المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أغراه الإنجليز فرفض: - حسن البنا - الرجل القرآني

[روبيرت جاكسون]

الفصل: ‌أغراه الإنجليز فرفض:

‌أَغْرَاهُ الإِنْجْلِيزُ فَرَفَضَ:

إن تاريخ جهاد «الرجل القرآني» طويل .. ولكن أخصب سنواته أيام الحرب .. منذ أن خرج من المعتقل عام 1936، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شيء، كان الرجل لا ينام، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق، وجيشه الجرار.

وحاول الانجليز أن يقدموا عروضًا سخية .. فرفضها الرجل في إباء .. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ.

لقد كان يحب فكرته حُبًّا يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر وقد أوتي ذلك العقل العجيب، الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد.

ص: 27

كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما إن تلقي إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل كان أحيانًا يجهر بما تريد أن تقول له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه.

كان نافذ البصيرة .. يرى ما وراء الأشباح .. في ذلك السر الإلهي قبس.

كان يلتهم كل شيء، لا تجد عِلْمًا وَلَا فِكْرًا ولا نظرية جديدة في القانون أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها.

وحدثني الرجل القرآني عندما أخذت أراجعه رأيه في صيغة الإسلام للشرق:

قال: «أضرب لك مثلاً تركيا: إنها ستعود إلي الإسلام وإن عوامل ذلك العود قد تبدت منذ الآن» . كان هذا الحديث بيني وبينه عام 1946 وقد لاحظت في السنوات التالية ما تحقق من قول حسن البنا في مايو 1950 بعد أن مضى الرجل إلى ربه حيث هزم حزب مصطفى كمال وانتصر الحزب الذي يقال عنه: إنه رجعي.

وسألته عن الصوفية والتصوف وهل هو من الإسلام؟

ص: 28

وكان ذلك على أثر ما نشرته بعض الصحف (1) من أنه من سلالة مغربية تعتنق الطريقة الشاذلية فكان مما أفضى به إلى أن الصوفية النقية البعيدة عن التعقيد هي من لباب الإسلام، وأنها هي الدرجة التي يصل إليها الرجل الحق. وأن الصوفية بالمفهوم الأصيل تمد الطبع بحب الجهاد والكفاح وافتداء الفكرة وأنه يجب أن يرقى أتباعه إلى هذه الدرجة، وأنه لا بأس

(1) كانت جريدة " الخبر " قد نشرت في 31 مارس 1946 فصلاً من فصولها عنوانها «رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ وَفُرْسَانٌ بِالنَّهَارِ» ، جاء فيه قول كاتبه: والذين يدرسون التصوف يعلمون أن الطريقة الشاذلية بقدر ما تحافظ على أساس الشريعة والتربية الإسلامية تحمل سرًا من أخطر الأسرار الوطنية الإسلامية لا يتنبه له إلى من درسوا تواريخ التغيرات في بلاد المغرب الأقصى والأدنى ومن يعلمون مدى نفوذ الصوفية في هذه البلاد وطريقة تربيتهم للمريدين، لقد استطعتم أن تفهموا أن الإخوان كانوا يعملون للتربية الروحية ثم اختاروا سبعة من الخلفاء للإشراف على الإعداد للجهاد. هذه الطريقة الشاذلية التي انتهت بالمختار والسنوسي وعبد الكريم، ثم بالأدارسة أولئك الذين يعتبرون من أكبر الأئمة الشاذلية هناك. إن الشاذلية عقيدة روحية سَرَقَهَا هتلر وموسليني وستالين - وهي الإعداد العميق والتربية النفسية والصلة بالله وحمل المريد على التطهر والتسامي لإدراك ما له وما عليه عن طريق العقيدة ثم تركه بعد ذلك ليدافع عن عقيدته دفاع المالك لا دفاع المقلد ولا المدفوع ولا الأجير ولا المجامل.

ص: 29

على الإخوان من أن يأخذوا المعاني القوية الكامنة وراء مظاهر الصوفية فينقلوها إلى دعوتهم دون أن يتقيدوا بأثوابها القديمة أو مظاهرها التي لا تتفق مع روح العصر.

