المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في تحريم السماع بالكتاب والسنة والإجماع - جامع الورع وقامع البدع

[أبو بكر الدشتي]

الفصل: ‌فصل في تحريم السماع بالكتاب والسنة والإجماع

ألا فإني لما رأيت ما ظهر [ق 42 / أ] في بلاد الإسلام وشاع من نُوَيْسٍ

(1)

ينزوا بالمشايخ والفقراء من إكثار اللعب بالقضيب والرقص وصحبته إحداثِ المرد والجهّال غير متنزهين منه ولا منزّهين بقعة، ولا متحاشين من فعل ذلك مع ما أجمع أئمة الإسلام من العلماء والعبّاد على تجنّب ذلك، والإنكار على أهله وتفسيق فاعله إذا رآه حرامًا وتكفيره إذا رآه حلالاً على الوجه الذي هو المشهور بين هذه الطائفة من أبناء زماننا، ولم يخل في كلّ عصر من إمام عالم وشيخ صالح ينكر ذلك ويكرهه ويحذّر الجهّال والصبيان من أن يقعوا في فخوخ الملحدين وفي شباك معاندي الدّين فصنّفت في تحريم ذلك هذا الكتاب وفي بيان ضلال هذه الطائفة الخبيثة مختصرًا اقتداء بأئمة الإسلام من العلماء والعبّاد لعل الله عز وجل أن يحشرنا وإيّاكم في زمرتهم إنه تعالى بنا وبكم خبير، وهو على كل شيء قدير.

‌فصل في تحريم السماع بالكتاب والسنة والإجماع

ألا فاستمعوا الآن ما أذكره من النصوص والبراهين من قول الله عز وجل ومن قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم [ق 42 /ب] أجمعين ومن أقوال الأئمة الأربعة المقتدين بهم رضوان الله تعالى عليهم في الردّ على هذه الطائفة أصلحها الله. فأما الردّ عليها من قول الله تعالى فآيات كثيرة: فمنها قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]؛ لأنه تعالى نبّه على أسباب المهالك والخسران ومع مطلقة، فتجري عليهم بإطلاقها قاله أبو الليث الفقيه السمرقندي

(2)

رحمه الله.

ومنها قوله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] أراد باللغو الغناء قاله الضحاك وعكرمة وقال عطاء: أراد كلما يُلهي.

(1)

تصغير لكلمة: "الناس".

(2)

هو: نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، أبو الليث، من أئمة الحنفية، من الزهاد المتصوفين، توفي عام 373 هـ، له تصانيف نفيسة، منها: تفسير القرآن، عمدة العقائد، بستان العارفين، خزانة الفقه، تنبيه الغافلين، شرح الجامع الصغير، النوازل من الفتاوى. انظر ترجمته في: الفوائد البهية (ص/220)، الجواهر المضية (2/ 196)، الأعلام للزركلي (8/ 27)، وغيرها.

ص: 106

ومنها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61] أي وأنتم تغنّون بلغة حمير، ويقول أهل اليمن: سمد فلان إذا غنى قاله ابن عبّاس

(1)

ومجاهد

(2)

.

ومنها قوله عز وجل في حقّ إبليس اللعين: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وقال مجاهد: صوته الغناء والمزامير. ألا فكفى بقومٍ ضلالةً وخزيًا أن جعلوا صوت الشيطان عبادة الرحمن وأنهم أعمى وأضل من قوم عابهم الله [ق 43 / أ] بقوله {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قيل: المكاء: التصفير والتصدية: التصفيق.

ومنها قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أي: لا يشهدون الغناء قاله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية ومجاهد.

(1)

صحيح - أخرج ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/42)(33)، والبزار في "مسنده"(11/ 40)(4742)، والطبري في "تفسيره"(22/ 559)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 377)، وغيره من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: : {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال: " هو الغناء بالحميرية ، اسمدي لنا ، تغني لنا " ورواته ثقات.

(2)

الذي وقفت عليه عن مجاهد أنه كان يفسر السمود بالبرطمة، فروى الطبري في "تفسيره" (22/ 559 - 560) من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) قال: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا مُبَرْطِمين، وابن أبي نجيح وإن كان يدلس عن مجاهد، ولم يصرح بالسماع منه إلا أن الواسطة بينهما معروفة وهو: القاسم بن أبي بزة وهو ثقة.

ص: 107

ومنها قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6] لهو الحديث: الغناء. قاله ابن العباس

(1)

وابن مسعود

(2)

وابن عمر

(3)

(1)

حسن لغيره - أخرج البخاري في "الأدب المفرد"(ص/274)(786)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/40)(27)، والطبري في "تفسيره"(20/ 127، 128)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 373) من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) (لقمان: 6) قال: الغناء وأشباهه. وعطاء اختلط، وللأثر طرق أخرى عند الطبرى، وغيره فيها ضعف، ولكنها تقويه.

(2)

إسناده حسن - أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 368)(21130)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/39)(26)، والطبري في "تفسيره"(20/ 127)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 445)(3542)، وصححه على شرطهما، وقال الذهبي:"صحيح"، والبيهقي في "الشعب"(7/ 106)(4743)، وغيرهم من طريق حميد الخراط عن عمار الدهني عن ابن جبير عن أبي الصهباء أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) فقال عبد الله: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مرّات. وصهيب -وهو أبو الصهباء البكري- فقد روى له أبو داود والنسائي وله ذكر في "صحيح مسلم"(1594)(100) في حديث داود عن أبي نضرة، عن أبي سعيد في الصرف، ووثقه أبو زرعة والعجلي وابن حبان، وقال النسائي: بصري ضعيف، وقال ابن حجر: مقبول. فالإسناد حسن.

(3)

منكر - أخرج الواحدي في "تفسيره"(3/ 441)(722) من طريق إسماعيل بن إبراهيم النصراباذي الصوفي، أنا إسماعيل بن نجيد، أنا محمد بن الحسن بن الخليل، نا هشام بن عمار، نا محمد بن القاسم بن سميع، أنا ابن أبي الزعيزعة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية، {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: باللعب والباطل، كثير النفقة، سمح فيه، لا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به) وابن أبي الزعيزعة قال عنه أبو حاتم: منكر الحديث جدا لا يشتغل به ..

ص: 108

وعكرمة والحسن البصري وقتادة وإبراهيم النخعي رضوان الله عليهم، وفي لفظ لابن عبّاس رضي الله عنه:"الباطلُ والغناء"

(1)

. ولا شكّ ولا مرية عند ذوي البصائر والعقول أن لعب القضيب والرقص من اللهو ومن الباطل وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن معنى هذه الآية فقال: "هو والذي لا إله إلا هو الغناء"، وفي لفظ قال:"والذي لا إله إلا هو الغناء، والذي لا إله إلا هو الغناء"

(2)

. وقال مجاهد: لهو الحديث الغناء والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليها وإلى مثلها من الباطل، فذلك لهو الحديث يتخذها هزوًا ولحديث مجاهد طرق كثيرة، وبه يقول جماعة آخرون من أئمة الإسلام وعلمائهم أن لهو الحديث الغناء. وأكذب الله عز وجل أهل الرقص والسماع بقوله:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وبقوله [ق 43 / ب] عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]، وبقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بتكذيب من أحدث في دين الله ما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما روى الطبري في "تفسيره"(20/ 128) من طريق محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال: "باطل الحديث: هو الغناء ونحوه".وهذه سلسلة تسمى سلسلة العَوْفيين سلسلة العجب، وهي سلسلة ضعيفة.

(2)

سبق تخريج أثر ابن مسعود رضي الله عنه آنفا.

ص: 109

وعمل هذه الطائفة الخبيثة شرع في دين الله غير مأذون به من الله وكل ما كان كذلك فهو مردود ومذموم لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] فمن زعم أنَّ ما تفعل هذه الطائفة المحدثة من ضرب القضيب والتواجد والرقص واستماع الغناء والشبابات حسن ومندوب إليه يكون قد شرع في دين الله ما لم يأذن به الله عز وجل، والله قد منع ذلك وأبين من هذا أن من شرع شرعًا لم يأذن به فهو صاحب شرك؛ لأن اتّباع الشرع عبادة والمعبود رب فمن لا رب له إلا الله فهو لا يتبع إلا لربّه عز وجل، ولماء جاء عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن له ربّ غير الله تعالى فإنّه متّبع له، ولما شرع عنه فمعبود أهل الرقص والسماع من شرع لهم الرقص والسماع أعاذنا الله وإيّاكم [ق 44 /أ] من ذلك. وقد جاء في القرآن النهي عن الرقص قال الله عز وجل:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] وقد ذمّ الله عز وجل المختال ونهى عن الرقص أشد من الخيلاء وأشدّ من المرح والبطر. أولسنا قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في السكر، فما لنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل؛ لاجتماعهم في الإطراب وهل يحسن يا إخواني بمن يريد الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم صائر إلى إحدى الدارين أن يشمص بالرقص تشميص البهائم

(1)

، ويصفق تصفيق النسوة عند حضور المرد ألا وهل شيء يرزي

(2)

(1)

شَمَصَ الدَّوابَّ: طَرَدَهَا طَرْداً نَشيطاً أو عنِيفاً، وانظر القاموس المحيط، ومختار الصحاح وتهذيب اللغة وغيرها.

(2)

أي يلجئ ويصير، قال الأزهري في "تهذيب اللغة": " وَقَالَ شمر: إِنَّه ليُرْزِي إِلَى قوّةٍ، أَي: يَلجأُ إِلَيْهَا؛ وأَنشَد قولَ رؤبة:

يُرْزِي إِلَى أَيْدٍ شَديد إيَاد

وَقَالَ اللَّيْث: أَرْزَا فلانٌ إِلَى كَذَا، أَي: صَار إِلَيْهِ، وَالصَّحِيح تركُ الْهَمْز".

ص: 110

بذوي العقل والوقار ويخرجهم عن سمت الحلم والأدب بأقبح من ذي لحية أن ينفذ كالدب عند استماع الأغاني خصوصًا إذا كان ذا شيبة على وقاع الألحان مع الاستماع إلى أصوات الأغاني من النساء والمرادان فإذا تمكن الطرب منهم في حال رفضهم جذب أحدهم بعد الجلوس ليقوم معه ولا يجوز على مذهبهم الخبيث للمجذب أن يقعد، فإذا قام قام الباقون تبعًا له، وإذا كشف رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له، وهذا قبيح وجهل منهم [ق 44 / ب] شرع لهم هذا القبيح ولا يخفى على عاقل أن كشف الرأس مستقبح، وفيه إسقاط مروءة وترك أدب، وما ذاك إلا من هوى نفوسهم الخبيثة استحوذ عليهم، فاستفزهم، أعاذنا الله إيّاكم يا إخواني مما يصم وبصرنا وإياكم بما يعصم

(1)

، وأقول شعرا:

شيوخ الخبز باللهو استطالوا

وأمكنهم مقالهم فقالوا

وكثر من سوادهم أناس

دعاهم حظّ أنفسهم فمالوا

قد اتبعوا شيوخ الخبز قومًا

إذا رأوا الطبيخ عليه صالوا

تراهم دائرين على القُرايَا

إذا ما جال أشقاهم وجالوا

على هوائهم تبعوه طرا

وكل مآل جهل فيه آلوا

أطاعوه على فعل المناهي

وطال بهم وهم إذ ذاك طالوا

غدوا سكرى خَبارَى تابعوه

قد ارتكبوا الحرام ولم يبالوا

بما تبعوا لدجال كذوب

عليهم مستحيل ما استحالوا

وقد خسروا به ما لم يتوبوا

نصوحًا توبة لله نالوا

(1)

بالأصل: " يعصهم".

ص: 111

فصل

وأما من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على هذه الطائفة الخبيثة أخبار كثير فمنها ما صح وثبت عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ" وفي لفظ [ق 45 /أ] قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وفي لفظ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(1)

. ألا والذي أنكرناه على هذه الطائفة الخبيثة حدث وفعل وأمر وعمل قد أدخل في ديننا ما ليس منه [ولا]

(2)

عليه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم لما دانوا ما أنكرناه على الطائفة الخبيثة، وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وهو أحد الأحاديث الأربعة التي قال أبو داود مدار الإسلام عليها. ألا فكلما أحدثه لما أحدثه

(3)

لم يسنده إلى نصٍّ كتاب منزل أو إلى أمر رسول مرسل فهو مردود على محدثه مذموم بإحداثه ذلك، متهم في دينه ساقط العدالة بفعله، ممقوت عند ربه، وعند صالحي [المؤمنين] وصح وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]:"لعن الله من آوى محدثا"

(4)

،

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(3/ 184)(2697)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1343)(1718)، وغيرهما من طريق القاسم بن محمد عن عائشة باللفظ الثاني والثالث، وأما اللفظ الأول فذكره ابن بطة في "إبطال الحيل"(ص/56) به، والقاضي عياض في "الشفا" (2/ 37) بلفظ: في أمرنا"، وغيرهما بدون إسناد، وغالب الظن أنه مساق بالمعنى.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

بالأصل: لم أحدثه.

(4)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(3/ 1567)(1978) مطولا من حديث علي رضي الله عنه ..

ص: 112

وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من آوى محدثا، فلا شك ولا ريبة أن من أحدث حدثاً أو ابتدع بدعة أكبر جرمًا وألعن وأضلّ ممن آوى محدثًا، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي عليه السلام [ق 45 / ب] قال:«كَسْبُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ»

(1)

(1)

إسناده ضعيف جدا - أخرجه أبو يكر الشافعي في "الغيلانيات"(ص/129)(84)، والآجري في "تحريم النرد"(ص/194)(59) من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية، ثنا عباد بن يعقوب، ثنا موسى بن عمير، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه مطولا به، وفيه موسى بن عمير قال عنه في "التقريب":"متروك وقد كذبه أبو حاتم" ..

ص: 113

وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلما يلهو به المرء باطل إلا رمية بقوس وتأديب فرس وملاعبة أهله، فإنهن من الحق"

(1)

هذا حديث رواه الدارمي في مسنده وأبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم والترمذي في جامعة وقال: حديث حسن.

(1)

حسن لغيره - أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11/ 461)(21010)، ومن طريقه أحمد في "مسنده"(28/ 572)(17337) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن عبدالله بن زيد الأزرق عن عقبة رضي الله عنه مطولا به، ويحيى ثقة إلا أنه كان يرسل ويدلس، وقال ابن معين:"لم يسمع يحيى من زيد بن أسلم"، وقد اختلف على يحيى في هذا الإسناد فرواه عنه هشام الدستوائي فقال: عن يحيى عن أبي سلام - وهو ممطور الحبشي - عن عبدالله بن الأزرق به، أخرجه أحمد في "مسنده"(28/ 532)(17300)، والترمذي في "سننه"(4/ 174)(1637)، و ابن ماجه في "سننه"(2/ 940)(2811)، والطيالسي في "مسنده"(ص/135)(1007)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 229)(19549)، والدارمي في "سننه"(2/ 269)(2405)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 270)، والطبراني في "الكبير"(17/ 341)(941)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 13) به، وهذا إسناد ضعيف أيضا: قال ابن معين: "يحيى بن أبي كثير يقول: حدث أبو سلام، ولم يلقه ولم يسمع منه شيئا"، وقال حرب بن شداد:"قال لي يحيى بن أبي كثير: كل شيء عن أبي سلام فإنما هو كتاب"، ومدار الطريقين السابقين على عبدالله بن زيد بن الأزرق لم يوثقه غير ابن حبان، وقال عنه ابن حجر في "التقريب":"مقبول"، وقد تابعه خالد بن زيد، فروى سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 206)(2450)، ومن طريقه أبو داود في "سننه"(3/ 13)(2513)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 218)، ورواه أيضا النسائي في "الكبرى"(3/ 318)(4404) - كلهم - من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو سلام حدثني خالد بن زيد عن عقبة رضي الله عنه بنحوه، وخالد بن زيد لم يرو عنه غير أبو إسلام ممطور الأسود ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال عنه ابن حجر:"مقبول"، وللحديث شاهد صحيح يتقوى به، وهو الحديث التالي.

ص: 114

وروي أن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمر رضي الله عنهم يرتميان فملّ أحدهما فقال الآخر: أكسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لَغْو وسهو إِلَّا أَربع خِصَال: مشي الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أَهله وتعلّم السباحة"

(1)

. ألا فقد نصّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأربع خصال حقّ وما سواهنّ مما يلهو به الرجل المسلم فهو باطل، فلا شك ولا مرية عند ذوي العقول والبصائر أن اللعب بالشطرنج والقضيب واستماع الغناء والشبابات والرقص الذي هو ضرب الأرض بالأرجل من الباطل، وليس من الحق في شيء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل جميع اللهو من الباطل، ثم استثناء أربع خصال [ق 46 /أ] وجعلهنّ من الحقّ وما أنكرناه خارجًا مما استثناه وقال الله عز وجل:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، فالعاقل المسلم الذي لا يرضى لنفسه أن يفعل الباطل ولا أن يستمع الباطل إنما يستمعه ويفعله سفيه جاهل مغرور خبيث متبع هواه، وفي كتاب الرسالة في ذمّ الغناء والنفير والرقص والنظر إلى أحداث المرد للقاضي الإمام أبي الحسين الفرار

(2)

(1)

صحيح - أخرجه النسائي في "الكبرى"(5/ 176 - 177)(8889: 8891)، والطبراني في "الكبير"(2/ 193)(1785)، وفي "الأوسط" (8/ 118) (8147) من طريق عطاء قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين به، وصحح ابن حجر في الإصابة (1/ 439) في ترجمة جابر بن عمير إسناد النسائي.

(2)

كذاب الأصل، ولعله يشير إلى الإمام العلامة شيخ الحنابلة القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء، وقد ذكر له الشيخ بكر في "المدخل المفصل" كتابا بعنوان"ذم الغناء" ..

ص: 115

رحمة الله عليه أنه قال: وروى أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمرو وعمران بن حصين ومعقل بن يسار [وعبد الله بن عمر] وأنس بن مالك رضي الله عنهم عن النبي عليه السلام: "أنه نهى عن الرقص ونهى عن الاستماع إلى المغنية ونهى عن الغناء"

(1)

، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يغني من الليل، فقال رسول الله عليه السلام:"ولا صلاة له" حتى قال ذلك ثلاث مرات

(2)

، هذا حديث رواه أبو يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوري في كتاب "المناهي وعقوبات المعاصي"

(3)

، وذكر القاضي أبو الحسين محمد بن أبي الحسن المنيحي الشافعي رحمة الله عليه في كتاب "فضائل الفقراء" وذمّ المتشبهين بهم، وليسوا منهم بصفة، قال: وروي الواحدي رحمه الله في تفسير الوسيط بسنده إلى رسول الله عليه السلام أنه قال: "من [ق 46 / ب] علا مسامعه من الغناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة" قيل: وما الروحانيون يا رسول الله عليه السلام؟ قال: قراء أهل الجنة"

(4)

.

(1)

باطل - ذكره ابن العراق في "تنزيه الشريعة" مطولا جدا، وعزاه للحكيم الترمذي في "كتاب المناهي" وقال:" فيه عباد بن كثير قال الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد (قلت) وذكر النووي في شرحه على المهذب من هذا الحديث النهي عن استقبال الشمس والقمر وقال حديث باطل لا يعرف".

(2)

ضعيف جدا - أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 119) بسند فيه سعيد بن سنان قال عنه في "التقريب": "متروك، ورماه الدارقطنى و غيره بالوضع). وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 115)، وقال:(هذا حديث لم يصح. قال يحيى بن معين: سعيد ليس بثقة أحاديثه بواطيل وقال النسائي: متروك الحديث).

(3)

لم أقف عليه مطبوعا، وله نسخة خطية بالمكتبة المركزية - الجامعة الا سلاميه، بالمدينة المنورة برقم حفظ:335.

(4)

موضوع - أخرجه الواحدي في "الوسيط"(3/ 441)(723)، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (6516):(موضوع. آفته حماد بن عمرو - وهو: النصيبي -، قال الذهبي في "المغني": "روى عن الثقات موضوعات، قاله النقاش، وقال النسائي: متروك". قلت: وهو معدود فيمن يضع الحديث، كما قال ابن عدي وغيره).

ص: 116

وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله في ذكر تلبيس إبليس اللعين على هذه الطائفة بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يرفع عقيرة صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين يرتدفانه فردف هذا من هذا الجانب وذا من ذا الجانب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما في صدره حتى يسكت"

(1)

.

(1)

ضعيف جدا - أخرجه الطبراني في " الكبير"(8/ 180)(7749)، وفي "مسند الشاميين"(1/ 144)(231) من طريق الوليد بن الوليد، ثنا ابن ثوبان، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة بنحوه، وفيه الوليد قال عنه أبو حاتم:"صدوق"، وقال الدارقطني وغيره:"متروك"، ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/46)(41)، والطبراني في "الكبير"(8/ 304)(7825) من طريق سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة بنحوه، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (2/ 335):(وهذا سند ضعيف جدا، علته علي بن يزيد وهو الآلهاني أبو عبيد الله بن زحر. أما الآلهاني، فقال البخاري: " منكر الحديث ". وقال النسائي: " ليس بثقة ". وقال أبو زرعة: " ليس بالقوي ". وقال الدارقطني: " متروك ". وأما ابن زحر، فقال أبو مسهر: " صاحب كل معضلة، وإن ذلك على حديثه لبين ". وقال ابن المديني: " منكر الحديث ". وقال ابن حبان (2/ 63): " يروي الموضوعات على الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم "! ).

ص: 117

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوتٍ عند نعمة لهو ولعب مزامير الشيطان وصوت عند مصيبة خمس وجوه وشق جيوب أو رنة شيطان"

(1)

. هذا حديث رواه البغوي في شرح السنة وقال حديث حسن. وروي أن امرأة غنت فقال رسول الله عليه السلام: "نفخ الشيطان في منخريها"

(2)

. هذا حديث أخرجه النسائي في سننه. وروي صفوان بن أميّة رحمه الله قال: كنا جلوس عند رسول الله عليه السلام، فجاء عمرو بن فرقد

(3)

،

(1)

حسن لغيره - أخرجه الترمذي في "سننه"(3/ 319)(1005)، وقال:"حديث حسن"، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 62)(12124)، وعبد بن حميد في "مسنده"(ص/309)(1006)، والبيهقي في "الكبرى"(4/ 115)، والبغوي في "شرح السنة"(5/ 431)، وغيرهم من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر مختصرا، ومطولا بنحوه، وابن أبي ليلى قال عنه في "التقريب":"صدوق سيء الحفظ جدا" كما أنه اضطرب فجعله من مسند جابر مرة، ومرة من مسند عبدالرحمن بن عوف كما في رواية البزار، والطحاوي، والحاكم، وغيرهم. إلا أنه ورد من إسناد آخر حسن، فقد أخرج البزار في "مسنده"(14/ 62)(7513، والضياء في "المختارة" (6/ 188)(2200، 2201)، والأصبهاني في "الترغيب والرهيب":(3/ 238)(2433) من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد هن شبيب بن بشر عن أنس مختصرا بنحوه، وهذا إسناد حسن فيه شبيب قال عنه ابن حجر:"صدوق يخطئ".

(2)

صحيح - أخرجه أحمد في "مسنده"(24/ 479)(15720)، والطبراني في "الكبير"(7/ 158)(6686) من طريق مكي بن إبراهيم، عن الجعيد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا عائشة أتعرفين هذه؟ » قالت: لا، يا نبي الله، فقال:«هذه قينة بني فلان تحبين أن تغنيك؟ » قالت: نعم، قال: فأعطاها طبقا فغنتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قد نفخ الشيطان في منخريها» ورواته ثقات، وهو محمول على الغناء المباح، ويحتمل أنه يكون في عيد ونحوه، ورواه النسائي في "الكبرى"(8/ 184)(8911) من نفس الطريق السابق إلا أنه لم يذكر آخره، وهو موضع الشاهد.

(3)

لم أقف على ذكره من أي من طرق الحديث ..

ص: 118

وفي رواية عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله عليه السلام [ق 47 /أ] إن الله عز وجل قد كتب عليّ الشقوة فما أراني أرزق إلا من دُفِّي بكفّي، فائذن لي يا رسول الله الغناء من غير فاحشة! فقال رسول الله عليه السلام:"لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ، والله لقد رزقك الله حلالاً طيِّبًا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله، ولو كنت تقدمتُ إليك لفعلت بك، قم عنِّي وتبرأ إلى الله، أما [إنك إن] فعلت بعد التقدمة ضربتك ضربًا وجيعًا وحلقت رأسك مثله، ونفيتك من أهلك وأحللت سلبك نُهْبَةً لفتيان أهل المدينة"، فقام عمرو مرعوبًا وبه من الحزن والشرّ والخزي ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فلما ولى قال رسول الله عليه السلام:"هؤلاء العصاة من مات منهم على غير توبة حشره يوم القيامة كما كان في الدنيا مخنثًا لا يستره من الناس بِهُدْبَةٍ، كلما قام صرع"

(1)

هذا حديث أخرجه الأئمة أبو القاسم الطبري وأبو بكر الآجري رحمة الله عليهما في كتاب "المسألة في تحريم الغناء والرقص"[و] أبو عبد الله القزويني رحمة الله عليه في سننه وترجم عليه وسمّاه باب المخنثين، وهذا مبالغة عن النبي عليه السلام في تحريم هذا الفعل والزجر عنه وعن [ق 47 / ب] استماعه. وفي كتاب "الأربعين" للقاضي أبي بكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي قال: حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد

(2)

بن مسلم عن ثور بن يزيد عن خالد عن

(3)

عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر الكلاعي قال: "دخلنا على العرباض بن سارية وهو الذي قال الله تعالى فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ

}

(1)

موضوع - أخرجه ابن ماجه في "سننه"(2/ 871)(2613)، وابن الأعرابي في "معجمه"(2/ 712)(1448)، والطبراني في "الكبير"(8/ 51)(7342)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" وغيرهم من طريق الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أخبرني يحيى بن العلاء، أنه سمع بشر بن نمير، أنه سمع مكحولا يقول: إنه سمع يزيد بن عبد الله، أنه سمع صفوان بن أمية فذكره، وفيه يحيى بن العلاء قال عنه في "الكاشف":"تركوه"، وقال عنه في "التقريب":"رمي بالوضع"، وشيخه بشر قال عنه الذهبي:"تركوه"، وقال عنه ابن حجر:"متروك متهم".

(2)

بالأصل: "إبراهيم الوليد"، وهو خطأ.

(3)

بالأصل: "بن"، وهو خطأ.

ص: 119

الآية [التوبة: 92] وهو مريض فقلنا: جئناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال عرباض: إن رسول الله عليه السلام صلى بنا صلاة الغداة، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم، فوعظنا موعظة بليغة زرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله إن هذه موعظة مودّع فما تعهد إلينا، فقال عليه السلام:«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سيرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ»

(1)

. قال القاضي بو بكر رحمة الله عليه: "في هذا الحديث [ق 48/ 1 مكرر /أ] علوم كثير [ة] يحتاج إلى علمها جميع المسلمين ولا يسعهم جهلها منها: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بما أمره الله تعالى به من تقواه ولا يعملون بتقواه إلا بالعلم، قال بعض الحكماء: وكيف يكون متقيًا من لا يدري ما يتقي. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يتّجر في أسواقنا إلاّ من فقه، وإلا أكل الربا شاء أو أبى"

(2)

. قلت: فعلى جميع المسلمين أن يتقوا الله تعالى في أداء فريضته واجتناب محارمه.

(1)

صحيح - أخرجه الآجري في "الأربعين"(ص/94)(8) وفيه الوليد بن مسلم يدلس ويسوي، وقد صرح في بعض الطرق بالتحديث لنهاية السند، إلا أنه دلس تدليس العطف في آخره، وللحديث طرق أخرى، ولأطرافه شواهد يصح بها.

(2)

لم أقف عليه مسندا.

ص: 120

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالسمع والطاعة لكلّ من ولى عليهم من عبد أسود وغير أسود ولا يكون الطاعة إلا في معروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أعلمهم في غير موضع إنما الطاعة المعروف

(1)

. ومنها: أنه عليه السلام أعلمهم أنه سيكون بعده اختلاف كثير بين الناس فأمرهم صلى الله عليه السلام بلزوم سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وحثهم على أن يتمسكوا بها التمسك الشديد مثل ما يعضّ الإنسان بأضراسه على الشيء يريد أن لا ينفلت منه، فواجب على كل مسلم أن يتّبع سنة النبي عليه السلام ولا يعمل شيئًا إلا بسنته عليه السلام وسنة الخلفاء الراشدين بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وكذلك [ق 48/ 1 مكرر / ب] وكذلك لا يخرج عن قول صحابته فإنه يرشد إن شاء الله تعالى.

(1)

أخرج البخاري في "صحيحه"(6/ 151)(4340)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1469)(1480) من طريق سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف» .

ص: 121

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم حذّرهم البدع وأعلمهم أنها ضلالة، فكل من عمل عملاً أو تكلَّم بكلام لا يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين وأقوال الصحابة رضوان الله عليه فهو بدعة وضلالة، ومردود على فاعله لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»

(1)

، ومنها أن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال:"وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ» ميّزوا هذا الكلام لا قال صرخنا من موعظة ولا زعقنا ولا طرقنا على رؤوسنا ولا ضربنا على صدورنا ولا زَفَنَّا ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهّال يصرخون عند المواعظ ويتغاشون ويتماوتون، وهذا من فعل الشيطان؛ لأنه يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة يقال لمن فعل هذا: اعلم أن النبيَّ عليه السلام كان أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلبًا وأصحابه رضوان الله عليهم أرقّ الناس قلوبًا وأخير الناس ممن جاء بعدهم لا يشك في هذا عاقل، ما صرخوا [ق 48/ 2 مكرر /أ] عند موعظته صلى الله عليه وسلم ولا زعقوا ولا رقصوا ولو كان هذا صحيحًا كانوا حقّ الناس به من أن يفعلوه بين يدي رسول الله عليه السلام، ولكنه بدعة وضلالة وباطل ومنكر، فاعلم ذلك فتمسكوا رحمكم الله بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه السلام وسنة الخلفاء الراشدين، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وأرفض ما سوى ذلك". ألا فاعتبروا وتدبروا ما ذكرناه وما نذكره الآن من قول نبيكم عليه السلام إن كنتم من أمته فتدبروا أمره؛ حيث قال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" معناه: فاقتدوا بي واسلكوا طريقي وطريق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين واقتدوا بهم، وأقول شعرا:

تدبر كلام الله واتبع الخبر

ودع عنك رأيًا لا يلائمه أثر

ولا تعدلنّ عن شرع دين محمد

وكن تبعًا للمصطفى سيد البشر

ومن بعده صّديقه خير صحبه

ومن بعده الفاروق أعني به عمر

ومن بعده قول ابن عفان فاتبع

وقول علي وامتثل ما به أمر

وقول إمام قد تبعت طريقه

ومذهبه فاتبع لما عنه قد ظهر

ونهج الهدى فالزمه واقتد بالأولى

هم شهدوا التنزيل تنجو

(2)

من الضرر

[ق 48/ 2 مكرر / ب]

(1)

سبق تخريجه.

(2)

بالأصل: تنجوا.

ص: 122

ولا تعدّ عن نهج الصواب فإنه

سبيل لأرباب البصائر مختبر

وإياك أن تصغي

(1)

إلى قول جاهل

كذوب فتلقى في حسابك في سقر

أحذّركم قول السفيه وفعله

وبدعته يا صاحبي الحذرَ الحذرَ

وفي كتاب "الأمر بإتباع السنن واجتناب البدع" تصنيف شيخنا الحافظ أبي عبد الله المقدسي رحمة الله عليه ورضي الله عنه بإسناده أن أبا سعيد الخراز قال: رأيت أبا القاسم الجوعي رحمه الله في المنام بعد وفاته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: وبخني وأقامني. قلت: بماذا؟ فقال: قال لي عز وجل: "تقعد وتسمع وتتواجد وتقيسني بليلي وسلمى"

(2)

. وفيه بإسناده

(3)

أن أبا برزة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلان يغنيّان قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذان؟ " فقيل له: فلانٍ وفلان. فقال: "اللهم اركسهما في الفتنة ودعهما إلى النار دعًّا"

(4)

.

(1)

بالأصل: تصغ.

(2)

ذكره ضياء الدين المقدسي (ص/ 30 - 31).

(3)

علقه بدون إسناد (ص/ 62).

(4)

ضعيف - أخرجه أحمد في "مسنده"(33/ 23)(19780) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(7/ 526)(37720)، والبزار في "مسنده"(9/ 303)(3859) وأبو يعلى في "مسنده"(13/ 429)(7436) من طريق محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: أخبرني رب هذه الدار أبو هلال قال: سمعت أبا برزة قال فذكره بنحوه، وفيه يزيد ضعيف، وشيخه مقبول ولم يتابع، وشيخه لا يعرف وللحديث شاهد عن ابن عباس عند الطبراني في "الكبير" قال عنه الهيثمي في "المجمع" (8/ 121):" فيه عيسى بن سوادة النخعي وهو كذاب". والحديث له شواهد أخرى ضعيفة لا تصلح لتقويته، وقال محقق المطالب العالية بعد سوقها (11/ 541):(بالنظر إلى هذه الشواهد نجد أنها إما شديدة الضعف، أو بها مجاهيل، فالحديث باق على ضعفه". والحديث قال عنه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (6567): "منكر".

ص: 123

وفيه بإسناده عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن والديه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لست من دد ولا دد مني"

(1)

هذا حديث أخرج الإمام أبو القاسم الطبري. قال الإمام [ق 49 /أ] مالك بن أنس رحمة الله عليه ورضي الله عنه: الدد اللعب واللهو، وقال الخليل بن أحمد رحمة الله عليهما في كتاب "العين": الدد النقر بالأنامل في الأرض، فإذا كان نبينا ورسوله صلى الله عليه وسلم تبرأ ممّن ينقر الأرض بأنامله، فما ظنكم يا ذوي البصائر والعقول باللعب بالشطرنج وبطقطقة وضرب الأرض بالأرجل، ثم ما علمت

(2)

هذه الطائفة الخبيثة أن ما أنكرناه عليهم لو كان مباحًا، ولهم فيه رخصة، فإنه لعب ولهو ووسيلة إلى الغفلة والنسيان والخلاعة. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من ساعة تمرّ على ابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا كانت عليه حسرةً يوم القيامة"

(3)

.

(1)

ضعيف جدا - أخرجه الطبراني في "الكبير"(19/ 343)(794) من طريق محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي، ثنا محمد بن عبد الوهاب الأزهري، ثنا محمد بن إسماعيل الجعفري، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن معاوية به، وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، قال عنه أبو حاتم:"منكر الحديث"، وقال عنه أبو نعيم:"متروك"، وفيه عنعنة المطلب، وهو كثير التدليس. والدراوردي خالفه من هو أضعف منه، وهو يحيى بن محمد بن قيس، فرواه عند البخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني في "الأوسط" وغيرهما عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بنحوه، ورجح الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم حديث الدراوردي، وللحديث طريق آخر عن جابر، وهي ضعيفة أيضا، وقال الشيخ الحويني في "النافلة":" فالحديث لا يصح لضعفه من جميع طرقه"، وانظر "الضعيفة"(2453).

(2)

بالأصل: " عملت".

(3)

إسناده ضعيف جدا - أخرجه الطبراني في "الأوسط"(8/ 175)(8316)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 361)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 54)(508) من طريق عمرو بن حصين، حدثنا محمد بن علاثة، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عمر بن عبد العزيز، عن عروة، عن عائشة بنحوه، وفيه عمرو بن الحصين قال عنه الذهبي في "الكاشف":"وهوه"، وقال ابن حجر:"متروك" .. وأمثل منه ما رواه الطبراني في "الكبير"(20/ 93)(182)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص/ 6)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 55)(509، 510) من طريق سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا يزيد بن يحيى القرشي، حدثنا ثور بن يزيد، حدثنا خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها "، وإسناده ضعيف لجهالة يزيد بن يحيى فلم يوثقه غير ابن حبان.

ص: 124

وقد تقدم آنفًا أن النبي عليه السلام وقال: "كل شَيْء لَيْسَ من ذكر الله عز وجل فَهُوَ لَغْو وسهو إِلَّا أَربع خِصَال"

(1)

، والشطرنج والرقص والسماع وغيرهما خارج عنها. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام فقد رجلاً من أصحابه فقال:"أين فلان؟ " قاله له رجل: ذهب يلعب. فقال رسول الله عليه السلام: "ما لنا واللعب؟ فقال رجل: ذهب يرمي بقوسه؟ فقال رسول الله عليه السلام: "ليس الرمي من اللعب الرّمي من خير [ق 49 / ب] ما لهوتم به"

(2)

. ألا فهل قال رسول الله عليه السلام أو أحد من أصحابه رضوان الله تعالى أو أحد من السلف الصالح مثل هذا في اللعب شيء مما أنكرناه. ألا فالكذب على الله عز وجل وعلى رسوله عليه السلام وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم ليس بجائز. وذكر أبو محمد بن أبي حاتم رحمة الله عليه من طريق كيسان مولى معاوية رحمهما الله أن رسول الله عليه السلام نهى عن تسع: "فذكر فيهنَّ الغناء والنوح"

(3)

. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال له: "علم الناس سنتي وإن كرهوا وإن أردت أن لا توقف على الصراط طرفة، فلا تحدثن في الدين حدثًا برأيك"

(4)

.

(1)

سبق تخريجه آنفا.

(2)

إسناده ضعيف جدا - عزاه السيوطي في "جامعه" للديلمي، وقال المناوي:" فيه عبد الرحمن بن عبدالله العمري قال الذهبي: تركوه واتهمه بعضهم: أي بالوضع".

(3)

إسناده ضعيف - أخرجه الدولابي في "الأسماء والكنى"(2/ 801)(1393)، والطبراني في "الكبير"(19/ 373)(877) من طريق محمد بن المهاجر عن كيسان مولى معاوية عن معاوية به، وقال الشيخ الأرناؤوط في "هامش المسند":" ومحمد بن مهاجر توفي سنة 170 هـ ولا يمكن أن يكون قد أدرك كيسان مولى معاوية".

(4)

موضوع - أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد"((6/ 37)، والسلفي في"الأربعين البلدانية"(ص/156) من طريق عبد الله بن صالح اليماني، قال: حدثني أبو همام القرشي، عن سليمان بن المغيرة، عن قيس بن مسلم، عن طاوس، عن أبي هريرة مطولا به، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وأعله بأبي همام، وقال:" قال يحيى بن معين: كذاب عدو الله. وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث" والحديث قال عنه الشيخ الألباني في "الضعيفة"(265): "موضوع".

ص: 125

وروي أن النبي عليه السلام قال: "لا يقبل الله عمل مبتدع ولو عمل بعمل أهل السماء والأرض من صلاة وصيام وصدقة وتهليل وتسبيح وأدخله النار إلا أن يتوب" قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] "

(1)

. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الغربة

(2)

هي البدعة"

(3)

. والحدث والبدعة هما كل شيء ابتدأ المرء ما ليس في الكتاب ولا في سنة أمرًا يزعم أنه يتديّن ويتقرّب به إلى الله عز وجل [ق 50 /أ] وهو أن يحرم ما لم ينه الله عز وجل عنه ولا رسوله عليه السلام أو يوجب ما لم يأمر به الله عز وجل ولا رسوله عليه السلام أو يسقط وجوب ما أوجبه الله تعالى أو رسوله عليه السلام فيلقى الله عز وجل إذا فارق الدنيا يوم القيامة مبتدعًا كافرًا عاصيًا لله عز وجل مخالفًا لأمره محدثًا في دينه ما ليس منه شارعًا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى قائلاً على الله عز وجل ما لا علم له به وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله حاكمًا بالظنّ الذي أكذبه القرآن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، وأكذبه الخبر قوله صلى الله عليه وسلم:"من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"

(4)

، واعلموا أرشدنا وإياكم أن الحوادث والبدع هما كل شيء ابتدعه المرء من نفسه ما لم يكن في عصر النبي عليه السلام ولا ما فعله وأقرّ عليه أو عُلم من قواعد شرعية الإذن فيه وعدم النكير عليه ولا في سنة الخلفاء الراشدين من الذين قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون ولا في أثر من آثارهم أمرًا يزعم أنه يتديّن ويتقرّب إلى الله تعالى [به] كالرقص واستماع الأغاني والشبابات.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

وفي الحاشية: (الغرابة: كون الكلمة وحشيةً غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة - وفي التعريفات: " مألوفة " الاستعمال. التعريفات).

(3)

لم أقف عليه ..

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/ 33)(110)، ومسلم في "صحيحه"(1/ 10)(3) من طريق أبي عوانة، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مطولا به.

ص: 126

قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل

(1)

رحمة الله عليه: البدع كل قول في الدين [ق 50 / ب] مات الصحابة على السكوت عنه. وقال ابن عبد البر

(2)

رحمه الله: ما جاء عن النبي عليه السلام من نقل الثقات وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم فهو علم يدان به وما أحدث بعدهم فبدعة وضلالة وما جاء في أسماء الله تعالى وصفاته سلم إليه ولم يناظر فيه. وقال الشعبي رحمه الله لابن أبجر: "ما حدثوك عن أصحاب محمد علي السلام فخذه، وما قالوا برأيهم فبُل عليه"

(3)

.

(1)

هو أبو الوفاء الحنبلي علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن محمد بن عبد الله أبو الوفاء الظفري الحنبلي المتكلم البغدادي كان من أعيان الحنابلة وكبار شيوخهم، وكان مبرزا مناظرا حاد الخاطر بعيد الغور جيد الفكرة بحاثا عن الغوامض مقاوما للخصوم درس وأفتى وناظر وصنف كتبا في الأصول والفروع والخلاف، مولده سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة ووفاته سنة ثلاث عشرة وخمس مائة، له تصانيف أعظمها " كتاب الفنون " بقيت منه أجزاء، وهو في أربعمائة جزء، " الفصول " في فقه الحنابلة، و " كفاية المفتي، وغيرها، وترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة (1/ 316)، سير أعلام النبلاء (14/ 330)(4680)، الوافي بالوفيات (21/ 218)، وغيرها.

(2)

هو يوسف بن عمر بن عبد البر بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ شيخ علماء الأندلس وكبير محدثيها في وقته وأحفظ من كان فيها لسنة مأثورة، وألف في الموطأ كتبا مفيدة منها كتاب التمهيد، الاستذكار، الاستيعاب، الكافي، جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله وغيرها (ولد في 368 هـ، وتوفي في 463 هـ)، وله ترجمة في: الديباج المذهب (1/ 357) وتذكرة الحفاظ (3/ 306)، وشذرات الذهب (3/ 314)، والبداية والنهاية (12/ 104).

(3)

صحيح – أخرجه معمرفي "جامعه"(11/ 256)(20476)، أبو نعيم في "الحلية"(4/ 319)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم"(1/ 776)(1438)، وغيرهم من طريق معمر والثوري عن ابن أبجر به.

ص: 127

وروينا عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "ما وجدتم في كتاب الله تعالى فالعمل به لازم لا عذر لأحد في تركه ولا في ترك شيء منه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي، فإنهم الأنجم بأيّهم اقتديتم اهتديتم"

(1)

. قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} [المائدة: 3]. قال الإمام أحمد بن الحسين البزاز رحمه الله: "كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية فهو فضلة

(2)

وزيادة وبدعة"

(3)

. قال الجوهري رحمه الله في صحاح اللغة: "البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال". وري أن أبا سليمان الدارني رضي الله عنه قال: "ليس لمن ألهم شيء من الخير [ق 51 /أ] أن يعمل حتى يسمعه من الأثر، فإذا سمعه من الأثر عمل به وحمد الله حين توافق ما في قلبه"

(4)

. وقال: "إذا أردت عملاً تزعم أنه طاعة فانظر فإن وردت به السنة وإلا فدعه" أو كما قال.

(1)

إسناده ضعيف جدا – أحرجه أبو العباس الأصم في "جزء فيه مصنفاته"(ص/ 98)(140)، ومن طريقه: البيهقي في "المدخل"(1/ 162)(152)، والخطيب في "الكفاية"(ص/ 48)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 359) أبي بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي حدثنا سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس بنحوه، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (59):(وهذا إسناد ضعيف جدا: سليمان بن أبي كريمة قال ابن أبي حاتم (2/ 1 /138) عن أبيه: ضعيف الحديث. وجويبر هو ابن سعيد الأزدي، متروك، كما قال الدارقطني والنسائي وغيرهما، وضعفه ابن المديني جدا. والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس، وقال البيهقي عقبه: هذا حديث متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، لم يثبت في هذا إسناد

).

(2)

بالأصل: "فضل"، والتصويب من السير.

(3)

ذكره الذهبي في "السير"(18/ 509).

(4)

ذكره الخطيب في "تاريخ بغداد"(10/ 248)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(34/ 126)، وغيرهما،

ص: 128

وقال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وروي عن الإمام أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح رحمة الله عليه أنه قال: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم وكانوا ينهون عن البدع ما لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ولقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ويحثون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ لقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] "

(1)

، وقال: قال وكيع بن الجراح رحمه الله: "من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنّة، ومن طلب الحديث ليقوّي به هواه فهو صاحب بدعة"

(2)

. وقال البخاري

(3)

رحمه الله: ينبغي أن يلقي الرجل رأيه بحديث رسول الله عليه السلام؛ حيث ثبت الحديث ولا يعلّله بعلل لا تصحّ؛ [ق 51 / ب] ليقوي به هواه، فقد ذكر عن البني عليه السلام أنه قال:"لا يؤمن أحدكم بالله حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"

(4)

.

