المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته

[سليمان الحقيل]

الفصل: ‌الفصل الأول: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

‌الفصل الأول: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم بقلم معالي الشيخ / صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ نائب وزير الشئون الإِسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

الحمد لله الذي نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه، أما بعد:

فإن الحديث عن المصلحين وأئمة الدين لا يبلى مهما تعدد، ولا يمل مهما تردد، لأن الحديث عنهم معين ثر، يستطيبه الكاتب والمتَحدث، كما يولع به المتلقي والسامع.

وإمامنا محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الثواب تعددت الكتابات عنه لكنها سير على أثر، والتجديد فيها فكرًا ولفظًا لم يتح، ولهذا بقيت الأجيال محتاجة، وإلى تجديد وتقريب تواقة.

ودعوة الإمام "التي هي دعوة الإسلام، ودعوة السلف الصالح" يمكن أن يتحدث عنها المؤرخ فيسهب، والأديب فيطنب، والعالم فيؤسس، والمربي فيقرب، وغيرهم.

وإحساس المربي بحاجة الأجيال إلى تذكيرهم بالدعوة وأسسها وأصولها وفروعها جعل هذا البحث الذي أقدم له ينهض من رقدته ويفزع من طول نومته.

ص: 9

وحقا إن المربي وعالم التربية لينظر إلى تليده كما ينظر إلى وليده، فبذاك وصلنا هنا، وبهذا سنصل إلى آماد بعيدة بإذن الملك الأعلى العزيز المقتدر.

وهذا النظر هو الذي دعا العالم التربوي والمعلم لأجيال الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الحقيل أن يبعث مؤلفه هذا بعد طول عتاب من المؤلف يشكو فيه هجر كاتبه له مع حاجة الجيل الملحة لمثله.

ولما أتحفني أخي الكريم د / سليمان بنسخة منه وقلبت صفحاتها الذهبية، وأجلت النظر فيما كتب ضممت عتبي إلى عتب البحث فصرنا معاتبين، وحق لنا ذلك فإن هذا البحث متميز عن نظائره، فإذا بدء به قارئه مر فيه كما يمر بالروض الأنيق، لا ملال ولا كلال، لما اشتمل عليه من حسن عرض وتوسط في الأسلوب فلا يرتفع عنه الأديب، ولا يستوعره الشاب الأريب مع توثيق للنقول والنصوص المستشهد بها، وأدى للدعوة حقها فرد على شبه المناوئين بكلام علمائها وجواب أئمتها قضاء بالحق لا يرد، تمر في الروض وكأنك ترى الدعوة في صور متلاحقة، تروقك وتشوقك تأريخا مجيدا، وعقيدة راسخة هي عقيدة الإسلام ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولم يتركك المربي حتى أوقفك على تأثر كثير من الدعوات الإصلاحية بدعوة إمامنا الأواب، إما في الكل أو في بعض و"هم درجات عند الله".

فأهنئ أخي على هذا البحث، كما أني أعتذر له عن قصر هذه

ص: 10

المقدمة وقد وعدته بأن تكون كثيرة المباحث، جديدة السمات لكنها مرجأة إِلى طبعة أخرى فيها -إِن شاء الله- نظر عبرة، ودروس لهذه الدعوة أعلى الله لها منارا وأخمد لعدوها نارا.

وأحث الناشئة والشباب، كما أحث الباحثين أن يستفيدوا من هذا الكتاب، قارئين مطالعين وباحثين مدققين، كما أرغب أن لو جعلته المدارس هدية لكل طالب، فقد كتب بقلم من يحسن مخاطبة هؤلاء وأولئك.

أسأل الله لإمام الدعوة ومن نصره وأيده الرحمة ورفعة الدرجة، كما أسأل الله أن يبارك في أحفادهما وينصر بهما الملة إنه سميع مجيب، كما أسأله سبحانه أن يبارك في مؤلفه د / سليمان الحقيل وأن يجزيه عما كتب وتعب جزاء الدعاة والصالحين، وأن يوفقه وذريته وأحبابه إلى ما فيه عز الإسلام ونفع العباد.

وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.

وكتبه

صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ

في الرياض: 26 / 10 / 1419هـ

ص: 11

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.

أما بعد:

فالكتاب الذي أقدمه "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته " هو في أصله بحث قدمته في عام 1393 هـ إلى جامعة الأزهر للحصول على شهادة الماجستير في الحضارة والتاريخ.

ولقد قررت نشر هذا البحث بعد تنقيحه وتطويره بإضافة مواضيع جديدة إليه، من أجل إلقاء المزيد من الضوء على حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته وجهوده وجهاده وبيان الجهود التي بذلها أنصاره من آل سعود من أجل التمكين لهذه الدعوة المباركة وحمايتها ونشرها..

ص: 13

كما يهدف الكتاب إلى بيان حقيقة الدعوة السلفية وذلك بتوضيح الأسس السليمة التي قامت عليها، وبيان الغاية النبيلة التي قامت من أجلها، وإبراز الأهداف السامية التي سعت إلى تحقيقها.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الكتاب يهدف إلى كشف الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليها بأسلوب علمي دقيق، كما يهدف الكتاب إلى تعزيز ثقافة المسلم، بالمعلومات الصحيحة عن حقيقة الدعوة السلفية ومسارها السليم، ليتمكن من تقديم المعلومات الصحيحة عن الدعوة لمن يجهلون حقيقتها ويرد بالأسلوب المناسب على خصومها. ذلك أن الدعوة تواجه اليوم نوعين من الخصوم:

النوع الأول من الخصوم يجهلون حقيقة هذه الدعوة وكل ما يعرفونه عنها من معلومات خاطئة حصلوا عليها من أعداء الدعوة الذين يعملون على تشويه سمعة الدعوة وصاحبها وأنصارها ودولتها، والواقع فإن هؤلاء الخصوم ضحايا للدعايات المغرضة للدعوة قبل أن يكونوا خصوما للدعوة نفسها، هؤلاء الخصوم المضللون بحاجة إلى من يعرفهم بحقيقة الدعوة السلفية لكي يستقيم موقفهم السلبي منها.

النوع الثاني من الخصوم يعرف حقيقة الدعوة السلفية لكنه ناصب الدعوة وصاحبها وأنصارها العداء، بسبب التعصب وخبث الطوية، والحقد والغيرة، وكراهية الخير للآخرين وحب الظهور، وعدم التفكير بعواقب الأمور

هذا النوع من الخصوم يحتاج من يتصدى للرد عليه

ص: 14

أن يكون لديه ثقافة واسعة لكي يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، والذي لا شك فيه أن من عرف حقيقة الدعوة السلفية وتسلح بالعلم النافع سوف يكون دليله أقوى وحجته أظهر وأبلغ من دليل وحجة خصوم الدعوة السلفية مهما غالطوا واختلقوا من الأكاذيب.. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز ثقافة المسلم حول الدعوة السلفية لكي يعرف بحقيقتها ويدافع عنها عن علم وبصيرة.

