الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوُرُودُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بُلُوغُ الْمَاءِ وَمُوَافَاتُهُ فِي مَوْرَدِهِ مِنْ نَهَرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْوِرْدِ بِالْكَسْرِ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: وَرَدَ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ الْمَاءَ يَرِدُهُ وِرْدًا فَهُوَ وَارِدٌ وَالْمَاءُ مَوْرُودٌ، أَوْرَدَهُ إِيَّاهُ إِيرَادًا جَعَلَهُ يَرِدُهُ، وَمِنْهُ وُرُودُ جَهَنَّمَ بِمَعْنَى دُخُولِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي الْآيَةِ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ. وَقَالَ: الْوُرُودُ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَوْرَادٍ، فِي هُودٍ قَوْلُهُ: - وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ -
98
وَفِي مَرْيَمَ: - وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا - 19: 71 وَوَرَدَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: - حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ - 21: 98 وَوَرَدَ فِي مَرْيَمَ أَيْضًا: - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - 19: 86 وَكَانَ يَقُولُ: وَاللهِ لَيَرِدَنَّ جَهَنَّمَ كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا -
19: 72.
- وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً - أَيْ: وَأُلْحِقَتْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَعْنَةٌ أَتْبَعَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: - وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ - 28: 42 وَقَالَ هُنَا: - وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَيْ وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعْنَةً أُخْرَى، فَهُمْ يُلْعَنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ سَمَّى هَذِهِ رِفْدًا ; تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقَالَ: - بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - الرِّفْدُ (بِالْكَسْرِ) فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْعَطَاءُ وَالْعَوْنُ: يُقَالُ: رَفَدَهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) أَعَانَهُ وَأَعْطَاهُ، وَأَرْفَدَهُ مِثْلُهُ، أَوْ جَعَلَ لَهُ رِفْدًا يَتَنَاوَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَرَفَدَهُ وَأَرْفَدُهُ كَسَقَاهُ وَأَسْقَاهُ، - وَبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ - أَيِ الْعَطَاءُ الْمُعْطَى هَذِهِ اللَّعْنَةَ الَّتِي أُتْبِعُوهَا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ، الْقَدَحُ وَبِالْكَسْرِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ، هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْعَامِّ بِالْخَاصِّ مُنَاسِبٌ لِلْوِرْدِ الْمَوْرُودِ قَبْلَهُ. أَيْ بِئْسَ مَا يُسْقَوْنَهُ فِي النَّارِ عِنْدَمَا يَرِدُونَهَا ذَلِكَ الشَّرَابُ الَّذِي يُسْقَوْنَهُ فِيهَا، وَهُوَ مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: - وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ - 47: 15.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ فَرَاعِنَةٌ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيَسْتَخِفُّونَهُمْ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ وَيَذِلُّونَ لَهُمْ ذُلَّ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْحِمَارِ لِرَاكِبِهِ، وَالْحَيَوَانِ لِمَالِكِهِ، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا شَيْئًا مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَرُشْدِهِ، وَتَجْهِيلِهِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، مَعَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: - وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - 97 وَبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَإِتْبَاعِهِمْ لَعْنَةً فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ سَيَقُودُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا قَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَفْقَهُوا قَوْلَ اللهِ - تَعَالَى - لِرَسُولِهِ فِي آيَةِ مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ - وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ - 60: 12 وَقَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ " إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ) .
(الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ) :
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِمَا فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَيَتْلُوهَا الْعِبْرَةُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ - تَعَالَى -: - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى - أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ، أَيْ أَهَمُّ أَخْبَارِهَا، وَأَطْوَارُ اجْتِمَاعِهَا فِي الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - نَقُصُّهُ عَلَيْكَ - فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةِ لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَتْلُوَهُ الْمُؤْمِنُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، لِلْإِنْذَارِ بِهِ تَبْلِيغًا عَنَّا، فَهُوَ مَقْصُوصٌ مِنْ لَدُنَّا بِكَلَامِنَا - مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ - أَيْ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى مَا لَهُ بَقَايَا مَائِلَةٌ وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ كَالزَّرْعِ الْقَائِمِ فِي الْأَرْضِ، كَقُرَى قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْهَا مَا عَفَا وَدَرَسَتْ آثَارُهُ كَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ كَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ.
- وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ - أَيْ: وَمَا كَانَ إِهْلَاكُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِصْرَارِهِمْ حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، بِحَيْثُ لَوْ بَقُوا زَمَنًا آخَرَ لَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ظُلْمًا وَفُجُورًا وَفَسَادًا، كَمَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام: - إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا - 71: 27 وَقَدْ بَالَغَ رُسُلُهُمْ فِي وَعْظِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، فَمَا زَادَهُمْ نُصْحُهُمْ لَهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا، وَأَنْذَرُوهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ اسْتِكْبَارًا، وَاتَّكَلُوا عَلَى دَفْعِ آلِهَتِهِمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِنْ هُوَ نَزَلَ بِهِمْ - فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: فَمَا نَفَعَتْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَدْعُونَهَا، وَيَطْلُبُونَ مِنْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ الضُّرَّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ -
تَعَالَى - لَمَّا جَاءَ عَذَابُ رَبِّكَ تَصْدِيقًا لِنُذُرِ رُسُلِهِ - وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ - أَيْ: هَلَاكٍ وَتَخْسِيرٍ وَتَدْمِيرٍ، وَهُوَ مِنَ التِّبَابِ أَيِ الْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ: يُقَالُ: تَبَّبَهُ
تَتْبِيبًا، أَيْ: أَهْلَكَهُ، وَتَبَّ فُلَانٌ وَتَبَّتْ يَدُهُ، أَيْ خَسِرَ أَوْ هَلَكَ " وَتَبًّا لَهُ " فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ، وَمَعْنَى زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا؛ أَنَّهُمْ بِاتِّكَالِهِمْ عَلَيْهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ ظَنًّا أَنَّهُمُ يَنْتَقِمُونَ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِرَسُولِهِمْ: - إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ - 11: 54.
- وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ - أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ بِالْعَذَابِ وَعَلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَخْذُ رَبِّكَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي حَالِ تَلَبُّسِهَا بِالظُّلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ قَوْمٍ - إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ - أَيْ وَجِيعٌ قَاسٍ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَنَاصَ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلتَّشْبِيهِ فِيمَا قَبْلَهَا.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ قَلَّمَا يَعْتَبِرُونَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مَعَ ظُلْمِهِمْ مَغْرُورِينَ بِدِينٍ يَتَحَلَّوْنَ بِلَقَبِهِ، وَلَا يَحْسَبُونَ حِسَابًا لِإِمْلَاءِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِدْرَاجِهِ.
(الْعِبْرَةُ الْعَامَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ) :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
هَذِهِ الْبِضْعُ الْآيَاتِ فِي الْعِبْرَةِ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ لِلْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ.
- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ - أَيْ: فِي ذَلِكَ الَّذِي قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَمَا قَفَّى عَلَيْهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامِ سُنَنِهِ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، يَعْتَبِرُ بِهَا فَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّ مَنْ عَذَّبَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا كَأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كَمَا كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ الْعَامُّ إِنَّمَا نَزَلَ بِمَنْ أَجْمَعَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. فَتِلْكَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَقْوَامِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ فِي جُمْلَتِهَا مَا دَامَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، إِذْ كَانَ يُخْرِجُ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَتَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِظُلْمِهِمْ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ نَجَاتُهُمْ فِيهَا بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْخَائِفَ هُنَا.
قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْخَائِفِ: يَعْتَبِرُ بِهَا لِعِلْمِهِ أَنَّ مَا حَاقَ بِهِمْ أُنْمُوذَجٌ مِمَّا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ - أَوْ يَنْزَجِرُ لَهُ عَنْ مُوجِبَاتِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ إِلَهٍ مُخْتَارٍ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ وَأَحَالَ فَنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ لَمْ يَقُلْ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَجَعَلَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ لِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ اتَّفَقَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا لِذُنُوبِ الْمُهْلَكِينَ بِهَا. اهـ.
أَقُولُ: ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِبْرَةِ بِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، أَنَّ كُفَّارَ الْمَادِّيِّينَ وَمَلَاحِدَةَ الْمِلِّيِّينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ
عَنْ مُنْكِرِي الْآخِرَةِ فِي عَصْرِهِ، يَقُولُونَ: إِنَّ الطُّوفَانَ حَدَثَ بِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ لَا بِإِرَادَةِ اللهِ وَاخْتِيَارِهِ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُمْ هَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَنْ هَلَكُوا بِالرِّيحِ وَبِالصَّاعِقَةِ وَبِخَسْفِ الْأَرْضِ، وَقُلْتُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنَّ حُدُوثَ الْمَصَائِبِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَافَقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحْدَثَ الْأَسْبَابَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِحِكْمَتِهِ لِأَجْلِ عِقَابِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِمْ إِيَّاهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ مَوْعِدَهَا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّحْدِيدِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رُسُلٌ يُطْلِعُهُمْ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِهِ لِيُنْذِرُوا النَّاسَ بِهِ اكْتِفَاءً بِإِنْذَارِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 26: 227.
- ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ - أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ - فَكَانَ ذِكْرُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ - يَوْمٌ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، أَيْ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَفِي جَعْلِ جَمْعِ النَّاسِ لَهُ (بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ) صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُبَالَغَةٌ، كَانَتْ
بِهَا الْجُمْلَةُ هُنَا أَبْلَغَ مِنْ جُمْلَةِ: - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ - 64: 9 فِي إِثْبَاتِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ تِلْكَ سِيقَتْ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ التَّغَابُنِ، أَيْ غَبْنُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ الْجَمْعِ لَهُ فِي ذَاتِهِ لِتَصْوِيرِ هَوْلِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: - وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - يَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّعْبِيرُ الْوَجِيزُ الْبَلِيغُ مَثَلًا تُوصَفُ بِهِ الْمَجَامِعُ الْحَافِلَةُ بِكَثْرَةِ النَّاسِ، أَوِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يَكْثُرُ مَنْ يَشْهَدُهَا مِنْهُمْ.
- وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ - أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا لِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْدُودَةٍ فِي عِلْمِنَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ عَنْ تَقْدِيرِنَا لَهَا بِحِكْمَتِنَا، وَهُوَ انْقِضَاءُ عُمْرِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْدُودٌ مَحْدُودُ النِّهَايَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يُطْلِعْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
- يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ - أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُعَيَّنُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ مِنَ الْأَنْفُسِ النَّاطِقَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ يَوْمُهُ الْخَاصُّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِيهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: - يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا - 78: 38 وَقَالَ: - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا - 20: 108 و109 وَقَالَ فِي الْكُفَّارِ: - هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ - 77: 35 36 وَقَالَ: - الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ - 36: 65 إِلَخْ.
