المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إنا أعطيناك الكوثر: - حملة الأوغاد على خير العباد

[شحاتة صقر]

الفصل: ‌إنا أعطيناك الكوثر:

منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم.

‌إنا أعطيناك الكوثر:

قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (الكوثر: 1 - 3).

يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممتنا عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، من النهر الذي يُقالُ له {الْكَوْثَرَ} ومن الحوض. طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.

ص: 14

عَنْ أَبِى ذَرٍّ سدد خطاكم قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟»، قَالَ:«وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» . (رواه مسلم).

الْمُصْحِيَةِ: التى لَا غَيْمَ فِيهَا.

(أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ) أَلَا: لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَخَصَّ اللَّيْلَةَ الْمُظْلِمَةَ الْمُصْحِيَةِ لأن النجوم تُرَى فيها أكثر، والمراد بِالْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا قَمَرَ فِيهَا مَعَ أَنَّ النُّجُومَ طَالِعَةٌ؛ فَإِنَّ وُجُودَ الْقَمَرِ يَسْتُرُ كَثِيرًا من النجوم.

(آنِيَةُ الْجَنَّةِ) أَيْ هِيَ آنِيَةُ الْجَنَّةِ، أوَ أَعْنِي آنِيَةَ الْجَنَّةِ.

(لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ) أي لَمْ يَظْمَأْ أبدًا.

(يَشْخُبُ): يَسِيلُ، الشَّخْبُ: السَّيَلَانُ.

ص: 15

(الميزاب): أنبوبة تُرَكَّبُ فى جانب البيت مِن أعلاه لينْصَرِف منها ماء المطر.

(عمان) هي بلدة بالبلقاء من الشام قال الحازمي قال ابن الأعرابي يجوز أن يكون فعلان من عم يعم فلا ينصرف معرفة وينصرف نكرة قال ويجوز أن يكون فعالا من عمن فينصرف معرفة ونكرة إذا عنى بها البلد هذا كلامه والمعروف في روايات الحديث وغيرها ترك صرفها]

وعَنْ ثَوْبَانَ سدد خطاكم أَنَّ نَبِىَّ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنِّى لَبِعُقْرِ حَوْضِى أَذُودُ النَّاسَ لأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَاىَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ» . فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ: «مِنْ مَقَامِى إِلَى عَمَّانَ» . وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» .

(عُقْرِ حَوْضِي) هُوَ مَوْقِفُ الْإِبِلِ مِنَ الْحَوْضِ إِذَا وَرَدَتْهُ، وَقِيلَ: مُؤَخَّرُهُ. (أَذُودُ النَّاسَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ) مَعْنَاهُ أَطْرُدُ النَّاسَ عَنْهُ غَيْرَ

ص: 16

أَهْلِ الْيَمَنِ لِيَرْفَضَّ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ فِي تَقْدِيمِهِمْ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ مُجَازَاةً لَهُمْ بِحُسْنِ صَنِيعِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْأَنْصَارُ مِنَ الْيَمَنِ فَيَدْفَعُ غَيْرَهُمْ حَتَّى يَشْرَبُوا كَمَا دَفَعُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَعْدَاءَهُ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَمَعْنَى (يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ) أَيْ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ.

(يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ) مَعْنَاهُ يَدْفُقَانِ فِيهِ الْمَاءَ دَفْقًا مُتَتَابِعًا شَدِيدًا، وَقِيلَ: يَصُبَّانِ فِيهِ دَائِمًا صَبًّا شَدِيدًا.

(يَمُدَّانِهِ) أَيْ يَزِيدَانِهِ وَيُكْثِرَانِهِ. الوَرِق: الفِضَّة.

والكوثر صيغة من الكثرة وهو مطلق غير محدود. يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء. إنا أعطيناك ما هو كثر فائض غزير. غير ممنوع ولا مبتور. فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور.

هو واجِدُه في النبوة. وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه. وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته، وينبوع

ص: 17

لا نهاية لفيضه وغزارته! وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء.

وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون، في أرجاء الأرض، وفي الملايين بعْدَ الملايين السائرة على أثره، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة.

وهو واجِدُه في الخير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه. سواء مَن عرفوا هذا الخير فآمنوا به، ومَن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فَاض!

وهو واجِدُه في مظاهر شتى، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها!

ص: 18

إنه الكوثر، الذي لا نهاية لفيضه، ولا إحصاء لعوارفه، ولا حد لمدلوله. ومِن ثَمَّ ترَكه النص بلا تحديد، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد.

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى مِنَّتَه عليه، أمره بشكرها فقال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} خص هاتين العبادتين بالذكر لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.

فعلى غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون، وجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى شكر النعمة بحقها الأول. حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه. في الصلاة وفي ذبح النسك خالصاً لله غير مُلْقٍ بالًا إلى شرك المشركين، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم.

والصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من الذبائح، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.

ص: 19

{إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغِضُك وذامُّك ومنتقصك {هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر. وأما محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رَفْع الذكر، وكثرة الأنصار والأتباع صلى الله عليه وآله وسلم.

في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر. وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه، ويؤكد سبحانه وتعالى أن الأبتر ليس هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هم شانئوه وكارهوه.

ولقد صدق فيهم وعيد الله. فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتد ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون!

ص: 20

إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر. فهو ممتد الفروع عميق الجذور. وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر.

إن مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد. فأين الذين كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوب الجماهير، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذِكْراهم، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!

إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحي القيوم؟ إنما يُبْتَر الكفر والباطل والشر، ويُبْتَرُ أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل ممتد الجذور.

ص: 21