المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مِنَ التَّوَاصُلِ بِالزِّيَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْخَدَمِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ، - تفسير المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

الفصل: مِنَ التَّوَاصُلِ بِالزِّيَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْخَدَمِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ،

مِنَ التَّوَاصُلِ بِالزِّيَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْخَدَمِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ، وَهُنَّ مَا قُلْنَهُ إِلَّا لِتَسْمَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا عَفْوًا، احْتَلْنَ فِي إِيصَالِهِ قَصْدًا، فَكَانَ مَا أَرَدْنَهُ:(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)

أَيْ دَعَتْهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ فِي دَارِهَا، وَمَكَرَتْ بِهِنَّ كَمَا مَكَرْنَ بِهَا، بِأَنْ أَعَدَّتْ وَهَيَّأَتْ لَهُنَّ مَا يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ إِذَا جَلَسْنَ مِنَ الْكَرَاسِيِّ وَالْأَرَائِكِ وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي دُورِ الْكُبَرَاءِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ:(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ) 18:‌

‌ 31

وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُجْرَةِ مَائِدَةِ الطَّعَامِ، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا لِيَقْطَعْنَ بِهِ مَا يَأْكُلْنَ مِنْ لَحْمٍ أَوْ فَاكِهَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، أَيْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَطْعِهِ كَالْجَامِدِ وَالشَّدِيدِ الْقَوَامِ، دُونَ الرَّخْوِ كَالْمَوْزِ النَّاضِجِ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْحَسَاءِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ التَّمَكُّنُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوِ الْيَدَيْنِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَتَوَكَّأَ عَلَى عَصَاهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، وَاتَّكَأَ جَلَسَ مُتَمَكِّنًا، وَفِي التَّنْزِيلِ:(وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ) 43: 34 أَيْ يَجْلِسُونَ. وَقَالَ: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) 31 أَيْ مَجْلِسًا يَجْلِسْنَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَالْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ الِاتِّكَاءَ إِلَّا الْمَيْلَ فِي الْقُعُودِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، يُقَالُ: اتَّكَأَ إِذَا أَسْنَدَ ظَهْرَهُ أَوْ جَنْبَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ هُنَا بِالْأُتْرُجِّ أَوِ الْأُتْرُنْجِ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي السُّنَّةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أَيْ أَمَرَتْ يُوسُفَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ، وَكَانَ فِي حُجْرَةٍ أَوْ مَخْدَعٍ فِي دَاخِلِ حُجْرَةِ الطَّعَامِ الَّتِي كُنَّ فِيهَا مَحْجُوبًا عَنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ خَارِجٍ عَنْهَا لَقَالَتِ: ادْخُلْ عَلَيْهِنَّ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ أَنْ يَفْجَأَهُنَّ وَهُنَّ مَشْغُولَاتٌ بِمَا يَقْطَعْنَهُ وَيَأْكُلْنَهُ، عَالِمَةً بِمَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْفُجَاءَةِ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّهْشَةِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَدُهِشْنَ لِذَلِكَ الْحُسْنِ الرَّائِعِ، وَالْجَمَالِ الْبَارِعِ، وَغِبْنَ عَنْ شُعُورِهِنَّ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بَدَلًا مِنْ تَقْطِيعِ مَا يَأْكُلْنَ، ذُهُولًا عَمَّا يَعْمَلْنَ، بِأَنِ اسْتَمَرَّتْ حَرَكَةُ السَّكَاكِينِ الْإِرَادِيَّةُ بَعْدَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ فَقْدِهَا، وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى أَكُفِّ شَمَائِلِهِنَّ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهَا مِنِ اسْتِرْخَائِهَا بِذُهُولِ تِلْكَ الدَّهْشَةِ فَقَطَعَتْهَا أَيْ جَرَحَتْهَا، وَلَوْلَا اسْتِرْخَاؤُهَا لَأَبَانَتْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُضَيِّفَتَهُنَّ تَعَمَّدَتْ جَعْلَهَا مَشْحُوذَةً فَوْقَ الْمَعْهُودِ فِي سَكَاكِينِ الطَّعَامِ مُبَالَغَةً فِي مَكْرِهَا بِهِنَّ؛ لِتَقُومَ لَهَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِنَّ بِمَا لَا يَسْتَطِعْنَ إِنْكَارَهُ،

ص: 241

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ كَانَ قَطْعُ إِبَانَةٍ انْفَصَلَتْ بِهِ الْكَفُّ مِنَ الْمِعْصَمِ أَوِ الْأَصَابِعُ مِنَ الْكَفِّ؟ أَمْ قَطْعُ جَرْحٍ أُطْلِقَ فِيهِ لَفْظُ بَدْءِ الشَّيْءِ عَلَى غَايَتِهِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بِالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ؟

الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ إِلَى الْيَوْمِ بِالْإِرْثِ عَنْ قُدَمَاءِ الْعَرَبِ فِيمَنْ يُحَاوِلُ قَطْعَ شَيْءٍ فَتُصِيبُ السِّكِّينُ يَدَهُ فَتَجْرَحُهَا، يَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ أَوِ الْحَبْلَ (مَثَلًا) فَقَطَعْتُ يَدِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَادَ مَا أَرَدْتُهُ مِنْ قَطْعِ اللَّحْمِ يَكُونُ بِيَدِي مِمَّا أَخْطَأْتُ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ جَرَحَ عُضْوًا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَالطَّبِيبِ قَاصِدًا جَرْحَهُ إِنَّهُ قَطَعَهُ إِلَّا إِذَا بَالَغَ فِيهِ، يُقَالُ: أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ رِجْلَهُ لِيُخْرِجَ مِنْهَا شَظِيَّةً نَشِبَتْ فِيهَا فَقَطَعَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ بَالَغَ فَكَادَ يَقْطَعُهَا، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْجَرْحِ فَقَالَ:((كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي)) يُرِيدُ فَأَخْطَأْتُ فَجَرَحْتُهَا حَتَّى كِدْتُ أَقْطَعُهَا (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) أَيْ قُلْنَ هَذَا تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا لِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ خَلَقَ هَذَا الشَّخْصَ الْعَجِيبَ فِي جَمَالِهِ وَعِفَّتِهِ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَالَمْ

يُعْهَدُ لَهُ فِي النَّاسِ مِثْلٌ، إِنَّهُ لَيْسَ بَشَرًا مِثْلَنَا (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أَيْ مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ تَمَثَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَدِيعِيَّةِ الَّتِي تُدْهِشُ الْأَبْصَارَ وَتَخْلِبُ الْأَلْبَابَ (كَمَا كَانَ يُصَوِّرُ لَهُمْ صُنَّاعُهُمُ الرَّسَّامُونَ وَالنَّحَّاتُونَ أَرْوَاحَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآلِهَةَ بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ لِتَكْرِيمِهَا وَعِبَادَتِهَا) وَأَحْسَنُ كَلِمَةٍ رُوِيَتْ فِي الْآيَةِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْمَدَنِيِّ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا وَعَسَلًا فَكُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ بِالسِّكِّينِ وَيَأْكُلْنَهُ بِالْعَسَلِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَعْظَمْنَهُ وَتَهَيَّمْنَ بِهِ حَتَّى جَعَلْنَ يُحَزِّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسِّكِّينِ وَفِيهَا الْأُتْرُنْجُ، وَلَا يَعْقِلْنَ وَلَا يَحْسَبْنَ إِلَّا أَنَّهُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ، قَدْ ذَهَبَتْ عُقُولُهُنَّ مِمَّا رَأَيْنَ (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) مَا هَكَذَا يَكُونُ الْبَشَرُ، مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. انْتَهَى. فَفُسِّرَ قَطْعُ الْأَيْدِي بِحَزِّهَا، وَالْحَزُّ أَقَلُّ مَا يُحْدِثُهُ السِّكِّينُ كَالْقَرْضِ فِي الْخَشَبَةِ، وَهُنَا يَتَسَاءَلُ الْمُتَسَائِلُونَ: مَاذَا قَالَتْ لَهُنَّ، وَقَدْ غَلَبَ مَكْرُهَا مَكْرَهُنَّ؟ وَصَارَ حَالُهَا وَحَالُهُنَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ

وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا رَآهُ

فَقَالَ لِي لَوْ عَشِقْتَ هَذَا

مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ

فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي

يَأْمُرُ بِالْعِشْقِ مَنْ نَهَاهُ

(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أَيْ حِينَئِذٍ قَالَتْ لَهُنَّ مَا يُعْلَمُ شَرْحُهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، لِمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا رَأَيْتُنَّ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَمَا أَكْبَرْتُنَّ فِي

ص: 242

أَنْفُسِكُنَّ، وَمَا فَعَلْتُنَّ بِأَيْدِيكُنَّ، وَمَا قُلْتُنَّ بِأَلْسِنَتِكُنَّ، فَذَلِكُنَّ هُوَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الْغَايَةِ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَأَسْرَفْتُنَّ فِي عَذْلِي عَلَيْهِ، إِذْ قُلْتُنَّ مِنْ قَبْلُ مَا قُلْتُنَّ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَافِ الْبُعْدِ هُوَ أَمْرُ لَوْمِهِنَّ لَهَا، أَوْ يُوسُفُ الْبَعِيدُ فِي حَقِيقَتِهِ الْبَدِيعُ فِي صُورَتِهِ عَمَّا تُصَوِّرْنَهُ بِهِ، فَمَا هُوَ عِبْرَانِيٌّ أَوْ كَنْعَانِيٌّ مَمْلُوكٌ، وَخَادِمٌ صُعْلُوكٌ، قَدْ شَغَفَ مَوْلَاتَهُ الْمَالِكَةَ لِرِقِّهِ حُبًّا وَغَرَامًا، فَهِيَ تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ ضَلَالًا مِنْهَا وَهَيَامًا، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هُوَ مَلَكٌ رُوحَانِيٌّ، تَجَلَّى فِي شَكْلٍ إِنْسَانِيٍّ، أُوتِيَ

مِنْ رَوْعَةِ الْجَمَالِ مَا خَلَبَ أَلْبَابَكُنَّ فِي الْوَهْلَةِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِهِ لَكُنَّ، فَمَا قَوْلُكُنَّ فِي أَمْرِي مَعَهُ وَافْتِتَانِي بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَعْرَعَ فِي دَارِي، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى بَيْنَ سَمْعِي وَبَصَرِي، فَأَنَا أُشَاهِدُهُ فِي قُعُودِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَأَخْلُو بِهِ فِي لَيْلِي وَنَهَارِي، فَأَرَاهُ بَشَرًا سَوِيًّا، إِنْسِيًّا لَا جِنِّيًّا، وَجَسَدًا لَا مَلَكًا رُوحَانِيًّا، فَأَتَرَاءَى لَهُ فِي زِينَتِي، وَأَعْرِضُ عَلَى نَظَرِهِ مَا ظَهَرَ وَمَا خَفِيَ مِنْ مَحَاسِنِي، فَيُعْرِضُ عَنْهَا احْتِقَارًا، فَأَتَصَبَّاهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ كَلَامٍ عَذْبٍ يَخْلُبُ اللُّبَّ، وَلِينِ قَوْلٍ وَخُشُوعِ صَوْتٍ يُرَقِّقُ الْقَلْبَ، فَلَا يَصْبُو إِلَيَّ، وَأَمُدُّ عَيْنَيَّ إِلَى مَحَاسِنِهِ فِيهِمَا كُلُّ مَا يُكِنُّهُ قَلْبِي مِنْ صَبَابَةٍ وَشَوْقٍ وَخَلَاعَةٍ، مَعَ فُتُورِ جَفْنٍ، وَانْكِسَارِ طَرْفٍ، وَطُولِ تَرْنِيقٍ وَتَحْدِيقٍ، فَلَا يَرْفَعُ إِلَيَّ طَرْفًا، وَلَا يَمِيلُ نَحْوِي عَطْفًا، بَلْ تَتَجَلَّى فِيهِ الرُّوحُ الْمَلَكِيَّةُ بِأَظْهَرِ مَجَالِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْإِلَهِيَّةِ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهَا، أَمِثْلُ هَذَا الْمَلَكِ الْقَاهِرِ يُسَمَّى عَبْدًا طَائِعًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَقْهُورَةِ تُسَمَّى سَيِّدَةً مَالِكَةً، تَأْمُرُ بَلْ تَسِيرُ فَتُطَاعُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا أَنْ تُرَاوِدَ فَتُرَدُّ، ثُمَّ تُرِيدُ إِظْهَارَ سُلْطَانِهَا فَتَعْجِزُ؟ لَقَدِ انْكَشَفَ الْقِنَاعُ، فَلَا أَمْرَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ، (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أَيِ اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ الَّتِي وَرِثَهَا عَمَّنْ نَشَئُوا عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مَزِيدَ الْكَمَالِ مِنْهَا.