(1)

أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(1/ 193)(320).

(2)

ذكره البخاري في " قرة العينين برفع اليدين في الصلاة"(ص/43).

(3)

ذكره عقب الأثر السابق توضيحا له، فقال: يعني أن الإنسان ينبغي

فذكره.

(4)

إسناده ضعيف – أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 12)(15)، والنسوي في "الأربعين"(ص/51)(8)، وابن بطة في "الإبانة"(1/ 387)(279) من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا بعض مشيختنا، هشام أو غيره، - وفي بعض الطرق الجزم بأنه هشام بن حسان - عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو به، وفيه نعيم بن حماد قال عنه في"التقريب":"صدوق يخطئ كثيرا".

ص: 129

قلت: فهوانا بحمد الله ومنّه تبعًا لما جاء به نبيّنا صلى الله عليه وسلم

(1)

وأهل الحوادث والبدع هواهم تبعًا لما لجاء به الجهّال أهل الابتداع والضلال وأهل الرقص واستماع المحال من غلاتهم المخالفون للكبر المتعال، وسيندمون إذا حلّ بهم النكال وعجزوا عن جواب السؤال وغضب عليهم من تفرّد بالعزّة والجلال وآلوا من غضبه إلى شرّ مآل مضوا مع المقرنين إلى شياطينهم في السلاسل والأغلال. وأقول شعرا:

سيندم كل مبتدع إذا ما

أقيم حسابه ممّا أتى به

ويندم من ذنوب موبقاتٍ

رآها مثبتات في كتابه

يقوم مناقشًا منها حزينًا

إذا أخذ المهيمن في حسابه

ولا مال لديه ولا بنون

له نفع به غير اكتسابه

وليس له صديق أو حميم

ليوم الحشر ينجى من عذابه

إذا جوزي بما اكتسبت يداه

من الأعمال عدا عن صوابه

فيا من ضمر العصيان بادر

وتب قبل الممات من ارتكابه

فإن الله تواب رحيم

يحبّ بأن يرى الخاطي ببابه [ق 52 /أ]

ويقبل توبة العاصي إذا ما

رآه إليه أقبل في انصبابه

وبادر قبل تدركك المنايا

ويأتيك المؤجل باقترابه

سيندم من يموت على المعاصي

إذا وافى القيامة في انقلابه

(1)

وقد فسر ابن رجب الهوى هنا بمعنى المحبة فقال في " جامع العلوم والحكم "(2/ 395): (وأما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه).

ص: 130

وروي أن أبا القاسم بن أبي عبد الله بن منده

(1)

رحمه الله قال: ليس في الحديث والحكم محاباة، فمن جار في الحكم خرج عن جملة المقسطين، ومن مال إلى مذهب بتأويل حديث خرج عن جملة أصحاب الحديث. وقال: كان مذهب السلف ظاهر كتاب الله عز وجل بلا تأويل وظاهر أخبار رسول الله عليه السلام بلا تبديل، وقبول قوليهما بلا حجة ولا تعطيل. وقال: ولا يخرج من النار عند أهل الأثر من يخرج على الله ورسوله برأيه وهواه

(2)

.

(1)

هو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني أبو القاسم: وهو ابن الحافظ ابن منده، رحل فِي طلب العلم وكتب وصنف تصانيف كثيرة. وَكَانَ قدوة أهل السنة بأصبهان وشيخهم فِي وقته. وَكَانَ مجتهدا متبعا آثار النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض الناس عليها. وَكَانَ شديدا عَلَى أهل البدع مباينا لهم وما كَانَ فِي عصره وبلده مثله فِي ورعه وزهده وصيانته وحاله أظهر من ذَلِكَ. من كتبه: تاريخ أصبهان، المستخرج من كتب الناس للتذكرة والمستطرف من أحوال الرجال للمعرفة. مولده: سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ومات ابن منده في شوال سنة سبعين وأربعمائة، وترجمته في "طبقات الحنابلة"(2/ 242)، تاريخ الإسلام (10/ 293)، الأعلام (3/ 327) وغيرها.

(2)

ولابد من تقييد الخروج هنا بما يوقعه في الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، أو البدع المكفرة، قال الشيخ المنجد: " إتباع الهوى ليس على منزلة واحدة، فمنه ما يكون كفرا أو شركا أكبر، ومنه ما يكون كبيرة، ومنه ما يكون صغيرة من الصغائر.

فإن اتبع هواه حتى قاده إلى تكذيب الرسول، أو الاستهزاء به، أو الإعراض عنه، فهذا مشرك شركا أكبر. وهكذا كل من قاده الهوى إلى ارتكاب ما دلت الأدلة على أنه شرك أكبر أو كفر أكبر، كدعاء الأموات، أو جحد المعلوم بالضرورة، أو ترك الصلاة، أو استحلال الزنا أو الخمر.

وإن اتبع هواه فحلف بغير الله تعالى، أو راءى بعمله، فهو مشرك شركا أصغر.

وإن اتبع هواه ففعل بدعة غير مكفّرة فهو مبتدع.

وإن اتبع هواه ففعل كبيرة كالزنا أو شرب الخمر من غير استحلال، فهو فاسق.

وإن اتبع هواه ففعل صغيرة، فهو عاص غير فاسق.

وبهذا تعلم أن إتباع الهوى يقود إلى أمور متفاوتة، فلا يصح أن يقال: إن من اتبع هواه فهو كافر بإطلاق

).

ص: 131

قلت: فأهل البدع هم الذين يخرجون على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بآرائهم وأهوائهم، وأهل الرقص والسماع من غلاتهم

(1)

تعالى عمّا يقولون علوًّا كبيرًا، وقال إبراهيم النخعي رحمة الله عليه:"لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسحوا على ظفرٍ لما غسلته ألتمس الفضل في إتباعهم"

(2)

. وفي لفظ قال: "لو بلغني أنّهم لم يجاوزوا ظفرًا لما جاوزته وكفى بقوم وزرًا

(3)

أن يخالفوا أعمالهم"

(4)

. [ق 52 / ب] وروي عن عبد الله بن عمرو بن عوف [عن أبيه] رحمه الله أن النبي عليه السلام قال: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي كَانَ لَهُ الأَجْرُ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٍ"

(5)

.

(1)

وهذه مبالغة منه رحمه الله، بل هم من جمله العصاة، وبدعتهم غير مكفرة إلا إن قادهم ذلك إلى الوقوع فيما يخرجهم من الملة كما سبق التنبيه عليه.

(2)

أخرجه ابن بطة في "الإبانة"(1/ 361)(254).

(3)

كذا بالأصل، وفي الإبانة:" إزراء".

(4)

أخرجه ابن بطة في المصدر السابق نفس الموضع برقم (255).

(5)

إسناده ضعيف – أخرجه الترمذي في "سننه"(4/ 342)(2677)، وقال: حسن، وابن ماجه في "سننه"(1/ 76)(209، 210)، وعبد بن حميد في "المنتخب من مسنده"(ص/120)(289)، والبزار في "مسنده"(8/ 314)(2385، 2386)، وغيرهم من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني قال: حدثني أبي، عن جدي به، وإسناده ضعيف فيه كثير بن عبد الله، قال عنه الذهبي في "الكاشف":" واه، قال أبو داود: كذاب"، وقال عنه ابن حجر:"ضعيف، أفرط من نسبه إلى الكذب ".

ص: 132

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إيّاكم والبدع إيّاكم ومخالفة السنة، والذي نفسي بيده لا يبتدع رجل شيئًا ليس في سنتي ولا في سنّة أصحابي إلا كان ما خالف خيرًا له ممّا ابتدع، ولا تزال به بدعة حتى يجحد جميع ما جئت به"

(1)

. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ابتدع بدعة إلا رفع مثلها من السنة"

(2)

، وقال عليه السلام:"شَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا"

(3)

وقال عليه السلام: "كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٍ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ"

(4)

قال ابن عمر رضي الله عنه: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة"

(5)

.

(1)

صحيح - أخرجه ابن بطة في "الإبانة"(1/ 338)(203)، وابن بشران في "أماليه"(ص/10)(308) من طريق عبدالزيز بن عبدالصمد عن أبي عمران الجوني عن أبي فراس رجل من أسلم مطولا به، ورواته ثقات، وقد اختلف العلماء في أبي فراس هل هو ربيعة بن كعب بن مالك، أو غيره، والأقرب أنهما واحدكما جاء تسميته في بعض طرق الحديث عند ابن بشران (1267): ثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي فراس اسمه ربيعة بن كعب رجل من أسلم.

(2)

إسناده ضعيف - أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 338)(203)، والبزار في "مسنده"(1/ 82 - كشف)(131)، والمروزي في "السنة"(ص/32)(97)، وابن قانع في "معجم الصحابة"(2/ 316)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/ 102)(121)، وابن بطة في "الإبانة"(1/ 348)(224) من طريقأبي بكر بن أبي مريم عن حبيب بن عبيد عن عضيف بن الحارث مطولا به، وأبو بكر بن أبي مريم قال عنه الذهبي في "الكاشف":"ضعفوه"، وقال عنه ابن حجر في "التقريب":"ضعيف"، وعضيف مختلف في صحبته.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 133

فصل

وقد ذكر بعض الملحدين

(1)

: الرقص واحتج بحديث لعب الحبشة بالحراب، وإن في بعض الألفاظ:"يزفنون"

(2)

والزفن الرقص. وجوابه: أن زفنهم نوع من المشي بثوبين يفعل ذلك عن الحرب ولقاء الأعداء، فأين هو من رقص هؤلاء المخانيث تواجدا ولهم حركات وانخلاعات ولا تقاس حالهم بأولئك، فإنّهم لعبوا بآلة [ق 53 /أ] الحرب، وقد أبيح فيها ما لا يباح في غيرها. قال بعض العلماء: احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب المبتلى صلوات الله وسلامه على نبيّنا وعليه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، وقال: هذا احتجاج بارد؛ لأنه لو كان أمر بضرب الرِّجل فرحًا لكان حالهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرِّجل لينبع له الماء. قال ابن عقيل رحمه الله: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب الأرض برجله لينبع الماء إعجازا الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد انحلّها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الإسلام جاز أن يجعل قوله عز وجل لموسى بن عمران {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] دلالة على ضرب المحاد بالقضبان -نعوذ بالله من التلاعب بالشرع والخذلان. واحتج الآخر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "أَنْتَ مِنِّي" فحجل، وكذلك جعفر وزيد رضي الله عنهما

(3)

(1)

في الأصل: " المحدثين" وصوبت في الحاشية إلى ما أثبته، والملحد هو الطاعن في الدين، المائل عنه، والأولى أن عموم هذا المعنى غير مقصود، بل هو مائل عن الحق في هذه المسألة، وقد يكون متأولا، أو مقلدا ونحو ذلك.

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 609)(892) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

حسن - أخرجه النسائي في "الكبرى"(8/ 9)(15770)، وأحمد في "مسنده"(2/ 213)(857)، والبيهقي في "الآداب"(ص/ 257)(626)، والضياء في "المختارة" (2/ 392) (778) من طريق أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ - وزاد النسائي: وهبيرة بن يريم - عن علي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر، وزيد، قال: فقال لزيد: " أنت مولاي " فحجل، قال: وقال لجعفر: " أنت أشبهت خلقي وخلقي "، قال: فحجل وراء زيد، قال: وقال لي: " أنت مني، وأنا منك "، قال: فحجلت وراء جعفر" وهانئ قال عنه في "التقريب": "مستور"، وقال عن ابن يريم:"لا بأس به".

وقال البيهقي عقبه: (والحجل أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى من الفرح، فإذا فعله إنسان فرحا بما أتاه الله تعالى من معرفته أو سائر نعمه فلا بأس به. وما كان فيه تثن وتكسر حتى يباين أخلاق الذكور فهو مكروه لما فيه من التشبه بالنساء).

ص: 134

ولحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل جعفرًا رضي الله عنه لما قدم من أرض الحبشة فحجل"

(1)

ألا فأمّا الحجل فنوع من المشي يفعل عند الفرح فأين هو من رقص المخانيث، وحديث تقبيل جعفر رضي الله عنه حديث مرسل

(2)

وراويه الأجلح الكوفي وقد قال فيه إبراهيم بن يعقوب السعدي

(3)

[ق 53 / ب] رحمه الله أنه مفتر، يعد في شيعة الكوفة

(4)

.

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه ابن جميع الصيداوي في "معجم الشيوخ"(صم 170)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 512)(1435)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 96)(962) من طريق أبي علاثة عن مكي بن عبد الله الرعيني، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر به، وإسناده ضعيف قال الذهبي في "الميزان" عن مكي:"له مناكير قال عنه العقيلي: حديثه غير محفوظ"، وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس، وقال ابن الجوزي:" قال المؤلف: "هذا حديث لا يصح ولا يعرف إلا بمكي".

(2)

إسناده ضعيف - أخرج أبو داود في "سنه"(4/ 536)(5220)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1/ 276)(363)، والطحاوي في "المعاني"(4/ 280)(6904)، وابن الأعرابي في "القبل والمعانقة"(ص/68)(39)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 163)، السلفي في "الطيوريات"(2/ 733)(658) وغيرهم من طريق سفيان عن الأجلح عن الشعبي «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تلقى جعفر بن أبي طالب فالتزمه ، وقبل ما بين عينيه» وهذا إسناد مرسل.

(3)

هو: إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، أبو إسحاق: محدّث الشام وأحد الحفاظ المصنفين المخرجين الثقات. نسبته إلى جوزجان (من كور بلخ بخراسان) ومولده فيها. رحل إلى مكة ثم البصرة ثم الرملة وأقام في كل منها مدة. ونزل دمشق فسكنها إلى أن مات ووفاته عام (259 هـ). له كتاب في (الجرح والتعديل) وكتاب في (الضعفاء) وقال ابن كثير: له مصنفات منها (المترجم فيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة) وترجمته في تهذيب الكمال (2/ 244)(268)، تاريخ الإسلام (6/ 43)(80)، الأعلام (1/ 81)، وغيرها.

(4)

قال ابن عدي في "الكامل": " سمعت ابن حماد قال السعدي الأجلح مفتري. حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر، حدثنا عباس سمعت يحيى يقول الأجلح ثقة. وفي موضع آخر ليس به بأس " .. ثم ساق له عدة أحاديث ثم قال ابن عدي: " وأجلح بن عبدالله له أحاديث صالحة غير ما ذكرته يروي عنه الكوفيون وغيرهم ولم أجد له شيئا منكرا مجاوز للحد لا إسنادا، ولا متنا، وهو أرجو أنه لا بأس به إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق".

ص: 135

وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه روى حديث منكر، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. قال ابن حبّان: كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير. وقد احتج الملحد أن سعيد بن المسيّب رحمه الله سمع غناء فضرب برجله الأرض

(1)

،

(1)

ضعيف - أخرج السلمي في "الأربعين في التصوف"(ص/ 15) من طريق لترقفي حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق حدثنا الحسن بن علي بن منصور حدثنا غياث البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الجدي يتغنى في دار العاص بن وائل:

تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت

به زينب في نسوة عطرات

فلما رأت ركب النميري أعرضت

وكن من أن يلقينه حذرات

قال فضرب برجله الأرض زمانا وقال هذا ما يلذ سماعه وكان يرون أن الشعر لسعيد) وقال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص/ 231): (هذا إسناده مقطوع مظلم لا يصح عن ابن المسيب ولا هذا شعره كان ابن المسيب أوقر من هذا وهذه الأبيات مشهورة لمحمد بن عبد الله بن نمير النميري الشاعر

).

ص: 136

وهذا حديث موضوع على ابن المسيب وكذب عليه، ثم لو قدّرنا أنه ضرب رجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، فإن الإنسان قد يضرب رجله أو يدق بيده لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصًا، فما أقبح هذا التعلّق وأين ضرب الأرض بالقدم مرة أو مرتين من رقصهم الذي يخرجون به عن سيمة العقلاء، فسكرهم من أصوات الأغاني ولمشاهدتهم المردان، وقد قيل أن الغزالي رحمه الله قال:"الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالتعب"، ثم إنّ كثيرًا من المنتمين إلى رؤساء الجهّال المشتغلين بالرقص والسماع ينزّهون أنفسهم عن المباحات والقربات، ويزهّدون في زينة الدنيا، ويؤثرون الانقطاع عن أهلها، ويتركون الشبهات من المطاعم وغيرها [ق 54 /أ] ولا يتركون هذا السماع ولا يتحققون الأمر فيه، بل تغلبهم نفوسهم الخبيثة عليه فيتسامحون ويتأولون بأفعالهم مع وجود من يغنيهم عليه؛ لما يوقعون من العوام وغيرهم، ومع ما يتطرّق إليهم من المفسدة ويفضي الحال بين الطائفتين إلى نزاع وفتنة، ولو اتبعوا ما روى الترمذي وصححه عن أبي الحوراء ربيعة بن شيبان رحمه الله قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت منه "دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ"

(1)

؛ لكان أولى بهم، وقد روي عن أبي عمر الزجاجي

(2)

(1)

صحيح - أخرجه الترمذي في "سننه"(4/ 668)(2518)، وقال:"حديث صحيح"، والنسائي في "سننه"(8/ 327)(5711)، والطيالسي في "مسنده"(2/ 499)، وأحمد في "مسنده"(3/ 248)(1722)، والدارمي في "سننه"(3/ 1648)(2574)، وابن خزيمة في "صحيحه"(4/ 59)(2348)، وابن حبان في "صحيحه"(2/ 498)(722)، وغيرهم من طريق شعبة، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن مطولا ومختصرا به، ورواته ثقات.

(2)

هو محمد بن إبراهيم بن يوسف، أبو عمرو النيسابوري الزجاجي الزاهد. المتوفى: 348 هـ، نزيل الحرم. كان أوحد مشايخ وقته. صحب الجنيد، وأبا الحسين النوري. وبقي شيخ الحرم مدة. وحج بضعا وخمسين حجة. وله كلام جليل في التصوف. . وله ترجمة في "تاريخ الإسلام"(7/ 868)، و"البداية والنهاية"(11/ 267)، وغيرهما ..

ص: 137

رحمه الله أحد المحققين من شيوخ الصوفية المتقدمين أنه سئل عن السماع فقال: "ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه السماع من ضعف الحال ولو قوي لاستغنى عن السماع والأسباب"

(1)

. وعن أكتم بن أكتم

(2)

الصوفي رحمه الله قال: قلت لراهب: أوصني، فقال: إنّ الثكلاء

(3)

إذا اشتغلت بميتها انقطع عنها كل بث

(4)

إلا بث مصيبتها فاشتغل بنفسك وأقم في قلبك مأتمها عليها وابك طول سفرها [ق 54 / ب] وسرعة انتقالها إلى قبرها. وروي أن أبا علي الثقفي أحد الشيوخ رحمه الله قال: "ليس شيء أولى بأن تمسكه من نفسك ولا شيء أولى بأن تغلبه من هواك"

(5)

. وقال محمد بن خفيف

(6)

: "ليس لشيء أضرّ على المريد من ركوب الرخص وقبول التأويلات"

(7)

. قلت: ولا على الشيخ وأصحابه. وقال محمد بن يحيى القطان رحمه الله: "لو أن رجلاً عمل بكلّ رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع - يعني الغناء - وأهل مكة في المتعة أو كما قال: لكان به فاسقًا"

(8)

. قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما: وجدت في كتاب أبي: حدثنا أبو معاوية الغلابي حدثنا خالد بن الحرث قال: قال سليمان التيمي رحمه الله: "لو أخذت رخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"

(9)

.

(1)

ذكره السلمي في "طبقات الصوفية"(ص/ 325) ولفظه في آخره: " لاستغنى عن السماع والأوتار".

(2)

كذا بالأصل.

(3)

في الحاشية: "الثكلى المرأة التي يموت ولدها".

(4)

في الحاشية: "البث: غصة وغم".

(5)

أخرجه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص/277).

(6)

هو أبو عبد الله بن خفيف واسمه محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضبي المقيم بشيراز، وكان شيخ المشايخ في وقته. صحب رُوَيما والجريري وابن عطاء وغيرهم. وهو أعلمهم بالظاهر، شافعي المذهب. مات في رمضان سنة إحدى وسبعين وثلثمائة بشيراز، عن مائة وأربع سنين. وترجمته في طبقات الصوفية (1/ 345)(89) وطبقات الأولياء (ص/290)، وغيرهما.

(7)

ذكره القشيري في "الرسالة القشيرية" 01/ 140).

(8)

أخرجه أحمد في "مسائله رواية ابنه عبد الله (ص/449)(1632).

(9)

صحيح - أخرجه ابن الجعد في "مسنده"(ص/200)(1319)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 32)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم"(2/ 927)(1766، 1767)، وغيرهم من طريق غسان بن المفضل عن خالد بن الحارث عن سليمان به، ورواته ثقات، وقال ابن عبدالبر عقبه:«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا والحمد لله» ..

ص: 138

قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر قال: "لو أنّ رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في السّماع - يعني الغناء- وإتيان النساء في أدبارهن وبقول أهل مكة في المتعة والصرف وبقول أهل الكوفة في المسكر؛ لكان شر عباد الله"

(1)

. قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: "من حمل شاذّ العلماء فقد حمل شرًّا كثيرًا"

(2)

. وروي عن سفيان [ق 55 /أ] بن عيينة رضي الله عنه أنه قال: "من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذلك إبليس اللعين إنما منعه من السجود استكباره"

(3)

، وقال:"من كانت معصيته في شهوته فأرجوا له التوبة، فإنّ آدم صلى الله عليه وسلم عصى مشتهيًا فغفر له، ومن كانت معصيته كبرًا فأخشى عليه اللعنة، فإن إبليس عصى متكبرًا فلعن"

(4)

. ألا فهذه الطائفة التي زعمت أن الرقص واستماع الغناء والشبابات حسنًا تستحق من الله تعالى اللعنة، ومن أوليائه كما يستحق إبليس وحزبه على ما قاله سفيان رضي الله عنه؛ لأنهم يفعلون ذلك كبرًا ويزعمون أنهم خير ممن أنكر عليهم هذه الأفعال المذمومة، والأقوال الفاحشة الباطلة المبثوثة. وقال أبو علي الروذباري

(5)

رحمة الله عليه: "هذا مذهب كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل"

(6)

،

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(ص/66) من طريق يحيى بن طالب الأنطاكي، حدثنا محمد بن مسعود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر به، ويحيى لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا.

(2)

أخرجه الهروي في "ذم الكلام"(5/ 54)(842).

(3)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 271).

(4)

إسناده ضعيف - أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 272)، والبيهقي في "الشعب"(10/ 469)(7867) من طريق سنيد بن داود، عن ابن عيينة به، وقال الحافظ عن سنيد:" ضعف مع إمامته ومعرفته لكونه كان يلقن حجاج بن محمد شيخه".

(5)

هو" محمد بن احمد بن القاسم الروذباري، البغدادي الاصل (أبو علي) صوفي، فقيه، محدث، نحوي، شاعر، من ابناء الرؤساء والوزراء والكتبة. لزم الجنيد، وأقام بمصر. له تصانيف في التصوف. توفي عام (322 هـ)، وله ترجمة في: تاريخ بغداد (1/ 347)، ومعجم المؤلفين (8/ 308)، والأعلام (5/ 308)، وغيرها.

(6)

ذكره السلمي في "طبقات الصوفية"(ص/271)، والقشيري في "الرسالة القشيرية"(1/ 119) مطولا، ولفظه:(سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال، لأني وصلت إلى درجة لا تؤثِّر في اختلاف الأحوال .. فقال: نعم، قد وصل، ولكن إلى سقر! ! وسئل عن التصوف، فقال: هذا مذهب كله جدُّ، فلا تخلطوه بشيء من الهزل).

ص: 139

وروى أن بعض الحكماء أوصى رجلا فقال: "آمرك في حاجة نفسك بمجاهدة هواك، فإنه يقال الهوى مفتاح السيئات وخصيم الحسنات، وكل أهوائك لك عدو وأعداها لك هوى يكتمك نفسه، وأعدى لك من ذلك هوى يمثل لك الإثم في صورة التقوى"

(1)

.

ألا فهذه الطائفة الخبيثة تمثل لهم الآثام والمعاصي والحوادث والبدع والأهواء في صورة التقوى [ق 55 / ب]

ألا فاحذروهم فإنهم زنادقة ومردة، لا ينقادون إلى الحق، ولا يلوون عليه، ولا يتبعون الصدق، ولا يستمعون إليه، ولا يخشون من الله الوقوف بين يديه، وأقول شعرا:

يا سالِكي سُبُلَ العُدوانِ وَالتُهَمِ

وَبِائعي نِعَمِ الرَحمَنِ بِالنِقَمِ

خالفتم الله في آياتٍ منزلة

ثم الرسول بما المسنون مرتسم

أَلبَستُمُ الدينَ عاراً مِن فِعالِكُم

ما ليسَ يَحسُنُ مِن عربٍ ولا عَجَمِ

سَمّيتُمُ الرّقص مِن لهوٍ ومِن لَعبٍ

دِيناً وقُربى إلى الرَحمَنِ ذِي الكَرمِ

يا مُشبهي حُمُرَ الصَحراءِ رائحةً

لمّا تَمَلّت مِن الخضراءِ والدّيمِ

هل كَان فِيما مَضَى مِن فِعلِ سَيّدكُم

ضَربُ القَضِيب وركضُ الأرض بِالقَدمِ

لا والذي خلق الأشياءَ مُقتدِراً

إلا الصّيَامَ وحجَ البيتِ ذي الحَرمِ

ثُم الصلاةَ وإيتاءَ الزكاةِ معاً

ثُم القيامَ لربِ العَرشِ فِي الظُلَمِ

ثُم الجِهادَ وتعليمَ الفروضِ وَمَا

يحتاجُه الناسُ مٍن قَوْلٍ ومٍن كَلِمِ

هَلا اعتبرتُم بِما سَمّتُه أمّتُكُم

إن كُنتُم مِن بينها يا أولي التُهَمِ

جعلتُم قصةَ الحُبشَان حجّتكُم

ولم تعوجوا على الأحكامِ والحِكَمِ

سمته لهوًا ولعبًا في الحديث وما

سمته دينًا فكنتم من أولي الصمم

ولم يُكن فِعلُهم شبهاً لِفعلِكُم

لكنكُم زِدتُم [ق 56 /أ] بالأكلِ والبَشمِ

(2)

جعلتُمُوه لأكل الخُبزِ مصيدة

وللفَسادِ مع الأحرارِ والخدمِ

جعلتُم الشيخَ هاديكُم فقادَكُمُ

إلى الضّلالِ وكُنتُم مِن أولي البَكَمِ

(1)

ذكره أبو إسحاق الحُصري في "زهر الآداب"(3/ 871).

(2)

قَالَ اللَّيْث: البَشمُ: تُخمَةٌ على الدَّسَم.

ص: 140

فصل

وقد ذكر بعض الملحدين جواز الغناء، واحتج بحديث روي عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها وهو ما خرجه مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، وفي رواية قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(2/ 17)(952) ومسلم في "صحيحه"(2/ 607)(892) من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها به.

ص: 141

وجوابه: أن يقال له يمكن أن يكون هذا كقوله عليه السلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا قام فبال ناحية المسجد فيتناوله الناس فقال لهم رسول الله عليه السلام: "دعوه"

(1)

. وفي حديث أنس رضي الله عنه: "أن أعرابيًّا جاء فبال في طائفة [المسجد] فرجزه الناس فنهاهم النبي عليه السلام"

(2)

فلا فرق بين إنكاره على أبي بكر رضي الله عنه وبين إنكاره على الصحابة رضوان الله عليهم في إنكارهم على الأعرابي حين بال في المسجد، فإن أبحتم الغناء بهذا، فيلزمكم أن تبيحوا البول في [ق 56 / ب] المساجد والسلام. وأحد الوجوه في الردّ عليهم أن يُعرف أوَّلاً حقيقة الغناء، ثم يفسر عليه الحديث، وذلك لأن العناء في لغة العرب رفع الصوت، تقول العرب: غنى فلان. إذا رفع صوته حكى الخطابي عن أبي عاصم قال: أخذ بيدي ابن جريح فوقف بي على أشعب الطامع فقال: غنِّ ابن أخي بما بلغ من طمعك! فقال بلغ من طمعي أنّه لم يزف بالمدينة عروسًا إلا كنست بابي طمعًا أن تهدى إليّ"

(3)

. يعني بقوله غنّ، معناه أخبرني جاهرًا ومصرحًا، ثم اقترن به عرف الاستعمال فصار المفهوم من هذه اللفظة التلحين والتطريب، فإذًا للفظ الغناء مفهومان لغوي وعرفي، فيحمل الخبر على اللغوي، فقولها تغنيان أي ترفعان أصواتهما بالشعر ونحن لا نذمّ إنشاد الشعر ولا نحرّمه؛ لأنه كلام. وأعدل قول وصف بالشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر لحكمة"

(4)

، وفي لفظ: لحكمًا

(5)

. والشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح

(6)

،

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/ 54)(220).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ البخاري في "صحيحه"(1/ 54)(221).

(3)

معالم السنن (1/ 292).

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(8/ 34)(6145).

(5)

إسناده ضعيف - أخرج الطبراني في "لأوسط"(7/ 341)(7671)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 710)(6569) من طريق سعيد بن سليمان القسيطي، ثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة رضي الله عنه مطولا وفيه قصة، وفيه:«إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما» . وسعيد لم أقف فيه على جرح ولا تعديل، وموضع الشاهد منه صحيح.

(6)

حسن - أخرج أبو يعلى في "مسنده"(8/ 200)(4760) عن عباد بن موسى الختلي، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر. فقال: «هو كلام .. فحسنه حسن وقبيحه قبيح» وإسناده حسن فيه عبدالرحمن بن ثابت قال عنه في "التقريب": "صدوق يخطئ"، وللحديث طرق أخرى وشواهد لا تخلو من ضعف، وانظر "الصحيحة" (447).

ص: 142

وأيضًا قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه، فإنّه قال: والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه، وإنما يصبر غناء مذمومًا إذا [ق 57 /أ] لُحِنَ وصنع صنعة تورث الطرب وتزعج القلوب وهي شهوة طبيعته. إنما ذمّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه رفع أصواتهما في مجلس النبي عليه السلام وبين يديه؛ لأن خفض الصوت عند النبيّ عليه السلام مأمور به وليس كل من رفع صوته بالغناء لَحَّنَ، وَلَذّ وأطرب، فالممنوع المكروه إنما هو الملذّ أو المطرب. فافهمه، ولم يُعقل من هذا الحديث أن صوتهما كان ملذا، وهذا سرّ المسألة فافهمه. والدليل على صحة هذا أن أبا بكر رضي الله عنه زجرها وأنكر عليهما، ولولا أنه كان يعلم من دين النبي عليه السلام ذم الغناء ما كان ليفتات

(1)

وبين يديه، وبقوله: بمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما وجه الحديث أن عائشة رضي الله عنها كانت طفلة، وكنت صبايا الأنصار وجوازهم يجتمعون إليها يلعبن عندها، ولا سيّما في الأعياد والفصول، وهذا نحو ما روى أبو داود بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ:«كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي الْجَوَارِي»

(2)

، "فقدم عن غزوة تبوك وفي سهوتي ستر فهبَّب ريح [ق 57 / ب] فَكشفت السّتْر عَن بَنَاتٍ لعَائِشَة فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذَا يَا عَائِشَة" فَقُلْتُ: بَنَاتِي، وَرَأى بَينهُنَّ فرسا لَهَا جَنَاحَانِ من رقاع فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أرى وسطهن. قَالَت: فرس. قَالَ: "وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ " قُلْتُ: جَنَاحَانِ. فَقَالَ: "فرس لَهُ جَنَاحَانِ". قُلْتُ: أما سَمِعت أَن لِسُلَيْمَان خيلاً لَهَا أَجْنِحَة. فَضَحِك النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى بدت نَوَاجِذه"

(3)

.

(1)

بالأصل: "ليتقات".

(2)

صحيح - أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 283)(4931) وإسناده صحيح، والحديث أصله في الصحيحين.

(3)

صحيح - أخرجه أبو داود في "سننه" عقب الحديث السابق بإسناد فيه يحيى بن أيوب قال عنه في "التقريب": "صدوق ربما أخطأ" والحديث صححه الشيخ الألباني.

ص: 143

قَالَتْ: "فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نزلنا في بني الخزرج، قالت: فوالله إني أَلْعَبُ عَلَى أُرْجُوحَةٍ، بين عذقين فجاءتني أمي فأنزلتني ولي جميمة

(1)

"

(2)

، ثم إن اللعب التي كانت تلعب بها عائشة رضي الله عنها لم تكن لها أوجه مقدرة على محاسن الحيوان؛ لأن النبي عليه السلام لعن المصوّرين

(3)

، وإنما وجهه إنها كانت تربط خشبة على خشبة على هيئة الصليب، ثم تكسوهنّ الخرق، فكذلك إنشاده هذا الشعر إنما كان بغير تلحين بدليل قولها:"وليستا بمغنيتين"، فنفت الغناء عنهما، وبعاث يوم مشهور كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب بينهم قائمة مائة وعشرون سنة

(4)

إلى أن قام الإسلام على ما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، وكان [ق 58 /أ] الشعر الذين يتغنيان به في وصف الشجاعة والحرب وإنشاده حثّ على جهاد الكفّار ومعونة للدّين سيّما إذا كان المنشد حسن الصوت.

(1)

في الحاشية: "الجموم بالفتح فرس مسرع، وعند البعض حمار". كذا قال، وهو غير مراد هنا، وفسره الخطابي في "معالم السنن":" الجميمة تصغير الجمة من الشعر" والمقصود أن شعرها رضي الله عنها كان للجمة أي الأذنين بعد أن تمرق من المرض الذي كان قد أصابها كما جاء مصرحا به في رواية الصحيح وانظر التعليق التالي.

(2)

صحيح – أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 285)(4937) به، والحديث أصله في الصحيحين، ولفظ البخاري: " عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج، فوعكت فتمرق شعري، فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة، ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها

" الحديث.

(3)

أخرج البخاري في "صحيحه"(7/ 61)(5347) عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال:«لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن المصورين» .

(4)

بالأصل: " يومًا"، والتصويب من شرح السنة للبغوي (4/ 322)، وغيره.

ص: 144

قالت عائشة رضي الله عنها: فغمزت الجاريتين فخرجتا

(1)

وفي لفظ: أن أبا بكر رضي الله عنه غمزهما فخرجتا، فأما الغناء بذكر الفواحش والإشهاد بالحرم والمجاهرة بالمنكر من القول فهو المحظور من الغناء والحرام وحاشا أن يجري شيء من ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيغفل النكير عليه وهو الذي روي في الحديث "لعن الله المغني والمغنَّى له"

(2)

وكل من رفع صوته بشيء جاهرًا به ومصرحًا باسمه لا يستره ولا يكني عنه، فقد غنى به بدليل قولها وليستا بمغنيتين، وقوله عليه السلام:"هذا عيدنا" يعتذر عنهما أن إظهار السرور في العيدين من شعائر الدين، وليس هو كسائر الأيام وهو أن النبيّ عليه السلام علّل إباحة ذلك بكونه في العيد، ولو صحّ ما قالوا ما اختصت

(3)

الإباحة بيومٍ، فإنه عليه السلام قال:"دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا" تقديره دعهما تغنيان؛ لكونهما في يوم عيد، وهذا ما قاله أحد. ويحتمل [ق 58 / ب] أن يكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم معروفًا إلى أبي بكر رضي الله عنه لتغليظه على الصبايا وزجرهنّ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقًا، فكأنّه قال: دعهن اليوم يلغين ويناشدن الأشعار؛ لأنه يوم عيد وسرور، والدليل على هذا أنه ما نقل عن عائشة رضي الله عنها بعد بلوغها إلا ذمّ الغناء والمعازف

(4)

(1)

أخرج البخاري في "صحيحه"(2/ 16)(949)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 609)(892) من طريق محمد بن عبد الرحمن الأسدي، حدثه عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال:«دعهما» ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا".

(2)

لا يصح - قال العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 167): "قال النووي: لا يصح وتبعه السخاوي والزركشي والسيوطي".

(3)

بالأصل: " لاختصّت".

(4)

روى البخاري في "الأدب المفرد"(ص/427)(1247) من طريق أصبغ قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني عمرو، أن بكيرا حدثه، أن أم علقمة أخبرته، أن بنات أخي عائشة اختتن، فقيل لعائشة: ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى .. فأرسلت إلى عدي فأتاهن، فمرت عائشة في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا، وكان ذا شعر كثير، فقالت: أف، شيطان، أخرجوه، أخرجوه" وقال الشيخ الألباني في "الصحيحة" (2/ 349):"إسناده محتمل للتحسين، رجاله ثقات، غير أم علقمة هذه واسمها مرجانة وثقها العجلي وابن حبان، وروى عنها ثقتان" والأثر صحح إسناده ابن رجب.

ص: 145

على ما قد بيّن العلماء في مصنفاتهم، وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد رضي الله عنه وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة يذمّ الغناء

(1)

، وقد أخذ العلم عنها وتأدب بآدابها، فبطل ما قال الأغمار الضلال ورؤساء الجهّال، وصحّ ما قلناه والحمد لله رب العالمين، فإن عارضنا بعض من افتتن بسماع الغناء، وقال: وقد روي أنه وقد رخص في الغناء في العرس مع ضرب الدفوف. قيل له حجة لك في هذا بل الحجة عليك إن أنصفت من نفسك. فإن قال بماذا؟ قيل له: قولك رخّص في الغناء في العرس دليل على تحريم الغناء في الأصل، ثم جاءت الرخصة في العرس لمعنى لا تعقله ولا تميّزه، فإن قال: فبينة. قيل له: كان الرجل إذا وجد مع المرأة، فأنكر عليه. قال: هي زوجتي. فقيل لهم: أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف، واظهروا عليه [ق 59 /أ] الغناء حتى يعلم أن فلانًا قد تزوّج فلانة، ويسقط عنهما سوء الظن، ولم يكن الدفوف التي كانت يضرب بها مثل هذه الدفوف التي استعملها الفسّاق وممن يغني يضربها إنما كانت مثل الغرابيل الواسعة إذا ضربت المرأة بها ليس لصوتها لذة تطرب ولا تفتن إنما لها صوت ليعلم أنه تزويج، ولم يكن ذلك الغناء الذي ذكر مثل هذا الغناء القبيح الذي يذكر فيه عشق الجواري وصفتهنّ وعشق الغلام الأمرد حتى يوصف بكلّ معنى لا يحلّ وصفه ويوصف الخمر بكل ما فيه وكلّ ذلك فتنة على السّامع مما يذمّه العلماء وينكرونه على من نطق به وعلى من يسمعه. فإن قال قائل: فاذكر بعض ما كان يغنّي به في الأعراس التي زعم من زعم أنه رخّص فيه أن يغنى به في الأعراس، قيل له: قد تأدّى إلينا منها أشياء إذا سمعها أهل عصرنا هذا لم يكن لهم فيها لذّة ولا يحبّونه نعم، وعندهم الذي يغنّي به أحمق، والذي يسمعه أحمق منه، فأما الحديث الذي فيه الرخصة، فقد روي أبو عبيد القاسم رحمه الله بإسناده عن محمد بن حاطب الجمحي رحمه الله قال: قال رسول الله: "فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدفوف في النكاح"

(2)

قال [ق 59 / ب] قال أبو عبيدة

(3)

:

(1)

سيأتي تخريجه بإذن الله.

(2)

صحيح - أخرجه النسائي في "سننه"(6/ 127)(3369)، وابن ماجه في "سننه"(1/ 611)(1896)، وسعيد بن منصور في "سننه"(1/ 202)(629)، وأحمد في "مسنده"(24/ 189)(15451)، والطبراني في "الكبير"(19/ 242)(542)، وغيرهم من طريق أبي بلج عن محمد بن حاطب رضي الله عنه به، وإسناده صحيح.

(3)

غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 65) ..

ص: 146

قوله الصوت، فإنّ الناس يختلفون فيه، فبعض الناس يذهب إلى السماع، وهذا خطأ فاحش في التأويل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما معناه عندنا إعلان النكاح واضطراب الصوت به، والذكر في [الناس] كما يقال فلان: ذهب صوته في الناس أي ذكره ولذلك قال عمر رضي الله عنه: "أعلنوا هذا النكاح وحصِّنوا هذه الفروج"

(1)

. وروي أن عائشة رضي الله عنها: "أنكحت ابنة عمٍّ لها الرجل من الأنصار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أهديتم الفتاة؟ قالت: نعم. قال: أرسلتم معها من يغنّي؟ قالت: لا. قال: "فإن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو أرسلتم معها من يقول آتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم"

(2)

وصح وثبت أن عائشة رضي الله عنها زفّت امرأةً من الأنصار إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة أما كان معكم من لهوٍ، فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه

(3)

. وروي أن أهل النكاح كانوا يقولون:

ألا أحسن ما جئتم

فحيّونا نحييكم

لولا الذهب الأحمـ

ر ما حلّت بواديكم

لولا الحنطة الصفرا

ء لم تسمن عذاريكم

(4)

.

وروى صفوان بن عمرو عن أمّه قالت: كان ممّا يفتخر به أهل الناكحة على أهل الناكح [ق 60 /أ] ليلة البناء تالله ما كنت بأهل لها لولا كتاب القدر السابق

(5)

. قالت: وكان ممّا يقال ليلة البناء

«أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ

فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ

لَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَـ

رُ مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 495)(16397) من طريق هشيم، عن يونس، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه مطولا به، وفيه قصة، وها إسناد ضعيف فيه عنعنة هشيم، وهو مدلس، وعنعنة الحسن البصري ولم يدرك عمر.

(2)

حس لغيره - أخرجه ابن ماجه في "سننه"(1/ 612)(1900)، والطحاوي في "مشكل الاثار"(8/ 377)(3321)، وأبو الشيخ في "أحاديث أبي الزبير" (ص/55) (12) من طريق جعفر بن عون المخزومي قال: حدثنا الأجلح، عن أبي الزبير، عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة فذكره، وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس، والحديث له شواهد ضعيفة يتقوى بها، وأصله في الصحيح.

(3)

(7/ 22)(5162).

(4)

لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(5)

لم أقف عليه.

ص: 147

لَوْلَا الْحَبَّةُ السَّمْرَا

ءُ لَمْ تَسْمَنْ عَذَارِيكُمْ»

(1)

وروي عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت: كانوا إذا زوّجوا المرأة للرّجل خرج جواري الأنصار يتغنين ويلعبن. قالت: فمررن معًا حتى جلسن بمجلس فيه رسول الله عليه السلام وهنّ يتغنّين ويقلن:

أهدى لها زوجها كبشا

(2)

يبحبحن

(3)

في المربد

وزوجها في النادي

(1)

حسن لغيره - أخرجه الخلال في "الأمر بالمعروف"(ص/68) من طريق أحمد بن الفرج الحمصي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو عقيل، عن بهية، عن عائشة، قالت: كانت عندنا يتيمة من الأنصار، فزوجناها رجلا من الأنصار، فكنت فيمن أهداها إلى زوجها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عائشة، الأنصار أناس فيهم غزل، فما قلت؟ » قالت: دعونا بالبركة، ثم انصرفوا قال:" أفلا قلتم: فذكره"، وهذا إسناد ضعيف فيه أحمد بن الفرج قال عنه الذهبي في "الميزان":" ضعفه محمد بن عوف الطائي. قال ابن عدي: لا يحتج به. هو وسط. وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق." والأقرب أن شيخه هو يحيى بن صالح الوحاظي، وليس يحيى بن سعيد، وهو صدوق. وأبو عقيل قال عنه الذهبي في "الكاشف":"ضعفوه"، وقال عنه ابن حجر:"ضعيف"، وبهية هذه لا تعرف كما قال في "التقريب"، وله إسناد أشد ضعفا منه رواه الطبراني في "الأوسط"(3/ 315)(3265) بنحو رواية الخلال، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي السري وإن كان صدوقا إلا أنه له أوهام كثيرة كما في التقريب، وشيخه: رواد، صدوق اختلط بآخره حتى ترك، وشيخه شريك: ضعيف، والحديث له شاهد أخرجه أحمد في "مسنده"(23/ 379)(15209) من طريق أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن أجلح، عن أبي الزبير، عن جابر بنحوه، ولكن بذكر البيت الأول فقط، وإسناد حديث جابر ضعيف فيه عنعنة أبو الزبير، وعليه فالحديث يتقوى، وانظر الإرواء (1995).

(2)

وفي الأصل: " بسبعة أكبش" والتصويب من سنن البيهقي.

(3)

في الأصل: "يتبجبجن"، وعليها تحشية:"البجباج: "سمين وضعيف كمسنة"".

ص: 148

حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قام إليهنّ وقال: "سبحان الله لا يعلم ما في غدٍ إلا الله عز وجل لا تقولوا هذا وقولوا: «أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم»

(1)

، فهذا الذي رخص فيه إنّما فيه مدح الزوج والزوجة لا غير وليس فيه ما يبعث

(2)

على عشق الغلمان المرد ولا النساء الفواسد وصفة الخمور وأشباه ذلك.

