الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فنقدِّم اليوم جزءًا من كتاب من أهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كان في عداد المفقود، فلم يعثر عليه الباحثون والمهتمون بآثار الشيخ من قبل. وقد منَّ الله علينا بالعثور على قطعةٍ منه مصوَّرةٍ عن إحدى مكتباتِ باكستان، ووجدَ أخونا المحقق أبو الفضل القونوي قطعة أخرى منه في إحدى مكتبات تركيا، ولا نعرف عن بقية الكتاب شيئًا في مكتبات العالم، على كثرة البحث والتنقيب عنها في الفهارس، وزيارة مكتبات بلدانٍ عديدة والاطلاع على محتوياتها.
وقد قمنا بتحقيق ما وصل إلينا منه، على المنهج الذي ارتضيناه وسرنا عليه في سائر ما أخرجناه من تراث شيخ الإسلام في هذا المشروع المبارك. ولكثرة الأخطاء والتحريفات الموجودة في القطعتين لم نُشِر إليها جميعًا في الهوامش، واستدركنا بعض السقط بمراجعة كتب الشيخ الأخرى أو بالتأمل في سياق الكلام.
وهذه بعض الفصول التي تتحدث عن أصل الكتاب ومناسبة تأليفه، وتحقيق عنوانه، وبيان محتوياته وأهميته، ووصف النسختين اللتين عثرنا عليهما، أرجو أن تكون نافعةً إن شاء الله.
*
الفتيا الحموية وأثرها:
في أوائل سنة 698 ورد على الشيخ سؤال من أهل حماة، يسألونه
فيه عن الآيات والأحاديث الواردة في الصفات، فكتب جوابًا ذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين، وكتب هذا الجواب في جلسةٍ بين الظهر والعصر، كما ذكر ذلك الشيخ نفسه في مقدمة بيان تلبيس الجهمية (1/ 4): "كنتُ سئلتُ من مدة طويلةٍ، بُعيدَ سنة تسعين وستمئة
(1)
عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمتْ من حماة، فأحلتُ السائلَ على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني لابدَّ، فكتبتُ الجوابَ في قعدةٍ بين الظهر والعصر، وذكرتُ فيه مذهب السلف والأئمة المبني على الكتاب والسنة".
سُمِّيت هذه الفتيا بالحموية نسبةً إلى حماة، وانتشرت في البلاد، واشتهر أمرها، وأثارت ضجة في أوساط المتكلمين، وامتُحِن الشيخ بسببها محنةً عظيمة في دمشق، وكانت من أوائل المحن التي تعرَّض لها في حياته. وكان الشيخ قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين
(2)
، واجتمع بسيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق وقيامه مقام نائب السلطة، فامتثل أمره وقبِلَ قوله، والتمس منه كثرةَ الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيقٌ لجماعة، مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ وتألُّمهم لظهوره وذكرِه الحسن. فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغًا إلى الكلام فيه لزهده وعدمِ إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وحُسْن أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من
(1)
ذكرت المصادر أنه وقع ذلك في أول شهر ربيع الأول من سنة 698. انظر العقود الدرية (ص 198) والبداية والنهاية (4/ 14) والدرر الكامنة (1/ 155) وغيرها.
(2)
انظر مجموع الفتاوى (35/ 172)، حيث ناقش زعماءهم وبيَّن فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها.
غزارة العلم وجودة الفهم.
فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجّحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه الشيخ، وعملوا عليه أوراقًا في ردّه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدًا واحدًا، وأغروا خواطرهم، وحرَّفوا الكلام، وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم - حاشاه من ذلك - وأنه قد أوعزَ ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوامّ قد فسدت عقائدهم بذلك. ولم يقع من ذلك شيء والعياذ بالله. وسعوا في ذلك سعيًا شديدًا، فوافقهم جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذٍ على ذلك، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضورَه، وأرسل إليه فلم يحضر، بل أجابه الشيخ بقوله: إن العقائد ليس أمرُها إليك، وإن السلطان إنما ولّاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختصُّ به القاضي.
فلما وصل إلى القاضي هذا الجواب غضب، وأمر بأن ينادى في البلد ببطلان عقيدته، لكن الأمير سيف الدين جاغان أرسل طائفةً إلى المنادي، فضُرِب ومن كان معه، وأمر الأمير بطلب من سعى في ذلك فاختفوا.
ولما هدأت الأمور جلس الشيخ يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول، وكان تفسيره في درسه لقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وذكر الحلم وما ينبغي استعماله، وكان درسًا عظيمًا.
ثم اجتمع الشيخ بعد ذلك بالقاضي الشافعي إمام الدين القزويني، وواعده لقراءة جزئه الذي أجاب فيه، أي "الحموية"، فاجتمعوا يوم
السبت رابع عشر الشهر - من الصباح إلى الثلث من الليل - ميعادًا طويلًا مستمرًّا، وقُرئت فيه جميع العقيدة، وبيَّن مرادَه من مواضع أشكلت. ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس، بحيث انفصلَ عنهم والقاضي يقول: كلُّ من تكلَّم في الشيخ يُعزَّر. ورجع الشيخ إلى داره في ملأ كثير من الناس، وعندهم استبشار وفرح به. وهو في كل ذلك ثابت الجأش قوي القلب، واثق بالنصر الإلهي، لا يلتفت إلى نصر مخلوق، ولا يُعوِّل عليه.
وكان سعيهم في حقه أتمَّ السعي، لم يبقوا ممكنًا من الاجتماع بمن يرتجون منه أدنى نصر لهم، وتكلموا في حقه بأنواع الأذى وبأمور يستحي الإنسان من الله أن يحكيها فضلًا عن أن يختلقها ويُلفِّقها. فلا حول ولا قوة إلّا بالله
(1)
.
ولما لم ينجح المخالفون للشيخ في هذه المعركة، بل زادت منزلته لدى الخاصة والعامة، لجأوا إلى التأليف في الردَّ عليه وعلى فتياه "الحموية"، فألَّف شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (ت 733) رسالةً
(2)
في ذلك قصد بها الرد على "الحموية"، وقد كانت رسالته هذه عمدة من جاء بعده، مثل محمد سعيد المدراسي الهندي الشافعي (ت 1314) في كتابه "التنبيه بالتنزيه" الذي أدرج فيه رسالة ابن جَهْبل الحلبي بتمامها. وقد ردَّ عليها الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي (ت 1327) في كتابه "تنبيه النبيه
(1)
ذكر هذه المحنة البرزالي في تاريخه، ونقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 198 - 202).
(2)
ساقها السبكي في طبقات الشافعية (9/ 35 - 91).