يتألف الكتاب الذي أعد لتحقيق الأهداف النبيلة المذكورة أعلاه من أربعة فصول:

خصصت الفصل الأول فيه للحديث عن حال العالم الإسلامي الدينية بشكل عام، ونجد بشكل خاص عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما تحدث عن نسب الشيخ ونشأته ورحلاته في طلب العلم وعن اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود حاكم الدرعية والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما ترتب على هذا اللقاء المبارك.. كما شمل هذا الفصل على بيان برامج الشيخ الإصلاحية في العيينة والدرعية. كما تضمن التعريف بأهم مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وقد اختتمت هذا الفصل بالحديث عن سيرة حاكمين من حكام آل سعود الذين عاصرهم الشيخ وهما: محمد بن سعود المؤسس الأول للدولة السعودية الأولى وعبد العزيز بن محمد بن سعود المؤسس الثاني للدولة السعودية الأولى.

أما الفصل الثاني فقد خصصته للحديث عن حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي تتلخص في أن الشيخ لم يأت بمذهب جديد وأن

ص: 15

جوهر دعوته هو تنقية التوحيد من شوائب الشرك. ولإيضاح حقيقة الدعوة تناولت في هذا الفصل بالتفصيل أربعة موضوعات هي: توضيح الأهداف الحقيقية لتسمية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية بالوهابية. من قبل خصوم الدعوة السلفية كما بينت عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من خلال مؤلفاته ومؤلفات أتباعه، وأوضحت الأسس العامة التي قامت عليها دعوته والغاية النبيلة التي قامت من أجلها الدعوة والأهداف السامية التي سعى الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى تحقيقها.

وفي الفصل الثالث تحدثت عن الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبل خصوم الدعوة السلفية موضحًا حجم المعارضة التي واجهتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأسباب هذه المعارضة وأشهر المعارضين، واختتمت هذا الفصل باستعراض أهم الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولأن رسالة سليمان بن سحيم التي بعث بها إلى الأمصار من أجل تشويه سمعة الدعوة السلفية وصاحبها اشتملت على أهم الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ فقد أوردت هذه الرسالة بنصها ثم ذكرت جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليها، كما أوردت بعض ردود علماء الدعوة على هذه الشبهات.

في هذا الفصل ركزت في الرد على شبهتين من الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لأن هاتين الشبهتين ما زالتا تتداولان بين خصوم الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية والشبهتان هما:

ص: 16

الشبهة الأولى: اتهام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بأنهم خوارج وأن دعوة الشيخ امتداد لدعوة عبد الوهاب بن رستم الخارجي مؤسس الدولة الرستمية في المغرب.

الشبهة الثانية: اتهام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتْباعه بأنهم يكفرون المسلمين.

أما الفصل الرابع فقد تحدثت فيه عن النتائج والآثار المباركة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب موضحًا أسباب نجاح الدعوة السلفية ومدى انتشارها في نجد والجزيرة العربية والعالم الإسلامي. واختتمت هذا الفصل بذكر أمثلة لثناء العلماء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ووصفهم دعوته على حقيقتها ودفاعهم عنها.

وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله العلي القدير أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا بما علمنا وأن ينفع بما كتبنا وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم تنصب الموازين إنه سميع مجيب الدعاء. وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.

أ. د. سليمان بن عبد الرحمن الحقيل

الرياض في 8 / 11 / 1418 هـ

ص: 17

التّمهيد:

حالة العالم الإسلامي الدينية بشكل عام

ونجد بشكل خاص عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

بدأت الدعوة الإصلاحية المباركة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بمساعدة ومؤازرة وحماية الإمام محمد بن سعود في مطلع القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي. وتوضح المصادر التاريخية وكتاب السير على اختلاف مناهجهم وتباين أفكارهم الصورة القاتمة المؤلمة التي كانت عليها الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية في هذا العصر.

وطبقا لهذه المصادر فإن العالم الإسلامي عند قيام هذه الدعوة الإصلاحية المباركة كان على حافة الانهيار يكابد انحطاط جميع المجالات الفكرية والعقدية، كما يموج بالفوضى والضياع والظلم والاضطهاد في مجال السياسة والاجتماع.. فلقد انحرف الناس في كثير من البلاد الإسلامية عن مفهوم الإسلام سواء في تصورهم لحقيقة الألوهية وخصائصها وصفاتها أم مظاهر حياتهم السياسية والاجتماعية والأخلاقيةففي مجال العقيدة نشأ الشرك وغلب على

ص: 19

تصورات كثير من الناس وأصبحت عبادة الأضرحة والقباب والتوسل بالمشائخ والصالحين أحياء وأمواتا جزءا من جوهر الدين. وانتشرت البدع والعادات والتقاليد التي حرمها الإسلام وغلبت الطرق الصوفية التي أصبحت المرجع الأساس عند هؤلاء الناس في أمور الدين.

يصور الشيخ سليمان بن سحمان هذه الحالة في نجد بقوله: "قد خلع"الناس" ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله تعالى من الأولياء والصالحين والأصنام والأوثان والشياطين " و "كثير منهم يعتقد النفع في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالأشجار، ويرجون منها القبول في جميع الأوقات1. وما ذكره الشيخ بن سحمان لم يكن قاصرا على مصر دون مصر وإنما كان شاملا وعاما في كثير من بلاد المسلمين إلا من عصم ربي. "ففي مصر بلد"الأزهر" رفع الناس لواء العبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية وقامت دولة الأدعياء الدراويش2.

والقارئ لكتاب الطبقات الكبرى للشعراني وغيره من الكتب التي كانت متداولة في ذلك العصر، يرى عجبا من العجب وكفرا بواحا. ومن ذلك ما يقول الشعراني:"إن الله وكل بقبر كل وليّ ملكا يقضي حاجة من سأل ذلك الوليّ".

1 الشيِخ سليمان بن سحمان، الضياء الشارق، القاهرة، مطبعة المنار، 1344 هـ 5 ص 7.

2 جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، "الشبهات التي أثيرت حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب والرد عليها" إعداد عبد الكريم الخطيب، ج2، ص 204.

ص: 20

وفي الحجاز: أصبح الدعاء عند القبور من الأمور المألوفة عند كثير من الناس. فيما يفعل عند قبر خديجة في المعلاة وعند قبة أبي طالب من استغاثة وطلب شفاعة شيء تهول له النفوس، وفي اليمن يوجد قبور يتبرك بها العوام وفي الحديدة وحضرموت ويافع.. وفي الشام توجد قبور في دمشق وحلب وأقصى الشام يتبرك بها. وفي العراق قبر أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، وكذلك ما يفعله الشيعة عند مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النجف ومشهد الحسين والكاضم في كربلاء. وهذه القبور وغيرها يأتيها الناس فيستغيثون بها ويسألونها قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم1.

لقد انتشرت الأضرحة والقبور في كل مكان وفي كل مدينة من العالم الإسلامي وأخذ علماء السوء يضعون الكتب للعامة لبيان كيفية الحج لهذه القبور وإقامة البدع عندها.

يصور الحالة التي وصل إليها المسلمون إبان ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أبلغ تصوير الكاتب الأمريكي"لوتروب ستودارد" بقوله: "في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق درك، فأربد جَوه وطبعت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه وانتشر فيه

1 حسين بن غنام، روضة الأفكار والأفهام المرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، ج1، القاهرة، 1368 هـ، ص 5 - ص 6.

ص: 21

فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال"1.

"وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية، دخلت المساجد من أرباب الصلوات وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن - فصار شرب الخمر والأفيون في كل مكان وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، وعلى الجملة بدل المسلمون غير المسلمين وهبطوا مهبطا بعيد القرار فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدعى الإسلام لغضب"2.

ويصور لنا ابن غنام الحالة التي وصلت إليها نجد قبل دعوة الشيخ

1 لوتروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نويهض، وتعليق شكيب أرسلان، ج 1، ص 295.

2 لوتروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نويهض، وتعليق شكيب أرسلان، ج 1، ص 259.

ص: 22

محمد بن عبد الوهاب بقوله: "فقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم وهول مقيم، كان الناس يقصدون قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة يدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب، وقضاء الحاجات، وكانوا يزعمون أن في قرية في الدرعية قبور بعض الصحابة فعكفوا على عبادتها وصار أهلها أعظم في صدورهم من الله خوفا، ورهبة فتقربوا إليهم، وهم يعنون أنهم أسرع إلى تلبية حوائجهم من الله.... ". وكانوا يأتون إلى شعيب غبيرا من المنكر ما لا يعهد مثله يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور. وفي بلدة"العفرا" ذكر النخل المعروف"بالفحال" يذهب إليه الرجال والنساء ويفعلون عنده من المنكرات ما ينكره الدين، فالرجل الفقير يذهب إلى الفحال ليوسع له رزقه، والمريض يذهب إليه ليشفيه من المرض. والمرأة التي لم يتقدم لها خاطب تتوسل إليه في خضوع وتقول له: يا فحل الفحول ارزقني زوجا قبل الحول.

وكان هناك شجرة تدعى شجرة الذئب يؤمها النساء اللاتي يرزقن بمواليد ذكور ويعلقن عليها الخرق البالية لعل أولادهن يسلمون من الموت والحسد.

وكان في الخرج رجل يدعى"تاج" نهج الناس فيه سبل الطواغيت فانهالت عليه النذر واعتقدوا فيه النفع والضرر وكانوا يذهبون للحج إليه أفواجا وينسجون حوله كثيرا من الأساطير والخرافات

1.

ويلخص لنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن حال العصر

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، ص 11 - ص 12 بتصرف.

ص: 23

الذي ظهر فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: "كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن وشب الصغير لا يعرف من الدين إِلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنْزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريق الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة قد خلعوا ربقة التوحيد والدين وجدّوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون وببحر الأجاج ساربون به قد أغشتهم العوائد والمألوفات وحبستهم الشهوات والإرادات عن الارتفاع إلى قلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات

" 1.

هذه نبذة موجزة عن الحالة الدينية في العالم الإسلامي بشكل عام ونجد بشكل خاص عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أوردتها كمدخل للحديث عن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته التي سوف نتناولها إن شاء الله بالتفصيل.

1 عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، مجموعة الرسائل والمسائل النجدية. ج 3، ص 381 - ص

ص: 24

2-

نشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

نسبه:

ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد ابن بريد بن مشرف التميمي سنة 1115هـ"1703 م" فأصله ينحدر إلى قبيلة تميم تلك القبيلة التي حافظت على موطنها في إقليم نجد واستقرت واستوطنت وتركت حياة البدو واشتغلت بأوجه النشاط الأخرى من زراعة وتجارة1.

والمعروف عن أسرة الشيخ أنه ما كان في نجد في القرون الخمسة الأخيرة أسرة أنجبت من العلماء مثلما أنجبت هذه الأسرة، لقد كان جده سليمان بن علي مرجع المستفتين في زمانه وملاذ العلماء والمتعلمين، وكان فقيها عارفا بالمذاهب يقول ابن بشر: "أن جده الأعلى سليمان بن علي كان عالم نجد في زمانه، له اليد الطولى في العلم، وإليه انتهت الرياسة في نجد، ضربت إليه آباط الإبل، صنف وأفتى. وكان علماء نجد في زمانه يرجعون إليه في كل مشكلة من الفقه وغيره. أخذ العلم

1 محمود طه جغرافية شبه الجزيرة العربية ج 2، القاهرة، 1965 م، ص 145.

382

ص: 25

عن علماء أجلاء منهم الشيخ أحمد بن محمد بن مشرف وغيره "1.

كان لسليمان ولدان هما عبد الوهاب وإبراهيم اشتغلا بالعلم وبرزا فيه أما إبراهيم فقد اقتصر على القراءة والتعليم، وكان كأبيه يفتي ويدرس.

وأما عبد الوهاب فقد تولى قضاء العيينة في إمارة عبد الله بن حمد بن معمر، ولكنه عزل فيما بعد عندما تولى إمارة العيينة محمد بن حمد، وكان لعبد الوهاب ولدان هما محمد وسليمان. فسليمان كان عالما فقيها وقد خلف أباه في قضاء حريملاء وكان من أشد أعداء الدعوة في أول الأمر ولكن الله هداه فيما بعد.

أما محمد فهو صاحب الدعوة الإصلاحية في نجد والذي سوف نتكلم عنه بالتفصيل في الفصول الآتية:

ولد الشيخ محمد في بلدة العيينة، عندما كان والده عبد الوهاب قاضيا فيها سنة 1115 هـ"1703 م"، وكان الشيخ عبد الوهاب آنذاك، بجانب وظيفته القضائية يقوم بتدريس الحديث والتفسير على مذهب أحمد بن حنبل وكان بيته مكانا يتجه إليه طلاب العلم وبعض العلماء حيث يمضون الوقت في جدال فقهي أو نقاش ديني وكان الطفل وقد شب وأصبح صبيا، يحلو له أن يراقب مجلس أبيه عن كثب فينصت

1 أمين، سعيد، سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بيروت، شركة التوزيع العربية، 1384 هـ، ص 8.

ص: 26

أحاديث القوم ومجادلاتهم1.

ولذا نشأ محمد بن عبد الوهاب واسع الثقافة بالنسبة للجيل الذي عاصره، واستطاع أن يحفظ القرآن قبل أن يبلغ العاشرة من العمر، وكان حاد الذكاء سريع الحفظ، فصيحا "روى أخوه سليمان أن أباه كان يتوسم فيه خيرا كثيرا فيتعجب من قوة إدراكه مع صغر سنه، وكان يتحدث بذلك ويقول: إنه استفاد من ولده محمد فوائد من الأحكام2.

وهكذا ما كاد يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى بدت عليه علامات النجابة بأبهى وأوضح صورها، وتوسعت مداركه وتفتح تفكيره. فأدرك ما كان شائعا في مجتمعه من البدع والخرافات والضلال فلم تعجبه الطريقة التي كان يسير عليها علماء الدين في نجد وهي طريقة السكون والهدوء، لذا فقد عقد العزم على انتهاج طريقة السلف الصالح بالدعوة لنبذ البدع وتطهير الإسلام مما علق به من الأوهام والخرافات.

وقد بدأ ينكر هذه الخرافات ويدعو الناس إلى اجتنابها ولما أدرك الشيخ تقاعس مواطنيه في العيينة عن سماع الحق قرر الابتعاد عن نجد واتجه إلى الديار المقدسة في الحجاز للحج أولا وطلب العلم ثانيا.

1 دكتور عبد الحميد البطريق، الوهابية دين ودولة، بحث منشور بحولية كلية البنات، جامعة عين شمس، 1964 م، ص 42.

2 حسين بن غنام تاريخ نجد، ص 75.