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مرّ رسول الله عليه السلام بجوارٍ من بني نجّار وهنّ يضربن بدفٍّ لهن ويقلن:

نحن جوارٍ من بني نجّار

يا حبّذا محمد من جار

فقال النبي عليه السلام: "الله يعلم [ق 60 / ب] أني أحبكم"

(3)

-يعني يحبّ الأنصار-. وروي أنّه لما قدم النبي عليه السلام المدينة مهاجرًا تلقاه أولاد الأنصار وجواريهم سرورًا به وقالوا:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

(1)

مرسل - أخرجه البيهقي في "الكبرى"(7/ 471)، وفي "السنن الصغير"(3/ 91)(2597) من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا عبد الله بن وهب، أنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد: عن عمرة بنت عبد الرحمن، ورواته ثقات إلا أنه مرسلة فعمرة تابعية. وقال البيهقي:"مرسل جيد"، وقال أيضا:" وقد رواه ابن أوس، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، ورواه الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عائشة ببعض معناه".

(2)

بالأصل زيادة: "ما سمعت"، وحذفتها كي يستقيم المعنى.

(3)

صحيح- أخرجه ابن ماجه (1/ 612)(1899)، والطبراني في "الصغير"(1/ 65)(78)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 508) من طريق عيسى بن يونس قال: حدثنا عوف، عن ثمامة بن عبد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه به، وقال البوصيري في "الزوائد":" في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات".

ص: 149

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

(1)

فبالله عليكم يا ذوي العقول والبصائر أين هذا السماع من هذا السماع الذي يشرب فيه الخمور التي هي من ورق القنب ويغني فيه أجمل الصبيان بأطيب الألحان بأشعار موزونة مشتملة على ذكر الخمر وأوصافها وتأثيرها، وذكر القدود والخدود والحواجب والدعج

(2)

والكحل وغير ذلك من الأوصاف المشتهات وذكر الأحوال من العشق والمحبّة والصد والوصل والفرقة والاجتماع، والآلات المطربة كالدفوف المزوقة بالجلاجل والشبابات المصنوعة المحكمة والتصفيق بتصنيع.

ومن غنائهم:

شُمّ

(3)

الحاجب المقرون والمقلّة الكحلا

وقل لي فدتك النفس أيّهما أحلا

(4)

(1)

ضعيف - أخرجه أبو الحسن الخلعي في "العشري من الخلعيات"(54)، والبيهقي في "الدلائل" (5/ 266) من طريق الفضل بن الحباب قال: سمعت عبد الله بن محمد بن عائشة يقول فذكره. وأعله الحافظ في "الفتح"(7/ 261) بالانقطاع والإعضال، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (598): "وهذا إسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله

"، وذكر ابن القيم في "الزاد" (3/ 482) أن هذه الأبيات كانت عقب حضوره صلى الله عليه وسلم من تبوك وأعل من قال أنها كانت عقب الهجرة فقال: " وبعض الرواة يَهِمُ في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وَهْمٌ ظاهرٌ؛ لأن ثَنِيَّات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادمُ من مكة إلى المدينة، ولا يَمُرُّ بها إلا إذا تَوَجَّهَ إلى الشام".

(2)

الدَّعَجُ بِفَتْحَتَيْنِ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ مَعَ سِعَتِهَا، وانظر مختار الصحاح مادة (د ع ج).

(3)

وفي الحاشية " شم بالفتح

(4)

كذا بالأصل.

ص: 150

بحيث إذا سمع ذلك الشيخ الكبير الضعيف النفس البعيد عن الميل إلى هذه الأشياء تغير حاله واضطربت جوارحه، فكيف يكون حال شاب عنده قوة نفس وميل وطبع لا يخلو من هوى وغلبة بشرية، أيليق بمن عنده أدنى [ق 61 /أ] نظرٍ أن يقيس على تلك الأحوال هذه الأحوال، ثم إنهم لم يكتفوا بفعلهم حتى اعتقدوه طاعةً وقربةً، وأشاعوا فعله في المساجد والمشاهد والبقاع الشريفة [وذلك] مخالف لإجماع علماء المسلمين والسلف الصالح؛ إذ ليس فيهم من جعل ذلك طاعة ولا قربة أصلاً، ولا رأى إعلانه في هذه الأماكن التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها بالغدو والآصال رجال فنعتهم بالتسبيح لا بالغناء والتصفيق والرقص والفرقعة بالأصابع ودقّ الأرض بالأرجل بعد أن يسكروا من الحشيشة التي هي ورق القنب، فنعوذ بالله ونسأله التوفيق.

ص: 151

فصل

ومنهم من يقول أنه مباح وينقلون عن مشايخ السلف كالجنيد وذي النون المصري وبندار بن الحسين

(1)

وغيرهم في ذلك أقوالاً وأفعالاً لم يُبحث أنّها صحيحة أم لا، فإنّها لو صحّت ما كانت حجة إذا الحجة قول الله عز وجل وقول رسوله عليه السلام وفعله وإقراره أو ما أستند إلى ذلك. والصحابة رضوان الله عليهم مع أخبار الله عز وجل بالرضاء عنهم وثناء رسول الله عليه السلام، فالمشهور عند جماعة من العلماء أن قول بعضهم وفعله ليس [ق 61 / ب] بحجة، فكيف بمن بعدهم. ولا يليق بمسلم يعدّ نفسه من المتدينين والفقراء المشهورين أن يمهّد لنفسه الخبيثة وطبعه الرديء عذرًا، ويقيم لهما حجة بأن ينسب إلى من اشتهر من شيوخ السلف ما يوجب إساءة الظنّ بهم من فعل السماع الرديء، والكتاب والسنّة وأقاويل الصحابة والتابعين وإجماع العلماء على تحريمه وصرّح بذمه شيوخ السلف. قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي

(2)

رحمه الله: "اعلم أنّ سماع الغناء يجمع شيئين: أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكر في عظمة الله تعالى والقيام بخدمته. والثاني أنه يميله إلى اللّذات العاجلة ويدعوه إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها الزنا، وليس تمام لذّته إلا في المتجددات ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحلّ، فلذلك يحث على الزنا، فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذّة الروح والزّنا أكبر لذات النفس، ولهذا جاء في الحديث""الغناء [رقية الزنا"

(3)

].

(1)

هو بندار بن الحسين الشيرازي القدوة، شيخ الصوفية، أبو الحسين، نزيل أرجان. صحب الشبلي، وحدث عن إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي بحديث واحد. وكان ذا أموال فأنفقها وتزهد، وله معرفة بالكلام والنظر. قيل: توفي بندار سنة ثلاث وخمسين وثلاث مائة.، وله ترجمة في "طبقات الصوفية"(1/ 349)(90)، "السير"(12/ 193)(3273)، "طبقات الأولياء"(ص/120)، "الطبقات الكبرى" للشعراني (1/ 103)، وغيرها.

(2)

تلبيس إبليس (ص/198).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/55)(55) من كلام الفضيل بن عياض، وقال على القاري في "الموضوعات الصغرى" (ص: 126): (من كلام الفضيل).

ص: 152

[كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى سهل مولاه أما بعد: «فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي وصرفتهم إليك عن غيرك من موالي وذوي الخاصة لي ، فخذهم بالحفا فهو أمعر لأقدامهم

(1)

، وترك الصبحة

(2)

، فإن عادتها تكسب الغفلة ، وقلة الضحك؛ فإن كثرته تميت القلب ، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي ، التي بدؤها من الشيطان ، وعاقبتها سخط الرحمن ، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت العشب الماء ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك]

(3)

المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه. وهو حين يفارقها لا يعتمد مما سمعت أذناه على شيء ينتفع به وليفتتح كل غلام [ق 62 /أ] منهم بجزئه من القرآن يتثبت في قراءته، فإذا فرغ منه أخذ بقوسه ونبله ورمي سبعة أرشاق

(4)

، ثم انصرف إلى القائلة، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول:"قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل"، والسلام».

هذا حديث رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الملاهي

(5)

الحفا المقصور هو من المشي والممدود المشي بغير نعل

(6)

، ذكره ابن دريد، قوله:"أمعر لأقدامهم" أي أصلب وهي الأرض العر التي لا نبات فيها، والصبحة نوم الغداة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

وبالأصل المطبوع من "ذم الملاهي": فخذهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم "، إلا أن ما أثبته هو ظاهر صنيع المؤلف. [في نسخة العمرية من ذم الملاهي (157/ ب): " فَخُذْهُمْ بِالحَفَا فَهِيَ أَمْعَنُ لِأَقْدَامِهِمْ" بالحاء، ووضع حاء صغيرة تحت الحرف.]

(2)

وبالأصل المطبوع: "الصحبة".

(3)

ساقطة من الأصل.

(4)

وفي الحاشية: "الرشق النوبة من الرمي، والجمع أرشاق".

(5)

إسناده ضعيف - أخرج ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/50)(49) من طريق الحسين بن عبد الرحمن ، قال: حدثني عبدالله بن عبدالوهاب ، قال: أخبرني أبو حفص الأموي عمر بن عبدالله قال: كتب عمر بن عبد العزيز فذكره، وأعله محقق ذم الملاهي بجهالة شيخ ابن أبي الدنيا.

(6)

وفي تهذيب اللغة: قال الزجاج الحفا مقصور أن يكثر عليه المشى حتى يُؤلمه المشى. قال: والحفاء ممدود أن يمشى الرجل بغير نعل

ص: 153

واعلموا أنّ المؤمن العاقل من الناس من لا يحبّ أن يسمع ما يكون مثله ينبت في قلبه النفاق من جارية ولا من غلام ولا من غيرهما، قد نزّه الله تعالى أهل الستر والعقل عن هذه الغفلة التي قد افتتن بها خلق كثير من الجهّال وأئمتهم الضلال نعم، ولا يسمعون من جارية قراءة القرآن صيانة لدينهم ومن اتّقى الله عز وجل زجر نفسه عن هواها، وإن كان يحبّ ذلك ويميل إليه ويزيّن له الشيطان ما يهوى ممّا لا يحل له. قال الله تعالى عز وجل:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41][ق 62 / ب]، وقال رسول الله عليه السلام:«لَيْسَ الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ النَّاسَ وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ»

(1)

، وأقول شعرا:

يا أولى العلم وأرباب الحجا

اسمعوا تكونوا مرشدين

لا تكون كقوم أحدثوا

بدعة الرقص بما اختاروه دين

ويقولون بأن قد سلكوا

مسلك الحق سبيل المهتدين

كذبوا، والله فيما يدعوا

إنّما هم قوم سوء مفسدين

أفسدوا لم يصلحوا بل أصبحوا

عن طريق الحق جمعًا حائدين

خالفوا الشرع الذي جاء به

سيّد المرسلين وليسوا مقتدين

ويلهم لو علموا ما أحدثوا

ندموا تلك العصاة المعتدين

لسوف يشقى من يخالف شرعنا

في جزائه بجزاء

(2)

المبعدين

يا لها من بدعة قد أحدثوا

عن رواة الجهل فيها مُسْنَدين

(1)

صحيح بدون قوله: "وهواه" - أخرجه الطيالسي في "مسنده"(4/ 258)(2648)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(1/ 446)(516)، والنسائي في "الكبرى"(9/ 153)(10156)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 331)(1645)، والخرائطي في "اعتلال القلوب"(1/ 38)(63)، وابن حبان في "صحيحه"(2/ 493)(717)، وغيرهم من طريق أبي الأحوص سلام عن سعيد بن مسروق عن عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه به، إلا أنه لم يذكر قوله:"وهواه" ورواته ثقات.

(2)

بالأصل: " بجزأه".

ص: 154

فصل

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "إنّ الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والزفن والزمارات والمزاهر والكِنارات"

(1)

. هذا حديث رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، وقال الزفن شبيه بالرقص، والكنارات قيل أنّها العيدان التي يضرب بها، وقيل أنّها الدفوف. وقال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69]. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يَمْتَلِئَ [ق 63 /أ]

(1)

صحيح - أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث"(4/ 276)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 376) من طريق عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن أبي سَلمَة عَن هِلَال بن أبي هِلَال عَن عَطاء بن يسَار عَن عبد الله بن عَمْرو به، ورواته ثقات، وصحح إسناده ابن كثير في "تفسيره".

ص: 155

جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»

(1)

. هذا حديث أخرجه أبو داود في سننه. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي قال: "لأن يمتلئ ما يبن عانتي إلى رهابتي قيحًا ينخفض مثل السقاء أحب إليّ من أن يمتلئ شعرًا"

(2)

. الرهابة عظم مشرّف على رأس المعدة يسميه الناس لسان الكلب. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد أن يفتتح الصلاة: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ"

(3)

. وقال صلى الله عليه وسلم

(4)

: "نَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ، وَهَمْزُهُ: الْمُوتَة -يعني الجنون-. وروي بإسناده إلى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال: "لما أهبط إبليس اللعين قال: ربّ إنّك قد لعنت إبليس فما علمه؟ قال: السحر. قال: فما قرآنه؟ قال: الشعر. قال: فما كتابه؟ قال: الوشم. قال: فما طعامه؟ قال: كل ميّت وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما شرابه؟ قال: كلّ مسكر. قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام. قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق. قال: فما صوته؟ قال: المزمار. قال: فما مصائده؟ قال: النساء"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(8/ 37)(6155)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1769)(2257)، وأبو داود في "سننه"(4/ 302)(5009)، وغيرهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه به.

(2)

صحيح - أخرجه ابن عساكر في "تارخ دمشق"(47/ 52) بسند رواته ثقات.

(3)

حسن لغيره - أخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 203)(764)، وابن ماجه في "سننه"(1/ 265)(807)، والطيالسي في "مسنده"(2/ 255)(989) وابن الجعد في "مسنده"(ص/32)(105)، وأحمد في "مسنده"(27/ 324)(16760) والبزار في "مسنده"(8/ 365)(3445، 3446)، وغيرهم من طريق عمرو بن مرة عن عاصم العنزي - ووقع في بعض الروايات مبهما، وفي بعضها: عباد بن عاصم - عن نافع بن جبير عن أبيه به، وعاصم العنزي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال عنه ابن حجر:"مقبول"، وله شاهد عن ابن مسعود، وأبي سعيد فيهما ضعف إلا أنهما يقويانه.

(4)

وجاء مصرحا برفع التفسير في بعض الروايات، و قد حقق الشيخ الأرناؤوط في هامش المسند أنها مدرجة.

(5)

منقطع - أخرجه معمر في "جامعه"(11/ 268)(20511)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب"(7/ 104)(4738) ع معمر عن قتادة به، وأين قتادة من رواية هذا الخبر فالإسناد منقطع.

ص: 156

أخبرنا الحافظ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الأبلي بقرائتي عليه أنه قال: وروي في الأثر أن رجلاً من الصحابة رأى إبليس اللعين في المنام وقد جمع عفاريته حوله [ق 63 / ب] فقال لهم: قولوا شيئًا فأنشدوا أبياتًا وأشعارًا، فقام اللعين ورقص وهم ينشدون ويصفقون حتى تعب ووقع مغشيًا عليه، فلما أفاق قال لأصحابه: عليكم بهذه الحيلة فقد درت شرقًا وغربًا على حيلةٍ أدخل بها على أمة محمد، فما رأيت مثلها ولا أحسن منها

(1)

. هذا حديث رواه أبو محمد الدارمي في مسنده وأبو داود والنسائي في سننهما والترمذي في جامعه نحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

(2)

، وذكره الحافظ أبو العباس في كتاب: لزوم السنة وطريق أهل التحقيق والنهي عن الغناء والتصفيق كما ذكرنا. أخبرنا الإمام الحافظ الناقد محمد بن عبدالواحد قراءه عليه وأنا أسمع أبنا

(3)

أبو القاسم بن أبي الوفاء البيهقي قرآه عليه وأنا أسمع بمرو أبنا الجنيد بن القاويني

(4)

الصوفي أبنا محمد بن أحمد الطبسي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن باكويه الشيرازي الصوفي في نيسابور قال: سمعت أبا الطيب بن الفرحان يقول: سمعت أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت علي بن إسحاق الصوفي يقول: سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: رأيت إبليس اللّعين [ق 64 /أ] في النوم بأولاس وهو جالس وعن يمينه جماعة وعن شماله جماعة، فقال إبليس لطائفة منهم: قولوا شيئًا وكانوا على شيء من السماع، فأخذوا في القول. قال أبو الحارث: فاستغرقني طيبة حتى كدت أن أطرح نفسي من السطح لولا تمسكتُ بالقرآن، ثم التفت إلى الطائفة الأخرى، فقال لهم: ارقصوا. قال: فرأيتهم يرقصون ويشيرون في الرقص إشارات حسنة حتى تخيرت، ثم قال لي إبليس: يا أبا الحارث أليس هذا حسنًا! فقلت: بلى. قال: ما أصبت شيئًا؛ أدخُل به عليكم ليكون لي سبيلاً إلا بهذا. فخرجت شهوة السماع من قلبي فما سمعتُ بعدها

(5)

.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

وهذا اختصار: "أخبرنا" عند البيهقي وغيره.

(4)

القاويني، وهي تصح في النسبة إلى قاين، وهو الجنيد بن محمد، أبو القاسم، وهو غير الجنيد المشهور، وانظر طبقات الشافعية للسبكي، حيث بين التشابه في الاسم والكنية واسم الأب والصوفية والتفقه، والله أعلم

(5)

لم أقف عليه مطولا، وانظر التعليق التالي.

ص: 157

وروى هذه القصة أيضًا أبو القاسم القشيري عن أبي عبد الله السلمي قال: سمعت محمد بن عبيد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر النهاوندي يقول: سمعت عليًّا السائح يقول: سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: رأيت إبليس اللعين في المنام على بعض سطوح أولاس، وأنا على سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة وعليهم شباب لطاف، فقال لطائفة منهم: قولوا شيئًا، فقالوا: غنوا فاستفزعتني [ق 64 / ب] طيّبة حتى هممت أن أطرح نفسي من أنسها، ثم قال: ارقصوا فرقصوا أطيب ما يكون، ثم قال لي: يا أبا الحارث! ما أصبت شيئًا أدخلُ به عليكم إلا هذه"

(1)

. ألا وقد رويتُ هذا المنام بالإسناد؛ لأنه رواه الصوفية من المشايخ والفقراء ولو رواه من ينكر السماع والرقص لتطرّقت عليه التّهمة، وأبو الحارث ممّن أراد الله عز وجل هدايته. وقد روي ما يؤيّد هذا أنّ إبليس اللّعين يبدو لجماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فأخبرهم بطرقٍ يدخل بها على الخلق، وذلك تسخير من الله عز وجل إلا فحسب أقوام ضلالة أن يتبعوا طرق الشيطان التي يدخل بها على الخلق، وقد رأى بعض الصالحين سيّدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام فذم ما يضع هؤلاء القوم ونورده، وإن كان منامًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حقًّا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ بِي"

(2)

، وفي لفظ قال:"لا يتشبه بي"

(3)

. ويروى بالإسناد أن أبا الحسن جميل بن نجيح الخروجي رضي الله عنه، وكان كثيرًا مما يرى النبي عليه السلام في المنام أنّه تمارى هو وقوم [ق 65 /أ] في القضيب والرقص، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من ليلة، فقال له في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: 21].

(1)

ذكره القشيري في "الرسالة القشيرية"(2/ 519)، وابن عساكر في "ذم الملاهي"(49/ 30)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص/223).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(9/ 33)(6993)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1775)(2266) من حديث أبي هريرة بنحوه.

(3)

إسناده حسن - أخرجه أحمد في "المسند"(12/ 513)(7553)، والبزار في "المسند"(14/ 307)(7936)، وابن حبان في "صحيحه"(13/ 417)(6052)، وغيرهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو، قال عنه في "التقريب":"صدوق له أوهام".

ص: 158

فهل وردَ عنّي أو عن أحد من أصحابي أنه فعل ذلك أو نحو هذا؟ "

(1)

ووجدت بخطّ الإمام العلامة الموفق عبد الله بن قدامة المقدسي

(2)

رحمة الله عليه أن الشريف محمد بن الحسن بن علي الحسني رضوان الله عليهم حدّثهم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنّه جالس وبين يديه شيخ، وأنا أقول للنبي صلى الله عليه وسلم: صلوات الله عليك يا جُدي، فسمعته يقول لشيخ بين يديه كلمة كأنّه يسبّه بها، ثم جعل يقول له: أَثبَتَ أننّي رقّاص أوَرَدَ أنني أرقص؟ وكرّر ذلك عليه مرارًا وانتبهت وهو يقولها

(3)

وفي ذلك أقول شعرا:

يا حائدين عن الصواب أما لكم

ما تتّقون الله حق تقاته

وتصدّقون إلهكم في قوله

وتسارعون معًا إلى مرضاته

وتطاوعون الهاشمي محمدًا

وتراقبون الله في أوقاته

أحدثتم للرقص بعد خموده

وتبعتم الشيطان في خطواته

أترى بذا قال النبي محمد

والسادة الخلفاء بعد وفاته؟

والقس ليس [ق 65 / ب] يراه في إنجيله

والحبر ليس يراه في توراته

وكتابنا هذا فما من آيةٍ

نطقَتْ بفضل الرقص من آياته

بل بدعة ظهرت فيالك بدعة

: ملت الشام على ضرار قضاته

ما بالهم لا ينطقون كأنّما

أخذوا بقول شريح في إصماته

فبذلك القسيس يضحك شامتًا

قد برّح الديّوث

(4)

في إشماته.

والشارع الحنفي أصبح خائفًا

قد كذّبوه القوم في فتواته

(1)

لم أقف عليه.

(2)

هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي الصالحي الحنبلي وكنيته أبو محمد ويلقب بموفق الدين، فقيه، محدث، مفسر، إمام في علم الفرائض والأصول والنحو وكان إمام الحنابلة بجامع دمشق. ولد في 541 هـ في جُمَّاعِيل (إحدى قرى نابلس في فلسطين). ومن أهم مصنفاته: المغني، الكافي، المقنع، العمدة، ذم الوسواس والموسوسين، البرهان في مسألة القرآن، روضة الناظر، ذم التأويل، كتاب فضائل الصحابة، التوابين، وكتاب القدر. توفي سنة 620 هـ بدمشق ودفن بجبل قاسيون. وترجمته في سير أعلام النبلاء (13/ 158 - 160)، شذرات الذهب (5/ 88 - 92)، فوات الوفيات (1/ 203 - 204)، النجوم الزاهرة (6/ 256)، معجم المؤلفين (6/ 31)، الأعلام للزركلي (4/ 67)، وغيرها.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

بالأصل زيادة (ما) هنا، والأولى حذفها ليستقيم الوزن.

ص: 159

لا يستطيع إلى الجدال طريقة

حذر أتيك فداله برواته

(1)

قد زيّفوه فحسبه محرابه

وغدا الفقير موَلّهٌ بخواته

يرخي عمامته ويسدل ثوبه

يظل معتمداً على منساته

يا هؤلاء ألا فقيه عالم

ورع يقوم مع الصحيح نداته

(2)

ويزيد في توبيخ كلّ مذبذب

حتى يزيد [الله] في حسناته

لا تصفقّن وتصعقنّ ولا تكن

ممّن يطيع هواه في خلواته

فالله يبغض كل صوت نابيًا

لا يبغضن الشيخ من أصواته

يا من يشاورني ويقبل من فتى

مستغفرا لله من زلاته

إيّاك تتبعهم وتسمع قولهم

وتطيع ذا الدعوى على دعواته

كن ما حييت على الشريعة ثابتًا

واحفظ وصية من نصحك رواته

واحفظ وقيت وصية من عالم

ودع الغبي يغوص في عثراته

وكن الحريص على اتّباعك للهدى

بصحيح ما تروي ثقات رواته

(1)

كذا بالأصل والأقرب أن تتمة البيت: حذرا يشك مداده بدواته. [في الأصل تظهر الكتابة كالتالي: "حذرا يشك قذاله بدواته"، والقذال: ما بين نقرة القفا والأذن]

(2)

أي: المنادين، والله أعلم

ص: 160

وروي أن رجلاً قال لمعافي بن عمران

(1)

ما تقول في الرجل يقول الشعر ويلهج به

(2)

؟ قال هو عمرك فأفنه كيف شئت

(3)

. وروي أن هلال بن العلاء قال: كتب إليّ حسين بن عياش: عافانا الله وإيّاك وعفا عنَّا وعنك أنت حفظكم الله تعلم موقعك من قلوبنا وحالك عندنا، وقد شكاك إلي أبوك لتشاغلك بطلب الشعر عن معاشك، فتعلم وفقك الله أن إغراقك في هذا الذي أنت فيه يدعوا إلى تعلّق القلب بالملاهي وبقول الأشعار بعدها، وقد يقال إن أدنى مروءة العاقل قول الشعر، وأن أشرف مروءة الأحمق بالشعر فعليك من هذا الأمر بالضحضاح

(4)

، وإيّاك والغمر

(5)

والسلام، ألا والذي أعرفكم أن الخفيف من الشعر واليسير منه نحو البيت والبيتين للتمثيل ونحوه غير حرام، ولا مذموم عند العلماء، وقد استعمله غير واحد من السلف وهو ما كان في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "وإن من الشعر لحكمة"

(6)

، وفي لفظ [ق 66 / ب] قال:"حكما" و "الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح".

(1)

هو: المعافى بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد الازدي، الفهمي، الموصلي (أبو مسعود) محدث، فقيه، أديب. رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وجالس العلماء، ولزم سفيان الثوري وتأدب بآدابه وتفقه به وأكثر عنه وعن غيره، فصنف كتبا في السنن والزهد والأدب. ولد سنة نيف وعشرين ومائة. توفي سنة أربع، وقيل خمس، وقيل س وثمانين ومائة، وترجمته في سير أعلام النبلاء (7/ 521)(1336)، الأعلام (7/ 260)، ومعجم المؤلفين (12/ 303).

(2)

في الحاشية: "حريص، وفصيح لسان".

(3)

أخرجه بنحوه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 289).

(4)

أي النذر اليسير كالتمثل بالبيت والبيتين أحيانا.

(5)

أي الكثير، والمقصود تحذيره من التعمق والانشغال به.

(6)

سبق تخريجه.

ص: 161

وقد روى الشافعي رحمه الله نحو هذا فأمّا الشعر وروايته والإكثار منه فهو الذي جاء فيه الإنكار والنهي وحسبك من ذمّ الشعر وإسقاط مرتبته تنزيه الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عنه وعن قوله وروايته، وقد زعم بعض أهل البدع والضلال ممن لا خلاق لقوله أنه عليه السلام كان يقدر على قول الشعر المنظوم كما يقدر على الكلام المنثور، إلا أنه كان يتحاشاه ويتنزه عنه، وليس الأمر في هذا كما زعمه بجهله وتوهّمه بقلة عقله، ويدلّ على فساد ما قاله [من] هذا الزعم قول الله عز وجل:{عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فثبت أنّه عليه السلام لو رام أن يقوله لم يتأت له من أمه، وإنما قطعه عن الشعر، وقوله واقتنائه صيانة للقرآن وقطعًا لدعوى من ينحل النبي صلى الله عليه وسلم صنعة الشعر، فكيف يجوز أن يكون مع ذلك قادرًا عليه متسعًا له، وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما تغنيت"

(1)

. فتبرأ من التغنّي وتبحح

(2)

بتركه وتنزه عن فعله. هذا حديث رواه ابن ماجة في سنه. وروي عن ابن [ق 67 /أ] مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قالوا: "الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل"

(3)

.

(1)

ضعيف - أخرجه ابن ماجه في "سننه"(1/ 113)(311) بسند فيه الصلت بن دينار قال عنه الذهبي: "قال أحمد: تركوا حديثه"، وقال عنه ابن حجر:"متروك ناصبي". وأخرجه مطولا أبو يعلى في "معجمه" مطولا من حديث أنس، وفيه أبو بهز الصقر بن عبدالرحمن، قال عنه أبو بكر بن أبي شيبة:"كان يضع الحديث"، وقال عنه أبو علي جزرة:"كذاب"، وقال ابن المديني عن الحديث أنه كذب موضوع. وأخرجه الدينوري في "المجالسة"(2/ 162)(285) من طريق سفيان بن عيينة عن عثمان بنحوه، وهو إسناد منقطع فأين ابن عيينة من عثمان بينهما مفاوز، وهذا أمثل أسانيده، وقد حقق الشيخ مشهور في حاشيته على المجالسة أن لفظت:"تغنيت" مصحفة، وأن الأنسب:"تعتيت" وهي من العُتو من العصيان والتجبر.

(2)

المقصود أنه صاح وأعلن بتركه.

(3)

ضعيف بهذا التمام، صحيح بدون ذكر آخره - أخرجه أبو بكر بن الخلال في "السنة"(5/ 76)(1658)، وابن بطة في "الإبانة"(2/ 703)(946)، وغيرهما من طريق وكيع عن سلام بن مسكين عن شيخ عن أبي وائل عن ابن مسعود به، وفيه جهالة شيخ سلام .. وقد روى من طرق أخرى عند ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" وغيره عن ابن مسعود مختصرا بدون ذكر آخره، وصححه ابن القيم، والشيخ الألباني، وغيرهما.

ص: 162

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب"

(1)

، وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، مثله، وفي رواية جابر "كما ينبت الماء الزرع"

(2)

. وفي رواية "كما ينبت الماء العشب"

(3)

،

(1)

إسناده ضعيف جدا - أخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 457)، وأبو نعيم في "صفة النفاق"(ص/121)(91) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله العمري، أخبرنيه أبي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة به، وعبدالرحمن قال عنه في "التقريب":"متروك"، وقال عن شيخه عبدالله العمري:"ضعيف".

(2)

إسناده ضعيف - أخرجه البيهقي في "الشعب"(7/ 108)(4746) بإسناد فيه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، قال أبو حاتم، وَغيره: أحاديثه منكرة. وقال ابن الجنيد: لا يساوي شيئا، وفيه تدليس أبي الزبير.

(3)

لم أقف عليه من حديث جابر، وإنما هو من حديث أنس، وقال عنه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (6515):" أخرج الديلمي في "مسند الفردوس" (3/ 175 - الغرائب الملتقطة) من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا مسلمة بن علي: حدثنا عمر مولى غُفرة عن أنس مرفوعاً (الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، والذي نفسي بيده، إن القرآن والذكر لينبتان الإيمان في القلب، كما ينبت الماء العشب). قلت: وهذا موضوع، آفته ابن الجارود هذا، قال الخطيب: "كان كذاباً". ومسلمة بن علي، متهم، وساق له ابن عدي في "الكامل" (6/ 313 - 318) عدة أحاديث. وقال عقبها: "وله غير ما ذكر، وكل أحاديثه - ما ذكرته وما لم أذكره - كلها أو عامتها غير محفوظة".وعمر مولى غفرة - وهو: ابن عبد الله -، ضعيف

).

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" كما في الغرائب الملتقطة [ق/84] من طريق أحمد بن حاتم الطويل، عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري، عن أبيه، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب " وهذا إسناد ضعيف جدا كما سبق الكلام عليه آنفا.

ص: 163

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "إذا ركب الرجل دابّته ولم يسمّ الله عز وجل ردفه الشيطان، فقال له: تغنّ وإن كان لا يحسن"

(1)

. وروي أن ابن عمر رضي الله عنه مرّ على قوم محرمين ومعهم رجل يتغنّى، فقال ابن عمر: "ألا لا سمع الله لكم ألا لا سمع الله لكم

(2)

"

(3)

، وأنّه مرّ بصبيّة صغيرة وهي تغنّى، فقال:"لو ترك الشيطان أحدًا لترك هذه"

(4)

. هذا حديث رواه أبي الدنيا في كتاب ذمّ الملاهي، ورواه غيره من الحفاظ، ألا فهذا ابن عمر رضي الله عنه جعل قول الصبيّة من فعل الشيطان، فكيف به لو وقف على شيوخ سمانٍ لا عقولاً ولا أذهان من رؤساء الجهّال وأئمة الضلال دأبهم الرقص واستماع الأغاني وصحبة أحداث المرد والنسوان، وذلك بعد ما ملئوا بطونهم من ألوان الطعام وجعلوا ذلك قربة إلى الرحمن وما هم إلاّ في طاعة [ق 67 / ب] الشيطان.

(1)

لم أقف عليه من حديث ابن مسعود، وإنما أخرجه الطبراني في "الدعاء"(ص/251)(788)، ومن طريقه الديلمي في "مسند الفردوس" كما في "الغرائب الملتقطة"(ق/58) من طريق حيى بن عثمان بن صالح، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا يحيى بن صالح، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما مطولا به، وفيه يحيى بن صالح، وهو الأيلي، قال العقيلي: روى عنه يحيى بن بُكَيْر مناكير.

(2)

بالأصل في الموضعين: "يسمع"، وما أثبتناه أولى، وهو الوارد في مصادر التخريج.

(3)

صحيح - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/48)(42)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى"(5/ 109) عن عبيدالله بن عمر ، وأبو خيثمة ، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن عمر ، قال: حدثني نافع ، أن ابن عمر بنحوه، وإسناده صحيح.

(4)

صحيح - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/48)(43)، والبخاري في "الأدب المفرد"(ص/274)(784)، والبيهقي في "الشعب"(7/ 109)(4748) من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار - وسقط خطأ في نسخة بن أبي الدنيا فقد أخرجها البيهقي عنه وذكره - قال: خرجت مع عبدالله بن عمر إلى السوق، فمر، فذكره، وإسناده صحيح رواته ثقات.

ص: 164

وروي عن مسروق الأجدع رضي الله عنه أنه تمثّل ببيت من الشعر فقطعه، فقيل: لو أتممت البيت! فقال: "أكره أن أجد في صحيفتي بيتًا من الشعر"

(1)

. وسئل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد فقهاء المدينة السبعة رضي الله عنهم عن الغناء فقال لسائله: أنهاك عنه وأكره. وقال أحرام هو؟ قال: انظر يا ابن [أخي] إذا ميز الله عز وجل الحق من الباطل من أيّهما يجعل الغناء

(2)

. وفي لفظ ففيم يجعل؟ قال: مع الباطل. قال: فأفتِ نفسك. وفي لفظ أن رجلاً قال له: ما تقول في الغناء أحرام هو؟ فسكت، فأعاد عليه ثلاثًا، فقال له في الرابعة: أخبرني إذا كان يوم القيامة، فأتى الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال له القاسم رضي الله عنه: فأفت نفسك. وأقول شعرا:

إذا وضع الحق في كفة

وفي أختها وضع الباطل

وجوزي العباد بأعمالهم

وكلهم دمعه هاطل

فأيتهما كفة الراقصين

أجيبوا فقد جاءكم سائل

وردّوا الجواب ولا تعجزوا

وعالمكم عنه لا غافل

فشرط الفقيه يردّ الجواب

صوابًا ولا دونه حائل

يردّ جوابًا وافيًا بما

يراه الصحيح به فاصل

ولا يتوانى يردّ الجواب [ق 68 /أ]

ويهدي به السائل الجهال

(3)

(1)

صحيح - أخرجه النسائي في "الكبرى"(10/ 408)(11867) وابن سعد في "الطبقات"(6/ 142) من طريق عبد الله، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، بنحوه، ورواته ثقات.

(2)

أخرج ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/44)(44) من طريق عبيدالله بن عمر ، وأبو خيثمة قالا: ثنا يحيى بن سليم ، عن عبيد الله بن عمر ، قال: سأل إنسان القاسم بن محمد عن الغناء ، فذكره، ويحيى بن سليم قال عنه النسائي:" منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر"، إلا أنه يقوي أن هذا الأثر محفوظ ما علقه ابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 199) قال: وروى ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير بن زيد أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن عمر يقول للقاسم بن محمد كيف ترى في الغناء؟ فقال القاسم: هو باطل، قال قد عرفت أنه باطل فكيف ترى فيه؟ قال القاسم: أرأيت الباطل أين هو؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك" ورواته ثقات غير كثير قال عنه في "التقريب": "صدوق يخطئ".

(3)

هكذا بالأصل ولعل الصواب (الجاهل) أو لعلها (الجهال السائل). [الأظهر الأول؛ للوزن، والله أعلم، لكن اللام في "الجاهل" مفتوحة، لتبعيتها للمفعول، إلا أن تكون الجملة هكذا: "ويهتد به السائلُ الجاهلُ"، وهو الأقرب عندي، والله أعلم].

ص: 165

وقد ذكرنا فيما تقدم أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: بلغني عن الثقات أن حضور المعازف واستماع الأغاني ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب

(1)

. عن الأوزاعي رضي الله عنه قال: "كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في كتاب إلى عمر بن الوليد فما أكثر خصماء أبيك يوم القيامة، فكيف ينجو من كثرت خصماؤه وإظهارك المعازف والقينات بدعة في الإسلام"

(2)

. وأخبرنا أبو الحسن علي بن المُقَيَّر البغدادي رحمه الله فيما كتب لنا بدمشق عن أبي الفضل بن ناصر أنا ثابت بن بندار أنا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد بن رزمة أنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي قال: حدثني محمد بن منصور بن مرشد النحوي أنا الزبير بن بكّار حدثني محمد بن يحيى عن معن بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كان سليمان بن عبدالملك رحمهم الله في ادية له، فسمر

(3)

ليلة على سطح من الأرض، ثم تفرق جلساؤه فدعي بوضوء، فجاءت به جارية، فبينما هي تصبّ عليه إذا استمدها بيده وأشار إليها

(4)

،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

إسناده ضعيف - أخرجه النسائي في "سننه"(7/ 129)(4135)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 270) من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن عمر بن عبد العزيز به، وهذا إسناد منقطع فالأوزاعي لم يدرك عمر بن عبدالعزيز.

(3)

وفي الحاشية: "حكى وقص".

(4)

أي طلب منها صب الماء مرتين أو ثلاثا كما جاء مصرحا به في رواية أبو الفرج الأصبهاني ..

ص: 166

فإذا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر فأمرها فتنحت [ق 68 / ب] واستمع هو الصوت، فإذا هو صوت رجل يغنّي، فأنصت حتى فهم ما يغنّي من الشعر، ثم دعا بجارية من جواريه غيرها، فتوضأ، فلما أصبح أذن للناس [إذنا] عامًا، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء، ومن كان يسمعه وليّن فيه حتى ظنّ القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا [في التليين والتحليل والتسهيل فقال هل بقي أحد يسمع منه فقام رجل من القوم فقال يا أمير المؤمنين عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان قال وأين منزلك من العسكر فأومى إلى الناحية التي كان الغناء منها فقال سليمان يبعث إليهما فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله على سليمان فقال له ما اسمك قال سمير فسأله عن الغناء كيف هو فيه فقال حاذق محكم قال ومتى عهدك به قال في ليلتي هذه الماضية قال وفي أي نواحي العسكر كنت فذكر له الناحية التي سمع منها الصوت قال فما غنيت فذكر الشعر الذي سمعه سليمان فأقبل سليمان فقال هدر الجمل فضبعت الناقة وهب التيس فشكرت الشاة وهدل الحمام فزافت الحمامة وغنى الرجل فطربت المرأة ثم أمر به فخصي وسأل عن الغناء أين أصله وأكثر ما يكون قالوا بالمدينة وهو في المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه فكتب إلى عامله على المدينة وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أخصي من قبلك من المخنثين المغنين]

(1)

. لا يفعلون ذلك إلا وهم كافرون لما يعتقدون

(2)

أنهم يتقرّبون إلى الله عز وجل بأعمال يفسق بها غيرهم. وفي لفظ: سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الرجل يشتري الجارية يعلمها الغناء يريد بها التجارة، فقال:"لو أن لهؤلاء سلطانًا لكانوا أهلاً أن ينكل بهم". وفي لفظ قال: "ما أحوج هؤلاء إلى سلطان يقيم فيهم حدود الله تعالى هم أهل [أن] ينكل بهم

(3)

"، فقيل له: هل رأيت أحدًا يسمعه أو يجلس إليه.

(1)

ساقطة من الأصل، وذكره أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني"(4/ 270)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص/210).

(2)

بالأصل: " يزعمون يعتقدون" والعبارة قلقة، ويبدو أن بها سقط، ويحمل كفرهم هنا على الكفر الأصغر، وسبق توجيه مثل هذه الإطلاقات والعبارات قبل ذلك.

(3)

وبالأصل: " هم أهل ينكل من النكال بهم".

ص: 167

قال: "لا، بل رأيت الناس يمنعون أبناءهم وسفهاءهم عن الجلوس إلى المغنّي وعن استماعه"، وهذا حديث صحيح عن مالك رضي الله عنه؛ لأنه روي بأسانيد صحاح، وقال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله:"أمّا مالك رحمه الله فإنه نهى عن الغناء واستماعه"، وقال:"إذا اشترى جارية فوجدها مغنّية كان له ردّها بالعيب"، وهو [ق 69 /أ] مذهب سائر أهل العلم إلا إبراهيم بن سعد

(1)

فإنه حكى زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسًا. قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي

(2)

رحمه الله: إبراهيم بن سعد ليس هو من أهل الاجتهاد والفتوى في الدين، ثم لم يوضح الراوي صفة ما أجازه من الغناء، فلعلّه ينشد القصائد التي لا تطرب ولا تلحن على النغمات الموسيقية، ومثل ذلك فإنه مباح، وهذا الخلاف من هذين الرجلين

(3)

(1)

بالأصل: "سعيد"، وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشى الزهرى، أبو إسحاق المدنى من العلماء بالحديث الثقات، من أهل المدينة المنورة. نقل الخطيب أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود. روى له البخاري ومسلم، وولي القضاء ببغداد، وتوفي بها علم (185 هـ). بقي من آثاره نحو 20 صفحة بعنوان (نسخة إبراهيم) ومنها نسخة بدار الكتب، في الحديث. وله ترجمة في سير أعلام النبلاء (8/ 304)(81)، تهذيب الكمال (2/ 88)(174)، الأعلام (1/ 40).

(2)

هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري، المالكي، المعروف بالطرطوشي، ويعرف بابن أبي رندقة (أبو بكر) فقيه، أصولي، محدث، مفسر. ولد سنة 451 هـ تقريبا، ونشأ في طرطوشة بالأندلس، ورحل إلى المشرق فدخل بغداد والبصرة، وسكن الشام، ونزل بيت المقدس، وأخذ عن جماعة، وتوفي بالاسكندرية في جمادى الاولى عام 520 هـ. من تصانيفه: سراج الملوك، الدعاء، الحوادث والبدع، مختصر تفسير الثعالبي، وشرح رسالة ابن أبي زيد. وله ترجمة في: الديباج المذهب (2/ 244)، وفيات الأعيان (4/ 262)، معجم المؤلفين (12/ 96)، الأعلام (7/ 133)، وغيرها.

(3)

وهما: إبراهيم بن سعد، فإن الساجى حكى عنه: أنه كان لا يرى به بأساً، كما نقل المؤلف عنه، والثانى: عبيد الله بن الحسن العنبرى، قاضى البصرة. وانظر إغاثة اللهفان (1/ 230) ..

ص: 168

المطعون على أحدهما والآخر معذور في استماع صوت الغناء فحسب، وأما استماع الأغاني المحرّمة الملحنة والدفوف والشبابات والطنبور والعود وسائر الملاهي فحرام ومستمعها فاسق إن اعتقد تحريمها، وإلا فهو كافر

(1)

، وأما ما حكى بعض الملحدين عن الإمام مالك رحمه الله ورضي الله عنه أنه سئل عن السماع، فقال أهل العلم ببلدنا لا يقعدون عنه ولا ينكرونه

(2)

، وذمّ من ينكره، وهذه حكاية منقطعة لا يصحّ إسنادها، يقول فيها الدرستي: بلغني عن مصعب، وأنها معارضة بما هو أصحّ منها، وهو أذكرناه آنفًا. وحكى ابن

(3)

(1)

أي إن استحلها، بعد إقامة الحجة عليه، وقال ابن مفلح في "الفروع" (11/ 349):"ذكر القاضي عياض الإجماع على كفر من استحله" - أي الغناء -.

(2)

ضعيف - أخرجه ابن القيسراني في "السماع"(ص/46) من طريق ظفر بن داعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن فيما كتب به إلي. قال: سمعت أبا سهل محمد بن سليمان الصعلوكي يقول: سمعت أبا محمد الدرستي يقول: بلغني عن مصعب الزبيري قال: حضرت مجلس مالك بن أنس فسأله أبو مصعب عن السماع فقال فذكره بنحوه، وإسناده منقطع بين الدرستي، والزبيري.

(3)

بالأصل: "أبو" وهو خطأ،

وهو: محمد بن طاهر بن علي بن أحمد، أبو الفضل المقدسي الحافظ، قال عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (12/ 218): "ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيرا، وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة، وصنف كتبا مفيدة، غير أنه صنف كتابا في إباحة السماع، وفي التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جدا، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الأئمة، وقال ابن الجوزي: وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول: محمد بن طاهر لا يحتج به، صنف في جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الإباحية

ثم قال السمعاني: لعله قد تاب من هذا كله."، وقد صنف: أحمد بن عيسى بن عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي ردا على كتاب السماع سماه "الرد على القيسراني في إباحته السماع"، وقد حقق كتاب "السماع" الشيخ ابن تميم الظاهري، وكتب مقدمة رد فيها على المؤلف في إباحة السماع وبيّن الخطأ في استدلالاته

[وما ورد بالأصل (أبو طاهر) لعله اشتبه على المؤلف، حيث تكرر الخطأ عنده في موضع آخر، ولعله قد اشتبه بأبي طاهر، موسى بن محمد بن عطاء، وله ترجمة في الجرح والتعديل وغيره]

ص: 169

طاهر المقدسي وهو [ق 69 / ب] رجل كذّاب ليس ثقة ولا مأمون عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وغيره من فقهاء المدينة، قال: ومالك كان أقلهم في فقهه وقدره، وإنهم كان معهم دفوف وعيدان ومعازف يغنون ويلعبون ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنّي:

سليمى أزمعت

(1)

بينا

وأين لقاؤها أينا

وقد قالت

(2)

لأتراب

لها زهر

(3)

تلاقينا

تعالين فقد طاب

لنا العيش تعالينا

(1)

في تاريخ بغداد ومن نقل عنه كالذهبي في تاريخ الإسلام وابن عساكر في تاريخ دمشق والسخاوي في التحفة اللطيفة: أجمعت، وأما في كتاب ابن طاهر، فكما في الأصل

(2)

بالأصل: "قال"، ولعل الأصوب، ما أثبته.

