المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌دعوة المرسلين يقول الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) - توجيهات إسلامية لعبد الله بن حميد

[عبد الله بن حميد]

الفصل: ‌ ‌دعوة المرسلين يقول الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

‌دعوة المرسلين

يقول الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الحكمة في خلق الجن والإنس وهي أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ومن المعلوم أن من عبد الله ولكن عَبَدَ معه غيره أنه لم يعبد الله وحده بل أشرك معه في عبادته، فالإشراك في عبادة الله مفسدة لها كما يفسد الحدث الطهارة. فإن الله سبحانه وتعالى أمر بعبادته وحده ولذلك يقول ابن عباس كل ما ورد في القرآن "اعبدون" فالمراد وحِّدون، والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، فإن لا نافية للجنس، فقد نفت جنس الإله أن يكون أحد منهم يستحق التأله بحق أو يصرف شيء من العبادة له، ثم أثبت بقوله إلا الله العبادة لله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه ليس له شريك في ربوبيته وهذا هو قول الخليل عليه السلام (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) فاستثنى من المعبودين ربه وتبرأ مما سواه فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لانفصام لها، وهذا المعنى في القرآن والسنة كثيرجدا وهو حقيقة ما دعت الرسل إليه أممهم قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ، (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) إذا عرفت هذا علمت أن من صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك بالله والشرك مبطل للعمل فمن أنواع العبادة التي أمر الله بها ولا يجوز صرفها لغيره الدعاء والاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والتأله والخشوع.

فمن دعا أحدا غير الله من الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو غيرهم من سائر المخلوقات. فقد أشرك بالله ودخل في وعيد الله بقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) قال تعالى: (ادعوني أستجب لكم) الآية فقد سمى الله الدعاء عبادة بل هو العبادة كما في الحديث الصحيح. ونهى سبحانه أن يدعى معه أحد كائنا من كان. قال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وكذلك من ذبح لغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره قال الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) وقد فسر العلماء النسك بالذبح. وكذلك النذر لا يجوز أن ينذر لغير الله ومن نذر لغير الله حرم عليه الوفاء به. وإنما الذي يجب الوفاء به هو إذا كان لله كما قال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) ويقول تعالى: (أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) ، (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ، (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) ، (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) ، (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) ، (أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) ، (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) ، (فلا تخشوا الناس واخشوني) ، (إنهم كانوا يدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) ، (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) .

إذا عرفت حقيقة التوحيد وما دعت إليه الرسل أممهم علمت أن من فعل ما نهى الله عنه أو رسوله أو ترك شيئا مما أمر الله به ورسوله فقد حصل عليه من الخلل والنقص في دينه بحسب ما فعل من المنهي عنه أو بحسب ما ترك من المأمور به فقد يخرج من الإسلام وهو لا يشعر وقد ينقص توحيده وهو لا يعلم ومن ذلك ما يفعله بعض المنتسبين للإسلام من دعاء الأموات والغائبين ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك ذلك لغيره وسواء كان المدعو رسولا أو نبيا أو مَلَكا أو وليا أو شمسا أو قمرا أوغير ذلك من سائر المخلوقات. وإن كان الداعي يعلم أن الله هو الخالق الرازق وأن بيده الأمر كله ولكنه يطلب ممن يدعو أن يشفع له عند الله فإن ذلك مناف للتوحيد كما قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) .

ص: 4

ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من البناء على القبور وتجصيصها واتخاذ السرج عليها. كل ذلك خوفا من أن يكون وسيلة إلى الصلاة عندها ودعاء الميت والاستغاثة به فمما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمها كما قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته) ، وساق بسنده عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص على القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه) ، وساق عن ثمامة قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها) . وقال الترمذي: باب ما جاء في القبور: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن وائل أن عليا رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته) ، وقال في الباب عن جابر رضي الله عنه وقال ابن ماجة في باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها: حدثنا زهير بن مروان حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور) ، حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا حفص بن عثمان عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء) . حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم ابن مخيمرة عن أبي سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور) .

وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قال الشافعي في الأم:

(رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى)، ويؤيد الهدم قوله:(ولا قبرا مشرفا إلا سويته)، وقال الأذرعي في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء. وفي الترمذي وغيره النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها.