ص: 27

3-

الرحلة إلى الحجاز

استأذن الشيخ محمد والده بالسفر إلى الحجاز، فأذن الوالد للولد وزوده بما يحتاج إليه في رحلته، فأم الشيخ مكة المكرمة وأدى فريضة الحج واطلع على حالة المسلمين هناك، ثم توجه إلى المدينة المنورة، وقد قابل في المدينة عالمين جليلين وكان لهما أكبر الأثر في حياته واتجاهه.

أول العالمين هو شيخ نجدي، من عائلة لها الوجاهة والرئاسة في مدينة المجمعةعالم عاقل، من العاكفين على كتب ابن تيمية والمتتبعين له المعجبين بآرائه، هذا العالم هو الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وكان هذا الرجل متألما مما وصلت إليه الحالة في نجد، من فشو الجهل، وظهور المنكرات، والبعد عن التوحيد، فأنكر ذلك وأراد إزالة الجهل وتوابعه عن طريق الحجة والإقناع، فكان يرى أن خير وسيلة لتحقيق التوحيد هي سبيل الدعوة والإرشاد، ونشر العلم، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: كنت ذات يوم عند الشيخ عبد الله فقال لي: ألا تحب أن ترى ما أعددنا للمجمعة من سلاح؟ فقلت: بلى، فأخذ بيدي إلى حجرة ملئت كتبا ومجلدات وقال: هذا ما أعددنا للمجمعة.

وفي المدينة أيضا اجتمع الشيخ محمد بعالم آخر ذي مكانة عالية وهذا الشيخ هو محمد بن حياة السنديهندي الأصل سلفي العقيدة وكان هذا الشيخ شديد الصلة بابن سيف فعرّفه على الشيخ محمد، وكان

ص: 28

السندي ينكر البدع والمحدثات إنكارا صريحا وقد قويت صلة الشيخ محمد بالسندي وتتلمذ عليه وقد أثر السندي تأثيرا قويا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والواقع أن الشيخ محمد لم يقتصر على الأخذ من هذين العالمين وإنما أخذ من علماء آخرين في المدينة المنورة مثل الشيخ الداغستاني، وإسماعيل العجلوني.

لقد كانت البدع شائعة في المدينة، وكان محمد بن عبد الوهاب ذات يوم قريبا من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فشاهد جماعة عند الحجرة الشريفة، يستغيثون ويدعون ويعملون ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأنكر ما رآه في رفق ولين، ولما رأى عالم المدينة الشيخ السندي مقبلا إِليه، سأله قائلا ما تقول في هؤلاء؟ فأجابه الشيخ السندي:{إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139]1.

ومما لا شك فيه أن رحلة الشيخ إلى الحجاز أفادته كثيرا، فقد وقف على حياة شعوب العالم الإسلامي ممثلة في حجاج بيت الله الحرام، وعرف علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأخذ عنهم ما هو في حاجة إليه من العلم، وبعد أن أدى الغرض من رحلته إلى الحجاز، قرر العودة إلى نجد حيث الشرك والجهل يغشيانها، وقرر محاربة البدع والخرافات والأوثان مهما كلفه الأمر، ثم ودع أصحابه ومشايخه فدعوا له بالتوفيق والسداد، فترك المدينة راجعا إلى نجد.

1 وانظر: علي الطنطاوي، محمد بن عبد الوهاب، سلسلة أعلام التاريخ، دمشق، دار الفكر، 1381 هـ، ص 17.

ص: 29

4-

العودة إلى نجد

رجع الشيخ إلى نجد سعيدا، وأفاد من رحلته إلى الحجاز كثيرا، فقد أدى فريضة الحج، وزار مدينة الرسول على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وتزود من علماء الديار المقدسة، وعندما استقر به المقام في مسقط رأسه العيينة عكف على مواصلة دراسته على والده، ومباحثته في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان يدون مباحثه ودروسه بيده، وكان سريع الكتابة حسن الخط، بحيث كان يخط بالخط البديع الجميل في المجلس الواحد كراسا واحدا من غير سآمة ولا تعب1.

وهكذا استمر الشيخ على هذه الطريقة حتى قرر الرحيل، إلى العراق للاتصال بمن فيها من أعلام الدين للحصول على المزيد من العلم فترك العيينة عام 1136 هـ - 1724 م متوجها إلى العراق.

5-

الشيخ محمد في البصرة

لما وصل الشيخ محمد إلى البصرة، وجد فيها عالما سلفيا هو الشيخ محمد الجموعيفدرس عليه اللغة والحديث "فأقام مدة يقرأ عليه فيها وينكر أشياء من الشركيات والبدع وأعلن بالإنكار واستحسن شيخه قوله وأقر له بالتوحيد وانتفع به"2.

1 حسين خلف الشيخ خزعل، حيِاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بيروت، مطابع دار الكتب، 1968 م، ص 60.

2 عثمان بن عبد الله بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ج 2، 1402 هـ، ص 8.

ص: 30

والحق أن الشيخ محمدا لم يقصر جهده خلال إقامته في البصرة على الدراسة فقط، بل إنه حارب البدع التي يقوم بها غلاة الشيعة مثل تقديس القبور وتعظيم الأولياء، لقد هاله ما وجد هناك من الخرافات والبدع، التي ألصقت بالدين، وتوارثها الناس جيلا بعد جيل حتى أصبحت عندهم حقائق راسخة.

فأظهر الشيخ محمد إنكاره لهذه البدع وبدأ يبشر بما ظهر له من حقائق التوحيد في مجالسه، وقد وصف لنا هذه المجالس فقال:"كان أناس من مشركي البصرة يأتون إلي بشبهات يلقونها علي فأقول وهم قعود لدي لا تصلح العبادة كلها إلا لله فيبهت كل منهم فلا ينطق فاه"1.

وهكذا بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينكر البدع في البصرة، كما أنكرها من قبل في الحجاز والعيينة، ولقد عز على بعض أهالي البصرة أن ينكر محمد معتقداتهم المبتدعة، فأخذوا يسألونه أسئلة محرجة، وكان هدفهم إيقاعه في الشبهات، ولكن الشيخ كان يجيبهم بأجوبة دقيقة تزيل الشك، وتوضح الحق، وتدفع الشبهات. وكان من ضمن أجوبته عندما يسأل عن ذلك قوله: "لا تصلح العبادة كلها إلا لله وحده دون سواه، ويخطئ من يدعو غيره2.

وبالرغم مما واجهه الشيخ في البصرة من غلاة الشيعة، فقد كان له

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، تحقيق ناصر الدين الأسد، ص 26.

2 حسين خلف، حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مرجع سابق، ص 62.

ص: 31

أتباع يؤمنون بدعوته ويدافعون عنها، ولكن الأعداء أكثر من الأصدقاء، فتآمروا عليه وعقدوا العزم على الإيقاع به "فجاءه قسم منهم ظهرا وعلامة الشر بادية في وجوههم وهددوه بالقتل أو الرحيل من البصرة، فأثر الشيخ السلامة والنجاة بنفسه فغادر البصرة "1.

ترك الشيخ البصرة بعد هذه المؤامرة متوجها إلى الزبيربغير زاد ولا راحلة، منفردا يمشي على رجليه، فاشتد به العطش وأوشك على الهلاك -لولا لطف الله به، فلقد لقيه رجل من أهل الزبير يقال له أبو حميدان، فرق لحاله وحمله على حماره حتى أوصله إلى الزبير.

