بِهِ (كَتَعِبَ) أَيِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا (بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا) يَهْزَأُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فَيُجِيبُهُمْ أَنَّهُ يَصْنَعُ بَيْتًا يَجْرِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا وَلَا مُتَصَوَّرًا، وَقَلَّ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إِلَّا سَخِرُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ النَّجَاحُ فِيهِ:(قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) قَالَ مُجِيبًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا وَتَسْتَجْهِلُونَنَا الْيَوْمَ لِرُؤْيَتِكُمْ مِنَّا مَا لَا تَتَصَوَّرُونَ لَهُ فَائِدَةً: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) مِنَّا جَزَاءً وِفَاقًا، نَسْخَرُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ لِجَهْلِكُمْ، وَغَدًا لِمَا يَحِلُّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ بِمَا نَعْمَلُ وَبِمَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ عَمَلِنَا.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بَعْدَ تَمَامِهِ (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) أَيْ يُذِلُّهُ وَيَجْلِبُ لَهُ الْعَارَ وَالتَّبَارَ فِي الدُّنْيَا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَذَابُ الدُّنْيَا هَيِّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لِانْقِضَاءِ هَذَا وَزَوَالِهِ بِهَلَاكِكُمْ، وَبَقَاءِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ بِدَوَامِكُمْ.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ

وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) هَذَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ، وَيُقَابِلُ السُّخْرِيَةَ بِغَيْرِ ابْتِئَاسٍ وَلَا ضَجَرٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا بِهَلَاكِهِمْ ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ مَجَازٌ كَحَمِيَ الْوَطِيسُ، أَوْ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ عِنْدَ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالتَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ الْخَبْزُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. قِيلَ: إِنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ فِيهِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ حَوَّاءُ أُمُّ الْبَشَرِ وَأَنَّ تَنُّورَهَا بَقِيَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوثَقُ بِهِ، وَالْفَوْرُ وَالْفَوَرَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِارْتِفَاعِ الْقَوِيِّ، يُقَالُ فِي الْمَاءِ إِذَا نَبَعَ وَجَرَى، وَإِذَا غَلَا وَارْتَفَعَ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: فَارَتِ الْقِدْرُ، وَفَارَتْ فَوْرَاتُهَا، وَعَيْنٌ فَوَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَفَارَ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. وَمِنَ الْمَجَازِ: فَارَ الْغَضَبُ، وَأَخَافُ أَنْ تَفُورَ عَلَيَّ، وَقَالَ ذَلِكَ فِي فَوْرَةِ الْغَضَبِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْفَوْرُ شِدَّةُ الْغَلَيَانِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّارِ نَفْسِهَا إِذَا هَاجَتْ، وَفِي الْقَدْرِ وَفِي

ص: 63

الْغَضَبِ، نَحْوَ: وَهِيَ تَفُورُ 67: 7 ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) اهـ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ فَوَرَانِ التَّنُّورِ هُنَا اشْتِدَادُ غَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، وَحُلُولُ وَقْتِ انْتِقَامِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ مَا أُرَاهَا إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللُّغَةِ أَنَّ التَّنُّورَ أُطْلِقَ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَنُّورِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَوَرَانِهِ هُنَا ظُهُورُ نُورِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مَوْعِدُهُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْ تَنُّورِ الْخَبْزِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِنُوحٍ عليه السلام، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِوَايَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ نَبْعِ مَاءِ الطُّوفَانِ مِنَ

الْأَرْضِ. وَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْآثَارِ وَلَا فِي أَمْثَالِهَا رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ إِنَّهُ الْأَقْرَبُ.

(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) قَرَأَ حَفْصٌ كَلِمَةَ ((كُلٍّ)) هُنَا بِالتَّنْوِينِ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ بِالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهَا، أَيْ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْعِدُ أَمْرِنَا قُلْنَا لِنُوحٍ حِينَئِذٍ: (احْمِلْ فِيهَا) أَيْ فِي الْفُلْكِ، وَهُوَ السَّفِينَةُ - مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْحَيَوَانِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى بَعْدَ غَرَقِ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فَتَتَنَاسَلَ وَيَبْقَى نَوْعُهَا عَلَى الْأَرْضِ: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أَيْ: وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَ بَيْتِكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَأَهْلُ بَيْتِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ نِسَاؤُهُ وَأَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ كُفَّارُهُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ كُفَّارٌ، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) وَإِلَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى وَلَدَهُ الَّذِي سَتُذْكَرُ قِصَّتُهُ قَرِيبًا (وَمَنْ آمَنَ) مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ - تَعَالَى - وَلَا رَسُولُهُ عَدَدَهُمْ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ مَرْدُودٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَمَلَهَا، وَلَا كَيْفَ جَمَعَهَا وَأَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ مُضْحِكَةٌ نُخَالِفُهَا، لَا يَنْبَغِي تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنَ الْعُمُرِ فِي نَقْلِهَا وَإِشْغَالِ الْقُرَّاءِ بِهَا.

(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ وَالسَّفِينَةَ وَرَكِبَ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا، وَفِي السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِيهَا وَإِنْ جَلَسَ عَلَى ظَهْرِهَا وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ، قَرَأَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَجْرَاهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ بِإِمَالَةِ الرَّاءِ وَتَرْكِهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِجَرَتِ السَّفِينَةُ تَجْرِي مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ الْآتِي:(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَأَجْرَى عَلَى إِرَادَةِ إِجْرَاءِ اللهِ - تَعَالَى - لَهَا. وَقَرَأُوا كُلُّهُمْ: (مُرْسَاهَا) بِضَمِّ الْمِيمِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي سَيُرْسِيهَا، وَرُسُوُّ السَّفِينَةِ وُقُوفُهَا، وَالْمَجْرَى وَالْمَرْسَى

ص: 64

يَجِيئَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ

وَمَكَانٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا نُوحٌ عليه السلام عِنْدَ أَمْرِهِمْ بِرُكُوبِ السَّفِينَةِ مَعَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً لَهُمْ بِحِفْظِهِ - تَعَالَى - لَهَا وَلَهُمْ، أَيْ: بَاسْمِ اللهِ جَرَيَانُهَا وَإِرْسَاؤُهَا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يَقُولُهَا عَلَى تَقْدِيرِ: ارْكَبُوا فِيهَا قَائِلِينَ بِاسْمِ اللهِ، أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ ((مَجْرَاهَا)) حِينَ تَجْرِي أَوْ حِينَ يُجْرِيهَا ((وَمُرْسَاهَا)) حِينَ يُرْسِيهَا، لَا بِحَوْلِنَا وَلَا قُوَّتِنَا (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: إِنَّهُ لَوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِعِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جَمِيعَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ وَحْدَهُمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ هَذِهِ السَّفِينَةَ لِنَجَاةِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ هَذَا الطُّوفَانِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا)) الْآيَةَ (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الْآيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ آيَةُ سُورَةِ الزُّمَرِ (39: 67) وَاللهُ أَعْلَمُ.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) هَذَا تَصْوِيرٌ لِحَالِهَا فِي جَرْيِهَا بِهِمْ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ أَمَامَ الْقَارِئِ أَوِ السَّامِعِ، أَيْ تَجْرِي فِي أَثْنَاءِ مَوْجٍ يُشْبِهُ الْجِبَالَ فِي عُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامْتِدَادِهِ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ فِي ظَاهِرِ الْبَحْرِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنَ التَّمَوُّجِ وَالِارْتِفَاعِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ، وَاحِدُهُ مَوْجَةٌ وَجَمْعُهُ أَمْوَاجٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ الِاضْطِرَابُ وَمِنْهُ:(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)(18: 99)

ص: 65

وَمَنْ عَرَفَ مَا يَحْدُثُ فِي الْبِحَارِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْأَمْوَاجِ عِنْدَمَا تُهَيِّجُهَا الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ، رَأَى أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَصَفَ لِي بَعْضُهُمْ سَفَرَهُ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي زَمَنِ رِيَاحِ الصَّيْفِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَوْسِمِيَّةَ بِمَا مَعْنَاهُ: كُنْتُ أَرَى السَّفِينَةَ تَهْبِطُ بِنَا فِي غَوْرٍ عَمِيقٍ، كَوَادٍ سَحِيقٍ، نَرَى الْبَحْرَ مِنْ جَانِبَيْهِ كَجَبَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَكَادَانِ يُطْبِقَانِ عَلَيْهَا، فَإِذَا بِهَا قَدِ انْدَفَعَتْ إِلَى أَعْلَى الْمَوْجِ كَأَنَّهَا فِي شَاهِقِ جَبَلٍ تُرِيدُ أَنْ تَنْقَضَّ مِنْهُ، وَالْمَلَّاحُونَ يَرْبِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحِبَالِ عَلَى ظَهْرِهَا وَجَوَانِبِهَا، لِئَلَّا يَجْرُفَهُمْ مَا يُفِيضُ مِنَ الْمَوْجِ عَلَيْهَا، وَرَاجِعْ وَصْفَ الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(10: 22)(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) عِنْدَ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ وَقَبْلَ جَرَيَانِهَا، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ خَبَرِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ:(وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) أَيْ: مَكَانِ عُزْلَةٍ وَانْفِرَادٍ دُونَ أَهْلِهِ الَّذِينَ رَكِبُوا فِيهَا وَدُونَ الْكُفَّارِ (يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) أَيْ: مَعَ وَالِدِكَ وَأَهْلِكَ النَّاجِينَ (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.

(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: سَأَلْجَأُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ يَحْفَظُنِي مِنَ الْمَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ فَأَغْرَقَ (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أَيْ: لَا شَيْءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَصِيبِ يَعْصِمُ أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ أَمْرَ مَاءٍ يَرْتَفِعُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ كَالْمُعْتَادِ، فَيَتَّقِي الْحَازِمُ ضُرَّهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ انْتِقَامٍ عَامٍّ مِنْ أَشْرَارِ الْعِبَادِ، الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ

وَظَلَمُوا وَطَغَوْا فِي الْبِلَادِ، لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ فَهُوَ يَعْصِمُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَدِ اخْتَصَّ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مَنْ أَمَرَ بِحِمْلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) وَكَانَ قَدْ بَدَأَ يَرْتَفِعُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى حَالَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الْهَالِكِينَ.

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، حَتَّى كَانَ آخِرُ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ مِنْهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ، خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَاءُ بِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ)) .

هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. يَعْنِي: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَعَقَّبَهُ

ص: 66

الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ، وَمُوسَى لَيْسَ بِذَاكَ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُوسَى هَذَا، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ حُدُوثَ هَذَا الطُّوفَانِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)(54: 9 - 16) وَإِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا الْمَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ السَّفِينَةُ كَمَا كَانَ عَرْشُ اللهِ عَلَى الْمَاءِ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الْأَرْضِيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرُ فِيمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الْخَطْبِ الْجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، أَوْجَزُ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغُهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي الْعَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.

(وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) أَيْ: وَصَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ الْأَعْلَى نِدَاءٌ خَاطَبَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ، بِأَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ:((يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ)) كُلَّهُ الَّذِي عَلَيْكِ، أَوِ الَّذِي تَفَجَّرَ مِنْ بَاطِنِكِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بَحْرًا،

وَالْبَلْعُ: ازْدِرَادُ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ بِسُرْعَةٍ (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أَيْ: كُفِّي عَنِ الْإِمْطَارِ فَامْتُثِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ قِيلَ: كُنْ فَكَانَ (وَغِيضَ الْمَاءُ) أَيْ: غَارَ فِي الْأَرْضِ وَنَضَبَ بِابْتِلَاعِهَا لَهُ نُضُوبًا (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ: وَنَفَذَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَنَجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أَيْ: وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ رَاسِيَةً عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ هَلَاكًا وَسُحْقًا لَهُمْ، وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَقْدِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللهِ عز وجل، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ 11: 60 أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ 11: 68، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَبَلَ قَدْ غَمَرَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ فَوْقَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ السَّفِينَةُ كَانَ الْمَاءُ فَوْقَهُ رَقْرَاقًا وَبَدَأَ يَتَقَلَّصُ وَيَغِيضُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ.

قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. أَحَاطَتْ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِفَلْسَفَتِهَا الْفُنُونُ الثَّلَاثَةُ: الْمَعَانِي

ص: 67

وَالْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَقَامُ، لَا يُنَافِي بُلُوغَ كُلِّ آيَةٍ فِي مَوْضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا دَرَجَةَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ التَّفَاوُتِ الْمَعْهُودِ فِي كَلَامِ أَشْهَرِ الْبُلَغَاءِ كَأَبِي تَمَّامٍ وَالْمُتَنَبِّي، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ شُعَرَاءِ

الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَمَا بَيْنَهُمَا، فَآيَاتُهُ كُلُّهَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الْمُعْجِزَةِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَرَاهُ فِي تَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ: 13 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ الْعِبْرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَصِ كُلِّهَا، وَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُكَتِ الْفُنُونِ فِيهَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَنْذَرَ الظَّالِمِينَ وَأَوْعَدَهُمُ الْهَلَاكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ - وَمِنْهُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ عليهم السلام كُلُّهَا مُعْجِزَةٌ فِي بَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّكَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَأْثِيرِ تَقْبِيحِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ نَوْعًا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ حَادِثَةَ الطُّوفَانِ أَكْبَرُ مَا حَدَثَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَظَاهِرِ سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا عِقَابٌ لِلظَّالِمِينَ، بَيْدَ أَنَّ إِعَادَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ تَصْوِيرِ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ بَارِزَةٌ فِي أَشَدِّ مَظَاهِرِ هَوْلِهَا، وَإِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي الْفَصْلِ فِيهَا، بِمَا تَتَلَاقَى فِيهَا نِهَايَتُهَا بِبِدَايَتِهَا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ النِّهَايَةِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ الَّذِي يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ مَذْمُومَةٍ شَرُّهَا الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، يُمَثِّلُ لَكَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ بِصُورَةِ تِمْثَالٍ مِنَ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالرِّجْسِ، لَا تَرَى مِثْلَهُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا تَرَاهُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْعِبَارَاتِ الرَّائِعَةِ فِي الْبَلَاغَةِ وَعُلُوِّ الْأَسْبَابِ، وَإِحْدَاثِهَا الرُّعْبَ فِي الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)(54: 18 - 21) وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي طَبَقَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّوَرِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)(69: 4 - 8؟ إِلَخْ) . وَنَاهِيكَ بِمَا وَصَفَ بِهِ عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَأَصِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَلَاغَتَيْنِ: الْمَعْنَوِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَإِضْرَابُ الْمُثُلِ

لِجَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَأَهْلِ الْفُنُونِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلَاوَةِ الْأُولَى مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.

وَحِكْمَةُ هَذِهِ الْمُبَالَغَاتِ فِي عِقَابِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّمَا هِيَ إِنْذَارُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ كَرَّرَ عُقُوبَةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَكَرَّرَ مَعَهَا:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(54: 17) وَتَرَى الظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ غَافِلِينَ، وَتَرَى

ص: 68

الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَةِ عِبَارَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَلَا يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ عِبْرَتِهِ وَوَعْظِهِ، وَلَقَدْ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي أَهْلِ عَصْرِهِ:

وَالْأَرْضُ لِلطُّوفَانِ مُشْتَاقَةٌ

لَعَلَّهَا مِنْ دَرَنٍ تُغْسَلُ

وَنَحْنُ نَقُولُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْعَلَاءِ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَقَدْ أَنْشَدَتْ قَوْلَ لَبِيدٍ:

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ

وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

قَالَتْ: رَحِمَ اللهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟

رُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِنَا أَبِي الْمَحَاسِنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ رحمه الله وَسَنَعْقِدُ فَصْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي عَصْرِنَا بِمَا نُورِدُهُ مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.

(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ،

أَحَدُهُمَا: بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَثَانِيهِمَا: اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، - وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ عليه السلام مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ (43) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ (44) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ

ص: 69

بِأَبْلَغِ قَوَارِعِ التَّأْثِيرِ، فَكَانَ اتِّصَالُهَا بِهَا كَاتِّصَالِ الْمُوجَبِ بِالسَّالِبِ مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ، بِهِ الْبَرْقُ الَّذِي يَخْطِفُ الْأَبْصَارَ، وَالصَّاعِقَةُ الَّتِي تَمْحَقُ مَا تُصِيبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، فَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ تُصَوِّرُ لِقَارِئِهَا وَسَامِعِهَا نَكْبَةَ الطُّوفَانِ بِأَعْظَمِ الصُّوَرِ هَوْلًا وَرُعْبًا وَدَهْشًا تَطِيشُ لَهَا الْأَلْبَابُ، وَتَحَارُ فِي تَصَوُّرِ كَشْفِهَا وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا الْأَخْيِلَةُ وَالْأَفْكَارُ، فَتَتْلُوهَا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فَتَكُونُ الْفَاصِلَةَ بِكَشْفِ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ بِكَلِمَتَيْنِ وَجِيزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ، قُضِيَ بِهِمَا الْأَمْرُ بِنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (45 - 47) اللَّوَاتِي وُضِعْنَ بَعْدَهُمَا، لَضَاعَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَلَاغَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمَقْصُودَةِ عَنِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي كَانَتْ كَاشْتِعَالِ الْكَهْرَبَاءِ مُظْهِرًا لِسُرْعَةِ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِي كَشْفِ الْكَرْبِ، فَكَانَ مِنْهَا نُورٌ ظَهَرَتْ بِهِ رَحْمَتُهُ فِي إِنْجَاءِ السَّفِينَةِ وَأَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَصَاعِقَةٌ مَحَقَتْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ.

(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ) فِي إِثْرِ نِدَائِهِ لِابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) هَذَا تَفْسِيرٌ لِـ ((نَادَى)) أَيْ فَكَانَ نِدَاؤُهُ أَنْ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هَذَا مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدَتْنِي بِنَجَاتِهِمْ إِذْ أَمَرْتَنِي بِحَمْلِهِمْ فِي السَّفِينَةِ (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْهُ (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ: أَحَقُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْحُكْمُ، وَأَحْسَنُهُمْ وَخَيْرُهُمْ حُكْمًا

كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(5: 50) وَقَالَ: (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ وَلَا الْمُحَابَاةُ، وَلَا الْحَيْفُ وَالظُّلْمُ، وَحُكْمُهُ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى مَا يُنَفِّذُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمُرَادُ نُوحٍ بِهَذَا أَنْ يُنْجِيَ ابْنَهُ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ، مُعَلِّلًا نَفْسَهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِقَوْلِهِ لَهُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ: 43 فَالْمَعْقُولُ أَنَّ الدُّعَاءَ وَقَعَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ ابْنِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ.

(قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْلُكَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِإِنْجَائِهِمْ، وَفَسَّرَ هَذَا النَّفْيَ وَعَلَّلَهُ أَوْ وَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((عَمَلٌ)) بِرَفْعِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، كَأَنَّهُ لِفَسَادِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلصَّلَاحِ وَالْتِزَامِهِ الْعَمَلَ غَيْرَ الصَّالِحِ نَفْسُ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ:

تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ

وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ: عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَالْأَوَّلُ

ص: 70

أَبْلَغُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا يَعْمَلُ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَيُوجِبُ بَرَاءَةَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ)(60: 4) الْآيَةَ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْعَدِينَ - بَلْهَ الْأَقْرَبِينَ - كَمَا قَالَ عز وجل:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(9: 71) . وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ يَا نُوحُ عَنْهُ وَطَلَبَكَ لِنَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنًا، أَوْ كَانَ وَلَدَ غَيْرِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ ابْنَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْ نُوحٍ عليه السلام وَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ فَقَالَ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ 23: 27 وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَضَى اللهُ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)(71: 26) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا؟ وَلَكِنَّ امْرَأَتَهُ لَمْ تُذْكَرْ فِي قِصَّتِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَعَ امْرَأَةِ لُوطٍ فِي خِيَانَةِ زَوْجَيْهِمَا وَدُخُولِهِمَا النَّارَ، وَاسْتُثْنِيَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ النَّجَاةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّتِهِ؟

(قُلْنَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْكُفَّارِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ كُفْرُهُ فَكَرِهَهُ وَجَنَحَ لِلْإِيمَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ 11: 36 ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ النَّاجِينَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَهُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ، فَجَازَ فِي فَهْمِهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُمْ قَسِيمٌ لِقَوْمِهِ مِنْهُمْ، وَوَافَقَ هَذَا الْفَهْمَ وَقَوَّاهُ رَحْمَةُ الْأُبُوَّةِ فَسَأَلَ اللهَ - تَعَالَى -

أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا ظَنِّيًّا لَا يَلِيقُ بِنَبِيٍّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ رَبَّهُ عَاتَبَهُ - تَعَالَى - وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: فَلَا تَسْأَلْنِي فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَسَمَّى دُعَاءَهُ سُؤَالًا ; لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ الْوَعْدِ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ وَمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ نَجَاةِ وَلَدِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ((تَسْأَلَنَّ)) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً وَكَذَا نَافِعٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْيَاءِ.

