الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجل مسمى: يوم القيامة. أُنذِروا: اعلِموا وخوفوا. تدْعون: تعبدون. أم لهم شِرك: ام لهم نصيب. او أثارة من علم: بقية من علم. واذا حشِر الناس: اذا جمعوا يوم القيامة.
افتتحت سورة
الاحقاف
بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك، وكذلك نص الآية {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} مثل افتتاح سورة الجاثية.
ما خلقْنا هذا الكونَ العديب الا على نواميس ثابتة، وحكمة بالغة، والى أمد معين هو يوم القيامة. . أما الذين كفروا بالله ورسله فهم معرِضون عما أُنذِروا به من انهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء.
ثم يردّ اللهُ تعالى على من يعبد غيره من المشركين فيأمر الرسولَ الكريم أن يقول لهم: أخبِروني عن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله؟ هل خلقوا شيئاَ في هذه الدنيا، ام أنهم شاركوا في خلْق السموات؟ انْ كان ما تدّعون حقا فأْتوني بكتابٍ من قبل هذا القرآن، او أي أثرٍ من عِلم الأولين تستندون اليه في دعواكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
وأيّ ضلالٍ أكبر ممن يعبد معبوداتٍ لا تسمع ولا تنطق ولا تستجيب أبدا! والمشركون مع ذلك غافلون عن هذه الحقيقة.
حين يُجمع الناس للحساب يوم القيامة تتبرأ هؤلاء المعبودات من المشركين وتغدو أعداء لمن عبدوهم {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ومثله قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 8
1
-82] .
للحق: للقرآن. افتراه: كذب به. فلا تملكون لي من الله شيئا: لا تغنون عني شيئا ان اراد الله عقابي. تفيضون فيه: تخوضون في من تكذيب لقرآن. ما كنتُ بدعا من الرسُل: هناك قبلي رسل كثير، فما أنا أول رسول لا مثيل لي.
بعد أن قرر الله تعالى وحدانيته وثبّتها، ونفى الأضدادَ وكل ما يُعبد غيره - يقرر هنا أن رسالة سيدنا محمد حق، وان الرسول كلّما تلا على مشركي قومه شيئا من القرآن قالوا إنه سِحر، بل زادوا في تكذيبه فقالوا انه افتراه. ويردّ الله عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنع الله من عقابه!! والله هو العليم بما يخوضون فيه من أحاديث وتكذيب!
{كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم} .
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف:{كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم} .
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف:{وَهُوَ الغفور الرحيم} فان الله مع كل هذا الكفر والعناد من المشركين يُبقي بابَ التوبة والمغفرة والرحمة مفتوحاً دائما، فلا يقنط من رحمته أحد.
ثم يأمر رسولَه الكريم أن يقول لهم: إني لستُ أول رسول من عند الله فتنكروا رسالتي، ولست أعلمُ ما يفعل الله بي ولا بكم، وما أتّبع فيما أقول أو أفعل إلاّ ما يوحيه إليّ الله {وَمَآ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .
يقول معظم المفسّرين: إن هذه الآية بالذات مدنية، قد نزلت في عبدِ الله بن سَلام، وكان من أكبرِ علماءِ بني إسرائيل، أسلم بالمدينة، وأحدثَ إسلامُه ضَجّةً عند اليهود، وقصتُه طويلة يُرجَع إليها في كتب الحديث والسيرة.
ويكون المعنى: قل لهم أيها الرسول: أخبِروني إن ثبتَ أنّ القرآنَ حقٌّ من عند الله، وآمن به عالِمٌ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام الذي يُدرك أسرارَ الوحي ويشهد ان القرآن من عند الله كالتوراة التي أَنزلها على موسى. . . ماذا يكون حالُكم إذا بقيتم على ضلالِكم وكفركم؟ افلا تكونون من الظالمين؟ .
وقال جماعة من المفسرين: ان الشاهدَ موسى بن عمران، وان التوراة مثلُ القرآن كلاهما من عند الله، وان موسى شهِدَ على التوراة، ومحمدٌ شهِدَ على القرآن صلى الله عليهما وسلم. وهذا ما يُرجِّحه الطبري، لأن السورة مكية، فيما اسلم عبد الله بن سلام بالمدينة بعد الهجرة.