هَهُنَا أَقُولُ: وَاللهِ مَا عَجَبِي مِنْ يُوسُفَ أَنْ رَاوَدَتْهُ مَوْلَاتُهُ فَاسْتَعْصَمَ، وَأَنْ قَالَتْ لَهُ:((هَيْتَ لَكَ)) فَقَالَ: ((أَعُوذُ بِاللهِ)) فَكَمْ قَالَ هَذَا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَقَامُهُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِاللهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَاوَدَ أَعْرَابِيَّةً فِي لَيْلَةٍ لَيْلَاءَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرَانَا غَيْرُ كَوَاكِبِ هَذِهِ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟

وَإِنَّمَا عَجَبِي بَلْ إِعْجَابِي بِيُوسُفَ عليه السلام أَنَّ نَظَرَهُ إِلَى اللهِ أَوْ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ لَمْ يَدَعْ فِي قَلْبِهِ الْبَشَرِيِّ مَكَانًا خَالِيًا لِنَظَرَاتِ هَذِهِ الْعَاشِقَةِ الَّتِي شَغَفَهَا حُبًّا، لِتُصِيبَهَا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَخُونَهَا صَبْرُهَا فَتُنَفِّرُهُ بِمُصَارَحَتِهَا، وَإِنَّ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبُّ الْإِنْسَانِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولَ الْقَلْبِ عَنْهُ بِحُبِّ مَنْ لَا يُحِبُّهُ، كَمَا قِيلَ:

وَنَظْرَةُ الْمَحْبُوبِ لِلْمُحِبِّ وَاللهِ عَنْ إِنْسَانٍ عَيْنُ الْقَلْبِ

وَأَمَّا الْخَالِي فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّحَبُّبِ فِي اسْتِمَالَتِهِ كَمَا قَالَتْ عُلَيَّةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ الْعَبَّاسِيِّ:

ص: 243

تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ

فَالْحُبُّ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَأَكْبَرُ مَا يَفْتِنُ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّ مِنَ الْحُبِّ لَصَادِقًا وَكَاذِبًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ لَعُذْرِيًّا عَفِيفًا، وَشَهْوِيًّا فَاسِقًا، وَإِنَّ مَفَاسِدَهُ فِي الْحَضَارَةِ لِكَبِيرَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَتَهُ لِعَظِيمَةٌ، وَسَنَعْقِدُ لَهُ فَصْلًا فِي بَابِ الْعِبْرَةِ بِالْقِصَّةِ فِي إِجْمَالِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ.

(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) بِهِ، أُقْسِمُ لَكُنَّ آكَدَ الْأَيْمَانِ، وَلِتَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ الْأُذُنَانِ (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الْأَذِلَّةِ الْمَقْهُورِينَ، تَعْنِي أَنَّ زَوْجَهَا الْعَزِيزَ يُعَاقِبُهُ بِمَا تُرِيدُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ بَعْدَ تَكْرِيمِ مَثْوَاهُ وَجَعْلِهِ كَوَلَدِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا أَنْذَرَتْهُ أَوَّلًا إِذْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْتِقَائِهِمَا بِهِ لَدَى الْبَابِ:(مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هُنَالِكَ أَنْذَرَتْهُ أَحَدَ الْعِقَابَيْنِ: سِجْنٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ، أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّجْنُ الْمُطْلَقُ بِأَخَفِّ صُوَرِهِ وَأَقَلِّهَا، وَالْعَذَابُ الْمُنْكَرُ بِأَهْوَنِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْطَفِهَا، فَذَاكَ بِحَبْسِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنَ الدَّارِ، وَهَذَا بِلَطْمَةٍ يَحْتَدِمُ بِهَا مَا فِي خَدَّيْهِ مِنَ الِاحْمِرَارِ، وَهُنَا أَنْذَرَتْهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَأَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَفَسَّرَتِ الْعَذَابَ بِالصَّغَارِ الَّذِي تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الْكَبِيرَةُ، وَاكْتَفَتْ فِيهِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَهُوَ أَشَقُّ عَلَى مِثْلِ يُوسُفَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَهْوَنُ عَلَى كِرَامِ النَّاسِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بِاحْتِقَارِ النَّفْسِ، وَفِعْلُهُ صَغِرَ كَتَعِبَ، وَأَمَّا صَغُرَ كَضَخُمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِصِغَرِ الْجِسْمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ 9: 29.

وَفِي هَذَا التَّهْدِيدِ مِنْ ثِقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِسُلْطَانِهَا عَلَى زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَمْرِهَا، وَاسْتِعْظَامِهِ لِكَيْدِهَا، مَا حَقُّهُ أَنْ يُخِيفَ يُوسُفَ مِنْ تَنْفِيذِ إِرَادَتِهَا، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ عَدَمَ غِيرَتِهِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْعَاجِزِينَ عَنْ

إِحْصَانِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَحْرُومِينَ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ مِنْهُنَّ، وَمَاذَا فَعَلَ يُوسُفُ وَمَا قَالَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْمَاكِرَةَ قَدْ عِيلَ صَبْرُهَا، وَهُتِكَتْ سِتْرُهَا، وَكَاشَفَتْ نِسْوَةَ كِبَارِ بَلَدِهَا بِمَا تُسِرُّ وَمَا تُعْلِنُ مِنْ أَمْرِهَا؟ وَرَأَى أَنَّهُنَّ تَوَاطَأْنَ مَعَهَا عَلَى كَيْدِهَا، وَرَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَوَاطُؤٌ لَا قِبَلَ لِرَجُلٍ بِهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ رَبِّهِ وَحِفْظِهِ.

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أَيْ قَالَ: أَيْ رَبِّي، الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِي، الْعَالِمُ بِسِرِّي وَجَهْرِي، إِنَّ الْحَبْسَ وَالِاعْتِقَالَ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ حَيْثُ شَظَفُ الْعَيْشِ أَحَبُّ إِلَى نَفْسِي، وَآثَرُ عِنْدِي عَلَى مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي تَرَفِ هَذِهِ الْقُصُورِ وَزِينَتِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِحُبِّهِنَّ عَنْ حُبِّكَ، وَبِقُرْبِهِنَّ عَنْ قُرْبِكَ، وَبِمُغَازَلَتِهِنَّ عَنْ

ص: 244

مُنَاجَاتِكَ، وَإِنَّمَا يُفَسَّرُ وَيُشْرَحُ هَذَا بِمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ طِبَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَسِيرَةِ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى مَا لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَدَسَائِسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّجْنِ إِلَّا الِاعْتِبَارُ بِأَحْكَامِ الْمُلُوكِ وَأَعْوَانِهِمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ عَلَى مَنْ يَسْخَطُونَ عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مِمَّا يَزِيدُنِي إِيمَانًا بِقَضَائِكَ، وَصَبْرًا عَلَى بَلَائِكَ، وَشُكْرًا لِنَعْمَائِكَ، وَعِلْمًا بِشُئُونِ خَلْقِكَ، وَيَفْتَحُ لِي بَابَ الدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ، فِيمَا عَسَى أَنْ تُخَوِّلَنِي مِنَ الْأَمْرِ، إِذَا مَكَّنْتَ لِي كَمَا وَعَدْتَنِي فِي الْأَرْضِ.

هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ تَوْجِيهِ التَّفْضِيلِ فِي الْحُبِّ، تَدُلُّ عَلَيْهِ حَالَةُ يُوسُفَ وَسَابِقُ قِصَّتِهِ وَلَاحِقُهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَكُّمٍ، كَمَا هُوَ دَأْبُنَا فِي كُلِّ مَا تُفَسَّرُ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ فِي جَعْلِ اسْمِ التَّفْضِيلِ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ أَوْ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ كَمَا يُقَالُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ مَحْبُوبٌ عِنْدِي وَالسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَالسِّجْنُ آثَرُ وَأَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ، وَعَاقِبَةٌ صَالِحَةٌ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُكْثِ مَعَهُنَّ، فَهُوَ أَشَقُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْعَاقِبَةِ مَا لِلسِّجْنِ، فَهُوَ - أَيِ اسْمُ التَّفْضِيلِ - مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ:

هُوَ أَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، يَعْنُونَ: أَقْوَى مَا فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ الْآتِي:(أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)39.

وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ تَرْجِيحَ الْأَحَبِّ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَحْبُوبِ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَدَاعِيَةِ الطَّبْعِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصُّلَحَاءَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ يُحِبُّونَ النِّسَاءَ وَيَشْتَهُونَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَشَرِهِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى نِسَاءِ النَّاسِ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْفُقَرَاءِ:((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ كَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.

وَفِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ حَيْثُ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ: ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ جِمَالٍ وَمَنْصِبٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ)) وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَذَلِكَ بِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الْمَنْصِبِ سُلْطَانًا عَلَى قَلْبِ الرَّجُلِ فَوْقَ سُلْطَانِ الْوَضِيعَةِ فِي طَبَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةَ الصُّورَةِ، فَيَثْقُلُ عَلَى طَبْعِهِ وَتَضْعُفُ إِرَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ طَلَبَهَا، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا جَمَعَتْ بَيْنَ سُلْطَانِ الْجَمَالِ وَسُلْطَانِ الْمَنْصِبِ ثُمَّ ذَلَّتْ لَهُ وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا؟

ص: 245

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ابْتَذَلَتْ نَفْسَهَا فَبَذَلَتْهَا لِلرَّجُلِ بَذْلًا، وَتَحَوَّلَ دَلُّهَا عَلَيْهِ مَهَانَةً وَذُلًّا، فَإِنَّهُ يَحْتَقِرُهَا، وَتَتَحَوَّلُ رَغْبَتُهُ فِيهَا رَغْبَةً عَنْهَا، وَكُلَّمَا تَمَنَّعَتْ عَلَيْهِ ازْدَادَ حُبًّا لَهَا وَشَوْقًا إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

مَنَعْتِ شَيْئًا فَأَكْثَرْتُ الْوَلُوعَ بِهِ

أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا

(قُلْنَا) : نَعَمْ إِنَّ هَذَا مُقْتَضَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ، كَمَا أَنَّ رَدَّ ذَاتِ الْجِمَالِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ ضَعْفِ الرَّجُلِ أَمَامَ الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَاوَدَةَ قَلَّمَا تَبْلُغُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَدَّ الْوَقَاحَةِ فِي الصَّرَاحَةِ فَتَكُونُ مُنَفِّرَةً، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهَا احْتِيَالٌ وَمُرَاوَغَةٌ لِتَحْوِيلِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّ لِنِسَاءِ الْأَكَابِرِ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا الْحَضَارَةُ كَيْدًا فِيهَا وَخِدَاعًا، وَإِنَّ لِأُسْتَاذِهِنَّ الشَّيْطَانِ مَسَالِكًا مِنْ إِغْوَائِهِنَّ وَالْإِغْوَاءُ بِهِنَّ يَحُزُّ أَقْوَى الرِّجَالِ تُجَاهَهَا صَرِيعًا، وَلَكِنَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَعِنَايَةُ رَبِّهِمْ بِهِمْ تَغْلِبُ غِوَايَتَهُ وَمَكْرَ النِّسْوَانِ، وَقَدْ لَجَأَ يُوسُفُ عليه السلام إِلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ كَيْدُ بِضْعِ نِسْوَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْجِمَالِ وَالْمَنْصِبِ لَا بِضَاعَةَ لَهُنَّ إِلَّا أَبْضَاعُهُنَّ، فَقَالَ:(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) يَعْنِي: إِنْ لَمْ تُحَوِّلْ عَنِّي مَا يَنْصِبْنَهُ لِي مِنْ شِرَاكِ الْكَيْدِ، وَيَمْدُدْنَهُ مِنْ شِبَاكِ الصَّيْدِ، لَمْ أَسْلَمْ مِنَ الصَّبْوَةِ إِلَيْهِنَّ، وَهِيَ الْمَيْلُ إِلَى مُوَافَقَتِهِنَّ عَلَى أَهْوَائِهِنَّ، يُقَالُ: صَبَا يَصْبُو صَبْوًا وَصَبْوَةً إِذَا مَالَ إِلَى اللهْوِ وَمَا يَطِيبُ لِلنَّفْسِ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْهُ رِيحُ الصِّبَا وَهِيَ الَّتِي تَهُبُّ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَصْبُو إِلَيْهَا لِطِيبِ نَسِيمِهَا وَرُوحِهَا، حَتَّى إِنَّ تَغَزُّلَ شُعَرَائِهِمْ بِهَا لَيُضَاهِي تَغَزُّلَهُمْ بِعَشِيقَاتِهِمْ رِقَّةً وَصَبَابَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَفَا وَامْتَزَجَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ:

خُذَا مِنْ صِبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ

فَقَدْ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ

وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ

إِذَا هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ

(وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ مِنْ صِنْفِ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ تَسْتَخِفُّهُمْ أَهْوَاءُ النَّفْسِ فَيَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَهِيَ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ، أَوْ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ

ص: 246

يَعِيشُ بَيْنَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ الْمَاكِرَاتِ الْمُتْرَفَاتِ - مِثْلِي - لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الْجَهْلِ إِلَّا بِعِصْمَتِكَ وَحِفْظِكَ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ عليه السلام بِأَنَّهُ مَا صَبَا إِلَيْهِنَّ، وَلَا أَحَبَّ أَنْ يَعِيشَ مَعَهُنَّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ مُقْتَضَى الِاسْتِهْدَافِ لِكَيْدِ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُدِيمَ لَهُ مَا وَعَدَهُ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ 24.

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ مَا دَعَاهُ بِهِ وَطَلَبَهُ مِنْهُ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الِابْتِهَالُ

وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ وَطَوَى ذِكْرَهُ إِيجَازًا فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فَلَمْ يَصْبُ إِلَيْهِنَّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى جِهَادِ نَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَعَصَمَهُ أَنْ يَكُونَ ((مِنَ الْجَاهِلِينَ)) بِاتِّبَاعِ هَوَاهُنَّ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْمُجِيبُ) لِمَنْ أَخْلَصَ لَهُ الدُّعَاءَ، جَامِعًا بَيْنَ مَقَامَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، الْعَلِيمُ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَعَطَفَ اسْتِجَابَةَ رَبِّهِ لَهُ، وَصَرْفَ كَيْدَهُنَّ عَنْهُ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَتَعْلِيلُهَا بِأَنَّهَا مُقْتَضَى كَمَالِ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْعِلْمِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَبَّهُ عز وجل لَمْ يَتَخَلَّ عَنْ عِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِهِ، أَقْصَرَ زَمَنٍ يَهْتَمُّ فِيهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ، وَمُؤَيِّدٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ سِيَاقِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ:(وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)21.

(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ) بَدَا هَذِهِ مِنَ الْبَدَاءِ (بِالْفَتْحِ) لَا مِنَ الْبُدُوِّ الْمُطْلَقِ، أَيْ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهُ كَلِمَةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ الْبَلِيغَةُ ((فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا)) أَيْ فَمَا عَدَاكَ وَصَرَفَكَ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ مِمَّا بَدَا لَكَ الْآنَ وَكَانَ خَفِيًّا عَنْكَ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِـ (ثُمَّ) الَّتِي تُفِيدُ الِانْتِقَالَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّشَاوُرِ وَالتَّرَوِّي فِي الْأَمْرِ، وَضَمِيرُ لَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ دَارِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ وَمَنْ يَعْنِيهِ أَمْرَهُمَا كَالشَّاهِدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِـ (الْآيَاتِ) مَا شَهِدُوهُ وَاخْتَبَرُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ إِنْسَانٌ غَيْرُ الْأَنَاسِيِّ الَّتِي عَرَفُوهَا فِي عَقِيدَتِهِ وَإِيمَانِهِ وَأَخْلَاقِهِ، مِنْ عِفَّةٍ وَنَزَاهَةٍ وَاحْتِقَارٍ لِلشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ وَالْإِتْرَافِ الْمُتَّبَعِ فِي قُصُورِ هَذِهِ الْحَضَارَةِ، وَمِنْ عِنَايَةِ رَبِّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ وَيَعْتَقِدُ، فَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنْ تُفْتَنَ سَيِّدَتُهُ فِي مُرَاوَدَتِهِ، وَلَمْ يَحْدُثْ أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي جَذْبِ خُلَسَاتِ نَظَرِهِ، وَلَا فِي خَفَقَاتِ قَلْبِهِ، بَلْ ظَلَّ مُعْرِضًا عَنْهَا مُتَجَاهِلًا لَهَا، حَتَّى إِذَا مَا صَارَحَتْهُ بِكَلِمَةِ هَيْتَ لَكَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، وَاسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ، رَبِّ آبَائِهِ الَّذِينَ يَفْتَخِرُ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ، وَعَيَّرَهَا بِالْخِيَانَةِ لِزَوْجِهَا.

(وَمِنْهَا) أَنَّهَا لَمَّا غَضِبَتْ وَهَمَّتْ بِالْبَطْشِ بِهِ هَمَّ بِمُقَاوَمَتِهَا وَالْبَطْشِ بِهَا وَهِيَ سَيِّدَتُهُ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَأَى مِنَ الْبُرْهَانِ فِي دَخِيلَةِ نَفْسِهِ. مُؤَيِّدًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ صَرْفِ رَبِّهِ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ عَنْهُ.

(وَمِنْهَا) أَنَّهَا لَمَّا اتَّهَمَتْهُ

بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا وَأَرَادُوا التَّحْقِيقَ

ص: 247

فِي الْمَسْأَلَةِ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا هُوَ جَدِيرٌ بِالدِّفَاعِ عَنْهَا، بِمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي اتِّهَامِهَا إِيَّاهُ بِإِرَادَةِ السُّوءِ بِهَا، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ.

(وَمِنْهَا) مَسْأَلَةُ انْتِشَارِ خَبَرِهَا مَعَهُ وَخَوْضِ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ فِي افْتِتَانِهَا بِهِ وَإِذْلَالِ نَفْسِهَا بِبَذْلِهَا لَهُ مَعَ إِعْرَاضِهِ عَنْهَا.

(وَمِنْهَا) مَسْأَلَةُ مَكْرِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ وَأَعْمَقِهِنَّ كَيْدًا مَعَهُ، إِذْ حَاوَلْنَ رُؤْيَتَهُ وَتَوَاطَأْنَ عَنْ مُرَاوَدَتِهِ وَدَهْشَتِهِنَّ مِمَّا شَاهَدْنَ مِنْ جَمَالِهِ، حَتَّى قَطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بَدَلًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِنَّ وَهُنَّ لَا يَشْعُرْنَ.

فَجَمِيعُ هَذِهِ الْآيَاتِ تُثْبِتُ أَنَّ بَقَاءَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بَيْنَ رَبَّتِهَا وَصَدِيقَاتِهَا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مَثَارُ فِتْنَةٍ لِلنِّسَاءِ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهَا، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ وَالصَّوَابَ فِي أَمْرِهَا هُوَ تَنْفِيذُ رَأْيِهَا الْأَوَّلِ فِي سِجْنِهِ - وَإِنْ كَانَتْ سَيِّئَةَ النِّيَّةِ مَاكِرَةً فِيهِ - لِإِخْفَاءِ ذِكْرِهِ، وَكَفِّ أَلْسِنَةِ النَّاسِ عَنْهَا فِي أَمْرِهِ، (فَأَقْسَمُوا لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينَ) أَيْ إِلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، حَتَّى يَكُونُوا مُطْلَقِي الْحُرِّيَّةِ فِي طُولِ مُكْثِهِ وَقَصْرِهِ وَإِخْرَاجِهِ، وَيَرَوْا مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ السِّجْنِ فِيهِ وَحَدِيثِ النَّاسِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَرَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مَالِكَةً لِقِيَادِ زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ، تَقُودُهُ بِقَرْنَيْهِ كَيْفَ شَاءَ هَوَاهَا، وَأَنَّهُ كَانَ فَاقِدًا لِلْغَيْرَةِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا صِغَارِ الْأَنْفُسِ عَبِيدِ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي فِيهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى قِلَّةِ مَا أَعْجَبَنِي مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي شَوَّهَتْهَا عَلَيْهِمُ الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِعْرَابِهَا؛ قَالَ فِي تَفْسِيرِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ: وَهِيَ الشَّوَاهِدُ عَلَى بَرَاءَتِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِنْزَالِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَفَتْلِهَا مِنْهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ وَكَانَ مِطْوَاعًا لَهَا، وَجَمَلًا ذَلُولًا زِمَامُهُ فِي يَدِهَا، حَتَّى أَنْسَاهُ

ذَلِكَ مَا عَايَنَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَمِلَ بِرَأْيِهَا فِي سِجْنِهِ لِإِلْحَاقِ الصَّغَارِ بِهِ كَمَا أَوْعَدَتْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا أَيِسَتْ مِنْ طَاعَتِهِ، وَطَمِعَتْ فِي أَنْ يُذَلِّلَهُ السِّجْنُ وَيُسَخِّرَهُ لَهَا. اهـ.

ص: 248

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام كَانَ أَكْمَلَ مَثَلٍ لِلْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ نَاقِصَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِمَا هُنَا فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ مُؤَلِّفُ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْمَجْهُولُ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ.