وَفُسِّرَتْ كَلِمَةُ (يَوْمَ) فِي الْآيَةِ بِالْوَقْتِ الْمُطْلِقِ، أَيْ: غَيْرِ الْمَحْدُودِ ; لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْيَوْمِ الْمَحْدُودِ الْمَوْصُوفِ بِمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ يَأْتِي. وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْهَرَبَ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ ظَرْفًا لِلْيَوْمِ، فَقَالُوا: الْمَعْنَى يَوْمَ يَأْتِي جَزَاؤُهُ أَوْ هَوْلُهُ، أَوِ اللهُ - تَعَالَى -، وَاسْتَشْهَدُوا لِلْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: - هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ - 2: 210 وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا نَصٌّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِ جَعْلِ يَوْمَ بِمَعْنَى وَقْتٍ أَوْ حِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يَأْتِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَهُوَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ مَا تَقُولُ. وَنَفْيُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - يُفَسِّرُ لَنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لَهُ مُطْلَقًا وَالْمُثْبِتَةِ لَهُ مُطْلَقًا.
- فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - أَيْ: فَمِنَ الْأَنْفُسِ الْمُكَلَّفَةِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهِ، شَقِيٌّ مُسْتَحِقٌّ لِوَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِمَا وُعِدَ بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، وَأَمَّا مَنْ تَسْتَوِي حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَغْلِبُ سَيِّئَاتُهُمْ مِنْهُمْ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا فِي النَّارِ عِقَابًا مَوْقُوتًا ثُمَّ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ مِنْ فَرِيقِ السُّعَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالسُّعَدَاءُ دَرَجَاتٌ، وَالْأَشْقِيَاءُ دَرَكَاتٌ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى
شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: " بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَحَدِيثُ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ:" مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ " فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلَ؟ قَالَ: " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " وَقَرَأَ: - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - 92: 5 إِلَخْ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ أَوْ جَهِلَهُ الْكَثِيرُونَ عَلَى ظُهُورِهِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا يَعْمَلُهُ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ اللهُ الْمُسْتَقْبَلَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَمِنْهُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَكِتَابَتِهِ لِلْمَقَادِيرِ، وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا مَا نَعْلَمُ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُيَسَّرٌ لَهُ وَمُسَهَّلٌ عَلَيْهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ سَعَادَةِ الْجَنَّةِ وَشَقَاوَةِ النَّارِ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ مَا يُوَجِّهُهَا بِهِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ:
- فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا - أَيِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَشْقِيَاءِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِالتَّقْلِيدِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَفِي النَّارِ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَثْوَاهُمْ، - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - مِنْ ضِيقِ أَنْفَاسِهِمْ، وَحَرَجِ صُدُورِهِمْ، وَشِدَّةِ كُرُوبِهِمْ، فَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: صَوْتَانِ يَخْرُجَانِ مِنَ الصَّدْرِ عِنْدَ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْحُزْنِ فِي بُكَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ وَالشَّهِيقُ رَدُّهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
بِعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ
…
زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرِجُ
وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ: فَالزَّفِيرُ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:
الشَّهِيقُ طُولُ الزَّفِيرِ وَهُوَ رَدُّ النَّفْسِ، وَالزَّفِيرُ مَدُّهُ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّهِيقُ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، شَهِقَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، شَهِيقًا وَشُهَاقًا: رَدَّدَ الْبُكَاءَ فِي صَدْرِهِ اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ إِذَا امْتَدَّ وَاشْتَدَّ فَسُمِعَ صَوْتُهُ كَانَ زَفِيرًا، وَأَنَّ النَّشِيجَ فِي الْبُكَاءِ إِذَا اشْتَدَّ تَرَدُّدُهُ فِي الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ بِهِ الصَّوْتُ سُمِّيَ شَهِيقًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الشُّهُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ.
وَمَا أَبْلَغَ قَوْلِ شَيْخِنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى يَصِفُ كَرْبَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِدَّةِ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَعْمِرِينَ الظَّالِمِينَ: وَسَرَى الْأَلَمُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ سَرَيَانَ الِاعْتِقَادِ فِي مَدَارِكِهِمْ، وَهُمْ مِنْ تِذْكَارِ الْمَاضِي وَمُرَاقَبَةِ الْحَاضِرِ يَتَنَفَّسُونَ الصُّعَدَاءَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ التَّنَفُّسُ زَفِيرًا بَلْ نَفِيرًا عَامًّا، بَلْ يَكُونُ صَاخَّةً تُمَزِّقُ مَنْ أَصَمَّهُ الطَّمَعُ.
- خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ - أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُكْثَ بَقَاءٍ وَخُلُودٍ، لَا يَبْرَحُونَهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ الَّتِي تُظِلُّهُمْ وَالْأَرْضِ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا - فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا التَّعْبِيرَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالُوا: الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِهَمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ وَتَزُولُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَمَاءُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ فَوْقَهُمْ، وَأَرْضُهُمْ مَا هُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ جَنَّةٍ أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ - أَيْ: أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ الدَّائِمَ هُوَ الْمُعَدُّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْجَهُولِ الظَّالِمَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ ظُلْمَةُ خَطِيئَاتِهَا وَفَسَادُ أَخْلَاقِهَا - كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا - إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي هَذَا النِّظَامِ فِي طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ إِنَّمَا وُضِعَ بِمَشِيئَتِهِ، وَسَيَبْقَى فِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ عُهِدَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْيِيدِ تَأْيِيدِهَا بِمَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فَقَطْ لَا لِإِفَادَةِ عَدَمِ عُمُومِهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - 7: 188 أَيْ لَا أَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقُدْرَتِي وَإِرَادَتِي إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمِثْلُهُ فِي (10: 49) مَعَ تَقْدِيمِ الضَّرِّ. وَقَوْلُهُ: - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى
إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ - 87: 6 و7 عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرِئُهُ إِيَّاهُ بِقُدْرَتِهِ، وَعَصَمَهُ أَلَّا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا بِمُقْتَضَى الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ، فَهُوَ لَا يَقَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ - إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - فَهُوَ إِنْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِخْلَافًا لِشَيْءٍ مِنْ وَعْدِهِ وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ كَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - 6: 128
وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَوَعَدْنَا بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَجْعَلُهُ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ لِتَبْقَى سِلْسِلَةُ التَّفْسِيرِ هُنَا مُتَّصِلَةً.
- وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ - أَيْ دَائِمًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) إِذَا قَطَعَهُ أَوْ كَسَرَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ - وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّذْيِيلِ وَمَا قَبْلَهُ عَظِيمٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْجَزَاءَيْنِ مِنْهُ - تَعَالَى - وَمُقَيَّدٌ دَوَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَيَّلَ هَذَا بِأَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ دَائِمٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِثْلَهُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ لَمَا كَانَ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِالْحُسْنَى وَبِأَحْسَنِ مِمَّا عَمِلُوا، وَبِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَبِأَنَّهُ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَلَمْ يَعُدْ بِزِيَادَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَلْ كَرَّرَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا، وَبِأَنَّ السَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، دَعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ سَبْقِهَا لِغَضَبِهِ. وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الشَّدِيدَ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً لِأَهْلِهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا فِي سِنِينَ أَوْ أَشْهُرٍ مَعْدُودَةٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ لَوْ كَانُوا خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ إِذَنْ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى نِيَّتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدِينَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الْعَزْمُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، لِمَا عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْوَاقِعِ مِنْ إِيمَانِ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَكْثَرِ الْعَرَبِ لَمَّا زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ نَوَى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا، وَالْمَعْقُولُ فِي تَعْلِيلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الدَّائِمَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. . . . . وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
- فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ - هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ، وَإِنْذَارُ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَمْرُ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَلَا تَكُنْ فِي أَدْنَى شَكٍّ
وَامْتِرَاءٍ مِمَّا يَعْبُدُ قَوْمُكَ هَؤُلَاءِ فِي عَاقِبَتِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، فَالنَّهْيُ تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْذَارٌ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَجَزَاءَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: - مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ - فَهُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَمَا قَالَ أَقْوَامُ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ: - وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ - أَيْ: وَإِنَّا لَمُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَافِيًا تَامًّا لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا وَفَّيْنَا آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، إِلَّا وَيُوَفِّيهِمُ اللهُ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ جَزَاءً تَامًّا وَافِيًا لَا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَوَجَاهَةٍ فَهُوَ مَتَاعٌ
عَاجِلٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَضِيَ، وَلَا يُحْتَجَّنَّ بِهِ عَلَى رِضَى اللهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِمْ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَائِلِهِمْ: - وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا - 18: 36 وَعَنْ آخَرَ: - وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى - 41: 50 فَإِنَّ الْحُسْنَى عِنْدَ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا بَلَّغَهُمْ عَنْهُ مِنْ مَوْجَاتِ الرَّحْمَةِ عِنْدَهُ بِفَضْلِهِ.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَقِيَّةِ الْعِبْرَةِ بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ وَأَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ذَكَّرَ اللهُ قَوْمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأُمَّتَهُ أَوَّلًا بِأَقْوَامِ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ وَالْجُحُودُ فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَوَفَّاهُمُ اللهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَسَيُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَذَكَّرَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكُتَّابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَلِمَتُهُ فِي تَأْخِيرِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَثَلَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْكِتَابِ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ. قَالَ:
- وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ - أَيْ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
وَتَنَازُعًا عَلَى الرِّيَاسَةِ، فَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تَنْتَحِلُ مَذْهَبًا وَتُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُوتُوا الْكُتَّابَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ إِنْزَالِ اللهِ الْكُتُبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْآيَةِ (2: 213) الْجَامِعَةِ - وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ - أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْبُغَاةِ الْمُثِيرِينَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى هِدَايَتِهِ، كَمَا أَهْلَكَ
الَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الرُّسُلِ جُحُودًا وَعِنَادًا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِنْظَارُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي (10: 19) ثُمَّ فُسِّرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - 10: 93 وَمِثْلُهُ فِي (45: 17) وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 118 هُنَا - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي قَوْمِ مُوسَى وَكِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ لَمُرْتَكِسُونَ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ كِتَابِهِمْ مُوقِعٍ فِي الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالسِّيَاقِ، وَمَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ - (فُصِّلَتْ) - بِنَصِّهَا، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الشُّورَى مَا يُفَسِّرُ الْإِجْمَالَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُفَصِّلُهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الْبَشَرِ فِيهِ وَحُكْمِهِ - تَعَالَى - هُوَ فِي الِاخْتِلَافِ قَالَ: - شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - 42: 13 و14 فَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ تَفْسِيرٌ لِآيَتَيْ هُودٍ وَحم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) فَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام قَدْ فُقِدَتْ فِي إِحْرَاقِ الْبَابِلِيِّينَ لِهَيْكَلِ سُلَيْمَانَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي عِيسَى عليه السلام: - وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - 3: 48 فَهُوَ لَمْ يَأْخُذِ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عَزْرَا كَتَبَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يُخَالِفُونَهُ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِهِمْ وَفِي شَرْعِهِمْ إِلَى مَذَاهِبَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا أَشَدَّ اخْتِلَافًا فِي كُتُبِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنَ الْغَفْلَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ أَنْ يُفَسِّرُوا الْكِتَابَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّورَى مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَصِفُوا الَّذِينَ أُورِثُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أُورِثُوهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى وَبِعِيسَى لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ أُورِثُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ وَرِثَ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَمَنْ أَسَاءَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ - 35: 32 وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُجْمَلَتَيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ حَمَلُوا عَلَيْهِمَا الْآيَةَ الْمُفَصَّلَةَ وَجَعَلُوا تَفْسِيرَهُنَّ وَاحِدًا.
- وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ - أَيْ: وَإِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَاللهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَظْلِمُ مِنْهُمْ أَحَدًا، - إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ التَّوْفِيَةِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ " وَإِنْ " بِتَخْفِيفِ النُّونِ مَعَ إِعْمَالِهَا عَمَلَ الثَّقِيلَةِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ، وَ " لَمَا " بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ لَامَهَا مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ أَوْ فَارِقَةٌ وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَسَمِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ " لَمَّا " وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ فَهِيَ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، قَالَهُ الْجَلَالُ.
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ.
هَذَا السِّيَاقُ تَفْصِيلٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ: مَنْ جَحَدُوا فَأُهْلِكُوا. وَمَنْ آمَنُوا ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمُلَ إِيمَانُهُ، وَمَا بَعْدَهُمَا تَفْصِيلٌ لَهُمَا.
- فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ - أَيْ: كَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَاسْتَقِمْ مِثْلَ مَا أَمَرْنَاكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَيِ الْزَمِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَاتِّقَاءِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، - وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - أَيْ: وَلْيَسْتَقِمْ مَعَكَ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ - وَلَا تَطْغَوْا - فِيهِ بِتَجَاوُزِ حُدُودِهِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ،
كُلٌّ مِنْهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ، وَعَلَى اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِيهَا - إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - أَيْ: إِنَّهُ - تَعَالَى - بَصِيرٌ بِعَمَلِكُمْ يُبْصِرُ بِهِ وَيَرَاهُ وَيُحِيطُ بِهِ عِلْمًا فَيَجْزِيكُمْ بِهِ. يُقَالُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى وَمِنْهُ - فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ - 28: 11.
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ سُورَةِ الشُّورَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: - فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ - 42: 15 أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ فِي عُصُورِهِمْ، قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الَّذِي ابْتُدِعَ مِنْ بُعْدِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، وَأَنْ يُخَاطِبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا يَتَبَرَّأُ بِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْ إِثَارَتِهِ بِحُجَجِ الْجِدَالِ، وَاكْتَفَى فِي سُورَةِ هُودٍ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي يُورِثُ الِاخْتِلَافَ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ كَافَّةً، لَا بِحَالِ قَوْمِ مُوسَى وَمَنْ أُورِثُوا الْكِتَابَ خَاصَّةً، فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ.
وَقَدْ أَوْجَزَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَصْفِ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلِاسْتِقَامَةِ فِي الْعَقَائِدِ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ - وَالْأَعْمَالِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ كَمَا أُنْزِلَ، وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ مُفَوِّتٍ لِلْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، (كَذَا قَالَ) ثُمَّ قَالَ:" وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ وَانْحِرَافٍ بِنَحْوِ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ " اهـ.
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ يَنْقُضُ بَعْضَهُ. فَأَحَقُّ النُّصُوصِ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ نُصُوصُ الْعَقَائِدِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ
- تَعَالَى - وَعَالَمِ الْغَيْبِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ تَحْكِيمُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهَا مَثَارَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ فِي الْأُمَّةِ، الَّذِي نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ مِنْ سِيَاقِ سُورَةِ الشُّورَى، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَرَكَ الْبَيْضَاوِيُّ بَابَهُ مَفْتُوحًا بِزَعْمِهِ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي الْعَقَائِدِ وَسَطٌ بَيْنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَيَعْنِي بِهِ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ لِأَنَّهُ مِنْ أَسَاطِينِ نُظَّارِهِ، وَحَجَّتُهُ قَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الْخَوْضِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِيمَا دَوْنَ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، طُغْيَانٌ مِنَ الْعَقْلِ وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِهِ وَقَدْ نُهِيَ
عَنْهُ، لَا صِيَانَةً لَهُ، فَإِنَّ أَكْبَرَ نُظَّارِ الْبَشَرِ وَفَلَاسِفَتِهِمْ عُقُولًا قَدْ عَجَزُوا إِلَى الْيَوْمِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْفُسِ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى الْحَشَرَاتِ كَالنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، وَلَمَّا خَرَجُوا عَنْ هَدْيِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَحَمْلَةِ الْآثَارِ زَاغُوا فَكَانُوا - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ - 30: 32 سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّعْطِيلِ، وَبَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّشْبِيهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي حَيْرَةِ النَّفْيِ الْمَحْضِ هَرَبًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الذَّبْذَبَةِ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ النُّصُوصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَسَطًا، فَهُمْ يَتَأَوَّلُونَ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَحُبَّهُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُنَفِّرَةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، يَتَأَوَّلُونَهَا هَرَبًا مِنَ التَّشْبِيهِ بِزَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا مِنْ تَأْوِيلٍ لَهَا إِلَّا وَهُوَ بِأَلْفَاظٍ بَشَرِيَّةٍ مِثْلِهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا إِيثَارٌ لِمَا اخْتَارُوهُ فِي وَصْفِهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَرَضِيَهُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُؤَوِّلُونَ صِفَاتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْبَشَرِ تَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - لَيْسَ كَعِلْمِنَا فِي اسْتِعْدَادِهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا فِي صُورَتِهَا فِي النَّفْسِ - فَكَيْفَ إِذَا قُلْنَا فِي الدِّمَاغِ - وَلَا فِي انْقِسَامِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ يَنْقَسِمَانِ إِلَى بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ، وَلَا قُدْرَتُهُ - تَعَالَى - وَمَشِيئَتُهُ فِي كُنْهِهِمَا وَتَعَلُّقِهِمَا بِالْأَشْيَاءِ كَقُدْرَتِنَا
وَمَشِيئَتِنَا، فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَكَمَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَقَدْ قَالُوا فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهَا حَقٌّ بِلَا كَيْفٍ. فَلِمَ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِهَا؟ ! . وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: لَوْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ الَّذِي عَنَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا شَيْءٌ يَقْتَضِيهِ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوِ النَّظَرِيِّ، الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ، لَمَا وَقَعَ فِيهِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَمَصْلَحَةً، حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِ الْفِرَقِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْمِلَّةِ بِتَأْوِيلِ أَرْكَانِ الدِّينِ حَتَّى الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَسَاغَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلَا أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَعْلَمُ بِالدِّينِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ كُلِّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، وَبِذَلِكَ دُونَ سِوَاهُ نَجْتَنِبُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعَهُمْ
مِنِ اجْتِنَابِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، الَّذِي أَوْعَدَ اللهُ أَهْلَهُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِهِ الْمُفَرِّقِينَ وَالْمُتَفَرِّقِينَ.
وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ كِتَابِ اللهِ وَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، بِدُونِ تَحَكُّمٍ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَلَا يُخِلُّ بِالدِّينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِقَطْعِ أُخُوَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ - 4: 59 الْآيَةَ.
هَذَا؛ وَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِقَامَةِ لَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يُرْتَقَى بِهِ لِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ بِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلِمُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام فِي قَوْلِهِ: - قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا - 10: 89 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا - 41: 30 الْآيَاتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ
عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ:" قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " فَالِاسْتِقَامَةُ عَيْنُ الْكَرَامَةِ كَمَا قَالُوا.
قَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ الزُّعْبِيُّ الْجِيلَانِيُّ لِعَمِّ وَالِدِي السَّيِّدِ أَحْمَدَ أَبِي الْكَمَالِ وَهُوَ زَوْجُ عَمَّتِهِ: يَا سَيِّدِي إِنَّكَ صَحِبْتَ الشَّيْخَ مَحْمُودًا الرَّافِعِيَّ، وَإِنِّي أَرَى أَتْبَاعَهُ يَذْكُرُونَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الْكَرَامَاتِ فَأَرْجُو أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا رَأَيْتَ مِنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ مِنْهُ كَرَامَةً وَاحِدَةً هِيَ الِاسْتِقَامَةُ. أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ هَذَا الْخَبَرَ، وَقَالَ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أُصَدِّقُ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ، فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ نَقَّادَةً وَسَيِّئَ الظَّنِّ بِمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّلَاحِ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَذِبٌ كَمَا عَهِدَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مُعَاصِرِيهِ وَبَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَاخْتُبِرَ الْتِزَامُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ لِلصِّدْقِ بِطُولِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْنِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى صِغَرِ شَأْنِهَا لِأَنَّ أُولَى الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْبُيُوتَاتِ الْقَدِيمَةِ أَمْسَى قَلِيلًا فِي بَعْضِهَا وَخَلَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْضَاوِيُّ قَالَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ: إِنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، فَمَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِقِلَّةِ مَنْ يَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا أَوْ بُلُوغِ الْكَمَالِ فِيهَا، لَا لِعُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفْنَا مِنْ شَرْعِهِ عُسْرًا - يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ - 2:185.
- وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ: وَلَا تَسْتَنِدُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ قَوْمِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَتَجْعَلُوهُمْ رُكْنًا لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِمْ فَتُقِرُّونَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَتُوَالُونَهُمْ فِي سِيَاسَتِكُمُ الْحَرْبِيَّةِ أَوْ أَعْمَالِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، فَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَالرُّكُونُ مِنْ رُكْنِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لُوطٍ عليه السلام: - لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - 11: 80 وَالسَّنَدُ بِمَعْنَى الرُّكْنِ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: سَنَدَ إِلَى الشَّيْءِ (كَرَكَنَ إِلَيْهِ) وَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، وَفَسَّرَهُ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ بِالتَّبَعِ لِلْجَوْهَرِيِّ بِالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ وَالسُّكُونِ لَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَعَمِّ كَعَادَتِهِمْ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّونَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيرِهِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ لِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَذَوْقِهِ وَحُسْنِ تَعْبِيرِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا مُتَحَرِّفًا إِلَى شُيُوخِ الْمَذْهَبِ (الْمُعْتَزِلَةِ) أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةِ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَشُيُوخُ الْمَذْهَبِ يُخْطِئُونَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفِئَةُ الرِّوَايَاتِ تُخْطِئُ فِي اعْتِمَادِ الْأَسَانِيدِ الضَّعِيفَةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَرُوَاةُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ أَحْيَانًا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ بِلَازِمِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْمَجَازِ فِي بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الرُّكُونَ " بَعْضُهُمْ بِالْمَيْلِ وَالسُّكُونِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مِنْ تَسَاهُلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي مَادَّتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّسَاهُلِ وَيُؤَيِّدُ مَا حَقَّقْنَاهُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ تَبَعًا لِلصِّحَاحِ: رَكَنَ إِلَيْهِ كَنَصَرَ رُكُونًا: مَالَ وَسَكَنَ، وَالرُّكْنَ بِالضَّمِّ الْجَانِبُ الْأَقْوَى (زَادَ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ وَالْعِزُّ وَالْمَنَعَةُ اهـ. وَمِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الرُّكُونَ فِيهَا مِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْءِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانُ أَقْوَى مِنَ السُّكُونِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ: أَيِ الْمَيْلُ وَالسُّكُونُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالِاعْتِمَادُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الرُّكُونِ وَلَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَقْوَاهَا آخِرُهَا. قَالَ فِي اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ: وَرُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى، وَالرُّكْنُ النَّاحِيَةُ الْقَوِيَّةُ وَمَا تَقْوَى بِهِ مِنْ مُلْكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ - 51: 39 وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: تَعَالَى: - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ - 28: 40 أَيْ أَخَذْنَاهُ وَرُكْنَهُ الَّذِي تَوَلَّى بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّكُونِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا عَنَيْتُ بِتَحْقِيقِهِ لِمَا جَاءُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدِ الَّذِي لَا تَرْضَاهُ الْآيَةُ، كَمَا فَعَلُوا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِقَامَةِ إِذَا تَجَاوَزُوا بِهِمَا سَمَاحَةَ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيُسْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ دِينَهُ يُسْرًا لَا عُسْرَ فِيهِ، وَسَمْحًا لَا حَرَجَ عَلَى مُتَّبِعِيهِ.
فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ " الَّذِينَ ظَلَمُوا " بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَكَى أَنَّ الْمُوَفَّقَ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ،
فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى ظُلْمٍ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ؟ اهـ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ مَنْ مَالَ مَيْلًا يَسِيرًا إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ظُلْمٌ قَلِيلٌ أَيُّ ظُلْمٍ كَانَ، وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الْآيَةِ فَرِيقُ الظَّالِمِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ، فَهُمْ " كَالَّذِينِ كَفَرُوا " فِي الْآيَات
ِ
الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، لَا كُلَّ فَرْدٍ مِنَ النَّاسِ وَقَعَ مِنْهُ كَفْرٌ فِي الْمَاضِي وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - 2: 6 وَالْمُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ - وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِـ الَّذِينَ ظَلَمُوا كَمَا عَبَّرَ عَنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ (37 و67 و94) وَعَبَّرَ عَنْهُمْ فِيهَا بِـ الظَّالِمِينَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: - وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 44 فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْوَصْفِ وَالتَّعْبِيرِ بِـ " الَّذِينَ " وَصِلَتِهِ، فَإِنَّهُمَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْأَقْوَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - مَعْنَاهُ: فَتُصِيبُكُمْ النَّارُ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، بِسَبَبِ رُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ بِوِلَايَتِهِمْ وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي شُئُونِكُمُ الْمِلِّيَّةِ، لِأَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ ظُلْمٌ، - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 5: 51 رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بِالْمُشْرِكِينَ، إِذِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُ فِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ عَامٌّ فِي مَوْضُوعِهَا، فَوِلَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَوِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا خِلَافَ فِي هَذَا وَهُوَ مَنْصُوصٌ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، فَيَشْمَلُ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِهَا الَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا وَسِيَاقِهَا وَحَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مَعَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
- وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - أَيْ: وَمَا لَكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُ اللهِ مِنْ أَنْصَارٍ يَتَوَلَّوْنَكُمْ: - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَلَا بِنَصْرِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ يَكُونُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَنْصُرُ الظَّالِمِينَ كَمَا قَالَ: - وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - بَلْ تَكُونُ غَايَتُكُمُ الْحِرْمَانَ مِمَّا وَعَدَ اللهُ رُسُلَهُ وَمَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرِهِ الْخَاصِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِـ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُمْ إِنْ رَكَنُوا إِلَى أَعْدَائِهِ
وَأَعْدَائِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِبْعَادِ نَصْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ اللهِ اقْتَضَتْ عِقَابَهُمْ بِالنَّارِ، وَمَا قُلْتُهُ أَقْرَبُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ وَاتِّخَاذِ وَلِيجَةٍ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ، وَعَنِ اتِّخَاذِ الْمُؤْمِنِينَ بِطَانَةً مِنْ دُونِهِمْ، وَقَدِ اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ وَسَائِلَ كَثِيرَةً لِاسْتِمَالَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُرَجِّحُ لَهُ اجْتِهَادُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا - 17: 74 و75 يَعْنِي لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ بِالْعِصْمَةِ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الرُّكُونِ، كَأَنْ تُصَدِّقَهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الِاعْتِمَادِ، إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِاسْتِمَالَتِهِمْ، كَمَا فَعَلْتَ مَعَ الْأَعْمَى، وَلَكِنَّ تَثْبِيتَنَا إِيَّاكَ عَصَمَكَ مِنْ مُقَارَبَةِ أَقَلِّ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَضْلًا عَنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الْأَقَلَّ، فَالْآيَةُ الْأُولَى نَصٌّ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا رَكَنَ أَقَلَّ الرُّكُونِ وَلَا قَارَبَ أَنْ يَرْكَنَ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ (فَرْضًا) لَعَاقَبَهُ اللهُ عِقَابًا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ مَعًا، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ لِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ لَا تَصِلُ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ إِلَى مَبَادِئِهَا، فَضْلًا عَنْ أَوْسَاطِهَا أَوْ غَايَاتِهَا.
وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الرُّكُونِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلَ الْيَسِيرَ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُهُ كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُقَلِّدُوهُ، لَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهُ عَلَى قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْوَعِيدِ عَلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ بَشَرٌ اتِّقَاءَهُ إِلَّا بِعِصْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا سَتَرَى فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ، أَمَا وَالْحَقُّ مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَجَعْلُهُ رُكْنًا شَدِيدًا لِلرَّاكِنِ، فَأَجْدَرُ بِقَلِيلِهِ أَنْ يُتَعَذَّرَ اجْتِنَابُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْبَشَرِ إِلَّا بِالْعِصْمَةِ وَالتَّثْبِيتِ الْخَاصِّ مِنَ اللهِ عز وجل، فَكَيْفَ يَنْهَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَيْلِ الْيَسِيرِ إِلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ؟
لَمْ يَكُنْ مَيْلُ النَّفْسِ الطَّبْعِيُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَرْحَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ وَلَا الْبِرُّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الْخَاصُّ بِالْوِلَايَةِ لَهُمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَا مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ لِأَجْلِ الظُّلْمِ. وَلَمَّا فَعَلَ
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه فَعْلَتَهُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْوِلَايَةِ الْحَرْبِيَّةِ مِنْهَا إِلَى صِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا تَأَوَّلَهَا، أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَوَدَّةِ فِيهَا وَقَالَ: - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 60: 9 وَأَذِنَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ لِغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَا تَنْسَ
مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ - 28: 56 فِي حِرْصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِسْلَامِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي كَفَلَهُ فِي صِغَرِهِ، وَكَانَ يَحْمِيهِ وَيُنَاضِلُ عَنْهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاذْكُرْ قَوْلَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها لَهُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ:" كَلَّا وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ " إِلَخْ.
بَلْ لَمْ تَكُنِ الثِّقَةُ بِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَعْمَالِ مِنَ الرُّكُونِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَدْ وَثِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ رضي الله عنه بِمُشْرِكٍ مِنْ بَنِي الدَّيْلِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى الرَّاحِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هَاجَرَا عَلَيْهِمَا لِيُوَافِيَهُمَا بِهِمَا فِي الْغَارِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ يَبْحَثُونَ عَنْهُمَا، وَقَدْ جَعَلُوا لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِمَا قَدْرَ دِيَتِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي اسْتِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكَافِرِ فِي الْحَرْبِ لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا، وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَهَا فِي التَّلْخِيصِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الِاسْتِعَانَةَ كَانَتْ مَمْنُوعَةً ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا أَقْرَبُهَا وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ. انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ تَرْكُنُوا بِضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَنَجْدٍ. وَبَعْضُهُمْ قَرَأَهَا وَقَرَأَ فَتَمَسَّكُمْ بِكَسْرِ تَائِهِمَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ.
(نَمُوذَجٌ مِنْ قُصُورِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَلَطِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ) :
(1)
الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ وَالْمُعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا:
رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 310 هـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالرُّكُونِ إِلَى الشِّرْكِ (وَهُوَ أَقْوَى مَا رُوِيَ فِيهَا) وَرُوِيَ عَنْهُ تَفْسِيرُهُ بِالْمَيْلِ وَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - وَلَا تَرْكَنُوا - لَا تَذْهَبُوا، وَهُوَ لَيْسَ تَفْسِيرًا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا يَظْهَرُ الْمُرَادُ الشَّرْعِيُّ مِنْهُ إِلَّا بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ إِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِإِرَادَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ
(الرُّكُونَ " بِالطَّاعَةِ أَوِ الْمَوَدَّةِ أَوْ الِاصْطِنَاعِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ (وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِأَحَدِ اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ) وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَصْلَتَانِ إِذَا صَلَحَتَا لِلْعَبْدِ صَلَحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَمْرِهِ: الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظُّلْمِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الْآيَتَيْنِ لَا تَفْسِيرٌ لَهُمَا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَعْنِي لَا تَلْحَقُوا بِالشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ. وَأَخَذَ ابْنُ جَرِيرٍ خُلَاصَةَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَلَا تَمِيلُوا أَيُّهَا النَّاسُ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَتَرْضَوْا عَنْ أَعْمَالِهِمْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بِفِعْلِكُمْ إِلَخْ.
وَمَا قَالَهُ وَرَوَاهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا كَانَتْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ
إِلَّا كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ وَجِيزَةٌ ذُكِرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ لَا يُقْصَدُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي لُغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ مِثْلَهُ كُلٌّ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُمَا يَعْتَمِدَانِ عَلَى الْمَأْثُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
(2)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 370 هـ فِي تَفْسِيرِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) : وَالرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ: هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ وَمُؤَانَسَتِهِمْ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 6: 68 انْتَهَى. وَقَدْ أَبْعَدَ كُلَّ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَقِيهٌ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا مُفَسِّرٌ عَامٌّ.
(3)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 528 هـ فِي كَشَّافِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَزِيَارَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ، وَمَدِّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: - وَلَا تَرْكَنُوا - فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ، وَقَوْلُهُ: - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَذَكَرَ بَعْدَهُ حِكَايَةَ صَلَاةِ الْمُوَفَّقِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي قَرَأَ الْآيَةَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتْ، وَمَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَعَظَهَا لِلزُّهْرِيِّ أَحَدُ إِخْوَانِهِ مِنْ عُبَّادِ السَّلَفِ وَزُهَّادِهِمْ.