ثم حكى عن المشركين شُبهةً أخرى بشأن إيمان من آمَنَ من المسلمين من الفقراء كَعَمّار وصُهَيب وابنِ مسعود وغيرِهم فقالوا: لو كانَ هذا الدينُ خيراً ما سبَقَنا إليه هؤلاء الضعفاءُ من الناس، وانما قرآن محمد افكٌ قديم من أساطير الاولين.
وقد ردّ الله عليهم طَعْنَهم هذا في القرآن وأثبت صحته فقال:
القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى، كلٌّ منهما إمامٌ ورحمةٌ لمن آمن به وعمِلَ بموجبه، وقد بشَّرت التوراةُ بسيّدنا محمد:{الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} [الأعراف: 157] . وهذا القرآنُ مصدِّق بالتوراة وما قبلَه من الكتب، وينطِق بلسانكم أيها العربُ، وينذِرُ من أساءَ بالعذاب، ويبشّر من أحسنَ بالثواب، فكيف يكون إفكاً قديماً، وسحرا وأساطير؟
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وابن كثير: لتنذر بالتاء. والباقون: بالياء.
وصّينا الانسان: أمرناه أن يفعل كذا. . ومثله أوصاه. كُرها: بضم الكاف وفتحها: مشقة. حَمْله وفصاله: مدة حَمْلِه وفطامه. أشده: صار بالغا مستحكما القوة والعقل. أوزِعني: ألهِمني، رغّبني، وفقني. أصلحْ لي في ذريتي: اجعل لي خلَفاً صالحا. في أصحاب الجنة: يدخلون الجنة مع الذين انعم الله عليهمز
ان الذين قالوا ربُّنا الله الذي لا إله غيره، ثم أحسَنوا العملَ واستقاموا عليه بإيمان كامل، لا خوفٌ عليهم من فزعِ يوم القيامة وأهواله، وهُم لا يحزنون على ما خلّفا وراءهم بعد مماتهم، أولئك هُم أهلُ الجنة خالدين فيها، ثواباً لهم من الله على أعمالهم الصالحة التي ك انوا يعملونها في الدنيا. وهذه أحسنُ بُشرى يزفُّها القرآن الكريم للمحسنين، فهنيئا لهم.
ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الانسان.
ووصّينا الانسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا، وفي وضعه آلاماً كثيرة، ثم في إرضاعه وتربيته. فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها. . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم. وقد وردت احاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات.
روى الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمَّكَ ثم أمك ثم أمك، ثم أباك» ورواه أحمد وابو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة.
وهناك حديث مشهور: «الجنّةُ تحت أقدام الأمهات» رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عن هـ، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عن هـ.
وعن ابي أمامة رضي الله عن هـ أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين: «هما جنَّتاك وناراك» وفي البخاري ومُسْلم والترمذي: «أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم» والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع اليها في كتب الحديث.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً}
يعني إن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل.
ويؤخذ من هذه الآية {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} ومن الآية: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فاذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به.
حتى اذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية، يقول عندها: ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ، ووفقني الى العمل الصالحِ الذي ترضاه، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والايمان، إني تُبت اليك من كلّ ذنب {وَإِنِّي مِنَ المسلمين} المستسلمين لأمرِك ونَهيك.
هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الحميدة نتقبّل منهم أعمالَهم الحسنة، ونجازيهم عليها أحسنَ الجزاء. وهم منتظِمون في سلك أصحاب الجنة {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} والله تعالى لا يُخْلف وعده.
قراءات:
قرأ أهل الكوفة: احسانا وقرأ الباقون: حينا. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وابو عمرو: كَرها بفتح الكاف. والباقون: كُرها بضمها وهما لغتان. وقرأ يعقوب: وفصله، والباقون: وفصاله. وهما لغتان.
أف: كلمة معناها التضجّر، وهي مستعملة كثيرا. أن أُخرج: ان ابعث من القبر. خلت القرونُ من قبلي: مضت الأممُ من قبلي ولم يبعث أحدٌ من قبره. ويلك: دعاء عليه بالهلاك. الهلاك لك. اساطير الاولين: أباطيلهم وخرافاتهم. حقَّ عليهم القول: حق عليهم العذاب: الخاسرين: الّذين ضيّعوا انفسهم باتّباع شهوانهم وعدم الايمان بالله ورسوله. الدرجات: المنازل. أذهبْتم طيباتكم: أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا. الهُون: الهوان والذل.