ص: 5

والوصية باطلة: قال الأذرعي: (والوجه في تحريم البناء على القبور المباهاة والمضاهاة بالجبابرة والكفار، والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القبور وغيرها من الأبنية العظيمة في إنفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك) .اهـ كلام الأذرعي رحمه الله. وقد روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه) و (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها) كما تقدم في صحيح مسلم وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: (باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها حدثنا عبد الرحمن بن الأسود حدثنا محمد بن ربيعة عن بن جريح عن أبي الزبير قال نهى رسول الله أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ) هذا حديث حسن صحيح وقال أبو داوود: (باب البناء على القبور) حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليه) اهـ إذا تبين ذلك فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة لا مطعن فيها ولا مغمز شاهدة على أن وضع القباب والبناء على القبر والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها وإسراجها أمر تقرر في الشرع منعه. تحذيرا لنا أن نسلك سنن من قبلنا. وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب (عرف حقيقة ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم: قال النووي وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك وكل ذلك حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أويهوديا، نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما صار بالذبح مرتدا، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) قال القرطبي رحمه الله وإنما صوروا تلك الصور ليتأسوا بهم ويعملوا أعمالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر ما يفعله المشركون عند القبور فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة في صلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة.

وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالإضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم. أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. اهـ. وروى مسلم عن جندب ابن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم ـ كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) .

قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغة لاتفعلوا وأني أنهاكم عن ذلك ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه ولم يخش ربه ومولاه. وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله.

ص: 6

ـ وقال رحمه الله يجب هدم القباب التي بنيت على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي والظهير الترمذي وغيرهما قال الإمام الصنعاني رحمه الله في تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد بعد أن ذكر فصولا نافعة بين منها أقسام التوحيد وأنواع العبادات

(فصل) الاعتقاد في غير الله شرك: قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به إلى أن قال: واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان فضلا عن من ينذر بماله وولده لميت أو حي أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من مطالب فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا فالأسماء لا أثر لها ولا تغير المعنى ضرورية لغوية وعقلية وشرعية. فإن من شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا خمرا وعقابه عقاب شارب الخمر ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية إلى أن قال وكذلك تسمية القبر مشهدا ومن يعتقدون فيه وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأ صنام ويطوفون بها طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونها استلام أركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها. قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح الصدور بتحريم رفع القبور: اعلم أنه قد اتفق سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لفاعلها كما يأتي بيانه ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين اهـ. قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم على حديث جندب رضي الله عنه: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره واتخاذ قبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية وقال الشيخ محمد صديق حسن القنوجي البخاري في كتابه الدين الخالص: وأما فتنة القبور فقد أدت إلى الشرك بالله في صفاته الخاصة به عز وجل وطال ذيولها وسالت سيولها وأولدت فتنا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى إلى أن هجرت عبادة الرب وجعلوه معطلا وصارت العبادة كلها للأموات واعتقدوا فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في خالق الكائنات وابتدعوا لهم أنواع التصرفات في العالم وابتلي بذلك كل جاهل في الدنيا والعالم وصارت القبور قبلة الحاجات وكعبة المرادات واستراحوا في الاستغاثة لغير رب الأرباب وجعلوا للموتى المشاهد وبنوا لهم ألوانا من القباب ولم يعلموا أن هذه الافتعالات مضادة للشريعة الحقة ماحية للسنن الصادقة فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا شك أن أصل شرك العالم طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولاضرا فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه يقول تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. ولذلك لما قال أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" وجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو جعله وساطة بينه وبين الله من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة.

ص: 7

فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلو قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص للأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص بأنهم ظنوا أو يعتقدون أنهم راضون عنهم بهذا وأنهم أمروهم به وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستعجبين لهم؟ ومن جمع بين معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وعرف ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وعلم ما عليه أصحابه والسلف الصالح ورأى ما عليه أكثر الناس اليوم رأى بينهما فرقا عظيما ومخالفة صريحة لسننه صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها وهؤلاء يوقفون الأوقاف على إضاءتها ونهى أن تتخذ أعيادا وهؤلاء يتخذونها أعيادا وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن جابر ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي عن جابر ونهى أن لا يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن جابر وهؤلاء يتخذون عليها القباب ويكتبون عليها القرآن ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال إلى أن شرعوا للقبور حجا. وانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وما شرعه هؤلاء ونحن لا ننكر ما لأولياء الله من الفضل العظيم عند الله، قال تعالى:(ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) ولكن لا يلزم من هذا دعاؤهم والاستعانة بهم والتوجه إليهم في طلب الحوائج وكشف الشدائد بل هذا لله وحده وإنما ينبغي الاقتداء بأفعالهم والاهتداء بأقوالهم ما داموا متبعين للكتاب والسنة لا يأمرون ولا ينهون إلا وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 8