الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا يقدرعلى إتيانها. وحل عقده فيقدر عليها بعد عجز عنها حتى صار متواتراً لا يمكن جحده.
وروى من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه1.
كل هذا دليل ظاهر على أن للسحر حقيقة والله أعلم.
1 انظر: المغني لابن قدامه ج8ص151.
القول الأول: قول عامة المعتزلة
…
القول الثاني: وهو قول عامة المعتزلة.
وجماعة من العلماء كأبي منصور الماتريدي وابن حزم وأبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الجصاص، وغيرهم.
ويتلخص رأيهم في أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل فلا تأثير له لا في مرض ولا حل ولا عقد ولاغير ذلك، وعلى ذلك فهم ينكرون من أنواع السحر ما كان له حقيقة ويجعلونه ضرباً واحداً وهو سحر التخييل.
يقول القاضي عبد الجبار:"إن السحر في الحقيقة لا يوجب المضرة لأنه ضرب من التمويه والحيلة
…
"1
ويقول أبو منصور الماتريدي: "والأصل أن الكهانة محمول أكثرها على الكذب والمخادعة والسحر على التشبيه والتخييل"2
ويقول ابن حزم: "
…
وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 3 فأخبر الله تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلاً لا حقيقة
…
"4
1 انظر: متشابه القرآن ج1ص101.
2 التوحيد له، 209
3 آية 66 سورة طه.
4 الفصل له ج5 ص506 وانظر المحلى له ج1ص36.
وقال ابن حجر: "واختلف في السحر: فقيل هو تخييل فقط ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة"1
وقد أيدوا قولهم هذا بشبهات نقلية وعقلية.
وإليك شيئاً منها مع المناقشة:
أولا: الشبهات النقلية منها، ما يلي
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 2
وجه الاستدلال: قالوا الآية تدل على أن السحرة حاولوا إرهاب الناس وتخويفهم بأن خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له مما يدل على أن السحر لا حقيقة له3.
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 5
وجه الاستدلال: يقول ابن حزم:"وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 6
فأخبر تعالى: (أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له.
1 فتح الباري ج10ص222، وانظر أحكام القرآن للجصاص ج1 ص52، 59
2 آية 116 سورة الأعراف
3 انظر: أضواء البيان ج4 ص437 والفصل ج5ص6
4 آية 66 سورة طه.
5 آية 69 سورة طه.
6 آية 66 سورة طه.
وقال تعالى {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 1
فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له)
الجواب يقال لهم:
أولاًً: الآيات دليل على أن للسحر حقيقة إذ إنها دلت على أن للسحر أثراً في نظر المسحور حتى تخيل الشيء علىخلاف ما هو عليه وهو تأثير في إحساسهم، وإذا جاز، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم؟ وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير الواقع في صفة أخرى من صفات النفس والبدن؟ وعليه فالآيات حجة عليكم لا لكم.
ثانياً: على التسليم بدلالة الآيات على التخييل فقط فإن هذا لا يمنع أن يكون غير التخييل من جملة السحر؛ لأنها لم تحصر السحر في التخييل، وإنما دلت على أن سحر سحرة فرعون ونحوهم كان من هذا النوع ونحن لاننكر أن يكون التخييل من أنواع السحر وعلى ذلك فلا حجة في الآيات على نفي حقيقة السحر وتأثيره3والله أعلم.
ثانياُ: الشبهات العقلية: منها ما يلي:
الشبهة الأولى: قالوا إن في القول بأن للسحر أثراً خارقاً للعادة يلزم منه أن يكون هناك موجوداً مثلاً لله تعالى. كما أنه لا يمكن العلم معه بالفرق بين ما يختص الله بالقدرة عليه وبين مقدور العباد4.
1 آية 69 سورة طه.
2 الفصل ج5 ص5 - 6.
3 انظر التفسير القيم ص 571 –572، وتفسير القرطبي ج2 ص 46.
4 انظر تفسير الرازي ج3 ص206-207 ومتشابه القرآن ج1ص102.