بعد ان مضى الحديث عن حال البررة من الأولاد، بيّن هنا حالَ الاشقياء العاقّين للوالدَين، الجاحدين المنكرين للبعث والحساب.
والفريق الثاني من الناس هو الذي ينهر والديه ويقول لهما أفّ لكما ولما تؤمنان به، اتقولان لي إني سأُبعث من قبري حيّا بعد موتي، وقد مات قبلي كثيرٌ من الناس لم يعُدْ منهم أحد، أنا لا اصدّق هذا ولا أومن به!
ووالداهُ يستصرخان اللهَ مستغيثين أن يوفق ولدهما إلى الايمان، ويقولان له: ويلكَ، آمِنْ قبل ان تهلك وتموتَ ثم تحشَر الى النار، {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} فيردّ عليهم بأنّ كل ما يقولانه خرافاتٌ من أساطير الاقدمين.
هذا الصنف من البشَر هم الذين حقَّ عليهم وقوعُ العذاب مع أممٍ قد مضت من قبلِهم من الجنّ والانس، {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} .
روى البخاري والترمذي وابو داود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أكبرِ الكبائر ان يلعنَ الرجلُ والديه او يعقَّهما» .
ولكل من المؤمنين والكافرين منازلُ تلائمهم بحسب أعمالهم، ليظهرَ عدلُ الله فيهم، وليوفيهم جزاءَ أعمالهم {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
واذكر أيّها الرسول يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم: لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا، واستمتعتُم بها، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: نتقبل، ونتجاوز بالنون. والباقون: يتقبل ويتجاوز بالياء. وقرأ هشام: اعتدانّي بنن واحدة مشددة. والباقون: اتعدانني بنونين بدون تشديد. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان: لنوفيهم بالنون. والباقون: ليوفيهم بالياء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام، والباقون: بهمزة واحدة، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة.
أخا عاد: هو هود عليه السلام. الأحقاف: جمع حِقف بكسر الحاء، رمال معوجة مستطيلة، وهي بلاد بين عُمان وحضرموت كما تقدم في الكلام على مقدمة السورة. النذُر: جمع نذير، وهو المنذر. من بين يديه: من قبله. ومن خلفه: من بعده. لتأفكنا: لتصرفنا. بما تعدنا: من تعجيل العذاب. العارض: السحاب الذي يعرض في افق السماء. مستقبل أوديتهم: متجها اليها. وحاق بهم: نزل بهم. صرّفنا الآيات: بيناها. قرباناً: متقربا بها الى الله. ضلّوا عنهم: غابوا عنهم. وذلك إفكُهم: وذلك الذي حل بهم عاقبة كذبهم وافترائهم.
اذكر ايها الرسول لقومك المكذِّبين هوداً، أخا قوم عادٍ، الذي حذّر قومه الذين كانوا يسكنون الأحقاف. وقد مضت الرسُل قبله وبعدَه بمثل ما أنذَر به قومه، اذ قال لهم: لا تعبدوا الا الله وحده، {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . فما كان جوابُ قومه الا أن قالوا: أجئتنَا لتَصرِفَنا عن عبادة آلهتنا، فأتِنا بما تعِدُنا من العذابِ ان كنتَ من الصادقين.
فقال هود: إنما العِلم بوقتِ عذابكم عندَ الله وحده، وأنا ابلِّغكم رسالة ربي اليكم، {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ما تُبعث به الرسُل وما في مصلحتكم.
فأتاهم العذابُ في صورة سحاب. فلَمّا رأَوه ممتدّا في الأفُق مقبلاً على أوديتهم ظنّوه غيثاً فقالوا فرِحين: هذا سحابٌ جاءنا بالمطر والخير. فقيل لهم: بل هو العذابُ الذي طلبتموه واستعجلتم به. إنها ريحٌ فيها عذابٌ شديدُ الألم، تُهلك كلَّ شيء بأمر ربِّها. ولقد دمرتْهم واستأصلت جميع الأحياء في تلك البلاد.
{فَأْصْبَحُواْ لَا يرى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ}
أصبحوا أثراً بعد عَيْن. بمثل هذا نجزي كلَّ من أجرمَ واستكبر ولم يؤمن بالله ورسله.
