المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من أحكام الحج

‌من أحكام الحج

وبعد: فلما كان في السنة العاشرة من الهجرة النبوية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بعزمه على الحج وأعلم الناس بذلك كي يتأهبوا للحج معه صلى الله عليه وسلم ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أحواله وأفعاله ويستمعوا إلى أقواله وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ويبلغ الشاهد الغائب ما رأى وما سمع من أفعال وأقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس الاقتداء والاهتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة وخرج معه أصحابه الكرام وعددهم ينوف على المائة ألف حتى إذا كان بالبيداء استوت به ناقته والناس عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه وهو يتوسطهم أهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بإهلاله قال جابر أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. وأصبح ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام أهل بالحج والعمرة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(أتاني آت من ربى في هذا الوادي المبارك وقال قل عمرة في حجة) وهذا من أدلة إدخال الحج على العمرة ولا عكس. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة وبات بذي طوى واغتسل فيها ثم سار ودخل البيت من ثنية كداء من أعلى مكة وهي الثنية العليا بالحجون حتى أتى البيت واستلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا والرَّمَلُ مشروع للرجال وهو المشي السريع مع تقارب الخطى ويقال له الخبب ويكون في الجهات الثلاث من البيت الشرقية والشامية والغربية وشرع لإغاظة الكفار حيث قالوا يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى فأطلع الله نبيه بما قاله المشركون فأمر أصحابه بالرمل وقعد المشركون على جبل قعيقعان ولما نظروا إليهم قالوا والله ما بهم من بأس وإن هم إلا كالغزلان. ويضطبع الطائف في طواف القدوم وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ومنكبه الأيمن مكشوف ثم نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين قرأ بعد الفاتحة في الأولى بقل يا أيها الكافرون. وفي الثانية بعد الفاتحة بقل هو الله أحد. ويجوز للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي جزء من أجزاء الحرم. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه فخرج من باب الصفا فلما دنا منه قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى شديدا حتى صعدتا فمشى ولا يشرع السعي للنساء حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا وكان آخر طوافه على المروة وقال عليه الصلاة والسلام أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة) فحل الناس ولم يبقى على إحرامه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي وقال لهم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) ثم مكث رسول الله ومن معه بمكة حتى اليوم السابع فخطب الناس بعد صلاة الظهر بها وأخبرهم بمناسكهم وأمور حجهم وأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى ولما كان اليوم الثامن وهو يوم التروية توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. وأداء هذه الصلوات الخمس والبيتوية في هذه الليلة في منى سنة بالاتفاق وليس على من ترك ذلك شيء ثم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب راحلته وأمر بقبة له من شعر تضرب بنمرة لينزل بها فسار ولم يقف بالمشعر الحرام ثم واصل سيره قاصدا عرفة فوجد القبة قد ضربت بنمرة وهي ليست من عرفة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر براحلته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس خطبته المشهورة التي جمع فيها أحكام الحج وبينت المناسك وما يجب للناس وما عليهم وبينت ما للمسلمين من حرمة في دمائهم وأعراضهم وأموالهم ووضع كل أمر كان في الجاهلية ووضع دماءها وأنه لا قصاص في قتلها وأول دم وضعه دم قريب له هو دم ربيعة بن الحارث كان مستعرضا في بني سعد وأبطل أفعال الجاهلية وبيوعها (التي لم يتصل بها قبض) وأبطل الربا الذي كان المشركون يتعاملوا به وأول ربا وضعه ربا عمه العباس بن عبد المطلب وأوصى بالنساء ما لهن وما عليهن وأوصى أمته بالتزام كتاب الله وسنته وأن من تمسك بهما هدي إلى صراط مستقيم ومن اهتدى بهما فلن يضل ومن احتكم إليهما فاز بالسعادة الأبدية ومن استضاء بنورهما قادتاه إلى رضوان

ص: 13

الله ومن طلب الهدى من غيرهما فقد تنكب عن سواء السبيل ثم أذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر جمعا وقصرا ولم ينتقل بينهما ثم ركب ناقته حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة واستمر واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة وقال وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرفة وصعود الجبل غير مشروع ولا أصل له ويمتد وقت الوقوف إلى طلوع فجر اليوم العاشر بدليل ما رواه عبد الرحمن الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات ليلا أونهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) ولما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) ولما غاب القرص وذهبت الصفرة دفع الرسول صلى الله عليه وسلم مردفا أسامة خلفه وتوجه إلى المزدلفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ويقول للناس عليكم بالسكينة حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين جمعا وقصرا ولم يسبح بينهما ثم نام حتى طلع الفجر فقام وصلى ثم سار حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا ربه وقال هذا الموقف وكل المزدلفة موقف وفي أي جزء من أجزاء المزدلفة بات الحاج أجزأه ثم دفع طلوع الشمس وأردف الفضل بن عباس وسار حتى أتى بطن محسر فحرك راحلته وأسرع في المشي فيه واستمر في المشي حتى أتى الجمرة الكبرى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم انصرف إلى المنحر فنحر بدنه وجميع بدنه مائة ناقة منها ثلاث وستون بدنه ساقها معه من المدينة ونحرها بيده الشريفة وسبع وثلاثون بدنة جاء بها علي من اليمن ووكله النبي صلى الله عليه وسلم في نحرها وأشركه في هديه وأكلا من لحمها وشربا من مرقها وقال نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة وقال: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) ثم وقف عليه الصلاة والسلام فجعل الناس يسألونه فقال رجل لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج وجاء آخر وقال لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج والأمور المتعلقة بيوم النحر أربعة رمي الجمرة الكبرى ونحر الهدي للإبل وذبحه لغيرها والحلق أو التقصير والطواف وترتيب هذه الوظائف على هذا النحو سنة لفعله صلى الله عليه وسلم ومن عكس ناسيا أوجاهلا أو متعمدا فلا حرج وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر خطبة قال فيها (أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس يوم النحر؟ قلنا بلى. قال أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذي الحجة؟ قلنا بلى. قال أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. قال أليس البلد الحرام؟ قلنا بلى. قال فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا نعم. قال اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ثم توجه إلى البيت العتيق فطاف طواف الإفاضة وأتى زمزم فشرب ثم عاد إلى منى للمبيت بها لوجوبه إلا السقاة والرعاة ومن في حكمهم فقد رخص لهم في البيوتة وأن يجمعوا الرمي في اليوم الثالث ليومهم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني. ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار بعد زوال الشمس وعرض عليه بناء يظله من الشمس فقال لا إنما هو مناخ لمن سبق إليه ولا بد من حصول الحجر في المرمى فلو لم يحصل فيه لم يجزه الرمي ولا بد من الترتيب في الرمي حيث يبدأ الرامي في الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الكبرى التي هي في منى وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني أيام التشريق خطبة علم فيها أصحابه حكم التعجيل والتأخير وتوديع البيت ونفر رسول الله صلى الله عليه وسلم متأخرا ونزل في المحصب وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد في المحصب وهو خيف بني كنانة والمعروف اليوم بالأبطح ثم ركب حتى أتى البيت الحرام فطاف به مودعا وهو واجب على من أراد السفر والخروج من مكة إلى وطنه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) وفق الله المسلمين لما يرضيه وتقبل منا ومنهم بمنه وكرمه آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 14