المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أولياء: ناصرين. أنيب: ارجع اليه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما. - تيسير التفسير للقطان - جـ ٣

[إبراهيم القطان]

الفصل: أولياء: ناصرين. أنيب: ارجع اليه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما.

أولياء: ناصرين. أنيب: ارجع اليه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما. من أنفسكم ازواجا: من جنسكم، وعبّر بانفسكم لأن اقرب شيء الى الانسان زوجته. ومن الانعام ازواجا: ذكراً وانثى. يذرؤكم فيه: يكثركم بهذا التدبير المحكم، ذرأ الله الخلق: بثّهم وكثّرهم. مقاليد، واحدها مقلاد ومقليد: مفاتيح. يبسط الرزق: يوسعه. ويقدر: يضيّقه. أقيموا الدين: حافظوا عليه وثبتوا دعائمه. ولا تتفرقوا فيه: لا تختلفوا فيه. كبُرَ على المشركين: عظُم وشقّ عليهم. يجتبي: يصطفي. بغياً بينهم: ظلماً وتجاوزا لحدود الله.

ان هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دونا الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

ثم بيّن الله تعالى ان مردّ الحكم والفصل اليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم. ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم ان يقول لهم:

{ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في انه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه الى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل. كما قال تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [النساء: 5‌

‌9]

.

{فَاطِرُ السماوات والأرض}

الله ربي وربكم خالقُ السموات والارض على احسن مثال.

{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}

خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا اليها. . . . وعبّر بقوله «من انفسكم» لأن أقربَ انسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه. وخلق لكم من الانعام أزواجا ذكورا وإناثا.

{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}

لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم.

ثم بين بعد ذلك انه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَهُوَ السميع البصير} ، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم، وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض.

{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}

يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء.

{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.

ثم بين الله تعالى بعد ذلك انه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الاعمال، والكف عن المحارم وإيذاء الخلق. . لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم الى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وان لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم الى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للايمان وإقامة الدين من يرجع اليه.

والمشركون ما خالفوا الحقّ الا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا.

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ}

لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين الى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا.

وان اهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وانما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} فهم في حَيرة من امرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق.

ص: 205

استقمْ: اثبتْ وثابر على دعوتك. لا حجة بيننا: لا خصومة ولا جدال. يحاجّون في الله: يخاصمون في دينه. من بعد ما استُجيب له: من بعد ما آمن الناسُ واستجابوا له. داحضة: باطلة، زائفة. الميزان: العدل. الساعة: القيامة. مشفقون: خائفون. يعلمون أنها الحق: يعلمون ان قيامة الساعة حق. يمارون: يجادلون.

بع ان امر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة الى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها. . فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد الى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين. وقل: آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، واليه المرجع والمآل.

ثم بين ان الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر اليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة. إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما انزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل. . وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب.

الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا الا من قبيل الاستهزاء، اما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون ان ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه.

وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق.

ص: 206

حرثَ الآخرة: العمل الصالح الباقي. حرث الدنيا: متاعها من مال وبنين وغيرهما. يقال حرثَ المال: جمعه، وكسبه، واحترثه مثلُه. أم لهم شركاء: شركاء في الكفر. شرعوا لهم: زينوا لهم. ما لم يأذن به الله: كالشرك وانكار البعث والعمل للدنيا فقط. كلمة الفصل: هي الحكم والقضاء منه تعالى بتأخيرهم الى يوم القيامة. روضات الجنات: اطيبُ بقاعها وأجملها.

يبين الله تعالى أنه لطيف بعباده، ومن لُطفه انه يرزق من يشاء كما يشاء، وانه القويّ الذي لا يُقهر ولا يغلب، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم بين ان من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة - يضاعَف له اجره اضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس لخ في الآخرة نصيب من نعيمها. ومثلُ ذلك في سورة آل عمران {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145] .

ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وانكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم الى يوم معلوم.

{وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم. وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم.

{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}

ذلك هو الجزاء العظيم الذي اعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا.

ص: 207

في القربى: في القرابة التي بيني وبينكم، او في قرابتي من اهل بيتي. يقترف: يفعل، يكتسب. يختم على قلبك: يغلقه عن الفهم. يمحو: يزيل. يُحقّ الحق: يثبت الحق. بِكَلِمَاتِهِ: بوحيه وأدلته وحججه. بذات الصدور: ما يختلج في الضمائر.

بعد ان ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات - بين هنا ان ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين. فقل لهم أيها الرسول: انا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما اطلبه منكم ان توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم. ويدخل في ذلك مودّة النبي صلى الله عليه وسلم ومودّة قرابته من أهل بيته. ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، ان الله واسع المغفرة للمذنبين.

ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن: لقد قالوا ان ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو الا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وارادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}

فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر.

ثم يمتنّ الله على عباده فيكرّر أنه يقبل التوبة عن عباده ويتجاوز عما فَرَطَ منهم تفضُّلاً منه ورحمة بعباده.

{وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله.

ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، ويزيدهم خيراً على مطلوبهم من فضله

{والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}

قراءات:

قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر: ويعلم ما يفعلون بالياء، والباقون: تفعلون بالتاء.

ص: 208

بسط الله الرزق: وسّعه. لبغوا: لظلموا وتجاوزوا حدود الله. بقدر: بتقدير. الغيث: المطر. قنطوا: يئسوا. وينشر رحمته: تعم منافع الغيث وآثاره جميع المخلوقات. الحميد: المستحق للحمد. بث: نشر. الدابة: كل ما فيه حياة على هذه الارض. على جمعهم: يوم القيامة. بمعجِزين: لا تستطيعون ان تجعلوا الله عاجزا بالهروب منه. الجواري: السفن. كالأعلام: كالجبال. رواحد: ثابتة لا تتحرك. صبّار: كثير الصبر وضبطِ الأعصاب. شكور: كثير الشكر على النعم. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. ما لهم من محيص: لا مهرب لهم.

إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء. ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا. ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه {وَهُوَ الولي الحميد} .

ثم اقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء.