ص: 249

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنَّ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) .

(سِيرَةُ يُوسُفَ عليه السلام فِي السِّجْنِ) :

هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِظْهَارِ مُعْجِزَةِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّمْهِيدِ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ فَسَجَنُوهُ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ بِتَقْدِيرِ اللهِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ جَاهِلُوهُ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ: فَتَيَانِ مَمْلُوكَانِ، تَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُمَا مِنْ فِتْيَانِ مَلِكِ مِصْرَ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَحَدَهُمَا خَازِنُ طَعَامِهِ وَالْآخَرَ سَاقِيهِ، فَمَاذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَهُمَا؟ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا أَيْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً كَأَنِّي أَرَاهَا فِي الْيَقَظَةِ الْآنَ وَهِيَ أَنَّنِي أَعْصِرُ خَمْرًا، أَيْ عِنَبًا لِيَكُونَ خَمْرًا لَا لِيُشْرَبَ الْآنَ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ فِي الشَّوَاذِّ ((أَعْصِرُ عِنَبًا)) تَفْسِيرٌ لَا قُرْآنُ، وَمَا كُلُّ الْعِنَبِ لِأَجْلِ التَّخْمِيرِ، فَمَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ عَرَبَ غَسَّانَ وَعَمَّانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ خَمْرًا، فَمَحْمُولٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَسُرْعَةِ اخْتِمَارِهِ، دُونَ مَا يُؤْكَلُ فِي الْغَالِبِ تَفُكُّهًا لِكِبَرِ

حَجْمِهِ وَاكْتِنَازِ شَحْمِهِ وَقِلَّةِ مَائِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْنَافٌ (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) الطَّيْرُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ طَائِرٌ، وَتَأْنِيثُهُ أَكْثَرُ مِنْ تَذْكِيرِهِ،

ص: 250

وَجَمْعُ الْجَمْعِ: طُيُورٌ وَأَطْيَارٌ (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أَيْ قَالَ لَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَبِّئْنِي بِتَأْوِيلِ مَا رَأَيْتُ، أَيْ بِتَفْسِيرِهِ الَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ فِي الْخَارِجِ إِذَا كَانَ حَقًّا لَا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَيَصِحُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْكَثِيرِ كَاسْمِ الْإِشَارَةِ بِمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوْ مَا ذُكِرَ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِسْمِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) عَلَّلُوا سُؤَالَهُمْ عَنْ أَمْرٍ يَهُمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ دُونَهُ، بِرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بِمُقْتَضَى غَرِيزَتِهِمْ - الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ لِلنَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَاصَّةٌ وَلَا هَوًى، وَقِيلَ:((مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) لِتَأْوِيلِ الرُّؤَى، وَمَا قَالَا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَأَيَا مِنْ سِعَةِ عِلْمِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ مَعَ أَهْلِ السِّجْنِ مَا وَجَّهَ إِلَيْهِ وُجُوهَهُمَا، وَعَلَّقَ بِهِ أَمَلَهُمَا. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ بِهِ.

افْتَرَضَ يُوسُفُ عليه السلام ثِقَةَ هَذَيْنِ السَّائِلَيْنِ بِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِصْغَاءِهِمَا لِقَوْلِهِ وَاهْتِمَامِهِمَا بِمَا يَسْمَعَانِ مِنْ تَأْوِيلِهِ لِرُؤَاهُمَا، فَبَدَأَ حَدِيثَهُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ وَهُوَ دَعْوَتُهُمَا وَسَائِرِ مَنْ فِي السِّجْنِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عز وجل فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ وَحْيَ الرِّسَالَةِ جَاءَهُ بَعْدَ دُخُولِ السِّجْنِ فَحَقَّقَ قَوْلَهُ:(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) 33 كَمَا أَنَّ وَحْيَ الْإِلْهَامِ جَاءَهُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ عَلَى مَا سَبَقَ، وَحِكْمَةُ هَذَا مِنْ نَاحِيَتِهِ عليه السلام ظَاهِرَةٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ مِحْنَةٍ ظَاهِرَةٍ، مِنْحَةً بَاطِنَةً، وَفِي كُلِّ بِدَايَةٍ مُحْرِقَةٍ، نِهَايَةً مُشْرِقَةً، تَحْقِيقًا لِمَا فَهِمَهُ أَبُوهُ مِنِ اجْتِبَاءِ رَبِّهِ لَهُ إِلَخْ. وَحِكْمَتُهُ مِنْ نَاحِيَةِ دَعْوَةِ الدِّينِ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ وَأَقْرَبَهُمُ اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِهَا وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا هُمُ: الضُّعَفَاءُ وَالْمَظْلُومُونَ وَالْفُقَرَاءُ. وَأَعْتَاهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ قَبُولِهَا هُمُ: الْمُتْرَفُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، بَدَأَ يُوسُفُ بِالدَّعْوَةِ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي بَيَانِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَالثِّقَةِ بِقَوْلِهِ، وَهِيَ إِظْهَارُ مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَأَقْرَبِهَا إِلَى اقْتِنَاعِهِمْ مَا يَخْتَصُّ بِمَعِيشَتِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُوجِبُهُ الرِّسَالَةُ مِنْ جَوَابِهِمْ، وَهُوَ:

(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) وَهُوَ مَالَا تَدْرُونَ، وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي هَذَا السِّجْنِ لَمَحْجُوبُونَ (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) أَيْ أَخْبَرْتُكُمَا بِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَبِمَا يُرِيدُونَ مِنْ إِرْسَالِهِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمَا: أُنَبِّئُكُمَا بِكُلِّ هَذَا مِنْ شَأْنِ هَذَا الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا.

رُوِيَ أَنَّ رِجَالَ الدَّوْلَةِ كَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى الْمُجْرِمِينَ أَوِ الْمُتَّهَمِينَ طَعَامًا مَسْمُومًا يَقْتُلُونَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ هَذَا، وَمَا قُلْتُهُ يَشْمَلُ هَذَا إِذَا صَحَّ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ إِنْبَائِهِمَا بِهِ تَأْوِيلًا، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ،

ص: 251

وَهُوَ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سَمَّاهُ تَأْوِيلًا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا سَأَلَاهُ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَاهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ: لَا تَرَيَانِ فِي النَّوْمِ طَعَامًا يَأْتِيكُمَا إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنْ قَلَّدَهُ ((تَأْوِيلَهُ)) (بِبَيَانِ مَا هَيْئَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الْمُشْكَلِ وَالْإِعْرَابَ عَنْ مَعْنَاهُ) اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ سَرَى إِلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لَا مِنْ صَمِيمِ اللُّغَةِ (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي أُنَبِّئُكُمَا بِهِ بَعْضَ مَا عَلَّمَنِي رَبِّي بِوَحْيٍ مِنْهُ إِلَيَّ، لَا بِكِهَانَةٍ وَلَا عِرَافَةٍ وَلَا تَنْجِيمٍ، وَلَا مَا يُشْبِهُهَا مِنْ طُرُقٍ صِنَاعِيَّةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ بَشَرِيٍّ يَلْتَبِسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَشْتَبِهُ الصَّوَابُ بِالْخَطَأِ، فَهُوَ آيَةٌ، كَقَوْلِ عِيسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ:(وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) 3: 49.

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، أَيْ: تَرَكْتُ دُخُولَهَا وَاتِّبَاعَ أَهْلِهَا مِنْ عَابِدِي الْأَوْثَانِ الْمُنْتَحِلَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَهْلِهَا وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) 75: 36؟ أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُبْعَثُ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ سُدًى قَبْلَهُ، فَتَرْكُ الشَّيْءِ يَصْدُقُ بِعَدَمِ مُلَابَسَتِهِ مُطْلَقًا، وَبِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ أَوْ كِلَيْهِمَا كَمَا هُنَا.

وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ: الْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سُكَّانِ أَرْضِ الْمِيعَادِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا، وَالْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ هُوَ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً مَعْرُوفَةً فِي التَّارِيخِ، أَعْظَمُهَا الشَّمْسُ وَاسْمُهَا عِنْدَهُمْ (رَعْ) وَمِنْهَا

فَرَاعِنَتُهُمْ وَالنَّيْلُ وَعِجْلُهُمْ (أَبِيسُ) وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْحِيدُ خَاصًّا بِحُكَمَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَهُمُ الْآنَ يَكْفُرُونَ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ لِلْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْمِصْرِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ فَشَا فِيهِمْ تَصْوِيرُ هَذَا الْإِيمَانِ بِصُوَرٍ مُبْتَدَعَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ فَرَاعِنَتَهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْحَيَاةِ الْأُخْرَى بِأَجْسَادِهِمُ الْمُحَنَّطَةِ وَيَعُودُ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَالْحُكْمُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَدْفِنُونَ أَوْ يَضَعُونَ مَعَهُمْ جَوَاهِرَهُمْ وَغَيْرَهَا، وَيَبْنُونَ الْأَهْرَامَ لِحِفْظِ جُثَثِهِمْ وَمَا مَعَهَا، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا أَكَّدَ الْحُكْمَ بِالْكُفْرِ بِهَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ ((هُمْ)) لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) أَنْبِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِهِ الْخَالِصِ، وَبَيَّنَ أَسْمَاءَهُمْ مِنَ الْأَبِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى بِقَوْلِهِ:(إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) فَلَفْظُ الْآبَاءِ يَشْمَلُ الْجُدُودَ وَإِنْ عَلَوْا، وَبَيَّنَ أَسَاسَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي اتَّبَعَهَا وِرَاثَةً وَتَلْقِينًا فَكَانَتْ يَقِينًا لَهُ وَلَهُمْ وَوِجْدَانًا، بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لَنَا أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا مِمَّا يَقَعُ مِنَّا

ص: 252

(أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) نَتَّخِذُهُ رَبًّا مُدَبِّرًا أَوْ إِلَهًا مَعْبُودًا مَعَهُ، لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنَ الْبَشَرِ (كَالْفَرَاعِنَةِ) فَضْلًا عَمَّا دُونَهُمَا مِنَ الْبَقَرِ (كَالْعِجْلِ أَبِيسَ) أَوْ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ مَا يَتَّخِذُهُ لِهَذِهِ الْآلِهَةِ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا) بِهِدَايَتِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِوَحْيِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَعَلَى النَّاسِ بِإِرْسَالِنَا إِلَيْهِمْ نَنْشُرُ فِيهِمْ دَعْوَتَهُ، وَنُقِيمُ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ، وَنُبَيِّنُ لَهُمْ هِدَايَتَهُ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُشْرِكُونَ

بِهِ أَرْبَابًا وَآلِهَةً مِنْ خَلْقِهِ، يَذِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ مِثْلُهُمْ أَوْ أَدْنَى مِنْهُمْ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمَا بِبُطْلَانِ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى بُرْهَانِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ:

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

(الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بِبُرْهَانِهِ)

(يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ) أَضَافَهُمَا إِلَى السِّجْنِ بِمَعْنَى يَا سَاكِنَيِ السِّجْنِ، أَوْ بِمَعْنَى يَا صَاحِبَيَّ فِي السِّجْنِ. كَمَا قِيلَ: يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أَهْلَ الدَّارِ. أَيْ سَارِقَهُمْ فِيهَا (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ بَعْدَ تَخْيِيرٍ، وَمُقْدِّمَةٌ لِأَظْهَرِ بُرْهَانٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ يَعْبُدُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقِينَ فِي ذَوَاتِهِمْ، وَفِي صِفَاتِهِمُ الْمَعْنَوِيَّةِ يَنْعَتُونَهُمْ بِهَا، وَفِي صِفَاتِهِمُ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يُصَوِّرُهَا لَهُمُ الْكَهَنَةُ وَالرُّؤَسَاءُ بِالرُّسُومِ الْمَنْقُوشَةِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَنْصُوبَةِ فِي الْمَعَابِدِ وَالْهَيَاكِلِ، وَفِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْنِدُونَهَا إِلَيْهِمْ بِزَعْمِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ لِصَاحِبَيْهِ:(أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ) أَيْ عَدِيدُونَ، هَذَا شَأْنُهُمْ فِي التَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ بِطَبْعِهِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالتَّدْبِيرِ الْمُفْسِدِ لِلنِّظَامِ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا وَلِغَيْرِكُمَا مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ، فِيمَا تَطْلُبُونَ وَيَطْلُبُونَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ، وَكُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَمِ اللهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ، الْخَالِقُ

لِكُلِّ مَوْجُودٍ الْوَاحِدُ.