بقي الشيخ في الزبير أياما، وأراد السفر إلى الشام، بيد أن ما لديه من مال قد نهبه سفهاء البصرة الذين أخرجوه، وبجانب ذلك وصلته أنباء انتقال والده من العيينة إلى حريملاء بسبب النّزاع الذي حصل بين والده وبين أمير العيينة محمد بن حمد بن معمر.

فرأى الشيخ محمد أن يرجع إلى نجد، وفي طريقه إلى نجد مر بالأحساء فنزل على الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الطيف الأحسائي. فأكرمه، وأقام لديه أياما حافلة بالمطالعة والبحث. ثم ترك الأحساء وانضم إلى والده في بلدة حريملاء.

6-

الأدلة على عدم ذهاب الشيح لبلاد فارس

وقبل أن ننهي الحديث عن رحلات الشيخ خارج نجد أحب أن أشير

1 حسين خلف، حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مرجع سابق، ص 62.

ص: 32

إلى خطأ وقع فيه كثير من المؤرخين، وهو القول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحل إلى بلاد فارس وأقام في كردستان، لقد وقع في هذا الخطأ كثير من المؤرخين. لقد ذكر على سبيل المثال المستشرق مارجيليوت الذي ذكر في دائرة المعارف الإسلامية، أن الشيخ تزوج في بغداد امرأة، وماتت بعد زمن فورث عنها الشيخ ألفي دينار وأنه رحل إلى بلاد الكردستان وهمدان.

وقد ذكر هذه الروايات كثير من الرحالة الأوروبيين مثل برجس زويمر وبلجريف1. ولم يقتصر هذا الخطأ على المستشرقين فهذا مؤلف كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب "فقد ذكر أن الشيخ رحل إلى بلاد فارس وتعلم الحكمة، وعن صاحب هذا الكتاب نقل حافظ وهبه أخبار الرحلة إلى بلاد فارس في هامش كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين ص 336. ولقد وجدت بعد تتبع كل ما كتب في هذا أن جميع الذين ذكروا هذا الرأي اعتمدوا على مصدر واحد وهو كتاب: "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب". فهذا الرأي لم يذكر في أي مصدر من المصادر الأصلية في هذا الموضوع مثل: كتاب ابن غنام"تاريخ نجد"، وكتاب ابن بشر"عنوان المجد" لذا فإننا لا نستطيع الأخذ بالروايات التي تذكر أن الشيخ ذهب إلى بلاد فارس لعدة أسباب أهمها:

أولا: أننا بعد دراسة كتب الشيخ ورسائله نستطيع القول: إنه لم يذكر بلاد فارس كبلاد زارها، ولم نجد رسالة واحدة موجهة إلى أي عالم من علماء فارس في زمنه. وهل يعقل أن يعيش الشيخ في

1 أحمد علي آل سعود، ص 10.

ص: 33

فارس ويدرس فيها دون أن يكون له علاقة مع أحد فيها؟

ثانيا: لم يتطرق إلى الحديث عن الرحلة إلى بلاد فارس أي من المؤرخين ابن غنام وابن بشر، ولو حدث شيء من هذا لكتباه خاصة وأنهما كانا حريصين كل الحرص على تسجيل أخبار الشيخ، وكل الذين نقلوا رواية الرحلة أخذوها عن مصدر واحد كما قلنا وهو مؤلف كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب "، وهذا المؤرخ لا يعتمد عليه، حيث إن مؤلفه يتحامل على الدعوة وصاحبها ومؤيديها.

ثالثا: بالرغم من أن جميع الذين كتبوا عن الشيخ محمد حرصوا على ذكر ما يدل على براعته وذكائه، فإنهم لم يذكروا أن الشيخ كان يعرف اللغة الفارسية. وبجانب ذلك فإننا لا نجد بين آثار الشيخ ما يدل على معرفته باللغة الفارسية. لكل هذه الأسباب فإننا لا نستطيع الأخذ بالرأي القائل إن الشيخ زار بلاد فارس، أثناء رحلته لطلب العلم.

7-

العوامل التي أثرت في الشيخ محمد فجعلته مصلحا دينيا

يوجد عدة عوامل أثرت في الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن أهم هذه العوامل ما يأتي:

أولا: البيت، فلقد رأينا كيف نشأ الشيخ في بيت علم وفقه وقضاء، بين والده عبد الوهاب الذي كان فقيها حنبليا، وجده سليمان الذي كان شيخ نجد في زمانه، ولا شك أن من يتوفر له مثل هذا الجو، يتأثر

ص: 34

به، ويكون اتجاهه في الغالب اتجاها دينيا.

ثانيا: ومن بين العوامل التي أثرت في تكوين شخصية الشيخ محمد واتجاهه السلفي بجانب البيت شخصية أحمد تقي الدين بن تيمية، الذي عاش في القرن الثامن الهجريوبالرغم من طول الفترة الزمنية التي تفصل بينهما إلا أن الشيخ محمد درس آثار ابن تيمية دراسة عميقة، لقد درس كتبه ورسائله وفتاويه، وأخذ عنها ونسخ بعضها بنفسه "وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب"بل إن المبادئ التي نادى بها الشيخ محمد، كانت نفس المبادئ التي نادى بها ابن تيمية. فكل منهما نادى بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله. وما كان عليه السلف الصالح، ومقاومة البدع التي ألصقت بالإسلام، وعلى هذا فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تعد امتدادا لدعوة ابن تيمية.

"وكان ابن تيمية حرا في تفكيره في دائرة الكتاب والسنة وما صح عن الصحابة من آثار بشرط وقوفه بصدورها عنهم"1. وكان ابن تيمية شديدا لمحاربة المنكرات والبدع، خاصة ما كان منها وسيلة للشرك مثل الاستعانة بغير الله والتبرك بالأشجار

1 محمد أبو زهرة، ابن تيمية، حياته وعصره، وآراءه وفقهه، دار الفكر العربي، ص 6.

ص: 35

والأحجار التي يقدسها المسلمون ويعتقدون أنها تدفع الضرر وتجلب النفع مما يدل على تأثر الشيخ بابن تيمية. أن معظم رسائل الشيخ التي وجهها إلى الناس مملوءة بشواهد من كلام الشيخ ابن تيمية أو من شروحه لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

ثالثا: الرحلات: لقد كان للرحلات التي قام بها الشيخ أكبر الأثر في نفسه، لقد ذهب إلى مكة المكرمة واجتمع بكثير من الحجاج وعن طريقهم عرف - الكثير عن أحوال المسلمين في البلاد الإسلامية خارج الجزيرة، وعندما ذهب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلماء أجلاء، كان لهم أكبر الأثر في دعوة الشيخ، كما شاهد البدع منتشرة في المدينة، وعندما ذهب إلى البصرة شاهد ما شاهده من الخرافات والبدع التي ليست من الدين في شيء. والحق أن جميع رحلات الشيخ قد وسعت من أفقه، ونبهته إلى الأخطاء المنتشرة في العالم الإسلامي، وجعلته يصمم على القيام بدعوته الإسلامية المباركة.