ثم بين الله تعالى للناس ان هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو انه: كل ما يحلّ بكم ايها الناس من المصايب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم، وما اجترمتم من آثام.

ولو نظرنا الآن الى احوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك - لرأينا ان هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا. فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وانما ينقصُنا صدق الايمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء.

ولو ان زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية. ان العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، اما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فانه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا. . . . وهذا معنى {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله.

انكم ايها الناس لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم اذا هو عاقبكم.

ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها، فالله قادر ان يوقفَ الرياح فلا تجري.

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}

أو يهلك اصحابَ السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم.

ان الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه.

قراءات:

قرأ نافع وابن عامر: بما كسبت ايديكم. والباقون: فبما كسبت أيديكم. وقرأ نافع وابن عامر: ويعلمُ الذين يجادلون، برفع يعلم. والباقون: ويعلمَ بالنصب.

ص: 209

فما أُوتيتم: فما اعطيتم. كبائر الإثم: كل ما يوجب حدّا. الفواحش: كل ما عظُم قبحه من السيئات. استجابوا: اجابوا داعي الله. الشورى: المشاورة في الأمور. البغي: الظلم. ينتصرون: ينتقمون لانفسهم. ما عليهم من سبيل: ما عليهم عقاب. لمن عَزْمِ الأمور: لمن الأمور الحسنة المشكورة.

يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم، ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر.

{وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}

والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء اليهم.

ومن صفات هؤلاء المؤمنين ايضا انهم يُجيبون ربّهم الى ما دعاهم اليه، ويقيمون الصلاة في اوقاتها على اكمل وجوهها.

{وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ}

وهذا دستور عظيم في الاسلام، فهو يوجب ان يكون الحكْم مبنياً على التشاور. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم. ومثلُ ذلك قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] . قال الحسن البصري: «ما تشاور قوم الا هُدوا لأرشدِ أمرهم» . وقال ابن العربي: «الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ الى الصواب، وما تشاور قوم قط الا هدوا» . ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً:

{والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}

الذين اذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم.

ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل:

{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}

فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض.

ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح فقال:

{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظالمين} . ومثل هذا قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237]، ومثله ايضاً {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] ، الى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو. وهذا سبيل الاسلام.

ثم بين الله تعالى أن الانسان اذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال:

{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} .

هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس. وأفضلُ انواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وافضلُ انواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد.

قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: والذين يجتنبون كبير الإثم. والباقون: كبائر الاثم.

ص: 210

استجيبوا لربكم: أجيبوه. لا مردّ له: لا يردّه احد بعد ما قضى الله به. ملجأ: مكان تلجأون اليه. وما لكم من نكير: ما لكم من إنكار لما فعلتموه، لا تستطيعون ان تنكروه. حفيظا: رقيبا، محاسباً لاعمالكم. رحمة: نعمة من صحة وغنى. سيئة: بلاء. عقيما: لا يولد له.

ومن ضلّ طريق الهدى، وخَذَلَه اللهُ لسوءِ استعداده فليس له ناصرٌ من الله، وترى الظالمين يوم القيامة حين يشاهدون العذاب، يسألون ربهم ان يُرجعهم الى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، ولكن هيهات، لا سبيل الى العودة.

ثم بين الله حالهم السيئة حين يُعرضون على النار أذلاءَ يسارِقون النظر الى النار جوفاً منها.

عندئذ يقول المؤمنون: حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم الى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول:{أَلَا إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} .

وما كان لهم من ينصرهم من الذين عبدوهم من دون الله، {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ، أي ليس له أيّ طريقٍ ينجيه من سوء المصير المحتوم، جزاء ضلاله.

ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم ان يسارعوا الى إجابة ما دعاهم اليه الرسول الكريم، من قبل ان تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي {لَاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون انكار ما اجترموه من السيئات. فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون.

{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البلاغ}

إن وظيفتك ان تبلّغ، فاذا انت بلّغت فقد أديتَ الأمانة. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [البقرة: 272] .

ثم بين الله تعالى طبيعةَ الانسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال:

{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ}

هذه هي طبيعة الانسان: إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وان أصابته فاقةٌ او مرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من معاصٍ ومخالفات - يئس وقنط، إن الانسانَ يكفر النعمة ويجحدها.

ثم يبين الله انه خالقُ هذا الكون، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الاناث. ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والاناث، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا ولد له، {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد.

ص: 211

وحيا: كلاماً خفيا. من وراء حجاب: يُسمع ولا يُرى. روحاً من أمرنا: ان هذا القرآن روحٌ تحيا به القلوب، وتتغذى به الأنفس. نوراً نهدي به: الناسَ الى الصراط المستقيم.

بعد ان بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب، وتعمرُ الأنفس، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها، ولكن من رقَّ حجابُه، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة، فانه يستطيع ان يتصل بالملأ الأعلى، وان يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية:

1-

ان يحسّ بمعان تُلقى في قلبه، او يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بانه يذبح ولده. . . ورؤيا الأنبياء وحي.

2-

ان يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير ان يبصر من يكلّمه، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم.

3-

ان يرسل الله مَلَكا فيوحي الى النبيّ ما كلّف به.

ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى الى الانبياء قبل محمد فقد اوحى اليه القرآن الكريم، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين. ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة، {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

ثم فسّر ذلك الصراطَ بقوله تعالى: {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} خلقاً وتدبيراً وتصرفا. وفي الختام كل شيء ينتهي اليه، ويلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره {أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} .

وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالحديث الذي بدأت به عن الوحي، والذي كان محورها الرئيسي، وقد عالجت قصةَ الوحي منذ النبوّات الأولى، لتقرر وحدة الدين ووحدة الطريق، ولتعلن القيادةَ الجديدة للبشريّة ممثلة برسالة سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن يتبعه من المؤمنين الصادقين، ليقودوا الناس الى صراط الله المستقيم.