ولقد مكنّا عاداً وقومه بالقوة والسَّعة ما لم نمكّن لكم يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة لم ينتفِعوا بها لأنهم كانوا مصرّين على إنكار بآيات الله وجحدها.
{وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزئون به.
ولقد أهلكنا القرى التي كانت حولكم يا أهلَ مكة، وبينّا لهم الآياتِ المتنوعةَ والحجج لعلّهم يرجعون عن الكفر. فلم يَرعَووا ولم يرجِعوا. فخُذوا عبرةً من كل ما تلوناه عليكم وارجِعوا عن كفركم وعبادةِ الأوثان لعلّكم تُفلحون.
والمقصود بالقرى التي حولَهم هي أقوام هود وصالح ولوط وشعيب لأنهم كانوا حول ديارهم.
{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} .
هنا يقول الله تعالى: لم تَنصرهم آلهتُهم وأوثانهم الذين عبدوهم من دون الله، واتّخذوا عبادتَهم قرباناً يتقرّبون به إلى ربهم فيما زعموا، بل غابوا عنهم وتركوهم في أحرجِ الأوقات.
{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
وذلك الذي حلّ بهم من خِذلان آلهتهم لهم وضلالِهم عنهم هو عاقبةُ كذِبهم.
قراءات:
قرأ عاصم وحمزة وخلف: لا يُرى الا مساكنهم بضم الياء من يرى، ورفع النون. والباقون: لا تَرى الا مساكنهم بفتح التاء ونصب النون.
صرَفَنا اليك: وجّهنا اليك. النفر: ما بين الثلاثة والعشرة. قُضِيَ: فرغ من تلاوته. ولّوا: رجعوا. من يجِرْكم: من ينقذكم. داعي الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعد ان ذكر اللهُ ان في الانسِ من آمنَ ومنهم من كفر، بيّن هنا ان الجنّ كذلك، وأنهم عالَمٌ مستقلّ بذاته. ويجب ان نعلم ان عالَم الملائكة وعالَم الجن يختلفان عنا تمامَ الاختلاف ولا نعلم عنهما شيئا الا من الاخبار التي جاءت بها الرسُل الكرام. ونحن نؤمن بوجودهما، وان النبيّ عليه الصلاة والسلام بلّغ الجنَّ رسالته كما ورد هنا وفي عدد من السور.
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن علقمة قال: قلت لعبدِ الله بن مسعود، هل صحبَ رسولَ الله منكم احد ليلة الجنّ؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنّا افتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشرِّ ليلة باتَ بها قوم. فلمّا كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قِبَل حِراء، فقال: اتاني داعي الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم القرآن. فانطلق فأرانا آثارهم. . . الحديث.
وخلاصة معنى هذه الآيات:
لقد وجّهنا إليك أيها الرسول مجموعةُ من الجن ليستمعوا القرآن، فلما سمعوه قالوا: أنصِتوا. فلما فرغ من قراءته رجعوا الى قومهم فأنذروهم، وقالوا لهم: يا قومنا، لقد سمعنا آياتٍ من كتاب انزله الله من بعد موسى مصدِّقاً لما تقدَّمه من الكتب الالهية، يهي الى الحق، والى شريعة قويمة، وحياة كريمة، فآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم. يا قومنا أَجيبوا داعي الله الذي يهدي الى الحق، ومن لم يجب الداعي فإن الله سيهلكه، ولن يستطيع أحد أن يحميَه، ان الذين لا يطيعون الله ورسوله في ضلال مبين.
لم يعيَ: لم يعجز. اولو العزم: اصحاب الجد والصبر والثبات. بلاغ: كفاية في الموعظة.
يبين الله تعالى هنا ان الذي خلق هذا الكونَ العجيب بمفرده ولم يُعدِزه خلْقُه وما فيه، يقدر على إعادة الموتى وإحيائهم من جديد، {بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ويوم يوقَف الذين كفروا ويُعرضون على النار، يقول الله لهم: أليست النارُ حقيقةً واقعة؟ .
فيقولون: بلى واللهِ انها الحق. فيقال لهم: ذوقوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذِّبون.
فاصبر ايها الرسول على ما أصابك من اذى وتكذيب، كما صبر أولو العزم من الرسُل قبلك، ولا تستعجل لهم العذابَ فهو واقعٌ بهم لا محالة، كأنّهم يومَ يشاهدون هولَه يظنّون أنّهم ما أقاموا في هذه الدنيا الا ساعةً من نهار. إن هذا القرآن بلاغٌ لهم، فيه الكفاية لمن طلب الرشد والهداية.