رابعا: المجتمع الذي عاش فيه: لقد كان المجتمع الذي نشأ فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجتمعا يحتاج إلى إصلاح عقيدته، فالبيئة التي عاش فيها كانت بيئة خرافات وبدع، لقد جعلت هذه البيئة الفاسدة الشيخ محمدا يصمم على محاربة الخرافات والبدع، والعمل على نشر مبادئ الإسلام السليمة.

ص: 36

8-

الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حريملاء بداية المرحلة التأسيسية للدعوة

رجع الشيخ محمد من البصرة مارا بالأحساء إلى بلدة حريملاء حيث يعيش والده هناك، وبوصوله إلى حريملاء تبدأ المرحلة التأسيسية للدعوة، فقد دخلت الدعوة مرحلة جديدة، ويمكن القول إن هذه الفترة التي أمضاها الشيخ في حريملاء، والتي استمرت نحو خمس عشرة سنة، أي منذ وصوله سنة 1139 هـ إلى سنة مغادرته إلى العيينة سنة 1153 هـ كانت فترة استعداد للوثبة الكبرى التي أعدته لها العناية الإلهية وألهمته إياها. والواقع أن الشيخ محمدا لم يلزم جانب الهدوء، ويخلد إلى السكون والراحة، بل واصل التعلم والتعليم مع أبيه، وعندما رأى حال الجهل التي يعيشها الناس في حريملاء اشتد حماسه في سبيل إنقاذ مواطنيه مما هم فيه من الجهل بأصول الدين، فأخذ يجاهر بدعوته، ويدعو الناس للعودة إلى الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ولم يكن مجتمع نجد مستعدا لقبول ما يدعو إليه الشيخ ولهذا عارضوا ما نادى به وحاولوا التخلص من صاحب الدعوة، ولما ظهر لعبد الوهاب أن ولده متحمس لدعوته وأن الناس يعارضون هذه الدعوة ويتربصون بصاحبها الدوائر، خاف عبد الوهاب على ابنه محمد ونصحه بلزوم الاعتدال وعدم التسرع في دعوته.

فأخذ برأي والده وبعد وفاة والده عام 1153 هـ"1729 م" نشط في دعوته، وبذل فيها ما أعطي من قوة واندفاع. شاع خبر محمد في المنطقة

ص: 37

كلها وتناقل الناس أخبار الدعوة والداعي فأقبل عليه كثيرون واتبعوا دعوته، ولزموا مجلسه فأخذ يعظ الناس ويرشدهم، ثم بدأ يرسل دعاته ورسائله إلى البلدان المجاورة لنشر دعوته، وهذه أول رسالة أرسلها لأهل العارض وهي بمثابة البيان الأول وهذا نصها: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فاعلموا، رحمكم الله، أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيرا ونذيرا، مبشرا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرا لمن لا يتبعه بالنار. وقد علمتم إقرار كل من له معرفة، أن التوحيد الذي بينه للناس هو الذي أرسل الله به رسله، وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم هو الشرك، الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 2.

فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون، لو يترك أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال، ولكن لننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله، أن تعلموا به إن كنتم أمة محمد باطنا وظاهرا.

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، بيروت، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، ص 316 - ص 317.

2 سورة المائدة آية: 72.

ص: 38

وأنا أبين لكم هذه بمسألةالقبلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون، والنصارى يصلون ولكل قبلته، فقبلته صلى الله عليه وسلم وأمته بيت الله الحرام وقبلة النصارى مطلع الشمس. فالكل منا يصلي، ولكن اختلفنا في القبلة، ولو أن رجلا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا ولكن يكره من يستقبل القبلة، ويحب من يستقبل الشمس، أتظنون أن هذا مسلم؟ وهذا ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد وأن لا يدعو مع الله أحدا، لا نبي ولا غيره، والنصارى يدعون عيسى رسول الله، ويدعون الصالحين، ويقولون ليشفعوا لنا عند الله. فإذا كان كل "مطوع"" مقرا بالتوحيد، فاجعلوا التوحيد مثل القبلة، واجعلوا الشرك من استقبال الشرق، مع أن هذا أعظم من القبلة.

وأنا أنصحكم وأنخاكم"أستثير نخواتكم" لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبوا دين النصارى على دين نبيكم، فما ظنكم بمن واجه الله، وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه ودين رسوله، وهو يبغضه ويبغض من اتبعه، أتظنون أن الله يغفر لهذا والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب الخالي فلا حيلة لنا فيه ".

ولم يكتف محمد أثناء إقامته في حريملاء بهذا، بل ألف أثناء هذه الفترة كتابه القيم، الذي كتب فيه مبادئ دعوته، وهذا الكتاب، هو كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" وفي هذا الكتاب

ص: 39

يشرح محمد بن عبد الوهاب العقيدة الإسلامية شرحا واضحا، مستندا في هذا إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة، وطريقته يأتي بالآية التي تدعو إلى التوحيد، وتبين حقيقته

ثم يورد ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث في هذا المعنى، ثم يكشف بعد هذا ما يفسد عقيدة المسلم ويذهب بالناس مذهب الشرك. ومن أمثلة ذلك قوله تحت عنوان:"باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين". يقول قال الله عز وجل: {أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النّساء، من الآية: 171] . وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] . قال:"أي ابن عباس" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله "وعلى هذه الطريقة سار محمد بن عبد الوهاب في كتابه وكان هدفه بيان حقيقة التوحيد، وقد أسفرت جهوده في حريملاء عن نتائج طيبة فوالاه أناس وأيدوه، واعتقدوا أنه محق في دعوته وصادق.

وعلى الجانب الآخر عارض دعوته آخرون، وسفهوا الشيخ وقاوموا

ص: 40

دعوته، وقد ساعد الوضع السياسي المضطرب في حريملاء الحزب المعارض على الانتصار، حيث كان في حريملاء قبيلة كبيرة انقسمت مع الزمن إلى فرعين وكان كل منهما يتطلع إلى الزعامة، وكانت الرئاسة دولة بينهما، فإذا حكم أحدهما لم يكن له على الآخر أمر ولا نهي، فكان الفرع القائم على الزعامة بمثابة الحزب المعارض اليوم، ولكنها معارضة قائمة على الشغب والعدوان والإفساد في الأرض1.

وكان للفرع الحاكم زمن محمد بن عبد الوهاب عبيد أشداء عتاة مفسدون كثر فسقهم واعتداؤهم على الناس، وكثرت جرائمهم، فنهاهم الشيخ فكبر ذلك عليهم، فهموا باغتياله، فبيتوا مؤامرة للقضاء عليه، وتسوروا عليه جدار منْزله ليلا، وكادوا يقتلونه لولا أن رآهم أحد الجيران فصاح بهم ونبه الناس إليهم فهربوا. ولقد أدرك الشيخ بعد هذه المؤامرة أن لا بقاء له في حريملاء وأن من الأفضل له ولدعوته أن يهاجر إلى العيينة دار نشأته، وموطن أسرته وأصدقائه.

وكان أمير العيينة في ذلك الوقت عثمان بن معمر الذي أعلن قبوله للدعوة وتأييدها. ومما سبق نستطيع القول أن الفترة التي قضاها الشيخ محمد في حريملاء هي الفترة التأسيسية الأولى من مراحل الدعوة، ففي خلال هذه الفترة كان الشيخ قد أعد نفسه للوثبة الكبرى وهي البدء في تنفيذ برنامجه الإصلاحي.