ص: 212

الكتاب: القرآن الكريم. المبين: لِطريق الهدى. لعلّكم تعقلون: لعلكم تفهمونه لأنه بلسانكم. أُم الكتاب: اللوح المحفوظ. افنضرب عنكم الذِكر: انُعرض عنكم ونترككم. صفحا: إعراضا. مسرفين: متجاوزين الحد في الكفر. أشدّ منهم بطشا: اقوى منهم وأجلد. مثَل الاولين: وصفهم وحالهم. مهداً: فراشا. سبلاً: طرقا. بقدر: بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة. فأنشَرنا: فأحيينا. ميتاً: يابسة خالية من النبات. الأزواج: أصناف المخلوقات. لتستووا على ظهوره: لتستقروا عليها. سخّر: ذلل. مقرنين: مطيقين. يقول الشاعر: ولستم للصعاب بمقرنينا. لمنقلبون: لراجعون.

حم: تقرأ هكذا حاميم. افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما.

وقد أقسم الله تعالى بكتابه المبين لطريقِ الهدى، وأنه جعله بلغةِ العرب، لغة قومك أيّها الرسولُ لِيفهَموا معناه، وأنه محفوظٌ في علمه تعالى، فليس هو من عند محمدٍ كما تدّعون يا مشركي قريش. اننا لن نترك تذكيركم به بسببٍ من إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، وإنما نفعل ذلك رحمةً منّا ولطفاً بكم.

ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيراً من الأمم قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة، وكذّبوا رسُلَهم فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.

{ومضى مَثَلُ الأولين}

وقد رأيتم ما حلّ بهم، فاحذَروا ان يحل بكم مثلُه.

وبعد أن ذكر ان المشركين سادِرون في كُفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن بيّن هنا أن أفعالهم تخالف اقوالهم:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}

ومع اعترافهم هذا بالله يعبُدون الاوثان من دونه!! .

ثم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً ممهَّدا، وجعل فيها طُرقاً لتهتدوا بها في سيَركم، ونزّل من السماء ماءً بقدْر الحاجة يكفي الزرع ويسقي الحيوان، وأحيا به الأرضَ الميتة. ومثلُ إحياء الأرضِ بعد موتها، يخرجُكم يومَ القيامة للحساب والجزاء. ولقد خلق اصناف المخلوقات جميعاً من حيوان ونبات، وسخّر لكُم السفنَ والدوابّ لتركبوها، وتذكروا نعمة ربكم وتقولوا:

{سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}

لولا لطفُ الله بنا ما كنا لذلك مطيقين. إننا يوم القيامة إلى ربنا لراجعون، فيجازي كلَّ نفس بما كسبت، فاستعدّوا لذلك اليوم، ولا تغفلوا عن ذِكره.

قراءات:

قرأ نافع وحمزة والكسائي: إن كنتم قوما مسرفين بكسر همزة ان. والباقون: أن كنتم بفتح الهمزة.

ص: 213

جزءا: ولداً، إذ قالوا الملائكة بنات الله. مبين: ظاهر واضح. بما ضرب للرحمن مثَلاً: يعني بالبنات. أصفاكم: خصّكم. كظيم: ممتلئ غيظا. يُنشَّأ: يربَّى.

بعد ان بيّن الله أنهم يعترفون بالألوهية وأن الله هو خالق هذا الكون - ذكر هنا أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلْق السموات والأرض قد جعلوا بعضَ خلقه ولدا ظنوه جزءا منه. وهذا كفرٌ عظيم.

ومن عجيب أمرِهم أنهم خصّوه بالبنات، وجعلوا لهم البنين، مع انهم إذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الغيظ، وامتلأ كآبة وحزناً لسوء ما بُشّر به.

{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ}

وقد جعلوا لله الأنثى التي تتربّى في الزينة، واذا خوصِمتْ لا تقْدِر على الجَدل والمخاصمة، واختاروا لأنفسِهم الذكور!!

ثم نعى عليهم في جَعْلهم الملائكة إناثا، وزاد في الانكار عليهم بأن مثلَ هذا الحكم لا يكون الا عن مشاهدة، فهل شَهدوا ولادتهم؟

{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} يوم القيامة حيث يُسألون عنها ويجازون بها.

ثم حكى عنهم شُبهةً أخرى، وهي انهم قالوا: لو شاء الله ما عبدْنا الملائكة، وردّ عليهم بقوله:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} ويعني: هل اعطيناهم كتاباً قبل القرآن يؤيّد افتراءهم هذا فهم متعلقون به!

وعندما فقدوا كل حجة ودليل قالوا:

{إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}

لقد وجدْنا آباءنا على دينٍ فقلّدناهم، وبذلك ينقطع الجدل بعد عنادهم وعجزهم.

ان حال هؤلاء مثلُ الأمم السابقة، فقد قالت {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}

وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم ودلالة على ان التقليد في نحو ذلك ضلالٌ قديم.

ثم حكى الكتابُ الكريم ما قاله كل رسول لأمته:

{قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ}

اتتبعون آباءكم وتلقّدونهم ولو جئتكم بدينٍ هو خيرٌ من دين آبائكم بما فيه من الهداية والرشاد! .

فقالوا مجيبين ومصرّين على كفرهم: {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . ولم يبق لهم عذرٌ بعد هذا كله ولذلك قال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}

وفي هذا تسليةٌ كبرى للرسول الكريم، وإرشادٌ له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيدٌ وتهديد لهم.

قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وحفص: أوَمَن يُنَشّأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المفتوحة والباقون: أوَمَن يَنْشأ بفتح الياء وسكون النون وفتح الشين من غير تشديد.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن. والباقون: الذي هم عباد الرحمن. وقرأ نافع: أأُشْهدوا خلقهم بفتح الهمزة وبضم الألف واسكان الشين. وقرأ الباقون: أشهِدوا بهمزة واحدة وكسر الشين. وقرأ ابن عامر وحفس: قال أولو جئتكم. وقرأ الباقون: قل أولو جئتكم، بفعل الأمر.