(3)

بالأصل: " زهرة".

ص: 170

وما تكلم بعدها زور وباطل موضوع، وفي رواتها من لا يعتمد عليهم وعبيد الله بن سعيد بن كثير

(1)

قال فيه أبو حاتم بن حيان: لا يشبه حديثه حديث الثقات وأبوه ليس من شرطه

(2)

. قال السعدي: فيه كلام، وأما فساد متن هذه الحكاية فظاهر لا يخفى إلا على الجهّال، وقد نزّه الله تعالى فقهاء أهل المدينة عن ذلك، وقد أسلفنا ما يعارضه مما صحّ وثبت من قول مالك وابن المنذر وغيرهما، ولعلّ بعض الأغبياء الجهّال يتوهم أن السماع المذكور هاهنا هو ما تستعمله هذه الطائفة الضالة اليوم، كلا، بل هو سماع الغناء نقل عن بعض أهل المدينة أنه كان يسمع جاريته أو غيرها تغنّي، والذي نقل عنهم من أهل المدينة [ق 70 /أ]

(3)

أكثر الأئمة في ذلك الزمان منهم خط قاضي القضاة الشامي

(4)

يقول: وأمَّا إمامنا الشافعي رجع عن الغناء واعتقد تحريمه وفي كتاب المسألة في الرد على من يقول بجواز الغناء والرقص والتغبير على مذهب الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله للقاضي الإمام أبو الطيب طاهر بن الطبري الشافعي المذهب رحمه الله

(5)

(1)

والذي وقع في نسخة "السماع" لابن القيسراني: " عبد الله بن سعد بن كثير بن عون عن أبيه"، وتكلم المؤلف عن عُبَيدالله بن سعيد بن كثير بن عفير المصري، وعن أبيه.

(2)

والهاء تعود إلى حديث الثقات.

(3)

كذا بالأصل، والذي يظهر أن هاهنا سقطا جليا.

(4)

هو محمد بن المظفر بن بكر بن عبد الصمد البغدادي، الشامي، الحموي، القاضي الشافعي (أبو بكر)، فقيه، أصولي. ولد في حماة سنة أربعمائة، قال ابن السمعاني هو أحد المتقنين لمذهب الشافعي وله اطلاع على أسرار الفقه وكان ورعا زاهدا متقنا جرت أحكامه على السداد، وتولى القضاء ببغداد. وتوفي في 10 شعبان عام 488 هـ. من تصانيفه: البيان في أصول الفقه. وترجمته في طبقات الشافعية الكبرى (4/ 202)(349)، طبقات الفقهاء الشافعية (1/ 268)، السير (19/ 85)(47)، معجم المؤلفين (12/ 38)، وغيرها.

(5)

يشير إلى كتاب: " الرد على من يحب السماع" لطاهر بن عبدالله بن طاهر الطبري؛ دراسة و تحقيق مجدي فتحي السيد، وقد طبع بدار الصحابة بطنطا الطبعة الأولى عام 1410 هـ، 1990 م في مائة صفحة ..

ص: 171

قال: وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان إبليس أوّل من ناح وأوّل من غنى"

(1)

، فأعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبليس قدوة أهل الرقص والسماع في الغناء وأستاذهم وشيخهم في ذلك وحسبك فجورًا في قوم يقتدون بإبليس في أفعالهم وأقوالهم ولا يقتدون بالصالحين من العلماء والعبّاد.

قال أبو القاسم الجنيد

(2)

رحمة الله عليه: "علمنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب والسنة، ولم يكتب الحديث لا يقتدي به"، ألا فهذا أبو القاسم الجنيد شيخ من المشايخ قد حذّر الناس أن يقتدي بكل شيخ لا يحفظ القرآن ولا يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتفقه، فما بال جهّال زماننا لا يقبلون من الله عز وجل ولا من رسوله عليه السلام، ولا [ق 70 / ب] من الصحابة رضوان الله عليهم ولا من أئمة المسلمين وعلمائهم، ولا من شيوخ الصالحين العبّاد، بل يتبعون أقوامًا جهلة لا يدينون الله بدين، ولا يعرفون تفسير القرآن ولا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدون بهم، واتخذوا الشياطين من الإنس أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون.

(1)

ضعيف - ذكره طاهر الطبري في "الرد على من يحب السماع"(ص/39)(18) معلقا كما قال المؤلف، وفيه عنعنة أبو الزبير، وهو مدلس، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (444):(لا أصل له. وقد أورده الغزالي (2/ 251) من حديث جابر مرفوعا، فقال الحافظ العراقي في تخريجه: لم أجد له أصلا من حديث جابر، وذكره صاحب " الفردوس " من حديث علي بن أبي طالب، ولم يخرجه ولده في " مسنده ").

(2)

سبقت ترجمته.

ص: 172

وقرأت في كتاب تحريم الغناء والرقص واللهو والردّ على المشتغلين بذلك على مذهب الإمام الشافعي ومالك رحمة الله عليهما الإمام أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي

(1)

المذهب رحمه الله قال: وروى عطاء بن يسار رحمه الله أن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: وجدت في التوراة "إنا أنزلنا الحق ليذهب الباطل ويبطل اللعب والرقص والزمر والزمارات والشعر والمزامير والقيثارات

(2)

والخمر مرّة لشاربها"

(3)

. قال: وروى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أنْ أمحق الْمَزَامِيرِ والقيثارات

(4)

وَالْمَعَازِفِ وَالْأَوْتار

(5)

وَأَقْسَمَ رَبِّي بِعِزَّتِهِ: أَنْ لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي جَرْعَةً مِنْ خَمْرٍ، إِلَّا سَقَيْتُهُ مكانها [ق 71 /أ] مِنَ حَمِيمِ

(6)

جَهَنَّمَ مُعَذبًا أَوْ مَغْفُورًا لَهُ، ولا يدعها عبد من عبيدي مَخَافَتِي إِلَّا سَقَيْتُهُ إياها في حظيرة القدس

(7)

، وَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلَا شِرَائِهُنَّ، وَلَا تَعْلِيمُهُنَّ وَلَا تِجَارَةٌ فِيهِنَّ، وإثمانهنَّ حَرَامٌ" للمغنيات

(8)

(9)

.

(1)

طبع كتاب "تحريم الغناء والسماع" مع رسالة في تحريم الجبن الرومي في " دار الغرب الإسلامي" بيروت عام 1997 م، بتحقيق عبدالمجيد تركي.

(2)

جمع قيثارة، وهي آلة طرب.

(3)

ذكره السمرقندي في "تنبيه الغافلين"(ص: 148) بلفظ: "إنا أنزلنا الحق ليذهب بالباطل، ويبطل به اللعب والدف والمزامير. والخمر ويل لشاربها". [وانظر كتاب الطرطوشي تحريم الغناء والسماع (ص 190)]

(4)

كذا بالأصل، وفي نسخة أحمد، وغيره:"والكنارات، يعني البرابط والمعازف".

(5)

كذا بالأصل، وفي مصادر التخريج:"والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية".

(6)

وعرفها في الحاشية بقوله: "ماء حار".

(7)

وبالأصل: "حضرة القدسي"، والتصويب من مصادر التخريج. وفي الحاشية عرف الحضرة بأنها المقابلة.

(8)

بالأصل: "كالمغنيات" والتصويب من مصادر التخريج.

(9)

ضعيف - أخرجه أحمد في "مسنده"(36/ 551)(22218)، والحرث في "مسنده"(2/ 770 - بغية)(771)، والطبراني في "الكبير"(8/ 211)(7852)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم"(1/ 596)(1025)، وغيرهم من طريق علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مطولا ومختصرا بنحوه، وعلي بن يزيد هو الألهاني: ضعيف.

ص: 173

قال: وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: «بَلَى وَلَكِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ وَالْقَيْنَاتِ

(1)

وَالدُّفُوفَ فَبَاتُوا عَلَى لَهْوِهِمْ وَشُرْبِهِمْ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ»

(2)

. وصحّ وثبت عن أبي مالك الأشجعي

(3)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَتُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ، وَيَخْسِفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» . هذا حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه بنحوه

(4)

. وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: "من جلس إلى قينة يستمع منها صبّ في أذنيه الآنك"

(5)

(1)

وعرفها في الحاشية بقوله: "القينة جارية وعند البعض جارية مغنية، قينات، وقيان جمعها".

(2)

إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» (ص 29 - 30)(8) من طريق حسان بن أبي سنان، عن رجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وفيه جهالة الراوي عن أبي هريرة. ورواه أبونعيم في «الحلية» (3/ 119) من طريق حسان بن أبي سنان، عن أبي هريرة مرسلاً به، وقال:«كذا رواه حسان عن أبي هريرة مرسلاً، ورواه غيره عن الحسن، عن أبي هريرة متصلاً» .أ. هـ. والحسن لم يسمع من أبي هريرة فالإسناد منقطع.

(3)

كذا بالأصل وصوابها: الأشعري، وأبو مالك الأشجعي في الصحابة، لا يعرف اسمه، وهو غير أبي مالك الأشعري، انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم والإصابة، والحديث حديث الأشعري، والله أعلم.

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7/ 106)(5590) بنحوه، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" (2/ 1333) (2040) بهذا اللفظ وزاد ذكر: المغنيات.

(5)

باطل - أخرجه الدارقطني في (غرائب مالك) من طريقين عن أبي نعيم عبيد بن هشام الحاجبي حدثنا ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك _ مرفوعاً. قال الدارقطني: تفرّد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن بن المنكدر.، وقال عنه الإمام احمد: هذا باطل" ..

ص: 174

-يعني الرصاص المذاب- عقوبة لاستماع لما حرّمه الله تعالى، وقال مكحول رحمة الله عليه:"من مات وعنده مغنّية لا يصلي عليه"

(1)

ألا فقل لمن أباح سماع الغناء واتبع نفسه هواها [ق 71 / ب] وأعطاها من هذا الأمر لذتها ومناها دعواك القبيحة على مالك وعلى الشافعي رضي الله عنهما أقبح [و] أفحش من فعلك واحتجاجك أفحش [و] أقبح من ذنبك؛ لأنك تريد أن تخرج الباطل في صورة الحقّ، وترى الناس معاصيك لله عز وجل ليست بمعصية، بل هي طاعة اتبعت فيها الأثر، فأنت في هذا أضرّ على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من إبليس في بعض تحسينه؛ لأن إبليس إذا حسّن للعبد المعصية وحبّب إليه الفاحشة قال له: إنّ الله وعد بقبول التوبة والمغفرة والرضوان لمن تاب، فإذا قضيتم لذّتكم وبلغتم شهوتكم، وتبتم غفر الله لكم وأنت أيّها الجاهل المتعالم المتغافل المتظالم الغمر المتغاشم تقول لهم إنكم عاملون بعلم، ومتبعون مذهب الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله وغيرهما من العلماء المحققين والعبّاد الصادقين، وأنتم عاملون بالعلم وعابدون لله عز وجل، وأنتم المتبعون العاملون. فنقول له: على زعمك

(2)

لا تحتاج مع فتياك هذه متاجرة لله عز وجل ولا معاملة هي أربح لك من استماع الغناء والطرب، فاعمل الآن مجلسًا تعلم فيه الناس الرقص واستماع الغناء والشبابات التي تزعم أنه مذهب مالك والشافعي رحمة [ق 72 /أ] الله عليهما ترجوا بذلك الفوز غدًا كما أن أهل العلم يعلمون الناس مذهبهما في علم الكتاب والسنة ما أنت إلا كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] ما أنت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا كالطاغوت الذي يخرج الناس من النور إلى الظلمات. وسئل الإمام مالك رحمة الله عليه عن اللعب بالشطرنج فقال للسائل

(3)

:

(1)

لم أقف عليه مسندا من قول مكحول، وقال ابن زغدان في "فرح الأسماع برخص السماع" (ص: 102): (ورووا من طريق ابن شعبان قال: روى هاشم بن ناصح عن عمر بن موسى عن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه: وهو حديث مردود؛ لأن هشاما وعمر مجهولان، ومكحول لم يلق عائشة).

(2)

بالأصل: " لا على زعمك على زعمك".

(3)

بالأصل: "السائلة" ..

ص: 175

أحق هو؟ قال: لا فقال الإمام: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}

(1)

وكذلك نقول لهذه الطائفة الخبيثة. وقال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: من تكلم بكلام الدين، أو في شيء من هذه الأحوال ليس له فيه إمام متقدّم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم فقد أحدث في الإسلام، حدثنا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث حدثًا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفًا

(2)

ولا عدلاً

(3)

"

(4)

.

(1)

ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(8/ 108) فقال: قال مخلد بن خداش: سألت مالكا عن الشطرنج

فذكره.

(2)

وفسرها في الحاشية فقال: "أي فرضا".

(3)

وفي الحاشية: "أي نفلا".

(4)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 994)(1366) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 176

وأما الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه فنصّ على تحريمه في روايات كثيرة. وقد سئل عن القصائد واستماعها، فقال:"هي بدعة ولا يجالسون". وقال عبد الرحمن المتطبب: سألت أحمد بن حنبل وقلت له: ما تقول في القصائد؟ قال: "بدعة ولا يجالَسون"، وقال:"الغناء ينبت النفاق في القلب". وروى ابن

(1)

طاهر [ق 72 / ب] سامحه الله

(2)

حكايتين

(3)

عن الإمام أحمد من استماعه إلى ابن الخبازة

(4)

لما كان ينشد القصائد وما تلاه، فالجواب بأن الأولى منها وهي رواية صالح التي نقلها عن أحمد بن علي: محمد بن الحسين الصوفي عن الحسين بن أحمد عن أبي العبّاس الفرغاني عن صالح طريق مظلم ومحمد بن الحسين، فقد نقل كذبه وأنّه كان يضع للصوفيّة الأحاديث، وأما الثانية فالقواس

(5)

يقول: أظنّه عن عبد الله بن أحمد والظنّ ليس بكاف في الرواية دون القطع ولم ينقل عن عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما أنّ أباه كان يستمع الغناء ولا يقاربه وقد كان ملازمًا لأبيه مقتديًا به في كثير من أخلاقه، والصحيح عن صالح ما روى أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال رحمة الله عليه الذي جمع علم أحمد وأخباره وتتبّعها التتبع الشديد، فإنه ذكر في كتاب الجامع قال: أخبرنا زهير بن صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: "كان عندي من يقرأ ويقول قصائد، فقيل لي: إن الشيخ قائمًا يستمع فخرجت فإذا أبي قائمًا يستمع فقال لي: من عندك؟ قلتُ: فلان وفلان [وظل] قائمًا يستمع حتى مضى"، فهذا الطريق بين لكم رحمكم الله أن تلك التي ذكرها عن صالح ليس بصحيحة فإنّها [ق 73 /أ] قضية واحدة وليس في ذلك أكثر من أن الإمام أحمد استمع شعرًا غير مقترن بما يذمّ من الملاهي ونحوها، ولم يستحضره ولا جلس إليه، بل كان واقفًا، والظاهر أنه استمع هل ينظر شيء يريبه فيمنع منه، فلمّا لم يسمع إلا قرآنًا، ثم شعرًا في زهد سكت عنه، وهذا أليق بحاله في علمه وورعه، فأمّا ما زاده المتصوفة فيما نقلوه من التبختر وقولهم كأنّه يرقص فكذب منهم ومحال، يطلبون المعنى تصحيحًا لمذهبهم في الرقص

(6)

، قد أعاذه الله عز وجل من ذلك.

(1)

بالأصل: "أبو".

(2)

وفي الحاشية: "أي قبحه".

(3)

وهما في "السماع" له (ص/46 - 47).

(4)

وهوأبو بكر، محمد بن عبد الله بن يحيى

(5)

أي: يوسف بن عمر القواس.

(6)

أي أنه من تغيير الرواة وروايته بالمعنى تصحيحا لمذهبهم في الرقص. وانظر تلبيس إبليس (ص/217).

ص: 177

قال الإمام أبو الفرج عبدالله بن علي رضي الله عنه

(1)

: أما مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه فإنه كان الغناء في زمانه قصائد الزهد لأنهم لما كانوا يلحنونها اختلفت الرواية عنه، فروي عن ابنه عبد الله رحمه الله أنه قال:"الغناء ينبت النفاق في [القلب] ولا يعجبني". وروى عنه إسماعيل بن إسحاق الثقفي أنه سئل عن استماع القصائد. فقال: "أكرهها هو بدعة ولا يجالَسون". وروى عنه يعقوب الهاشمي أنه قال: "التغبير

(2)

بدعة محدث". وقال الحافظ أبو بكر الأثرم: سمعت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول التغبير محدث. وروى عنه يعقوب بن بختان أنه قال: أكره التغبير، وأنه

(3)

نهي استماعه، فهذه الروايات كلها دليل على تحريم الغناء، وقال أبو بكر الخلال [ق 73 / ب] رحمه الله إنما كره أحمد القصائد لما قيل له إنهم يتماجنون ويتصافقون

(4)

، ثم روي عنه أنه يدل على أنّه لا بأس بها. قال المروزي: سألت أبا عبد الله عن القصائد فقال: بدعة. فقلت له: يهجرون، فقال: لا يبلغ بهذا كلّه، وقد روينا أن الإمام أحمد رحمه الله سمع قوالاً عند ابنه صالح فلم ينكر عليه، وإنما أشار إلى ما كان في زمانهم من القصائد الزهديات ينشدونها بغير تلحين، وعلى هذا يحمل ما لا يكرهه أحمد، ويدل على ما قلت

(5)

(1)

تلبيس إبليس (ص/203).

(2)

قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان": " وهو شعر يزهد فى الدنيا، يغنى به مغنّ فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخذة على توقيع غنائه" وقال السفاريني في "غذاء الألباب: " قال الصغاني في كتاب مجمع البحرين: المغبرة قوم يغبرون ويذكرون الله عز وجل بدعاء وتضرع كما قال: عبادك المغبرة رش علينا المغفرة. وقد سموا ما يطربون فيه من الشعر تغبيرا لأنهم إذا تناشدوه بالألحان طربوا فرقصوا وأهزجوا فسموا المغبرة لهذا المعنى. وقال ابن دريد: التغبير تهليل أو ترديد صوت يردد بقراءة أو غيرها. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغبير ليصدوا الناس عن ذكر الله تعالى وقراءة القرآن. وقال الزجاج: مغبرين لتزهيدهم الناس في الفانية وهي الدنيا وترغيبهم إياهم في الآخرة وهي الغابرة الباقية. انتهى" ..

(3)

بالأصل: "فإنه" والتصويب من تلبيس إبليس.

(4)

بالأصل: "ويتصاقعون".

(5)

بالأصل: "قبله"، والتصويب من تلبيس إبليس ..

ص: 178

أن أحمد رحمه الله سئل عن رجل مات وخلف ولدًا وجاريةً مغنّية، فاحتاج الصبيّ إلى بيعها، فقال: تباع على أنّها ساذجة لا على أنّها مغنّية، فقيل له: أنها تساوي ثلاثين ألفًا ولعلّها أن بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارًا. قال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. فقال ابن عقيل: وهذا فقه حسن من أحمد رحمه الله؛ لأن الغناء في الجارية كالتالف في آلة اللهو، وذلك لا يقوّم له في الغصب جارية مغنّية، فنسيت الغناء لم يغرم

(1)

قال: وهذا دليل على أن الغناء محظور؛ إذ لو لم يكن محظورًا ما أجاز تفويت المال على اليتيم، وصار هذا كقول أبي طلحة رضي الله عنه للنبي عليه السلام: عندي [ق 74 /أ] خمر لأيتام فقال: "ارقها"

(2)

. فلو جاز استصلاحها لما أمره بتضييع مال اليتيم. وروى المروزي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: كسب المخنّث خبيث، وكسبه بالغناء. فبان من هذه الجملة أن الرّوايتين عن أحمد بالكراهية وعدمها يتعلّق بالزهديات الملحنة، فأما الغناء المعروف اليوم فمحظور عنده كيف ولو علم ما أحدث الناس فيه من الزيادات، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله كثير الإتباع شديد الكراهية للمحدثات واللّهو والبطالات، والروايات المشهورة عنه على ذمّ الغناء والتغبير وكسر الملاهي والطنابير. وروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: ما كتبت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به حتّى مرّ بي في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم

(3)

(1)

انظر الأمر بالمعروف للخلال، وطبقات أبي يعلى، والتلبيس ومناقب أحمد لابن الجوزي، والمغني لابن قدامة، والمبدع لابن مفلح وغير ذلك، وكلام ابن عقيل نقله ابن الجوزي في مناقب أحمد (ص 92، 93) ط. التركي

(2)

حسن - روى أحمد في "مسنده"(21/ 276)(13733) والدرامي في "سننه"(2/ 1344)(2161)، وغيرهما من طريق إسرائيل، عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس بن مالك، قال:"كان في حجر أبي طلحة يتامى، فابتاع لهم خمرا، فلما حرمت الخمر، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصنعه خلا؟ قال: " لا "، قال: فأهراقه" وإسناده حسن، وللحديث طرق أخرى وشواهد.

(3)

أخرج البخاري في "صحيحه"(7/ 126)(5696)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1204)(1577) من طريق حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه: أنه سئل عن أجر الحجام، فقال:"احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة، وأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه" الحديث ..

ص: 179

وأعطى أبا طيبة دينارًا

(1)

، فأعطيتُ للحجام دينارًا حين احتجمتُ"

(2)

، وقال رحمه الله:"كتبت بخطي ألف ألف حديث سوى ما كتب لي". وروى ابنه عبد الله رحمهما الله قال: "نظرت بالحزر

(3)

(1)

مرسل - أخرج ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(ص/121)(402) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث (صدوق)، والطبراني في "الكبير" (11/ 337) (11934) من طريق زيد بن الحباب (صدوق يخطئ) كلاهما عن عمر بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احتجم وأعطى الحجام دينارا» ، وخالفهما: وكيع (ثقة حافظ) عند ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 355)(20990)، وأبو عاصم النبيل (ثقة ثبت) عند الأصبهاني في "تاريخ أصبهان"(1/ 348)، كلاهما عن عمر بن فروخ مرسلا به، بدون ذكر ابن عباس، وروايتهما أرجح.

(2)

أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 144)، ولكنه قال في أوله:"حدثت عن عبد العزيز بن جعفر الختلي، قال: نا أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، نا المروذي، قال: قال لي أحمد: فذكره"، وأصل الأثر رواه السمعاني في "أدب الإملاء" (1/ 109) فقال:(حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي إملاء بأصبهان أنا عبد الرزاق بن عبد الكريم الحسناباذي أنا أبو بكر بن مردويه أنا عثمان بن محمد العثماني سمعت محمد بن أحمد بن خالد سمعت أبا حامد البلخي يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به ولو مرة لأن لا يكون علي حجة حتى الركعتان بين الأذان والإقامة في المغرب).

(3)

الحَزْرُ: التقدير والخَرْصُ، وانظر الصحاح مادة (ح ز ر) ..

ص: 180

مني فإذا قد كتب أبي مقدار ألف ألف حديث وترك لقوم لم يحدث عنهم فترك حديثهم مقدار مائة ألف وخمسين ألفًا أخرى"، ألا والذي أقول لأهل البصائر والعقول أنّ هذه الطائفة الضالة ضلّت عن طريق الصواب وخالفت السنة والكتاب على ما قاله [ق 74 / ب] أبو الليث السمرقندي الحنفي المذهب في كتابه في الردّ على هذه الطائفة وعلى ما قاله أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى بن الفراء

(1)

وأبو المحاسن الحراني

(2)

الحنبليان المذهب في كتابيها في الردّ على هذه الطائفة، وبه قال خلق كثير غيرهم

(3)

(1)

هو الإمام العلامة شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء صاحب التعليقة الكبرى والتصانيف المفيدة في المذهب ولد في أول سنة ثمانين وثلاث مئة أفتى ودرس وتخرج به الأصحاب وانتهت إليه الإمامة في الفقه وكان عالم العراق في زمانه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره والنظر والأصول ألف كتاب أحكام القرآن ومسائل الإيمان والمعتمد ومختصره والمقتبس وعيون المسائل والرد على الكرامية والرد على السالمية والمجسمة والرد على الجهمية والكلام في الاستواء والعدة في أصول الفقه ومختصرها وفضائل أحمد وكتاب الطب وغيرها توفي سنة ثمان وخمسين وأربع مئة ترجمته في سير الأعلام (18/ 89)، وطبقات الحنابلة (2/ 193)، وغيرهما.

(2)

هو أبو المحاسن هبة الله بن نصر بن الحسين بن حامد الحراني الحنبلي، فاضل، تفقه ببغداد، وقرأ على ابن الزاغوني، وأبي الخطاب وغيرهما، وسمع من طلحة العاقولي. وله " كفاية المنتهى ونهاية المبتدي "، "المعيار في الرد على المتمسّكين بغير الأخبار "في ذم الغناء ودحض ما عليه جهلة الصوفية من الرقص ومصاحبة المردان طبع بالدار الأثرية – عمان بتعليق: د. جمال عزون. وله ترجمة في ذيل طبقات الحنابلة (2/ 7)، معجم المؤلفين (13/ 145).

(3)

قال عبد القادر الجنيد: " وأما الإجماع وعدم الخلاف بين أهل العلم في حرمة سماع الآلات الموسيقية، فقد نقله جمع كثير من أهل العلم من مختلف العصور والمذاهب، ومنهم هؤلاء:

1 -

الإمام محمد بن الحسين الآجري شيخ الحرم الشريف في زمانه رحمه الله المولود سنة (280 هـ وقيل: 264) كما في "نزهة الأسماع في مسألة السماع"(ص 25) لابن رجب الحنبلي.

2 -

شيخ الشافعية القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله المولود سنة (348 هـ) كما في "نزهة الأسماع في مسألة السماع"(ص 62 - 64) لابن رجب.

3 -

الشيخ أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي الشافعي المقرئ المحدث رحمه الله المولود سنة (360 هـ ونيف) كما في "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"(ص 124) و"الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 347) لابن حجر الهيتمي.

4 -

الإمام الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله المولود سنة (436 هـ) كما في كتابه"شرح السنة"(12/ 383).

5 -

الشيخ جمال الإسلام ابن البزري الشافعي عالم أهل الجزيرة رحمه الله المولود سنة (471 هـ) كما في "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"(ص 114) و"الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 342) لابن حجر الهيتمي.

6 -

الشيخ القاضي ابن أبي عصرون عبد الله بن محمد التميمي عالم أهل الشام رحمه الله المولود سنة (492 هـ) كما في "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"(ص 115) لابن حجر الهيتمي.

7 -

الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الأندلسي المالكي رحمه الله المولود سنة (520 هـ) في كتابه " تحريم الغناء والسماع"(ص 223 فقرة: 87).

8 -

الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله المولود سنة (541 هـ) كما في كتابه "المغني"(12/ 457) وكتاب "النهي عن الرقص والسماع"(2/ 558) لابن بدران الدشتي الحنفي.

9 -

الحافظ أبو عمرو بن الصلاح الشافعي رحمه الله المولود سنة (557 هـ) كما في كتاب "فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه"(2/ 500 مسألة رقم: 487).

10 -

الفقيه المحدث أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي المالكي المولود سنة (578 هـ) كما في كتابه "كشف القناع عن حكم الوجد والسماع"(ص 72) وكتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم"(3/ 403) وكتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 337 و 348) لابن حجر الهيتمي، و"الرهص والوقص لمستحل الرقص" لإبراهيم الحلبي الحنفي" (ص 72).

11 -

الشيخ محمود بن أبي القاسم إسفدنار بن بدران الدشتي الكردي الحنفي رحمه الله المولد سنة (604 أو 605 أو قريب منهما) في كتابه "النهي عن الرقص والسماع"(2/ 511 و 546 و 550 و 676 و 729 و 744 و 367).

12 -

الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله المولود سنة (631 هـ) كما في "مجموع الفتاوى"(28/ 118 و 11/ 576 - 577 و 597 و 603).

13 -

الشيخ شهاب الدين الأذرعي الشافعي رحمه الله المولود سنة (708 هـ) كما في كتاب "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"(ص 120) لابن حجر الهيتمي.

14 -

الشيخ الفقيه أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي رحمه الله المتوفى سنة (772) في شرحه على "مختصر الخرقي"(6/ 351).

15 -

الحافظ زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب المشهور بابن رجب الحنبلي رحمه الله المولود سنة (736 هـ) كما في كتابه "فتح الباري"(6/ 83 عند حديث رقم: 952) وكتابه "نزهة السماع في مسألة السماع"(60 و 25).

16 -

الشيخ محمد البزازي الكردي الحنفي رحمه الله المولود سنة (827 هـ) كما في"البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(7/ 89) لابن نجيم، و"الرهص والوقص لمستحل الرقص" لإبراهيم الحلبي الحنفي" (ص 72 و 85).

17 -

الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيتمي الشافعي رحمه الله المولود سنة (909 هـ) كما في كتابه "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع"(ص 124) وكتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 347 و 348).

18 -

الشيخ إبراهيم بن محمد الحنفي المشهور بالحلبي رحمه الله في كتابه "الرهص والوقص لمستحل الرقص"(ص 75 و 92 و 85 - 86).

19 -

الشيخ أبو الليث السمرقندي رحمه الله كما في كتاب "النهي عن الرقص والسماع" لابن بدران الدشتي الحنفي" (2/ 548) والمولود سنة (604 أو 605 أو قريب منها).

20 -

الشيخ أبو المحاسن الحراني الحنبلي رحمه الله كما في كتاب"النهي عن الرقص والسماع" لابن بدران الدشتي الحنفي" (2/ 549) والمولود سنة (604 أو 605 أو قريب منها).

21 -

العلامة عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي رحمه الله المولود سنة (1312 هـ) في كتابه "حاشية الروض المربع"(7/ 357).

23 -

العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله المولود سنة (1330 هـ) كما في "مجموع فتاويه"(3/ 393).

24 -

العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله المولود سنة (1914 م) في كتابه "تحريم آلات الطرب"(ص 105) وكتابه"سلسلة الأحاديث الصحيحة"(5/ 330).

ص: 181

أنّ هذه الطائفة خالفت الإجماع على ما زعمت في زمانهم، وذكر القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي المذهب في كتابه

(1)

قال: "إن اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع علماء المسلمين؛ لأنه ليس فيهم من جعله دينًا وطاعةً ولا أرى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة والأماكن والمشاهد الكريمة، فكان مذهب هذه الطائفة مخالف لما اجتمعت العلماء عليه". وهذا قول العلماء الشافعية وأهل التدين منهم، ولا يرخّص في ذلك إلاّ من قلّ علمه. وذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي المذهب رحمه الله قال:"وهذه الطائفة خالفت جماعة المسلمين؛ لأنهم جعلوا الغناء دينًا وطاعةً، ورأوا إعلانه في الجوامع والمساجد وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وليس في الأمّة من رأى هذا الرأي وقد كان أولى الناس بالاحتياط لدينه هذه الطائفة؛ لأنهم يتلبّسون [ق 75 /أ] بالدين ويدعون الورع والزهد حتى يوافق باطنهم ظاهرهم". وذكر الإمام أبو الليث السمرقندي تحريم الغناء والرقص قال: "والدليل على تحريم الغناء والرقص وغيرهما من اللهو الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وذكر في كتابه الوجوه الثلاثة

(2)

، وذكر أبو المحاسن الحراني الحنبلي المذهب رحمه الله في كتابه قال:"والدليل على تحريم السماع والغناء واللّعب بالقضيب من ثلاثة أوجه: الكتاب، والسنة، وأقاويل العلماء. وذكر في كتابه الوجوه الثلاثة"، ثم قال: فهذه آيات القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصّحابة والتابعين وأقوال الأئمة الأربعة أئمة الدين في الإسلام، فقد صار تحريمه إجماعًا منعقدًا، فمن خالفه خرج عن الإجماع وفارق الجماعة ومات ميتة جاهلية واتّبع غير سبيل المؤمنين فـ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ".

(1)

انظر "الرد على من يحب السماع"(ص/32).

(2)

أي من الكتاب والسنة والإجماع.

ص: 182

وذكر القاضي أبو الحسين بن الفراء الحنبلي في كتابه في ذمّ أهل الرقص والردّ على هذه الطائفة الضالّة المخالفة قال: "وقد أكذبهم الكتاب والسنّة وأقاويل الصّحابة والتابعين وصالحون هذه الأمة". ألا فاعتبروا وتدبّروا ما قال هؤلاء الأعلام من الإسلام وعلمائهم [ق 75 / ب] وعبّادهم أن أهل الرقص والسماع خالفوا الإجماع، على ما كانوا يفعلونه في زمانهم، فكيف بهم لو أدركوا أهل زماننا، وشاهدوا ما يفعلونه، وتحقّقوا ما يعتقدونه، ويقولونه. ولي بالكتاب والسنّة وبهؤلاء الأئمة أسوة حسنة وأقول كما قالوا، فمن لم يرض بما أقوله من ذلك فلا رضي الله عنه وأصلاه جهنّم وساءت مصيرًا. عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن محمد بن المنكدر رحمه الله قال: يقول الله تعالى للملائكة صلوات الله وسلامه عليهم يوم القيامة: "أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ؟ أَدْخِلُوهُمْ رِيَاضِ الْمِسْكِ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّة. قَالَ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي، وَثَنَائِي عَلَيَّ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وفي لفظ قال: "إذا كان يوم نادي منادٍ "أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ؟ ". وقد روي عن اللّهو والمزامير والغناء: أسكنوهم رياض المسك. وفي لفظ: رياض الجنّة، ثم يقول للملائكة: "أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَثَنَائِي، وَأَعْلِمُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" [ق 76 /أ] هذا حديث رواه الإمام مالك في موطئه

(1)

، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال هل في الجنة سماع، فإني أحب السماع، فقال عليه السلام: "نعم، والذي نفسي بيده إن الله عز وجل ليوحي إلى شجر

(2)

(1)

لم أقف عليه في "الموطأ"، وأخرجه ابن المبارك في "الزهد"((2/ 12)، وابن الجعد في "مسنده"(1/ 254)(1682، 1683)، وابن أبي الدنيا في "الورع"(ص/71)(80)، والدينوري في "المجالسة جواهر العلم"(4/ 155)(1330)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 151)، وغيرهم من طرق عن ابن المنكدر بنحوه، وأين هو من الإخبار بذلك. وفي بعض الروايات قال ابن المنكدر بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول، وهو منقطع.

(2)

بالأصل: "شجرة"، والتصويب من مصدر التخريج ..

ص: 183

الجنّة أن أسمع عبادي الذين شغلوا أسماعهم عن المعازف

والمزامير بذكري، فتسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها قطّ بالتسبيح والتقديس"

(1)

. وفي لفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، يوحي ربّك عز وجل إلى ورق الجنة أسمعي عبادي الذين نزّهوا أنفسهم عن البرابط والمزامير والمعازف"، قال:"فتأتي بأصوات من التسبيح والتقديس والتهليل لم يسمع الخلائق أصواتًا أحسن منها"

(2)

. هذا حديث خرجته من كتاب "الترغيب والترهيب" وقرأت في كتاب الردّ على أهل الرقص والسماع

(3)

للإمام أبي المحاسن هبة الله بن نصر الحراني رحمة الله عليه أنه قال: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"

(4)

، وقد تقدّم هذا الحديث، وبإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما رفع أحد بغناء" -وفي لفظ: لغيره - ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله عز وجل [ق 76 / ب] إليه شيطانين فيجلسان على منكبيه يضربانه بأعقابهما على صدره حتى يمسك"

(5)

. وحسب أقوام ضلالةً أن الشيطان قرينهم ويهمزهم بالفحشاء وهم يظنون أنّهم يحسنون صنعًا وينسوقون

(6)

إلى الله عز وجل.

(1)

موضوع - أخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(1/ 225)(318) من طريق المحاربي، عن نصر بن طريف، عن يحيى بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، وحكم عليه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (6503) بالوضع فقال:" نصر هذا، متفق على تضعيفه، قال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث". وقال ابن حبان (3/ 52): "كان يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، كأنه كان المتعمد لها"".

(2)

أخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(1/ 542)(997) بإسناد فيه من لم أعرفه.

(3)

واسمه: " المعيار في الرد على المتمسّكين بغير الأخبار"، وسبق الكلام عنه آنفا.

(4)

ضعيف - أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 282)(4927) مختصرا، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/45)(39)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 377) من طريق سلام بن مسكين عن شيخ عن أبي وائل عن ابن مسعود مرفوعا به، وفيه جهالة شيخ سلام، وللحديث طريق أخرى عند أبي الحسن الحلبي في "الفوائد المنتقاة"بنحوه، وقال عنها الشيخ الألباني في "الضعيفة" (2474):"ضعيف جدا".

(5)

سبق تخريجه.

(6)

كذا رسمها بالأصل والأقرب أنها: "ويتقربون".

ص: 184

فصل

وقال يزيد بن هارون: التغبير بدعة وضلالة، وما يغبر إلا فاسق، ومتى كان التغبير اسما للمحدث، فكذلك التغبير اسم قد أحدث لهذا السماع المحدث، وكان في الزمن الأوّل يقولون لأقوام يذكرون الله تعالى بدعاء وبتضرّع يغبرون. قاله أبو الليث، كما قال قائلهم: عبادك المغبرة رشّ عليهم المغفرة، وقال أبو إسحاق الزجاج: قيل للذين يقولون القصائد في الزهد المغبرون، والواحد مغبر؛ لأنّه يزهد في الشيء الفاني، وترغب في الشيء الباقي، وكان الشافعي رحمه الله يكره التغبير ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلون به [الناس] عن القرآن، فإذا كان الشافعي رضي الله عنه يقول لقوم يقولون القصائد في الزهد أنّهم زنادقة، فما عسى كان يقول في أهل الرقص واستماع الأغاني والشبابات مع الدفوف المزوقة الجلاجل بحضرة أحداث المرد والنّساء وغير ذلك [ق 77 /أ] من المشتهيات بعد ملء بطونهم من ألوان الطعام من الشبهة والحرام ومن غنائهم:

شم الحاجب المقرون والمقلة الكحلا

وقل لي فدتك النفس أيّهما أحلا

(1)

(1)

كذا بالأصل، وقد سبق هذا البيت.

ص: 185

وأقبح منه قبّحهم الله وقبح قومًا ينتمون إليهم ويحبّونهم، وقد جاء في القرآن بنعت أهله وصفتهم وغيّهم وغي أتباعه وأتباع أهله لكذبهم. قال الله تعالى:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226]، وقد جمع الله تعالى في هذه الآية أوصاف قائليه وسامعيه ومتبعيه، ونزّه المؤمنين والصالحين والذاكرين من استماعه وإتباع أهله، وبيّن الله تعالى عز وجل في آخر الآية أوصاف المتأوّلين في ظلمهم لأهل القرآن، وتعظيمهم للشعراء، وسيقفون بين يدي الله تعالى إذا انقلبوا إليه أيّ شيء قصدوا من النصر للشعراء ولمستمعيهم والمدح لأهله واللهج به فيهم، فليستعدّوا لله عز وجل جوابًا إذا قال لهم:"ما ألهاكم عن ذكري وعن محكم كتابي وما خدعكم عن معظم آياتي وتلاوتها".

ص: 186

نعوذ بالله من سوء الاقتداء والاشتغال بما يؤدي إلى مهالك العطب [ق 77 / ب] والردي، ألا فتدبروا هذا الكلام بعقولكم وحسّكم، واعلموا أنّ التصوف والمشيخة والفقر وذكر الله تعالى عز وجل غير حديث سعدي وليلى، ألا وهذه الطائفة المخالفة المشتغلة بالرقص والبطالات، وباستماع الأغاني والشبابات وبصحبة أحداث المرد وأهل الحوادث والضلالات أن من عادتهم وعادة مشايخهم الكذب على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ولا يحصيها إلا الله تعالى، كما أن اليهود كذبوا على نبيّهم هارون عليه السلام وذلك سنة لهم من سنن اليهود وهي ما زادوا من افترائهم وكذبهم في كتاب الله عز وجل التوراة، قالوا: إن نبيّ الله تعالى هارون عليه السلام قال لبني إسرائيل: اقلعوا إلى أقراط الذهب من آذان نساءكم وأبناءكم وبناتكم، فأتوني بها فأفرغها، فجعلها لهم عجلاً جسدًا له خوار، قالوا: ثم أمر هارون أن ينبني مذبحًا بين يدي العجل، ثم قال: غدًا عيد السيد، فلما جاء موسى عليه السلام وجد بني إسرائيل عراة بين يدي العجل يغنون ويرقصون، قالوا: وكان هارون قد عراهم بجهالة قلبه، ألا فهذا ما فعل السامريّ عدوّ الله أضافوه إلى نبيّ من [ق 78 /أ] من أنبياء الله تعالى، وكذلك الأراذل والسفهاء منّا أضافوا ما فعل رؤساؤهم الجهّال من أعداء الله إلى نبيّه، المصطفى صلى الله عليه وسلم ورسوله المجتبى وحبيبه المرتضي، أشياء، بافترائهم وكذبهم، ألا فاعتبرها عقول اليهود، وانظروا كيف يجوز أن يقولون على نبيّ من أنبياء الله عز وجل بأن يتّخذ عجلاً للعبادة من دون الله تعالى، ثم يرقص هو وهم تعظيمًا للعجل أنه إلههم، فما أشبه عقول قوم استحسنوا الرقص واستماع الأغاني والشبابات بعقول اليهود في تجويزهم على نبيّ من أنبياء الله عز وجل أن يتخذ إلهًا يتعبد له اليهود بالرقص والقربى من دون الله عز وجل، ألا فقوم يزعمون أنهم يستمعون إلى الغناء المطرب والشبابات ويرقصون شوقًا إلى الله تعالى ومحبته له ويرقصون بين يديه ويتواجدون له، فإلههم عجلاً جسدًا له خوار. قال بعض العلماء رضي الله عنهم: الرقص والتواجد أوّل من أحدثه أصحاب السامري لمّا اتخذوا لهم عجلاً جسدًا له خوار قاموا ورقصوا حوله وتواجدوا، فهو دين الكفّار وعبدة العجل، فمن تشبّه بهم فهو بلا شك منهم.

وأقول شعرا:

ولا يبالون غنوا أم تلوا سورًا

سيان أن رقصوا [ق 78 / ب] لله أو ركعوا

ص: 187

أولئك اعتقدوا أن الإله لهم

يحل في كلما تستحسن [الشبع وا]

(1)

كذاك متخذي العجل الأولى رقصوا

من حوله ونهوا عنه فما رجعوا

وإنما فتنوا لما رأوا جسدًا

له خوار وراق القوم ما اخترعوا

قالوا إلهكم ذا فاعبدوه وذا

إله موسى فضلوا بئس ما صنعوا

بالسامري اقتدوا في رقصهم وهم له

إذا رقصوا من بعده تبعوا

فالكهل والطفل منهم يرقصان فما

للكهل عقل ولا في الشيب ما يزعوا

در يصبوا مثل صبا الأطفاليا عجبًا

من شيخهم كيف يخزى وينقمعوا

(2)

ليس فيهم رشيد عالم ينهي

فظن الجهوا

(3)

فيستحي ويرتدعوا

هم الحلولية الكفار مثلهم

في الحج إلا إذا تابوا أو ارتجعوا

يسمون صوفية كلا لو أنهم

صوفية عصموا من زيفهم ورعوا

وصانهم ربّهم عن شرّ ما عملوا

أو يحصدوا من فعال الخير ما زرعوا

ألا ولو علموا ايش الذي اعتقدوا

وما شيوخ الهوى من قبلهم وضعوا

إذًا لتابوا إلى ذي العرش من بدع

قد أحدثوها وشرع موبق شرعوا

لكنهم جهلوا أصل الذي ذهبوا

إليه حتى عموا عما إليه دعوا

غدوا حيارى عن الحق المبين فلا

[ق 79 /أ] لداعي الحق لما أن دعا أن

(4)

سمعوا

لا يعرفون سوى رقص ومأكله من

التصوف أو نوم إذا اضطجعوا

(1)

كذا بالأصل. ولعلها: الشيعُ

(2)

البيت مكسور في شطريه!

(3)

الجهو من الحياء.

(4)

نرى أن هذه اللفظة زائدة عن الوزن والأولى حذفها.

ص: 188

فإن اعترض معترض وقال أنت تنشد الأشعار وتهجوا أقوامًا على المنابر والكراسي وتنهانا عن الغناء والاستماع إليه، وتحذر الناس منه ومن أهله. فأقول: الفرق بيني وبين غناهم بالأشعار في الأوصاف ملحنة وما يتبعها ظاهر، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد"

(1)

. رواه النسائي وأبو داود، ورخّص لحسّان رضي الله عنه، فروى سعيد بن المسيّب رضي الله عنه قال: مرّ عمر رضي الله عنه بحسان رضي الله عنه وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه فقال: قد أنشدتُ فيه بحضرة من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال: أسمعت رسول الله عليه السلام يقول: "أجبّ عني اللهم أيده بروح القدس"؟ قال أبو هريرة: اللهم نعم"

(2)

.