ص: 253

فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّسْخِيرِ، الَّذِي لَا يُنَازَعُ وَلَا يُعَارَضُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ الْقَهَّارُ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ، وَعِزَّتِهِ الْغَالِبَةِ، لِجَمِيعِ الْقُوَى وَالسُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَالنُّورِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي كَانَ الْجَهْلُ بِحَقِيقَتِهَا، وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَظَاهِرِهَا، هُوَ سَبَبُ عِبَادَتِهَا وَالْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِهَا. الْجَوَابُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ أَدْرَكَا السُّؤَالَ:(بَلْ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ: وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:

(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أَيْ غَيْرَ هَذَا الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ وَضَعْتُمُوهَا لِمُسَمَّيَاتٍ نَحَلْتُمُوهَا صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْمَالَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ، فَاتَّخَذْتُمُوهَا أَرْبَابًا وَمَا هِيَ بِأَرْبَابٍ تَخْلُقُ، وَلَا تَرْزُقُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُدَبِّرُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الرَّبِّ الْإِلَهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ خَيْرٌ (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا) أَيْ بِتَسْمِيَتِهَا أَرْبَابًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (مِنْ سُلْطَانٍ) أَيْ: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، فَيُقَالُ إِنَّكُمْ تَتَّبِعُونَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ - تَعَالَى - مِنْهُ، تَعَبُّدًا لَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَةً لِرُسُلِهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا أَوْ تَعْظِيمُهَا غَيْرَ مُنَافٍ لِتَوْحِيدِهِ، كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهُ حَجَرٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ - فَهِيَ تَسْمِيَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّقْلِ السَّمَاوِيِّ فَتَكُونُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَقْلِ فَتَكُونُ مِنْ نَتَائِجِ الْبُرْهَانِ.

وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا قَامَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّصَارَى بِبُطْلَانِ ثَالُوثِهِمُ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ ثَالُوثَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ، ادَّعُوا أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَوْ تَلَامِيذِهِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، فَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ

مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنَّ كَلِمَاتِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَهَا مَعَانٍ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْمَسِيحِ فِي حَيَاتِهِ، هِيَ غَيْرُ الْمَعَانِي الِاصْطِلَاحِيَّةِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْكَاثُولِيكِ وَالْأُرْثُوذُكْسِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْثَرِ النَّصَارَى. وَالْأَحْرَارُ الْعَقْلِيُّونَ مِنْ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ يَرْفُضُونَهَا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مَلَايِينُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ وَيُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا، كَمَا أَسْلَمُوا فِطْرَةً وَعَقْلًا.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ الْحَقُّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ يُوحِيهِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ، لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَا بِعَقْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، وَلَا بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.

ص: 254

ثُمَّ بَيَّنَ أَوَّلَ أَصْلٍ بُنِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ مَنْ عَرَفَهَا، فَقَالَ:(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) بَلْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَادْعُوا وَاعْبُدُوا، وَلَهُ وَحْدَهُ فَارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ فَتَوَجَّهُوا، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَلَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا كَاهِنًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا نَجْعًا وَلَا شَجَرًا، وَلَا نَهْرًا مُقَدَّسًا كَالْكِنْجِ وَالنِّيلِ، وَلَا حَيَوَانًا كَالْعِجْلِ أَبِيسَ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ لَا يَذِلُّ نَفْسَهُ بِالتَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ خَاضِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ جِنْسِهِ وَمَادَّةُ حَيَاةِ شَخْصِهِ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) 20: 50 فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَجْهَلُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْحِسَابِ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ الْحَقُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ أَقْوَامَهُمْ وَمِنْهُمْ آبَائِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، لِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ آبَائِهِمُ

الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقَةً لَيْسَ لَهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ أَدْنَى نَصِيبٍ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ فِي مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تُتْلَى فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِالْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ، صَارَ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِ اللهِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ أَوْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضِ مَا يُحِبُّونَ مِنَ النَّفْعِ، فَيَدْعُونَهُمْ خَاشِعِينَ رَاغِبِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسَمُّونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِلَ عِنْدَ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ جَمِيعَ رُسُلِ اللهِ دَعُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ، كَمَا يَفْهَمُونَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْإِفْرِنْجِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا فِي الصُّحُفِ وَفِي أَسْفَارِ التَّارِيخِ وَفِيمَا يُسَمُّونَهُ فَلْسَفَةَ الدِّينِ أَوْ فَلْسَفَةَ التَّفْكِيرِ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ نَشَئُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم مِنْ زُهَاءِ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِتَصْرِيحِهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ رُسُلًا دَعَوْهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ عليه السلام فَإِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ الْمَيِّتِينَ وَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالْأَصْنَامَ، وَكَانَ الْبَشَرُ قَبْلَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَتَوْحِيدِ آدَمَ عليه السلام.

ص: 255

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ يُوسُفَ عليه السلام لَمْ يَدْعُ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ التَّوْحِيدِ مِنْ شَرْعِ آبَائِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا أَصْحَابَ شَرِيعَةٍ تَامَّةٍ لَمْ يُبْعَثْ لِنَسْخِهَا وَلَا لِتَغْيِيرِهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ سَمَاوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَأَحْدَثُوا تَقَالِيدَ خَيَالِيَّةً فِي الْبَعْثِ، فَهُوَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) 37 يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ فَنَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَبَعْثَهُمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى لَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَمَا يَزْعُمُونَ، وَعَقَائِدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُدَوَّنَةٌ فِي التَّارِيخِ الْمَأْخُوذِ مِنْ آثَارِ الْفَرَاعِنَةِ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَنِّطُونَ أَجْسَادَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ الَّتِي فَارَقَتْهَا، وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَحْفَظُونَ فِي أَهْرَامِهِمْ وَغَيْرِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ يَعُودُونَ مُلُوكًا كَمَا كَانُوا، فَهَذِهِ أَبَاطِيلُ طَرَأَتْ عَلَى الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَقَالِيدُهُ هَذِهِ مَنْقُوشَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَهْرَامِ وَتَوَابِيتِ الْمَوْتَى وَصَفَائِحِ الْقُبُورِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِنَعِيمِ الْعَوَامِّ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَشَكَّلُونَ بِالصُّوَرِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَتَشَكُّلُ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ هُوَ الْأَصْلُ الْعِلْمِيُّ الْمَعْقُولُ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ فِي هَيْكَلٍ أَثِيرِيٍّ يَلْبَسُ جَسَدًا كَثِيفًا كَالْجَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله وَمِنْهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَشَكُّلِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّشَكُّلُ عَلَى أَكْمَلِهِ فِي الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِهَا.

وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَتَرْكُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا كَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي بَيْتِ وَزِيرِ الْبِلَادِ وَفِي السِّجْنِ ثُمَّ فِي إِدَارَتِهِ لِأُمُورِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى سَائِرِ شَرِيعَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي احْتِيَالِهِ عَلَى أَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ بِمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِقَوْلِ اللهِ - تَعَالَى -:(مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)76. الْخَ. وَبَعْدَ أَنْ أَدَّى يُوسُفُ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَبَّرَ لِصَاحِبَيْهِ رُؤْيَاهُمَا بِقَوْلِهِ:

ص: 256

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

(تَأْوِيلُهُ لِمَنَامَيْ صَاحِبَيِ السَّجْنِ وَوَصِيَّتُهُ لِلنَّاجِي مِنْهُمَا) :

(يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا) وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) يَعْنِي بِرَبِّهِ: مَالِكُ رَقَبَتِهِ وَهُوَ الْمَلِكُ، لَا رُبُوبِيَّةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَلِكُ مِصْرَ فِي عَهْدِ يُوسُفَ لَمْ يَدَعِ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ الرُّعَاةِ الَّذِينَ مَلَكُوا الْبِلَادَ عِدَّةَ قُرُونٍ (وَأَمَّا الْآخَرُ) وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أَيِ الطَّيْرُ الَّتِي تَأْكُلُ اللُّحُومَ كَالْحِدَأَةِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ قَرِيبٌ مِنْ أَصْلِ رُؤْيَا كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَوَاطِرِهِمَا النَّوْمِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ مُكَاشَفَاتِ يُوسُفَ وَيُؤَكِّدُهَا قَوْلُهُ:(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) فَهَذَا نَبَأٌ زَائِدٌ عَلَى تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا، وَرَدَ مَوْرِدَ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمَا، أَوْ أَسْئِلَةٍ فِي صِفَةِ ذَلِكَ التَّعْبِيرِ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ يَجُوزُ غَيْرُهُ وَمَتَى يَكُونُ؟ فَهُوَ يَقُولُ لَهُمَا: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَهُمُّكُمَا أَوْ يُشْكَلُ عَلَيْكُمَا وَتَسْتَفْتِيَانِي فِيهِ قَدْ قُضِيَ وَبَتَّ فِيهِ وَانْتَهَى حُكْمُهُ. وَالِاسْتِفْتَاءُ فِي اللُّغَةِ السُّؤَالُ عَنِ الْمُشْكَلِ الْمَجْهُولِ، وَالْفَتْوَى جَوَابُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَبَأً أَمْ حُكْمًا، وَقَدْ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى عُمُومِهِ: أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ 43 وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُتُوَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْمَضَاءِ وَالثِّقَةِ.

قُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنْ يُوسُفَ عليه السلام زَائِدَةٌ عَلَى مَا عَبَّرَ بِهِ رُؤْيَاهُمَا، دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْمُكَاشَفَةِ وَنَبَّأَ الْغَيْبَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَجَعَلَهُ آيَةً لَهُ لِيَثِقُوا بِقَوْلِهِ وَهُمْ أُولُو عِلْمٍ وَفَنٍّ وَسِحْرٍ، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ حَكَمَ فِي أَمْرِهِمَا بِمَا قَالَهُ، لَا مِنْ بَابِ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا رَأَيَا مِنَ النَّوْعِ الصَّادِقِ مِنْهَا لَا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ (وَسَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ لِكُلِّيَّاتِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى) .