ص: 214

براء: بريء، ولفظ (براء) يطلق على المفرد والمثنى والجمع تقول: أنا براء مما تعملون، وانتم براء وانتما براء. فطرني: خلقني. وجعلها كلمة باقية: وجعل كلمة التوحيد باقية. في عقبه: في ذرّيته. من القريتين: من إحدى القريتين وهما مكة والطائف. رحمة ربك: النبوة. سخريا: بمعنى التسخير. معارج: مفرده مَعْرَج ومعراج وهو المَصْعَد والسلّم. وعليها يظهَرون: يصعدون. السرر والأسرة: جمع سرير. الزخرف: الزينة والنقوش. انْ كل ذلك لمّا متاع الحياة: إنْ كل ذلك الا متاع الحياة.

يبين الله تعالى للمعاندين لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن أشرفَ آبائهم وهو ابراهيم عليه السلام تركَ دينَ آبائه، وقال لأبيه وقومه: إنني بريء من عبادة آلهتكم الباطلة. وانه لا يعبد الا الله الذي خلَقَه على فِطرة التوحيد، فهو سَيَهديه إلى طريق الحق، ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيؤمنون بها.

لقد متّع الله قريشاً بالنعمة والأمن في بلدهم، فاغترّوا بذلك ولم يتّبعوا ملّةَ أبيهم ابراهيم. . .

{حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ}

جاءهم الرسولُ الأمين بالقرآن الكريم يهديهم الى الصراط المستقيم. فلما جاءهم الرسول بالحقّ كذّبوه وقالوا ساحر.

{وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}

وقالوا مستخفّين بهذا النبيّ الكريم لأنه فقير: هلاّ نزل القرآن على أحد رجلين من عظماء مكة او الطائف وهما: الوليدُ بن المغيرة من سادات مكة، او عروة بن مسعود الثقفي من سادات الطائف.

وهنا يردّ الله تعالى عليهم ويبين لهم جهلهم بأن العظمةَ ليست بكثرة المال ولا بالجاه، وأن النبوة منصبٌ إلهي وشرفٌ من الله يعطيها من يستحقها، وليست بأيديهم ولا تحت رغبتهم ولذلك قال:

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}

كيف جهِلوا قَدْرَ أنفسِهم حتى يتحكموا في النبوة ويعطوها من يشاؤون! الله تعالى قَسَم المعيشة بين الناس وفضّل بعضهم على بعض في الرزق والجاه، ليتخذَ بعضُهم من بعض أعواناً يسخّرونهم في قضاء حوائجهم، وليتعاونوا على هذه الحياة.

{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}

والنبوّة وما يتبعها من سعادة الدارَين خيرٌ من كل ما لديهم في هذه الحياة الدنيا. فهذا التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، فلولاه لما صرَّف بعضُهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل العيش.

ثم بين الله تعالى انه: لولا ان يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء. . وما هذا كلّه إلا متاع قليلٌ زائل مقصور على الحياة الدنيا الفانية.

{والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}

أعدّها الله للذين أحسنوا واتقَوا وأخلصوا في إيمانهم.

روى الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو ك انت الدنيا تَعْجِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء» .

قراءات:

قرأ ابن كثير وابو عمرو: سَقفاً بالافراد، والباقون: سُقُفا بالجمع. وقرأ عاصم وحمزة وهشام: لمّا متاع الحياة بتشديد ميم لما. والباقون: لما بالتخفيف.

ص: 215

ومن يعشُ عن ذكر الرحمن: ومن يعرض عنه، يقال عشا يعشو عشوا: ساء بصره، وعشا الى النار: رآها ليلا فقصدها. وعشى وعشاوة: اصيب بصره بضعف. نقيّض له: نهيئ له. القرين: الرفيق الذي لا يفارق. ذكر الرحمن: القرآن. بُعد المشرقين: يعني المشرق والمغرب، بين المشرق والمغرب. والعرب تسمّي احيانا الشيئين المتقابلين باسم احدهما. كما نقول العُمَران: ابو بكر وعمر، القمران: الشمس والقمر. فإما نذهبنَّ بك: فإن قبضناك وأمتناك. وإنه لذِكر لك ولقومك: ان القرآن شرف لك ولقومك تُذْكَرون به الى الأبد.

بعد ان ببين الله ان المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل، وان نعيم الآخرة هو النعيم الدائم - ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه، وأن شياطين هؤلاء الفئة من البشر يصدّونهم عن السبيل القويم، ويظنون انهم مهتدون. حتى اذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة الى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً: يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب، فبئس الصاحبُ كنتَ لي، حتى أوقعتني في الهاوية.

ثم يقال لهم جميعا: لن يخفَّف العذابُ عنكم اليوم، وكلّكم في العذابِ مشتركون، لا يستطيع أحد منكم ان يساعد الآخر.

ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، فأنت يا محمد لا تُسمع الصمَّ عن الحق ولا تهدي العميَ عن الاعتبار.

ثم سلّى رسوله الكريم وبين له انه لا بدّ أن ينتقم منهم، إما في حياة الرسول او بعد مماته، فان قبضناك يا محمد قبل ان نُريَك عذابَهم، ونشفي بذلك صدرَك وصدورَ قوم مؤمنين فإنا سننتقم منهم في الدنيا والآخرة. {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} مسيطرون.

فاعتصِم يا محمد بالقرآن لأنه الحقُّ والنور المبين، وايبُتْ على العمل به، واللهُ معك لأنك على صراطه المستقيم.

ان القرآن الذي أوحيناه إليك شرف لك وللعرب، فلقد رفع من شأنهم ونشَر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها، وكما قال تعالى:{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] . وأيّ ذكرٍ اعظم ابها الرسول في شرائع مَنْ أرسلْنا قبلك من رسُلنا، هل جاءت دعوة الناس الى عبادة غيرِ الله؟ ان جميع الرسل جاؤا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له.

قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو وحفص: حتى اذا جاءنا بالافراد. والباقون: جاءانا على التثنية.

ص: 216

بآياتنا: بمعجزاتنا التي أظهرها على يد موسى. ملئه: اشراف قومه. مبا عَهِدَ عندك: بما اخبرتنا من عهده إليك أنا اذا آمنّا كشف عنا العذاب. ينكثون: ينقضون العهد. وهذه الأنهار تجري من تحتي: من تحت قصري وبين يديّ في جناتي. مهين: حقير، ضعيف. ولا يكاد يُبين: لا يكاد يُفصِح عما في نفسه، لأنه كان ألثغَ يجعل الراء غينا. أسورة: جمع سوار وكانوا يُلبسون الرئيس او العظيم اسورة من ذهب. مقترنين: ملازمين، ليعينوه ويساعدوه. فاستخف قومه: استخف عقولهم. آسفونا: أَغضبونا، والأسف هو الحزن او الغضب. سلفاً: قدوة لمن بعدهم من الكفار. ومثلا: عبرة وموعظة.

