الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن إجماعٌ فقولُ الواحد من الصحابة، فقولُ الصحابي أولى من غيره، ولاسيَّما من قامت الحجة على أنه بخصوصه من المنعَم عليهم كالخلفاء الأربعة وغيرهم. وقِسْ على هذا.
ومن إجماعهم: تركُهم لكثير من الأمور التي انتشرت بين المسلمين بعدَهم على أنها من الدين. فنقول: هذا الفعل بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه. ولو كان من الدين لما اتَّفقوا على تركه. والله أعلم.
"
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
قال أهل العربيّة: إن كلمة "غير" لا تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لتوغُّلها في الإبهام. واستثنى جماعة من محققيهم
(1)
ما إذا وقعت بين متضادين معرفتين، وذلك لزوال الإبهام؛ وهي ههنا كذلك.
فمن قال: لا تتعرَّف، حمَلَها في هذا الموضع على أنها بدل من "الذين". وإبدالُ النكرة من المعرفة جائز عند البصريين بشرط حصول الفائدة.
وقال الكوفيون: لا يجوز إلا إذا اتَّحد اللفظُ ونُعِتت النكرةُ
(2)
، كما في
(1)
ومنهم ابن السرَّاج والسيرافي. انظر: "توضيح المقاصد"(791) و"حاشية الصبان"(1/ 366).
(2)
الشرط الأول وهو اتحاد اللفظ نقله ابن مالك عن الكوفيين في "شرح التسهيل"(3/ 331). ولكن إعرابَ الكسائي والفراء لكلمة "قتال" في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] بأنَّ خفضه على نية "عن" مضمرة= لا يؤيد ما نقله. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 141) و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 107). ونبَّه على ذلك أبو حيان في "ارتشاف الضرب"(1962) وقال: "ونسب بعض أصحابنا ما نقله ابن مالك عن الكوفيين إلى نحاة بغداد لا إلى نحاة الكوفة".
قوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15 ــ 16].
وقال جماعة ــ وعليه جرى ابن جرير
(1)
ــ: إن الموصول مع صلته يضعف تعريفه، فيصح إبدالُ النكرة منه.
وقال بعضهم: هي نعت لِـ"الذين"، إما بأن تكون هي معرفة لوقوعها بين متضادَّين معرفتين، وإما لضعف تعريف الموصول.
والذي يظهر أنه على فرض أن "غير" لا تتعرف بوقوعها بين متضادين معرفتين، فعلى الأقل تقرب من المعرفة. فهي قريبة من المعرفة، و"الذين" بصلته قريب من النكرة، فالتقيا، فيصح البدل والنعت
(2)
.
هذا، والأولى هنا البدل، لأن البصريين ــ والاعتماد عليهم ــ لم يشترطوا له إلا حصول الفائدة. وصحته هنا قائمةٌ الحجةُ بها على الكوفيين بما ذكرنا.
هذا، والفائدة على نحو ما تقدم. أي أنَّ في هذا تنبيهًا للمؤمنين على أخذ أنفسهم باجتناب ما عليه المغضوب عليهم والضالُّون. وفيه هدايةٌ لهم بأنَّ المغضوب عليهم والضالِّين وإن كانوا في الأصل أو بزعمهم متَّبِعين صراطَ الأنبياء المنعمَ عليهم، فهم أنفسُهم غيرُ منعَم عليهم، فطريقُهم مخالفٌ لصراط المنعَم عليهم، فهو مخالفٌ للصراط المستقيم.
(1)
الذي جرى عليه ابن جرير في "تفسيره"(1/ 180) هو أن "غير" صفة للاسم الموصول. وهو الوجه الثاني من القول التالي.
(2)
انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري (1/ 10).
وقوله: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} كان الظاهر أن يقال: الذين غضبتَ عليهم. ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ في العدول عن ذلك هنا أنَّ الفاتحَة سورةُ رحمةٍ مكرَّرةٍ وحمدٍ وثناءٍ، والتصريحُ بنسبة الغضب [إلى]
(1)
الله تعالى لا يساعد ذلك في بادي النظر، وإن كان غضبُ الله على من غضِبَ عليه هو من لوازم الرحمة العامَّة، وهو مقتضٍ لحمد الله تعالى عليه؛ لأنه مع صرف النظر عن
الرحمة العامَّة مقتضى الحكمة البالغة.
ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ تنبيهُ المتدبِّر على أنَّ المدار على الرحمة، وأنَّ الغضب كالعارض. ولذلك اشتَقَّ اللهُ لنفسه أسماءً من الرحمة والرأفة ونحوها، ولم يشتقَّ لنفسه اسمًا من الغضب. وفي "الصحيحين" في الحديث القدسي:"إنَّ رحمتي سبقت غضبي"
(2)
.
ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ تعليمُ العبادِ حسنَ الأدب مع ربِّهم عز وجل، فلا ينسبون إليه تصريحًا ما قد يُوهِم.
ومنها ــ والله أعلم ــ تأنيسُ المؤمن؛ لأنه إذا تلا هذه السورة متدِّبرًا حقَّ التدبُّر، فقد صار على حالٍ عظيمةٍ من الخضوع والتعظيم لربِّه عز وجل والتوحيدِ والحرصِ على الاهتداء واتباعِ الصراط المستقيم وصدقِ الإقبال على ربه عز وجل وغير ذلك، فاستحقَّ إيناسَه بأن لا يقع بعد ذلك كلِّه تصريحٌ بنسبة الغضب إلى ربِّه عز وجل. فإنْ تدبَّر وعرَفَ أنَّ المعنى على ذلك آنسه العدولُ عن التصريح لما فيه من التنبيه على الحِكَم المذكورة.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سبق تخريجه.
وقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} أي وغيرِ الضالِّين. والضلالُ خلاف الاهتداء. فالمعنى: وغيرِ الذين ضلُّوا عن سبيل الحق.
ولم يقل: "ولا الذين أضللتَ"، لنحو ما تقدَّم، وللتنبيه على أنَّ أصلَ الضلال إنما يجيء من العبد نفسه، فأما إضلالُ الربِّ عز وجل لمن شاء، فإنما يقع عقوبةً لمن اختار الضلال لنفسه وأصرَّ عليه. قال تعالى:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ الكلام على ذلك
(1)
.
هذا وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن جماعة ممن بعده من الصحابة والتابعين أنَّ المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، وبالضالِّين: النصارى
(2)
. وفي القرآن ما يشهد لذلك. وهو الذي يقتضيه السياق، لأنه قد تقدَّم ذكرُ الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن أنَّ رؤوسهم الأنبياء ثم أتباعهم. وقد عُرف أنَّ اليهودَ كان أوائلُهم من أتباع الأنبياء كموسى وهارون، وكان فيهم بعد ذلك عدد من الأنبياء، وأنَّ النصارى من أتباع عيسى مع اتباعهم لموسى وهارون ومَن بعدهما، وأواخر الأمتين يزعمون أنهم كأوائلهم ومعروفون بين الناس أنهم في الجملة من أتباع الأنبياء= فقد يُتوهَّم دخولُ اليهود والنصارى في المنعَم عليهم، فربَّما يحمل ذلك على اتباعهم في بعض الأشياء توهُّمًا من الصراط المستقيم. هذا مع كثرة ملابسة المسلمين لهاتين الأمتين.
(1)
لم أجده في الأصل.
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 185 ــ 188)، (1/ 193 ــ 195).
[ل 65/ب] فاقتضت الحكمةُ أن يبيِّن الله عز وجل لعباده خروجَ اليهود والنصارى عن المنعَم عليهم، وبيِّنٌ سببُ ذلك، وهو أنَّ اليهود خرجوا في الواقع عن الصراط المستقيم الذي كان عليه موسى وهارون ومَن بعدهما من الأنبياء خروجًا أوجَبَ عليهم الغضبَ، وأنَّ النصارى خرجوا عن الصراط المستقيم الذي كان عليه عيسى والأنبياء من قبله، وضلُّوا الضلالَ البعيدَ. فعُلِمَ بذلك أنَّ ما هم عليه مخالفٌ للصراط المستقيم وأنَّ ما بأيديهم من
الكتب لا يوثق بها.
وزعم جماعة من المتأخرين
(1)
أن الأَولى حملُ المغضوب عليهم والضالين على العموم، أي كُلِّ مغضوب عليه وكلِّ ضالٍّ.
وأقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأنه مع مخالفته للمأثور، ومخالفته للسياق، وإخلاله ببعض الفوائد المتقدمة، ليس فيه فائدة. على أنَّ حاصله حاصلٌ أيضًا مع التفسير المأثور، فإنه إذا عُلِمَ أنَّ اليهودَ مغضوبٌ عليهم، لا منعَم عليهم، فصراطُهم مخالفٌ للصراط المستقيم، فعلى المسلم الحذرُ مما هم عليه؛ وأنَّ النصارى ضالُّون غيرُ منعَم عليهم، فكذلك كان في ذلك تنبيه
(2)
على أنَّ كلَّ من تحقَّق أنه مغضوب عليه أو ضالٌّ، فالحال فيه كذلك. والله الموفق، لا إله إلا هو.
* * * *
(1)
في الأصل: "المتأخرون"، سهو.
(2)
في الأصل: "تنبيهًا"، سهو.
مسألة
قال ابن جرير
(1)
: "اختُلِف في صفة الغضب من الله جلَّ ذكرهُ، فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضِبَ عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضِبَ عليه
…
وقال بعضهم: غضبُ الله على من غَضِب عليه من عباده ذمٌّ منه لهم [ولأفعالهم]
(2)
وشتمٌ منه لهم بالقول. وقال بعضهم: الغضب معنى مفهوم كالذي يُعرف من معاني الغضب، غيرَ أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات، فمخالفٌ معناه [منه] معنى ما يكون مِن غضب [الآدميين] الذين يُزعجهم ويُحرِّكهم ويَشُقُّ عليهم ويؤذيهم، لأنَّ الله جلَّ ثناؤه لا تحلُّ ذاتَه الآفاتُ، ولكنه له صفة، كما العلمُ له صفةٌ، والقدرة له صفة، على ما يُعقَل من جهة الإثبات، وإن خالفتْ معاني ذلك معانيَ علوم العباد، التي هي معارف القلوب وقواهم التي تُوجَد مع وجود الأفعال وتُعدَم مع عدمها".
أقول: القولان الأولان كأنهما لبعض معاصريه أو متقدِّميه قليلًا ممن خاض في هذه الأشياء. فأمَّا السلفُ فلم يشتبه عليهم الأمر، لأنَّ معنى الغضب في حدِّ ذاته معنى مكشوف، والعرب تفهمه مطلقًا، ثم تنسبُه وتفهم نسبتَه إلى من اتصف به على حسب ما يليق به. وقد علموا أنَّ الربَّ عز وجل ليس من جنس خلقه، فلا يفهمون من نسبة الغضب إليه سبحانه أنَّ غضبه كغضب الإنسان من كل وجه، حتى يلزمَه كلُّ ما يلزم غضبَ الإنسان.
(1)
في "تفسيره"(1/ 188 ــ 189).
(2)
ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زدته من "تفسير الطبري".
ومَن تأمَّل المواقع التي نُسب الغضبُ فيها إلى الربِّ عز وجل في الكتاب والسنَّة علم أنَّ غالبها لا يحتمل التأويل. والله الهادي إلى سواء السبيل.