ثم بعد ذلك أوعد وأنذر فقال: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ القوم الفاسقون} .
قراءات:
قرأ يعقوب: يقدر. والباقون: بقادر.
وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالوعيد للفاسقين، وما الله يريد ظلماً للعباد.
صدوا عن سبيل الله: صرفوا الناس عن الاسلام. أضلّ اعمالهم: أبطلها. اصلح بالَهم: أصلح حالهم، والبال معناه القلب والخاطر. والبال: الامل، ويقال: فلان رضيّ البال وتاعم البال: موفور العيش هادئ النفس. فضرب الرقاب: فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم. أثخنتموهم: اكثرتم فيهم القتل. فشدّوا الوثاق: فأسِروهم واربطوهم. الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به. فإما منّاً بعدُ واما فداء: فاما ان تطلقوا سراحهم بدون فداء، واما ان يفدوا أنفسهم بشيء من المال. حتى تضع الحرب أوزارها: حتى تنتهي الحرب، الأوزار: اثقال الحرب من سلاح وغيره.
قسم الله الناس فريقين: أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله، وبيّن ان هؤلاء قد أبطلَ اعمالهم، وأهل الايمان الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات، وقد محا عنهم سيئاتهم، وأصلح حالهم في الدين والدنيا.
ثم علل ذلك بان اعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة، بأن الحق منصور، والباطل مخذول، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} ، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الامثال للناس ليعتبروا.
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد ان استقر المؤمنون في المدينة، وبدأوا في تأسيس الدولة الاسلامية. وتبين هذه الآياتُ مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن. فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى، وبعد ذلك لكم الخيار: إما ان تُطلقوا الأسرى او بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك، وإما ان تأخذوا منهم الفدية، او تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر. وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها.
ثم بين الله تعالى ان هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد.
واما الشهداء الذين يُقتلون في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم، بل {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} وفيها كل ما لذ وطاب، وهم يعرفون منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم في الدنيا.
قراءات:
قرأ أهل البصرة وحفص: والذين قُتلوا. بضم القاف وكسر التاء. والباقون والذين قاتلوا.
ان تنصروا الله تنصروا دينه. يثبِّت أقدامكم: ينصركم ويوفقكم. تعساً لهم: هلاكاً لهم. أحبطَ اعمالهم: أبطلها. دمر عليهم: أهلكهم، يقال دمر القوم ودمر عليهم: أهلكهم. وللكافرين امثالُها: للكافرين امثالُ عاقبة الذين دمرهم الله. نولى الذين آمنوا: ناصرهم. وأن الكافرين لا مولى لهم: لا ناصر لهم. والنار مثوى لهم: مقرٌّ لهم. من قريتك: من مكة.
يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله (وذلك بنصرِ شريعته، والقيام بحقوق الاسلام، والسيرِ على منهاجه القويم) ينصركم الله على عدوّكم. وهذا وعدٌ صادق من الله تعالى، وقد انجزه للمؤمنين الصادقين من اسلافنا. فنحن مطالَبون الآن بنصر دين الله والسير على منهاجه حتى ينصرنا الله ويثبّت أقدامنا، واللهُ لا يخلف الميعاد.
اما الذين كفروا بالله فتعساً لهم وهلاكا، واللهُ تعالى قد أبطلَ اعمالهم، وجعلها على غير هدى لأنها عُملت للشيطان. فلقد كرهوا ما انزل الله من القرآن وكذّبوا به وقالوا عنه انه سحر مبين، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وهكذا بات عملهم كلّه هباءً وذهبوا الى النار.
بعد ذلك يوجه الله الناسَ الى النظر في احوال الأمم السابقة ورؤية آثارهم، لأن المشاهَدة للأمور المحسوسة تؤثر في النفوس، فيقول لهم: افلم تسيروا في الأرض فتنظروا ديار الأمم السابقة التي كذّبت الرسل! اتّعظوا بذلك، واحذروا ان نفعل بكم كما فعلنا بمن قبلكم، ممن اوقعنا بهم الهلاك ودمرنا ديارهم. {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ان كل من يكفر بالله ينتظره مثل ذلك العذاب. والله وليُّ من آمن به واطاع رسوله، وليس للكافرين من ناصر على الاطلاق.