فلما أفضيت إليه بخواطري، في الخوف من أن يجتمع الناس جميعًا على دعوة واحدة، لا سيما وأن هناك من المواهب الإسلامية ما يحول دون ذلك.

قال لي: إن هذه الخلافات لا تحول دون ارتباط المسلمين، وإنها إحدى عوامل السعة ومقدرة الإسلام على مجاراة العصور والأزمنة والأقطار.

ونحن نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه، وضرورة لا بد منها، وقد قال الإمام مالك للخليفة أبي جعفر المنصور حين طلب إليه أن يوطئ للناس كتابًا يجمعهم عليه: قال: «إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الأَمْصَارِ وَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ عِلْمٌ. فَإِذَا حَمَلْتَهُمْ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ تَكُونُ فِتْنَةٌ» . فضلاً عن أن التطبيق يختلف باختلاف البيئات، وقد أفتى الإمام الشافعي في مصر بغير ما أفتى به في العراق وقد أخذ في كليهما بما استبان له، ولذلك فإن الإجماع في الفروع مطلب مستحيل وهو يتنافى مع طبيعة الإسلام، ونحن نلتمس العذر لمن يخالفوننا في الفروع، ونرى أن هذا الخلاف

ص: 30

ليس هو الإسلام ولكنهم المسلمون: اسمًا ووراثة، هؤلاء الذين لو فهموا حقيقتهم لوصلوا».

وحدثني بعض أتباع الرجل القرآني عما لقي الرجل إبان زيارته لأرض الحجاز، وكيف تقاطرت علي بيته الذي كان ينزل فيه وفود المسلمين من إندونيسيا وجاوة وسيلان والهند ومدغشقر وربونيون ونيجيريا والكامرون وإيران والأفغان تتعرف عليه وتجتمع به وهو مع كل مجموعة يتحدث عن أمور هي مصدر اهتمام الفريق الذي يلتقي به، يحدثهم عن قضاياهم ومشاكلهم فيبهرهم كأنه قادم على التو من بلادهم وليسوا هم القادمين عليه.

وكان فريق من أتباعه يهرعون إليه يحدثونه عما يقول بعض المتشددين فيقول: «لا توحيد بغير حب، لا توحيد بغير حب» .

وأعجب العجب أن تستمع إلى الكلمات التي يلقيها الرجل إلى أتباعه: وفيها تتمثل التضحية الخالصة والإيمان:

«إننا قد عرفنا الطريق إلى أوطاننا الإسلامية: إنها هي الجهاد والموت والفداء: إنما هي الطريق الوحيد الذي سلكه المؤمنون في كل زمان ومكان» .

ص: 32

والاقتصاد والثقافة، ونحن نريد لها وضعًا ربانيًا سليمًا من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده».

فإذا ذهبنا نتعرف على حقيقة الإسلام كما يفهمه (حسن البنا) وجدناه (عُمَرِيًّا): إنه يفهم الإسلام كما عرفه عمر بن الخطاب. «إِذَا أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِذَا أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي» . ويفهمه كما عرفه أبو بكر: «الضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الحَقَّ لَهُ وَالقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنْهُ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ فِيكُمْ فَإِذَا عَصَيْتُهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ» . وكان يرى أن يكون الحاكم المسلم من الشجاعة بحيث يقبل ما قبل عمر عندما جابهه الرجل بكلمة «اتَّقِ اللهَ» فقال: «دَعْهُ فَلْيَقُلْهَا لِي، لَا خَيْرَ فِيكُمْ إِذَا لَمْ تَقُولُوهَا، وَلَا خَيْرَ فِينَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْهَا» .

ويري مسؤولية الحاكم في حدود قول عمر: «لَوْ عَثَرَتْ شَاةٌ بِشَاطِئِ الفُرَاتِ لَظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ عز وجل سَائِلِي عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ» .

ويرى الحاكم من حيث القدرة على الإنصاف من النفس كقول عمر «أَصَابَتْ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ» ..