(1)

حسن - أخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 283)(1079)، والترمذي في "سننه"(2/ 139)(322)، وقال: حسن، والنسائي في "سننه"(2/ 47 - 48)(714، 715)، وابن ماجه في "سنه"(1/ 252)(766)، وأحمد في "مسنده"(11/ 257)(6676)، وغيرهم من طريق ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والاشتراء فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة» واللفظ للترمذي وإسناده حسن.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4/ 112)(3212)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1932)(2485) من طريق سفيان عن الزهري عن ابن المسيب به، وفي رواية مسلم عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن عمر فذكره.

ص: 189

وأورد طاهر حديثًا أن لحسّان كان ينصب له المنبر ويهجوا المشركين منافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

وراويه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وقد قال فيه الإمام أحمد مضطرب الحديث، وقال النسائي ضعيف، وكان ابن مهدي لا [ق 79 / ب] يحدث عنه، وقال يحيى مرّة: لا يستوي حديثه فلسًا

(2)

، وقد رواه البخاري ولم يسنده؛ لأنه لم يثبت عنده، وإنما قال وقال ابن أبي الزنّاد

(3)

(1)

أخرج أبو داود في "سننه"(4/ 304)(5015)، والترمذي في "سننه"(5/ 138)(2846)، وأحمد في "مسنده"(40/ 495)(24436)، والحاكم في في "المستدرك"(3/ 554)(6058، 6059)، وغيرهم من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة، وكان أحيانا يقر معه أباه أبا الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» وابن الزناد قال عنه في "التقريب": " صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، و كان فقيها" وهذه الرواية ليثست من رواية أهل بغداد عنه، فهي صحيحة، وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 299):(قال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث عبدالرحمن بن أبي الزناد، يعني تفرد به، وهو ثقة عند الجمهور، وتكلم فيه بعضهم بما لا يقدح فيه، ولبعض حديثه شواهد في الصحيحين عن البراء وغيره).

(2)

ووثقه العجلي والترمذي، وقال ابن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، و ما حدث ببغداد، أفسده البغداديون.

(3)

قال ابن حجر في "نتائج الأفكار"(1/ 299): (ذكر المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرج هذا الحديث في الصحيح تعليقا فقال: قال عبدالرحمن، فذكره، ولم أقف عليه إلى الآن في صحيح البخاري) ..

ص: 190

والحديث الصحيح المعروف لم يذكر فيه المنبر وإنما كان حسان بن ثابت يهجوا المشركين ليكفّ أذاهم عن المسلمين، وكان جهادًا باللسان لما صحّ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفضل الجهاد كلمة الحقّ عند أمير جائر"

(1)

اعلم أنه إنما صار هذا أفضل من الجهاد للكفّار؛ لأنّك تجاهد الكفار لإعلاء كلمة الله ونصرة من الله، فتقاومهم مع المماثلة في العدد والعُدد ومساعدة المجاهدين لك بالمدد وتأميل الغلبة عليهم، ولم يتيقن تسلّطهم عليك، وهذا الجهاد أيسر وأهون من جهادك الأمير الجائر في أمرك له بالمعروف أو نهيك له عن المنكر، وردّه عن جوره مع وحدتك وقلّة عدّتك، وعدم مساعدك ورؤيتك تسلّطه عليه وغلبته واستشعارك فتكه بك وسطوته، فمحنتك أبلغ وأتمّ، وجهادك أصعب وأعظم، فكان أفضل من كلّ جهاد وأبلغ وأعمّ. وقد روي في الأثر:"أعظم الجهاد كلمة حق عند من يخاف ويرجي"

(2)

. قلت: لأن خوف [ق 80 /أ] سطوته ورجاء برّه وصلته يمنعان النفس عن إظهار كلمة الحقّ له، فيعظم جهادها والله أعلم، وها أنا أفعل كما فعل حسان رضي الله عنه وأجاهد

(3)

أعداء الله المبتدعين بلسانه وأكفّهم عن إيذاء المسلمين وأهجو المبتدعين المنافقين منافحة عن رسول الله عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم أسوة حسنة وعن دين الإسلام ولي برسول الله عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم أسوة حسنة، وأقول شعرا:

يا لائمي كف عن ملامي مقصرا

فلأبكين تأسفًا وتحسرًا

(1)

حسن - أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 124)(4344)، والترمذي في "سننه"(4/ 471)(2174)، وقال:"حسن غريب"، وابن ماجه في "سننه"(2/ 1329)(4011)، وغيرهم من طريق إسرائيل عن محمد بن جحادة، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري بنحوه، وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي وعنعنته وهو مدلس، ورواه الحميدي في "مسنده"(2/ 17)(769)، وأحمد في "مسنده"(17/ 227)، وغيرهما من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري مطولا بنحوه، وابن جدعان ضعيف، وللحديث شواهد يقوى بها عن أبي أمامة، وسمرة وطارق بن شهاب.

(2)

ذكره القشيري في "الرسالة القشيرية"(1/ 235) من قول بشر بن الحارث، ولفظه:"أشد الأعمال ثلاثة: الجود فِي القلة والورع فِي الخلوة وكلمة الحق عِنْدَ من يخاف منه ويرجى".

(3)

بالأصل: "واجهاد".

ص: 191

أسفًا على الإسلام يفض كيف يشينه

بجهّال البرية

(1)

مفترا

الرقص والتصفيق قد شرعاهما

في سائر الآفاق أوباش القرى

صار الحمير مشايخًا في عصرنا

هذا فأصبح ديننا واهي العرى

من كل جلف كالحمار مدمع

قد عاش دهرًا ما استفاد ولا قرا

شيئًا من العلم المشرف أهله

لكنّه يأتي الورى متنمرا

وتقوم أوباش الخليقة خلفه

فكأنه كلب ثنا الجراء

(2)

نحو الجفان من الذين عقولهم

قد غيبت من تحت الطباق الثراء

(3)

فالجهل ينفق في البرية أهلَه

والعلم راح بكده لا يشترى

فإذا تكلم عالم بعلومه

قالوا بجهل إن هذا [ق 80 / ب] منكرا

وإذا السفيه بمحفل متكلّمًا

قالوا أصبت وليس في هذا مرا

فلأبكين مدا الزمان تحسرًا

فلقد كفى في ديننا ما قد جرا

في ديننا الغمر السفيه مقدمًا

وفقيهه العلام عنه مؤخرا.

وأقول شعرا:

أقول للائمي في سب قوم

جهالتهم تقدر منتهاها

دعاهم حظ أنفسهم فمالوا

إليها كالبهائم في هواها

وحسبك من أناس ليس يدري

شيوخ القوم منهم ما طحاها

فماذا يأخذ الأتباع عنهم

وقد أبدت شيوخهم عماها

ولا فرقان عندهم ليبدو

من ابتدع الأمور ومن هجاها

أيا عجبًا فلا عقل رزين

ولا ورع تصون به تقاها

فليت الصمت بينهم ليبقى

على مستور عورتهم غطاها

لقد لعبت بعقلهم نفوس

وأخفت عن سليمهم دهاها

تقمص غيرها في زي نصحّ

وتزعم أنها نصحت أخاها

ولو وفقت عقولهم بما قد

أراد بها مدبرها كفاها

ولا احتاجت إلى قيل وقال

يشيّد عند شيعتها بناها

وكم كادت بنا الحساد كيدًا

فأعجزها وأعياها عياها

فما قرت بما راموا عيون

ولا بلغت نفوسهم مناها

وأقول:

تفكرت أختبر المدعين

بين الموالي وبين العبيد

فألفيت أكثرهم كالسراب

يروقك منظره من بعيد

فناديتُ يا قوم من تعبدون

فكلّ أشار بقدر الوجود

فبعض أشار إلى نفسه

وأقسم ما [ق 81 /أ] فوقها من مزيد

وبعض إلى خرقة رقعت

[وبعض] إليّ ركوة من جلود

وآخر يعبد أهواءه

وما عابد للهوى بالرشيد

ومجتهد وقته ريه

إذا فات بات بليل عنيد

وذو كلف باستماع السماع

بين البسيط وبين النشيد

يئن إذا ما بدت رنة

ويزأر منها زئير الأسود

(1)

كلمة لم أتبينها وما أثبته هو الأقرب لرسمها.

(2)

هكذا بالأصل ولعل الصواب (كلب تنال به الجرا).

(3)

هكذا بالأصل ولعلها (أطباق الثرا)

ص: 192

يخرق خلقانه عامدًا

ليعتاض منها ثبوت جديد

ويرمي بهيكله في السعير

لقلع الثريد، وبلع العصيد

فيا للرجال! ألا تعجبون

لشيطان إخواننا ذا المزيد

يخبطهم بفنون الجنون

وما للمجانين غير القيود

وأقسم ما عرفوا ذا

(1)

الجلال

ولا أثبتوه بغير الجحود

ولولا الوفاء لأهل الوفاء

سلقتهم بلسان حديد

فمالي يطالبني بالوصا

ل من ليس يعلم ما في الصدود

أضن بودي ويسخوا به

وقد كنت أسخوا به للودود

ولكن إذا لم أجد صاحبا

يسرّ الصديق ويشجو الحسود

عطفت بودي منّي إليه

فغاب نحوسي وآب السعود

فمال قومي على جهلهم

بعزّ الفريد وأنس الوحيد

إذا أبصروني بكوا رحمة

ونيران أحقادهم في وقود

(2)

أقول شعرا:

لأني بعدتُ عن المدّعين

ولو صدقوا كنت غير البعيد

ولكن لشيطانهم والهوى

غدو تبعًا لا يخافوا الوعيد

أعاذنا [ق 81 / ب] الله من شيوخ

تَشَيَّخوا قبل أن يَشِيْخوا

(3)

تحادبوا وانحنوا رياء

فاحذرهم أنّهم فخوخ

وأقول:

ألا فمذهب أهل الإسلام وأئمتهم أن من ادّعى رتبة تزيد على السيد وعلى أفعال الصحابة رضوان الله عليهم لم يلتفت إليه كائنًا من كان ومن ادّعى أنّ له حالة تخرجه عن منهج الشرع فلا تكون له صاحبًا، فإنه ضرّ بلا نفع.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"

(4)

،

(1)

بالأصل (ذو) وهو خطأ.

(2)

وهذه القصيدة لأبي بكر محمد بن عمر العنبري، أديب ظريف، حسن الشعر، من أهل بغداد، كان متصوفاً، وخرج على المتصوفين فذمهم بقصائد أورد ابن الجوزي في تلبيس إبليس إحداها، وله ترجمة في الأعلام (6/ 312)، ومعجم المؤلفين (11/ 88)، وغيرهما.

(3)

بالأصل: "يمشخوا قبل أن يشخوا".

(4)

ضعيف - أخرجه ابن حبان في "المجروحين"(1/ 235) ترجمة رقم (211)، والطبراني في "الأوسط"(7/ 35)(6772)، والآجري في "الشريعة"(5/ 2542)(2039)، وغيرهم من طريق الحسن بن يحيى الخشني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا به، وقال ابن حبان:"باطل موضوع" وقال ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 271): " فيه الخشني. قال ابن عدي: هذا حديث باطل موضوع الخشنى يروى عن الثقاة مالا أصل له. وقال يحيى: ليس بشئ. قال المصنف: قلت وإنما يروي نحو هذا عن الفضيل ونظرائه من أهل الخبرة".

ورواه الآجري في "الشريعة"(5/ 2543)(2040) من طريق أبي الفضل العباس بن يوسف الشكلي قال: حدثنا أحمد بن سفيان المصري قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة به، ورواته ثقات غير شيخ المصنف وهو العباس بن يوسف فلم أقف فيه إلا على قول الخطيب:" كان صالحا متنسكا"، والنفس لا تطمئن إليه وخاصة مع حكم جماعة من العلماء على الحديث بالوضع، وانظر الضعيفة (1862)، وللحديث شواهد أخرى ضعيفة عن ابن عباس، ومعاذ، وعبد الله بن بسر، وإبراهيم بن ميسرة.

ص: 193

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا أكل طعامك إلا تقي"

(1)

. قلت: والتقيّ هو الذي يتّبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم. وروي عنه عليه السلام أنّه قال: "من بانت بدعته فاجتنبوه"

(2)

. وروى مالك بن دينار رحمه الله قال: بلغنا أنّ نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم قال: ربّ من أهلك الذين تظلّهم في ظلّ عرشك. قال: المتحابون بجلالي الطاهرة قلوبُهم، النقيّة أبدانهم الذين إذا ذكروا ذكرتُ بهم، والذين يأوون إلى ذكري كما يأوي النسور إلى أوكارها، والذين يكلّفون بذكري كما يكلّف الصبيّ بأمّه، والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلّت [ق 82 /أ] كما يغضب النمر إذا حورب"

(3)

، ألا فهذه الطائفة قد استحلّت محارم الله تعالى عقدًا وقولاً وفعلاً، وروي أن مالك بن مغول رحمه الله قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: "تحبّبوا إلى الله تعالى ببغض أهل المعاصي، وتقرّبوا إليه بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاه بسخطهم.

(1)

حسن - أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 259)(4832)، والترمذي في "سننه"(4/ 600)(2395)، وقال:"حسن"، وابن المبارك في "الزهد"(ص/124)(364)، وأحمد في "مسنده"(17/ 437)(11337)، والدارمي في "سننه"(2/ 1307)(2101) وغيرهم من طريق سالم بن غيلان، أن الوليد بن قيس التجيبي، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري، أو عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، والشاك هو سالم والإسناد الأول يحتمل التحسين، والثاني صحيح.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

إسناده ضعيف - أخرجه البيهقي في "الشعب"(12/ 78)(9075) من طريق أبي العباس الأصم، نا الخضر بن أبان، نا سيار، نا جعفر، نا مالك بن دينار، قال: بلغنا أن موسى فذكره، والخضر بن أبان ضعفه الدارقطني والحاكم، كما أن الواسطة بين مالك وموسى مجهولة، ورواه أحمد في "الزهد"(ص/64)(389)، وأبو حاتم في "الزهد"(ص/32)(4)، وابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص/20) (37) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار - ولم يذكر عطاءا: أبو حاتم - بنحوه، وهذا إسناد منقطع فأين عطاء من سيدنا موسى عليه السلام.

ص: 194

قالوا: يا روح الله من نجالس؟ قال: جالسوا من تذكّركم الله رؤيته، ومن يزيد في عملكم منطقه ومن يرغبكم في الآخرة عملُه"

(1)

. وروي أن الحسن البصري رحمه الله قال: "إن أهل الأهواء -وفي لفظ قال: إن أهل البدع- بمنزلة اليهود والنصارى"

(2)

، إلا وهذه الطائفة الخبيثة الذين هم أهل الرقص والسّماع أهل الأهواء والبدع والحوادث والضلالات أعظم جرمًا من أهل المعاصي، ألا فتحبّبوا إلى الله تعالى ببغضهم وتقرّبوا إليه بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، فإنّهم أعداء الله وأعداء الإسلام. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال:"اجتنبوا أعداء الله اليهود والنصارى في عيدهم يوم جمعهم، فإن السخط ينزل عليهم، فأخشى أن يصيبك"

(3)

. ألا فهذه الطائفة الخبيثة ليست من قوم يذنبون ثم يستغفرون، بل هم قوم [ق 82 / ب] زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، كما قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] أي قبيح عمله زيّن له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية [حذف] تقديره وتمثيله، أفمن زيّن له سوء عمله فرأى الباطل حقًّا كمن هداه الله فرأى الحقّ حقًّا والباطل باطلاً.

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(ص/121)(355)، والبيهقي في "الشعب"(12/ 48)(8999) من طريق مالك بن مغول به، ومالك من اتباع التابعين، واي هو من الرواية عن سيدنا عيسى عليه السلام.

(2)

إسناده ضعيف - أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/ 148)(233)، بلفظ:"أهل الهوى"، الهروي في "ذم الكلام" (5/ 8) (788) بلفظ "أهل البدع" من طريق سليمان بن حرب حدثنا سلام بن مسكين عن يحيى البكاء قال: قال الحسن فذكره، ويحيى البكاء قال عنه الذهبي في "الكاشف"، وابن حجر في "التقريب":"ضعيف".

(3)

إسناده ضعيف - ذكره البخاري معلقا في "تاريخه الكبير"(4/ 14)(1804) مختصرا ووصله البيهقي في "الشعب"(12/ 18)(8940) من طريق ابن أبي مريم أنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة سمع أباه سمع عمر ابن الخطاب فذكره، وسلمة أبو سعيد هو ابن أبي الحسام لم أقف على ترجمته.

ص: 195

فصل

وأما الردّ على هذه الطائفة الخبيثة المخالفة من استماعهم إلى المزامير والشبابات فمن وجوه كثيرة، فمنها ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الطبل والمزمار"

(1)

. هذا حديث أخرجه الإمام أبو بكر الخلال رحمه الله في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"

(2)

، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب زَّمَّارَة"

(3)

،

(1)

إسناده ضعيف - أخرج الآجري في "تحريم النرد والشطرنج والملاهي"(ص/200)(63) من طريق أبي القاسم إبراهيم بن الهيثم الناقد ، حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عبد الله بن ميمون ، عن مطر بن سالم ، أن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الدف ولعب الطبل وصوت الزمارة» وتابع داودا: عثمان بن أبي شيبة عند الخطيب في "تاريخ بغداد"(15/ 409)، ولكنه قال:"الصنج" بدل "الطبل"، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (4729):" وهذا إسناد ضعيف جداً؛ مطر هذا مجهول، كما في "الميزان". وعبد الله بن ميمون؛ الظاهر أنه داود القداح المخزومي المكي؛ قال الحافظ: "منكر الحديث، متروك"".

(2)

لم أقف عليه عنده.

(3)

صحيح - أخرجه الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(ص/67) من طريق عبد الله بن محمد بن أيوب المخرمي، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن جحادة، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن كسب الزمارة» ، وقال الدارقطني في "العلل" (11/ 233):(يرويه شعبة، عن محمد بن جحادة، واختلف عنه؛ فرواه عبد الله بن أيوب المخرمي، عن روح بن عبادة، عن شعبة، وقال: عن محمد بن جحادة، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة، ووهم فيه، وإنما رواه محمد بن جحادة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة) وتابع روحا: مسلم بن إبراهيم عند البخاري في "صحيحه"(3/ 93)(2283) فرواه عن شعبة، عن محمد بن جحادة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء» وهذا مفسر لمعنى الزمارة، قال البغوي في "شرح السنة" (8/ 23): (الزَّمَّارَةُ: هي الزانية، وقال أحمد بن يحيى: هي البغي الحسناء. قال الإمام: النهي عن كسب الزمارة، معناه ما صرح به في الحديث الآخر، وهو مهر البغي .. قال الأزهري: ويحتمل أن يكون نهى عن كسب المرأة المغنية، يقال: غناء زمير، أي: حسن

).

ص: 196

وأخبرنا الشيخ الزاهد أبو الحسن علي بن المقير البغدادي

(1)

بقراءتي عليه بمكة تجاه الكعبة شرفها الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة

(2)

بإسناد متّصل إلى نافع مولى بن عمر رضي الله عنه أن ابن عمر سمع زمارة راعٍ، فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع: أتسمع فأقول نعم.

(1)

الشيخ، المسند، الصالح، رحلة الوقت، أبو الحسن علي ابن أبي عبيد الله الحسين بن علي بن منصور، ابن المقير البغدادي، الأزجي، المقرئ، الحنبلي، النجار، نزيل مصر. ولد: ليلة الفطر، سنة خمس وأربعين وخمس مائة. حدث ببغداد، ثم قدم دمشق في سنة اثنتين وثلاثين، فحدث، وأقام بها نحوا من سنتين، ثم حج، وحدث بخيبر، وبالحرم، وجاور، ثم سار إلى مصر، وروى بها الكثير. كان شيخا صالحا، كثير التهجد والعبادة والتلاوة، صابرا على أهل الحديث. مات في نصف ذي القعدة، سنة ثلاث وأربعين وست مائة. له ترجمة في: تاريخ الإسلام (14/ 458)(220)، السير (23/ 119)(92)، الأعلام (4/ 279)، وغيرها.

(2)

كذا بالأصل، وهو خطأ ظاهر؛ لأن المؤلف ولد في هذه السنة، ولعله قرأ عليه قرب وفاته سنة إحدى، أو اثنتين وأربعين فكان ابن سبع، أو ثمان سنين في هذا الوقت.

ص: 197

قال: فمضى [ق 83 /أ] حتى قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه وأعاد الراحلة إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راعٍ، فصنع مثل هذا"

(1)

هذه رواية الإمام أحمد. وفي رواية أبي داود قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنه في طريق، فسمع مزمار فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق إلى الجانب الآخر، ثم قال لي بعد أن نأى: يا نافع! هل تسمع شيئًا؟ قلت: لا، فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله عليه السلام، فسمع صوت راعٍ، صنع مثل ما صنعت. قال نافع: وكنت إذ ذاك صغيرًا

(2)

. وفي رواية أخرى له: قال: كنت رديف ابن عمر رضي الله عنه إذا مرّ براع، فذكر نحوه وفي لفظ آخر له في حديثه: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا، ولم يذكر قول نافع كنت صغيرًا. هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده ورجال إسناده كلّهم أئمة ثقات، مخرج عنهم في الصحيحين البخاري ومسلم جميعًا، ألا أيّها الناس إذا كان هذا فعلهما مع جلالة قدرها ورفيع منزلتهما في صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء هذا الزمان وزمرهم

(3)

(1)

حسن لغيره - أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 281)(4924)، وأحمد في "مسنده"(8/ 132)(4535)، وغيرهما من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن نافع، مولى ابن عمر، أن ابن عمر فذكره، وقال أبو داود:"حديث منكر"، والوليد يدلس ويسوي، ولابد ولأن يصرح بالتحديث حتى نهاية السند، ولكنه لم ينفرد به بل تابعه عمر بن سعيد التنوخي عند ابن أبي الدنيا في "الورع"(ص/68)(79)، ومخلد بن يزيد عند أحمد (9/ 24)(4965)، وأبو مسهر عبد لأعلى بن مسهر عندأبي نعيم في "الحلية"(6/ 129) والبيهقي في "السنن الصغير"(4/ 177)(2358)، ومداره على: سليمان بن موسى قال عنه البخاري: "عنده مناكير"، ولم ينفرد به سليمان بل تابعه: المطعم بن مقدام عند أبي داود في "سننه"(4/ 282)(4925)، والطبراني في "الصغير"(1/ 29)(11)، وميمون بن مهران: عند أبي داود في "سننه"(4/ 282)(4926)، والطحاوي في "المشكل"(13/ 247)(5237)، والطبراني في "الأوسط"(2/ 40)(1173)، والحديث حسنه الشيخ الأرناؤوط بهذه المتابعات.

(2)

ذكره التبريزي في مشكاة المصابيح بهذه الزيادة، وعزاه لأحمد وأبي داود ولم أقف عليها عندهما.

(3)

بالأصل: " وزمورهم" ..

ص: 198

مع الدفوف المزوقة [ق 83 / ب] بالجلاجل، وما ذكرنا في هذا الحديث نصّ صريح، وحجّة قاطعة في تحريم سماع الزمور والشبابات وما يجري مجراهما، وردّ على من يترخص في سماعها، فصح وثبت؛ لأن الإمام العلامة أبا محمد عبد الله بن قدامة المقدسي المعروف بالشيخ الموفق

(1)

رضي الله عنه قال: "وهذا مبالغة من النبيّ صلى الله عليه وسلم لسدّه أذنيه وعدوله عن الطريق ولم يكتف بأحدهما عن الآخر، ولأنها من المزامير وما بلغنا [عن] أحد عن العلماء الرّخصة في المزامير فهي كالطنبور، بل هي أغلظ، فإنه ورد فيها ما لم يرد في غيرها"

(2)

، ألا وعلى كلّ حال فهي منهي عنها وليس هي من شأن أهل الدّين، فمن جعلها قربة وطريقة إلى الله عز وجل، فالمنصوص عند أهل العلم أنه يكفر

(3)

،

(1)

سبقت ترجمته.

(2)

فتيا في ذم الشبابة والرقص والسماع لابن قدامة مخطوط (ورقة 2 /وجه أ).

(3)

وقد سبق عدة مرات توجيه هذا الإطلاق ..

ص: 199

وذلك أن المعاصي لا يتقرب بها إلى الله سبحانه وهو خلاف لجميع علماء الأمصار، وقد ذهب بعض من يتأول في سماع ذلك من المحدثين ما ليس في مذهب المحدثين إلى تأويل يترخص أخطأ فيه ولم يوفق للصواب وإتباع السنّة والكتاب، فقال: لو لم يجز سماعها لما كان نافع يستمع ويخبر ابن عمر، وكذلك ابن عمر أخبر النبيّ عليه السلام فعل ذلك، ولم ينه ابن عمر مولاه عن سماعها

(1)

(1)

قال العظيم آبادي في عون المعبود نقلا عن السيوطي في مرقاة الصعود: (واعترض بن طاهر على الحديث بتقريره صلى الله عليه وسلم على الراعي وبأن بن عمر لم ينه نافعا وهذا لا يدل على إباحة لأن المحظور هو قصد الاستماع لا مجرد إدراك الصوت لأنه لا يدخل تحت تكليف فهو كشم محرم طيبا فإنما يحرم عليه قصده لا ما جاءت به ريح لشمه وكنظر فجأة بخلاف تتابع نظره فمحرم وتقرير الراعي لا يدل على إباحة لأنها قضية عين فلعله سمعه بلا رؤيته أو بعيدا منه على رأس جبل أو مكان لا يمكن الوصول إليه أو لعل الراعي لم يكن مكلفا فلم يتعين الإنكار عليه) وذكر أيضا توجيه نقله عن الشوكاني بأن الراعي قد يكون لم يبلغ الحلم، وقال:(قال الخطابي في المعالم المزمار الذي سمعه بن عمر هو صفارة الرعاء وقد جاء ذلك مذكورا في هذا الحديث من غير هذه الرواية وهذا وإن كان مكروها فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكر مبلغ الردع والتنكيل) ..

ص: 200

وهي محرّمة في حقّ النبي عليه السلام [ق 84 /أ] خاصّة ومباح لغيره سماعها، وليس ذلك كما زعم بجهله وتأوّل بقلة عقله؛ لأنه غفل عن الحقّ، ونزل عن درجة الصدق، وتعدى عن الأخذ بالجزم وأخطأ بهذا التأويل البعيد الذي لم يقله أحد من أهل التقليد والتوحيد، وإنّما قال ذلك من حادّ الله ورسوله ولم يخش يوم الوعيد، وإنّما جاز لنافع ولمولاه ابن عمر ولمن فعل مثل فعلهما سماع شبابة لأجل الضرورة؛ لأن عمر رضي الله عنه عدل عن طريقه التي قصد إليها وسدّ مسامعه عن سماعها، فاحتاج أن يعلم بانقطاع الصوت المحرّم عليه سماعه؛ ليرجع إلى طريقه [و] يكشف عن سمعه؛ لأنه قد كان ترك طريقه التي هو ذاهب فيها وسدّ مسامعه، ولم يمكنه أن يعلم ذلك، فرخّص لمولاه نافعًا أن يسمع ويخبره، وهذه الحال حال ضرورة، وعند الضرورة يباح المحظور المحرّم، والدليل على ذلك أن النّظر إلى العورة من الإنسان محرّم، ثم عند الضرورة يباح للطبيب والخاتن أن ينظر إلى العورة، وكذلك أنّ شك في إنبات الغلام والجارية وبلوغها جاز أن ينظر إلى عورتهما، ومثل ذلك كثير يباح عند الضرورات استعماله مثل مداواة الرجل للمرأة الأجنبيّة إذا كان لها مرض يخاف [ق 84 / ب] عليها التلف منه، فله أن ينظر إلى جسدها وشعرها ومثل أن يشق خراجة تكون بها ويحسّ جسدها لقطع العرق، ومثل إذا غصّ الرجل عند الأكل باللقمة ولم يكن عنده ما يسيغها به وجد شرابًا محرّمًا شُربه له أن يشرب ما يسيغ به لقمته ولا شيء عليه؛ لأنه يرفع به عن نفسه التلف، وكذلك هاهنا إذا ابتلي إنسان بمثل ذلك في طريق سواها جاز له أن يفعل كما فعل نافع، وكما فعل مولاه ابن عمر رضي الله عنه، وأمّا أن يقعد إلى سماع ذلك وهو مندوب إلى تركه، فلا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بعثت بمحو المزامير وكسرها"

(1)

،

(1)

ضعيف جدا - أخرجه وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات"(ص/129)(84)، والآجري في "تحريم النرد"(ص/194)(59)، وغيرهما من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية ، حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا موسى بن عمير عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بكسر المزامير والمعازف ، وأقسم ربي عز وجل ، لا يشرب عبد في الدنيا خمرا إلا سقاه الله يوم القيامة حميما معذبا أو مغفورا له» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كسب المغنية والمغني حرام وكسب الزانية سحت وحق على الله عز وجل ألا يدخل الجنة لحم نبت من سحت "وإسناده ضعيف جدا فيه موسى بن عمير قال عنه في "التقريب": "متروك وقد كذبه أبو حاتم"، ورواه ابن عدي في "الكامل" (7/ 317) من طريق عبد الله بن محمد ناجية، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا محمد بن الفرات، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعثني ربي عز وجل بمحق المزامير والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية

الحديث"، وفيه محمد بن الفرات قال عنه الذهبي في "الكاشف": "كذبه أحمد"، وقال عنه ابن حجر: "كذبوه" وشيخه هو السبيعي يدلس وقد عنعنه، وشيخه هو الأعور قال عنه في "التقريب": " فى حديثه ضعف، كذبه الشعبى فى رأيه، و رمى بالرفض".

ص: 201

وأمّا قول المتأوّل إنما التحريم في حق النبي عليه السلام خاصّته، فأخطأ في قول ذلك أيضًا وحادّ عن الحقّ؛ لأن النبي عليه السلام لم يخّص بتحريم شيء دون أمّته، فإذا حرمه الله تعالى أشياء ونهاه عنه فهو عام في حقّه، وفي حقّ أمته وإنّما خصّه الله تعالى بأشياء في العبادات مثل قيام الليل، والسواك، والوتر، والوصال في الصوم، وغير ذلك ممّا نقل عنه، فأمّا التحريم في استماع الزمر والشبابة فلا يجوز أن يقال خاصًّا في حقّ النبيّ عليه السلام، بل هو عامّ له ولأمته في تحريمه، فأمّا رجل [ق 85 /أ] يدّعي الصلاح والزهد مجاهدًا لنفسه قد حبسها في رباط منعزل عن المخالطة والاجتماع بالناس يزعم بجهله أن سماع الشبابة وما يجري مجراها من صوت العزف الذي يعمله سفهاء الأكراد والأعاجم والفلاحين صلاحًا لقلبه ولنفسه ويتبع قول من أخطأ في تأويله بإباحته، ويعتمد عليه بل هو فساد لقلبه وشغل لنفسه عمّا أمر به من الذكر وترك اللغو وهو يعلم قطعًا يقينًا أنّه إذا ميّزت غدًا أعمال الحقّ والباطل كان الغناء والرقص والشبابة مع الباطل لا مع الحقّ، فأين يذهب عن الحق والصواب إلى ما يؤدي إلى المحق والتباب

(1)

؟ فما هذا من أعمال الصالحين والزهاد، ولا فعل من يخاف يوم المعاد، فأين هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شكا إليه رجل قساوة يجدها في قلبه، فقال له:"عليك سماع القرآن وتلاوته وكثرة الذكر ودراسته"

(2)

، فهل يحسن بالإنسان العاقل أن يعدل عن الذكر وسماع القرآن إلى سماع مزمار الشيطان ويتخذ ذلك قربة إلى الرحمن، بل يجب عليه أن يغلب نفسه على هواها ويصرفها عن ذلك ويقبل على ذكر الموت [ق 85 / ب] ليكسرها به، ففي ذكر الموت والبعث والعرض والنشور والحساب ما يليّن

(1)

أي الخسران والهلاك.

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما ورد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه قال أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) والحديث قواه الشيخ الألباني بطرقه وشواهده وانظر "الصحيحة"(854).

ص: 202

القلوب الصلاب، ويشغل النفوس عن الخوض في الترهات وتضييع الأوقات، فإن قيل: لم لم يأمر

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم بكسرها ومنع الراعي عن نشرها، قيل: إنّما كان هذا في بدء الإسلام، وكان ذلك الراعي في جبل بعيد عن طريق النبي عليه السلام، وهذا كان قبل الفتح وظهور الإسلام، فلما ظهر الإسلام وانتشر وأسلم القوم [و] حرمها الله لم يعودوا [لـ]ـذلك، والدليل عليه ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم جميع أصحابه بمحو المزمار والطنبور والكوبة، وهي الطبل ومحو الصور في البيوت، ونهى عن جميع الفواحش والملاهي وكلّ ما شغل عن طاعة الله عز وجل لمّا ظهر الإيمان ودخل الإسلام على جميع الأعراب، فإن قيل: فإن ابن عمر رضي الله عنه قد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم بضعًا وستين سنة، فلما [ما] كسر زمارة إذا سمعها؟ قيل له: كان سماعه ذلك في زمن الفتنة ومجيء أهل الشام إلى مكّة لقتل ابن الزبير رضي الله عنه مع الحجاج بن يوسف الثقفيّ [ق 86 /أ] الفاسق، وهو كان أميرهم، وكان ابن عمر قد خرج عازمًا على الحج والعمرة وقال: إن صددت عن البيت فعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما قد اعتزل الفتنة وما يجري من الحروب بعد قتل عثمان رضي الله عنه، فلو أنه كسر مزمار الفاسق من أهل الشام كان ذلك يؤدي إلى القتال، ففعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند الضرورة، وليس لمن استنّ بفعل الفسّاق دليل يقول عليه ولا تأويل يرجع إليه فقد روي أن أبا عثمان النهدي رحمة الله عليه وكان من كبار التابعين قال: "ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صَنْجا

(2)

أحسن من صوت أبي موسى رضي الله عنه إن كان ليصلّي بنا فنودّ أنه قرأ البقرة من حسن صوته"

(3)

(1)

الأصل: " لم لا أمر".

(2)

الصَنْجُ الذي تعرفه العرب، وهو الذي يتَّخذ من صُفْرٍ يُضرَب أحدهما بالآخر. وأمَّا الصَنْجُ ذو الأوتار فيختصُّ به العجم. وانظر الصحاح مادة (ص ن ج).

(3)

رواه أبو بكر الشافعي في " الغيلانيات"(ص/190)(163) ..

ص: 203

وكان أبو عثمان النهدي قد أدرك الجاهلية وبلغ من العمر مائة وثلاثين سنة، فلأجل ذا قال: ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا -يعني في الجاهلية- قبل أن يسلم، فأما في الإسلام فمعاذ الله أن يسمعوا ما حرّم الله تعالى عليهم، وقد نزههم الله عن ذلك وأثنى عليهم في القرآن، ولقد كان عبد الله بن مسعود وأصحابه علقمة والأسود وزر وأبو وائل وشريح رضوان الله عليهم بالكوفة يأخذون الدفوف والمزامير والطبول الصغار من أيدي الغلمان والجواري [ق 86 / ب] الصغار فيكسرونها ويشقّون زقوقها

(1)

ولا يمكنون من إظهارها في الأسواق والدروب

(2)

والبيوت إتباعًا منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بمحو المزامير والطنابير والكوبة"

(3)

(1)

يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 496) عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري في الأزقة معهن الدف فيشقونها)، ورواته ثقات، ويحتمل الرفع لابن مسعود رضي الله عنه أو أنه كان بأمره.

(2)

وفي الحاشية: "الدرب باب واسع. . . . . . . . . . . . . . . جمعه دروب". مكان النقط عبارة لم استطع قراءتها كاملة، ولم أتبين معناها.

(3)

ضعيف - أخرج تمام في "فوائده"(ص/49)(100)، والديلمي في "مسند الفردوس"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص/208) من طريق عاصم بن علي ثنا عبد الرحمن بن ثابت عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن - وتحرفت:"عن" عند الديلمي لـ: "ابن" فقال كما في نسختي من الغرائب الملتقطة: "جبير بن مالك" - مالك بن يخامر الثقة - وأبهم في طريق تمام - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بهدم المزمار والطبل"، وعبدالرحمن بن ثابت قال عنه المزي في تهذيب الكمال:" قال صالح بن محمد البغدادى: شامى صدوق، أنكروا عليه أحاديث يرويها عن أبيه، عن مكحول مسندة".

ولبعضه شاهد لا يصلح لتقويته وهو ما رواه ابن عدي في "الكامل"(1/ 683) من طريق إبراهيم بن اليسع التيمي المكي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرني ربي عز وجل بنفي الطنبور والمزمار" وإبراهيم قال عنه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف.

ص: 204

وهي الطبل، وروي أبو داود في سننه أن زبيد اليامي رأى غلامًا معه زمارة قصب فأخذها وشقّها وقال: لا ينبغي هذا

(1)

. وفي لفظ آخر لابن أبي الدنيا عن أشعث بن عبد الرحمن رحمه الله قال: "كنت أمشي مع زبيد وهو آخذ بيدي فرأى امرأة ومعها دفّ فأخذه وكسره"

(2)

أعاننا الله وإيّاكم على إتباع أوامر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوّانا على اجتناب نواهيهما بمنّته ورحمته أنه قريب يسمع الدعاء واسع العطاء وينصر من نصر سنّته نبيّه صلى الله عليه وسلم ويخذل من أعان على هدم ملّته ودرس شريعته. وأقول:

شرف المأخذ في السماع تفاوتت

فيه المراتب للبيب

(3)

العاقل

سندا لكلهم قد انتهى فيه

إلى أعلى أسانيد سماع الكامل

خلع الوسائط كلّها في خلعه

نعليه مسلك كلّ حر فاضل

من أجل ذاك تقدس الواد الذي

تدربه عن سند بعيد نازل

أين العزائم من رجال قد سوى

أوطانهم [ق 87 /أ] عن زامر أو طابل

تقدس سمع المصطفى أما غدًا

يومًا يسد صماخه بأنامل

حتى يصح تناسب سرى من

حكم المقام إلى محلّ القائل

إلقائه سمع في شهود بصيرة

وخمود أوصاف وهدى مفاصل

اذهب فما هذا مقامك يا فتى

إذ أنت في شغل برقصك شاغل

ترعى موازين الجدال مخافة

من أن تكون عن الوازن بزائل

فعن العناصر أخذ مشكل خطّه

وهي التي وضعت بسفل سافل

أو لأرحام فيك منهم نسبة

إذ فيهم زفن الطروب الهازل

هي دعوة نوحية شملتهم

يوم السفينة إذ رست بالساحل

(1)

حسن - أخرج ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف"(ص/117)(86)، ، والخلال في "الأمر بالمعروف"(ص/66) من طريق أحمد بن منيع، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد عن جده مختصرا به، وإسناده حسن رواته ثقات غير أشعث قال عنه في "التقريب":"صدوق يخطئ"، ولم أقف عليه عند أبي داود، وإنما ساقه الخلال من طريقه، وليس فيه الزيادة الأخيرة.

(2)

حسن - أخرجه ابن أبي الدنيا في الموضع السابق برقم (85) من نفس الطريق السابق.

(3)

كلمتان لم أستطع قراءتهما، وما أثبته هو الأقرب لرسمهما.

ص: 205

قيل: وذلك أنّ نوحًا صلى الله عليه وسلم لما خرج من السفينة وهو تعب استظل في ظل جبل ونام فانتشر عليه، فنظر إليه حام وقام وصفق ويافث لم ينكر فوافى سام، فضرب أخاه وغطى أباه فانتبه نوح عليه السلام، فقال: أمّا أنت يا حام فشوّه الله خلقك وخلق أولادك وجعل أولادك خولاً لأولاد سام وجعل له الرياسة والملك عليكم وزادك الله طربًا ولذرّيتك إلى يوم القيامة ونقص عقولهم، وأنت يا يافث فكثر ولدك ومحق خيرك وسلبك عقلك وحرّمك الدولة إلى يوم القيامة، وأما أنت يا سام [ق 87 / ب] جعل الله فيك البركة والنبوّة والخير والحكمة والرياسة إلى يوم القيامة

(1)

، وأقول شعرا:

هاربا من محافل اللغو

واللهو كيبا بيتي

(2)

ضرارًا

خائفًا منهما يتاقي هواه

فتنة فيهما رمته شرارًا

(3)

سفقة

(4)

يرى مشتراها

صفقة لا تفيد إلا خسارًا

فهم الأمر فاستقام ولم

يقف ولم يتبع سبيل الخيارا

اعرف النفس فاتخذها عدوًّا

ثم نادي منهما الحذر الحذارا

ذاك وصف الرجال قدما

وأما وصفنا الآن فهو وصف العذارا

وانتقام من عادل لم يزده منك

نقض العهود إلا تبارا

نقضوا عهدك المصون فلا

يرجون لله والرسول وقارا

جازهم وصفهم فديناك حتى لا

يرى الحاضرون إلا جارا

صابر قابض على الخمر لما

أن أبحنا الطبول والمزمارا

اقتداء بعادل كان هذا الوصف

فيه للصابرين شعارا

تابعًا للرسول ما سنّ طوعًا

وكتاب المهيمن الجبارا

ما رآه الشيطان ألا تولى

نافرًا صارخًا يضاهي الجمادا

مثل ما فرّ من أبي حفص

قدما لم يكن تابعًا له الآثار

فاتخذ نحو ما أعدّوه ما

استطعت اقتداء كي ترهب الكفارا

(1)

لم أقف عليه وعلامات الوضع والنكارة ظاهرة عليه.

(2)

يوجد سقط في العجز، و «كيبا» ، هي من سوء الحال، والله أعلم.

(3)

وفي الحاشية: "أو شر".

(4)

أي بيعة.

ص: 206

فإن قال قوم فنحن نرى من أهل الرقص واستماع الأغاني والشبابات ما يشبه الكرامات [ق 88 /أ] المغيّبات والمكاشفات، وما يشبه الإلهام والفراسة ويظهر ذلك منهم وممّن يأخذ صدقات الناس وأوساخهم مع القدرة على استغنائهم ومن غيرهم من أهل الحوادث والبدع، فكيف ذلك فبيّنه لنا ممّا علّمك الله تعالى من علم كتابه ومن سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من أثر من آثار الصحابة رضوان الله عليهم، فأسرع إليهم بالجواب وأقوالهم. اعلموا وفّقنا الله تعالى وإيّاكم للصواب أنّ من العبّاد أو من غيرهم من يرى ضوءًا أو نورًا في السماء، فإن كان في شهر رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره قال: قد فتحت لي أبواب السّماء، وقد يتّفق الشيء يطلبه فيظنّ أن ذلك كرامة وربّما كان كرامة، وربّما كان اختبارا وربّما كان من تلبيس إبليس ومن خدعه ومن تزيينه ومن شرّ اقتراب الساعة ومن الفتن كما قال الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] معناه: ليبتليهم بذلك؛ ليعلم من يسلم لأمره، وقال عز وجل:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7، والملك: 2] وقولنا إذًا وربّما كان كرامة إنما يكون ذلك للعباد؛ إذ كان عالمًا وعاملاً بما في كتاب [ق 88 / ب] الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم متّبعًا ما كان رسول الله وصحابته عليه، ومع ذلك لا يكون له خدن ولا صاحب ممّن استحسن شيئًا أحدث بعد الصحابة ولا ممّن استحسن مكروهًا، فمن كان هذا حاله وسيرته يحتمل أن يكون له كرامات وإلا كان من تلبيس إبليس ومن خدعه وتزيينه ومن شرّ اقتراب الساعة، ومن الفتن والشبهات. كما روي أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع منكم بخروج الدجال فلينأى عنه ما استطاع، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن ، فما يزال به حتى يتّبعه لما يرى من الشبهات»

(1)

،

(1)

صحيح – أخرجه أبو داود في "سننه"(4/ 116)(4319)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(7/ 488)(37459)، وأحمد في "مسنده"(33/ 107)(19875)، والروياني في "مسنده"(1/ 131) 0133)، وغيرهم من طريق حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن عمران به، ورواته ثقات ..

ص: 207

ألا فما ترون أنتم من شيوخ الجهّال ومن الفقراء المنتمين إليهم من الشبهات، فمن سمع منكم بشخص منهم فليأنى عنه ما استطاع، فإنه من الدجاجلة، وروى ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله عليه السلام قال:«إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ فمن وجد ذلك شيئًا فليعلم أنه من الله تعالى وليحمد الله تعالى [ق 89 / أ] ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]»

(1)

.

(1)

صحيح موقوفا – أخرجه الترمذي في "سننه"(5/ 219)(2988)، وقال: حسن غريب، وابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص/61)(41)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 37)(10985)، وأبو يعلى في "مسنده"(8/ 417)(4999)، وابن حبان في "صحيحه"(3/ 278)(997)، وغيرهم من طريق هناد عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود مرفوعا به، وعطاء كان قد اختلط ورواية أبي الأحوص عنه بعد الاختلاط. وخالف أبا الأحوص: حماد بن زيد عند الطبراني في "الكبير"(9/ 101)(8532) فرواه موقوفا على ابن مسعود، وقد خالف عطاءا: حماد بن سلمة وابن علية وجرير بن عبدالحميد وعمرو بن قيس فرووه عن عطاء عن ابن مسعود موقوفا، وروي من طريق آخر عن معمر عن الزهري عن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود موقوفا، عند أبي داود في "الزهد"(ص/164)(164)، ومن طريق عامر بن عبدة عن ابن مسعود موقوفا، عند ابن المبارك في "الزهد"(ص/503)(1435)، والموقوف هو الصواب وهو الذي رجحه أبو حاتم في العلل، وله حكم الرفع.