الجواب: يقال لهم هذه الشبهة باطلة ولا يلزم من القول بأن للسحر أثراً ما زعمتم، ذلك أن أهل السنة لما قالوا بأن للسحر أثراً لم يطلقوا القول بحصول كل أثر أو بحصول أثر يصل إلى مرتبة الخلق والإيجاد، ذلك أن الموجد الحق هو الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ....الآية} 1 وقال تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2 وقال تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ 000الآية} 3 والقول بأن أثر السحر يصل إلى درجة الخلق شرك في الربوبية. أعاذنا الله منه.
وإنما قالوا له أثر على النفس والبدن يؤدي إلى المرض.
فهو سبب قد ربط الله به بعض المسببات في حدود قدرة الخلق من الجن والإنس وبما أن قدرة الشياطين تختلف عن قدرة الإنس لذا قد يظن الجاهل أن حصول الأثر المناقض للعادة فوق قدرة الخلق والواقع أنه في حدود قدرة الخلق من الجن والإنس ولذا يمكن معارضته بمثله وأقوى منه4.
وإذا كان كذلك فلن يلزم من القول بان للسحر أثراً ما زعمتم. والله أعلم.
الشبهة الثانية: يروي الرازي عن القاضي أنه قال: "أنا لو جوزنا ذلك5" لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي
1 آية 62 سورة الزمر.
2 آية 2 سورة الفرقان.
3 آية 17 سورة النحل.
4 النبوات ص 258، 277- 278،281.
5 أن يكون للسحر أثر خارق للعادة.
ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى بل يجوز فيها أنهم أتوا بها عن طريق السحر وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه1.
الجواب: يقال لهم العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر.
ولكن النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه فلو كان كاذباً لم تنخرق العادة على يديه. ولذا لا يمكن معارضته بمثله أو أقوى منه؛ إذ إنّه ليس في مقدور الجن والإنس.
أما الولي والساحر: فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على نبوة ولو ادعيا شيئاً من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجوه منها:
الأول: وهو المشهور، إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق أو كافر، والكرامة لا تظهر إلا على ولي.
الثاني: أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم لساحر ما يريد.
والكرامة لا تفتقر إلى شيئ من ذلك. وفي كثير من الأوقات تقع الكرامة اتفاقا من غير أن يستدعيها أو يشعر بها.
الثالث: أن ما يأتي به السحرة، يمكن معارضته بمثله وأقوى منه كما هو الواقع بخلاف الكرامات فهي كالمعجزات لا يمكن لأحد أن يعارضها بمثلها أو أقوى منها.
1 تفسير الرازي ج3ص306،314 وانظر الفصل ج5 ص7 ومتشابه القرآن ج1 ص102.
2 آية 88 سورة الإسراء.
الرابع: إن مايأتي به السحرة لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن بخلاف الكرامات فهي كالمعجزات لا يقدر عليها إلا الله1.
الشبهة الثالثة: يروي الرازي عن القاضي أنه قال:"
…
لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر علىخلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب. لكنا نرى من يدعي السحر متوصلا ً إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد فعلمنا كذبه."2
الجواب: يقال لهم هذه الشبهة باطلة ولا تلزمنا لأنا لم نطلق الحكم بحصول كل تأثير مهما كان بل قلنا في نطاق معين لا يتجاوز التصرف في الأعراض من باب التأثير على القلوب بالحب والبغض وعلى الأبدان بالألم والسقم. أما أن يقلب الجماد حيواناً أو عكسه أو الحديد ذهباً أو نحوه فليس في مقدور الساحر3.
وبذلك يزول اللبس وتبطل هذه الشبهة. والله أعلم.
والأظهر في هذه المسألة - والله أعلم - أن السحر المذموم صاحبه ليس كله حقيقة وليس كله تخييلاً. بل منه ما هو حقيقة كما دلت عليه أدلة أهل السنة، ومنه ما هو تخييل كما دلت عليه الآيات التي استدل بها المخالفون. وبذلك يتضح عدم التعارض بين الأدلة النقلية. وعلى هذا جماهير العلماء من المسلمين4. والله أعلم.
1 شرح النووي على صحيح مسلم ج14 ص175-176، النبوات لابن تيمية ص 281-282، فتح الباري ج10 ص 223.
2 تفسير الرازي ج3 ص206.
3 انظر فتح الباري ج10 ص223.
4 أضواء البيان ج4 ص437-438، ص 455وتيسيير العزيز الحميد 334.