ص: 34

ويؤمن بتطبيق نظام عمر في القضاء «اجْعَلْ النَّاسَ عِنْدَكَ سَوَاءٌ، وَلَا تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَإِيَّاكَ وَالأَثَرَةَ وَالمُحَابَاةَ فِيمَا وَلَاّكَ اللهُ» .

ويردد في أكثر من مرة قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ

وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».

ويحب أن يطبع المسلم حياته بطابع كلمة عمر الخالدة: «أُحِبُّ مِنَ الرَّجُلِ إِذَا سِيمَ الخَسْفَ أَنْ يَقُولَ (لَا) بِمِلْءِ فَمِهِ» .

وهو على هذه الأسس من المفاهيم الإسلامية العميقة كان ينشئ جيله ويبني كتيبته ويرسم «الطوبا» (أي المدينة الفاضلة Utopie ) التي إذا طبقت حقق الإسلام في الشرق دوره وزحف إلى مكان الزعامة العالمية والصدارة الإنسانية.

ويرى أن قاعدة الإسلام الأساسية هي «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .

ويؤمن بسد الذرائع وإعطاء الوسائل أحكام المقاصد والغايات.

وجملة القول في الرجل القرآني: إنه يفهم الإسلام ..

ص: 35

فهمًا واضحًا سهلاً يسيرًا كما جاء في حديثه معي، على الطريقة التي فهم بها محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام، إنه قريب في نظري من أبي حنيفة الذي أصر على رفض القضاء، ومالك الذي أفتى في البيعة، وابن حنبل الذي أريد علي هوى فلم يرد.

وأجد حسن البنا قد حرر نفسه من مغريات المجد الناقص، ومفاتن النجاح المبتور ومثل هذا التحرر في نظر (إمرسون) هو غاية البطولة؛ ولذلك فلم يكن عجيبًا أن يقضي الرجل علي هذه الصورة العجيبة فكان فيها كشأنه دائمًا، غير مسبوق.

كان الناس يرونه غريبًا في محيط الزعماء، بطابعه وطبيعته، فلما مات كان غريبًا غاية الغرابة في موته ودفنه، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ غَيْرُ وَالِدِهِ وحملت جثمانه النساء، ولم يمش خلف موكبه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملؤون الدنيا لسبب بسيط هو أنهم كانوا وراء الأسوار.

لقد نقل الرجل بعد أن أسلم الروح إلى بيته في جوف الليل ومنع أهل البيت من إعلان الفاجعة، وغسله والده، وخيم على القاهرة تلك الليلة كابوس مزعج كئيب، ولقد كان خليقًا بمن سلك مسلك أبي حنيفة ومالك وابن حنبل وابن تيمية مواجهة للظلم ومعارضة للباطل .. أن تختتم حياته على هذه الصورة الفريدة

ص: 36

المروعة، التي من أي جانب ذهبت تستعرضها، وجدتها عجيبة مدهشة.

إنه كان يدهش الناس في كل لحظات حياته، فلا بد أن يدهش الأجيال بختام حياته، إن الألوف المؤلفة قد سارت في ركب الذين صنع لهم الشرق بطولات زائفة، أفلا يكون حسن البنا قد رفض هذا التقليد الذي لا يتم على غير النفاق.

إن هناك فارقا أزليًا بين الذين خدعوا التاريخ والذين نصحوا لله ولرسوله، إن هذا الختام العجيب سيظل مدى الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء، ويبعث في قلوب الذين آمنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكنوا له.

إن مقتله شبيه بمقتل الحسين، إنها العوامل المختلفة التي تجمعت لوضع حد للفكرة الحية التي كانت تندفع إلي الأمام كالإعصار.

وحين عجز (القضاء) أنفذ (القدر) حكمه.

إن الأمر الذي أسأل عنه فلا أجد له جوابًا:

هل هناك علاقة ما بين الإسلام كما كان يفهمه حسن البنا ويدعو إليه وبين نهايته؟ إن كثيرين يدعون إلى الإسلام ويحملون اسمه، فهل هناك خلاف جوهري بين ما كان يدعو إليه حسن البنا وما يدعو إليه هؤلاء؟ لأني لا أعرف الإجابة الصحيحة أدع ذلك للتاريخ.

ص: 37