1 محمد بن عبد الوهاب لعلي الطنطاوي ج2 ص22.

ص: 41

9-

الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العيينة

عندما وصل الشيخ إلى العيينة رحب به أميرها عثمان بن معمر أجمل ترحيب، وأنزله على الرحب والسعة، ولقد ارتاح الشيخ لما ناله من تأييد الأمير عثمان بن معمر، وحرصا من عثمان بن معمر على تقوية أواصر الود والصداقة بينه وبين الشيخ فقد زوجه من السيدة، "الجوهرة عمته"، وكان الأمير عثمان بن معمر يأمل أن يتعاون مع الشيخ محمد، فحقق الله أمنيته وتحدث إليه قائلا:"إني أرجو إن قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى، وتملك نجد وأعرابهاورضي عثمان بما عرض عليه الشيخ فبايعه على النصر والتأييد وتبعه في دعوته، وأعانه بكل ما يستطيع من قوة وقام ابن معمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكم شرع الله في وطنه، وأزال الظلم، وقمع أهل البغي.

ولما رأى أنصار الشيخ مكانته في العيينة التحقوا به ونالوا من ابن معمر ما يليق بهم من التكريم والحفاوة، ولم يقتصر الشيخ أثناء إقامته في العيينة على إرشاد أهلها، بل كان يكتب الرسائل ويرسلها إلى بعض البلدان مثل الدرعية وثادق والمجمعة يبيّن في هذه الرسائل حقيقة التوحيد ومعنى الإسلام. ولنأخذ هذه الرسالة مثالا لمكاتباته.

ص: 42

كتب الشيخ إلى عبد الله بن عيسى عالم الدرعية رسالة جاء فيها:1

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فقد قال ابن القيم "في إعلام الموقعين " قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ، [القصص، من الآية: 50]، فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة للرسول وإما اتباع الهوى، وذكر كلاما في تقرير ذلك إلى أن قال: ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم عليه. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النّساء، من الآية: 60] . قال، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه- بغير الله ورسوله- أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن طاعة الله ومتابعة رسوله، إلى طاعة الطاغوت ومتابعته وهؤلاء لم يسلكوا

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، مصدر سابق، ص 355.

ص: 43

طريق الناجين من هذه الأمة- وهم الصحابة ومن تبعهم- قال الله تعالى: {َتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .

والزبر: الكتب أي كل فرقه صنفوا كتبا أخذوا بها، وعملوا بها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء.

وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران، من الآية: 106] . قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف. هذا كله كلام ابن القيم.

وقال الشيخ تقي الدين في كتاب الإيمان: قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، من الآية: 31] .

وفي حديث ابن حاتم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"إنا لسنا نعبدهم. قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قلت بلى. قال: فتلك عبادتهم". رواه أحمد والترمذي وغيرهما.

وقال أبو العالية: إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقوله "نبذوه وراء ظهورهم" انتهى كلام ابن تيمية.

ص: 44

فتأمل هذا الكلام بقلبك، نم نزله على أحوال الناس وحالك وتفكر في نفسك وحاسبها بأي شيء تدفع هذا الكلام، وبأي حجة تحتج يوم القيامة على ما أنت عليه؟

فإن كان عندك شبهة فأذكرها، فأنا أبينها إن شاء الله تعالى والمسألة مثل الشمس ولكن من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وإن لم يتسع عقلك لهذا فتضرع إلى الله بقلب حاضر، خصوصا في الأسحار، ليهديك للحق ويريك الباطل باطلا، وفر بدينك فإن الجنة والنار أمامك والله المستعان ولا يستهجن هذا الكلام فوالله ما أردت به إلا الخير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

10-

برنامج الشيخ الإصلاحي في العيينة: إزالة المنكرات:

كان في العيينة كما كان في كثير من بلدان العالم الإسلامي، أشجار تقدس، وقبور تعظم، وأحجار يعتقد أنها تدفع الضرر وتجلب النفع، فرأى الشيخ أن من واجبه، إزالة هذه المنكرات التي حرفت المسلمين عن العقيدة الصحيحة.

1-

قطع الأشجار التي يتبرك بها:

لقد بلغت الخرافة ببعض المسلمين في نجد إلى التوسل والتبرك ببعض الأشجار والنخيل، وكان عندهم نخل يفعلون عنده أقبح الفعال، فالمرأة التي تأخر عنها الزواج تذهب إلى فحل النخل وتضمه بيدها وتدعوه قائلة:"يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول ". وكان هناك شجرة مشهورة"شجرة الطرفية" كان الناس يتعلقون بها ويرجون منها الشفاء والبركة.

ص: 45

فكان الشيخ رحمه الله يستأجر رجالا يدفع إليهم من ماله، ليقطعوا هذه الأشجار، وبقيت شجرة واحدة بالعيينة وكانت كبيرة تعرف بشجرة الذئب، لم يستطع أتباع الشيخ قطعها لكثرة روادها وقاصديها، فذهب الشيخ إلى هذه الشجرة بنفسه وقطعها وهو يتلو قوله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الإسراء: 81] . ولما أصبح الناس لم يجدوا هذه الشجرة، فترقبوا بالشيخ الضرر فوجدوه لم يصب بمكروه.

2-

هدم القباب:

وخطا الشيخ خطوته الثانية وهي التصميم على هدم القباب المقامة على القبور التي ضل الناس بها عن الهدف، فتبادل الرأي مع الأمير عثمان بن معمر فوافق على ذلك وكان ببلدة الجبيلة قبة على القبر المنسوب إلى زيد بن الخطاب، يقدسها ويحجون إليها، ويعكفون على القبر ويتمسحون به، فأراد الشيخ أن يهدمها وشاور عثمان بن معمر فقال له عثمان: دونكما فأهدمها فأعرب الشيخ لعثمان عن خوفه من أهل الجبيلة، فطلب مساعدته، فذهب الشيخ ومعه عثمان بن معمر بنحو ستمائة رجل، فلما اقترب منها، هب أهل الجبيلة لمنعهما بالقوة، فاستعد عثمان لحربهم، ورتب جنده، وأعد سلاحه، فلما رأوا عزم عثمان تخلّوا عن المقاومة بأيديهم، فأقبلوا يمنعونهما بألسنتهم ويخوفونهما من عاقبة عملهما، وعندما رأى الشيخ ذلك، أخذ الفأس وضرب جوانبها، وتابعه أتباعه وأزيلت القبة. وما أصاب الشيخ ضرر،

ص: 46

ولقد ضجت نجد كلها لهذه الأعمال، وتناول الناس أخبار الشيخ، واتهموه بأنه صاحب بدعة منكرة وخارج عن الدين الإسلامي، ولكن الشيخ لم يقف موقف المتفرج إزاء هذه الدعاية الخبيثة بل التزم جانب الدفاع عن دعوته والرد على خصومه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعث رسائل إلى بعض العلماء وهذه الرسالة مثال من رسائله إلى أولئك العلماء أرسلها إلى مطاوعةأهل سدير والوشم والقصيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خصوصا محمد بن عبيد وعبد القادر العديلي وابنه، وعبد الله بن سحيم، وعبد الله بن عضيب، وحميدان بن تركي، وعلي بن زامل، ومحمد أبا الخيل بن عبد الله، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشّرع التام وأعظم ذلك وأكبره وزبدته هو إخلاص الدين لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك وهو: أن لا يدعي أحد من دون الله من الملائكة والنبيين، فضلا عن غيرهم. فمن ذلك لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له، وجميع

