الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان، فإنه تارة يقبل على الطاعة وتارة يفتر عنها، وتارة يقع في المعصية، وتارة يقلع عنها، وتارة متيقظ متقن، وتارة غافل، وفي فترة من عمره جيد الحفظ صافي الذهن، وفي فترة أخرى تغلب عليه أسباب الشرود والاضطراب بسبب الهمِّ والغمِّ والهرم، فهذا كله حاضر في أذهان المحدِّثين وهم يفحصون الأحاديث. فقولهم بصحة السند إنما كان بعد استحضار جميع ما تقدم وتتبع كل ما سبق من حالات الرجل وحياته عبر سنوات عمره، وعبر المكان الذي أقام فيه وارتحل في أرجائه. وقولهم بأن الرجل ضابط حافظ، إنما هو بعد استحضار أحوال غيره من أقرانه ومقارنة روايته بروايتهم. وتجد المحدِّثين أحيانا يحكمون على الرجل بأنه ثقة تغير بآخرة، وإنما قالوا ذلك؛ لأنهم استحضروا حياته كلها حتى أواخر عمره وتغير حاله بسبب الهرم، أو بسبب عارض آخر يختلف باختلاف الأشخاص والرجال. وأما اتصال السند فإنما يعرف باستحضار تواريخ المواليد والوفيات وطبقات الرواة والبلدان التي دخلوها وتواريخ ذلك أيضا. وكذلك العلل والشذوذ إنما يعرف بمقارنة رواية الرجل بغيره واعتبار روايته برواية غيره.
2-
اكتشاف كذب الرواة:
فالمحدِّثون عندما ينظرون في حديث الرجل يستحضرون زمانه وعمره من مولده إلى وفاته، وبلده ورحلاته والبلدان التي دخلها ومن لقيه بها من الشيوخ والأقران وأخبار شيوخه وأقرانه وتواريخهم ورحلاتهم، وكثيرا ما يكتشفون كذب الراوي باعتبار ذلك. وهذا ما قصده الثوري في قوله: "لما استعمل
الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ" (1) . من ذلك مثلاً ما أخرجه الخطيب البغدادي بسنده عن عفير بن معدان الكلاعي قال: "قدم علينا عمرو بن موسى حمص، فاجتمعنا إليه في المسجد فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر علينا قلت له: من شيخنا الصالح هذا؟ سمه لنا نعرفه. فقال: خالد ابن معدان. قلت له في أي سنة لقيته؟ قال: سنة ثمان ومائة. قلت: فأين لقيته؟ قال: لقيته في غزاة أرمينية. فقلت له: اتق الله يا شيخ ولا تكذب، مات خالد ابن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنَّك لقيته بعد موته بأربع سنين. وأزيدك أخرى، أنَّه لم يغز أرمينية قط، كان يغزو الروم. (2) فهذا عفير بن معدان الكلاعي نظر في حديث عمرو بن موسى مستحضراً حياته ورحلاته وتواريخ ذلك، وحياة من روى عنه ورحلاته وتواريخ ذلك. ومثال آخر، قال أبو الوليد الطيالسي، كتبت عن عامر بن أبي عامر الخزامي، فقال يوماً: حدثنا عطاء بن أبي رباح، فقلت له: في كم سمعت من عطاء؟ قال: في سنة أربع وعشرين ومائة. قلت: فإن عطاء توفي سنة بضع عشرة." (3) وكان المحدِّثون أيضا يكتشفون التحريف والكذب بالاعتبار بكتب الرجل وما كتبه وخطه والمداد الذي يكتب به. قال زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقاياتٍ على ظهور كتبه، فسألته عنه، فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري،
(1)"الكفاية"119.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
"ميزان الاعتدال" 2/360.
كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها" (1) . فهذه أمثلة من فوائد علم الرجال والجرح والتعديل.
ومعلوم أن المصنفين في السيرة النبوية وفي تاريخ الإسلام من المتقدمين، كانوا يلتزمون بشرط المحدِّثين، وهو النقل بالسند وعزو الروايات إلى مصادرها وبيان مخارجها. ولهذا كانت أخبار السيرة منقولة بأسانيدها، وذلك لبيان رواتها والكشف عن أصحابها. والغاية المرجوة من ذلك هي أن يتمكن الناظر في هذه الأخبار من معرفة درجتها وقيمتها من حيث الصحة والضعف. وإنما يحصل ذلك بتتبع أحوال الرواة في كتب الرجال ومعرفة مراتبهم في الجرح والتعديل. فعلماء الرجال جمعوا أخبار كل من له عناية بالعلم وكل من نقل ولو خبرا واحدا من الحديث أو السيرة النبوية، ودونوا ذلك في كتب الجرح والتعديل. ولهذا فإن من منهج تحقيق أخبار السيرة النبوية الاستعانة بعلم الرجال وتوظيف حقائق الجرح والتعديل. وعلى هذا المسلك يمكن وضع أخبار السيرة في مراتبها، وهذا ما نجده عند من اهتم بالسيرة من المحدِّثين خاصة، فتجدهم يزنون الأخبار اعتماداً على مراتب رجالها وأحوال رواتها. مثال ذلك: خبر ابن عباس أن خديجة ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: "عبد الله والقاسم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وولدت له ماريا القبطية إبراهيم". فالخبر في سنده أبو شيبة إبراهيم ابن عثمان وهو متروك. وعليه فإن هذا الخبر بحسب ميزان المحدِّثين من الضعيف (2) .
(1) المصدر نفسه 4/451.
(2)
"مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي 9 / 217.