بعد ان ذكَر الله ان كفار قريش طعنوا في نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكونه فقيراً - بيّن هنا ان سيّدنا موسى جاء الى فرعون واشرافِ قومه وقال لهم {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} وأظهر لهم المعجزات، لكنهم سخروا منه وضحكوا من المعجزات. وكانت كل معجزة من المعجزات التي توالت عليهم أكبرَ من أختها. وحيث أصروا على الكفر والطغيان أصبناهم بأنواع البلايا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن غيهم. ولكن بالرغم من معاينتهم تلك المعجزات فقد اعتبروها من قبيل السحر فقالوا: يا ايها الساحر، ادعُ لنا ربك متوسّلاً بما عَهد عندك ان يكشف عنا العذاب، فإذا كشفه عنّا اهتدينا وآمنا بما تريد.

فلما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نقضوا العهدَ ولم يؤمنوا. وقد جاءت هذه القصة مفصّلة في سورة الأعراف.

ثم اخبر الله عن تمرد فرعون وطغيانه وعناده فقال: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ. . .}

أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار التي تشاهدونها تجري من تحت قصري، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أيها القوم!؟

{أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}

فأنا خير من هذا الفقير الحقير الذي لا يكاد يُفصح عما يريد.

ثم ذكر شبهةً مانعة لموسى من الرياسة، وهي انه لا يلبس لباس الملوك، فهلاّ القى ربّه عليه أساورَ من ذهبٍ ان كان صادقا!! او جاء معه الملائكةُ ملازمين له ليساعدوه!

{فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} .

وبعد ذلك بين الله ان هذه الخِدع قد انطلتْ عليهم، وسحَرت ألبابهم، فأطاعوه واعترفوا بربوبيته وكذّبوا موسى.

ثم بين الله مآلهم: فلما أغضبونا بعنادهم انتقمنا منهم بعاجلِ عذابنا، فأغرقناهم أجمعين، وجعلناهم قُدوةً لمن يعمل عملَهم من اهلِ الضلال، وعبرةً وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.

وفي قصة موسى هنا تسليةٌ للرسول الكريم بها لأن قومه عيّروه بالفقر، وقد سبق لموسى ان عيره فرعونُ بالفقر والضعف.

قراءات:

قرأ حفص: اسورة. وقرأ الباقون: أساور، اسورة جمع اسوار، وجمع الجمع اساور وأساورة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: فجعلناهم سُلُفا بضم السين واللام. والباقون: سلفا، بالإفراد.

ص: 217

يصدّون: يصيحون ويضجّون. جدلا: خصومة بالباطل. خَصِمون: شديدون في الخصومة، ومجبولون على اللجاج وسوء الخلق. وجعلناهم مثلاً لبني اسرائيل: آية وأمراً عجيبا. لعلمٌ للساعة: علامة من اشراطها. فلا تمترنّ: فلا تشكّن. البينات: المعجزات. الحكمة: الشرائع المحكمة.

لقد جادل مشركو قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم جدلا كثيرا، من ذلك ان الرسول الكريم لما تلا عليهم:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال له عبدُ الله بن الزِبِعْرَي - وهو من شعراء قريش وقد أَسلمَ وحسُنَ إسلامه فيما بعد-: أليس النصارى يعبدون المسيح وأنتَ تقول كان عيسى نبياً صالحاً، فان كان في النار فقد رضينا. فأنزل الله تعالى بعد ذلك:{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] .

وجادلوه بعد ذلك كثيرا، ولذلك يقول الله تعالى:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}

لما بين الله وَصْفَ عيسى الحقَّ من أنه عبدٌ مهلوق، وعبادتُه كفرٌ، إذا قومك أيها النبي يُعرِضون عن كل هذا.

فقال الكافرون: أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإذا كان عيسى في النار فلنكنْ نحنُ وآلهتنا معه. . وما ضرب الكفار لك هذا المثَلَ الا للجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق.

{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}

إنهم قوم شديدون في الخصومة، مجبولون على العَنَتِ والعناد.

ثم بين الله تعالى ان عيسى عبدٌ من عبيده الذين أنعم عليهم فقال:

{إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ}

وما عيسى ابن مريم غلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة، وقد جعلناه آيةً بأن خلقناه من غير أبٍ كَمَثَلِ آدم خَلَقَه الله من تراب. ولو نشاء لجعلْنا في الأرض عجائب كأمرِ عيسى كأن نجعل لبعضكم أولاداً ملائكة يخلفونهم، كما خلقنا عيسى من غير اب.

والحق أن عيسى بحدوثه من غير أب لدليلٌ على قيام الساعة، {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} واتبعوا هداي وهُدى رسولي، فما أدعوكم اليه هو الصراط المستقيم. ويقول بعض المفسّرين، وان القرآن الكريم ليعلِمُكم بقيام الساعة فاتَّبعوا تعاليمه، ولا تتبعوا زيغ الشيطان انه لكم عدوٌّ ظاهر.

ولما جاء عيسى رسولاً الى بني اسرائيل ومعه الآيات الدالة على رسالته، قال لقومه: قد جئتكم بشريعةٍ حكيمة تدعوكم الى التوحيد، وجئتكم لأبيّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه من أمر الدين، فاتقوا الله في مخالفتي، وأطيعوني فيما أدعوكم اليه. ان الله هو خالقي وخالقكم فاعبدوه وحده، وحافِظوا على شريعته، فهي الطريق الموصل الى النجاة. ولكنهم خالفوا ما دعاهم اليه، واخلتفوا، وصاروا شِيعا وفرقاً لا حصر لها. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة، حين يحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة.