ص: 208

ألا فمهما رأى الإنسان أو علم شيئًا من الشبهات التي تشبه الكرامات والإلهام أو ما يشبههما من شرّ اقتراب الساعة وفتنتها، وغير ذلك منامًا أو يقظته فواجب عليه، ألا تعتمد على شيء من ذلك حتى يعرضه على ما في كتاب الله تعالى وعلى ما في أحاديث رسول الله عليه السلام أو على أثر من آثار الخلفاء الراشدين الذين قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، فإن وجد فليعلم أنّها لمة الملكة وإن لم يجد فليعلم أنّها من الشيطان الرجيم وممّا فيه سخط الرحمن الرحيم، وروى مالك بن دينار وحبيب العجمي رضي الله عنهما قالا:"إن الشيطان ليلعب بالقرّاء –يعني بالزهّاد- كما يلعب الصبيان بالجوز"

(1)

. ألا والذي أعرفكم أن الله تعالى أخبرنا أن من سنّته في رسله وسيرته في أنبيائه صلواته وسلامه عليهم أجمعين إذا قالوا عن الله تعالى قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل في سائر المعاصي يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أيّ تلاوته، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [ق 89 /ب] وكان سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنه

(1)

ذكرهما أبو نعيم في "الحلية"(2/ 375)، (6/ 152).

ص: 209

أنّ رسول الله عليه السلام وقرأ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] تلك الغرانيق العلى وشفاعتهنّ ترتجي، ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا فجاء جبريل عليه السلام فقال: اقرأ عليّ ما جئتك به، فقرأ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] تلك الغرانيق العلى وشفاعتهنّ ترتجي، فقال: ما جئتك بهذا من الشيطان أو قال: هذا من الشيطان لم آتك به، فأنزل الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] الآية

(1)

.

(1)

وقصة الغرانيق باطلة وقد صنف في بيان بطلانها الشيخ الألباني "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" وقال عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ص/31): (أورده السيوطي في "الدرر المنثور: 4/ 267" وقال: "أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومن طريق أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس" قلت: فهذه طرق ثلاث عن ابن عباس وكلها ضعيفه.

أما الطريق الأولى: ففيها الكلبي وهو كذّاب كما تقدم بيانه قريبًا.

وأما الطريق الثانية: ففيها من لم يسمّ.

وأما الطريق الثالثة: ففيها أبو بكر الهذلي. قال الحافظ في "التقريب": "أخباري متروك الحديث" لكن قد قرن فيها أيوب، والظاهر أنه السختياني، فلا بد أن يكون في الطريق إليه من لا يُحتَج به لأن الحافظ قال في "الفتح: 8/ 355" بعد أن ساقه من الطرق الثلاث: "وكلها ضعيف أو منقطع".

وقد ذكر ما يفيد أن ابن مردويه أخرجها من طريق عباد بن صهيب، وهو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته من "الميزان".

وله طريق رابع، أخرجه ابن جرير "17/ 120"، حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي. ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس

فذكره، وهذا إسناد ضعيف جدًا، مُسَلسَل بالضعفاء: محمد بن سعد، هو ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العوفي ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد: 5/ 322 - 323" وقال: "كان ليّنًا في الحديث". ووالده سعد بن محمد ترجمه الخطيب أيضًا "9/ 126 - 127" وروي عن أحمد أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذلك". وعمه هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، وهو متفق على ضَعفه ترجمه الخطيب "8/ 29 - 32" وغيره. وأبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضًا اتفاقًا، وقد أورده ابن حبان في "الضعفاء" وقال: "مُنكَر الحديث، فلا أدري البَلِيّة منه أو من ابنه، أو منها معًا؟ " ترجمته في "تهذيب التهذيب" وكذا والده عطية، وهو مشهور بالضَّعف)

ثم أخذ يسوق ما يدل على بطلان القصة متنا، فلينظر.

ص: 210

هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، وقرأت في كتاب أحكام القرآن ومعانيه لابن العربي

(1)

المغربي رحمه الله وذكر قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي: تلاوته. قال: فهذا نصّ في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي عليه السلام، وذلك أنّ النبي عليه السلام كان إذا تلا قرأ قرآنًا مقطّعًا وسكت في مقاطع الآي سكوتًا محصلاً، وكذلك كان حديثه صلى الله عليه وسلم مترسّلاً فيه متأنيًا، فتتبع الشيطان تلك السكتات بين [ق 90 / أ] قوله {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20]، وبين قوله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] يحاكي صوت النبي عليه السلام، فقال:"إنّهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترجي" –يعني الأصنام-، ففرح المشركون والذين في قلوبهم مرض بقلة البصيرة وفساد السريرة، فتلوها عن النبي عليه السلام ونسبوها بجهلهم إليه حتى سجدوا معه اعتقادًا أنه معهم وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أنّ القرآن حقّ من عند الله فآمنوا به، ورفضوا غيره وتجيب قلوبهم إلى الحقّ وتنقر عن الباطل، وكلّ ذلك ابتلاء من الله ومحنة

(2)

.

(1)

أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي المعروف بابن العربي كان فقيهًا متبحرًا بلغ رتبة الاجتهاد ولد 468 هـ في إشبيلية وتوفي 543 هـ، ومن أهم مصنفاته أحكام القرآن، عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي، العواصم من القواصم، الإنصاف في مسائل الخلاف، القبس في شرح الموطأ، المحصول، وغيرها، وترجمته في: الديباج المذهب (2/ 252) وفيات الأعيان (4/ 296)، والأعلام للزركلي (7/ 106)، معجم المؤلفين لكحالة (10/ 243).

(2)

أحكام القرآن لابن العربي (3/ 306).

ص: 211

ألا فقد أوعزنا إليكم بوصيّة أن تجعلوا القرآن والأحاديث النبوية أمامكم وجرّدوها قدّامكم ولا تحملوا عليهما ما ليس فيهما ولا تربطوا بهما ما ليس منهما ولا تقلّدوا غيرهما اللّهم إلا أن يكون من آثار الصحابة موافقًا لهما، ألا فاعتبروا يا أولي القلوب والأبصار ومن بقلبه أدنى حبوة، هذا رسول الله عليه السلام وهو في الصلاة ويقرأ كلام الله المنزل عليه غير مخلوق، فزاد الشيطان في الذي نزل عليه بين سكتاته وهو في صلواته أنهنّ الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترجي –يعني الأصنام- وكانوا يقولون أنّها [ق 90 /ب] أجسام طاهرة ليس لها ذنوب، فهي أولى بالعبادة من غيرها من الملوك والملائكة؛ لأنه لهم ذنوبًا وهم ذوو أرواح فشبّهوا الأصنام بالغرانيق والغرانيق هي الذكور من طيور الماء؛ لكونها تعلو وترتفع في السماء، ألا فهذا ما جرى لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وهو أعبد البشر وخير الأنبياء والمرسلين وأفضلهم وأكرمهم وخير الخلائق أجمعين وأحبّهم إلى الله عز وجل وإلى أوليائه، ألا واذكروا ما جرى إلى أبوينا آدم وحواء وما جرى لداود ولإخوة يوسف الصديق صلوات الله عليهم أجمعين، وما جرى للملكين هاروت وماروت وغيرهم من الأولياء والصالحين من تزيين الأبالسة والشياطين ومن سحرهم وتدقيق مكرهم وجعلهم فإذ ذلك كذلك، فكيف يأمن على نفسه من دونهم ومع ذلك فما ظنّكم يا أخوتي برفيع ظهر عليه أشياء من الشبهات واشتهر بما يشبه الإلهام والكرامات والمكاشفات من سفهاء الأعاجم والأعراب، ومن جهّال الفلاحين والأكراد، الله المستعان، ما أكثر ما قد ظهر في البرّ والبحر من الفساد وما قد كثر فينا من القاضين إلى الارتداد، وهم الذين روى فيهم [ق 91 / أ] الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يكون بين يدي الساعة دجّالون كذّابون"، قالوا: جلهم لنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يأتونكم بسنّة غير سنّتكم، ويبدّلون سنّتكم ودينكم، فاجتنبوهم وعادوهم"

(1)

،

(1)

إسناده ضعيف والحديث حسن - أخرجه الطبراني في "الكبير"(13/ 15)(13904) من طريق علي بن عبد العزيز، ثنا عاصم بن علي، ثنا قيس ابن الربيع، عن إياد بن لقيط، عن عبد الرحمن بن نعيم أخي بني الأعرج، قال: جاء رجل عشية عرفة إلى ابن عمر الحديث بنحوه وفيه عبدالرحمن بن نعيم لم يوثقه غير ابن حبان، وقال أبو المحاسن الحسيني: فيه جهالة، وقال أبو زرعة الرازي: لا أعرفه إلا في حديث ابن عمر، وقال أبو نعيم الأصبهاني: من جالسه يعرف ضعفه، وقال أحمد بن حنبل: لا شيء، وقال الدارقطني: له أحاديث غرائب. وللمتن شاهد يتقوى به وهو الحديث التالي.

ص: 212

وصح وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله عليه السلام قال: "يكون في آخر زمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم وآباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم فيضلّونكم ويفتنوكم"

(1)

.

(1)

حسن - أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه"(1/ 12)(7)، وإٍسحاق بن راهويه في "مسنده"(1/ 339)، وأحمد في "مسنده"(14/ 19)(8267)، وابن وضاح في "البدع"(ص/61)(65)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(7/ 397)(2954) وغيرهم من طرق عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة بنحوه، والحديث حسنه الشيخ الأرناؤوط في هامش المسند.

ص: 213

هذا حديث أخرجه مسلم في صحيحه، فكثير من هؤلاء الذين لهم صيت عند الأعاجم والأغراب وعند الفلاحين والأكراد قد نبذوا بالعباد وهم من أهل الجهل والفساد وليسوا من الخيرين الأجواد ويقولون أقوالاً ويفعلون أفعالاً لا نجدها في كتاب الله تعالى ولا في سنّة رسول الله عليه السلام ولا في سنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين والمنتمون إليهم يزعمون أنّهم يتكلمون بالحقائق وأنّ لهم كرامات وليسوا كما زعموا كذّابون دجّالون وسيأتي كبيرهم ويزعم أنّه ربّهم وربّ العباد وفراسهم وإلهامهم وكرامهم وكراماتهم من جنس كراماته ونحن منتظرون لخروجه وخائفون من افتتانه، وذلك ما روي [ق 91 / ب] عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله عليه السلام خطبته ما يحدّثنا عن الدّجال ويحذّرناه، فكان من قوله: "يا أيها الناس إنه لم يكن فتنة على الأرض أعظم من فتنة الدّجال وإن الله تعالى لم يبعث نبيًّا إلا حذّر أمّته، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وإنّه خارج، فإن خرج وأنا فيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن خرج بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كلّ مسلم، وإنّه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فيعيث يمينًا ويعيث شمالاً فيا عباد الله اثبتوا، فإنّه يبدو ويقول: أنا ربكم، ولن تروا ربّكم حتى تموتوا، وإنّه أعور، وإنّ ربكم ليس بأعور، إنّ مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كلّ مؤمن، فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه، وإنّ من فتنته أن معه جنّة ونار، فناره جنّة وجنّته نار، فمن ابتلي بناره فليقرأ خواتيم سورة الكهف وليستعذ بالله عز وجل، فإنّها تكون عليه بردًا وسلامًا كما كانت النار على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإنّ من فتنته أن معه شياطين يتمثلون على صور الناس، فيأتي الأعرابي فيقول: رأيت أن بعثت لك أباك وأمّك أتشهد أنّي [ق 92 /أ] ربّك، فيقول: نعم، فيتمثل شياطينه على صورة أبيه أمّه، فيقولان يا بنيّ اتبعه فإنه ربّك وإن من فتنته أن يسلّط على نفس فيقتلها ثم يحييها ولن يقدر لها بعد ذلك ولا يصنع ذلك بنفس غيرها ويقول: انظروا إلى عبدي فإنه أبعثه الآن، ويزعم أن له ربًا غيري فيبعثه ويقول من ربّك؟ فيقول: ربّي الله وأنت الدّجال عدوّ الله عز وجل، وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك أتشهد أني ربّك؟ فيقول: نعم، فيتمثل شياطينه على صورة أباه، وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت، فيمر بالحي

ص: 214

من العرب فيكذّبونه فلا تبقى لهم [سائمة] إلا هلكت ويمرّ بالحي من العرب فيصدّقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم مواشيهم من يومهم ذلك أعظم ما كانت [و] أسمنه وأمدها

خواصرًا وأدرها ضروعًا"

(1)

، هذا حديث خرجته من كتاب السنة لأبي عاصم النبيل، إلا إن جميع ما يظهر من هؤلاء الخوارج الذين هم رؤساء الجهّال المخالفون للشرع والمعاندون لأهله والطريقيون

(2)

والمشعبذة دون ما جاء به في الحديث من فعل الدجال وأمره أهون من أمر هؤلاء الجهال. وروي عن [ق 92 / ب] النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفًا عليهم السيجان"

(3)

وهي الطيالسي وهي يلبسها الأكابر ينزو

(4)

(1)

ضعيف بهذا اللفظ - أخرجه ابن ماجه في "سننه"(2/ 1359)(4077)، ونعيم بن حماد في "الفتن"(2/ 535)(6516)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 171)(391)، والروياني في "مسنده"(2/ 295)(1239)، والطبراني في "الكبير"(8/ 146)(7644)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 580)(8620)، وغيرهم من طريق يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبدالله الحضرمي عن أبي أمامة بنحوه، وإسناده ضعيف لجهالة عمرو الحضرمي لم يرو عنه غير السيباني، ولم يوثقه غير العجلي وابن حبان، وأصل حديث الدجال في الصحيح بدون ذكر التفل، وقصة إحياء الأب والأم.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

ضعيف جدا بزيادة: "من أمتي" - أخرجه معمر في "جامعه"(11/ 393)(20825)، ونعيم بن حماد في "الفتن"(2/ 551)(1549)، وابن الحمامي في "جزئه"(ص/83)(88) من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد به، والعبدي قال عنه الذهبي في "الكاشف":"متروك"، وقال عنه ابن حجر في "التقريب":"متروك و منهم من كذبه" والحديث في صحيح مسلم "4/ 2266) (2944) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الدجال من يهود أصبهان، سبعون ألفا عليهم الطيالسة» .

(4)

نزا قلبُه إلى الشّيءِ: طمِح إلى بلوغِه. وانظر معجم اللغة العربية المعاصرة ..

ص: 215

بالعلماء والعباد وليسوا منهم، ألا وإن ذلك كذلك فيلزمنا أن نكذّبهم ونردّ عليهم ونعتقد ونقول في ذلك في حقهم ليس من الكرامات ولا من المكاشفات، بل من شعر الشياطين وسجعهم وخدعهم ومن تزيينهم ومن فتنتهم ومن شرّ اقتراب الساعة، والدليل على صحة ما قلناه ما روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده، قال: حدثني عبد الرّزاق أخبرنا معمر عن أشعث بن عبيد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: جاء الذئب إلى راعي غنم فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلّ وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل، فانتزعته مني، فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلّم! فقال له الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات نبي بين الحرتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم، وكان الرجل يهوديًا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فصدّقه رسول الله عليه السلام، ثم قال:"إنّها أمارة من أمارات [ق 93 /أ] بين يدي الساعة، قد أوشك الرّجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدّثه نعلاه وسوطه بما حدث في أهله بعده"

(1)

، وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني رضي الله عنه قال: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم العلاء حدثنا علقمة أخبرني أبي علقمة

(2)

نصر بن علقمة عن أخيه محفوظ بن علقمة عن عبدالرحمن بن عائذ الأزدي حدثني سلمة بن نفيل التراغمي رحمه الله أنه كان عند رسول الله عليه السلام يومًا إذ جاءه رجل فقال: "والله يا رسول الله

(3)

(1)

حسن لغيره - أخرجه معمر في "جامعه"(11/ 383)(20808) ومن طريقه ابن راهويه في "مسنده"(1/ 357)(360)، وأحمد في "مسنده"(13/ 425)(8063) عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، والحديث يتقوى بالشواهد التي ذكرها المؤلف.

(2)

بالأصل: " أبي عن".

(3)

بالأصل: تكرر قوله: " والله يا رسول الله" ..

ص: 216

لقد رأيت عجبًا ما أراه رجلاً قط قبل، إنّي غدوت من أهله أُضْحِي غنيمة، فعدا علي الذئب فأخذ منها حِملاً فاتبعته أطلب أن استنقذ منه حملي إن استطعت، فلما أدركته وضع الحمل وأقبل يكلمني، فقال: أيّها الرجل ارجع فوالله لا استنقذته اليوم، فقلت: والله ما رأيت عجبًا كاليوم قطّ إن الذئب يتكلم! فقال: بل أنبّئك بأعجب منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءك بالنخلات يحدثك بالوحي من السماء، فذاك أعجب من ذئب رزقه الله عز وجل حملاً، ثم قال: والذي أنزل عليك الكتاب ما جلست منذ كلمتُ الذئب، فقال رسول الله عليه السلام: صدقت؛ يوشك أحدكم أن يحدثه فخذه [ق 93 / ب] وعصاه بما فعل أهله بعده وهي العجائب بين يدي الساعة"

(1)

. وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بينما راعٍ يرعى أخذ الذئب شاة من الشياه، فحال الراعي بينه وبين الشاة، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال للراعي: ألا تتّقي الله تحول بيني و [بين] رزق ساقه الله إليّ! فقال: العجب لذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس! قال له الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك رسول الله عليه وسلم بين الحرتين يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق فانطلق الراعي بشاته حتى أتى المدينة، فآواها إلى زاوية من زواياها، ثم دخل على رسول الله عليه السلام فحدّثه بما قال الذئب، فخرج رسول الله عليه السلام إلى الناس ثم قال للراعي:"قم فحدّثهم بما قال الذئب"، فقام الرّاعي فحدّثهم، فقال رسول الله عليه السلام: "صدق الراعي إنّ من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفس بيده لا يقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس ويكلم الرجل شراك نعله وعذبه

(2)

(1)

حسن لغيره - أخرجه النقاش في "فنون العجائب"(ص/52)(33) عن الطبراني به، وشيخ الطبراني لم أقف على ترجمته، إلا أن الحديث يتقوى بالشواهد التي ذكرها المؤلف.

(2)

وفي الحاشية: أي طرفه ..

ص: 217

سوطه وتخبره فخذه بما أحدث أهله"

(1)

، فلا تشكّوا أن كثيرًا من أهل زماننا متى علموا أنّ يهوديًّا أو نصرانيًّا أو غيرهما من الكفار والمشركين كلمه السبع أو غيره من البهائم والحيوانات أو الجمادات لقالوا: هذا رجل صالح صاحب الكشوف والكرامات سيد الإسلام، ألا ومتى [ق 94 /أ] شاهدوا أو بلغ إليهم أن ذئبًا أو غيره من السباع كلّم بعض هؤلاء رؤساء الجهّال لكانوا يقولون أن هذا السبع رجل صالح يتخيّل لنا على صورة السباع أو كانوا يقولون لهذا المخالف المعاند الذي كلمه الذئب أو غيره من السباع أنّه رجل صالح صاحب الكشوف والكرامات، وإن كانوا يهوديًّا أو نصرانيًّا أو كلبًا كما حدّثني محمد بن إبراهيم الدانسي

(2)

رحمه الله قال: "كان في قرية من قرى الموصل جويرية يتيمة وأهل القرية يجعلون لها النذور في تلك القرية، فقالت لها يومًا بعض النساء على طريق سبيل الانبساط: يا فلانة الناس ينذرون لك فأنت لمن تنذرين، فقالت: هي أيضًا على طريق الانبساط إن أعطيت الدراهم، فعليّ نذرًا إن أطعم الخبز هذا الكلب الأسود إلى أن يشبع، فكان من قضاء الله عز وجل وقدره أنها خرجت من القرية إلى الزرع لأجل اللقاط، فلقيت في الطريق صرّة فيها دراهم فعظم عند ذلك أمر الكلب عند الجهّال من أهل القرية، فكانوا يجعلون النذور للكلب بعد أن كانت للجارية وكنّا نرى الكلب في الأسحار يأتي من قبل البرية، فكانوا يقولون أن هذا رجل صالح يتخيّل لنا أنه كلب وهو يخرج بالليل يزور الرّجال من الصالحين والأولياء ويأتي بالنّهار إلينا"

(3)

.

(1)

صحيح - أخرجه أحمد في "مسنده"(18/ 315)(11792)، وعبد بن حميد كما في "المنتخب من مسنده"(ص/277)(877)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(15/ 480)(6178)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 477) ترجمة رقم (1535)، وابن حبان في "صحيحه"(14/ 418)(6494)، وغيرهم من طريق القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي اله عنه به، ورواته ثقات، وقد ورد من غير طريق القاسم عن شهر بن حوسب، وقال العقيلي:" حدثنا محمد بن أحمد المطرز، حدثنا نصر بن علي، حدثنا مسلم قال: كنت عند القاسم بن الفضل الحداني فأتاه شعبة فسأله عن حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: بينا راع يسوق غنمه عدا الذئب على شاة، قال: فقال شعبة: لعلك سمعته من شهر بن حوشب؟ قال: لا، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد، فما سكت حتى سكت شعبة".

(2)

كذا بالأصل.

(3)

لم أقف عليه ..

ص: 218

[ق 94 / ب] وسمعت جماعة من أهل القرية يقولون عندنا كلب أسود ينذر له بعض الجهّال، فإذا وقف على باب دار من دورهم ينادون:"ألا قد جاء كلب النذر" ألا أيّها الناس فكفى بقوم هذا عقلهم ودينهم أنّهم قد افتتنوا بكلب أسود مع البيان من قول النبي عليه السلام أن: "الكلب الأسود البهيم شيطان

(1)

"

(2)

وأهل القرية قوم ينتمون إلى المشايخ وقد جهلوا أمر كلب، فكيف إذا رأوا شيئًا ممّا ذكرناه في هذه الأحاديث من قول النبيّ عليه السلام في رؤسائهم وفي رجل منهم. عن معاوية بن قرة عن أبيه أنه قال: ذهبت لأسلم حين بعث محمد عليه السلام، فقلت لعلي أدخل معي رجلين أو ثلاثة في الإسلام، فأتيت المدينة حيث مجمع الماء، فإذا براعي القرية يقول: لا أراعي لكم أغنامكم، قالوا: ولم؟ قال: يجيء الذئب كلّ ليلة فيأخذ شاة وصنمكم قائم لا يضر ولا ينفعكم ولا يغير ولا ينكر، قال: فذهبوا وأنا أرجو أن يسلموا، فلمّا كان من الغد جاء الراعي يشتدّ ويقول: البشرى البشرى، قد جاء الذئب مقموطًا

(3)

بين يدي الغنم بغير قماط، قال: فذهبوا وذهبت معهم، فقتلوا الذئب وسجدوا للصنم وقالوا: هكذا فاصنع [ق 95 /أ] قال: فأتيت محمدًا فحدّثته الحديث، فقال النبي عليه السلام: لعب بهم الشيطان"

(4)

.

(1)

بالأصل: " البهائم الشيطان".

(2)

صحيح - أخرجه أحمد في "مسنده"(42/ 139)(25243)، والطبراني في "الأوسط"(3/ 233)(3013) ن والمخلص في "المخلصيات"(3/ 265)(2489) من طريق أبي معاوية شيبان عن الليث عن مجاهد عن الأسود عن عائشة به، وإسناده ضعيف فيه الليث بن أبي سليم قال عنه في "التقريب":" صدوق اختلط جدا و لم يتميز حديثه فترك"، ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 240) من طريق إبراهيم بن الحارث نا يحيى بن أبي بكير نا شيبان عن عبد الملك بن عمير عن شريك بن طارق عن فروة بن نوفل عن عائشة مطولا به وإسناده صحيح. ورواه مسلم في "صحيحه" (1/ 365) (510) من حديث أبي ذر بدون قوله:"البهيم".

(3)

وفي الحاشية: "يقال قمط الأسير إذا جمع يديه ورجليه بحبل".

(4)

ضعيف – أخرجه البزار في "مسنده"(1/ 67 – كشف)(98)، والطبراني في "الكبير"(19/ 31)(67)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 303) من طريق محمد بن جهضم، ثنا الأزهر بن سنان، عن شبيب بن محمد بن واسع، عن معاوية بن قرة، عن أبيه به، والأزهر قال عنه الذهبي في "الكاشف"، وابن حجر في "التقريب":"ضعيف".

ص: 219

ألا وقد لعب الشيطان بأقوام من أبناء زماننا تحلّق بالفقراء وبالزهاد ولن ينتحلوا منهم حقيقة، فالله المستعان. ما أكثر التلاعب في هذا الزمان على يدي أقوام نبذوا بأهل الإيمان وليسوا فيه إلا من أهل الحرمان وأهل الزور والبهتان وأضلّهم شيخهم الذي هو رأس أهل الإثم والعدوان، فخرجوا به عن الدين، ومرقوا به عن الإسلام، وسوف يلقون بذلك الهوان، وأقول شعرا:

شقيوا بصحبتك اللئام وما أفلحوا

وكان يفلح وجوههم قد كلحوا

في النار إذا أغديتهم عن دينهم

شلّحتهم أثوابه فتشلّحوا

لما ضللت عن الصواب جميعهم

ضلوا وأنت رجيم من يستصلحوا

وأبعتم دين الهدى بضلالكم

لما سلاحات الضلال سلحوا

ما أفلحوا مذ أبصروك ولا

رأوا أرشد أو راحوا في الضلال يمرحوا

خسروا بك الدارين يا شرّ الورى

لما برحوا في الخسار وسرحوا

مرقوا من الدين الحنيف وفارقوا

من في الهدى قد صالحوا من أصلحوا

وفارقوا نهج الهدى وتفرقوا

في لجّ بحر ضلالة يستسبحوا

صحبوا لرأس جهالة فأضلهم

عن دينهم [ق 95 / ب] واستحسنوا ما أقبحوا

خسروا بصحبتهم سفيهًا جاهلاً

جعلوه رأس ضلالهم لم يربحوا

مثل الحمار تراه فيهم صافنا

(1)

والكلب يستمعوا عواه فينبحوا

نبذو كتاب الله خلف ظهورهم

وشريعة الهادي البشير وطرّحوا

تالله قد شقيوا بصحبة جاهل

ما أفلحوا ما أفلحوا ما أفلحوا

وروي أن أبا عثمان النيسابوري رحمة الله عليه قال: "خرجتا جماعة مع أستاذنا أبي جعفر النيسابوري رحمة الله عليه إلى خارج نيسابور فتكلم الشيخ علينا وطابت أنفسنا، ثم نظرنا لأيّل قد نزل من الجبل حتى برك بين يدي الشيخ، فأبكاه ذلك بكاءً شديدًا، فلما سكت قلت له: يا أستاذ تكلمت علينا وطابت أنفسنا، فلما جاء هذا الوحش وبرك بين يديك أزعجك وأبكاك، فقال: نعم، رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت أنفسكم فدار في خلدي

(1)

قال صاحب القاموس المحيط: " صفن الفرس يصفن صفونا: قام على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة".

ص: 220

لو أن شاة ذبحتها ودعوتكم عليها فما يحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش وبرك بين يدي، فيخيّل لي أني أنا مثل فرعون يسأل ربّه أن يجري له النيل فأجراه، فما يؤمنني أن يكون الله عز وجل يعطني كلّ حظّ لي في الدنيا وأبقى في الآخرة فقيرا لا شاء لي، فهذا الذي [ق 96 /أ] أزعجني"

(1)

، ألا فيتأسى المتأسي منكم بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم وبمثل هذا الشيخ رضي الله عنه وبهديهم، فاهتدوا وبهم فاقتدوا، وعن شريعتهم ومناهجهم لا تعتدوا إن أردتم تربحوا، فتسعدوا وتقرّبوا ولا تبعدوا، بصّرنا الله وإيّاكم ما نهدى به إليه، وسترنا وإيّاكم عند القدوم عليه، وغفر لنا ولكم يوم الوقوف بين يديه، وبلغنا أن الشيخ الإمام العلامة عبدالله بن قدامة المقدسي رحمه الله قيل له: إن شيخًا في حواران قد تبعه كثير من الناس وله كرامات، فقال الشيخ الموفّق:"لا إله إلا الله، لقد كان فرعون يقول: لنيل مصر اجر، فيجري ويقول له: قف فيقف عند حافر دابته، فما كانت هذه كرامة لفرعون وإنما جعله الله تعالى سببًا ليضل به بني إسرائيل".

(1)

ذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص/338)، وفي "صفة الصفوة"(2/ 313).

ص: 221

ألا وما نرى في الحدثين

(1)

من الدجاجلة والفراعنة الذين هم رؤساء زماننا، وما نرى في قومٍ ينتمون إليهم ليس ذلك كرامات ولا إلهامًا؛ لأنهم ورثة الفراعنة والجبابرة وشيعتهم وبهم مقتدون، ولما كان رسول الله عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم عليه مخالفون وعنه حائدون، وإنما كان كما قال الله تعالى [ق 96 / ب] {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] معناه: لنبتليهم لك لنعلم من يسلم لأمرك ويتبع سنّتك وهديك، وكلّ ذلك ابتلاء من الله عز وجل ومحنته ليضل بذلك أقوام من جهال هذه الأمّة وكلّ من يتدين بشيء من المكروهات بإجماع أهل العلم والعبادات لم تصلح له كرامات وقد روينا في أوّل كتاب أن

(2)

عائشة رضي الله عنها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، كانت تبكي حتى إنّي لأرحمها، وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عنّي، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به تجعليه يأتيك، فلمَّا أتى الليل - وفي لفظ فأجعله يأتي، فلمَّا كان الليل- جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، ولم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل - وفي لفظ ولم يكن شيء حتى دفعنا إلى بابل- فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء [ق 97 /أ] بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ . وقد تقدم بطوله

(3)

، وهذا الحديث أخرجه أبو القاسم الطبري في كتاب "السنن"، وخرجته من حديث عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وألفاظهما داخل بعضهما في بعض، وفي بعضها زيادات ما ليس في الآخر، ألا فكثير من هؤلاء الجهّال من أهل زماننا تركوا الاشتغال بما في كتاب الله عز وجل وما في سنّة رسوله وجهلوا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم عليه واشتغلوا بالطاعات والعبادات بغير علم ودخلوا في أمر السحر بتعليم الشياطين، فكثير من الأشياء إذا أرادوا

(4)

(1)

كذا بالأصل. ولعلها: المحدثين، بتسكين الحاء، من الابتداع، والله أعلم

(2)

وفي الأصل: "ابن".

(3)

سبق تخريجه.

(4)

بالأصل زيادة: "كان" وحذفتها ليستقيم السياق ..

ص: 222

وزعموا أن ذلك إلهام من الله تعالى وكرامات أكرمهم الله عز وجل بها هلكوا، وإنّما الإلهام والكرامات يظهران من أقوام عاملين بالعلم ومتّبعين لما كان عليه النبي عليه السلام وصحابته رضوان الله عليهم ويتمسكون بآثارهم وهم أبعد الناس من البدع والحوادث، ومبغضون لرؤساء الجهّال ومتبعيهم، وصحّ وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قال:"سئل رسول الله عليه السلام عن الكهنة، فقال: "ليسوا على شيء"، فقيل له: إنّهم يخبرون بأشياء تكون حقًّا، قال: "تلك كلمة يحفظها الجنّي فيقذفها في أذن وليّه، فيزيد فيها مائة [ق 97 / ب] كذبة"

(1)

، وللبخاري أن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السّماء فتسترق الشياطين السمع وتوحيه إلى الكهّان، فيكذبون معها مائة كذبة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وما يظهر من شيوخ زماننا وفقرائهم من هذا الجنس، فافهموا ذلك يقينًا وليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإن قال قوم: نحن عملنا ما عملنا من هذه الأمور المكروهات

(2)

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7/ 136)(1695)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1750)(2228) من طريق الزهري، عن يحيى بن عروة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها بنحوه.

(2)

لعله يقصد المكروه كراهة تحريمية، وأما المكروه تنزيها فلا يدخل في البدع، لثبوت زيادة:"كل ضلالة في النار"، والمكروه تنزيها لا يكون في النار، وانظر الاعتصام (2/ 49: 56) ..

ص: 223

من البدع والمحدثات شبكةً تصيد بها العصاة والجهّال ويجذبهم عن معصية الله تعالى إلى طاعته وهي حجّتنا على إباحتها، ألا والذي أعرفكم أنّ الأمر ليس كما زعموا بل صحّ وثبت أنهم يوقعون العصاة والجهّال في أعظم ممّا كانوا عليه من المعاصي، وذلك أن الجاهل العاصي يعصي الله عز وجل وهو يعتقد أن الله تعالى قد حرّم عليه ما يفعله من المعاصي وما يرتكبه من الذنوب والخطايا وهو مسلم بإجماع أهل العلم، فإذا أتى إلى الشيخ من رؤساء الجهّال وقائديهم إلى النار فتاب على يديه وجعله شيخه وقدوته وأحبّه واقتدى بطريقه، وربّما كان الشيخ من أهل الكلام الذين يحبّون الزيادة في الدين والقياس [ق 98 /أ] والرأي على غير الأصل أو ربّما كان الشيخ ممن يحبّ اللّهو واللّعب وأكل ألوان الطعام من الحلال والحرام والنظر إلى وجوه المرد والنسوان والاستماع إلى كلامهم وكلامهنّ والاستماع إلى الأغاني منهم والرقص معهم وإلباس الخرقة لهم والتوبة له ويجعل ذلك طريقه ويعتقد أن هذا كلّه حلال وطاعة وأنه يتقرّب به إلى الله عز وجل كما يتقرّب إليه بالمندوبات والقربات وأجمع المسلمون كلّهم على أن من أحلَّ شيئًا مما حرّم الله عز وجل ورسوله عليه السلام مما لا يجهله أنه يكفر ويخرج عن دين الإسلام ويقع في موبقات الآثام؛ لإضافته المحرّم إلى الشرع المكرّم ولفتيانه بإباحة الحرام، وأقول شعرا:

أضافوا إلى شرع النبيّ ودينه

أراذل قالوا أنّها لتباح

هي الدف والتشبيب والشر تابع

ولهم تلك ملاهي كلهنّ قباح

قد اتخذوها يا أولي العلم قربة

ودانوا عند المساء وصباح

وإذا جئتهم في لهوهم يزفنوا بها

سمعت [لهم] مثل الكلاب نباح

ومن حلل التحريم أو حرّم الذي

أبيح فذاك الكفر منه صراح

ومن ينتمي في محدث يحدثونه

يلاقي [ق 98 / ب] عذابًا ليس منه براح

ومن يقتدي بالجاهلين فما له

نعم عن عذاب الجاهلين يراح

وقد شدّدوا فيه الوثاق فما له

إلى أن يشاء الله عنه سراح

فإن تاب بالتوبة النصوح فإنه

يلاقي من مولي الكريم سماح

(1)

(1)

بالحاشية: "أي جود".

ص: 224

فإن قالوا ما أحدثنا هذه المحدثات إلا ليجذب أقوامًا من معصية الله عز وجل إلى طاعته وتتألف قلوبهم بذلك، فأقول لهم: قد كان نبيّكم صلى الله عليه وسلم إن كنتم من أمته أعلم بأحوال الناس وما يتألّفون به وكذا من بعده من صالحي السّلف وخيار الخلق كانوا لا يجذبون الناس من المعاصي إلى طاعة الله تعالى وإلى طريق الحق بشيء من هذه المحدثات والمكروهات، وإنّما كانوا يجذبونهم بما أمر به من الذكر وقراءة القرآن والتذكير بنعم الله تعالى على عباده وآلائه وعظمته وحكمته وما ينبغي من طاعة وذكر الجنة والنار في الآخرة برفق ولين وشفقة وإرفاد شيء من الدنيا. وقد صح وثبت أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"إن كان الرجل ليُسلم وما مراده إلا الدنيا فما عسى إلا ودينه أحب إليه من الدنيا [ق 99 /أ] وما فيها"

(1)

، ألا والذي أعرفكم بحال قوم يجذبون الجهّال من المعاصي إلى طاعة الله تعالى وإلى طريق الحق بشيء من هذه المحدثات والمكروهات التي أحدثت بعد أصحاب رسول الله عليه السلام مع بقائهم عليها وتزيينهم بها أشدّ ضررًا على أهل الإسلام من الكفار والمشركين قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6]، وكلّ قوم يستحسنون شيئًا من هذه الحوادث التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم في الدين ممّن دعائهم الشيطان فأجابوه ودخلوا في حزبه وصاروا ممّن زيّن له سوء عمله فرآه حسنًا، وذلك أنهم لم يقنعوا أن يقولوا فيما أحدثوا أن هذه لعب وخطأ حتى قالوا إن هذا حسنًا وهذا مقامات الرجال، ومذهب أهل الحقّ من أصحاب الحديث وأهل الصدق أن من كان مصرًّا على شيء مجمع على تحريمه ويعتقد ويقوله أنّه حرام وأنّ تركه واجب مندوب إليه فهو فاسق، ومن اعتقد أنّه حلال وأنّه يتقرّب به [ق 99 / ب] إلى الله عز وجل بشيء مجمع على أنه مكروه فهو مبتدع ضال مضلّ قد خرج عن الملّة ومذهب أهل الإسلام وأئمتهم أن من ادّعى رتبة تزيد على السنّة وأفعال الصحابة رضوان الله عليهم لم يلتفت إليه كائنًا من كان، وأقول شعرا:

(1)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 1806)(2312).

ص: 225

من ادّعى أن له حالة

تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكوننّ له صاحبًا

فإنه ضر بلا نفع

ولكل من يزعم أن الذي

حظر أهل العلم بالمنع

(1)

محلل

(2)

ذاك السفيه الذي قد ضل

ما أحسن في الصنع

قد ختم الله على قلبه

ومبصر العينين والسمع

ولا له عقل فويل له

يوم قيام الناس في الجمع

سحقًا له مبتدع محدث

قد وضع الدين عن الرفع

فإن غلطوا أو قالوا رأينا شيوخًا من شيوخنا أحدثوا هذه الأحاديث وسمعوها وفعلوا هذه الأشياء التي تحرمها وتنكرها على فاعلها وضعوها ويزعمون أنّهم في ذلك مقتدون بشيوخ لهم، وهذا دقّ عليهم. فالجواب أن هذا غلط من قائله لا يسمى النصح دقًّا؛ لأنّا ما أوردنا من عندنا شيئًا؛ لأنّ الاعتبار الذي اعتبرنا به هذه المحدثات وعارضناها عليه هو الشرع الذي من خالفه بشيء أحدثه، فقد عانده فما وافقه قبل وما لم [ق 100 /أ] يوافقه سقط وأهمل، وهذا كما روي أن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان يكثر الجلوس إلى ربيعة الرأي، فتذاكروا يومًا في السنن فقال رجل ممن كان في المجلس:"ليس العمل على هذا"، فقال عبد الله:"أرأيت أن كثر الجهّال حتى يكونوا هم الحكّام، أفهم الحجّة على السنة"، فقال ربيعة:"أشهد أنّ هذا كلام أبناء الأنبياء"

(3)

، فإن ذلك كذلك فهؤلاء المخالفون للشرع هم الجهّال وليس قولهم حجة عند من في قلبه أدنى إيمان وعلى أنا لا نسلم أنّ أحدًا من الصلحاء المتقدمين الذين يضاف إليهم هذا أنّه فضلهم، وهذه مصنفات أئمة الدين وأعلام المسلمين مثل مصنّف الإمام مالك والشافعي وأحمد وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي رضوان الله عليهم إلى غيرها وكلّها خالية من دعواهم، وهذه تصانيف فقهاء المسلمين الذين يدور عليهم

(1)

كذا بالأصل.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 380).

ص: 226

الفتيا قديمًا وحديثًا في شرق البلاد وغربها، وقد صنف المسلمين على مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم تصانيف لا تحصى، وكذلك على مذاهب غيرهم من فقهاء الإسلام كلّها مشحونة بالدق على أهل الحوادث والبدع كأهل السماع والرقص وغيرها من الحوادث والبدع [ق 100 / ب] التي أحدثت بعد الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى تفسيقهم، وإن صحّ أنّ أحدًا من المتأخرين بعد أصحاب رسول الله عليه السلام فعل شيئًا من هذه المحدثات والبدع لم يقبل منه ولا كرامة؛ لأنه لا يجوز وقد أخطأ في ذلك كائنا من كان ولا يجوز الاقتداء به ويترك الاقتداء بالأئمة الراشدين الذين أخذوا كلّ شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم توثيقًا، وأقول شعرا:

تراهم يضربون الأرض جورًا

بلا وجد ولا يجدوا ملالةً

إذا حذرتهم بطر العوافي

أضافوا ذاك منك إلى الجهالة

وقالوا نحن قوم قد وصلنا

فقلت إلى هواكم

(1)

لا محالة

فقالوا عن مشايخنا قديمًا

ورثنا رقصنا لا عن كلالة

فقلت لهم كذبتم في لحاكم

... لقد ركبت شيوخكم الضلالة

فقالوا ادرج فما هذا بعش

لأرباب المعارف والعدالة

وهذا عشنا أكل وشرب

فقلت ليهنكم عيش الزبالة

(2)

خليلي كف لا تعجل بلومى

لإنكاري سماع ذوى الإطالة

وتحريم السماع له وجوه

سناها إن بدا كشف الغزالة

إذا أظهرتها شيوخ سوءٍ

تراهم منكرين لها جهالة

وإن أنا سمتهم يا صاح يومًا

شراها استكثروا فيها النخالة

شيوخ الجهل يتبعهم كثير

وذووا التحقيق لن يصلوا حبالة

ومرتبة السماع [ق 101 /أ] لها شيوخ

تلوح عليهم منها جلالة

هم أهل الحديث وجاء عنهم

خطاب أثبتته لنا الرسالة

لهم نطق يؤيّده كتاب

عزيز لا ترد له مقالة

لهم نطق الوجود ما حواه

وأدرك سمعهم منه سؤاله

إذا انقطع التناسب بين قوم

تنافرت الخواطر بالأصالة

(1)

بالأصل: " هوائكم ".

(2)

وفي الحاشية: "وهي ما تحمل النملة".

ص: 227

أيا يا إخواني ومن هاهنا ذلّ من لا بصيرة له ولا حياء ولا إيمان وغاب عن كثير من الجهال الصواب تحتج عليهم بالصحابة والصلحاء المتقدّمين ويحتجون علينا برؤساء الجهال الغاشمين

(1)

الذين لم يقض لهم بالإصابة كما قضى لأعلام الصحابة نعوذ بالله من حرمان الصواب فهذا أبو بكر المروذي خادم الإمام أحمد رحمة الله عليهما قال: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يرغب في النكاح فقلت له: "قد قال بعضهم"، فما تركني إن أتمم حتى صاح عليّ وقال لي:"اذكر لك رسول الله عليه السلام وصحابته رضوان الله وتأتيني ببنيات الطريق"

(2)

-وفي لفظ قال: قلت: - إن إبراهيم بن أدهم رحمه الله حكي عنه أنّه قال: "لروعة صاحب عيال"، فما قدرت أن أتمم الحديث حتى صاح بي وقال:"وقعت في بنيات الطريق"، انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه وقال: قلت لأبي عبد الله: إن الفضيل يروي عنه، قال: لا يزال الرجل في قلوبنا [ق 101 / ب] حتى اجتمع على مائدته جماعة زال عن قلوبنا، قال: دعني من بيّنات الطريق هذا العلم يؤخذ انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه"

(3)

، ألا وأنا أقول لكم: انظروا عافانا الله وإيّاكم ما كان عليه محمد وأصحابه ولا تنتظروا إلى أقوام تشبّهوا بالعلماء والعبّاد وبالواعظين الزّهاد، وليسوا منهم في شيء؛ إذ هم من أهل العناد وبيقين لاشك فيه عند العارفين المحققين والعلماء المكاشفين الصًادقين ما كانت سيرة محمد وأصحابه كسيرة هؤلاء المحدثين المارقين الناكسين المنافقين الذين أحدثوا ما ليس في مذهب المحدثين وغدوا على غيهم وجهلهم وضلالتهم منبعثين، وفيما أضلّهم عن الحق مباحثين، والله ما كان يجري من محمد وأصحابه ما يجري منهم ومحمّد وأصحابه أرق الناس قلوبًا وأخشى الناس لله عز وجل وأهداهم وأتقاهم وأحبّهم إلى الله عز وجل وأفضلهم ممّن جاء بعدهم، وممّن كانوا قبلهم سوى النبيّين والمرسلين صلوات الله عليهم، وإذا ظهر ممّن دونهم شيئًا من أمور الدّين ولم يكن ظهر عنهم علمنا أنه بدعة وضلالة ولا يشك في هذا إلا جاهل يجاهل نقّال

(4)

(1)

وفي الحاشية: "أي ظالمين".

(2)

ذكره ابن الجوزي في "صيد الخاطر"(ص/76)(188).

(3)

ذكره المروزي في "الورع لأحمد"(ص/126)، وابن الجوزي في "ذم ال 8 هوى"(ص/282).

(4)

كذا بالأصل ..