ص: 257

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) وَهُوَ الَّذِي أَوَّلَ لَهُ رُؤْيَاهُ بِأَنَّهُ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَتَأْوِيلُهَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاتِهِ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَتْوَاهُ بَعْدَهُ عَنْ وَحْيٍ نَبَوِيٍّ كَمَا رَجَّحْنَا لَا تَتِمَّةَ لِتَأْوِيلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ نَجَاتِهِ

بِالظَّنِّ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ قَضَاءِ الْمَلِكِ بِذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَحُولُ دُونَ تَنْفِيذٍ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ أَبُوهُ مِنْهَا مِنْ أَمْرِ مُسْتَقْبَلِهِ، أَنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِجْمَالِيٌّ إِلَخْ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا مَحَلَّ لِإِعَادَتِهِ هُنَا:(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أَيْ عِنْدَ سَيِّدِكَ الْمَلِكِ، بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَعَلِمْتَ مِنْ أَمْرِي عَسَى أَنْ يُنْصِفَنِي مِمَّنْ ظَلَمُونِي وَيُخْرِجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَهَذَا الذِّكْرُ يَشْمَلُ دَعْوَتَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَأْوِيلَهُ لِلرُّؤْيَا، وَإِنْبَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِ، وَآخِرُهُ فَتْوَاهُ الصَّرِيحَةُ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ بِهِ كُلَّمَا قَدَّمَ لِلْمَلِكِ شَرَابَهُ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أَيْ أَنْسَى السَّاقِي تَذُكُّرَ رَبِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ عِنْدَهُ عَلَى حَدِّ:(وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) 18: 63 (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) مَنْسِيًّا مَظْلُومًا، وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْجَارِي عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - الْآتِي قَرِيبًا:(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) 45 أَيْ تَذَكَّرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ وَتَقْدِيرٍ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَيْهِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَكَرَ إِخْبَارَ رَبِّهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ وَهُوَ اللهُ عز وجل فَعَاقَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِإِبْقَائِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

وَقَالُوا: إِنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ هَذَا الْعِقَابَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى الْمَلِكِ لِإِخْرَاجِهِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ عز وجل وَجَاءُوا عَلَيْهِ بِرِوَايَاتٍ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ أَوِ الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنْ قَبِلَهَا عَلَى عِلَّاتِهَا الْجُمْهُورُ كَعَادَتِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ:

(الْأَوَّلُ) عَطْفُ الْإِنْسَاءِ عَلَى مَا قَالَهُ لِلسَّاقِي بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ عَقِبَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - قَبْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَهُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ ذَنْبًا عُوقِبَ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ

يُعْطَفَ عَلَيْهِ

ص: 258

بِجُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ بِأَنْ يُقَالَ: وَقَدْ أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ - أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ - فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ، فَاسْتَحَقَّ عِقَابَهُ - تَعَالَى - بِإِطَالَةِ مُكْثِهِ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ وَحْدَهُ.

(الثَّانِي) أَنَّ اللَّائِقَ بِمَقَامِهِ أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَّا مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ مَا خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا بِأَمْرِ الْمَلِكِ، وَمَا أَمَرَ الْمَلِكُ بِإِخْرَاجِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ السَّاقِي خَبَرَهُ، وَمَا آتَاهُ رَبُّهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الرُّؤَى وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ، فَإِذَا كَانَ قَدْ وَصَّاهُ بِذَلِكَ مُلَاحِظًا أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي عِبَادِهِ مُتَذَكِّرًا ذَلِكَ - وَهُوَ اللَّائِقُ بِهِ - فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُعَاقِبَهُ رَبُّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَعَطْفُ الْإِنْسَاءِ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ هِيَ ذَنْبًا وَلَا مُقْتَرِنَةً بِذَنْبٍ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ.

(الثَّالِثُ) إِذَا قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ عِنْدَمَا أَوْصَى السَّاقِي مَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَهُ عَقِبَ الْوَصِيَّةِ وَاتَّكَلَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا. (قُلْنَا) : إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ النِّسْيَانُ مُدَّةَ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَهُوَ بِضْعُ سِنِينَ أَوْ تَتِمَّتُهَا، كُنْتُمْ قَدِ اتَّهَمْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ تُهْمَةً فَظِيعَةً لَا تَلِيقُ بِأَضْعَفِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، بَلْ يُبْطِلُهَا وَصْفُ اللهِ لَهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَمِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ الْمُصْطَفَيْنَ، وَبِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وَكَيْدَ النِّسَاءِ.

وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَاهُ ذِكْرَ رَبِّهِ بُرْهَةً قَلِيلَةً عَقِبَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَاقَبَتِهِ لَهُ عز وجل وَذِكْرِهِ فَهَذَا النِّسْيَانُ الْقَلِيلُ، لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْعِقَابَ الطَّوِيلَ، وَلَمْ يُعْصَمْ مِنْ مِثْلِهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: الرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ.

(الرَّابِعُ) جَاءَ فِي نُصُوصِ التَّنْزِيلِ فِي خِطَابِ الشَّيْطَانِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) 15: 42 وَقَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) 7: 201 فَالتَّذَكُّرُ بَعْدَ النِّسْيَانِ الْقَلِيلِ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ التَّقْوَى.

(الْخَامِسُ) أَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ ذَنْبًا يُعَاقِبُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - لِخَاتَمِ

النَّبِيِّينَ: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 6: 68 يَعْنِي الَّذِينَ أَمَرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ إِذَا رَآهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ.

(السَّادِسُ) أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَوَوْا فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَلَى قِلَّةِ جُرْأَةِ الرُّوَاةِ

ص: 259

عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الْمُسْنَدَةِ فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ)) وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بَاطِلٌ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا. سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْجَوْزِيُّ أَضْعَفُ مِنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ مِنَ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مُرْسَلًا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَهَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ هَهُنَا لَا تُقْبَلُ لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.

وَأَقُولُ: أَوَّلًا: إِنَّ مَا قَالَهُ فِي هَذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ لِلْحَدِيثِ هُوَ أَهْوَنُ مَا قِيلَ فِيهِمَا، وَمِنْهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَكْذِبَانِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ (هَهُنَا) الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مُرْسَلٍ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ الْجَدِيرُ بِأَلَّا تَحْجُبَهُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ عَنْ وَاضِعِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَخَالِقِهَا عز وجل. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ) مَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَهُوَ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمَرَاسِيلِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْمَرَاسِيلِ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ الْإِجْمَالِيِّ عَنْ رِوَايَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِتَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَمَا رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ مِنْ خِطَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَخِطَابِ جِبْرِيلَ لِيُوسُفَ وَتَوْبِيخِهِ عَلَى الِاسْتِشْفَاعِ بِآدَمِيٍّ مِثْلِهِ، فَهِيَ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا جَزَاهُمُ اللهُ مَا يَسْتَحِقُّونَ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَأْثُورَ فِي الْآيَةِ بَاطِلٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وَعَقِيدَةً وَلُغَةً وَأَدَبًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةٍ لُبْثِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ ((الْبِضْعِ)) وَاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى السَّبْعِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ فِي مُدَّةِ سِجْنِ يُوسُفَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ السَّبْعَ كَانَتْ بَعْدَ وَصِيَّتِهِ لِلسَّاقِي وَأَنَّهُ لَبِثَ قَبْلَهَا خَمْسَ سِنِينَ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

ص: 260

(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) .

رُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ وَتَأْوِيلِ يُوسُفَ لَهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ:

كَانَ مَلِكُ مِصْرَ فِي عَهْدِ يُوسُفَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِينَ بِالرُّعَاةِ (الْهِكْسُوسِ) كَمَا يَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ، وَقَدْ رَأَى رُؤْيَا عَجَزَ رِجَالُ دَوْلَتِهِ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَالْكَهَنَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَكَانَ عَجْزُهُمْ سَبَبًا لِلُّجُوءِ إِلَى يُوسُفَ عليه السلام وَاتِّصَالِهِ بِالْمَلِكِ وَتَوَلِّيهِ مَنْصِبَ الْوَزِيرِ الْمُفَوَّضِ عِنْدَهُ، كَمَا بُيِّنَ فِي الْآيَاتِ مَبْدَأً وَغَايَةً. قَالَ - تَعَالَى -:

(وَقَالَ الْمَلِكُ) هَذَا السِّيَاقُ عَطْفٌ عَلَى سِيَاقِ ((صَاحِبَيِ السِّجْنِ)) وَمَا قَالَاهُ فِي قَصِّ رُؤَاهُمَا عَلَى يُوسُفَ: (إِنِّي أَرَى) أَيْ رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رُؤْيَا جَلِيَّةً مَاثِلَةً

أَمَامِي كَأَنِّي أَرَاهَا

ص: 261

الْآنَ (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) جَمْعُ سَمِينَةٍ وَكَذَا سَمِينٌ كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَحِسَانٌ (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) أَيْ سَبْعُ بَقَرَاتٍ مَهَازِيلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْهُزَالِ، وَهُوَ جَمْعُ عَجْفَاءَ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا فَإِنَّ جَمْعَ أَفْعَلِ وَفَعْلَاءِ وِزَانُ فُعْلِ بِالضَّمِّ كَحُمْرِ وَخُضْرِ، وَحُسْنُهُ هُنَا مُنَاسَبَتُهُ لِـ ((سِمَانٍ)) . (وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ) عَطْفٌ عَلَى (سَبْعَ بَقَرَاتٍ) وَهِيَ جَمْعُ سُنْبُلَةٍ كَقُنْفُدَةٍ: مَا يُخْرِجُهُ الزَّرْعُ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَيَكُونُ فِيهِ الْحَبُّ (وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْيَابِسُ مِنَ السُّنْبُلِ مَا آنَ حَصَادُهُ، وَاسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ ((سَبْعِ)) هُنَا بِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ فِي الْبَقَرَاتِ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ يُخَاطِبُ رِجَالَ دَوْلَتِهِ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ:(أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) مَا مَعْنَاهَا وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَآلًا لَهَا (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أَيْ تَعْبُرُونَهَا بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعْنَى الْخَيَالِيِّ، كَمَنْ يَعْبُرُ النَّهْرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَاللَّامُ فِيهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّقْوِيَةِ، فَعَبْرُهَا وَعُبُورُهَا بِمَعْنَى. . . تَأْوِيلِهَا، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَآلِهَا الَّذِي يَقَعُ بَعْدُ.