وَهَذَا النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ جَائِزٌ فِي شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَا يَقْتَضِي تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا وَقَلْبَ نِظَامِ الْكَوْنِ لِأَجْلِ الدَّاعِي، وَلَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ،

ص: 71

وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَجْهُولِ مِنَ السُّنَنِ وَالنِّظَامِ، مَعَ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ أَنْ يُبْطِلَ - تَعَالَى - تَشْرِيعَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ إِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ

وَأَهْوَائِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ، وَأَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مَنْ يَسْأَلُونَ بَعْضَ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُمْ مَا نَهَى الله عَنْهُ نَبِيًّا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ يُعْطُونَهُمْ أَوْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يُعْطِ مِثْلَهُ لِرُسُلِهِ، بَلْ مَا عُدَّ طَلَبُهُ مِنْهُ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعْظُ هُنَا بِمَعُونَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(24: 17) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَعْظِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(10: 57)(ص 328 ج 11 ط الْهَيْئَةِ) .

(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أَيْ: إِنِّي أَعْتَصِمُ وَأَحْتَمِي بِكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ بَعْدَ الْآنِ مَا لَيْسَ لِي عِلْمٌ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لَائِقٌ (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) أَيْ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي سَوَّلَتْهُ لِي رَحْمَتِي الْأَبَوِيَّةُ، وَطَمَعِي بِرَحْمَتِكَ الرَّبَّانِيَّةِ (وَتَرْحَمْنِي) بِقَبُولِ تَوْبَتِي الصَّادِقَةِ وَرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فِيمَا حَاوَلْتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِنَجَاةِ أَوْلَادِي كُلِّهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ بِطَاعَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنِّي، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ:(أَوَّلُهَا) أَنَّ سُؤَالَ نُوحٍ عليه السلام مَا سَأَلَهُ لِابْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالَفَ فِيهَا أَمْرَهُ أَوْ نَهْيَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَطَأً فِي اجْتِهَادِ رَأْيٍ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا اللهُ - تَعَالَى - ذَنْبًا لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَقَامِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، هَبَطَتْ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَمَا غُرِسَ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ إِلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَيَقَعُونَ فِيهِ أَحْيَانًا، لِيَشْعُرُوا بِحَاجَتِهِمْ إِلَى تَأْدِيبِ رَبِّهِمْ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ، بِمَا يَصْعَدُونَ بِهِ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ.

(ثَانِيهَا) أَنَّ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْوِرَاثَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ، وَمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوِرَاثَةِ لَكَانَ جَمِيعُ وَلَدِ آدَمَ كَأَبِيهِمْ، غَايَةُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ تَقَعُ عَنِ النِّسْيَانِ وَضَعْفِ الْعَزْمِ، وَتَتْبَعُهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِبَاءُ الرَّبِّ، ثُمَّ لَكَانَ سَلَائِلُ أَبْنَاءِ نُوحٍ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَسْلَ الْبَشَرِ انْحَصَرَ فِيهِمْ، وَقَدْ دَلَّتِ

ص: 72

الْآيَةُ الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ فِيهِمُ

الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ وَأَيَّدَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ، بَلْ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ الْمَذْكُورُ هُنَا كَافِرًا هَالِكًا.

(ثَالِثُهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَجْزِي النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَنْسَابِهِمْ، وَلَا يُحَابِي أَحَدًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ فِي شَرْعِهِ وَحِكْمَتَهُ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، كَانَ مُذْنِبًا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، حَتَّى يَتُوبَ وَيُنِيبَ.

(رَابِعُهَا) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الشُّرَفَاءِ الْجَاهِلِينَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَعُلُوِّ الْأُلُوهِيَّةِ، الْجَاهِلِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمُ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الشَّاكِرِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ، وَإِنْ كَانُوا عُرَاةً مِمَّا كَسَا اللهُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالدِّينِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَسَبِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَظَّمَهُمْ وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بِمُحَابَاةِ اللهِ لَهُ لِأَجْلِهِمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَدْيُهُ فِي إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَقَوْلِهِ لِبِنْتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ:((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمَسَاكِينُ يَعُدُّونَ أَعْدَى أَعْدَائِهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيَعُدُّونَ أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِمُ الْمُبْتَدِعِينَ الْخُرَافِيِّينَ الْمُشَعْوِذِينَ.

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ خَاتِمَةُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام وَالَّتِي تَلِيهَا

اسْتِدْلَالٌ بِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَرَدَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَيْهِ.

وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ آيَةِ: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ)(44) لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ

ص: 73

لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، إِمَّا مَعَ إِعَادَةِ الْقِيلِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ بِأَنْ يُقَالَ:((يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)) وَلَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَسْأَلَةِ نُوحٍ وَوَلَدِهِ صَارَ مَانِعًا مِنَ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ وَمُقْتَضِيًا أَنْ تُذْكَرَ مَفْصُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنْ يُبْدَأَ بِفِعْلِ ((قِيلَ)) الْمَجْهُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ الْمَعْلُومُ.

(قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أَيْ: قَالَ اللهُ عز وجل، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ لِنُوحٍ؛ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، وَإِقْلَاعِ السَّمَاءِ عَنْ إِمْطَارِهَا، وَابْتِلَاعِ الْأَرْضِ لِمَائِهَا، وَإِمْكَانِ السُّكْنَى وَالْعَمَلِ عَلَى ظَهْرِهَا: يَا نُوحُ اهْبِطْ مِنَ السَّفِينَةِ أَوْ مِنَ الْجُودِيِّ الَّذِي اسْتَوَتْ عَلَيْهِ إِلَى الصَّفْصَفِ الْمُسْتَوِي مِنْهَا، مُلَابِسًا أَوْ مُزَوَّدًا وَمُمَتَّعًا بِسَلَامٍ مِنْ عَظَمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِيهَا، (وَبَرَكَاتٍ) فِي الْمَعَايِشِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَائِضَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أَيْ: وَعَلَى مَنْ مَعَكَ الْآنَ فِي السَّفِينَةِ، وَعَلَى ذُرِّيَّاتٍ يَتَنَاسَلُونَ مِنْهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُونَ أُمَمًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُمْ مُمَتَّعُونَ بِهَذَا السَّلَامِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْبَرَكَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ لَفْظُ الْأُمَمِ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(6: 38)(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أَيْ: وَثَمَّ أُمَمٌ آخَرُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَرْزَاقِهَا وَبَرَكَاتِهَا دُونَ السَّلَامِ الرَّبَّانِيِّ، الْمَمْنُوحِ مِنَ الْأَلْطَافِ الرَّحْمَانِيِّ، لِسَلِيمِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ سَيُغْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِرَبِّهِمْ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى السَّلَامِ

الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، الَّتِي نَبْعَثُ بِهَا الْمُرْسَلِينَ، كَمَا وَقَعَ لَكَ مَعَ قَوْمِكَ الْأَوَّلِينَ.

هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا الْفَصِيحَةِ نَصًّا وَاقْتِضَاءً، الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الْآرَاءِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا، لَوْلَا كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا، حَتَّى مَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا الشَّرْعُ وَلَا الْعَقْلُ مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ مَجَامِعَ الْعِبْرَةِ فِيهَا.

(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ الْمُفَصَّلَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ الْبَدِيعَ، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْمَاضِيَةِ (نُوحِيهَا إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مُتَمَّمًا وَمُفَصَّلًا لِمَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ قَبْلَهَا (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) الْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ مُبَيِّنًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ

ص: 74

يَعْلَمُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مَا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ يَعْلَمُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْفِيِّ هُنَا وَأَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ بِهِ لَكَذَّبُوهُ، وَلَنُقِلَ تَكْذِيبُهُمُ الْخَاصُّ لَهُ فِيهَا؛ كَمَا نُقِلَ تَكْذِيبُهُمْ الْعَامُّ لِلْقِصَصِ كُلِّهَا، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ افْتَرَاهَا، وَلَكِنَّ هَذَا طَعْنٌ مُفْتَعَلٌ فِي شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ تُحُدُّوا فِيهِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ الْخَاصُّ فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا - فَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ ظَاهِرَةً لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَتَمَّتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَأَقْوَامِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْمُتَّقُونَ، فَأَنْتُمُ النَّاجُونَ الْمُفْلِحُونَ، وَالْمُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْهَالِكُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ.

عِلَاوَاتُ التَّفْسِيرِ قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام

الْعِلَاوَةُ الْأُولَى، الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ 44

سَبَقَ لَنَا أَنْ قُلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ، وَمَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُدَبَاءِ الْفُنُونِ فِي التَّحَدِّي بِهِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ يَقِلُّ مَنْ يَفْقَهُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِفَقْدِ أَهْلِهِ مَلَكَتَيِ الْبَلَاغَةِ الذَّوْقِيَّةِ السَّلِيقِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الْفَنِّيَّةِ، بَلْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِإِدْرَاكِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ وَيُدْرِكُ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ جَزَمُوا بِوُقُوعِ الْعَجْزِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ حُذَّاقِ الْفَنَّانِينَ فِي الْوَشْيِ وَالتَّطْرِيزِ إِذَا رَأَوْا صُنْعَ قُدَمَاءِ الْهُنُودِ مِنْ أَهْلِ هُورَ وَكَشْمِيرَ وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُحَاكَاتِهِ، أَوِ الْمُصَوِّرِينَ إِذَا رَأَوْا أَدَقَّ صُوَرِ رَفَائِيلَ فِي تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ بِأَدَقِّ مَنَاظِرِ أَعْضَائِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمَلَامِحِ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَأَمَارَاتِ انْفِعَالَاتِهِ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَقَارِبَةُ: كَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ، وَالْغَضَبِ، وَنَظَرِ الْإِقْرَارِ، وَنَظَرِ الْإِنْكَارِ، وَنَظَرِ الشَّهْوَةِ، وَنَظَرِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَظَرِ الْإِعْجَابِ وَالْعَجَبِ، وَنَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ وَالْمُتَحَيِّرِ، فَقَدْ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُحَاكَاتِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا، بَلْ يَقُولُونَ بِإِمْكَانِهَا وَبِقُرْبِ وُقُوعِهَا بِالْفِعْلِ إِذَا وُجِدَتِ الدَّاعِيَةُ الْقَوِيَّةُ كَمَنْفَعَةٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ تَارِيخِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ حَدَثَتْ لَهُمْ أَعْظَمُ الدَّوَاعِي وَالْمَصَالِحِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَالتَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ فِي الْمُكَرَّرِ وَلَوْ مُفْتَرًى، فَأَيْقَنُوا بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا وَبِهِنَّ، وَلَوْ ظَاهَرَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ عَلَى كَثْرَةِ بُلَغَائِهِمْ وَفُصَحَائِهِمْ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ هَوَاجِسَ تُلَقِّنُهُمُ

ص: 75

الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَكَذَا آلِهَتُهُمُ الْقَادِرُونَ بِخَصَائِصِهِمُ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ بِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِزَعْمِهِمْ، قَدْ عَجَزُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ وَاضْطَرُّوا إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيِّ بِالْقِتَالِ، وَمَا أَعْقَبَهُمْ مِنْ خَسَارَةِ الْمَالِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، ثُمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ احْتِمَالُ الذُّلِّ

وَالنَّكَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ عَزَمُوا عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَاسْتَعَدُّوا لَهَا فَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ (وَقِيلَ يَاأَرْضُ) فَتَضَاءَلَتْ قُوَاهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.