هل ينتظر هؤلاء الاحزاب المختلفون في شأن عيسى الا ان تقوم الساعةُ بغتةً وهم غافلون عنها!؟

قراءات:

قرأ الكسائي ونافع وابن عامر: يصُدون بضم الصاد. والباقون: بكسرها.

ص: 218

الأخلاء: جمع خليل الاصدقاء. مسْلمين: مخلصين منقادين لربهم. تحبرون: تسرون. بصحاف: جمع صحفة وهي آنية الطعام، يؤكل بها. أكواب: جمع كوب، وهو خازِن النار. أم أبرموا أمرا: احكموا تدبيره. نجواهم: ما يتناجون به بينهم.

في هذه الآيات مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة يبيّن حال فريقين متقابلَين، وهو يبدأُ في رسم صورةٍ عن الأصدقاء في ذلك اليوم فيقول:

ان الأصدقاء بعضُهم لبعض عدوٌّ الا الذين كانت صداقتهم خالصةً لوجه الله واجتمعوا على التقوى، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ويومئذ يقال للذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله الكريم: ادخلوا الجنةَ أنتم وازواجُكم تُسرّون فيها سروراً عظيما. وهناك يلقَون من النعيم ما لا مثيل له في الدنيا، ويطاف عليهم بأوانٍ من ذهب ويشربون بأكواب من ذهب، ويجدون كل ما تشتهيه انفسهم وما تلذ به أعينهم، ويقال لهم إكمالاً للسرور:{وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وفي هذه الجنة أيضاً فاكهة كثيرة الانواع {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} .

ثم بيّن حال الفريق المقابل من أهل النار، وما يكون فيه الكفار من العذاب الدائم الذي لا يخفّف عنهم ابدا، وهم في حُزنٍ لا ينقطع. والله تعالى لم يظلمهم بهذا العذاب {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} باختيارِهم الضلالة على الهدى.

ثم بين كيف يقول أهل النار لخَزَنتها ويطلبون منهم ان يموتوا حتى يستريحوا من العذاب، ويردّ عليهم مالكٌ، خازن النار قائلاً:

{إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}

لقد جاءكم رسولنا بالدّين الحق فآمن به قليل، وأعرض عنه أكثركم وهم كارهون، وستبقون في جهنم هذه جزاء كفركم.

ثم بين الله ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق، وإعلاء شأن الباطل، وقال لهم:

{فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}

إنا محكِمون أمراً في مجازاتكم واظهار الرسول عليكم.

لقد وهِموا فيما ظنّوا أننا لا نسمع سرّهم وما يتناجون به بينهم، {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} كلَّ ما صدر عنهم من قول او فعل.

قراءات: قرأ حفص ونافع وابن عامر: ما تشتهيه الانفس. والباقون: ما تشتهي الأنفس.

ص: 219

سبحان ربّ السموات: تنزيهاً له عن كل نقص. يصِفون: يقولون كذباً بأن له ولدا. فذرْهم: فاتركهم. يخوضوا: يتكلموا بالباطل. حتى يلاقوا يومهم: يوم القيامة. يدعون: يعبدون. يؤفكون: يصرفون. وقيله: وقَوله، يقال قلت قولاً، وقالاً، وقيلاً، فاصفح عنهم: فاعف عنهم.

قل ايها الرسول للمشركين: إن صحّ الدليل القاطع ان للرحمن ولداً فأنا أولُ من يعبدُ هذا الولد، لكنه لم يصحّ ذلك ولن يصحّ.

ثم نزّه الله نفسه بقوله:

{سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ}

تنزه خالقُ هذا الكون العجيب وربُّ العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه المشركون.

ثم امر الرسولَ الكريم أن يتركهم في خوضهم بباطلهم وشركهم حتى يلاقوا يومهم، يوم القيامة، وهناك يدركون خطأهم ويندمون.

ثم أكد هذا التنزيه ببيان أن الله هو الذي يُعبد في السماء بحقّ، ويُعبد في الأرض بحق.

{وَهُوَ الحكيم العليم} الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم.

ان عنده وحده عِلم يوم القيامة، واليه وحده ترجعون في الآخرة للحساب، أما هذه الأوثان التي تعبدونها فلن تستطيع الشفاعة لكم. أما من نطق بالحق وكان على بصيرة من عند ربه فان شفاعته تنفع عند الله بإذنه، ولمن يستحقها.

ثم بين ان هؤلاء المشركين يتناقضون في اقوالهم وافعالهم فقال:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ}

ولئن سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين من الذي خلقهم ليقولُنّ: خَلَقنا الله، فكيف إذن يُصرفون عن عبادته تعالى الى عبادة غيره!؟ .

{وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لَاّ يُؤْمِنُونَ}

والله عنده علمُ الساعة وعلمُ قول الرسول يا رب ان هؤلاء الذين أمرتّني بإنذارهم قومٌ لا يؤمنون. وقيلهِ بالجر نعطوف على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيلِه.

ولذلك قال له تعالى:

{فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}

فأعرِض عنهم أيها الرسول، وقل لهم سلام، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وأنك ستنتصر عليهم.

قراءات:

قرأ عاصم وحمزة: وقيلِهِ بالجر، والباقون: وقيلَهُ بالنصب.

ص: 220

ليلة مباركة: هي ليلة القدر. منذِرين: مُعْلِمين ومخوفين. يفرق: يفصل ويبين. حكيم: محكَم لا يمكن الطعن فيه. ان كنتم موقنين: ان كنتم مؤمنين ومصدقين حقا.

حم: تقرأ هكذا حاميم: من الحروف الصوتية، وقد تكلّمنا عن هذا الاسلوب والغرض منه.

أقْسَمَ الله تعالى بالقرآن الكاشف عن الدِّين الحقِ، المبينِ لما فيه صلاحُ البشرية في دنياهم وأُخراهم، وأنه انزلَ القرآنَ في ليلة مبارَكة هي ليلة القدر، لإنذار العباد وتخويفهم بإرسال الرسُل وانزال الكتب. وفي هذه الليلة المباركة يفصِل الله كل أمر محكَم، والقرآنُ رأس الحكمة والفيصلُ بين الحقّ والباطل، يبيّن لهم ايضرّهم وما ينفعهم. {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} إن الله لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو الذي بيدِه إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربُّهم وربّ آبائهم الأولين، المالكُ لهم والمتصرّف فيهم حسب ما يريد.