أَقُولُ: كُلُّ مَا أَدْغَمَهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ اجْتِرَاحُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الرُّكُونِ الْحَقِيرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ مُرَادًا مِنْهَا وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ
إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِيمَانِ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَظَنَّةَ الِانْقِطَاعِ لِظَلَمَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا زِيَارَتُهُمْ وَمُصَاحَبَتُهُمْ وَمُجَالَسَتُهُمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ فَلَمْ يَكُونُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، بَلْ كَانَ زِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزِيُّهُمْ وَاحِدًا وَعَادَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَاحِدَةً، إِلَّا مَا كَانَ قَبِيحًا نَهَى عَنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ مَعَهُمْ مَشْرُوعَةً زَادَهَا الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ فَضَائِلِ الْمُعَاشَرَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ضُعَفَاءَ فِي مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ أَقْوِيَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَازِمًا عَلَى الزَّحْفِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْفَصْلُ فِيهَا فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَبَرُّوهُمْ وَيُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّينِ. . . . أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ وَيَنْصُرُوهُمْ.
(4)
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 543 هـ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
(الْأُولَى) الرُّكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قِيلَ فِي الَّذِينَ ظُلِمُوا إِنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَقَالُوا: أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ وَلَا يُرْكَنُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ. قَالَ اللهُ فِي الْأَوَّلِ: - وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ - 68: 9 وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ فِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ: - وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا - 6: 68 الْآيَةَ. وَقَالَ حَكِيمٌ:
عَلَى الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ
…
قَرِينِهِ فَكَلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى، وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْيِ بِحَالِ الِاضْطِرَارِ اهـ.
وَقَدْ أَصَابَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالْمَأْثُورَ دُونَ فِقْهِ الْآيَةِ.
وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 671 هـ فِي تَفْسِيرِهِ جَامِعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَنَقَلَ كَلَامَهُ بِدُونِ عَزْوٍ إِلَيْهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
(5)
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَضْلُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ الشِّيعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 561 هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَجْمَعِ الْبَيَانِ:
(اللُّغَةُ) الرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالْإِنْصَاتِ وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، نَقِيضُهُ النُّفُورُ. (وَالْمَعْنَى) ثُمَّ نَهَى اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَنِ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ وَالْمَيْلِ إِلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: لَا تُدَاهِنُوا عَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الدُّخُولُ مَعَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَإِظْهَارُ الرِّضَاءِ بِفِعْلِهِمْ أَوْ إِظْهَارُ مُوَالَاتِهِمْ.
فَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ أَوْ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ فَجَائِزٌ عَنِ الْقَاضِي. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الرُّكُونَ: الْمَوَدَّةُ وَالنَّصِيحَةُ وَالطَّاعَةُ. انْتَهَى.
وَهُوَ لَمْ يَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا عِبَارَةً عَنْ أُسْتَاذِهِمُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَرِوَايَةَ آلِ الْبَيْتِ عليهم السلام.
(6)
وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 606 هـ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ:
الرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَنَقِيضُهُ النُّفُورُ عَنْهُ. . . . قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ، وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَابُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الظَّالِمِ فِي نَفْسِهِ " اهـ.
قَدْ تَبِعَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ خَصْمَهُ الْمُعْتَزِلِيَّ (الزَّمَخْشَرِيَّ) فَأَسَاءَ التَّقْلِيدَ، وَاخْتَصَرَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ وَمَا أَفَادَ، بَلْ زَادَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارَ لِطُلَّابِ الْمَنَافِعِ وَدَرْءِ الْمَضَارِّ مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَخْرَجَ مُدَاخَلَتَهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جَرِيمَةِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ، وَهَلْ يُدَاخِلُهُمْ أَحَدٌ إِلَّا لِهَذَا؟
(7)
وَقَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ اللهِ عُمَر الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 685 هـ - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - فَلَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - بِرُكُونِكُمْ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا
كَانَ الرُّكُونُ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ، ثُمَّ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ، ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ، وَخِطَابُ الرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَالتَّثْبِيتُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الزَّوَالَ عَنْهَا بِالْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ ظُلْمٌ فِي نَفْسِهِ اهـ.
(8)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 701 هـ فِي تَفْسِيرِهِ مَدَارِكِ التَّنْزِيلِ: - وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - 11: 113 وَلَا تَمِيلُوا، قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله: هَذَا خِطَابٌ لِأَتْبَاعِ الْكَفَرَةِ، أَيْ: لَا تَرْكَنُوا إِلَى الْقَادَةِ وَالْكُبَرَاءِ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِيمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ - وَقِيلَ: الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تَلْحَقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، وَعَنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ. فَقَالَ: هَذَا فِيمَنْ رَكَنَ إِلَى مَنْ ظَلَمَ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ! ! وَعَنِ الْحَسَنِ: جَعَلَ اللهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ: - وَلَا تَطْغَوْا - وَلَا تَرْكَنُوا -. وَقَالَ سُفْيَانُ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللهُ فِي أَرْضِهِ " وَلَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ: أَيُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقِيلَ لَهُ: يَمُوتُ؟ قَالَ: دَعْهُ يَمُوتُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: - فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ -
أَيْ فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَأَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَمَعْنَاهُ: - وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ - يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِكُمْ مِنْهُ غَيْرُهُ - ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - ثُمَّ لَا يَنْصُرُكُمْ هُوَ ; لِأَنَّهُ حَكَمَ بِتَعْذِيبِكُمْ، وَمَعْنَى " ثُمَّ " الِاسْتِبْعَادُ، أَيِ النُّصْرَةُ مِنَ اللهِ مُسْتَبْعَدَةٌ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرُ مَا قُلِّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
(9)
وَقَالَ أَبُو السعُودِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي دَوْلَةِ الرُّومِ الْعُثْمَانِيَّةِ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 983 هـ، فِي تَفْسِيرِهِ (إِرْشَادِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ) : - وَلَا تَرْكَنُوا - أَيْ تَمِيلُوا أَدْنَى مَيْلٍ - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَدَارُ النَّهْيِ هُوَ الظُّلْمُ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنْ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ، إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ
إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَمَسَّكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّارُ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مَسَاسِ النَّارِ هَكَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ مَيْلًا عَظِيمًا، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُلْقِي شَرَاشِرَهُ عَلَى مُؤَانَسَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، وَيَبْتَهِجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى زَهْرَتِهِمُ الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ طَفِيفٌ، وَمِنْ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ خَفِيفٌ، بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ - ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - 22: 73 وَخِطَابُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّثْبِيتِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي هِيَ الْعَدْلُ، فَإِنَّ الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ظُلْمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ خَطَأٌ غَيْرَ مَا قَلَّدَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيَّ وَتَكَلَّفَ.
(10)
وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأَلُوسِيُّ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةِ فِي بَغْدَادَ - بَعْدَ أَنْ كَانَ شَافِعِيًّا - فِي تَفْسِيرِهِ رُوحِ الْمَعَانِي:
- وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ لَا تَمِيلُوا إِلَيْهِمْ أَدْنَى مَيْلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَفَسَّرَ الْمَيْلَ بِمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِمْ بِالْمَحَبَّةِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُفَسَّرُ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا مُطْلَقًا. قِيلَ: وَلِإِرَادَةِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ، وَيَشْمَلُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مُدَاهَنَتَهُمْ، وَتَرْكَ التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَتَعْظِيمَ ذِكْرِهِمْ. وَمُجَالَسَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَا الْقِيَامُ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَدَارُ النَّهْيِ عَلَى الظُّلْمِ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَوْنَهُمْ جَمَاعَةً مَظِنَّةُ الرُّخْصَةِ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ مَثَلًا، وَتَعْقَّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، - فَتَمَسَّكُمْ - أَيْ فَتُصِيبَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ الْفَاءُ الْوَاقِعَةُ
فِي جَوَابِ النَّهْيِ - النَّارُ - وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَإِلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي - وَمَا أَصْعَبَهُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ بَلْ فِي غَالِبِ الْأَعَاصِيرِ مِنْ تَفْسِيرٍ - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ حَالُ الْمَيْلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ ظُلْمٌ مَا فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى مِسَاسِ النَّاسِ النَّارُ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَمِيلُ إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ كُلَّ الْمَيْلِ، وَيَتَهَالَكُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُنَادَمَتِهِمْ، وَيُتْعِبُ قَلْبَهُ وَقَالَبَهُ فِي إِدْخَالِ
السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَنْهِضُ الرَّجْلَ وَالْخَيْلَ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ، وَيَتَهَيَّجُ بِالتَّزَيِّى بِزِيِّهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، وَيَمُدُّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مُتِّعُوا بِهِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُطُوفِ الدَّانِيَةِ، غَافِلًا عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، ذَاهِلًا عَنْ مُنْتَهَى مَا هُنَالِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا لَا مِنَ الرَّاكِنِينَ إِلَيْهِمْ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِسُفْيَانَ: إِنِّي أَخِيطُ لِلظَّلَمَةِ فَهَلْ أُعَدُّ مِنْ أَعْوَانِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، أَنْتَ مِنْهُمْ، وَالَّذِي يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ مِنْ أَعْوَانِهِمْ اهـ.
مَنْ تَأَمَّلَ أَقْوَالَ مَنْ بَعْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَلَّدُوهُ فِيمَا فَسَّرَ بِهِ الرُّكُونَ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكُونِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْقَوِيُّ مِنَ الْبِنَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَعْنَى الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ إِلَخْ. وَفِي تَفْسِيرِ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - بِالَّذِينِ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ مَا هُوَ غَلَطٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَقْوَامِ كَالْوَصْفِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - 2: 6 مَعْنَاهُ: جَمَاعَةُ الْكَافِرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ لَا مَنْ وَقَعَ مِنْهُمْ كُفْرٌ مَا إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ.