وبعد ان بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن هنا نصيب المؤمنين، ونصيب الكافرين في الآخرة، وشتان بين الحالين وبين النصيبين. فالمؤمنون يدخلون جناتٍ عظيمة تجري من تحتها الأنهار إكراماً لهم على إيمانهم بالله ونصرهم لدينه وشريعته. والكافرون يتمتعون في الدنيا قليلا، ويأكلون كما تأكل الحيوانات، غافلين عما ينتظرهم من عذاب أليم، {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} فهي مأواهم الذي يستقرون فيه.
وهنا يسلّي الله تعالى رسوله الكريم فيخبره ان كثيراً من أهل القرى السابقين كانوا اشدَّ بأساً وقوة من مكة التي أخرجك اهلُها، ومع ذلك فقد أهلكهم الله بأنواع العذاب فلم ينصُرهم احد، ولم يمنعهم احد.
ثم يبين الله الفرق بين المؤمنين المصدّقين، والكافرين الجاحدين، والسببَ في كون المؤمنين في اعلى الجنان، والكافرين في اسفل الجحيم:
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}
هل يستوي الفريقان في الجزاء؟ لا يمكن، فالذين آمنوا {على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} رأوا الحق وعرفوه واتبعوه. والذين كفروا زين لهم الشيطان سوء اعمالهم فرأوه حسنا فضلّوا {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} فهل يستوي الفريقان؟ لا يستويان ابدا.
مثل الجنة: صفتها. آسِن: متغير الطعم والريح، والفعل: أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم. لذة للشاربين: لذيذ للشاربين. مصفى: قد اخذ منه الشّمع. حميماً: شديد الحرارة. آنفا: قريبا. وآتاهم تقواهم: الهمهم تقواهم، وفقهم اليها. أشراطها: علاماتها. فأنّى لهم: فكيف لهم. ذكراهم: تذكرهم. متقلَّبكم: تصرفكم في اعمالكم. مثواكم. مأواكم ومصيركم في الآخرة.
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين انها: فيها انهار من ماء عذب لم يتغير طعمه، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه، وانهار من خمر لذيذة للشاربين، وانهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر. وفيها من جميع انواع الثمرات. وفوق كل هذه النعم يأتي رضى الله عنهم {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} .
فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار، {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} ؟؟ .
وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة: ماذا قال محمد ونحن في مجلسه؟ فإننا لم نفهم منه شيئا. وهذا كله سخرية واستهزاء.
{أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ}
فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا. اما الذين اهتدوا الى طريق الحق فقد زادهم الله هدى، وألهمهم تقواهم وصلاحَهم. ثم عنّف الله اولئك المكذّبين، وأكد انهم لم يتّعظوا بأحوال السابقين، وعليهم ان يتوبوا قبل ان تأتيهم الساعة بغتة وقد بدت علاماتها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم. ففي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عن هـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بُعثت انا والساعة كهاتين» ، واشار بإصبعيه السبّابة والتي تليها. ولا ينفعهم شيء اذا جاءتهم الساعة كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} [الفجر: 23] .
وبعد أن بيّن أن الذِكرى لا تنفع يوم القيامة أمرَ رسولَه الكريم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله واصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
{والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
هو العليم بتصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة.
قراءات:
قرأ ابن كثير: أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين. والباقون: آسن: بمد الهمزة. وقرأ ابن كثير: أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر. والباقون: آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل.
لولا نُزّلت سورة: هلاّ أنزلت سورة. محكمة: بينة، واضحة. في قلوبهم مرض: شك ونفاق. نظ رالمغشيّ عليه من الموت: كالجبان الذي يخاف من كل شيء. أولَى لهم: ويل لهم. عزم الأمرُ: جد ولزم. إن توليتم: صرتم حكاما وتوليتم امور الناء.
ان المؤمنين المخلصين يقولون: هلاّ أنزِلتْ سورةٌ تدعونا الى القتال، فإذا انزلت سورةٌ مُحكَمة تأمر به، رايتَ يا محمد الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليكَ بهلَع وخوفٍ كأن الموت يغشاهم، خوفا من القتال وكرها له.