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}

انهم ليسوا بموقِنِين بعد أن بينّا لهم الرشدَ من الغيّ وأصرّوا على كفرهم وشكّهم وعنادهم لاهين لاعبين.

قراءات:

قرأ الكوفيون: ربِّ السموات. بالجر. والباقون: ربُّ السموات بالرفع.

ص: 221

فارتقب: فانتظر. الدخان: الدخان المعروف الناشئ عن النار. يغشى الناسَ: يحيط بهم. اكشفْ عنا: ارفع عنا. أنّى لهم الذكرى: كيف يتذكرون ويتعظون. وقالوا معلَّم: يعلمه بعض الناس. البطش: الأخذ الشديد. فتنّا: بلونا، وامتحنا. أدوا اليَّ عباد الله: اعطوني عباد الله وأطلقوهم. لا تعلوا على الله: لا تستكبروا. بسلطان مبين: بحجة واضحة. عُذت بربي وربكم: التجأت اليه وتوكّلتُ عليه.

انتظِر ايها الرسولُ يومَ القيامة حين تأتي السماءُ بدخانٍ واضحٍ يعمُّ الناسَ ويغطّيهم، فيقولون: ربنا اكشِف عنا العذابَ قد آمنا بدِينك. إن إيمانَهم لن ينفعَهم في ذلك اليوم، وقد جاءهم رسولُ الله بالرسالة الواضحة الصادقة، فكفروا به، وقالوا إنه مجنونٌ يعلّمه بعضُ الناس القرآنَ الذي يتلوه علينا.

وهنا يردّ الله تعالى عليهم: إنا سنرفعُ عنكم العذاب، وإنكم تعيشون الآن فرصةً قبل يوم القيامة فآمِنوا، إنكم ستعودون الى كُفركم وما كنتم عليه بعد سماعكم الآيات.

فاذكر ايها الرسولُ يومَ تأخذهم الأخْذَةُ الكُبرى بعنف وقوة، {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} منهم في ذلك اليوم الرهيب.

ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان واسباب الرخاء {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} مأمونٌ على ما أبلّغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما ادعوكم اليه.

{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ}

اني ألتجئ الى الله ربي وربكم ان لا تصِلوا اليَّ بسوءٍ من قول أو عمل.

وان لم تصدّقوني فيما جئتكم به من عند الله {فاعتزلون} وخلُّوا سبيلي ولا ترجموني، ودعوا الأمرَ بيني وبينكم مسالمةً الى ان يقضيَ الله بيننا.

ص: 222

اسرِ بعبادي: سر بهم ليلاً. متبعون: يتبعكم فرعون وجنوجه. رهْواً: ساكنا هادئا. مقام كريم: منازل حسنة. نعمة: (بفتح النون) الرفاهة وطيب العيش، والنعمة:(بكسر النون) ما أنعم الله به من رزق ومال وغيره. فاكهين: ناعمين في عيش رغيد. فما بكتْ عليهم السماء: لم تكترث لهلاكهم. مُنظِرين: مهملين ومؤخرين. العذاب المهين: الشديد الاهانة والإذلال. عاليا: جبّارا متكبرا. من المسرفين: في الشر والفساد. على عِلم: عالمين باستحقاقهم ذلك. على العالمين: في زمانهم. الآيات: المعجزات. بلاءٌ مبين: اختبار ظاهر.

فلما طال مقامُ موسى بين أظهُرِ قومِ فرعون ولم يؤمنوا به، ولم يزدهم ذلك الا كفراً وعناداً دعا ربه شاكياً قومه حين يئسَ من غيمانهم، بأن هؤلاء القوم مجرمون، لا أمل فيهم.

وحينئذ أمره اللهُ ان يُخرج بني اسرائيل ليلاً وان يحذَروا، لأن فرعونَ وقومه سيتبعونهم. وطلب إليه: إنك اذا قطعت البحر يا موسى فاتركه ساكناً على حاله حتى يدخلَه فرعونُ وقومه فيغرقوا فيه. {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} .

ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور، وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة {كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} ناعمين مترفين.

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}

هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذّبوا رُسلَنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا. ثم إننا أورثنا تلك البلادَ وما فيها من خير عميم قوماً آخرين، لا يمتّون إليهم بقرابة ولا دين. فما حزنتْ عليهم السماءُ ولا الأرض عندما أخذهم العذابُ ولا أُمهلوا لتوبةٍ او تداركِ تقصير.

ثم بين الله كيف نَجَّا موسى ومن معه وذَكَر إحسانَه إليهم بأنه خلّصهم من العذاب المهين، بإهلاك عدوّهم فرعون، الذي كان متكبراً مسرفاً في الشر والفساد، وبيّن انَّه اصطفاهم على عالَمِ زمانهم، وأعطاهم من المعجزات ما فيه اختبارٌ ظاهر لهم وبلاء. كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .

ص: 223

بمنشَرين: بمبعوثين، نشر اللهُ الموتى وأنشرهم: أحياهم. تُبّع: لقبٌ لملوك اليمن القدماء مثل فرعون لدى قدماء المصريين. لاعبين: عابثين. يوم الفصل: هو يوم القيامة، سُمي بذلك لأنه يفصَل فيه بين الناس. ميقاتهم: موعدهم. لا يغني مولى: لا ينفع احد احدا. المولى كلمة لها عدة معانٍ: الرب، والمالك، والمحب، والصاحب، والحليف، والنزيل، والجار، والشريك، والصهر، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق، والمعتَق بفتح التاء، العبد، والتابع.

يعود الحديث عن المنكِرين للبعث، وقولهم لا حياةَ بعد هذه الحياة. فإن هؤلاء المكذِّبين بالبعث ليقولون: إننا لا نموت الا مرةً واحدة، ولسنا بمبعوثين. فان كنتم صادقين فاسألوا ربَّكم أن يعجِّل لنا إحياءَ من ماتَ من آبائنا حتى يكونَ ذلك دليلاً على صِدق دعواكم.