ص: 228

أو معاند خبيث المقال [ق 102 /أ] وهذا أبو بكر الخلال ذكر في كتاب "العلم" أنّ أبا النصر إسماعيل بن عبد الله بن ميمون أخبره، قال: حدّثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رحمه الله قال: حدثنا حجاج عن شريك عن الأعمش عن فضيل بن عمرو، وقال أحمد: أراه عن الفضيل عن سعيد بن جبير رحمه الله عن بن عبّاس رضي الله عنه قال: "تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال عروة: "قد نهى عنها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما"، فقال ابن عباس:"أراكم ستهلكون، أقول لكم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولوا أبو بكر وعمر"

(1)

، -وفي لفظ لغيره- قال ابن عباس رضي الله عنه:"هذا والله هو الذي أهلككم، والله إنّي لا أرى الله عز وجل إلا سيعذّبكم، أحدّثكم عن رسول الله عليه السلام وتحدثوني عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"

(2)

، قلت: والتمتع أن يحرم بالعمرة من الميقات ويقول: لبيّك بعمرة، فإذا أتى مكة طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حلق أو قصر من شعره وحلّ، فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من مكة، ثم يخرج إلى منًى وعرفات، ألا فهذا قول ابن عباس رضي الله عنه لمن عارض قول رسول الله عليه السلام يقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الذين شهد لهما رسول الله عليه السلام أنهما من أهل الجنة، ووصينا بقبول قوليهما:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي [ق 102 / ب] الله عنهما"

(3)

،

(1)

إسناده ضعيف والحديث صحيح - أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق حجاج بنحوه، وفيه شريك وهو ابن عبد الله النخعي- سيء الحفظ وله شاهد صحيح وهو الحديث التالي.

(2)

صحيح - أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 377)(380) بإسناد صحيح مطولا بنحوه.

(3)

حسن لغيره - أخرج الترمذي (5/ 610)(3663) وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر" وإسناده يه ضعف. والحديث له شواهد عن عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وقد صححه الشيخ الألباني وانظر الصحيحة (1233)، وحسنه الشيخ الأرناوؤط بالشواهد في هامش المسند ..

ص: 229

فكيف بأقوام ضلال قد أعمى الله بصائرهم يعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول فقيه أو عالم أو شيخ من العبّاد، لقد خابوا وخسروا خسرانًا مبينًا، وضلوا ضلالاً بعيدًا، ألا ليس أحد بعد رسول الله عليه السلام يؤخذ من قوله ويترك منه حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يترك من قوله: الوضوء من مسّ الإبط

(1)

وابن مسعود رضي الله عنه من قوله أن المعوّذتين ليستا من القرآن

(2)

قال الهيثم بن جميل: سألت مالكًا ابن أنس رحمة الله عليه ورضوانه، فقلت عندنا بالعراق قوم يبلغهم الحديث عن [رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم فيتركونه ولا يتبعونه ويتبعون ما بلغهم عن] إبراهيم والشعبي، فقال:"يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا"

(3)

،

(1)

ضعيف - أخرج الحميدي في "مسنده"(1/ 232)(143)، والبيهقي في "الكبري"(1/ 217) من طريق عمرو بن دينار عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عمرا أمر رجلا أن يتوضأ من مس الإبط. قال البيهقي:"وحديث مس الإبط مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمر بن الخطاب وقد أنكره الزهري بعدما حدث به وقد يكون أمر بغسل اليد منه تنظيفا".

(2)

ثبت إنكار ابن مسعود للمعوذتين من جهة أنهما نزلا قرآنا، وكان يراهما نزلا للدعاء، فهما دعاء منزل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وابن مسعود في هذا شذ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخالفهم، وقد أنكر عليه أبي بن كعب والصحابة لما كتبوا المصحف الإمام بل أنكر قوله هذا ثقات أصحابه.

(3)

ذكر ابن حزم في "الإحكام"(6/ 121) عن الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس يا أبا عبدالله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك صح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك: "هؤلاء يستتابون" ..

ص: 230

ألا فقوم تبلغهم الأحاديث عن رسول الله علي السلام أو عن أصحابه فتركونها ولا يتّبعونها ويتّبعون ما بلغهم عن أقوام جاءوا بعدهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، وصحّ وثبت أنّ وبرة بن عبد الرحمن قال: كنت جالسًا عند ابن عمر رضي الله عنه فجاء رجل فقال: أيصح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف، قال: نعم، قال: فإنّ ابن عباس قال: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [ق 103 /أ]"أحقّ أن تأخذ"، أو بقول ابن عباس: إن كنت صادقًا"

(1)

- وفي لفظ أن وبرة - قال: "سأل رجل ابن عمر أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ "، قال:"وما يمنعك؟ " فقال: "إني رأيت ابن فلان يكرهه وأنت أحبّ إلينا منه رأيناه قد فتنته الدنيا"، فقال:"وأينا أو قال: وأيّكم الذي لم تفتنه الدنيا؟ ثم قال: "رأينا رسول الله عليه السلام أحرم بالحجّ وطاف بالبيت وسعى بين الصّفا والمروة فسنة الله عز وجل وسنة رسول الله أحقّ أن يتتبع من سنة ابن فلان إن كنت صادقًا"

(2)

. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه

(3)

إلا أن الاقتداء بعلمائنا وبمشايخنا وبفقرائنا لا يجوز لمن آمن بالله وبرسوله في أمر من الأمور من غير برهان، قال الله عز وجل {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، فكلّ من لم يقم البرهان على ما ادّعى من قولٍ قاله أو من فعلٍ فعله من كتاب الله تعالى، ـ ولا من سنة رسوله عليه السلام ولا من سنة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، فهو كذّاب وليس بصادق فيما ادّعى.

(1)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 509)(1233).

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه" في نفس الموضع السابق.

(3)

لم أقف عليه عند البخاري في "صحيحه".

ص: 231

ومن له برهان من كتاب الله عز وجل أو من سنّة رسوله عليه السلام أو من سنة الخلفاء الراشدين في أمرٍ من الأمور المتشابهات غير المحكمات تركه واجب؛ لأن [ق 103 / ب] الله تعالى قال في محكم كتابه العزيز: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فذمّ مبتغي المتشابه وقرنهم بمبتغى الفتنة، ثم أخبر أنّه لا يعلم تأويله إلا الله والوقف الصحيح عند أهل العلم عند قوله {إِلَّا اللَّهُ}

(1)

،

(1)

قال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان"(1/ 191): (لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف، فيكون قوله: والراسخون في العلم مبتدأ، وخبره يقولون، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة، فيكون قوله: والراسخون معطوفا على لفظ الجلالة، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله: الراسخون في العلم أيضا، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة

والقول بأن الوقف تام على قوله: إلا الله، وأن قوله: والراسخون ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا. وممن قال بذلك عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وابن مسعود، وأبي بن كعب، نقله عنهم القرطبي وغيره، ونقله ابن جرير عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد

والقول بأن الواو عاطفة مروي أيضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد وغيرهم

" وقال الشيخ مناع في "مباحث في علوم القرآن" (ص: 224): "الذين يقولون بالوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، ويجعلون:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، استئنافًا، إنما عنوا بذلك التأويل، أي الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد لا يعلمها إلا الله.

والذين يقولون بالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أن الواو للعطف وليست للاستئناف، إنما عنوا بذلك التأويل أي التفسير، وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل

ثم قال: أسماء الله وصفاته وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها ويميزون الفرق بينها، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله".

ص: 232

وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كيف لي أن أعرف المتشابه من المحكم؟ فقال: "المتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع مختلف فيه والمحكم الذي ليس له اختلاف"

(1)

، فإذ ذلك كذلك في كتاب الله عز وجل، فترك ما دونه أولى وأوجب، وصحّ وثبت أنّ النبي عليه السلام قال "إنّه من يعش منكم بعدي فيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنّتي"

(2)

وقد تقدم الحديث شرحه وبالاتفاق أن النبي عليه السلام ما قال عليكم بسنّة علمائكم ومشايخكم ولا قال فاقتدوا بهم واتبعوا طريقهم، ألا فكلما اختلف الناس فيه ممّا لا نصّ لهم فيه من كلام الله عز وجل ولا في سنّة رسول الله عليه السلام ولا في سنّة الخلفاء الراشدين ولا إجماع الصّحابة رضوان الله عليهم أنّ ذلك من الشبهات ومن وقع [ق 104 /أ] في الشبهات وقع في الحرام لما صحّ وثبت عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، وحمى الله عز وجل محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(3)

.

(1)

قال القاضي أبو يعلى في "العدة"(2/ 685): " ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان؛ لأنه قال في كتاب "السنة": بيان ما ضلت فيه الزنادقة في القرآن. ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان، وقال في رواية ابن إبراهيم "المحكم": الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ومعناه: ما ذكرنا؛ لأن قوله: "المحكم": الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا، معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا وتارة يبين بكذا؛ لحصول الاختلاف في تأويله

ثم ذكر أقوالا أخرى في المحكم والمتشابه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/ 20)(52)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1219)(1599) من طريق زكرياء، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير رضي الله نه به.

ص: 233

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهذا لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ عليه السلام قال:«يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أَمِنَ الحلال أو من الحرام»

(1)

. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: "إنّ عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم قام في بني إسرائيل خطيبًا، فقال: يا بني إسرائيل لا تتكلّموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، لا تظلموا ولا تكافئوا ظالمًا بظلمه فيبطل فضلكم عند ربّكم، إنّما الأمر ثلاثة: أمر تبيّن رشده فاتبعوه، وأمر تبيّن [ق 104 / ب] زيفه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردّوه إلى الله عز وجل"

(2)

. هذا حديث خرجته من حديث أبي بكر أحمد بن الحسين الموصلي رحمه الله، ألا فإنّ الرقص واستماع الغناء والشبابات واللّعب بالشطرنج ولبس الخرقة من المشايخ وتقليد الجهّال من العباد أمر تبيّن زيفه عند أهل الإسلام والسنة وعند هذه الطائفة المخالفة أمر اختلفوا فيه على ما زعمت بجهلها، فالأولى أن يتركوا هذه الأمر ويردّوه إلى الله عز وجل وإلى رسول الله عليه السلام كما قال الله تعالى، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأما على مذهب أهل الإسلام والسنّة فواجب عليهم تركه؛ لأنه أمر تبين زيفه.

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(3/ 59)(2083).

(2)

إسناده ضعيف جدا – أخرجه أحمد في "الزهد"(ص/239)(1707)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 218) من طريق أبي المقدام هشام بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس مطولا به، وهشام قال عنه الذهبي في "الكاشف":"ضعفوه"، وقال عنه ابن حجر:"متروك".

ص: 234

وروي عن حذيفة اليماني رضي الله عنه أنّه قال: "كان الناس يسألون رسول الله عليه السلام عن الخير وأنا أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله عليه السلام إنّا كنّا في جاهلية وشرٍّ فجاءنا الله بهذا الخبر، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: "نعم"، وفيه دخن - يعني وفيه فساد- يقول خير متضمّن فسادًا وتخالطه فتنة"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم تعرف منهم [ق 105 /أ] وتنكر؟ " قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دعاه على أبواب جهنّم من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله فما تأمرني أن أفعل إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق وكلّها ولو تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك"، قلت: يا رسول الله صفهم لنا! قال: "هم قوم من جلدتنا ويتكلّمون بألْسنتنا"

(1)

. هذا حديث خرجته من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ إسماعيل بن الفضل الأصبهاني، ألا فاعتزلوا ما تجدونه في زمانكم من الفرق والاختلاف، فإن ذلك من البدع والشبهات وتمسّكوا بما تجدونه في كتاب الله تعالى وفي سنّة رسول الله عليه السلام وفي أثر من آثار الصحابة واتركوا ما سوى ذلك من المحدثات ومن البدع والضلالة وقوله عليه السلام:"من جلدتنا" أي: على خلقتنا ويتكلّمون بألسنتنا يمكن أن يراد بذلك أنّهم يتكلّمون بالعربية ويمكن أن يراد به أنّهم من بني آدم خلقوا كما خُلقنا ويتكلمون كما نتكلّم، وقرأت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ النبيّ عليه السلام قال:"يكون بعدي في أمّتي اختلاف وفرقة، وإنّ قومًا منهم يقولون: ما وجدنا في كتاب الله عز وجل وما اجتمع عليه المسلمون [ق 105 / ب] صدّقناه، وما اختلفوا فيه وكلّناه إلى الله تعالى أولئك أهدى أمتي أو أرشد أمّتي"

(2)

،

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4/ 199)(3606)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1475)(1847) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني، يقول: سمعت حذيفة بن اليمان، يقول فذكره بنحوه.

(2)

لم أقف عليه ..

ص: 235

ألا فكونوا من أهدى أمّة محمد، ألا وكونوا من أرشد أمّة محمد عليه السلام، وقد روي عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري، رحمة الله عليه أنّ أبا نملة، أخبره أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جالس جاءه رجل من اليهود، ومرّ بجنازة، فقال: يا محمّد، هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والله أعلم» ، فقال اليهودي: إنّها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم، ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقًّا لم تكذبوه»

(1)

.

(1)

إسناده ضعيف – أخرجه أبو داود في "سننه"(3/ 318)(3644)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 110)(10160)، وأحمد في "مسنده"(28/ 460)(17225، 17226)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(4/ 140)(2121)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(9/ 268)(3638)، والطبراني في "الكبير"(22/ 349)(874)، وغيرهم من طريق الزهري عن ابن أبي نملة عن أبيه رضي الله عنه به، وابن أبي نملة مجهول لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الشيخ الأرناؤوط في "هامش المسند":" للقسم الأول- يعني كلام الجنازة- شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، سلف برقم (11372) بلفظ: "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق". وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

وللقسم الثاني شاهد من حديث أبي هريرة

عند البخاري" – وهو الحديث التالي.

ص: 236

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانيّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال لنا رسول الله عليه السلام:"لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] "

(1)

، ألا فمنعهم رسول الله عليه السلام من التصديق خشية أن يكون كذبًا ومن التكذيب خشية أن يكون حقًّا وأمرهم بالعدول إلى قول يدخل فيه الإيمان [ق 106 /أ] بالحقّ وحده، وهذا كذلك والسلام. وذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب الإنابة: قال: حدّثنا أبو القاسم حفص بن عمر أبنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي أبنا المسيب [بن] واضح السلمي قال: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه وقلت له: يا أبا محمد إنّك بقية أسلاف العلماء الماضين وإنّك إمام السنّة وأنت على من لقيك حجّة، ولم آتك لأسمع الأحاديث ولكن لأسألك عن تفسيرها، قد جاء الحديث عن النبي عليه السلام أن بني إسرائيل افترقوا على اثنين وسبعين فرقة وأنّ أمّتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، فأخبرني ما هذه الفرق حتى أتوقاها، قال لي: إنّ أصلها أربعة: القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة، وهم الروافض، فثمانية عشر في القدرية وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدّثك بحديث لعلّ الله ينفعك به، قلت: بلى رحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرّة، فدخل مسجد الكوفة، فجعل يجلس إلى أصحاب الأهواء، فكلّ يدعوا هواه، فجاء إلى عمرو بن مرّة، فقال: إنّي كنت رجلاً كافرًا وإني دخلت هذا الدّين رجاء بركة، إنّي دخلتُ مسجد الكوفة فجعلت أجلس إلى قوم أصحب أهواء، فكلّ يدعوا إلى [ق 106 / ب] هواه، وقد اختلفوا علي ولا أدري بأيّهم أتمسّك، فقال له عمرو بن مرّة: اختلفوا في الله تعالى أنه ربّهم، قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيهم، فقال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الكعبة أنّها قبلتهم، فقال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنّه صومهم، ، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة، ، فقال: لا، قال: فانظر هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم، فتمسّك به وانظر تلك الفرق التي اختلفوا فيها فاتركها فليست من دينهم في شيء"

(2)

،

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(6/ 20)(4485).

(2)

الإبانة لابن بطة (1/ 377)(277) ..

ص: 237

ألا إن قومًا جعلوا الكفر في تمييز ما اشتبه عليهم وطلب الراحة في اتّباع ما يسهل حتى ظنّوا أن ذلك أوفق أمريهم وأحمد حاليهم اغترارًا بأنّ الأسهل محمود، والأوعر مذموم فلن يعدم أن يتورّطوا في الفتنة بخدع الهوى وزينة المكر في كلّ مخوف حذر ومكروه عسر، وكذلك قال عامر بن الظَّرِب

(1)

: "الهوى يقظان والعقل نائم، فمن ثم غلب"، وقيل في المثل:"العقل وزير ناصح والهوى وكيل فاضح"، أقول شعرا:

إذا ما دعتك النفس يومًا لشهوة

وكان عليها للخلاف طريق

فلا تتبعها في [ق 107 /أ] هواها مطاوعًا

فتصبح في بحر الذنوب غريق

وكن لهواها ما استطعت مخالفا

كما فعل العباد خير فريق

فقد خالفوها ما استطاعوا على الهوى

فنيران ما تهوى النفوس تحيق

(2)

ولا تطع النفس الغرور فإنّها

الأمارة بالسوء بئس رفيق

فإن تطع النفس المضلة في الهوى

بك الطير تهوى والمكان سحيق

فخالف هواها ما استطعت فإنما

هواها عدّو والخلاف صديق

(1)

هو عامر بن الظَّرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان. شاعر جاهلي قديم، إمام العرب وحكمهم في سوق عكاظ، قاد معداً كلها إلى اليمن يوم البيداء (وهي وقعة بين تهامة واليمن وقيل بين حمير وكلب) فكان واحداً من ثلاثة اجتمعت عليهم معدّ في الجاهلية. تزوج بـ (ماويّة بنت عوف بنت فهر) و (شقيقة بنت معن بن مالك بن باهلة) وهي إحدى أمهات الرسول صلى الله عليه وسلم. وأبرز مآثره لعامر بن الظَّرِب هي الحكم والقضاء فقد كان إمام العرب في مواسمهم وقاضيهم في سوق عكاظ وثمة أحكام له وافقها الإسلام ومنها خلعه لابنته (فعمة) من زوجها عامر بن الحارث. وكان أول خلع في العرب وأول من قضى بأول دية مقدارها مائة ألف من الإبل! وكذلك حكمه في الخنثى. وهو أحد الذين حرّموا الخمر والأزلام في الجاهلية. نقلا عن الموسوعة الشعرية.

(2)

ساقطة من الأصل واستحسنا لها هذه الكلمة.

ص: 238

ألا فيجب عليكم إن كنتم من العقلاء أن تنبهوا أنفسكم

(1)

في صواب ما أحببتم وتحسين ما اشتهيتم؛ ليصحّ لكم الصوب، ويتبيّن لكم الحقّ، فإن الحق أثقل محملاً وأصعب ركابًا، أيها الناس متى وجدتم اثنين اختلفوا في شيء فانظروا أيّهم أعلم بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله وأي قول أقرب وأشبه إلى ما كان عليه [عليه] السلام وصحابته رضوان الله عليهم، فتمسكوا به ودعوا ما سوى ذلك، فإن جهلتم أمر ذلك وأشكل عليكم ولم يتبين لكم في ذلك شيء فانظروا أيّ القولين أثقل على أنفسكم فتمسكوا به واجتنبوا أحبهما إليكم ودعوا واتركوا أسهلهما عليكم وخذوا بأثقلهما لديكم، فإن النفس عن الحق أنفر وللهوى آثر وتميل إلى ما ليس في حضوره كلفة ولا فيه مجاهدة [ق 107 / ب] بل هو مشتهًا عندها مستلذًّا لها غاية الالتذاذ، وهذا يقطع بأنه باطل، فإنّ الحقّ من سائر أنواعه شاقّ على النفوس ثقيل على أكثر الطباع فقد صحّ وثبت أنّ رسول الله عليه السلام قال:«حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»

(2)

، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:«الحق ثقيل مَرِيءٌ، والباطل خفيف وَبِيءٌ، وربّ شهوة ساعة، تورث حزنا طويلا»

(3)

، فقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام:"ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً"

(4)

.

(1)

بالأصل: "أنفسهم".

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 2174)(2822) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

حسن لغيره- أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(ص/98)(290)، وهناد في "الزهد"(1/ 287)(499)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 134)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 428) من طريق موسى بن عبيدة عن أبي عمرو عن ابن مسعود رضي الله عنه به. وموسى بن عبيدة قال عنه الذهبي في "الكاشف":"ضعفوه"، وقال ابن حجر:"ضعيف"، وله شاهد عند ابن المبارك في "الزهد"(ص/291)(850) عن حذيفة رضي الله عنه بنحوه، وفيه أبو جناب الكلبي ضعيف لكثرة تدليسه، والأثر يتقوى بهما.

(4)

إسناده ضعيف جدا - أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(5/ 165)(2703)، والآجري في"أدب النفوس"(ص/268)(16)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(6/ 3056)(7069)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(2/ 308)(1423)، والبيهقي في "الشعب" من طريق بقية، حدثنا سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن أبي البحير مطولا به، وفيه سعيد بن سنان قال عنه في "التقريب":" متروك، و رماه الدارقطنى و غيره بالوضع".

ص: 239

اعلم أن الشهوات ما دعا إليه الطبع ومال إليه هوى النفس من لذّات الدنيا، فكأنّه عليه السلام أشار إلى أن شهوة دنية من شهوات الدنيا تنقضي في أدنى زمان فتذهب لذّتها وتفنى سريعًا قد تورث صاحبها حزنًا طويلاً وكآبةً وغمًّا طويلاً قد لا ينفك عنه أيّام دنياه، وربّما اتّصل بحسرة وحزن وندامة وتأسّف طويل لا يفارقه في أخراه غدًا ولا يبيد ولا ينقضي أبدًا، وذلك كشهوة نظرة إلى مستحسن محرّم يفضي به إلى مواقعة الكبائر أو كلمة باطل يمنع بها حقًّا أو يحق بها باطلاً فيعقبه بها حزنًا طويلاً كما قال صلى الله عليه وسلم "أن الرجل ليتكلّم بالكلمة لا يرفع بها بالاً

(1)

يهوي [ق 108 /أ] بها في النار سبعين خريفًا"

(2)

، وأما النظرة نظرة العابد الذي كان مجاب الدعوة فجيء بامرأة مريضة جميلة فتركت عنده ليدعو لها فنظر إليها نظرة، فلم تزل به الشهوة حتى واقعها وعلقت فخشي الفضيحة فقتلها ودفنها إلى جانب الصومعة، ثم قال لأهلها أنها ماتت ودفنتها فقبلوا قوله فجاء الشيطان، فأعلم أخوتها بما صنع بها العابد ودلّهم على قبرها في صومعة فجاؤها فوجدوها فأخذوه ليصلبوه، فجاء الشيطان فقال له: أنا أوقعتك في هذا كلّه، فإن سجدت لي سجدة واحدة خلّصتُك من القتل فسجد له فكفر وقتل على هذه الحال ذكر هذه القصة المفسّرون في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ

} الآية [الحشر: 16]

(3)

(1)

بالأصل: "باطلا".

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(8/ 100 - 101)(6477، 6478)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 2290)(2988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(3)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(23/ 294) عن خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا شعبة، عن أَبي إسحاق، قال: سمعت عبد الله بن نهيك، قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: فذكره بنحوه، وإسناده صحيح وشعبة سمع من أبي إسحاق، وهو السبيعي قبل اختلاطه، كما أن أبا إسحاق صرح بالسماع، وقد اختلف على أبي إسحاق من طرق أخرى ضعيفة.

وأخرجه الخرائطي في "إعتلال القلوب"(1/ 101)(196) من طريق علي بن حرب قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الحسن بن عبيد الله، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول فذكره بنحوه، وإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين عدي وابن عباس.

وأخرجه الطبري في "تفسيره"(23/ 295) عن يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أَبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن زيد، عن عبد الله بن مسعود بنحوه، وأبو يحيى لم أعرفه.

وورد الحديث مرفوعا عند ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص/80)(61) عن بكر بن عبيد نا عبد الرحمن بن يونس، نا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو بن دينار أن عروة بن عامر سمع عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وإسناده مرسل فلا يعلم لعبيد صحبة.

وعليه فالأثر ضعيف مرفوعا صحيح موقوفا، ومثله من الموقوفات لا يكون إلا مأخوذا عن أهل الكتاب.

ص: 240

وفي وجيز هذا اللفظ منه عليه السلام أتمّ وأزجر وأبلغ ردع عن متابعة الشهوات وغرور الأماني لما يعقب من طول البلاء ودوام الحزن والخسران أبدًا بعد قصر لذّة التهاني، وأقول شعرا:

يا مطيعًا لنفسه في هواها

عندما تشتهي معاصي الجليل

تابعًا نفسه مطيعًا هواها

في معاصيه لذةً بالقليل

كلّما سوّلت لأمر أتاه

ما عصاها في ذلك التسويل [ق 108 / ب]

ما له عن شهواتها من براح

يقتضي في خلافها التحويل

سوف ترميه باتباع في هواها

وبال بكلّ أمر وسبيل

ويلاقي بذاك حزنًا طويلاً

في قبيل يا ذلة من قبيل

في قبيل العصاة مع كلّ عاص

مات لا توبة له بالسبيل

كم قتيل لشهوة وإسراف من

مشته

(1)

خلاف الجميل

شهوات الإنسان تورثه الذّل

وتلقيه في البلاء الطويل

قرأت أنّ العباس رضي الله عنه عمّ نبيّنا عليه السلام قال: "إذا اشتبه عليك أمرين فدع أحبّهما إليك، وخذ بأثقلهما عليك"

(2)

، قال الأصمعي: قيل لبعض العرب إذا أشكل على الرجل أمران لا يدري أيّهما أرشد فأيّهما يتبع، قال ليخالف أقربهما من هواه، فإن أكثر ما يكون الخطب باتّباع الهوى. وروي نحو هذا عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه ألا ليس التشديد مما يستمال به العامة والجهال غالبًا، بل النفوس إلى الرخص والبطالة واللهو أميل كما قيل شعرا:

داعيات الهوى يهون علينا

وخلاف الهوى علينا ثقيل

مع نفوس لا تنثني عن هواها

الفتنة رواحها والمقيل

ولا تثن عزمها عنه يومًا

عنده يستقبلها المستقيل

كيف هذا وقد تمكن منها

شهوات [ق 109 /أ]

.........

.........................................

(3)

كخيل

ترتمي في الهوى إذا ما دعاها

عند لهو تراه حسنًا جميل

فارهبوا من نفوسكم واحذروها

أن تميلوا إلى هواها المميل

فهي أعدى عدوكم فاتقوها

قبل تلقونها بها البكاء والعويل

فمطيع الهوى غدا سوف يلقى

في عذاب الجحيم [حز] نا طويل

(1)

من الشهوة

(2)

ذكره الماوردي في "أدب الدنيا والدين"(ص/33) بدون إسناد.

(3)

بالأصل مقدار سطر لم يظهر في التصوير.

ص: 241

وعلّة هذا القول أن الثقيل تبطئ النفوس عن التسرع إليه، فيتضح مع الإبطاء وتطاول الزمان صوابُ ما استعجم وظهور ما اشتبه، والمحبوب السهل تُسرع النفس إليه وتعجل بالإقدام عليه فيقصر الزمان عن تصفحه ويفوت استدراكه؛ لتقضي فعله فلا ينفع التصفّح

(1)

بعد العمل ولا الاستبانة بعد الفوت، وأقول شعرا:

إذا فات المفات فلا رجوع

ويبقى من عواقبه الوجيع

ويبقى ردّه صعبًا عسيرًا

وفي عُقباه عبرته نجيع

وليس يردّ ما قد فات يومًا

خميس كلّه بطل شجيع

أليس طِلاب ما قد فات جهل

وذكر المرء ما لا يستطيع

فلا تك غافلاً عن كلّ خير

وكن لله في الدنيا مطيع

(2)

ولا تطع الهوى ودع الأماني

ونفسك في هواها لا تطيع

وكن بالعمر في الدنيا ضنينًا

ولا أيامه لهوًا مطيع

فعمرك رأس مالك فاستفده

ووقتك لا تضيّعه بما

(3)

تضيع

وكن حذرًا [ق 109 / ب] وقوفك في ميعادٍ

بيوم قد يشيب له الرضيع

وقد روينا عن رسول الله عليه السلام: "أفضل الأعمال ما خولفت عليه النفوس"

(4)

، وأقول شعرا:

ألا قل لمن يهوى ورود المناهل

على كلّ ما يهوى النفوس نباهل

يبلغ جهلاً نفسه كلما اشتهت

وسحقًا لتباع النفوس الجواهل

إذا طالبته النفس يومًا بشهوة

تساهل ما يهوى بكلّ التساهل

أطاع الهوى طوعًا ولم يعص نفسه

يسارع ما تهواه لا بالتماهل

إذ المرء أعطى نفسه كلّما اشتهت

ولم ينهها تافت إلى كلّ باطل

إذ نفسه لم ينهها عند غيّها

وطوّل نهيًا نفسه بالتماطل

إذا طعمت فيه أماتت حياته

وعامره ما كان حيا بعاطل

وساقت إليه الإثم والعار للذي

دعته إليه من حلاوة عاجل

فكن حذرًا منها على كلّ حالة

وإيّاك أمرًا أنت [منه] بخاجل

(1)

قال الزبيدي في تاج العروس مادة: ص ف ح: " وَفِي (الأَساس): تَصفَّحَه: تَأَمَّله ونَظَرَ فِي صَفَحَاتِه: والقَوْمَ: نَظَرَ فِي أَحْوَالِهم وَفِي خِلالِهم، هَل يَرَى فُلاناً. وتَصَفَّحَ الأَمْرَ. قَالَ الخَفَاجيّ فِي العِناية فِي أَثْنَاءِ القِتَال: التَّصفُّحُ: التَّأَمُّلُ لَا مُطْلَقُ النَّظَرِ، كَمَا فِي (الْقَامُوس) قَالَ شيخُنا: قلت: إِن النّظر هُوَ التأَمُّل، كَمَا صَرَّح بِهِ فِي قَوْلهم: فِيهِ نَظَرٌ".

(2)

في الأصل: تطيع، ولعل الأصوب: مطيع، وحذفت الألف للقافية، كما أنها لغة، والله أعلم

(3)

الأولى حذفها لاستقامة الوزن.

(4)

أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(ص/123)(113) من قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بلفظ: "ما أكرهت"، وقال العراقي في "تخريج الإحياء":"لا أصل له مرفوعا".

ص: 242

ألا فإن لم يتبيّن لكم في ذلك شيء فاتركوا كلا الأمرين الذين اختلف فيها؛ لأنهما من المتشابهات وقد قال الله عز وجل {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن النّاقد ابنا أبو طالب قال: قال عبد السلام لأبي عبد الله [ق 110 /أ] هو الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه أنّ بطرسوس رجلاً قد سمع رأي عبد الله بن المبارك يفتي به قال: هذا من ضيق علم الرجل تقلّد دينه رجلاً لا يكون واسعًا في العلم، فقال عبد السلام: ذهب إليه أبو بكر فقال: إذا جاءك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر وجاء عن سفيان وابن المبارك بأيّهما تأخذ؟ فقال بخبر ابن المبارك وسفيان، فقال: لو أمكنني لضربتك بالسيف حتى أقتلك ونحو هذا فقال أبو عبد الله سبحان الله واستعظم قوله أخذ بقول ابن المبارك واترك قول النبي عليه السلام قال له الشامي القتل بمرة لو كان قال غير هذا، فقال أبو عبد الله تنكر عليه يدع حديث رسول الله عليه السلام ويأخذ بقول ابن المبارك وسفيان، وقد قال الله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فمن ردّ حديث رسول الله عليه السلام أيكون مؤمنًا وهو قد كفر في بعض حالاته وأيّ شيء شرّ من رجل يردّ على رسول الله عليه السلام حديثه، وابن أبي ذئب رحمه الله بلغه أنّ فلانًا

(1)

رحمه الله لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار"

(2)

، فقال يستتاب وإلا ضربت عنقه.

(1)

المقصود هنا هو الإمام مالك، وهو لم يرد الحديث بل تأوله كما سيذكر المؤلف في تتمة هذا الأثر.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(3/ 58)(2079)، ومسلم في "صحيحه"(3/ 1164)(1532) من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مطولا به.

ص: 243

هذا حديث مستفيض بالمدينة عن رسول الله عليه السلام لا يأخذ إن تاب وإلا ضربت عنقه وفلانًا [ق 110 / ب] رحمه الله لم يردّ الحديث إنّما تأويله على غير ذلك، فقال له الشامي: من أعلم فلان أو ابن أبي ذئب قال: ابن أبي ذئب في هذا أكثر من فلان وابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع وأقوم من فلان بالحقّ عند السلاطين وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر، فلم يهبه أن قال له الحقّ قال: الظلم فاش ببابك، وأبو جعفر أبو جعفر، وقال حماد بن خالد: كان يشبه ابن أبي ذئب سعيد بن المسيب في زمانه [وما كان ابن أبي ذئب] وفلان رحمهما الله عند السلطان، وكان ابن أبي ذئب إذا تكلّم بالحقّ والأمر والنهي وفلان رحمه الله ساكت، وإنّما كان يقال ابن أبي ذئب وسعد بن إبراهيم أصحاب أمر ونهي، قلت: ما يقول أحد في حديثه شيئًا – يعني سعد بن إبراهيم- فقال: كان ثقة في حديثه ورجلاً صالحًا ورعا صدوقًا

(1)

. قال له الشامي: رأيت يزيد بن هارون جاء والإمام يخطب ولم يصلّ ركعتين، فقلت له: أليس حدثتنا بحديث جابر عن النبي عليه السلام "إذا جاء الرجل والإمام يخطب فليصل ركعتين"

(2)

وأنت لم تصلّ، فقال: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو حقّ، فقال أبو عبد الله: ليس قول يزيد قرآنًا، فقد ردّ على النبي عليه السلام حديث؛ حيث لم يعمل به. وفيه أن سعيد بن جبير حدّث بحديث النبي عليه السلام، [ق 111 /أ] فقال له رجل: أليس قد قال الله عز وجل في كتابه كذا وكذا؟ قال: "أحدثك عن رسول الله وتقول قال الله في كتابه كذا وكذا كان رسول الله عليه السلام أعلم بكتاب الله منّي ومنك"

(3)

،

(1)

ذكره أبو يعلى في "طبقات الحنابلة"(1/ 251)، والذهبي في "تاريخ الإسلام"(9/ 602).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(2/ 57)، ومسلم في "صحيحه"(2/ 596)(875) من طريق شعبة، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه مطولا بنحوه.

(3)

صحيح - أخرجه الدارمي في "سننه"(1/ 475)(610)، واالآجري في "الشريعة"(1/ 417)(99)، وابن بطة في "الإبانة"(1/ 248)(81)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 200)(350) من طريق حماد بن سلمة عن يعلي بن حكيم عن ابن جبير به، ورواته ثقات، وصحح إسناده الشيخ حسين أسد ..

ص: 244

وفيه قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فإذا اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام وعليهم، فهل يجوز لرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار؟ قال: لا إلا على الاختيار، وقيل له: كيف يختار؟ قال: ينظر إلى أقرب الأقوال إلى الكتاب والسنّة وفيه أنّ مجاهدا والشعبي رحمهما الله قالا: إذا اختلف الناس فانظروا ما قال عمر فخذوا به

(1)

، وفيه أن الإمام أحمد قال: من ردّ حديث رسول الله عليه السلام فقد هلك، والذي يجب عليه: العمل بحديث رسول الله عليه السلام إذا صحّ عنده وإنّما يصحّ الحديث بصحة إسناده وثقة رواته

(2)

، فإذا كان هكذا وجب العمل به ولمن قلد الخبر أن يسلم، وفيه أنّ الإمام أحمد قال: إنّ الإتباع أن يتّبع الرجل ما جاء عن النبي عليه السلام وعن أصحابه وهو في التابعين بعد مخيّر، وفيه أن الإمام أحمد قال: ما تصنع بالتابعين مع أصحاب النبي عليه السلام، وفيه أن الإمام أحمد كان يذاكر رجلاً فقال الرجل: قال عطاء، وقال عطاء فأخذ الإمام أحمد نعله وقام وقال: أقول لك قال ابن عمرو تقول قال عطاء [ق 111 / ب] من عطاء ومن أبوه، وصفق الباب ودخل. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الحديثين يجيئان عن النبي عليه السلام مختلفين بإسناد صحيح، فقال: إذا تكافئا ينظر إلى ما عمل به أو قال إلى ما فعل به الخلفاء بعده وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم -وفي لفظ- قال ينظر إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله عليه السلام ويؤخذ به. وفيه أنّ ابن سيرين رحمة الله عليه كان إذا سمع الحديثين المختلفين عن النبي عليه السلام أخذ بما صنع عمر رضي الله عنه، وفيه عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قيل له: إن بعض من يقول أنّ أصحاب رسول الله عليه السلام إذا اختلفوا فلي أن أخرج من أقاويلهم واختار أنا أيضًا، فقال الإمام أحمد: هذا قول خبيث قول أهل البدع ليس لأحد أن يخرج عن أقاويل أصحاب رسول الله عليه السلام وإن اختلفوا، وفيه قال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد حدثني أبي أبنا مؤمل أبنا ثنا حماد بن زيد عن علي عن الحسن

(3)

(1)

ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين قول مجاهد بنحوه، وذكر قول الشعبي بلفظ:" قال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء فيأخذ بقول عمر".

(2)

بالأصل: " وثقاته".

(3)

بالأصل: "الحسين"، والتصويب من المسند ..

ص: 245

عن عمران بن حصين قال: "نزل القرآن وسنّ رسول الله عليه السلام [السنن]، ثم قال: اتّبعوا فوالله إن لم تفعلوا تضلّوا"

(1)

، وقال الخلال: أخبرنا يحيى ثنا عبد الوهاب أنا داود عن الشعبي وقال: قال [ق 112 /أ] شريح رحمه الله: "إنّ الله عز وجل سنّ سننًا، وإنّ الناس ابتدعوا بدعةً فخلطوا بدعهم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سئلتم عن شيء من ذلك فميّزوا السنن على وجهها وردّوا البدع على أهلها"

(2)

، وفيه أنّ أبا الخلال قال: سمعت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد بن حنبل- يقول وذكَرَ أهل الرد

(3)

وردّهم الحديث واستعمالهم القياس، فقال الخبر عن رسول الله عليه وسلم صحيحًا، ونقله الثقات فهو سنّته ويجب العمل به على من عقله ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياسٍ إذا كان الحديث نقي الإسناد، وفي الحديث ما يغنيك عن القياس"، وقيل له الرجل يعرف الحديث وطرقه ولا يذهب إليه، قال: "لا يقال لهذا صالح ولا كرامة طاعة رسول الله عليه السلام في كتاب الله عز وجل في ثلاثة وثلاثين موضعًا". ألا أيّها الناس فاعتبروا تدبّروا ما ذكرناه، فإذا كان هذا حال قوم يعارضون قول رسول الله عليه السلام بقول الله عز وجل أو بقول أصحاب الرّسول أو يعارضون قول الصحابة بقول

(4)

التابعين، فصحّ بيقين لا شك فيه أن قومًا يعرضون

(5)

ما أقرأُ عليهم على أقوال [ق 112 / ب] أقوام من رؤسائهم وساداتهم وعلى أفعالهم أنّهم على {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]، وأقول شعرا:

أهل التصوّف أفٍّ من ديانتكم

فإنّ دينكم دين الزرادير

(6)

أكل وشرب ورقص واستماع غنا

ماذا تركتم لأصحاب المواخير

(7)

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه أحمد في "المسند"(33/ 203)(19998)، وقال الشيخ الأرناؤوط:" إسناده ضعيف، مؤمل - وهو ابن إسماعيل- سيئ الحفظ، وعلي بن زيد- وهو ابن جدعان- ضعيف، والحسن - وهو البصري- لم يسمع من عمران".

(2)

صحيح - أخرجه سعيد بن منصور قي "سننه"(1/ 430)(1665)، وابن ابي شيبة في "مصنفه"(4/ 92)(18140) من طريق داود بن أبى هند عن الشعبي عن شريح مطولا به، ورواته ثقات.

(3)

بالأصل: "الراد".

(4)

في الأصل: " بعد".

(5)

بالأصل: " يعارضون".

(6)

كذا بالأصل.

(7)

قال ابن الجوزي في "غريب الحديث"(2/ 347): (قال الليث الماخور مجلس الريبة ومجتمعه).

ص: 246

بعتم دينكم بخسًا بمأكلة

من الطعام ورقصًا كالمساخير

جعلتم رقصكم أعلى عبادتكم

ورنة الدف معه صوت المزامير

تشمصون

(1)

إذا قام السماع لكم

مثل البهائم مع صوت الصفافير

وتزعمون بأنّ الحقّ مذهبكم

وكذبتم وكفرتم بالمقادير

تركتم سنّة المختار واضحة

لم تتبعوها وعنها بالكواسير

ثم اتفقتم على الأهواء كلّهم

في لذّة اللّهو إثم بالنحارير

خالفتم سنّة الهادي بفعلكم

مثل الفسافس

(2)

شدّو بالزنانير

وأقول:

أيا من يبتغي اللّهو

على الرقص له حرص

أباع الدين بالبخس

إذا الشهوات يختصّ

أضاع العمر في لهو

على آثاره القصّ

إذا ما شاهد القصا

ص في اللهو لهم رص

كما البنيان مرصوص

غدا في الحجر الجصّ

إذا ما ذكر الرقص

غدا وافيه مختصّ

تركت الرقص عن علم

لأن الرقص في نقص

وهل يرقص يا قوم

سوى [ق 113 /أ] مبتدع لصً

وهل يرقص ذو لبّ

وما جاء به النص

وأقول:

يا من يروم الأنام بخربة

في بلد فداخله وطنا

في النّاس أخلاقهم وطبعهم

في بلدة يبتلي بها القطنا

نراه ما بيننا يمرّنا

بعينه وآرنا مخالطنا

اسمع يقينًا وكن على ثقة

ثم افهم القول لا تبالطنا

(3)

شر الورى يا أخي وأحمقهم

تراه إن كنت عاقلاً فطنا

كلُّ عتلّ كأنّه وعل

قد عظمت بطنه وقد سمنا

خال من العلم شيخ طائفة

قد جعلوه ما بينهم وثنا

وأقول:

قد نصبوه شيخًا لقدوتهم

به فضلّوا وخالفوا السننا

دينهم الرقص والغنا لقد

ضلّوا بهذا وفارحوا

(4)

الفتنا

عدوي كف عن لومي عدوّي

فإنّي عنك مشغول بسؤلي

ولا تلقي بنفسك في جحيم

أعدّت للمضل عن السبيل

أَيا جِيَل التصوّف شر جيل

لقد جئتم بأمر مستحيل

غدا من دينكم أكل وشرب

ورقص في البيوت والحقول

أفي القرآن قال لكم إلهى

كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

أم الأخبار تنبئكم بهذا

من النصّ الصحيح عن الرسول

فلا والله ما هذا طريق التّـ

ـعبّد والمراد إلي الوصول

(1)

قال الفيروزآبادي في "القاموس المحيط": شَمَصَ الدَّوابَّ: طَرَدَهَا طَرْداً نَشيطاً أو عنِيفاً، والشُّماصُ، بالضم: العَجَلَةُ.

(2)

الفسفاس الشديد الحمق كما جاء في المعجم الوسيط.

(3)

قال الأصفهاني في "الأغاني": " قال إسحاق: المبالطة: أن تنشد أول الشعر وآخره ".

(4)

كذا بالأصل، ولعلها:"وقارعوا"، والله أعلم.

ص: 247

ولكن بدعة ظهرت وشاعت

لأرباب الجهالة والفضول

فإن لم تسمعوا منّيّ مقالي [ق 113 / ب]

فإنّ الله فوقكم وكيلي

(1)

فصل

وقد استدلّ كثير من شيوخهم أيضًا على إباحة الرقص واستماع الأغاني بالطفل الصغير وبالجمل، فقالوا إن الجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة إذا سمع الحداة يصغي لذلك عنقه ويقوي على حملِه، وكذلك نحن نسمع الغناء والشبابة والرقص حتى نقوّي على طاعة الله تعالى وعبادته. وقال بعض العلماء: فلان كان كلّما أطرب البهائم مندوبًا إليه أو مباحًا فإنّا نرى البهائم تنزوا على امتهانها، فليقتدوا بالبهائم في هذا. قلت: وفيهم من فعل ذلك أذكره فيما بعده إن شاء الله تعالى، وقد روي أن بعض ملوك المجوس غلب على نواحي البصرة، فكان يعطي المجوس ضعف ما يعطي المسلم، فجاء أعرابيّ يقود حمارًا له، فأعطاه جائزته

(2)

، فقال: أيّها الأمير اضعف العطاء لحماري، قال: ولِمَ؟ فقال: لأني رأيته آنفًا ينزوا على أمه، وقال ذلك لأنّ المجوس يقولون بنكاح الأمّهات فكأنّه قال: اضعف العطاء لحماري فإنه على مذهبكم وقد صحّ أن في هذه الطائفة من يقولون بنكاح الأمّهات والبنات والإخوان والدّليل على صحة ذلك أنّ هذا من سنن [ق 114 /أ] من كان قبلنا من المجوس وغيرهم، وقد صحّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من يأتي أمّه علانية لكان في أمّتي من يفعل ذلك"

(3)

، وقال:"إنّكم لتركبنّ سنن من كان قبلكم" - وفي لفظ: "حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدَخلتم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "

(4)

(1)

بالأصل: "وليكي".

(2)

في الحاشية: "أي وظيفته".

(3)

حسن لغيره - أخرجه الترمذي في "سننه" 5/ 26) (2641)، وابن الوضاح في "البدع"(2/ 167)(250)، والطبراني في "الكبير"(13/ 30)(62)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 218)(444)، وغيرهم، من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عبد الله بن يزيد المغفري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مطولا به، وإسناده ضعيف لضعف ابن زياد، وهو الأفريقي، والحديث له طرق وشواهد يتقوى بها وسيأتي بعضها.

(4)

حسن - أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(ص/36)(73)، والمروزي في "السنة"(ص/19)(48)، والكلاباذي في "معاني الأخبار"(ص/147) من طريق أبي حازم عن عمرو بن شعيب عن أبي عن جده مطولا به، وإسناده حسن ..