عَرَفَ بُلَغَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِنَةِ فِي فَصَاحَتِهَا اللَّفْظِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ بُلَغَاءُ الْفُنُونِ بَعْدَهُمْ مِنْهَا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِمَا لِلْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الصُّورِيِّ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَوَازِينِ الْفَنِّيَّةِ وَدَرَجَاتِ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَكَانَ أُولَئِكَ أَدَقَّ شُعُورًا بِمَا لِهَذَا الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْعُقُولِ.

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْجَمَالِ الْبَدَنِيِّ فِي حِسَانِ النِّسَاءِ مَقَايِيسَ وَمَوَازِينَ لِتَنَاسُبِ الْأَعْضَاءِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَالْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهَا، وَأَمَّا الْجَمَالُ الْمَعْنَوِيُّ - وَهُوَ خِفَّةُ الرُّوحِ وَسُلْطَانُ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ - فَلَيْسَ لَهُ مِقْيَاسٌ وَلَا مِيزَانٌ عَشْرِيٌّ يُضْبَطُ بِهِ وَزْنُهُ أَوْ مِسَاحَتُهُ فَيُعْرَفُ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْجَمَّالُ الْأَعْلَى بِمَلَكَةٍ نَفْسِيَّةٍ، لَا بِأَوْزَانٍ صِنَاعِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الطَّيِّبُ فِي الْخَيْلِ:

إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ

وَإِنَّمَا أَحْدَثَ الْقُرْآنُ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا أَحْدَثَ مِنَ الثَّوْرَةِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِانْقِلَابِ الْعَالَمِيِّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَتِهِ لَا الْأَوَّلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي بَابِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ فِي الثَّانِي لَيَشْغَلُ الْمُفَسِّرَ وَالْمُتَدَبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ الْخَاصِّ مِنْهُ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَلِهَذَا نَقْتَصِرُ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِنَا عَلَى مَا قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِاخْتِصَارٍ لَا يَشْغَلُ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا جَعَلْتُ مَا أَحْبَبْتُ بَيَانَهُ فِي بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَنِّيَّةِ عِلَاوَةً مِنْ هَذِهِ الْعِلَاوَاتِ، وَقَدْ أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِيهَا حَتَّى أَفْرَدَهَا بَعْضُهُمْ بِمُصَنَّفَاتٍ خَاصَّةٍ، وَتَكَلَّمَ صَاحِبُ (الطِّرَازِ فِي عُلُومِ الْإِعْجَازِ) عَلَيْهَا فِي 25 صَفْحَةً، وَلَعَلَّهُ أَحْسَنُهُمْ فِيهَا كَلَامًا،

وَإِنْ كَانَ السَّكَّاكِيُّ هُوَ السَّابِقُ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً أَوْ وَسَطًا مِنْهُ أَنْقُلُ مِنْهَا هُنَا مَا لَخَّصَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي ((رُوحِ الْمَعَانِي)) مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَغَيْرِهِ بِتَصَرُّفٍ كَعَادَتِهِ قَالَ:

ص: 76

((وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ بَلَغَتْ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِعْجَازِ أَقَاصِيَهَا، وَاسْتَذَلَّتْ مَصَاقِعَ الْعَرَبِ فَسَفِعَتْ بِنَوَاصِيهَا، وَجَمَعَتْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَكَانَتْ مِنْ سَمْهَرِيِّ الْبَلَاغَةِ مَكَانَ السِّنَانِ.

((يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَصَدُوا أَنْ يُعَارِضُوا الْقُرْآنَ فَعَكَفُوا عَلَى لُبَابِ الْبُرِّ وَلُحُومِ الضَّأْنِ وَسُلَافِ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِتَصْفُوَ أَذْهَانُهُمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِيمَا قَصَدُوهُ وَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَرَكُوا مَا أَخَذُوا فِيهِ وَتَفَرَّقُوا.

وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ وَكَانَ - كَمَا فِي الْقَامُوسِ - فَصِيحًا بَلِيغًا، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْصَحُ أَهْلِ وَقْتِهِ، رَامَ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ فَنَظَمَ كَلَامًا وَجَعَلَهُ مُفَصَّلًا وَسَمَّاهُ سُوَرًا، فَاجْتَازَ يَوْمًا بِصَبِيٍّ يَقْرَؤُهَا فِي مَكْتَبٍ فَرَجَعَ وَمَحَا مَا عَمِلَ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ أَبَدًا وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَدْعِي أَلَّا يَكُونَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُعْجِزًا، لِمَا أَنَّ حَدَّ الْإِعْجَازِ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى قُدْرَتِهِ قَطْعًا، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ الطَّرَفُ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ، أَعْنِي: مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَجَاوُزُهَا إِيَّاهُ، وَالثَّانِي: مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ، أَعْنِي الْمَرَاتِبَ الْعَلِيَّةَ الَّتِي تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنْهَا أَيْضًا.

((وَمَعْنَى إِعْجَازِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِأَسْرِهَا، هُوَ كَوْنُهَا مِمَّا تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهَا فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ.

((وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضَ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ الْمَهَرَةُ الْمُتْقِنُونَ، وَتَرَكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِفَادَةً لِجَاهِلٍ، وَتَذْكِيرًا لِفَاضِلٍ غَافِلٍ، فَنَقُولُ:

جِهَاتُ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْأَرْبَعُ، أَوَّلُهَا جِهَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ:

ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ: مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُمَا مَرْجِعَا الْبَلَاغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ - وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الْقَرِينَةِ وَالتَّرْشِيحِ وَالتَّعْرِيضِ - فَهُوَ أَنَّهُ - عَزَّ سُلْطَانُهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا فَارْتَدَّ، وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ، وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ عليه السلام وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا

ص: 77

وَعَدْنَاهُ مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ فَقُضِيَ، وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَوَتْ، وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى - بَنَى سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْمَأْمُورِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - لِكَمَالِ هَيْبَتِهِ مِنَ الْآمِرِ - الْعِصْيَانُ، وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ النَّافِذِ فِي تَكَوُّنِ الْمَقْصُودِ تَصْوِيرًا لِاقْتِدَارِهِ سُبْحَانَهُ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ - تَعَالَى - إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، وَلِمَشِيئَتِهِ فِيهَا تَغْيِيرًا وَتَبْدِيلًا، كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ قَدْ عَرَفُوهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِحُكْمِهِ، وَتَحَتَّمَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ، وَتَصَوَّرُوا مَزِيدَ اقْتِدَارِهِ، فَعَظُمَتْ مَهَابَتُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَضَرَبَتْ سُرَادِقَهَا فِي أَفْنِيَةِ ضَمَائِرِهِمْ، فَكَمَا يُلَوِّحُ لَهُمْ إِشَارَتَهُ - سُبْحَانَهُ - كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا، وَكَمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَمَّمًا، لَا تَلَقِّيَ لِإِشَارَتِهِ بِغَيْرِ الْإِمْضَاءِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَا لِأَمْرِهِ بِغَيْرِ الْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ.

((ثُمَّ بَنَى عَلَى مَجْمُوعِ التَّشْبِيهَيْنِ نَظْمَ الْكَلَامِ فَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: (قِيلَ) عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ هَذَا الْمَجَازِ خِطَابَ الْجَمَادِ وَهُوَ (يَاأَرْضُ)(وَيَا سَمَاءُ) إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ حُصُولُ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْجَمَادِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ كَمَا تَرَى:(يَاأَرْضُ)(وَيَا سَمَاءُ) مُخَاطِبًا لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُشَبَّهَ أَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمُرَادَ مِنْهُمَا

حُصُولُ أَمْرٍ، وَأُرِيدَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَعْنِي الْمَأْمُورَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعِصْيَانُ ادِّعَاءً بِقَرِينَةِ نِسْبَةِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ وَدُخُولِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيلًا. وَقَدْ يُقَالُ: أَرَادَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ هَهُنَا تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً فِي حَرْفِ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ بِتَعَلُّقِ النِّدَاءِ وَالْخِطَابِ بِالْمُنَادَى الْمُخَاطَبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يَحْسُنُ هَذَا التَّشْبِيهُ ابْتِدَاءً، بَلْ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الْحَمْلَ.

((ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغُئُورِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْبَلْعَ الَّذِي هُوَ إِعْمَالُ الْجَاذِبَةِ فِي الْمَطْعُومِ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ: جَعْلُ الْبَلْعِ مُسْتَعَارًا لِنَشْفِ الْأَرْضِ الْمَاءَ هُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ النَّشْفَ دَالٌّ عَلَى جَذْبٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِمَا عَلَيْهَا كَالْبَلْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ النَّشْفَ فِعْلُ الْأَرْضِ، وَالْغُئُورَ فِعْلُ الْمَاءِ مَعَ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ تَعَدِّيًا.

ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ لِلزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ فِي الْغِذَاءِ دُونَ الْمَاءِ.

((وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الِاسْتِعَارَةِ، يَكُونُ (ابْلَعِي)

ص: 78

اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ بِحَسْبَ اللَّفْظِ قَرِينَةً لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ فِي الْمَاءِ عَلَى حَدِّ مَا قَالُوا فِي:(يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وَأَمَّا إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَلْعُ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْإِنْبَاتِ فِي: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ. وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ يُحْمَلُ مُسْتَعَارًا لِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ كَمَا فِي: نَطَقَتِ الْحَالُ، فَيُلْزِمُهُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلتَّشْبِيهِ الثَّانِي، وَخَاطَبَ فِي الْأَمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي لَفْظِ (ابْلَعِي) بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ اسْتِعَارَةً لِغُئُورِ الْمَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ أَعْنِي كَوْنَهُ صُورَةَ أَمْرِ اسْتِعَارَةٍ أُخْرَى لِتَكْوِينِ الْمُرَادِ ; وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَمْرَ خِطَابِ تَرْشِيحٍ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْمُنَادَى، فَإِنَّ قَرِينَتَهَا

النِّدَاءُ وَمَا زَادَ عَلَى قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ يَكُونُ تَرْشِيحًا لَهَا. وَأَمَّا جَعْلُ النِّدَاءِ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً حَتَّى يَكُونَ خِطَابُ الْآمِرِ تَرْشِيحًا لَهَا فَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ.

((ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (مَاءَكِ) بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَاخْتَارَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِأَجْلِ التَّرْشِيحِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مَجَازًا لُغَوِيًّا فِي الْهَيْئَةِ الْإِضَافِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْمِلْكِيِّ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْخِطَابَ تَرْشِيحًا لِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخِطَابَ يَدُلُّ عَلَى صُلُوحِ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَمَا قِيلَ إِنَّ الْمَجَازَ عَقْلِيٌّ وَالْعِبَارَةَ مَصْرُوفَةٌ عَنِ الظَّاهِرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.

((ثُمَّ اخْتَارَ لِاحْتِبَاسِ الْمَطَرِ الْإِقْلَاعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْفَاعِلِ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ مَا كَانَ مِنَ الْمَطَرِ أَوِ الْفِعْلِ، فَفِي (أَقْلِعِي) اسْتِعَارَةٌ بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ، وَكَذَا بِاعْتِبَارِ صِيغَتِهِ أَيْضًا، وَهِيَ مُبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمَ النَّافِذَ، وَالْخِطَابُ فِيهِ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ النِّدَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ مِثْلُ مَا مَرَّ فِي ابْلَعِي.

ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا) فَلَمْ يُصَرِّحْ - جَلَّ وَعَلَا - بِمَنْ غَاضَ الْمَاءَ، وَلَا بِمَنْ قَضَى الْأَمْرَ وَسَوَّى السَّفِينَةَ، وَقَالَ: بُعْدًا كَمَا لَمْ يُصَرِّحْ - سُبْحَانَهُ - بِقَائِلِ: (يَاأَرْضُ)(وَيَا سَمَاءُ) فِي صَدْرِ الْآيَةِ سُلُوكًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ لِسَبِيلِ الْكِنَايَةِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَا يُكْتَنَهُ، قَهَّارٌ لَا يُغَالَبُ، فَلَا مَحَالَّ لِذَهَابِ الْوَهْمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قَائِلًا:(يَاأَرْضُ)(وَيَا سَمَاءُ) ، وَلَا غَائِضًا مَا غَاضَ، وَلَا قَاضِيًا مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ تَسْوِيَةَ السَّفِينَةِ وَإِقْرَارَهَا بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ.

((وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَيَّنَ لِفَاعِلٍ بِعَيْنِهِ اسْتَتْبَعَ لِذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُهُ وَيُبْنَى الْفِعْلُ لِمَفْعُولِهِ، أَوْ يُذْكَرَ مَا هُوَ أَثَرٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَيُسْنَدَ إِلَى ذَلِكَ الْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ الْفِعْلُ بِمَوْصُوفِهَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ فِي تَقْرِيرِ الْكِنَايَةِ

ص: 79

هُنَا: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ وَبِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَتَعْيِينِهِ لِفَاعِلِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذُكِرَ اللَّازِمُ وَأُرِيدَ الْمَلْزُومُ ; لِمَا أَنَّ (وَاسْتَوَتْ) غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ - كَـ (قِيلَ) ، (وَغِيضَ) .

((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - خَتَمَ الْكَلَامَ بِالتَّعْرِيضِ تَنْبِيهًا لِسَالِكِي مَسْلَكِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فِي

تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عليهم السلام ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ لَا غَيْرَ، خَتَمَ إِظْهَارًا لِمَكَانِ السُّخْطِ وَلِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنَّ قِيَامَةَ الطُّوفَانِ وَتِلْكَ الصُّورَةِ الْهَائِلَةِ مَا كَانَتْ إِلَّا لِظُلْمِهِمْ، كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَالْوَصْفُ بِالظُّلْمِ مَعَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُعْدَ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ الْقُرْبِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ وَيَكُونُ فِي الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمَعْقُولِ نَحْوُ: ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا 4: 167 وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْهَلَاكِ مَجَازٌ.

((قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ: يُقَالُ: بَعُدَ بُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبُعُدًا بِالتَّحْرِيكِ إِذَا بَعُدَ بُعْدًا بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْهَلَاكِ وَخُصَّ بِدُعَاءِ السُّوءِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْقَامُوسِ بَيْنَ صِيغَتَيِ الْفِعْلِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قَالَ: الْبُعْدُ مَعْرُوفٌ وَالْمَوْتُ وَفِعْلُهُمَا كَكَرُمَ بُعْدًا وَبُعُدًا فَافْهَمْ.

((وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ أُعْطِيَتَا مَا يَعْقِلَانِ بِهِ الْأَمْرَ، فَقِيلَ لَهُمَا حَقِيقَةً مَا قِيلَ، وَأَنَّ الْقَائِلَ (بُعْدًا) نُوحٌ عليه السلام وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَوَّلِ أَبْلَغُ.

بَلَاغَةُ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي:

((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي وَهُوَ النَّظَرُ فِي فَائِدَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيهَا، وَجِهَةِ كُلِّ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِيمَا بَيْنَ جُمَلِهَا، فَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتِيرَ (يَا) دُونَ سَائِرِ أَخَوَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى بُعْدِ الْمُنَادَى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقَامُ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ وَإِبْدَاءِ شَأْنِ الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَهُوَ تَبْعِيدُ الْمُنَادَى الْمُؤْذِنِ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَا أَرْضِ بِالْكَسْرِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى نَفْسِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَقْتَضِي تَشْرِيفًا لِلْأَرْضِ وَتَكْرِيمًا لَهَا فَتَرَكَ إِمْدَادًا لِلتَّهَاوُنِ، وَلَمْ يُقَلْ: يَا أَيَّتُهَا الْأَرْضُ! مَعَ كَثْرَتِهِ فِي نِدَاءِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، قَصْدًا إِلَى الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ تَكَلُّفِ التَّنْبِيهِ الْمُشْعِرِ بِالْغَفْلَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِمَا كَالْمُقِلَّةِ وَالْغَبْرَاءِ، وَكَالْمُضِلَّةِ وَالْخَضْرَاءِ ; لِكَوْنِهِمَا أَخْصَرَ وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَأَوْفَى بِالْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّ تَقَابُلَهُمَا إِنَّمَا اشْتَهَرَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ (ابْلَعِي) عَلَى ابْتَلِعِي ; لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ وَأَوْفَرَ تَجَانُسًا بِـ (أَقْلِعِي) ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ إِنِ اعْتُبِرَتْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَإِلَّا تَقَارَبَا

فِيهِ، بِخِلَافِ ابْتَلِعِي، وَقِيلَ:(مَاءَكِ) بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِكْثَارِ الْمُتَأَبِّي عَنْهَا مَقَامُ إِظْهَارِ الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي إِفْرَادِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ ابْلَعِي بِدُونِ الْمَفْعُولِ لِئَلَّا يَسْتَلْزِمَ تَرْكُهُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ تَعْمِيمِ الِابْتِلَاعِ لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مَقَامِ عَظَمَةِ الْآمِرِ الْمَهِيبِ وَكَمَالِ انْقِيَادِ الْمَأْمُورِ.

ص: 80

((وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَلْعُ الْمَاءِ وَحْدَهُ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِقْلَاعِ إِمْسَاكُ السَّمَاءِ عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ. فَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ أَقْلِعِي اخْتِصَارًا وَاحْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ ذِكْرِ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ ; لِأَنَّ مَقَامَ الْكِبْرِيَاءِ وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي رُبَّمَا أَوْهَمَ إِمْكَانَ الْمُخَالَفَةِ، وَاخْتِيرَ وَغِيضَ عَلَى غُيِّضَ الْمُشَدِّدِ لِكَوْنِهِ أَخْصَرَ، وَقِيلَ: الْمَاءُ دُونَ مَاءِ طُوفَانِ السَّمَاءِ، وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَمْرِ نُوحٍ وَهُوَ إِنْجَازُ مَا وُعِدَ ; لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُغْنِي غَنَاءَ الْإِضَافَةِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَعْهُودِ.

((وَاخْتِيرَ وَاسْتَوَتْ عَلَى ((سُوِّيَتْ)) أَيْ أُقِرَّتْ مَعَ كَوْنِهِ أَنْسَبَ بِأَخَوَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ لِلْمَفْعُولِ، اعْتِبَارًا لِكَوْنِ الْفِعْلِ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِقْرَارِ - أَعْنِي الْجَرَيَانَ - مَنْسُوبًا إِلَى السَّفِينَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) مَعَ أَنَّ وَاسْتَوَتْ أَخْصَرُ مِنْ سُوِّيَتْ، وَاخْتِيرَ الْمَصْدَرُ أَعْنِي بُعْدًا عَلَى لِيَبْعُدَ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ الِاخْتِصَارِ فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْدًا وَحْدَهُ مَنْزِلَةَ: لِيَبْعُدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْهَلَاكِ بِذِكْرِ اللَّامِ، وَإِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَنْ مُقَيَّدَاتِهِ فِي قِمَامِ الْمُبَالَغَةِ يُفِيدُ تَنَاوُلَ كُلِّ نَوْعٍ. فَيَدْخُلُ فِيهِ ظُلْمُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ ظُلْمًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ إِلَيْهِمْ.

((هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْكِيبِ الْكَلِمِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ فَقِيلَ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي)(وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ، وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا

حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى. قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ لِلِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ لِكَوْنِهَا الْأَصْلَ، نَظَرًا إِلَى كَوْنِ ابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا حَيْثُ فَارَ تَنُّورُهَا أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:(وَغِيضَ الْمَاءُ) تَابِعًا لِأَمْرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لِاتِّصَالِهِ بِقِصَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَقُيِّدَ الْمَاءُ بِالنَّازِلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقًا: لِأَنَّ ابْتِلَاعَ الْأَرْضِ مَاءَهَا فُهِمْ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (ابْلَعِي مَاءَكِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمَخْصُوصَ بِالْأَرْضِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا عَلَى وَجْهِهَا فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَبِيلَيْنِ: الْأَرْضِيَّ وَالسَّمَائِيَّ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا نَبَعَ مِنْهَا فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَلِهَذَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَاءَ عَلَى مُطْلَقِهِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّ: وَغِيضَ الْمَاءُ إِخْبَارٌ عَنْ حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي)، فَالتَّقْدِيرُ: قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ فَامْتَثَلَا الْأَمْرَ وَنَقَصَ الْمَاءُ.

ص: 81

((وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ، زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْغَيْضِ حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا كَانَتْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِهِ بِهَا بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَلِذَا جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ سَائِرِ الْمِيَاهِ سِوَى الَّذِي بِسَبَبِهِ صَارَتِ الْأَرْضُ مُهَيَّأَةً لِلْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَفَارَ التَّنُّورُ)(40) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّوَغُّلُ فِي تَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَالتَّرْشِيحِ، وَلَوْ أُجْرِيَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا تَكُونُ كَالتَّجْرِيدِ، وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟

((هَذَا وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَاسْتَلْزَمَ تَعْمِيمَ ابْتِلَاعِ الْمِيَاهِ بِأَسْرِهَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ مِنْ مَقَامِ الْعَظَمَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْكَشْفِ بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ وَرَدُّ يَمِينٍ؟ إِذْ لَا مَعْهُودَ، وَالظَّاهِرُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَافِي التَّرْشِيحَ وَإِضَافَةَ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَاءِ مَنْزِلَةَ الْغِذَاءِ أَنْ تُجْعَلَ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْغِذَاءِ إِلَى الْمُغْتَذِي فِي النَّفْعِ وَالتَّقْوِيَةِ وَصَيْرُورَتِهِ جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّعْمِيمُ فَمَطْلُوبٌ وَحَاصِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ لِانْحِصَارِ

الْمَاءِ فِي الْأَرْضِيِّ وَالسَّمَائِيِّ وَقَدْ قُلْتُمْ بِنُضُوبِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ؟ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَغِيضَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ مَاءِ الطُّوفَانِ.

((هَذَا وَالْمُطَابِقُ تَفْسِيرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: فَالْتَقَى الْمَاءُ 54: 12 أَيِ الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ، وَهَاهُنَا تَقَدَّمَ الْمَاءَانِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَاءَكِ)(وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ: وَغِيضَ الْمَاءُ رَجَعَ إِلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ لِتَقَدُّمِهِمَا. ثُمَّ إِذَا جُعِلَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْلِعِي خَاصَّةً لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ عَلَى أَصْلِ الْقِصَّةِ، أَعْنِي:(وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي) كَيْفَ وَفِي إِيثَارِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ زَالَ كَوْنُهُ طُوفَانًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَاءِ غَيْرُ الْإِذْهَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَجْزَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْإِنْبَاعِ وَرَجَعَتْ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالنُّضُوبِ هَذَا الْمَعْنَى أَلْبَتَّةَ اهـ.

((وَزَعَمَ الطَّبَرَسِيُّ أَنَّ أَئِمَّةَ الْبَيْتِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ هُوَ مَا نَبَعَ وَفَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتُلِعَ وَغَاضَ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بِحَارًا وَأَنْهَارًا.

((وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ السَّكَّاكِيِّ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّتِهِ مَا فِيهِ.

((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَتْبَعَ - وَغِيضَ الْمَاءُ - مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ثُمَّ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمَقْصُودِ حَدِيثَ السَّفِينَةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي عَلِمْتَهُ.

ص: 82

مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ:

((هَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ فِي الْآيَةِ مِنْ جَانِبِ الْبَلَاغَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَهِيَ كَمَا تَرَى نَظْمٌ لِلْمَعَانِي لَطِيفٌ، وَتَأْدِيَةٌ لَهَا مُلَخَّصَةٌ مُبِينَةٌ لَا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الْفِكْرَ فِي طَلَبِ الْمُرَادِ، وَلَا الْتِوَاءَ يُشِيكُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُرْتَادِ، بَلْ إِذَا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا وَجَدْتَ أَلْفَاظَهَا تُسَابِقُ مَعَانِيَهَا، وَمَعَانِيهَا تُسَابِقُ أَلْفَاظَهَا، فَمَا مِنْ لَفْظَةٍ فِيهَا تَسْبِقُ إِلَى أُذُنِكَ، إِلَّا وَمَعْنَاهَا أَسْبَقُ إِلَى قَلْبِكَ.

((وَأَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأَلْفَاظُهَا عَلَى مَا تَرَى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ

جَارِيَةٌ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ سَلِيمَةٌ عَنِ التَّنَافُرِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَشَاعَةِ، عَذْبَةٌ عَلَى الْعَذَبَاتِ، سَلِسَةٌ عَلَى الْأَسَلَاتِ، كُلٌّ مِنْهَا كَالْمَاءِ فِي السَّلَاسَةِ، وَكَالْعَسَلِ فِي الْحَلَاوَةِ، وَكَالنَّسِيمِ فِي الرِّقَّةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - دَرُّ التَّنْزِيلِ مَاذَا جَمَعَتْ آيَاتُهُ!

وَعَلَى تَفَنُّنِ وَاصِفِيهِ بِحُسْنِهِ يَفْنَى الزَّمَانُ وَفِيهِ مَا لَمْ يُوصَفِ

((وَمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ حِيَاضٍ، وَزَهْرَةٌ مِنْ رِيَاضٍ.

مَزَايَا الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ: ((وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الْأُصْبُعِ أَنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ مَعَ أَنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً، وَذَلِكَ: الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ فِي ابْلَعِي وَأَقْلِعِي، وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا، وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالْمَجَازُ فِي يَا سَمَاءُ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ يَا مَطَرَ السَّمَاءِ، وَالْإِشَارَةُ فِي (وَغِيضَ الْمَاءُ) فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَيَنْقُصُ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْإِرْدَافُ فِي (وَاسْتَوَتْ) وَالتَّمْثِيلُ فِي (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وَالتَّعْلِيلُ فَإِنَّ غَيْضَ الْمَاءِ عِلَّةٌ لِلِاسْتِوَاءِ، وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ، فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَ نَقْصِهِ، وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ عَدْلَهُ - تَعَالَى - يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَحُسْنُ النَّسَقِ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِيجَازُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَصَّ الْقِصَّةِ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، وَالتَّسْهِيمُ ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا، وَالتَّهْذِيبُ ; لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالتَّمْكِينُ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا، وَالِانْسِجَامُ، وَزَادَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي

ص: 83

الْأُصْبُعِ: الِاعْتِرَاضَ، وَزَادَ آخَرُونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إِلَّا أَنَّهَا كَكَلَامِ ابْنِ أَبِي الْأُصْبُعِ قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِأُصْبُعِ الِاعْتِرَاضِ.

((وَقَدْ أَلَّفَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ - أَعْلَى اللهُ تَعَالَى دَرَجَتَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ - رِسَالَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَمَعَ فِيهَا مَا ظَهَرَ لَهُ وَوَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَزَايَاهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ

مِائَةً وَخَمْسِينَ مَزِيَّةً، وَقَدْ تَطَلَّبْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِأَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ لَطَائِفِهَا فَلَمْ أَظْفَرْ بِهَا، وَكَأَنَّ طُوفَانَ الْحَوَادِثِ أَغْرَقَهَا، وَلَعَلَّ فِيمَا نَقَلْنَاهُ سَدَادًا مِنْ عَوَزٍ، وَاللهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) انْتَهَى.

الْعِلَاوَةُ الثَّانِيَةُ:

(حَادِثَةُ الطُّوفَانِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ)

بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَحْدَاثَ التَّارِيخِ وَضَبْطَ وَقَائِعِهِ وَأَزْمِنَتِهَا وَأَمْكِنَتِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِصْلَاحِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، بِعَشْرِ جُمَلٍ جَامِعَةٍ لِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ الْمُتَفَرِّقَةِ.

وَبَيَّنَّا أَنَّ قِصَّةَ نُوحٍ عليه السلام جَاءَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي سَائِرِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مِنْ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ إِلَّا مَا فِيهِ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْهَا، فَذُكِرَتْ فِي بَعْضِهَا بِآيَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بِآيَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ أَطْوَلُهَا وَأَجْمَعُهَا.

قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ:

وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ، فَهِيَ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَنْسَابِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَتَسَلْسُلِهَا فِي السِّنِينَ الْمَعْدُودَةِ، إِلَى أَنْ تَتَّصِلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَقْصُودِينَ بِالذَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا التَّارِيخُ نَقَضَهُ مِنْ أَسَاسِهِ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ وَمَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ الْإِنْسَانِ الْمُتَحَجِّرَةِ وَغَيْرِهَا.

فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ بَيَانُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي سَادِسِهَا خُلِقَ آدَمُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَفْصِيلٌ لِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ غَرَسَ جَنَّةً فِي عَدَنَ شَرْقًا وَوَضَعَ فِيهَا آدَمَ، وَفِي آخِرِهِ ذَكَرَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ

أَضْلَاعِ آدَمَ الْيُسْرَى، وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ خَبَرُ مَعْصِيَةِ آدَمَ بِأَكْلِهِ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ طَاعَةً لِامْرَأَتِهِ الَّتِي أَغْوَتْهَا الْحَيَّةُ وَحَمَلَتْهَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ تَنَاسُلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَفِي الْخَامِسِ مَوَالِيدُ آدَمَ

ص: 84

إِلَى نُوحٍ وَهُوَ الْبَطْنُ التَّاسِعُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَوِلَادَةِ نُوحٍ 1056 سَنَةً مِنْهَا 930 سَنَةً مُدَّةُ حَيَاةِ آدَمَ عليه السلام.

وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام فَاسْتَغْرَقَتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ مِنْ 6 - 9 فِي آخِرِ التَّاسِعِ مِنْهَا أَنَّ نُوحًا عَاشَ 950 سَنَةً، وَفِي أَوَّلِ السَّادِسِ بَيَانُ سَبَبِ الطُّوفَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّهُ بِأُسْلُوبِ تِلْكَ الْكُتُبِ الَّتِي تُشَبِّهُ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِنْسَانِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، أَوْ مَا تَكَرَّرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ (1: 26 وَقَالَ اللهُ نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ و27000 فَخَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى) وَهَذَا مَا يَعْنِينَا فِي هَذَا السِّفْرِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ.

(6: 5 وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الْإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ 6 فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ 7 فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ الْإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الْإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ لِأَنِّي حَزِنْتُ عَلَيْهِمْ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ 8 وَأَمَّا نُوحٌ فَوُجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ 9 هَذِهِ. مَوَالِيدُ نُوحٍ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ 10 وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةَ بَنِينَ: سَامًا وَحَامًا وَيَافِثَ 11 وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَامْتَلَأَتْ ظُلْمًا 12 وَرَأَى اللهُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الْأَرْضِ 13 فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي لِأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الْأَرْضِ 14 اصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جَفْرٍ إِلَخْ.

وَهَاهُنَا وَصَفَ طُولَ الْفُلْكِ وَعَرْضَهُ وَارْتِفَاعَهُ وَبَابَهُ فِي جَانِبِهِ وَطَبَقَاتِهِ الثَّلَاثَ، وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَعَهُ وَهُمُ امْرَأَتُهُ وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَأَزْوَاجُهُمْ الثَّلَاثُ، وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ وَتَحْتَ السَّمَاءِ يَهْلِكُ، وَقَدْ كَرَّرَ ذِكْرَ مَنْ يَدْخُلُ الْفُلْكَ، وَذَكَرَ تَارِيخَ دُخُولِ الْفُلْكِ مِنْ عُمُرِ نُوحٍ، وَمُدَّةَ الْمَطَرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَمِقْدَارَ ارْتِفَاعِ الْفُلْكِ فَوْقَ الْجِبَالِ وَهُوَ 15 ذِرَاعًا، وَبَقَاءَ الْمِيَاهِ عَلَى الْأَرْضِ 150 يَوْمًا.

كُلُّ ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ السَّادِسِ وَالسَّابِعِ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ رُجُوعَ الْمِيَاهِ عَنِ الْأَرْضِ بِالتَّدْرِيجِ، وَاسْتِقْرَارَ الْفُلْكِ عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ، وَمَا كَانَ مِنْ خُرُوجِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ السَّفِينَةِ (قَالَ) 8: 20 وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحَرِّقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ 21 فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَى، وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أَلْعَنُ الْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ،

ص: 85

وَلَا أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ 22 مُدَّةُ كُلِّ أَيَّامِ الْأَرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لَا تَزَالُ) .

وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مُبَارَكَةُ اللهِ لِنُوحٍ وَبَنِيهِ وَإِكْثَارُهُمْ لِيَمْلَئُوا الْأَرْضَ، وَتَأْمِينُهُمْ مِنْ عَوْدَةِ الطُّوفَانِ بِإِعْطَائِهِمْ مِيثَاقَهُ وَهُوَ قَوْسُ السَّحَابِ، بَلْ جَعَلَهَا أَمَانًا لِكُلِّ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ فِي أَبْنَاءِ نُوحٍ 9، 19 هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الْأَرْضِ) وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ لَعَنَ كَنْعَانَ بْنَ يَافِثَ وَجَعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ عَبِيدًا لِذُرِّيَّةٍ سَامٍ وَحَامٍ لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ جَدِّهِ نُوحٍ إِذْ تَعَرَّى وَهُوَ سَكْرَانُ.

هَذِهِ خُلَاصَةُ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا وَلَا أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ، وَلَا أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَافِرٌ غَرِقَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَا امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ كُفْرُهَا قَبْلَ الطُّوفَانِ فَغَرِقَتْ أَمْ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فِي أَنَّ سَبَبَ الطُّوفَانِ غَضَبُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِفَسَادِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَلَكِنْ بِأُسْلُوبِهِ الْمُشَبِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْسَانِ فِي صِفَاتِهِ الْبَاطِنَةِ كَصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ.

عُمُرُ نُوحٍ وَتَعْلِيلُ طُولِهِ كَأَعْمَارِ مَنْ قَبْلَهُ:

وَيُوَافِقُ الْقُرْآنَ سِفْرُ التَّكْوِينِ تَقْرِيبًا فِي عُمُرِ نُوحٍ وَهُوَ 950 سَنَةً، وَلَكِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَدِ اشْتَبَهَ فِيهَا النَّاسُ مُنْذُ قُرُونٍ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ تَدْوِينِ التَّارِيخِ، كَمَا أَنَّ الْأَيَّامَ وَالسِّنِينَ فِي زَمَنِ التَّكْوِينِ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(22: 47) وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي أَعْمَارِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الطُّوفَانِ أَوْ قَبْلَ مَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ التَّارِيخِ لَا يُقَاسُ بِمَا

عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْعُمْرَانِ وَمَعِيشَةَ الْإِنْسَانِ الْفِطْرِيَّةَ كَانَتْ أَسْلَمَ لِلْأَبْدَانِ، وَأَقَلَّ تَوْلِيدًا لِلْأَمْرَاضِ، وَقَوْلُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

سِفْرُ التَّكْوِينِ لَيْسَ مِنْ تَوْرَاةِ مُوسَى: وَسِفْرُ التَّكْوِينِ هَذَا لَيْسَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ فَضْلًا عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ تَابُوتِ الْعَهْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَدْ فُقِدَتْ هِيَ وَالتَّابُوتُ بِحَرِيقِ الْهَيْكَلِ، وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْيَهُودِ قَدْ كُتِبَتْ كُلُّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ فِي سَنَةِ 536 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَيَقُولُونَ إِنَّ عِزْرَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَجَمَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَيْهِ وَعَمَّ اتِّصَالُهَا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ جَبْرَ ضُومَطَ مُدَرِّسُ الْبَلَاغَةِ فِي الْجَامِعَةِ الْأَمْرِيكَانِيَّةِ بِبَيْرُوتَ أَلَّفَ رِسَالَةً رَجَّحَ فِيهَا أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ

ص: 86

مَأْثُورٌ عَنْ يُوسُفَ عليه السلام وَلَمَّا نَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَثَرٌ تَارِيخِيٌّ قَدِيمٌ لَهُ قِيمَتُهُ.

وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُهَا (كِتَابُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) .

الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ نُوحٍ:

وَأَمَّا مَا حَشَا الْمُفَسِّرُونَ بِهِ تَفَاسِيرَهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ. وَأَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صُنْعِ السَّفِينَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ الَّذِي رَفَعَتْهُ لِيَنْجُوَ فَغَرِقَ مَعَهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْكَرُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ إِحْيَاءِ عِيسَى عليه السلام بِطَلَبِ الْحَوَارِيِّينَ لِحَامِ بْنِ نُوحٍ وَتَحْدِيثِهِ إِيَّاهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَطَبَقَاتِهَا وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَدُخُولِ الشَّيْطَانِ فِيهَا بِحِيلَةٍ احْتَالَ بِهَا عَلَى نُوحٍ، وَمِنْ وِلَادَةِ خِنْزِيرٍ وَخِنْزِيرَةٍ مِنْ ذَنَبِ الْفِيلِ، وَسِنَّوْرٍ وَسِنَّوْرَةٍ (قَطٍّ وَقِطَّةٍ) مِنْ مَنْخَرِ الْأَسَدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الْمُنَفِّرَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ

جُدْعَانَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَيَحْيَى وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ يَغْلُو فِي التَّشَيُّعِ وَمَعَ ذَلِكَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. أَقُولُ: وَحَسْبُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ.

خَبَرُ الطُّوفَانِ فِي الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ:

وَقَدْ وَرَدَ فِي تَوَارِيخِ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ ذِكْرٌ لِلطُّوفَانِ، مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِخَبَرِ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا قَلِيلًا، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَقْرَبُ الرِّوَايَاتِ إِلَيْهِ رِوَايَةُ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ الطُّوفَانُ فِي بِلَادِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُمْ بَرْهُوشَعُ وَيُوسُفُوسُ أَنَّ زَيْزَسْتُرُوسَ رَأَى فِي الْحُلْمِ بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ أُوتِيرْتَ أَنَّ الْمِيَاهَ سَتَطْغَى وَتُغْرِقَ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَأَمَرَهُ بِبِنَاءِ سَفِينَةٍ يَعْتَصِمُ فِيهَا هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَخَاصَّةُ أَصْدِقَائِهِ فَفَعَلَ، وَهُوَ يُوَافِقُ سِفْرَ التَّكْوِينِ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ جِيلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ طَغَوْا فِيهَا وَأَكْثَرُوا الْفَسَادَ فَعَاقَبَهُمْ اللهُ بِالطُّوفَانِ، وَقَدْ عَثَرَ بَعْضُ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى أَلْوَاحٍ مِنَ الْآجُرِّ نُقِشَتْ فِيهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالْحُرُوفِ الْمِسْمَارِيَّةِ فِي عَصْرِ أَشُورَ بِانِيبَالَ مِنْ نَحْوِ 660 سَنَةً قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ كِتَابَةٍ قَدِيمَةٍ مِنَ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَهِيَ أَقْدَمُ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ.

وَرَوَى الْيُونَانُ خَبَرًا عَنِ الطُّوفَانِ أَوْرَدَهُ أَفْلَاطُونُ، وَهُوَ أَنَّ كَهَنَةَ الْمِصْرِيِّينَ قَالُوا

ص: 87

لِسُولُونَ (الْحَكِيمِ الْيُونَانِيِّ) إِنَّ السَّمَاءَ أَرْسَلَتْ طُوفَانًا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَهَلَكَ الْبَشَرُ مِرَارًا بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لِلْجِيلِ الْجَدِيدِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ مَنْ قَبْلَهُ وَمَعَارِفِهِمْ.

وَأَوْرَدَ مَانِيتُونُ خَبَرَ طُوفَانٍ حَدَثَ بَعْدَ هَرْمَسَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ مِينَاسَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَقْدَمُ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ أَيْضًا.

وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ خَبَرُ طُوفَانٍ عَمَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا إِلَّا دُوكَالْيُونَ وَامْرَأَتَهُ بِيرَا فَقَدْ نَجَوْا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ قُدَمَاءِ الْفُرْسِ طُوفَانٌ أَغْرَقَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ بِمَا انْتَشَرَ فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ بِفِعْلِ (أَهْرَيْمَانَ) إِلَهِ الشَّرِّ، وَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطُّوفَانَ فَارَ أَوَّلًا مِنْ تَنُّورِ الْعَجُوزِ (زُولَ كُوفَهْ) إِذْ كَانَتْ تَخْبِزُ خُبْزَهَا فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمَجُوسَ أَنْكَرُوا عُمُومَ الطُّوفَانِ وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِإِقْلِيمِ الْعِرَاقِ، وَانْتَهَى إِلَى حُدُودِ كُرْدِسْتَانَ.

وَكَذَا قُدَمَاءُ الْهُنُودِ يُثْبِتُونَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي شَكْلٍ خُرَافِيٍّ، آخِرُهَا أَنَّ مَلِكَهُمْ نَجَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي سَفِينَةٍ عَظِيمَةٍ أَمَرَهُ بِصُنْعِهَا إِلَهُهُ فِشْنُو وَشَدَّهَا بِالدُّسُرِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى جَبَلِ جِيمَافَاتَ (حِمَلَايَا) وَلَكِنَّ الْبَرَاهِمَةَ كَالْمَجُوسِ يُنْكِرُونَ وُقُوعَ طُوفَانٍ عَامٍّ أَغْرَقَ

الْهِنْدَ كُلَّهَا. وَيُرْوَى تَعَدُّدُ الطُّوفَانِ عَنِ الْيَابَانِ وَالصِّينِ وَعَنِ الْبَرَازِيلِ وَالْمَكْسِيكِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَتَّفِقُ فِي أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عِقَابُ اللهِ لِلْبَشَرِ بِظُلْمِهِمْ وَشُرُورِهِمْ.

الْعِلَاوَةُ الثَّالِثَةُ:

(هَلْ كَانَ الطُّوفَانُ عَامًّا أَمْ خَاصًّا؟)

نَصُّ التَّوْرَاةِ - أَوْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا مُهْلِكًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ مِنْ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ: سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِيهِ خَبَرُهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ 18: 51 أَمَّا قَوْلُهُ فِي نُوحٍ عليه السلام بَعْدَ ذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ وَأَهْلِهِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 37: 77 فَالْحَصْرُ فِيهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضَافِيًّا، أَيِ الْبَاقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)(71: 26) فَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ هَذِهِ الْكُرَةُ كُلُّهَا، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ وَفِي أَخْبَارِهِمْ أَنْ تُذْكَرَ الْأَرْضُ وَيُرَادَ بِهَا أَرْضُهُمْ وَوَطَنُهُمْ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ 10: 78 يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، وَقَوْلِهِ:(وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا)(17: 76) فَالْمُرَادُ بِهَا مَكَّةُ، وَقَوْلُهُ:

ص: 88

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ 17: 4 وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ وَطَنَهُمْ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ.

وَلَكِنْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ تَدُلُّ - بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ وَالتَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي زَمَنِ نُوحٍ إِلَّا قَوْمُهُ، وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالطُّوفَانِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ فِيهَا غَيْرُ ذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا لَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْيَابِسَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَغِيرَةً لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ وَبِوُجُودِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُلَمَاءَ التَّكْوِينِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجِيَّةِ) يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الشَّمْسِ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً، ثُمَّ صَارَتْ كُرَةً مَائِيَّةً، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهَا الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ.

وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ (ص 666) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ

: فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ:

جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ نَابِلْسَ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ:

وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي 4 شَوَّالٍ سَنَةَ 1317 هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ: أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا قَوْمُ نُوحٍ عليه السلام، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ، وَأَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ عليه السلام بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ ((وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)) .

فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام:(رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)(71: 26) وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)(37: 77) وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(11: 43) قَالُوا: هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ نُوحًا عليه السلام أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ - سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ،

ص: 89

وَاسْتَنَدُوا إِلَى حِكَايَاتٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى أَهْلِ الصِّينِ، وَرَغِبْتُمْ مِنَّا بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ كَشْفَ الْغِطَاءِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ، وَالْإِفَادَةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى عُمُومِ الطُّوفَانِ، وَلَا عَلَى عُمُومِ رِسَالَةِ نُوحٍ عليه السلام، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ سَنَدِهِ - فَهُوَ آحَادٌ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَالْمَطْلُوبُ فِي تَقْرِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الْيَقِينُ لَا الظَّنُّ، إِذْ عُدَّ اعْتِقَادُهَا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينَ.

وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُ وَمُرِيدُ الِاطِّلَاعِ فَلَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنَ الظَّنِّ مَا تُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ثِقَتُهُ بِالرَّاوِي أَوِ الْمُؤَرِّخِ أَوْ صَاحِبِ الرَّأْيِ، وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ حَدِّ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَا تُتَّخَذُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى مُعْتَقَدٍ دِينِيٍّ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ فِي نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعُ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَوْضُوعُ خِلَافٍ بَيْنِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَعَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ الْأَرْضِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأَصْدَافِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ.

فَظُهُورُهَا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ صَعِدَ إِلَيْهَا مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ، وَيَزْعُمُ غَالِبُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، وَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ يَطُولُ شَرْحُهَا - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَ قَضِيَّةَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِالدِّينِ أَلَّا يَنْفِيَ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّ سَنَدُهَا وَيَنْصَرِفُ عَنْهَا إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَقْطَعُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ الْمُرَادِ، وَالْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ طَوِيلٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ، وَعِلْمٍ غَزِيرٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عُلُومٍ شَتَّى عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَمَنْ هَذَى بِرَأْيِهِ بِدُونِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ فَهُوَ مُجَازِفٌ لَا يُسْمَعُ لَهُ قَوْلٌ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِبَثِّ جَهَالَاتِهِ، وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ)) اهـ.

(أَقُولُ) : خُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا شَامِلًا لِقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأَرْضِ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ الْأَرْضَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْأَصْدَافِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ فِي قُلَلِ الْجِبَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الطُّوفَانِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَكَوُّنِ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، فَإِنَّ صُعُودَ الْمَاءِ إِلَى الْجِبَالِ

ص: 90

أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ

يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ. فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا.

الْعِلَاوَةُ الرَّابِعَةُ:

(فِي غَضَبِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعِقَابِهِمْ بِبَعْضِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِمُنَاسَبَةِ الْقِصَّةِ) بَيَّنَّا أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ عليه السلام كَانَ عَذَابًا عَاقَبَ اللهُ بِهِ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ سِفْرِ التَّكْوِينِ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَخْبَارِ الطُّوفَانِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ قَدْ جَاءَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا.

وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَاقَبَ غَيْرَ قَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا عَمَّهُمْ وَشَمَلَهُمُ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَشْهَرِهِمْ فِي التَّارِيخِ:(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(29: 40) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ عِقَابِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ هَذِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي عَمَّهَا الْفَسَادُ وَأَنْذَرَهَا الرُّسُلُ وُقُوعَهُ فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَيُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (17: 15) وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28: 58 و59] وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - لَمْ يُغْرِقْهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنَّمَا أَغْرَقَ مَنْ خَرَجُوا مَعَهُ لِإِعَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ.

وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا دَعْوَتُهُ هُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ.

وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَا يُهْلِكُهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ

فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهَا الْعَامُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي يُهْلَكُ بِهَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عَمَّهُمُ الْكُفْرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ

ص: 91

وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ)) .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَأُمَّةِ الْإِجَابَةِ - خَاصَّةً بِالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ لَا عَامًّا لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعُمُّ أَفْرَادَ مَنْ يَقَعُ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)(6: 65) وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَاقِعَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَشْكَالٍ لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ بَشَرٍ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ وَهِيَ عَذَابُ الطَّيَّارَاتِ الْجَوِّيَّةِ، وَالْأَلْغَامِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْغَوَّاصَاتِ الْبَحْرِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ الْأَقْوَامِ إِلَى شِيَعٍ فِي الْعَدَاوَاتِ فَوْقَ الْمَعْهُودِ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

كَذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِثْلَ مَا عُذِّبَ بِهِ الْأَقْوَامُ الْأَوَّلُونَ الْمُجْرِمُونَ الظَّالِمُونَ، مِنَ الطُّوفَانِ الْخَاصِّ وَخَسْفِ الْأَرْضِ وَحُسْبَانِ النَّارِ مِنَ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ، وَشِدَّةِ الْقَيْظِ الْمُحْرِقِ لِلنَّبَاتِ الْقَاتِلِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ فَكَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا فِي صَيْفِ عَامِنَا هَذَا (1353 هـ - 1934 م) فِي أَمْرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ وَلَا سِيَّمَا إِنْكِلْتِرَةُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَالْفُرْسُ وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَخُسِفَتْ بَعْضُ الْأَرْضِ بِالزَّلَازِلِ فِي الْهِنْدِ، وَحَدَثَ فِي مِصْرَ وَسُورِيَّةَ وَالْعِرَاقِ وَشَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ شَيْءٌ مِنَ الْجُوعِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَنَقْصِ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَا يَزَالُ الْقَيْظُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ.

وَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُجِيرَ مِصْرَ مِنْ طُغْيَانٍ فِي النِّيلِ كَطُغْيَانِ بَعْضِ أَنْهَارِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ أَخِيرًا وَفَرَنْسَةَ قَبْلَهُمَا، عِقَابًا لَنَا بِظُلْمِ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِنَا وَفِسْقِ الْفَاسِقِينَ مِنْ دَهْمَائِنَا، اللهُمَّ قَدْ كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُكَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَمَنْ يَدْعُوكَ وَحْدَكَ فِي السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ، اللهُمَّ،

وَلَا تُهْلِكْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَأَدِمْ لَنَا هَذَا النِّيلَ رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْ مِنْهُ عُقُوبَةً لِلْأُمَّةِ.

اعْتِبَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ وَتَوْبَتُهُمْ رَجَاءَ رَفْعِهَا:

كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِذَا وَقَعَ عَذَابٌ مِثْلُ هَذَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ اللهَ - تَعَالَى - فَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، كَمَا كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يُوصُونَهُمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ وَاسْتِغْفَارَهُ مِنَ الذُّنُوبِ - وَلَا سِيَّمَا الظُّلْمُ وَالْفِسْقُ - مِنْ أَسْبَابِ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَالرِّزْقِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 11: 3

ص: 92