{فأولى لَهُمْ}
فالموتُ أَولى لمثل هؤلاء المنافقين، أهلكهم الله.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ان طاعةً لله وكلمة طيبة لهي أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجبن من لقاء العدو، فاذا جدَّ الأمرُ ولزمهم القتال - كرهوه وتخلفوا عنه خوفا وجبنا، ولو صدَقوا في ايمانهم لكان خيرا ًلهم من نفاقهم هذا.
ثم زاد في تأنيبهم وتوبيخهم بقوله:
أولئك المنافقون الذين طردهم الله من رحمته، فأصمَّهم عن سماع الحق، وأعمَى أبصارَهم عن رؤية طريق الهدى.
يتدبرون القرآن: يتفهمون معانيه ويتفكرون فيه. ارتدّوا على أدبارهم: رجعوا الى الكفر. سوّل لهم: زين لهم. وأملَى لهم: مدّ لهم الأماني والآمال. أضغانهم: جمع ضِغن وهو الحقد الشديد. بسِيماهم: بعلامتهم. ولتعرفنّهم في لحن القول: في اسلوبه الذي يتكلمون به ومغزاه. ولنبلونَّكم: لنختبرنكم.
افلا يتفهّمون معاني القرآن ويتفكرون فيه، ام ان قلوبهم مغلقةٌ كأن عليها الاقفال! ان الذين رجعوا الى الكفر بعد أن ظهر لهم طريق الحق والهداية، انما زين لهم الشيطانُ الكفر واغراهم بالنفاق، ومد لهم في الآمال الباطلة. ولقد جاءهم ذلك الضلال من جيرانهم اليهود من بني قريظة والنضير الذين كرهوا الاسلام والقرآن ورسالة الرسول الكريم. فهؤلاء المنافقون مالأوا اليهود فأطمعهم أولئك ببعض الامر، والله يعلم اسرار المنافقين.
هذه الحيل وذلك النفاق وان نفعت في حياتهم فلن تنفع آخر الأمر. {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} انها خاتمة سيئة، ومشهد مخيف مفزع.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
ان هذا الهول الذي سوف يرونه عند الوفاة انما سببُه أنهم اتّبعوا الباطل الذي لا يرضى الله عنه، وكرهوا الحق الذي يرضاه، فأبطل أعمالَهم جميعها.
ثم بين الله انه يعلم خباياهم ومكرهم وخبثهم فقال:
{أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ}
فهل يظن هؤلاء المنافقون ان الله لن يُظه~رَ أحقادهم ويفضحهم للرسول والمؤمنين! ولو نشاء لعرّفناك يا محمد أشخاصَهم، فعرفَته بعلاماتٍ خاصة بهم.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول}
وأُقسِم أيّها الرسول لتعرفنّهم في اسلوبِ كلامهم المعوج، {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .
وقد ثبت في الحديث الصحيح ان الرسول الكريم كان يعرفهم جميعا، وقد عرّفهم الى حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عن هـ.
ولنختبرنّكم أيها المؤمنون بالجهاد وتكاليف الشريعة، حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين في البأساء والضراء، ونعرفَ الصادقَ منكم في إيمانه من الكاذب.
قال ابراهيم بن الاشعث: كان الفضيل بن عياض، شيخ الحرم واستاذ زمانه، اذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهمّ لا تبتلينا، فإنك اذا بَلَوْتنا فضحْتَنا وهتكتَ أستارنا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: وأُمليَ لهم، بالبناء للمجهول. وقرأ يعقوب: واملي لهم، بضم الهمزة وكسر اللام على الإخبار. والباقون: وأَملَى لهم بفتح الهمزة واللام على انه فعل ماضٍ.
قرأ حمزة والكسائي وحفص: إسرارهم بكسر الهمزة. وقرأ الباقون: أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر. وقرأ ابو بكر: وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين. . . . ويبلوا اخباركم. هذه الافعال الثلاثة بالياء. والباقون: بالنون كما هو في المصحف.
شاقّوا الرسول: عادوه وخالفوه. فلا تهِنوا: فلا تضعُفوا عن القتال. وتدعوا الى السلم: تدعوا الكفار الى الصلح خوفا منهم. الأعلَون: الغالبون. لن يتركم اعمالكم: لن يُنقص اعمالكم يعني ان الله لا يظلمكم. فيُحْفِكم: فيلحّ عليكم ويجهدكم بطلبها، يقال احفاه بالمسألة: اذا لم يترك شيئا من الالحاح. أضغانكم: أحقادكم.