ثم بين الله لهم على طريق السؤال: هل كفّار مكةَ خيرٌ في القوة والمنعة والسلطان ام قوم تُبَّع ومن سبقَهم من الجبابرة! إن قومك يا محمد ليسوا بقوّتهم وَمنْعَتِهم وسلطانهم، وقد أهلكناهم في الدنيا بكُفرهم وإجرامهم، فليَعْتبر قومك من مصير غيرهم. لِيوقنوا أنه تعالى لم يخلق هذه السمواتِ والأرضَ عبثا دون حكمة، كما قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .

نحن ما خلقنا هذا الكونَ العجيب وما فيه الا بحكمة بالغة، على نظامٍ ثابت يدلّ على وجود اللهووحدانيته وقدرته {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} هذه الدلالةَ لغفلتهم.

ان يوم القيامة موعدُهم جميعاً وفيه يُفصَل بين الحقّ والباطل. يومئذٍ لا يستطيع أحدٌ ان يساعد احداً ولا ينفع مالٌ ولا بنون ولا أنساب ولا صديق حميم. {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} الا بصالح الاعمال. {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم}

ص: 224

الزقّوم: طعام أهل النار. وشجرة الزقوم {تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64-65]، وهي الشجرة الملعونة. الأثيم: المجرم المذنب. المُهل: خثارة الزيت. الحميم: الماء الحار. فاعتلوه: فجرّوه بعنف. عَتَلَه يعتله بكسر التاء وضمها عَتْلاً: جره جراً عنيفا. سواء الجحيم: وسطها. في مقام امين: في منزل آمن. سندس: نوع من الحرير الرقيق. استبقر: حرير فيه لمعان وبريق وهو اغلظ من السندس. بحورٍ عين: نساء جميلات واسعات العيون. يدّعون: يطلبون. وقاهم: جنّبهم وأبعدهم عن العذاب. فارتقب: فانتظر.

الحديث الآن عن أهلِ النار وطعامهم وما يلاقُونه من عذابٍ أليم. . ان شجرة الزقُوم المعروفة بقُبح منظرِها وخُبثِ طَعْمِها وريحها هي طعامُ الفاجر الكافر الأثيم. ومذاقُها كسائل المعدِن المصهور، يغلي في البطون كالماءِ الشديد الحرارة.

ثم يقال لزبانية جهنم: خذوا هذا الفاجرَ الأثيم فجرّوه بعنفٍ الى وسط الجحيم، ثم صبُّوا فوق رأسه الماءَ الحار. ثم يقال له استهزاءً وتهكماً: ذُق العذابَ، ايها العزيز الكريم المعتزّ بنَسَبك وقومك.

ان هذا العذاب الذي تلاقونه الآن هو ما كنتم تكذّبون به في الدنيا.

وبعد ان بين الله أحوال المجرمين وما يلاقونه من اهوال وعذاب وتقريع، بيّن هنا أحوال المتقين وما يلاقونه في جنّات النعيم من ضُروب التكريم في منازل حسنة آمنة، في جنات النعيم، ملابسهم فيها من أنواع الحرير الفاخر، متقابلين على السُرر، يستأنس بعضهم ببعض، تحفُّ بهم زوجاتهم من الحُور العين، ويطلبون ما يشتهون من انواع الفاكهة. ثم بين ان حياتهم في هذا النعيم دائمة، وقد نجّاهم الله من العذاب الاليم.

{فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأيّ فضل وفوز أعظمُ من النجاة من عذاب أليم!

ثم بين الله تعالى أنه انزل هذا القرآن الكريم باللغة العربية ويسّره بها لعلّ العربَ ينتفعون به وبتعاليمه، وينشرونه في العالم. وبهذا يجيء ختام السورة كما بدئتْ، بذِكر القرآن. ثم يقول الله تعالى مسلّياً رسولَه الكريم وواعداً إياه بالنصر، ومتوعداً المكذّبين بالهلاك:

{فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ}

انتظِر أيها الرسول انهم منتظِرون، وسيعلمون لمن يكنُ النصر. وقد نصر الله تعالى رسوله واصحابه ونشروا دينه العظيم.

قراءات:

قرأ ابن كثير وحفص ورويس وابن عامر: يغلي بالياء. والباقون: تغلي بالتاء. وقرأ حفص وحمزة والكسائي وابو عمرو: فاعتِلوه بكسر التاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب: فاعتُلوه بضم التاء، وهما لغتان. وقرأ ابن عامر ونافع: في مُقام بضم الميم. والباقون: في مَقام بفتح الميم.

ص: 225

لآياتٍ: لعبراً ودلائل. يبثّ: ينشر. اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما. تصريف الرياح: تغييرها من جهةٍ الى اخرى.

حم: حرفان من الحروف الصوتية ابتدأت بهما هذه السورة وقد سبق الكلام عن مثله.

إن هذا الكتابَ الكريم أنزله الله، الحكيمُ في تدبيره لهذا الكون العجيب ولكل ما خلق، وان في خلْق السمواتِ والأرض من بديع صُنْع الله لآياتٍ دالة على ألوهيته ووحدانيته يؤمن بها المصدّقون بالله العظيم. وكذلك في خلْق الناس على أحسنِ تقويم، وما ينشرُ في الأرض من الدواب - دلالات قوية واضحة {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

ومثل هذا في اختلافِ الليل والنهار وتعاقُبهما على نظام ثابت، وفيما أنزل اللهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها ويبْسِها، وتصريف الرياح إلى جهاتٍ متعددة علاماتٌ واضحة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

تلك آياتُ الله الكونية التي أقامها للناس، نتلوها عليك أيها الرسولُ مشتملةً على الحق، فاذا لم يؤمنوا بها {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟

قراءات:

قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: لآياتٍ بكسر التاء في المواضع الثلاثة، والباقون: لآياتٍ بكسر التاء الأولى، وفي الموضعين بعد ذلك ىياتٌ لقوم، بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي: وتصؤبف الريح بالافراد. والباقون: وتصريف الرياح بالجمع. وقرأ الحجازيان وحفص وابو عمرو وروح: يؤمنون ب الياء. والباقون: تؤمنون بالتاء.

ص: 226