(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) أَيْ هِيَ، أَوْ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ جِنْسِ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، أَيِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلَطَةِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْأَخْيِلَةِ الَّتِي يَتَصَوَّرُهَا الدِّمَاغُ فِي النَّوْمِ فَلَا تَرْمِي إِلَى مَعْنًى مَقْصُودٍ، وَأَصْلُ الْأَضْغَاثِ جَمْعُ ضِغْثٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحُزْمَةُ مِنَ النَّبَاتِ أَوِ الْعِيدَانِ، وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلُمٍ بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ. يُقَالُ: حَلَمَ كَنَصَرَ وَاحْتَلَمَ، وَمِنْهُ بُلُوغُ الْحُلُمِ، وَالْحُلُمُ قَدْ يَكُونُ وَاضِحَ الْمَعْنَى كَالْأَفْكَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ يَكُونُ - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - مُشَوَّشًا مُضْطَرِبًا لَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالتَّضَاغِيثِ، كَأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُزَمٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْحَشَائِشِ الَّتِي لَا تَنَاسُبَ بَيْنَهَا، وَهُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ مِنْ نَوْعَيِ الْبَقَرِ وَالسَّنَابِلِ (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأُولِي عِلْمٍ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِطَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَنَامَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَفْهُومَةِ، وَيُحْتَمَلُ نَفْيُ الْعِلْمِ بِجِنْسِ الْأَحْلَامِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ، أَوْ مِمَّا لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى بَعِيدٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الصُّوَرُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّوْمِ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَمَا يُنْكِرُ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْآنَ أَنْ

يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا. وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ الْكُلِّيَّةِ لِتَفْسِيرِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَهُوَ السَّاقِي أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِصَّةِ (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ طَائِفَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ وَصِيَّةَ يُوسُفَ إِيَّاهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْمَلِكِ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ (وَأَصْلُ ادَّكَرَ اذْتَكَرَ) افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ أُبْدِلَتْ تَاؤُهُ دَالًا مُهْمَلَةً لِقُرْبِ مَخْرَجِهِمَا وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ، وَهُوَ الْفَصِيحُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ لُغَةٌ. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِهِ أَوْ بِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ فَأَرْسَلُونِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى السِّجْنِ فَهُوَ فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجْنَ كَانَ خَارِجَ

ص: 262

الْبَلَدِ. وَفِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ: قَالَ الْقُضَاعِيُّ سِجْنُ يُوسُفَ بِبُوصِيرَ مِنْ عَمَلِ الْجِيزَةِ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَكَانِ، وَفِيهِ أَثَرُ نَبِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوسُفُ سُجِنَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّ مَبْلَغَهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَالْآخِرُ مُوسَى، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى أَثَرِهِ مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ مُوسَى إِلَخْ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يُوثَقُ بِهَا.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أَيْ قَالَ فَأَرْسَلُونِي إِلَيْهِ فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ فَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَلَأُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ، مُنَادِيًا لَهُ بِاسْمِهِ وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ لَقَبِهِ الصِّدِّيقُ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ غَايَةَ الْكَمَالِ بِالصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَتَعْبِيرِ الْأَحْلَامِ، شَارِحًا لَهُ رُؤْيَا الْمَلِكِ بِنَصِّهَا - وَهُوَ بَسْطٌ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ إِيجَازٍ فِي مَحَلِّهِ - قَائِلًا:(أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) وَعَلَّلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءَ بِمَا يَرْجُو أَنْ يُحَقِّقَ لِيُوسُفَ أَمَلَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَانْتِفَاعِ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ:

(لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أُولِي الْأَمْرِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِمَا تُلْقِيهِ إِلَيَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالرَّأْيِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَكَانَتَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُونَ مَا جَهِلُوا مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا

بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى تَعْلِيلٌ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِإِفْتَائِهِ، وَلَعَلَّ الثَّانِيَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَالرَّجَاءُ تَوَقُّعُ خَيْرٍ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ.

(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أَيْ قَالَ يُوسُفُ مُبَيِّنًا لِلْمَلَأِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُ، لِتَلَافِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنَ الْخَطَرِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَبْلَ وُقُوعِ تَأْوِيلِهَا الَّذِي بَيَّنَهُ فِي سِيَاقِ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَمَلِيِّ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ وَالْإِيجَازِ، وَلَا تَجِدُ لَهُ ضَرِيبًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ أُولِي الْأَمْرِ بِمَا لَقَّنَهُ لِلسَّاقِي خِطَابَ الْآمْرِ لِلْمَأْمُورِ الْحَاضِرِ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّرُوعَ فِي زِرَاعَةِ الْقَمْحِ دَائِبِينَ عَلَيْهِ دَأَبًا مُسْتَمِرًّا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) 14: 33 سَبْعَ سِنِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) 61: 11 وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ يُوجَدُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ قَوْلُهُ: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أَيْ فَكُلُّ مَا حَصَدْتُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ زَرْعَةٍ فَاتْرُكُوهُ - أَيِ ادَّخِرُوهُ - فِي سُنْبُلِهِ بِطَرِيقَةٍ تَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ بِعَدَمِ سَرَيَانِ الرُّطُوبَةِ إِلَيْهِ: الْحَبُّ لِغِذَاءِ النَّاسِ وَالتِّبْنُ لِغِذَاءِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْجُوعِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقْنَعُونَ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ بِالْقَلِيلِ، فَهَذِهِ السِّنِينُ السَّبْعُ تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ، وَالسُّنْبُلَاتُ السَّبْعُ الْخُضْرُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي كَوْنِ كُلِّ سُنْبُلَةٍ تَأْوِيلًا لِزَرْعِ سَنَةٍ.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) أَيْ سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ فِي مَحَلِّهِنَّ وَجَلْبِهِنَّ

ص: 263

(يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) أَيْ يَأْكُلُ أَهْلُهُنَّ كُلَّ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِسْنَادِهِمْ إِلَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَيَكْثُرُ إِسْنَادُ الْعُسْرِ وَالْجُوعِ إِلَى سِنِيِّ الْجَدْبِ، يُقَالُ: أَكَلَتْ لَنَا هَذِهِ السَّنَةُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَمْ تُبْقِ لَنَا خَفِيًّا وَلَا حَافِرًا، وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا، أَيْ لَا شَعْرًا وَلَا صُوفًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ الْعِجَافِ وَأَكْلِهِنَّ لِلسَّبْعِ السِّمَانِ، وَلِلسُّنْبُلَاتِ الْيَابِسَاتِ (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أَيْ تُحْرِزُونَ وَتَدَّخِرُونَ لِلْبَذْرِ.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ السَّبْعُ الشِّدَادُ (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أَيْ فِيهِ يُغِيثُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الشِّدَّةِ أَتَمَّ الْإِغَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، يُقَالُ: غَاثَهُ يَغُوثُهُ وَغَوَاثًا (بِالْفَتْحِ) وَأَغَاثَهُ إِغَاثَةً إِذَا أَعَانَهُ وَنَجَّاهُ، وَغَوَّثَ الرَّجُلُ، قَالَ:(وَاغَوْثَاهُ) وَاسْتَغَاثَ رَبَّهُ اسْتَنْصَرَهُ وَسَأَلَهُ الْغَوْثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَيْثِ وَهُوَ الْمَطَرُ، إِذْ يُقَالُ: غَاثَ اللهُ الْبِلَادَ غَيْثًا إِذَا أَنْزَلَ فِيهَا الْمَطَرَ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ خِصْبَ مِصْرَ يَكُونُ بِفَيَضَانِ النِّيلِ لَا بِالْمَطَرِ، فَإِنَّ فَيَضَانَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّهُ فِي مَجَارِيهِ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، فَاعْتِرَاضُ بَعْضِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَزَعْمُهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِنَ الْغَيْثِ وَأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، جَهْلٌ زَيَّنَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ تَلَذُّذًا بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ، (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي يَأْتَدِمُونَ بِهَا وَيَسْتَصْبِحُونَ كَالزَّيْتِ مِنَ الزَّيْتُونِ وَالْقُرْطُمِ وَغَيْرِهِ، وَالشَّيْرَجِ مِنَ السِّمْسِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَشْرِبَةِ مِنَ الْقَصَبِ وَالنَّخِيلِ وَالْعِنَبِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ هَذَا الْعَامَ عَظِيمُ الْخِصْبِ وَالْإِقْبَالِ، وَيَكُونُ لِلنَّاسِ فِيهِ كُلُّ مَا يَبْغُونَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْإِتْرَافِ، وَالْإِنْبَاءُ بِهَذَا زَائِدٌ عَلَى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ سِنِيِّ الشِّدَّةِ وَالْجَدْبِ دُونَ ذَلِكَ، فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّفْصِيلُ لَمْ يَعْرِفْهُ يُوسُفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عز وجل لَا مُقَابِلَ لَهُ فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ تَأْوِيلِهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ((تَعْصِرُونَ)) بِالْخِطَابِ كَـ ((تَزْرَعُونَ)) وَ ((تُحْصِنُونَ)) . وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَطْفٌ عَلَى (يُغَاثُ النَّاسُ) وَفَائِدَةُ الْقِرَائَتَيْنِ: بَيَانُ الْمِنَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ، وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ.

ص: 264

(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ

نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) .

(طَلَبُ الْمَلِكِ لِيُوسُفَ وَتَمَكُّثُهُ فِي الْإِجَابَةِ لِأَجْلِ التَّحْقِيقِ فِي مَسْأَلَةِ النِّسْوَةِ) :

مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ الْمَلِكَ وَمَلَأَهُ مَا قَالَهُ لَهُ يُوسُفُ عليه السلام وَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْخَطْبَ جَلَلٌ، وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ ذُو عِلْمٍ وَاسِعٍ، وَتَدْبِيرٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِيمَا يَصِفُهُ مِنْ حَالَيِ: السِّعَةِ وَالشِّدَّةِ، وَقَدْ طُوِيَ ذَلِكَ إِيجَازًا لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) لِأَسْمَعَ كَلَامَهُ بِأُذُنِي، وَأَخْتَبِرَ تَفْصِيلَ رَأْيِهِ وَدَرَجَةَ عَقْلِهِ بِنَفْسِي فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ وَبَلَّغَهُ أَمْرَ الْمَلِكِ (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) قَبْلَ شُخُوصِي إِلَيْهِ وَوُقُوفِي بَيْنَ يَدَيْهِ:(مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أَيْ مَا حَقِيقَةُ أَمْرِهِنَّ مَعِي، فَالْبَالُ: الْأَمْرُ الَّذِي يُهْتَمُّ بِهِ وَيُبْحَثُ عَنْهُ، فَهُوَ يَقُولُ: سَلْهُ عَنْ حَالِهِنَّ لِيَبْحَثَ عَنْهُ وَيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ آتِيَهُ وَأَنَا مُتَّهَمٌ بِقَضِيَّةٍ عُوقِبْتُ عَلَيْهَا أَوْ عَقِبُهَا بِالسِّجْنِ، وَطَالَ مُكْثِي فِيهِ وَأَنَا غَيْرُ مُذْنِبٍ فَأَقْبَلُ مِنْهُ الْعَفْوَ (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) وَقَدْ صَرَفَهُ عَنِّي فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْهُ سُوءٌ مَعَهُنَّ، وَرَبُّكَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَ رَبِّي مِنْهُ.

وَفِي هَذَا التَّرَيُّثِ وَالسُّؤَالِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ فِي أَخْلَاقِ يُوسُفَ عليه السلام وَعَقْلِهِ وَأَدَبِهِ فِي سُؤَالِهِ (مِنْهَا) دَلَالَتُهُ عَلَى صَبْرِهِ وَأَنَاتِهِ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ لَقِيَ مَا لَقِيَ مِنَ الشَّدَائِدِ أَنْ يَكُونَ صَبُورًا حَلِيمًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ نَبِيًّا وَارِثًا لِإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ ((بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ)) ؟ وَفِي حَدِيثِ

ص: 265

أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: ((وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ)) وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: ((لَوْ كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ)) وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي تَعَجُّبِ النَّبِيِّ مِنْ صَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَوْنِهِ لَوْ كَانَ مَكَانَهُ لَمَا أَوَّلَ لَهُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنَ

السِّجْنِ، وَلَوْ أَتَاهُ الرَّسُولُ لَبَادَرَهُمُ الْبَابَ. فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.