بعد ان بيّن الله تعالى حال المنافقين ذكَر هنا حال أساتذتهم اليهود الذين كفروا بالله وصدّوا الناس عن الاسلام بهبثهم ومكرهم، وعادَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وقد تبين لهم صدقُه وأنه رسولُ من عند الله، وعندهم وصفُه في التوراة. . فهؤلاء لن يضروا الله شيئا، وإنما يضرّون أنفسَهم، وسيحبط الله مكايدَهم التي نصبوها للاسلام والمسلمين.
ثم أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعةِ رسوله الكريم في كل ما يأمران به، وان لا يبطلوا أعمالَهم برفض طاعتهما فيرتدّوا، ولا يقبل الله مع الشرك اي عمل.
وعن قتادة قال في الآية: من استطاع منكم ان لا يُبطل عملاً صالحاً بعمل سوءٍ فليفعل. ثم بين الله مصير الذين كفروا وصدّوا الناسَ عن الدخول في الاسلام، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم. وحرّض المسلمين بأن يقاتلوا الكفار بقوله:
{فَلَا تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون}
إياكم ان تضعفوا وتدعوا اعدائكم الى السلم فأنتم المنتصرون. والله معكم بنصره، ولن ينقصكم ثواب اعمالكم.
ثم أكد على المؤمنين بأنه لا ينبغي الحِرصُ على الدنيا فإنها ظلٌّ زائل، وما هذه الحياة الا لعب ولهو.
{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} الا القليل النزر الذي فيه اصلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة. وهو عليم بأنكم أشحّة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرتْ أحقادكم على طالبيها. واللهُ قد طلب إليكم الانفاق في سبيله، فان بخلتم فضرر ذلك عائد اليكم. وهذا حاصل اليوم، فان معظم أموال البترول مكدّصة في بلاد الغرب، والمسيطرون على هذه الاموال ينفقون على ملذّاتهم الملايين، ويبخلون بالإنفاق في سبيل الله وتسليح المخلصين من العرب ليصدّوا عدونا اليهود وغيرهم من الاعداء.
كأن الآيةَ نزلت في وقتنا الحاضر، وهي صريحةٌُ في شرح احوالنا.
وهنا يأتي التهديد المخيف اذ يقول تعالى:
{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم}
فان تعرِضوا وبتخَلوا باموالكم ولا تنفقوا في سبيل الله، فان الله غنيٌّ عنكم يستبدلُ مكانكم قوماً غيركم، فيكونوا خيراً منكم، يقيمون دينه، ويبذلون أموالَهم في سبيلِ الله بسَخاء، وينصرون هذا الدينَ العظيم. اللهم ألهمنا الصوابَ في القول والعمل.
فتحنا لك فتحا مبينا: نصرناك نصرا بينا ظاهرا. وكان صلح الحديبية نصراً كبيرا للنبي الكريم، إذ كان سببا في فتح مكة. قال الامام الزهري: لم يكن فتحٌ اعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الاسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلقٌ كثير كَثُر بهم سواد الاسلام، فما مضت تلك السنن الا والمسلمون قد جاؤا الى مكة في عشرة آلاف ففتحوها. السَّكينة: الطمأنينة والثبات.
إنا فتحنا لك يا محمد فتحاً ظاهرا عظيما بذلك الصلح الذي تم على يديك في الحديبية، وكان نتيجته الكبرى استيلاءك على مكة وازالة الكفر منها.
ليغفر اله لك، بسبب جهادك وصبرك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويُتم نعمته عليك بإعلاء شأن دينك، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة، ويهديك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة واقامة الدين، وينصرك على أعدائك نصراً فيه عز ومنعة.
ان الله هو الذي انزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين في المواقف الحرجة ووسْط المخاوفِ والشدائد ليزدادوا بها يقيناً، ولله جنودُ السموات والأرض يدبّر أمرها كما يشاء، ويسلّطها على من يشاء لتأديبه، وكان علم الله محيطاً بكل شيء.
ليدخلَ الله المؤمنين والمؤمنات بالله ورسوله جناتٍ تجري من تحتها الانهار، ما كثين فيها أبدا، ويمحوَ عنهم سيئاتهم، وكان ذلك الجزاء عند الله فوزا عظيما.