(11)
أَخْتِمُ هَذِهِ النُّقُولَ بِمَا أَوْرَدَهُ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان نَائِبُ مَلِكِ بَهُوبَالَ (الْهِنْدِ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1307 هـ وَفِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ) الَّذِي أَوْدَعَهُ تَفْسِيرَ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيِّ الْمُسَمَّى (بِفَتْحِ الْقَدِيرِ) وَزَادَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ مُغْنِيًا عَنْ أَصْلِهِ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرَانِ عَلَى تَخْطِئَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِالْمَيْلِ الْيَسِيرِ، وَأَوْرَدَا بَعْضَ مَا قَالَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ مُخَالِفًا لَهُ، مِمَّا نَقَلْنَاهُ وَزْنًا عَلَيْهِ، وَانْفَرَدْنَا بِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ دُونَهُمْ وَدُونَهُمَا، ثُمَّ انْفَرَدَا بِالْبَحْثِ الْآتِى بِنَصِّهِ قَالَ:
" وَقَدِ اخْتَلَفَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ خَاصَّةٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقِيلَ: خَاصَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بـ - الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الظَّلَمَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْبَالِغَةُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُبُوتًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، حَتَّى وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ:" أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا رَأْسُهُ كَالزَّبِيبَةِ " وَوَرَدَ وُجُوبُ طَاعَتِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمُ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الظُّلْمِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَفَعَلُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ، مِمَّا لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ إِلَى الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ لَهُمْ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ الدُّخُولُ فِيهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجِهَادُ، وَأَخْذُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةُ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
" وَبِالْجُمْلَةِ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَ تَحْتَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَابُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لِتَوَاتُرِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِهِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: - أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ - 4: 59 بَلْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ مَنَعُوا مَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِلرَّعَايَا، كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ " أَعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ " وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ: " وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ وَضَرَبَ ظَهْرَكَ " فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ، فَمُجَرَّدُ هَذِهِ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ هِيَ مَيْلٌ وَسُكُونٌ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَيْلَ وَالسُّكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ مَالَ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ شَرْعًا كَالطَّاعَةِ أَوِ التَّقِيَّةِ، وَمَخَافَةِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَيْلٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى بِأَفْعَالِهِمْ اهـ.
(قُلْتُ) : أَمَّا الطَّاعَةُ عَلَى عُمُومِهَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَهِيَ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَيْهَا، مُخَصَّصَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْهُ بِأَدِلَّتِهَا الَّتِي قَدَّمْنَا
الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَلَا رَيْبَ، فَكُلُّ مَنْ أَمَرُوهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ كَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِمَا وُكِلَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ جَائِزٌ لَهُ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْأَمْرِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ مَعَ ضَعْفِ الْمَأْمُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا وَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَطَتُهُمْ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، مَعَ كَرَاهَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ
وَعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهَا لَهُمْ، وَكَرَاهَةِ الْمُوَاصَلَةِ لَهُمْ لَوْلَا جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ خَافِيَةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنِ ابْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ فِيهِ ظُلْمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، فَإِنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ " فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي "، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَلْيَقُ بِهِ. يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَوِّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَأَعِنَّا عَلَيْهِ اهـ.
تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ: إِنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي فَتَحَ بَابَهُ وَدَخَلَهُ هَذَانِ الْمُجَدِّدَانِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفَتْحِ الْبَيَانِ) كَانَ اسْتِدْرَاكًا ضَرُورِيًّا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جُمْهُورُ مَنْ قَبْلَهُمَا فَاقْتَصَرُوا وَقَصَرُوا، لَوْلَاهُ لَمَا كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا عَلَى سَبْقِهِمَا لَمْ يَسْلَمَا مِنْ تَقْصِيرٍ، وَلَمْ يَأْتِيَا بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ تَحْرِيرٍ، وَأَوْرَدَا الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى بِدُونِ تَخْرِيجٍ وَلَا تَدْقِيقٍ.
أَهَمُّ مَا فِي الْبَحْثِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى التَّحْرِيرِ، مَسْأَلَةُ طَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ
الظَّالِمِينَ وَإِنْ تَفَاقَمَ ظُلْمُهُمْ فَسَلَبُوا الْأَمْوَالَ، وَضَرَبُوا ظُهُورَ الرِّجَالِ، مَا دَامُوا لَا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ (هُوَ بِالْفَتْحِ: الظَّاهِرُ الْمَكْشُوفُ) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَذْهَبُ الزَّيْدِيَّةِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَإِجْمَالُهُ لَا يَنْجَلِي إِلَّا بِبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْرِيرُهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ 0 أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَظْرِ مَا دُونَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ مِنْ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي تَقْبِيحِ الظُّلْمِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى سُلْطَةِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي طَاعَتِهِمْ يُقَابِلُهُ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ وُجُوبِ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ عَامَّةً، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالْأُمَرَاءِ خَاصَّةً، وَوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُسْتَطَعْ فَبِاللِّسَانِ، وَكَوْنِ إِنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِمَا قَبْلَهُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ،
وَمِنْهُ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ، فَإِنْكَارُهُمْ لَهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِهِ.
وَحَسْبُنَا هُنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - 5: 105 الْآيَةَ، فَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسٍ (أَبِي حَازِمٍ) قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْآيَةِ - أَلَا وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:" إِنَّ النَّاسَ ". . . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللهُ: - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 5: 78 قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ أَطْرًا " وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: قَالَ: " كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَّكُمُ اللهُ كَمَا لَعَنَهُمْ " اهـ.
أَطَرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ: عَطَفَهُ وَثَنَاهُ، وَقَصَرَهُ عَلَيْهِ حَبَسَهُ وَأَمْسَكَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ (وَبَابُهُمَا ضَرَبَ) .
وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الشَّرْعِ هِيَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَنُوَّابِهِمْ مِنَ السَّلَاطِينِ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالْوُلَاةِ، وَكُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، دُونَ الْمَحْظُورِ. وَأَمَّا طَاعَةُ الْمُتَغَلِّبِينَ فَهِيَ لِلضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ تُرَجِّحُ مَفْسَدَتَهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَخُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ السِّبْطِ عليه السلام عَلَى يَزِيدَ الظَّالِمِ الْفَاسِقِ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ مَا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ الْكَافِيَةَ، بَلْ خَذَلَهُ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ
مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَفَرَّ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَالِكٍ مَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ تَرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مَعَ وُلَاتِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (مَرَاتِبُ الْإِجْمَاعِ) : وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْإِمَامَ الْوَاجِبُ إِمَامَتُهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فَرْضٌ، وَالْقِتَالُ دُونَهُ فَرْضٌ، وَخِدْمَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجِبَةٌ، وَأَحْكَامُهُ وَأَحْكَامُ مَنْ وَلَّى نَافِذَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ مُدُنِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ إِمَامٍ قُرَشِيٍّ غَيْرِ عَدْلٍ أَوْ مُتَغَلِّبٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ إِلَخْ. وَأَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا
وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ مَا نَصُّهُ:
قَوْلُهُ: " عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ " أَيْ: نَصُّ آيَةٍ، أَوْ خَبَرٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ. انْتَهَى.
" قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي الْوِلَايَةِ، فَلَا يُنَازِعُهُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ، وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِيمَا عَدَا الْوِلَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوِلَايَةِ نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، وَيَتَوَصَّلَ إِلَى تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعِهِ بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ.
" قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا يَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى.
"
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمُ السَّيْفَ وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنَ السَّلَفِ
الصَّالِحِ مِنَ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ - بَاغٍ عَلَى الْخَمِيرِ السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالَاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كُلُّ جُلْمُودٍ. انْتَهَى مَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.
هَذَا وَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ " هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ لُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَإِمَامِهِمُ الَّذِي بَايَعُوهُ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ، أَخَصُّ مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، وَقَدْ قَالُوا فِي مَعْنَى مَوْتِهِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً: إِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِإِمَامٍ يَلْتَزِمُهَا مَعَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْفَوْضَى لَا أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا اهـ.
وَكُلُّ هَذَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْفِئَاتِ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ بِشَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَتَفْرِيقِ شَمْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ ظَالِمًا، فَإِنْ كَفَّ الْإِمَامُ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ بِالْعَزْلِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ مَحَلُّ ثِقَةِ الْأُمَّةِ، الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الرَّأْيَ الْعَامَّ فِيهَا، الَّذِينَ عَنَاهُمْ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ:" فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زُغْتُ فَقَوِّمُونِي ".
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
هَذَا أَمْرٌ بِأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَبِأَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ، اللَّذَيْنِ يُسْتَعَانُ بِهِمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى أُولِي الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا.
- وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - خَصَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمُغَذِّيَةِ لِلْإِيمَانِ وَالْمُعِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَيْ: أَدِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيمِ وَأَدِمْهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، طَرَفُ الشَّيْءِ وَالزَّمَنِ النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ وَنِهَايَتُهُ، فَطَرَفَا النَّهَارِ هُنَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ أَوِ الْغُدُوُّ وَالْعَشِيُّ، وَقَدْ أَمَرَنَا - تَعَالَى - فِي التَّنْزِيلِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ فِيهِمَا: - وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ - أَيْ: وَفِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ بِالضَّمِّ كَقُرَبٍ جَمْعُ قُرْبَةٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ، وَقَالُوا: الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةُ مِنَ النَّهَارِ، وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِنَ اللَّيْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ وَالْغَدَاةُ (أَيِ الْفَجْرُ) وَزُلَفُ اللَّيْلِ الْعَتَمَةُ (أَيِ الْعَشَاءُ) ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ فِي زُلَفِ اللَّيْلِ هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ " وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ فَيُبْحَثُ عَمَّنْ رَفَعَهُ، وَأَدْخَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ; إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى وَقْتُهَا طَرَفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَائِفَةٌ وَنَاحِيَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَفْصِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ طَرَفٌ ثَالِثٌ، وَاللَّفْظُ هَنَا مُثَنَّى، وَفِي سُورَةِ طه: - وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى - 20: 130 فَجَمَعَ الْأَطْرَافَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُمَا وَقْتَا صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ - تَعَالَى - وَتَسْبِيحَهُ الْمُطْلَقَ فِيهَا عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا، وَالْآيَةُ الصَّرِيحَةُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - 30: 17 و148 تُمْسُونَ تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، نَقَلَهُ فِي الْمِصْبَاحِ عَنِ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِثْلَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ سَبَبُهُ اشْتِرَاكُ الْوَقْتَيْنِ بِاتِّصَالِ آخِرِ الْمَسَاءِ بِأَوَّلِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ حَيْثُ يَخْتَلِطُ النُّورُ بِالظَّلَامِ، فَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الْعَتَمَةِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَزُولُ عِنْدَهَا الشَّفَقُ، وَهُوَ آخِرُ أَثَرٍ لِنُورِ النَّهَارِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ - 17: 78 الْآيَةَ، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ
زَوَالُهَا، أَيْ أَقِمْهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا هَذَا وَفِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، مُنْتَهِيًا إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ ظُلْمَتِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَائَيْنِ، وَأَقِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ.
-
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ - الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ قَبْلَهَا مُبَيِّنٌ لِحِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ.
وَمَعْنَاهَا: أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا، مَا يَمْحُو مِنْهَا تَأْثِيرَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَإِفْسَادِهَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْحَسَنَاتِ فِيهَا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - وَلَا غَرْوَ، فَالصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ، وَأَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْمُكَفِّرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْحَسَنَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى التُّرُوكِ فَإِنَّهَا عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَمِنْهُ: - إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا - 4: 31 وَفِي الْحَدِيثِ: " وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " - ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصَايَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى هُنَا لَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ الَّذِينَ يُرَاقِبُونَ اللهَ وَلَا يَنْسَوْنَهُ.