(وَمِنْهَا) عِزَّةُ نَفْسِهِ وَحِفْظُ كَرَامَتِهَا؛ إِذْ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِالْبَاطِلِ حَتَّى يُظْهِرَ بَرَاءَتَهُ وَنَزَاهَتَهُ. (وَمِنْهَا) وُجُوبُ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَإِبْطَالُ التُّهَمِ الَّتِي تُخِلُّ بِالشَّرَفِ كَوُجُوبِ اجْتِنَابِ مُوَافَقَتِهَا. (وَمِنْهَا) مُرَاعَاتُهُ النَّزَاهَةَ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَرْكُ أَمْرِ التَّحْقِيقِ إِلَى الْمَلِكِ يَسْأَلُهُنَّ مَا بَالُهُنَّ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَيَنْظُرُ مَا يُجِبْنَ بِهِ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَيِّدَتَهُ مَعَهُنَّ وَهِيَ أَصْلُ الْفِتْنَةِ وَفَاءً لِزَوْجِهَا وَرَحْمَةً بِهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَ شَغَفِهَا بِهِ كَانَ وِجْدَانًا قَاهِرًا لَهَا، وَإِنَّمَا اتَّهَمَهَا أَوَّلًا عِنْدَ وُقُوفِهِ مَوْقِفَ التُّهْمَةِ لَدَى سَيِّدِهَا وَطَعْنِهَا فِيهِ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَهُوَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بُدٌّ مِنْهُ.

(قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الْخَطْبُ: الشَّأْنُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّخَاطُبُ وَالْبَحْثُ لِغَرَابَتِهِ أَوْ إِنْكَارِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِلْمَلَائِكَةِ (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) 15: 57 وَقَوْلُ مُوسَى فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ: (فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ) 20: 95؟ وَقَوْلُهُ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تَذُودَانِ مَاشِيَتَهُمَا عَنْ مَوْرِدِ السُّقْيَا: (مَا خَطْبُكُمَا) 28: 23 وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَأَمْثَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ الْمَلِكَ قَوْلَ يُوسُفَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ السِّجْنِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ حَتَّى يُحَقِّقَ مَسْأَلَةَ النِّسْوَةِ، فَجَمَعَهُنَّ وَسَأَلَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ الَّذِي حَمَلَكُنَّ عَلَى مُرَاوَدَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، هَلْ كَانَ عَنْ مَيْلٍ مِنْهُ إِلَيْكُنَّ، وَمُغَازَلَةٍ لَكُنَّ قَبْلَهَا؟ . هَلْ رَأَيْتُنَّ مِنْهُ مُوَاتَاةً وَاسْتِجَابَةً بَعْدَهَا؟ أَمْ مَاذَا كَانَ سَبَبُ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ؟ (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أَيْ مَعَاذَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ أَدْنَى شَيْءٍ يُشِينُهُ وَيَسُوءُهُ لَا كَبِيرَ وَلَا صَغِيرَ، وَلَا كَثِيرَ وَلَا قَلِيلَ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفْيُ الْعِلْمِ مَعَ تَنْكِيرِ سُوءٍ وَدُخُولُ مِنْ عَلَيْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ رُؤْيَةِ السُّوءِ عَنْهُ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أَيْ ظَهَرَ بَعْدَ خَفَائِهِ وَانْحَسَرَتْ رَغْوَةُ الْبَاطِلِ عَنْ مَحْضِهِ، وَهُوَ تَكْرَارٌ مِنْ حِصَّةٍ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ حِصَّةٌ بَعْدَ حِصَّةٍ (بِالْكَسْرِ) وَهِيَ النَّصِيبُ لِكُلِّ شَرِيكٍ فِي شَيْءٍ، مِثْلُ كَبْكَبَ وَكَفْكَفَ الشَّيْءَ إِذَا كَبَّهُ وَكَفَّهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهِيَ تَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَانَ فِي رَأْيِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ مُوَزِّعُ التَّبِعَةِ بَيْنَنَا مَعْشَرَ النِّسْوَةِ وَبَيْنَ يُوسُفَ؛ لِكُلٍّ مِنَّا حِصَّةٌ، بِقَدْرِ مَا عَرَضَ فِيهَا مِنْ شُبْهَةٍ، وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ

عَوَاذِلِي شَهِدْنَ بِنَفْيِ السُّوءِ عَنْهُ وَهِيَ شَهَادَةُ نَفْيٍ، فَشَهَادَتِي لَهُ عَلَى نَفْسِي شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ؟

ص: 266

(أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وَهُوَ لَمْ يُرَاوِدْنِي، بَلِ اسْتَعْصَمَ وَأَعْرَضَ عَنِّي (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فِيمَا اتَّهَمَنِي بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَحَمَلَهُ أَدَبُهُ الْأَعْلَى وَوَفَاؤُهُ الْأَسْمَى لِمَنْ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُ إِلَى الْآنِ، وَنَحْنُ جَزَيْنَاهُ بِالسَّيِّئَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْخَصْمُ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ.

(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أَيْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ لَهُ، وَالشَّهَادَةُ بِالصِّدْقِ الَّذِي عَلِمْتُهُ مِنْهُ، لِيَعْلَمَ الْآنَ - إِذْ يَبْلُغُهُ عَنِّي - أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ عَنْهُ مُنْذُ سُجِنَ إِلَى الْآنِ بِالنَّيْلِ مِنْ أَمَانَتِهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي شَرَفِهِ وَعِفَّتِهِ، بَلْ صَرَّحْتُ لِجَمَاعَةِ النِّسْوَةِ بِأَنَّنِي رَاوَدْتُهُ فَاسْتَعْصَمَ وَهُوَ شَاهِدٌ، وَهَأَنَذَا أُقِرُّ بِهَذَا أَمَامَ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ وَهُوَ غَائِبٌ، (وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بَلْ تَكُونُ عَاقِبَةُ كَيْدِهِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالنَّكَالَ، وَلَقَدْ كِدْنَا لَهُ فَصَرَفَ رَبُّهُ عَنْهُ كَيْدَنَا وَسَجَنَّاهُ فَبَرَّأَهُ وَفَضَحَ مَكْرَنَا، حَتَّى شَهِدْنَا لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّامِي عَلَى أَنْفُسِنَا.

وَهَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى تَبْرِئَةِ نَفْسِهَا مِنْ خِيَانَتِهِ بِالْغَيْبِ، اعْتَرَفَتْ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بِأَنَّهَا لَا تُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنَ الْكَيْدِ لَهُ بِالسِّجْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ هَوَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَذْلِيلُهُ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى طَاعَتِهَا، وَفِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا تَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي حَصَلَ أَقْرَرْتُ بِهِ لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ خَلْوَاتِي بِيُوسُفَ فِي غَيْبَتِهِ عَنَّا، وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ أَنَّنِي رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ الْفَاتِنَ الَّذِي وَضَعَهُ فِي بَيْتِي، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنِي، فَاسْتَعْصَمَ وَامْتَنَعَ، فَبَقِيَ عِرْضُهُ - أَيِ الزَّوْجِ - مَصُونًا، وَشَرَفُهُ مَحْفُوظًا، وَلَئِنْ بَرَّأْتُ يُوسُفَ مِنَ الْإِثْمِ فَمَا أُبَرِّئُ مِنْهُ نَفْسِي فَـ (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) 53 وَسَيَأْتِي أَنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - بِبَعْضِ الْأَنْفُسِ صَرْفَهَا عَنِ الْأَمْرِ السُّوءِ وَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَمِنْهَا حِفْظُهُ إِيَّاهَا مِنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ بِوَازِعٍ مِنْهَا، وَهِيَ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهَا عَدَمُ تَيَسُّرِ عَمَلِ السُّوءِ، لَهَا بِامْتِنَاعِ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِّ (أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا تَجِدَ) .

هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ

اتِّبَاعًا لِلرِّوَايَاتِ الْخَادِعَةِ إِلَى أَنَّهُمَا حِكَايَةٌ عَنْ يُوسُفَ عليه السلام يَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي كَانَ مِنِّي إِذِ امْتَنَعْتُ مِنْ إِجَابَةِ الْمَلِكِ وَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِي قَضِيَّةِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجِهِ بِالْغَيْبِ إِلَخْ، وَأَنَّهُ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ! وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَبَرَّأُ مِنْهُ السِّيَاقُ وَالنَّظْمُ وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى كَثْرَةِ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ مُرَجِّحًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ:

ص: 267

وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَشْهَرُ وَالْأَلْيَقُ وَالْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْقِصَّةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَانْتَدَبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَةٍ. انْتَهَى، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ أَعْلَمِ الْمُحَدِّثِينَ بِنَقْدِ الرِّوَايَاتِ فَهُوَ مَا نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا وَقَدْ فَنَّدَ رِوَايَاتِ الْقَوْلِ الْآخَرِ.

وَقَدْ عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام كَانَ مَثَلَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الْأَعْلَى لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ، لَمْ يَمَسَّهُ أَدْنَى سُوءٍ مِنْ فِتْنَةِ النِّسْوَةِ، وَأَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ فِي نِسَاءِ مِصْرَ بَلْ نِسَاءِ الْعَالَمِ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ كَانَ أَكْبَرُ إِثْمِهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَكَانَتْ هِيَ ذَاتَ مَزَايَا فِي عِشْقِهَا الَّذِي كَانَ اضْطِرَارِيًّا لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الشَّابِّ الَّذِي بَلَغَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَمِنْ مَزَايَاهَا أَنَّهَا لَمْ تَتَطَلَّعْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ إِجَابَةً لِدَاعِيَةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلتَّسَلِّي عَنْهُ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ، وَأَنَّهَا لَمْ تَتَّهِمْهُ بِالْجُنُوحِ لِلْفَاحِشَةِ قَطُّ، وَكُلُّ مَا قَالَتْهُ لِزَوْجِهَا إِذْ فَاجَأَهُمَا لَدَى الْبَابِ (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) 25 تَعْنِي بِهِ هَمَّهُ بِضَرْبِهَا، وَأَنَّهَا فِي خَاتِمَةِ الْأَمْرِ أَقَرَّتْ بِذَنْبِهَا فِي مَجْلِسِ الْمَلِكِ الرَّسْمِيِّ إِيثَارًا لِلْحَقِّ وَإِثْبَاتًا لِبَرَاءَةِ الْمُحِقِّ، فَأَيَّةُ مَزَايَا أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ لِمَنِ ابْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذَا الْعِشْقِ؟ وَفِي تَارِيخِ الْفِرْدَوْسِيِّ أَدِيبِ الْفُرْسِ أَنَّهُ صَنَّفَ قِصَّةً غَرَامِيَّةً فِي زَلِيخَا وَيُوسُفَ صَوَّرَ فِيهَا الْعِفَّةَ بِأَجْمَلِ صُوَرِهَا، وَزَلِيخَا (بِالْفَتْحِ) اسْمُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي أَشْهَرِ تَوَارِيخِنَا، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهَا رَاعِيلُ، وَسَنُفَصِّلُ الْعِبَرَ فِي الْقِصَّةِ، فِي التَّفْسِيرِ الْإِجْمَالِيِّ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

تَمَّ تَفْسِيرُ الْجُزِءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1354 هـ، وَكَانَ الْبَدْءُ بِهِ فِي صَفَرٍ 1353 هـ وَاللهَ نَسْأَلُ تَوْفِيقَنَا لِإِتْمَامِ سَائِرِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَا يَرْضَاهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ.

ص: 268