ص: 248

-وفي لفظ "ليأخذ أمّتي ما أخذ الأمم والقرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع"، قيل: يا رسول الله [كـ]ـما فعلـ[ـت] فارس والروم؟ فقال رسول الله عليه السلام: "ومن الناس إلا أولئك"

(1)

، قال أبو محمد الدشتي رحمة الله عليه: فعلمنا بيقين لا شك فيه أن هذه الأمّة قد أخذت ما أخذ الأمم والقرون قبلها وكان فيهم بلا خلاف منّا من يقول بنكاح الأمّهات والبنات والأخوات، وهذا مستحيل أن يقول بذلك أحد في هذه الأمة غير الرقاصين الذين تشبّهوا بالعبّاد؛ لأنّا لم نجد في الأديان السالفة والمذاهب المخالفة إلى يومنا هذا من بدّل الدين وغيّر ما جاء به نبيّهم واتبعه على ذلك الجهّال المعاندون إلاّ الملوك والعلماء والعبّاد الحائدين. كما روي عن [ق 114 / ب] ابن المبارك رحمه الله أنه قال شعرًا:

ألا قل لمنتقد ديننا

بأمّتنا طلب أعيانها

لها ناقدا ما أذانت به

إذا انتقد العلماء أديانها

يميّز من زيغها ما اهتدت

لدى زايغيها ودريانها

ويفرق بين الهدى والضلا

ل بعلم هداها وغيّانها

بميزان علم تربص غدًا

يقوم في ذلك أوزانها

فخذ بيقين لما غيرت

ملوك وعبّاد عزانها

(2)

وهل غير الدّين إلاّ الملو

ك وأحبار سوء ورهبانها

لقد رتع القوم في جيفة

يبينُ لذي العقل إنتانها

وباعوا النفوس ولم يربحوا

ولم تغل في البيع أثمانها

(1)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(9/ 102)(7319) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(2)

كذا بالأصل.

ص: 249

وهذا شيء لا يقبل العقل أن يكون ذلك في مذهب ملوك الفجرة ولا في مذهب علماء السوء وقد صحّ أنّ هذا في مذهب طائفة من الجهّال تشبّهوا بالعبّاد أصحاب الرقص والغناء وهم قوم يقال لهم الروحانية وهم زعموا أن حبّ لله تعالى تغلب على قلوبهم وأهوائهم وإراداتهم حتى يكون حبّة أغلب الأشياء عليهم، فإذا كان الله عز وجل عندهم كذلك كانوا عنده بهذه المنزلة وقعت لهم الخِلة

(1)

من الله عز وجل فحلّ لهم الزّنا والسرقة والشرب [ق 115 /أ] ونكاح الأمّهات والأخوات والبنات والفواحش كلّها على وجه الخلة التي بينهم وبين الله عز وجل لا على وجه الحلال، ولكن على وجه الخلّة كما يحلّ للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه ذكر ذلك الإمام الحافظ خشيش بن أصرم

(2)

في كتاب الاستقامة، وقال: فافترقت الزنادقة إلى خمس فرق وافترقت منهم فرقة إلى ستّ فرق وهم الروحانية، وذكر صفاتهم كما

(3)

(1)

بالأصل: " الخِلعة".

(2)

هو الإمام، الحافظ، الحجة، مصنف كتاب "الاستقامة " فى السنة والرد على أهل البدع والأهواء، أبو عاصم النسائي. وكان صاحب سنة وإتباع. وثقه: النسائي وله رحلة واسعة إلى الحرمين ومصر والشام واليمن والعراق. توفي: في رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين، بمصر. وترجمته في السير (12/ 251)(92) تاريخ الإسلام (6/ 78)(194) الأعلام (2/ 306).

(3)

بالأصل: "بما" ..

ص: 250

ذكر صفة كلّ فرقة، فمن وقف على ما وصف العلماء من وصف فرق الزنادقة، تبيّن له أنّ هؤلاء الموصوفين على ما ذكرنا من صفة الزنادقة الذين إذا تابوا يقتلوا ولم تقبل توبتهم على مذهب الإمامين مالك وأحمد رضي الله عنه وبعض أصحاب الشافعي رحمه الله عليه

(1)

، فمن أهل الرقص والغناء خرج المباجتة

(2)

والحلولية تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، ولقد أحفظني ما أراهم عليه من التجرئ على الله تعالى وعلى رسوله عليه السلام حتى لقد صرتُ لا آوي إلى قول قائل ولا ألوى على عدل عادل وأنا في ذلك كما أقول شعر:

خلياني

(3)

والعذل يا عاذلاني

وذراني أذري دمًا الأجفان

فإذا أنفذ البكاء دموعي

ودمي فابكيان بالمسعدان

وتعالوا لندب

(4)

الدين وابكوا

المصاب نلقى [ق 115 / ب] من الفرعان

امم ما لهم من الذكر إلا خش

يا رؤس بالفرحان

(1)

قال العلامة الشنقيطي في " دفع إيهام الاضطراب"(ص: 49): (اختلف العلماء في توبة الزنديق أعني المستسر بالكفر، فمن قائل لا تقبل توبته، ومن قائل تقبل، ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأن الذين يقولون يقتل، ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة، واستدلوا بقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] فقالوا: الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه؛ لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه:"هلا شققت عن قلبه"، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال:"أليس يصلي؟ " قال: بلى. قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم"، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة:"إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس" وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر

).

(2)

كذا بالأصل، والصواب:" المباحية" وهم قوم من الملاحدة، قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" (8/ 457):"المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقا ويحتجون بالقضاء والقدر".

(3)

كذا بالأصل، ولعلها:" خليلاني".

(4)

كذا بالأصل، ولعلها: لنندب؛ للوزن.

ص: 251

واقتصاف

(1)

الخمور من ورق القنب

قربانهم إلى الرحمن

صدّهم عن تلاوة الذكر أيضًا

واستماع الحديث صوت الأغاني

فالبطلان دينهم وهواهم

حيث كانت مرابع المردان

وإذا حلّ ذكرهم بين قوم

أخربت أرضهم من البنيان

إنما الرقص والسّماع لشيء

محدث في فعائل الشيطان

يترامى إليهما أرذل

العالم قوم صم بلا أذهان

ليس لي صالح تسر به النفس

سوى بغضهم بكلّ مكان

(1)

كذا بالأصل.

ص: 252

فصل

وقد استدلّ جماعة من شيوخهم على إباحة الرقص واستماع الغناء، بما روي أن بعض ملوك العجم مات وخلف ابنًا صغيرًا فأرادوا أن يبايعوه، فقالوا: كيف نصلّ إلى عقله وذكائه فتوافقوا على أن يأتوا بقوال فإن أحسن الإصغاء إليه علموا كياسته، فلما أسمعوه القوال ضحك الرضيع فقبّلوا الأرض بين يديه، [وبايعوه]

(1)

.

(1)

ذكرها ابن الحاج في "المدخل"(3/ 110).

ص: 253

فانظروا يا ذوي العقول والأبصار، وتدبّروا حال هؤلاء القوم كيف قادهم ركوب الهوى وعشق الباطل وقلّة الحيلة إلى هذه السخافة وحسبك في مذهبهم أن يكون [ق 116 /أ] إمامهم الأنعام والأطفال في المهود، وهكذا يفضح الله عز وجل من عاند الحق واتبع الباطل، وحسبك من عقول لا تقتدي بالأنبياء ولا بالرّسل ولا بأصحابهم ولا بخيار المسلمين من أئمتهم وعلمائهم المتّبعين للقرآن والأحاديث ويقتدي بالإبل والطفل الصغير بئس مذهب القوم ومذهب أوّليهم في نقل هذه الأدلّة وما تتضمّن من الخزي والنكال ما نستغني به عن الردّ عليهم وكفى بقوم خزيا ونكالاً وعمي وضلالاً أنهم استدلّوا بذلك على إباحة الرقص واستماع الغناء وتركوا ما يقال لهم من قول الله عزّ جلّ ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصّحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم رضي الله عنهم أجمعين

ولو أن هؤلاء القوم كانوا متبعين للحقّ وناصحين للخلق ويدعونهم إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنفوهم من بلد إلى بلد وطردوهم وهجروهم وضربوهم وبغضوهم وكثر أعدائهم ولا يحبّونهم ولا يتّبعونهم لما عليه أهل هذا [ق 116 / ب] الزّمان من خلافهم لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولخلاف ما في الكتاب والسّنة ولخلافهم لإجماع المسلمين وعلمائهم، وكيف يزعم عاقل يؤمن بالله وبرسوله أنّ هؤلاء القوم من أهل الدّين والصلاح مع مخالفتهم للكتاب والسنة ولمذهب أصحاب الحديث نعوذ بالله من ضلالتهم ومن سوء مذاهبهم ومن قبح أفعالهم، فليحذر امرئ أن يكون لهم أو معهم أو خدنًا لهم، فإنّه قد رُويَتْ فيهم أخبار وآثار وتكلّم العلماء فيهم بما قدر رأيناه وشاهدناه، فالله الله يا معشر المسلمين راقبوا الله عز وجل ّفي أنفسكم وبالغوا في النّصيحة والإشفاق عليها واحذروا مجالس مَنْ يلبس عليكم دينكم ويشكككم في ربّكم عز وجل وهم يتشبّهون بالعلماء وبالعبّاد، وقد اختلفت بهم الأهواء وسيرتهم المذاهب القبيحة والآراء غير الصحيحة، وأخذَت بهم الطرق الخبيثة إلى المهالك، فراغوا من سواء السبيل إلى حدود الضلال، فصاروا زائغين حلوليين وهم من شرار عباد الله ويتشبّهون بالصوفيّة ويظهرون الزهد والتقشف ويدّعون [ق 117 /أ] الشوق والمحبّة بإسقاط الخوف والرّجاء ويزعمون أنّ الله تعالى عز وجل معنا وحالٍ فينا ومباشر بذاته لنا مبتدعة ضلال يحضرون مجالس التغبير ويرقصون ويتلذّذون

ص: 254

بالنظر إلى من حرّم الله عليهم واستماع ما لا يجوز استماعه، فيطربون ويصفقون ويتغاشون ويتماوتون وأكثرهم قد افتتن بالقتل والولوع بالكبائر

ويزعمون أنّ ذلك من حبّهم لربّهم وشدّة

(1)

شوقهم إليه، وإن قلوبهم تشاهده ببصائرها وتراه بتخييلها افتراءً على الله عز وجل ومخالفة لكتابه وسنة نبيّه، و [ما] كان عليه السّلف الأوّل والصالحون من العبّاد، وليس لهم حجّة فيما يدّعون ولا إمام من العلماء فيما يفعلون. يسمعون كتاب الله تعالى من الشيوخ وأهل الديانة ويسمعون أخبار رسول الله عليه السلام وكلام الحكماء، فلا تبهش لذلك نفوسهم

(2)

، ولا يظهر منهم بعض ما يظهرون عند استماع الغناء والقصائد والرباعيات ومجالس الأحداث وما قد جعلوه دينًا ومذهبًا وشريعة متبعة، فنعوذ بالله من وحشة من يظهرون وقبح ما يخفون. اعلموا يا إخواني وفقنا الله وإيّاكم للإتباع أنّ الرقص والاستماع [ق 117 / ب] إلى الغناء لهو ولعب من شعائر الصغار لا يشاركهم أحد من الكبار سوى طائفة سفل من الأغمار فتبًّا لقوم اتّبعوا الصغار اللاتي هنّ من الجوار، ولم يتّبعوا نبيّهم وصاحبه في الغار حين أنكر عليهنّ ما يعلمه من النبي المختار، وإنّ ذلك مسمّى بالمزمار، ويدعوا إليه قوم من الجهلة الفجّار الذي من فعل ذلك منهم فهو في عقله كالحمار حين شبع من الشعير، وروي من ماء الأنهار، فانظروا يا أولي العقول والأبصار إلى مذهب هؤلاء الجهلة أخذوا عن الأشرار وتركوا مذاهب الرّجال الذين عندهم صحيح الفكر والأذكار، ومن ترك آثارهم فقد ترك الصحيح من الآثار ودعي حقيقًا من شرار الأنفار ومزقت عنه رداء الوقار وتقرّب إلى الصغار والاحتقار وتباعد عن طريق الرجال الذين صدقوا الله ما عاهدوه وأظهروا إلى مُغنيهم الفاقة والافتقار، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها بعين الاعتبار، وعملوا بصالح الأعمال على موافقة الكتاب والسنة بالتفقه والاختبار ويرث برقصه وما سمع صوت المزمار، واتخذ ذلك دينًا ومعتقدًا وأذهب فيه عمره في مجالسة السّمار، ثم دهمه الموت على غير توبة عندما انقضى أجل الأعمار قد على في بدعته الصوى

(3)

(1)

بالحاشية: أي حرص.

(2)

أي لا تبين فيه إرادة له.

(3)

الأعلام من الحجارة. انظر مختار الصحاح مادة (ص و ى) ..

ص: 255

والمنار غدًا يجاز عذابًا أليمًا في النار عشيّة ربّنا القادر الجبّار سواء عليه [ق 118 /أ] معذّبًا أجزَع أم كان من أهل الاصطبار وبك أستعين عليهم بأحسن الجواب ومَن ضوّأ قلوب أولياء بمصابيح الأنوار، فإن نصرتني عليهم فأنا المنصور في الإيراد والإصدار

(1)

كما قلت {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] وأنت صادق القول يا ذا العزة والاقتدار، فإنهم على الخلاف في سائر الخلق بالأطوار وجميع ما هم فيه يؤول إلى البوار إن أقاموا عليه من غير توبة إلى ريب المنون الاستمرار وماتوا ولم يتوبوا أحلّهم جهنّم وبئس القرار، وهذا منتهى قولي في النصيحة لي وللمسلمين والانتصار بما جمعتُه من الصحيح على سبيل الاختصار، وأقول:

على ما هم عليه الفقراء

قد منعوا أجفانهم طيب الكرا

قد منعوها الكرا عبادة

وفي فنائه الدنيا أطالوا الفكرا

الفقراء قد جعلوا دنياهم ليلاً

ويوم الحشر صبحًا مسفرًا

قد قطعوا الليل على أقدامهم

حتى قضوا ممّن أحبوا الوطرا

فأصبحوا مستبشرين باللقاء

عند الصباح يحمد القوم السّرا

كأنّما الدّنيا كسوق قائم

هذا له الربح، وهذا خسرا

الفقراء كنتُ إذا رأيتهم

والله ما أشبع منهم نظرًا

واليوم إن أبصرتُ منهم فرقةً

فر منهم راجعًا إلى ورا

من دينهم أكل وشرب وغنا

بالملاهي

(2)

وقصهم

(3)

مشتهرًا

وكما

(4)

جاعوا وزاد جوعهم

تجمعوا ويعملون فاجرا

(5)

إن غلبوا شخصًا على ثيابه

قهرًا [ق 118 / ب] باعوا بما يُشترى

وأكلهم حشيشة تسكرهم

وكشفهم عوراتهم لمن يرى

ويخرجون شيخهم بحيلة على

كسرات تنال بالقرى

الفقرا ما

(6)

هذه أوصافهم

من اقتدى بفعل ذو الكفرا

(7)

فلا تكن مقتديًا بفعلهم كلاًّ ولا

تقرّب منهم فقرا

وكن عليهم منكرًا

في النكرا

الفقراء اشتغلوا بدينهم

عن الكلام والجدال والمرا

قلوبهم مشغولة بحبّهم

والناس في شغل ببيع وشرا

(1)

وفي الحاشية: أي رجوع.

(2)

كذا بالأصل، ولعلها "وبالملاهي"؛ للوزن.

(3)

كذا بالأصل، ولعلها "رقصهم"؛ للمعنى.

(4)

كذا بالأصل والأولى: "وكلما".

(5)

كذا بالأصل والأولى: "فجرا" بضم الفاء وتسكين الجيم لاستقامة الوزن.

(6)

كذا بالأصل ونرى أنها زائدة.

(7)

كذا بالأصل والصواب أن يقول: (بفعل ذوي البلى كفرا).

ص: 256

حدّثنا مسعود بن النصر المنيحي خادم الشيخ يعقوب الخرّاط رحمهما الله قال: كان الشيخ يعقوب رحمه الله ينكر على الفقراء والمشايخ من أهل السماع والرقص ويبغضهم ويشنأ

(1)

الجلوس إليهم وقال: احذر إن عشت بعدي أن تدخل عليهم فتهلك، قال: وكان الشيخ يعقوب يومًا جالسًا يذكر أهل السماع والرقص بذكر صفاتهم المذمومة في جماعة، فقال واحد منهم: يا سيّدي اترك هذا القبيل فما هم بشيء يرجعون عن هذا الفعل الذي يفعلونه قال الشيخ: صدقت ما لعود عن تلك إلا بعد اللتي واللتيا.

قال: ورأى الشيخ يعقوب رحمه الله في المنام في تلك الليلة كأنّه يتمشي في المرمنى عند باب العرق

(2)

قال: بينما أنا أتمشّى وإذا برجل قد أمسك بيدي وقال لي: عزمتَ على ترك مذمّة أهل السماع فلا تترك مذمتهم [ق 119 /أ] فقلت: من أنت وفقك الله؟ فقال: أما تعرفني! أنا أحمد بن حنبل، فجعلت أطيل النظر إلى وجهه، فقال: دع عنك النظر إلى وجهي واسمع منّي ما أقول لك، فقلت: ما تقول إلا خيرًا، فأخذ بيدي ومشى في خطوات فأوقفني على باب دار مشرع، فقال لي: ادخل أبصر مَنْ في هذه الدار، قلت: من في هذه الدار حتى أدخل عليهم، فقال: هم الذين كنتَ تذمّهم ادخل فأبصر صفاتهم وما هم عليه من النجس والإدبار، فتركتُه على الباب ودخلت عليهم فوجدت خلقًا منعصب بعضهم في بعض وبينهم تخت عالٍ وعليه امرأة وإلى جانبيها رجلين رجل عن يمينها ورجل عن شمالها، فلمًا رأتني المرأة قامت لي من دون الجمع كلّهم وقالت: إليّ عندي بعث، فقلتُ: أتعلمين من بعثني؟ قالت: نعم الإمام أحمد وهو على الباب والمرأة هي الدّنيا، ثم أشارت بيدها إلى الجمع وقالت شعرًا:

أما تراهم لديّا

وعاكفين عليَّا

دعوتهم فاستجابوا

مسارعين إليَّا

والكل مقرّ بحبّي

في جهره وخفيا

مولعًا في هوانا

محبّة أي حفيا

أعمى أصم بحبّي

عن دينه مكتفيًا

خلفًا أضاعوا فروضًا

كلفن من كان حيًّا

أباع الدين بخسًا

باللهو لا مستحيا

وقد أجابوا هواها

مستصرخًا ووحيا

واستحسنوا فعل قوم

اغترّوا بكأس الحميا

(1)

أي يكره ويبعض.

(2)

كذا بالأصل، ولعلها: العراق، والله أعلم.

ص: 257

قال: [ق 119 / ب] ثم دفعت بكتفي وقالت: أخرج ما شئت أي قل في سبّهم ما شئت ولا تترك مذمتهم، قال مسعود: وبعد هذا أنشد الشيخ يعقوب الخراط رحمهما الله في ذمّ أهل الرقص والسماع وفي قبح أفعالهم من البدعة والمزدقة

(1)

أكثر من ثلاثمائة بيت وآخر ما قال فيهم:

يا من أصاغ يسمع

لما أقول وعيا

فيما أذمّ لقوم

ضلالهم مسقيا

لولا أغار عليهم

قد كنت عن ذا غنيا

ما جئت بدعا بقولي

كلا ولا مفتريا

وأنفقت مالك فيه

والمذهب الحنفيا

ثم الإمام محم

مدٍ الشافعيا

ثم الإمام بأحـ

مد الحنبليا

أئمة الدين فينا

كلّ بهم مقتديا

وبإتباع هداهم

يهدي بنا المهتد يا

في ديننا كلّ بصرّونا

ما يقتدي المقتديا

تلك الأئمة والوا

محمداً الهاشميا

حاشاهم ثم حاشا

من حائد ووهيا

ألا قل شيخك قولاً نصوحًا

وحق النصيحة أن تستمع

أجبني بفضلك عما أقول

فذا الحق ليس له مندفع

أهل يأكل العبد أكل البعير

ويرقص في الجمع حتى يقع

وقالوا سكرنا بحب الإله

وما أسكر القوم إلا القصع

كذلك البهائم إذا أخصَبَتْ

يُنَفِّرها رِيها والشَّبَعْ

وقد زعموا أنّه قربة

فبال الرجال لهذا الخدع

وقد جعلوا شيخهم قبلة

وكلّ له ساجد قد ركع

ركوع سجود له والطبيخ

وكلهم في [ق 120 /أ] خشوع خضع

وقد رقصوا في بيوت الآله

فإنا إلى الله ما نرتجع

تهان مساجدنا بالغنا

وتكرم عن مثل هذا البيع

متى سمع الناس أن الغنا

على دينهم سنة تتّبع

وما شرع الرقص للناسكين

نبيّك أحمد فيما شرع

ولا كان من قبل للصالحين

بيوم على طرب مجتمع

ولكن على سنة تستفاد

وإيضاح علم به ينتفع

ولو كان طاوي الحشا جائعًا

لما دار من طرب واستمع

(1)

والمزدقة؛ نسبة إلى فرقة المزدقية، قال ابن حزم في "الفصل" (1/ 36):"المزدقية وهم أَصْحَاب مزدق الموبذ وهم القائلون بالمساواة فِي المكاسب وَالنِّسَاء".

ص: 258

وقد تقدم الرّدّ عليهم بإباحة الغناء والاستماع إليه بحديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ من جوار الأنصار تغنّيان. الحديث

(1)

، والكلام عليه في ذكر رسالة أرسلتُها إلى قاضي حماه ولله الحمد والمنّة، ألا فهذا ما ذكرناه على الاختصار دون الإكثار وحذفت الأسانيد عدولاً عن الإكثار للآثار ليسهل على من قرأه ولا يملّ من استمع إليه ووعاه. واستمعوا الآن رحمنا الله وإيّاكم فصلاً ثانيًا في جواب سائل آخر يسأل

(2)

فيمن يستمع الغناء والشبابة والدفّ ويتواجد حتى أنه يرقص هل يحلّ ذلك أم لا مع اعتقاد أنه محبّ لله عز وجل، وأن سماعه ورقصه وتواجده في الله تعالى وهل يحلّ استماع الشعر بالألحان في الأماكن الشريفة مثل المساجد وغيرها، فجوابه أن يقال [ق 120 / ب] له: هذا كلّه من الحوادث والبدع وأنّ فاعل هذا إن رآه حقًا

(3)

فهو كافر حكمه حكم المرتد وإن رآه باطلاً فهو فاسق

(4)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

وقد وجه هذا السؤال لموفق الدين أبي محمد ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620 هـ وقد نقله المؤلف هنا ولم ينسبه مع بعض التصرف، وقد سبق وأن نقل المؤلف من هذا الجواب الكلام على التغبير. وقد وقفت على نسخة من جواب ابن قدامة مكونة من أربع ورقات في كل ورقة 24 سطر بمقاس 31 × 21 سم وهي نسخة جيدة حديثة نسخت في تاريخ 1360، وخطها نسخ حسن كتبها سليمان بن محمد بن علي المولود بمكة المكرمة عام 1323 هـ، وهي ضمن مخطوطات مكتبة جامعة الرياض تحت رقم 584.

(3)

أي اعتقده حلالا يتقرب به إلى الله تعالى بعد إقامة الحجة عليه.

(4)

وهذا التفصيل لم يذكره ابن قدامه في جوابه بل صدر جوابه بقوله: (فاعل هذا مخطئ ساقط المروءة، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع غير مقبول القول ومقتضي هذا أنه لا تقبل روايته لحديث رسول الله

) ..

ص: 259

مخطئ عاص لله عز وجل مخالف لأمره ساقط المروءة مردود العدالة والشهادة في الشرع غير مقبول [القول] ومقتضى هذا أنه لا يقبل روايته لحديث رسول [الله] ولا شهادته برؤية هلال شهر رمضان ولا أخباره الدينية، وأمّا اعتقاده محبّة الله عز وجل فإنه لا يمكن أن يكون محبًا لله سبحانه مطيعًا له، وهذا اعتقاده وفعله؛ لأنّ هذا معصية ولعب ذَمَّة الله عز وجل ورسول الله عليه السلام وكرهه [أهل] العلم وسمّوه بدعة ونهوا عن فعله ولا يتقرب إلى الله تعالى بمعاصيه ولا يطاع بارتكاب مناهيه ومن جعل وسيلته إلى الله تعالى معصيته كان حظه الطرد والإبعاد، ومن اتّخذ اللهو واللّعب دينًا وطاعة كان كافر كفرا يخرج به عن الإسلام، ويكن موصلاً إليه الكفر والحديث ووجب أن يكون من شرّ الأمور؛ لأن النبيّ عليه السلام قال:"خير الهدي هدي محمد وشرّ الأمور محدثاتها"

(1)

، وهذا منها بلا خلاف منّا، وقال النبي عليه السلام:"كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"

(2)

، وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي [ق 121 /أ] رحمة الله عليه ورضي الله عنه من تكلّم بكلام في الدّين وفي شيء من هذه الأحوال ليس له فيه إمام متقدّم من النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم، فقد أحدث في الإسلام حدثًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحد حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً"

(3)

، وفي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ولعن الله من آوى محدثًا"

(4)

(1)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 592)(867) من حديث جابر رضي الله عنه مطولا به.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه ..

ص: 260

ومعلوم عند ذوي العقول والبصائر أنّ من أحدث حدثًا أو ابتدع بدعة أنه أكبر جرمًا، وألعن وأضلّ ممّن آوى محدثًا وما سأل هذا السائل عنه حدث وبدعة عند أئمة الإسلام وعلمائهم، وأما تفصيل هذه المسموعات من الدّفوف والغناء والشبابات وسماع كلّ واحد منها بمفرده وغيرها من الرقص والبطالات لعب ولهو كلّها من المكروهات إن لم تكن من المحرمات والمحظورات، فمن جعلها دأبة واشتهر بفعلها في الجماعات أو أسماعها أو قصدها في مواضعها وقُصِد من أجلها فهو ساقط المروءة لا تقبل شهادته لا يعدّ من أهل العدالة، وأمّا فعله في المساجد فلا يجوز، فإن المساجد لم تبن لهذا ويجب صونها عما هو أدنى منه، فكيف [ق 121 / ب] بهذا الذي هو شعائر الفسّاق ومنبت النفاق وبالجملة إنّ رخّص في الشيء ممّا سأل هذا السائل اللاعب يعتقد لعبًا ولهوًا، فأمّا من يجعله دينًا أو طاعة أو يجعل استماع شيء منها أو فعل شيء منها قربة وطريقًا إلى الله تعالى فلا يكاد يوصله ذلك إلا إلى الشرك بالله عز وجل وإلى الكفر بعد الإيمان وإلى سخط الرحمن، وقد سبق القول بتحريم جميع ما سأل هذا السائل في أوّل كتابنا هذا وربّما انضم إلي ذلك من أدام النظر إلى المحرّمات النّساء أو إلى غلام جميل سلبه دينه ويفتن قلبه، ويخالف ربّه عز وجل في قوله:{يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] دليلاً على تسمّحه في المخالفة لقوله {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ولم يكن ذلك أزكى لهم ومن ابتلى بمخالفة أوّل الآية فليبادر إلى العمل بآخرها {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقد قال بعض التابعين:"ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار أكثر من الغلام يقعد إليه"

(1)

(1)

إسناده ضعيف - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/97)(133)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 285)(5013) عيسى بن عبد الله ، قال: أخبرنا بقية ، قال: قال بعض التابعين فذكره، وفيه بقية مدلس ولم يصرح بالتحديث كما أنه أبهم شيخه ..

ص: 261

وقال أبو سهل: "سيكون في هذه الأمّة قوم يقال لهم اللّوطية على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يذكرون، وصنف يعملون ذلك العمل"

(1)

. وعن الحسن بن ذكوان [ق 122 /أ] أنّه قال: "لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإنّ لهم صورًا كصور النساء وهم أشدّ فتنة من العذارى"

(2)

،

(1)

ضعيف - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/98)(135)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 287)(5019) عن الحسن بن يوسف ، قال: حدثنا بقية ، قال: أخبرني عبيد الله بن الوليد بن أبى السائب ، عن أبى سهل بنحوه، وإسناده ضعيف فيه بقية يدلس ويسوي ولم يصرح بالتحديث حتى نهاية السند، وشيخه لم أعرفه، وروى مرفوعا بنحوه عند الديلمي في "مسند الفردوس" فذكر ابن حجر في "الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس" من طريق أبي بكر المغراء، أخبرنا عبد الرحمن بن علي بن عبد الله بن حماد الصائغ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن تركان، حدثنا أبو الحجنا، حدثنا محمد بن جعفر بن علي الخوارزمي، حدثنا الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيكون في آخر الزمان أقوام يقال لهم اللوطية على ثلاثة أصناف، فصنف ينظرون ويتكلمون، وصنف يصافحون ويعانقون، وصنف يعملون ذلك العمل، فلعنة الله عليهم، إلا أن يتوبوا، فمن تاب تاب الله عليه ". وقال ابن حجر في "اللسان" في ترجمة الخوارزمي: " روى عنه أبو الحجنا محمد بن الحسين بن علي عشرة أجزاء كلها مناكير وموضوعات بأسانيد صحيحة. أفحش القول فيه علي بن محمد الميداني الحافظ وقال: كان يضع الحديث ويركب على الأئمة".

(2)

إسناده ضعيف جدا - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/99)(139)، وعنه البيهقي في "الشعب"(7/ 285)(5014) من طريق محمد والد ابن أبي الدنيا وسويد عن إبراهيم بن هراسة، عن عثمان بن صالح، عن الحسن بن ذكوان به، وفيه إبراهيم بن هراسة قال البخاري: تركوه، تكلم فيه أبو عُبَيد، وَغيره، وقال النَّسَائي: متروك، وقال أبو زرعة يقول: شيخ كوفي وليس بقوي، وسمعت أبي يقول: ضعيف متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان من العباد غلب عليه التقشف فأغضى عن تعاهد الحفظ حتى صار كأنه يكذب .. وروى مرفوعا بنحوه عند الديلمي في "مسند الفردوس" فذكره ابن حجر في "الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس" من طريق أبي بكر بن لال، حدثنا محمد بن علي الكرخي، حدثنا محمد بن عمير بن هشام، حدثنا الحسن بن جرير الصوري، عن عمر بن عمرو الكوفي، حدثنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه، قال ابن العراق في " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 214):"قال ابن عدي والبيهقي في سننه هذا موضوع وقال الذهبي في الميزان هو من بلايا عمر بن عمرو الطحان (خط) من حديث أنس بلفظ: "لا تجالسوا أبناء الملوك فإن الأنفس تشتاق إليهم ما لا تشتاق إلى الجواري العواتق" وفيه عمرو بن الأزهر (قلت) نعم أخرجه البيهقي في الشعب عن الحسن بن ذكوان قوله. وكأن أحد من ذكر رفعه وكتب له إسنادا والله أعلم". وقد علمت أنه لم يصح من قول ابن ذكوان أيضا.

ص: 262

ولا ينبغي لأحد أن يغتر بنفسه ولا يثق إلى ما يظنّ منها من صلابة دينه وقوّة إيمانه، فإنّ من خالف حدود الله تعالى ونظر إلى ما منعه الشرع من النظر إليه نُزعت منه العصمة ووكّل إلى نفسه وكيف يغتر عاقل بذلك وقد علم ما ابتلي به داود نبيّ الله وهو أعبد البشر من أهل زمانه ونبيّ من أنبياء الله تعالى يأتيه خبر السّماء وتختلف إليه الملائكة بالوحي، ومع ذلك وقع في الذنب بسبب نظرة نظرها

(1)

وبعض عباد بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين عامًا، ثم نظر إلى امرأة فافتتن بها وبرصيص العابد كان هلاكه بسبب النظر والنبي عليه السلام لعليّ رضي الله عنه "لا تتّبع النظرةَ النظرة، فإنّما الأولى [لك] وليس لك الثانية"

(2)

، وهو من سادات هذه الأمة ومحلّه من الدين والعلم والمعرفة بالله تعالى وبحقّه وبحدوده وحرماته بمكان، فمن أنت أيّها المغرور الجاهل بنفسه انظر أين أنت من هؤلاء المذكورين، وقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "ما تركتُ فتنةً بعدي أضرّ على الرجال من النساء"

(3)

[ق 122 / ب] وقد جاء في الأثر: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس"

(4)

(1)

يذكر المفسرون نحو هذه القصص عند قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) الآيات، وقال ابن كثير: " قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب إتباعه

".

(2)

حسن لغيره - أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 464)(2751)، والدارمي في "سننه"(3/ 1779)(2751)، وغيرهما من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه به، وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وللحديث شاهد من حديث بريدة عند أحمد وأبي داود يتقوى به.

(3)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(7/ 8)(5096)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 2097)(2740) من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه به.

(4)

ضعيف جدا ورد مطولا بنحوه عن جماعة من الصحابة: فورد عن ابن عمر عند أبي نعيم في "الحلية"(6/ 101) بسند فيه أبو مهدي سعيد بن سنان، قال عنه في "التقريب":" متروك، و رماه الدارقطنى و غيره بالوضع" .. ورواه القضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 196)(293) من طريق أبي حمد عبد الرحمن بن عمر التجيبي، أبنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا إبراهيم، يعني ابن سليمان، ثنا أرطاة بن حبيب، ثنا هشيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر مطولا بنحوه، وفيه إبراهيم بن سليمان ضعفه الدرقطني، وهشيم مدلس وقد عنعنه، وفيه أيضا عبدالرحمن بن إسحاق وهو الواسطي قال عنه الذهبي في "الكاشف" ك "ضعفوه"، وقال عنه ابن حجر:"ضعيف".

وورد من حديث حذيفة: فروى الخرائطي في "اعتلال القلوب"(ص/137)(273)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 349)(7875)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 195)(292) من طريق إسحاق بن عبدالواحد عن هشيم بنفس الإسناد السابق إلا أنه قال عن صلة عن حذيفة، وإسحاق بن عبد الواحد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه أبو على الحافظ النيسابورى: متروك الحديث. و قال الخطيب ـ بعد أن روى من طريق عبد الرحمن بن أحمد الموصلى عنه عن مالك خبرا باطلا ـ: الحمل فيه على عبد الرحمن، و إسحاق بن عبد الواحد لا بأس به. و قال صاحب " الميزان ": بل هو واه. وفيه أيضا عنعنة هشيم وضعف الواسطي كما سبق.

وورد من حديث ابن مسعود فروى الطبراني في "الكبير"(10/ 173)(10362) من طريق أحمد بن زهير التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرئ، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا هريم بن سفيان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود مطولا بنحوه، ومداره على عبدالرحمن بن إسحاق الواسطي أيضا.

وورد أيضا من حديث أنس عند ابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص/91) بسند فيه عبدالعزيز بن عبدالرحمن الجزري قال أحمد اضرب على احاديثه فإنها كذب أو قال موضوعه وقال النسائي ليس بثقة وقال الدارقطني منكر الحديث.

وورد من حديث علي عند الخرائطي في "إعتلال القلوب"(ص/137)(274) ومن طريقه ابن بشران في "أماليه"(ص/33)(24) بسند فيه عنبسة بن عبدالرحمن القرشي قال عنه الذهبي في "الكاشف": "قال البخاري: "تركوه". وقال ابن حجر: "متروك رماه أبو حاتم بالوضع".

وعليه فالنفس لا تطمئن إلى نسبة هذا القول للنبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 263

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان"، قلت: وزناهما النظرة"

(1)

، "وقال الفضل بن عياض رحمة الله عليه:"الغناء رقية الزنا"

(2)

، فإذا اجتمعت رقية الزنا وداعيته ورائده فقد كملت أسبابه. عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنّه قال: بلغني عن الثقات من حملة العلم وقد تقدم الحديث بطوله، فمن أراد النجاة غدًا والمصاحبة لأئمة الهدى والسلامةَ من طرق الردى والخلاص من أيدي العدا والخلود في النعيم الدائم أبدًا فعليه بكتاب الله عز وجل متّبعًا ما فيه رشدًا وليعمل بما فيه متّبعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولينظر ما كانوا عليه ولا تكن عنه من اعتدى من قولهم وفعلهم

(3)

، وليجعل عبادته واجتهاده على سننهم وسلوكهم في طريقهم فيما فرغ منه من كلّ عمل صالح وما فيه من الأعمال ابتدأ ولتكنّ همّته في اللّحاق بهم، فإن طريقهم الصراط المستقيم لمن اهتدى الذي علّمنا الله عز وجل سؤاله وجعل صحّة صلاتنا موقوفة على الدعاء به، فسحقًا

(4)

لمن كان عنه من البعد، فقال عز وجل في فاتحة كتابه [ق 123 /أ] إلينا ليلهمنا الهدى، ومن لم يترك الإنسان سُدى قوله عز وجل:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. وأقول شعرا

(5)

:

(1)

هذا الحديث له ألفاظ كثيرة، وأقرب الألفاظ لما ذكره الماتن ما رواه أحمد في "مسنده"(14/ 210)(8526) من طريق عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«لكل بني آدم حظ من الزنا، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القبل، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك، أو يكذبه» ، وأصل الحديث في صحيح البخاري (8/ 54)(6243)، وصحيح مسلم (4/ 2064)(2657) من حديث أبي هريرة بنحوه.

(2)

إسناده ضعيف - أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ص/55)(55) من قول الفضيل، قال محققه:"فيه الحسين بن عبدالرحمن الجرجرائي وهو مجهول الحال".

(3)

كذا بالأصل، وهي في فتيا ابن قدامة بلفظ:"فلا يعدوه بقول ولا فعل".

(4)

وبالحاشية: "أي بعد".

(5)

وهذا وتاليه مقحم في الفتوى وليس من نظم ابن قدامة.

ص: 264

(1)

من كان يرغب في النجاة فما له

غير إتباع الهاشمي المُنْتَجَب

(2)

مختار ربّ العرش ثم صحابة

ومن أتبعهم قاصدًا كسب

تابعا ومتابعًا تباعهم فهم

الهداة بديننا عند النجب

فاتّبع كتاب الله والسنن التي

صحّت عن المختار واجعلها السبب

ذاك الصراط المستقيم وغيره سُبل

تؤدّي للضلالة والتبب

(3)

ودع المرا ثم الجدال بديننا

بالكيف أو كم إذ هما باب العطب

فالدّين ما قال النبي المصطفى

وصحابه وسواه للنّار الحطب

فاتبع لما قال الهداة لنهتدي

بالاقتدا من ساجد فيما اقترب

واعمل على حكم الذي عملوا به

وعن المخالف أمرهم ممّن هرب

(1)

بالأصل زيادة كلمة: "يستحب" قبل بدابة هذه القطعة، والأقرب أنها مقحمة في النص.

(2)

أي المختار.

(3)

أي الخسارة الهلاك.

ص: 265

فمن شك أن البنيّ عليه السلام كان على

(1)

الصراط المستقيم فقد مرق من الدّين وفارق فريق المهتدين وخرج من جملة المسلمين وانتظم في عدّة المجرمين، ومن علم ذلك وصدّق به ورضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد عليه السلام نبينا، وعلم أنّ الله عز وجل قد أمر بإتباع رسوله عليه السلام بقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ق 123 / ب][الأعراف: 158]، وغير ذلك من الآيات وقول النبي عليه السلام:"عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدث بدعة وكلّ بدعة ضلالة"

(2)

، وقوله عليه السلام:"خير الهدي هدي محمد وشرّ الأمور محدثاتها"

(3)

فما باله يلتفت عن طريقه يمينًا وشمالاً، وينصرف عنها حالاً فحالاً ويطلب الوصول إلى الله عز وجل من سواها ويبتغي رضاه فيما عداها عن استواءها أتراه يجده أهدى منها سبيلاً ويتّبع خيرًا من رسول الله عليه السلام دليلاً، كلَاّ لن يجد سوى سبيل الله عز وجل إلا سبيل الشيطان ولن يصل من غيرها إلا إلى سخط الله القوي السلطان، قال الله عز وجل:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، قال بعض العلماء: وروي عن النبي عليه السلام أنّه خطّ خطًا مستقيمًا فقال: "هذا سبيل الله عز وجل" وخطّ من ورائه خطوطًا فقال: "هذه سبل الشيطان على كلّ سبيل شيطان يدعوا إليه، فمن أجابهم قذفوه في النار"

(4)

(1)

بالأصل: "كان على غير".

(2)

سبق تخريجه.

(3)

طرف من حديث جابر في خطبة الحاجة، وقد سبق تخريجه.

(4)

حسن - أخرجه الطيالسي في "مسنده"(ص/197)(241)، وأحمد في "مسنده"(7/ 207)(4142)، والدارمي في "سننه"(1/ 285)(208)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 95)(1109)، وغيرهم من طريق حماد بن زيد عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود بنحوه، وإسناده حسن من أجل ابن أبي النجود ..

ص: 266

أو كما جاء [ق 124 /أ] الخبر فأخبر أنّ ما نسوي سبيل الله عز وجل سبيل الشيطان من سلكها قذف في النار وسبيل الله تعالى هي التي عليها رسول الله عليه السلام وأوليائه والسابقون الأوّلون واتبعهم فيها التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدّين {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، فمن سلكها سعد، ومن تركها بعد، وطريق رسول الله عليه السلام وسنّته وأخلاقه وسيرته وما كان عليه في عبادته وأحواله مشهور بين أهل العلم ظاهر لمن [أحب] الاقتداء به واتّباعه وسلوك منهجه والحقّ الواضح لمن أراد الله هدايته وسلامته، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، وأقول شعرا

(1)

:

ترك التكلّف في التصوف واجب

ومن المحال تكلّف الفقراء

قوم إذا جنّ الظلام رأيتهم

يتركعون تركع القراء

فالوجد منهم في الوجوه محله

ثم السّماع يحلّ في الأعضاء

لا يرفعون بذلك صوتًا مجهّراً

يتجنّبون مواقع الأهواء

ويواصلون الدهر صومًا دائمًا

في حالة [ق 124 / ب] السراء والضراء

أو تراهم بين الأنام إذا أتوا

مثل النجوم الزهراء في الظلماء

صدّقت عزائمهم وعز مرامهم

وعنت بهم همم على الجوزاء

صدّقوا الإله حقيقة وعزيمة

ورَعوا حقوق الله في الآناء

والرقص نقص عندهم وسفاهة

ثم القضيب بغير ما إخفاء

هذا شعار الصالحين ومن مضى

من سادة الزهاد والعلماء

وإذا رأيت مخالفًا لفعالهم

فأنكر عليه بمعظم الإغواء

(1)

هذه الأبيات أنشدها لنفسه أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن علي بن أحمد بن عبد الله المقرئ.

ص: 267

ثبتنا الله وإيّاكم على صراطه المستقيم، وحمانا وإياكم من أهوال اليوم العقيم، وجعلنا وإيّاكم ممّن يبشرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وجنّات لهم [فيها] نعيم مقيم خالدين فيها أبد إن الله عنده أجر عظيم. فيا أيها الآدمي المسكين المخلوق لأمر عظيم وخطب جليل جسيم الذي خلفت من أجله الجحيم وجنات النعيم إذا أنت أصغيت إلى الملاهي بسمعك، ونظرت إلى محارم الله عز وجل ببصرك، وجمعك ورضيت لنفسك برقصك ونقصك

(1)

وأذهبت أوقاتك العزيزة التقية في هذه الأحوال الدنية الخسيسة، وضيّعت عمرك الذي ليس [له] قيمة في هذه الخصال الحقيرة الذميمة وشغلتَ [ق 125 / أ] بدنك المخلوق للعبادة بما نهى الله عز وجل عنه عادة وجلست مجالس البطالين، وعملت أعمال الفاسقين الجاهلين وسوف نرى إذا كشف الغطاء ونزل القضاء ماذا يحلّ بك من الندم حين ترى منازل السابقين وأجور العاملين وأنت مع الخالفين المفرطين معدود من جملة المبطلين الغافلين قد زل بك القدم ونزل بك الألم واشتد بك الندم، فيومئذ لا ُيرحم من بكى ولا يُسمع من شكى ولا يُقال من ندم ولا ينجو من عذاب الله عز وجل إلا من رحم، أيقظنا الله وإياكم من شدة الغفلة

(2)

واستعملنا وإيّاكم بطاعته في أيام المهلة، وسلك بنا وبكم إلى جنته الطريق المسهلة وبصر كلا منا ومنكم بما عليه وله بمنّة وكرامه. ألا فهذه أما نقلناه من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أقاويل الصّحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء العارفين المحققين المرضيين وعبادهم الذين هم أئمة الدين وهداة الإسلام المهتدين ونصحتكم جهدي فمن قيل فحظّه أصاب، وفي ردّ نصيحتي فحظّه أخطأ فجار، والموعد بيننا [ق 125 / ب] يوم المآب، يوم يجمع الله الخلق للعرض والحساب. [ولو ذكرنا كل] ما ورد في أخلاق الأولياء والصّالحين من العلماء والعباد والمشايخ والفقراء وكلامهم وسيرهم وآدابهم وذكر عباداتهم وحفظ أوقاتهم خلافًا لأخلاق المشايخ والفقراء من أهل زماننا وخلافًا لسيرتهم وآدابهم لطال ذلك على النّاظر وقصرت الهمة عن ذلك والله أعلم.،

تمت الكتابة بحمد الله وعونه وحسن توفيه، الحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل سنة مائة وألف.

تم

(1)

بالأصل: من رقصك بنقصك.

(2)

انتهى النقل عن فتيا ابن قدامة.

ص: 268