وَقَدْ فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ، وَأَيَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ كَفَّارَتِهَا فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - إِلَخْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: " هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْهُمْ - أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ: إِنَّنِي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، قَبَّلْتُهَا وَلَزِمْتُهَا وَلَمْ أَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَوْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللهِ بَصَرَهُ فَقَالَ:" رُدُّوهُ عَلَيَّ " فَرَدُّوهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ - الْآيَةَ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً " وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ
مَغْزَاهُ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِهَا بِأَبِي الْيَسَرِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِمْ فِيَّ حَدَّ اللهِ - مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ:" أَيْنَ الرَّجُلُ "؟ قَالَ: أَنَا ذَا، قَالَ:" أَتْمَمْتَ الْوُضُوءَ وَصَلَّيْتَ مَعَنَا آنِفًا "؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:" فَإِنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ " وَالْمُرَادُ: خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ الَّتِي طَلَبْتَ تَكْفِيرَهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي تَكْفِيرِهَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْوُضُوءُ التَّامُّ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَابَ الرَّجُلُ تَوْبَةً نَصُوحًا؛ بِدَلِيلِ طَلَبِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ
وَالْكَبَائِرَ إِلَّا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا أَوِ اسْتِحْلَالُ أَهْلِهَا مِنْهَا إِنْ أَمْكَنَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الْحَسَنَاتِ لِلصَّغَائِرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْبَةُ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، وَيَقُولُ الْغَزَّالِيُّ: إِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ يُكَفِّرُ مَا هُوَ ضِدُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَتَكْفِيرِ الْبُخْلِ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ بِالْإِحْسَانِ إِلَخْ.
وَالْآيَاتُ فِي تَكْفِيرِ السُّوءِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُعَيَّنَةِ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الثَّانِي كَفَارَّاتُ الظِّهَارِ وَمُحْرِمَاتُ الْإِحْرَامِ وَالْحِنْثُ بِالْأَيْمَانِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّوْبَةُ، فَذُنُوبُهَا عَارِضَةٌ لَيْسَ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ تَكْرَارُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْمُدَنِّسَةِ لِلنَّفْسِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِصْرَارِ، فَهَذِهِ لَا يُطَهِّرُهَا مِنْهَا وَيُزَكِّيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِهِ، وَإِزَالَةِ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَبِجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ بِعِصْيَانِهِ، وَشَرَحَ الْغَزَّالِيُّ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ: عِلْمٍ، وَحَالٍ، وَعَمَلٍ، كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَالْعِلْمُ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ يُوجِبُ الْحَالَ، أَيْ يُحْدِثُهُ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَأَلَمُ النَّفْسِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ وَتَكْفِيرُهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى مُوجَزًا.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى التَّوْبَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، مِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى تَوْبَةِ آدَمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ، وَمِنْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ - 4: 17 إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ،
وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 6: 54 وَسَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - 16: 119 وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه: - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى - 20: 82 وَنَاهِيكَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ التَّوْبَةِ مِنْ آيَاتِ التَّوْبَةِ، وَلَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَفِيهَا أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ.
- وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - (3) أَيْ وَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَمَا نُهِيتَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا حَتَّى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا - 20: 132 وَاسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ
وَالْإِصْلَاحِ، وَانْتِظَارِ عَاقِبَتِهَا مِنَ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا جَزَاءَ لَهُ إِلَّا الْإِحْسَانُ، - فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - فِي أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنَّ لِلْجَزَاءِ فِي أُمُورِ الْأُمَمِ آجَالًا وَأَقْدَارًا يَجِبُ الصَّبْرُ فِي انْتِظَارِهَا، وَعَدَمُ اسْتِعْجَالِهَا قَبْلَ أَوَانِهَا.
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ سُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ قِصَصَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، جَاءَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْذَارِ قَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ، وَاجْتِنَابِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، قَالَ: - فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - " لَوْلَا " تَحْضِيضِيَّةٌ بِمَعْنَى: هَلَّا، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ وَالْأَقْوَامُ، وَالْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ:" الْجِيلُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُونَ " أَقُولُ: ثُمَّ اشْتُهِرَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهِ، وَمِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْخِيَارِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ، قِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يُنْفِقُونَ فِي الْعَادَةِ أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُمْ وَأَقْرَبَهُ
إِلَى التَّلَفِ وَالْفَسَادِ أَوَّلًا وَيَسْتَبْقُونَ الْأَجْوَدَ فَالْأَجْوَدَ، وَنَقُولُ: لِأَنَّ الْأَحْيَاءَ يَهْلِكُ مِنْهُمْ الْأَضْعَفُ فَالْأَضْعَفُ أَوَّلًا وَيَبْقَى الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، وَمِنْ هَذَا مَا يُعْرَفُ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَهُوَ إِفْضَاءُ تَنَازُعِ الْأَحْيَاءِ إِلَى بَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ - 13: 17 وَمِنْ ثَمَّ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْخِيَارِ بِالْبَقِيَّةِ، يَقُولُونَ: فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي النَّاسِ بَقَايَا، وَبِهَذَا فُسِّرَتِ الْآيَةُ.
وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا كَانَ - أَيْ وُجِدَ - مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنَ النَّهْيِ وَالرَّأْيِ وَالصَّلَاحِ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ، فَيَحُولُ نَهْيُهُمْ إِيَّاهُمْ دُونَ هَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا أَلَّا نُهْلِكَ قَوْمًا إِلَّا إِذَا عَمَّ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ، كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ - أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ الْأَخْيَارِ، النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الْآمِرِينَ
بِالْمَعْرُوفِ، وَلَكِنْ كَانَ هُنَالِكَ قَلِيلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ مَعَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا مَنْبُوذِينَ لَا يُقْبَلُ نَهْيُهُمْ وَأَمْرُهُمْ، مُهَدَّدِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، بَعْدَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ - وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ - مَا أُتْرِفُوا فِيهِ - أَيْ: مَا رَزَقْنَاهُمْ وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ فَبَطَرُوا.
يُقَالُ: أَتْرَفَتْهُ النِّعْمَةُ أَيْ أَبْطَرَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ، وَالْبَطَرُ: الطُّغْيَانُ فِي الْمَرَحِ وَخِفَّةِ النَّشَاطِ وَالْفَرَحِ - وَكَانُوا مُجْرِمِينَ - أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِجْرَامِ الَّذِي وَلَّدَهُ التَّرَفُ رَاسِخِينَ فِيهِ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَخَّرُ لِعُقُولِهِمْ فِي تَرْجِيحِ مَا أَعْطَوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ.
رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " أُولُو بَقِيَّةٍ وَأَحْلَامٍ " وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْأَحْلَامَ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ الرَّشِيدَةَ كَافِيَةٌ لِفَهْمِ مَا فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ عليهم السلام مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، لَوْ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هِدَايَتِهَا الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ، وَالتَّفَنُّنُ فِي أَنْوَاعِهِ، بَدَلًا مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَشُكْرِ اللهِ الْمُنْعِمِ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِتْرَافُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْرَافِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالظُّلْمُ وَالْإِجْرَامُ يَظْهَرُ فِي الْكُبَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَيَسْرِي بِالتَّقْلِيدِ فِي الدَّهْمَاءِ، فَيَكُونُ سَبَبَ الْهَلَاكِ بِاسْتِئْصَالٍ، أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا - 17:16.
فَهَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، وَلَا تُغْنِي عَنْ شُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَذِهِ السُّنَّةِ وَمُحَاوَلَةِ اتِّقَائِهَا لَهَا، فَحُكَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ وَالْأَحْلَامِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ سَيَهْلِكُونَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ، بَلْ تَكُونُ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ - 6: 65 فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ، أَنَّ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ مِنْ شُعُوبِنَا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ
فِي الْإِسْرَافِ فِيهِ دُونَ مَا بِهِ يَرْجُو الْإِفْرِنْجُ اتِّقَاءَ الْهَلَاكِ مِنْ فَسَادِهِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْحَرْبِيَّةُ وَفُنُونُ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ فِسْقُ الْإِتْرَافِ يُهْلِكُ الْأُمَمَ الْقَوِيَّةَ، فَكَيْفَ تَبْقَى مَعَ اتِّبَاعِهِ وَفَسَادِهِ الْأُمَمُ الضَّعِيفَةُ؟ وَكَيْفَ يَزُولُ وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَالزُّعَمَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْكُتَّابُ وَالْخُطَبَاءُ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الظَّاهِرُونَ، وَالنَّاهُونَ عَنْ فَسَادِهِمُ الْأَقَلُّونَ الْخَامِلُونَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ وَمَا يَحُولُ دُونَهُ بِقَوْلِهِ:
- وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ وَسُنَّتِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِ أَهْلِهَا مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ. مُجْتَنِبِينَ لِلْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِيهَا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ الْعَدِيدَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَنْ - يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ - يَقَعُ فِيهَا - مَعَ تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ - وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - فِي أَعْمَالِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ، وَأَحْكَامِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ، فَلَا يَبْخَسُونَ الْحُقُوقَ كَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَلَا يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ كَقَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَبْطِشُونَ بِالنَّاسِ بَطْشَ الْجَبَّارِينَ كَقَوْمِ هُودٍ، وَلَا يُذَلُّونَ لِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَسْتَعْبِدُ الضُّعَفَاءَ، كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ - بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى الشِّرْكِ الْإِفْسَادَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ الظُّلْمُ الْمُدَمِّرُ لِلْعُمْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهَا بِظُلْمٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ مُصْلِحِينَ فِي حِلِّ أَعْمَالِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ لِلنَّاسِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى جَرِيرٍ رضي الله عنه فَتَنْكِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذَا لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - 31: 13 وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُصْلِحِينَ ظُلْمٌ فَلِذَلِكَ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ الْمُعَبِّرَ عَنْ تَجَارِبِ النَّاسِ، وَهُوَ
أَنَّ الْأُمَمَ تَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ، وَلَا تَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ، وَالْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِمَّا شَأْنُ صَاحِبِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَكُونُ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ مَجَازًا، وَمِنْ أَرْكَانِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ جَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَاضِحًا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَعْضُهَا خَفِيًّا يُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْهَبَ الذِّهْنُ وَالْفِكْرُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْبُلَغَاءُ.
- وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، الْآسِفُ عَلَى إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَاتِّبَاعِ هِدَايَتِهِ - لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَالْفِطْرَةِ لَا رَأْيَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ، وَإِذَنْ لَمَا كَانُوا هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسَمَّى بِالْبَشَرِ وَبِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، بَلْ لَكَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالنَّحْلِ أَوِ النَّمْلِ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ كَالْمَلَائِكَةِ مَفْطُورِينَ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَطَاعَةِ اللهِ عز وجل فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ كَاسِبِينَ لِلْعِلْمِ لَا مُلْهَمِينَ، وَعَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى بَعْضٍ، لَا مَجْبُورِينَ وَلَا مُضْطَرِّينَ، وَجَعَلَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَسْبِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ كَانُوا فِي طَوْرِ الطُّفُولَةِ النَّوْعِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ السَّاذَجِ أُمَّةً وَاحِدَةً لَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ كَثُرُوا وَدَخَلُوا فِي طَوْرِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَظَهَرَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فَاخْتَلَفُوا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: - وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا - 10: 19 فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّبَعِ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ - وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - مِنْهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ الْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، إِذِ الظَّنِّيُّ لَا يُكَلَّفُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُهُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ وَحْدَةِ الْبَشَرِ فَاخْتِلَافِهِمْ فَبَعْثَةِ النَّبِيِّينَ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَعَهُمْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي
الْآيَةِ (2: 213) وَتَفْسِيرِهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، - وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ - أَيْ وَلِذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ، خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَشُعُورِهِمْ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَظْهَرًا لِأَسْرَارِ خَلْقِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ وَسُنَنِهِ فِي الْأَحْيَاءِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْمُمَكَّنَاتِ، وَبِهَذَا كَانُوا خُلَفَاءَ الْأَرْضِ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - 2: 31 وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ فَيَخْتَلِفُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - 105 وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْقَوْلَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ أَشْهَبُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. انْتَهَى. أَيْ كَانَ الِاخْتِلَافُ سَبَبَ دُخُولِ كُلٍّ مِنَ الدَّارَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقْدِيمُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمَعْقُولُ الْمَشْرُوعُ عَكْسُهُ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يُقَالَ: فَرِيقٌ اتَّفَقُوا فِي الدِّينِ فَجَعَلُوا كِتَابَ اللهِ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَرَحِمَهُمُ اللهُ بِوِقَايَتِهِمْ مِنْ شَرِّ الِاخْتِلَافِ وَغَوَائِلِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَفَرِيقٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَكَانَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَذَاقُوا عِقَابَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْقَبَهُمْ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ: - وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ - الَّتِي قَالَهَا فِي غَيْرِ الْمُهْتَدِينَ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - أَيْ مِنْ عَالَمَيْ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كُتُبَهُ لِهِدَايَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، فَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: - وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ - 32: 13 الْآيَةَ، فَهَذَا فَرِيقُ السَّعِيرِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَزَاءُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ.
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ فِي بَيَانِ مَا أَفَادَتْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْبَاءِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَمَا تُفِيدُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغَهُ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ لَهُ لَا لَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ، قَالَ - تَعَالَى -:
- وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ - أَيْ: وَكُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَنُحَدِّثُكَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهِ وَاسْتِقْصَائِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْقَصِّ فِي الْأَصْلِ تَتَبُّعُ أَثَرِ الشَّيْءِ لِلْإِحَاطَةِ بِهِ، وَمِنْهُ: - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ - 28: 11 ثُمَّ قِيلَ: قَصَّ خَبَرَهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي اسْتَقْصَاهُ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْأَنْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ الصَّحِيحَةِ فِي صُوَرِهَا الْكَلَامِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا الْبَيَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ فَوَائِدِهَا الْعِلْمِيَّةِ، وَعِبَرِهَا وَمَوَاعِظِهَا النَّفْسِيَّةِ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا، كَالَّتِي تَرَاهَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَعُدُّونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَأَمْثَالِهِ - مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ - أَيْ: نَقُصُّ مِنْهَا عَلَيْكَ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، أَيْ نُقَوِّيهِ وَنَجْعَلُهُ رَاسِخًا فِي ثَبَاتِهِ كَالْجَبَلِ فِي الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ،
وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ بِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَقْوَامِ، وَمَا قَاسَاهُ رُسُلُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ فَصَبَرُوا صَبْرَ الْكِرَامِ - وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ - أَيْ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - وَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْأَنْبَاءِ الْمُقْتَصَّةِ عَلَيْكَ، بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ أَصْلِ دِينِ اللهِ وَأَرْكَانِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّقَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ، الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ - وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ عِقَابِ اللهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ مَا فِيهَا مِنْ عَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَنَصْرُهُ - تَعَالَى - لِمَنْ نَصَرَهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ، فَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا يَشْمَلُ مَنْ كَانُوا آمَنُوا بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى آمَنُوا بَعْدُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، مَا يُنَاسِبُ إِعْجَازَ تِلْكَ الْقِصَصِ الَّتِي جُمِعَتْ فَوَائِدُهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
- وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ - أَيْ فَبَشِّرْ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ، وَقُلْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يَتَّعِظُونَ: اعْمَلُوا عَلَى مَا فِي مَكَانَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ وَإِيذَاءِ الدَّاعِي وَالْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ: فَسَوْفَ تَلْقَوْنَ جَزَاءَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْعِقَابِ وَالْخِذْلَانِ - إِنَّا عَامِلُونَ - عَلَى مَكَانَتِنَا مِنَ الثَّبَاتِ
عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ - وَانْتَظِرُوا - بِنَا مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنْ انْتِهَاءِ أَمْرِنَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا تَتَحَدَّثُونَ بِهِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ - 52: 30 وَمَا فِي مَعْنَاهُ - إِنَّا مُنْتَظِرُونَ - مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ،
وَإِتْمَامِ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَعُقَابِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
- وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - أَيْ: وَلَهُ وَحْدُهُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَعَنْ عِلْمِهِمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، مِمَّا تَنْتَظِرُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَكَ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَمِمَّا يَنْتَظِرُونَ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، الْعَالِمُ بِمَا سَيَقَعُ مِنْهُ وَبِوَقْتِهِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ - وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ - فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ:(يَرْجِعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ - فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ - أَيْ: وَإِذَا كَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كُلُّ أَمْرٍ، فَاعْبُدْهُ كَمَا أُمِرْتَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ عِبَادَةٍ شَخْصِيَّةٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْكَ، وَمِنْ عِبَادَةٍ مُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ لِغَيْرِكَ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِيُتِمَّ لَكَ وَعَلَيْكَ مَا وَعَدَكَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ اسْتِطَاعَتُكَ، فَالتَّوَكُّلُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَطَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِهِمَا مِنَ التَّمَنِّي الْكَاذِبِ وَالْآمَالِ الْخَادِعَةِ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ - وَهِيَ مَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ - لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ الَّذِي يَكْمُلُ بِهِ التَّوْحِيدُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِيَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ - وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - جَمِيعًا، مَا تَعْمَلُهُ أَنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَابَرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَهُوَ يُوَفِّيكُمْ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لَكُمْ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:" يَعْمَلُونَ " بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ نَصٌّ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ التَّفْصِيلِيُّ وَيَلِيهِ خُلَاصَتُهُ الْإِجْمَالِيَّةُ)
الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ هُودٍ عليه السلام:
(وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ) :
هَذِهِ السُّورَةُ أَشْبَهُ بِسُورَةِ يُونُسَ الَّتِي قَبْلَهَا، فِي أُسْلُوبِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي خُلَاصَتِهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَاقِبَةِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحُجَجِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقِصَصِ الرُّسُلِ عليهم السلام وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ، وَمُنَاسِبَةٌ لَهَا فِي بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ وَالْمَقْطَعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ - وَلَكِنْ فِي تِلْكَ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ مَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ، وَفِي هَذِهِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَا أُجْمِلَ فِي تِلْكَ ; لِهَذَا نَخْتَصِرُ فِي خُلَاصَتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ فِيمَا عَدَا قَصَصِ الرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَاقِبَةِ الْأَقْوَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَنَقُولُ:
(الْبَابُ الْأَوَّلُ) :
(فِي تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ وَسُنَنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الظُّلْمِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ) :
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ)
(1)
تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ:
هُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم وَأَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اللهِ عز وجل، أَعْنِي عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمَ عِبَادَةِ شَيْءٍ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُ، كَمَا تَرَاهُ بَعْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِهِ - تَعَالَى - لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: - أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ - وَمِثْلُهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ نُوحٌ عليه السلام فِي الْآيَةِ (26) مِنْهَا، وَفِي مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ هُودٌ فِي الْآيَةِ (50) وَصَالِحٌ فِي الْآيَةِ (61) وَشُعَيْبٌ فِي الْآيَةِ: - قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - 84.
وَأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُونَهُ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ عَقَائِدَهُمُ الْمَشُوبَةَ بِالْوَثَنِيَّةِ مِنْ تَقَالِيدِ آبَائِهِمُ الْجَاهِلِينَ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِبَادَةُ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، نَهَوْهُمْ بِهَا عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَهِيَ دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ وَكَشْفِ الضُّرِّ
وَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ، وَالنَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ لِتَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ تَعْظِيمًا تَعَبُّدِيًّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ كَمَا يَرَوْنَ تَفْسِيرَهَا فِي مِثْلِ الْجَلَالَيْنِ، وَأَنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ وَالنُّذُورَ وَتَقْرِيبَ الْقَرَابِينِ لَهُمْ لَا يُنَافِي دِينَ اللهِ وَتَوْحِيدَهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالصَّوَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ وَكَوْكَبٍ، أَوْ بَشَرٍ: وَلِيٍّ أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ مَلَكٍ، إِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا تَعَبُّدِيًّا ابْتِغَاءَ نَفْعٍ أَوْ كَشْفِ ضُرٍّ فِي غَيْرِ الْعَادَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَعِبَادَةُ الْمَلَكِ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ كَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْوَثَنِ وَالصَّنَمِ بِغَيْرِ فَرْقٍ ; إِذْ كُلُّ مَا عَدَا اللهَ فَهُوَ عَبْدٌ وَمِلْكٌ لِلَّهِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ وَلَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَا لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ زُلْفَى إِلَى اللهِ، بَلْ يَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَا سِوَى الْعَادَاتِ الْعَامَّةِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ عِبَادَةً كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ وَهِيَ أَعْلَمُ بِلُغَتِهَا، وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهِ.
(2)
تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ
: الْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُشُوعِ الْخَاصِّ بِالْإِيمَانِ بِالسُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ، وَالرَّبُّ: هُوَ الْخَالِقُ الْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ لِعِبَادِهِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِذَاتِهِ، وَمُقْتَضَى حِكْمَتُهُ وَنِظَامُ سُنَنِهِ، وَتَسْخِيرُهُ الْأَسْبَابَ لِمَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَكَانَ أَكْثَرُ
مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ وَطَلَبًا لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ تُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ ; إِذِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلرَّبِّ وَحْدَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
تَأَمَّلْ كَيْفَ خَاطَبَ اللهُ أُمَّةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ عَقِبَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لِيُمَتِّعَهُمْ مَتَاعًا حَسَنًا وَيُؤْتِيَ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ (52) وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ (90) وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَيَّنَ لِنَبِيِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ 6 و7 أَنَّهُ - مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا -، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ أَخْبَرَ نُوحٌ وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ قَوْمَهُ وَهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الشِّرْكَ بِالْغُلُوِّ