ص: 47

العبادات لا تصلح إلا له وحده لا شريك له. وهذا معنى قوله: "لا إله إلا الله فإنه المألوه والمقصود والمعتمد عليه "، وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه، فمن عرف هذه المسألة عرف أن أكثر الخلف قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم، والكلام في هذا يبنى على قاعدتين عظيمتين:

القاعدة الأولى:

أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله، ويعظمونه، ويحجون ويعتمرون، ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل، وأنهم يشهدون أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يدبر إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس، من الآية: 31] . فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله فأعرف:

القاعدة الثانية:

وهي أنهم يدعون الصالحين، مثل الملائكة وعيسى وعزير، وغيرهم، وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء سماه إلها، ولا يعني بذلك أنه يخلق ويرزق، بل يدعون الملائكة وعيسى، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، من الآية: 18] . ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر، من الآية: 3]، والإله في لغتهم هو الذي يسمى في لغتنا:"الذي فيه سر". والذي يسمونه الفقراء شيخهم يعنون بذلك أنه يدعي وينفع ويضر وإلا فإنهم مقرون لله بالنفوذ

ص: 48

بالخلق والرزق، وليس ذلك معنى الإله، بل الإله: المقصود المدعو الموجود، ولكن المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين:

أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء، من الآية: 67] .

والثاني: أن مشركي زماننا يدعون أناسا لا يوازون عيسى والملائكة. إذا عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام هذا يأتي إلى قبر نبي وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة

فإن كان الاستدلال بالقرآن هزئا وجهلا، كما هي عادتكم ولا تقبلونه، فانظروا في "الإقناع " في باب حكم المرتد وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها- فقد ارتد وحل دمه، مثل الاعتقاد في الأنبياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينه وبين الله

فإن بان لكم في كلامي هذا شيء من الغلو من أن هذه الأفاعيل لو كانت حراما فلا تخرج من الإسلام، وأن فعل أهل زماننا في الشدائد في البحر والبر، وعند قبور الأنبياء والصالحين، ليست من هذه.

بينوا لنا الصواب، وأرشدونا إليه. وإن تبين لكم هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه

ص: 49

النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه.

فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا لما يحب ويرضى والسلام1.

هكذا كان محمد بن عبد الوهاب يرد على خصوم الدعوة معتمدا في رده على القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة.

3-

إقامة حد الزنا:

لقد استطاع محمد بن عبد الوهاب أن يؤثر تأثيرا عميقا في المجتمع الذي عاش فيه، وأن يجعل كل إنسان يحاسب نفسه على ما فعل. وبلغ من تأثيره في الناس أن جاءته فتاة نجدية، تعترف بأنها قد زنت وهي متزوجة وطلبت من الشيخ أن يقيم الحد عليها. وكانت هذه الفتاة تعرف أن الحد هو أشد عقوبة عرفها البشر، الرجم، ومع ذلك فقد أقدمت على الاعتراف بالذنب وطلبت من الشيخ إقامة الحد عليها، بسبب ما تمكن في قلبها من العقيدة الصادقة، وما ثبت فيه من الإيمان، والحق أن هذا أسمى ما يتخيل من ألوان التضحية بالنفس في سبيل الواجب.

ولما كانت الحدود في الشريعة الإسلامية السمحة تدرأ بالشبهات فقد فتح لها الشيخ طريقا للنجاة فسألها هل غصبت غصبا فأجابت أنها

1 ابن غنام، تاريخ نجد، تحقيق ناصر الأسد، ص 355- 258.

ص: 50

كانت راضية غير مغصوبة، ففكر الشيخ ثم طلب إليها أن تراجعه بعد أيام، وتكررت مراجعة الزانية التائبة أربع مرات وأصرت إصرارا غريبا على إقامة الحد عليها، وكان موقف لا يكاد يجد له الباحث عشرة أشباه في تاريخ البشر هو أعجوبة الأعاجيب في تاريخ البشر، فأقام عليها الحد بمشاركة عثمان بن معمر، ومشى الخبر في كل مكان فانقطعت - به طرق الزنا غفر الله لك أيتها التائبة1.

4-

صلاة الجماعة:

وجد الشيخ في العيينة أن المسلمين منصرفون عن صلاة الجماعة وهي شعار عظيم من شعائر الإسلام، فطلب من الأمير عثمان بن معمر حاكم العيينة بأن يشكل هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون من أول واجباتها إلزام الناس بصلاة الجماعة وبالفعل باشرت هذه الهيئة مهمتها، نتيجة لذلك امتلأت المساجد بالمصلين وعمرت بمجالس العلم والذكر، وبهذا زادت الرابطة الاجتماعية بين الناس في العيينة.

الشيخ يغادر العيينة

قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ببرنامجه الإصلاحي الآنف الذكر في العيينة، مدفوعا بقوة إيمانه، فشاعت أخباره ومساندة عثمان بن معمر إلى مسمع العرب خاصة أمراء نجد والأحساء، وقد اعتقد أعداء الدعوة، أن انتصار الدعوة يعنى ضياع السلطة من أيديهم لذا حاولوا

1 أحمد عبد الغفور -عطار- محمد بن عبد الوهاب، بيروت، مطابع دار العلم للملايين، ص 54.

ص: 51

بكل وسيلة ممكنة القضاء عليها، "وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطغام بكلامه ويقويهم بطريقته فيخرجون على حكامهم ويعلنون العصيان1.

لهذا شكوا تصرفاته وتصرفات مساعده ابن معمر إلى سليمان آل محمد رئيس بني خالد في الأحساء، وكان عثمان بن معمر يتلقى راتبا منه وخوفوه من خطر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:"فأرسل سليمان إلى عثمان كتابا يهدده فيه إن لم يقتل الشيخ أو يخرجه من بلده إن لم يفعل ذلك قطع خراجه عنده في الأحساء"2، فلم يستجب ابن معمر في بداية الأمر لطلب حاكم الأحساء، ولكن الظروف كانت كلها ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن معمر، وقد أدرك ابن معمر أنه لا يستطيع، رفض أمر حاكم الأحساء، فأمر الشيخ بالرحيل من العيينة.

ولكنه مع ذلك لم ينس خلائق العربي، ولم يغدر بجاره، فقال له:"إن سليمان أمرنا بقتلك، ولا نقدر على مخالفة أمره، وليس من المروءة ولا كرم الأخلاق أن نقتلك وأنت جارنا، فشأنك ونفسك وارحل عن بلادنا"3.

وبعد أن رأى الشيخ موقف عثمان عرف أن لا مقام له في العيينة. وهكذا رحل الشيخ من مسقط رأسه بعد أن أقام فيها أربع سنوات، وقف معه ابن معمر موقف النصير المخلص، الذي يؤمن بصدق الدعوة التي كان من حملة لوائها بل كان أول من ساندها وجاهد من أجلها أشد

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، تحقيق ناصر الأسد، ص 79.

2 حسين بن غنام، تاريخ نجد، تحقيق ناصر الأسد، ص 40.

3 "ابن بشر، المصدر السابق، ج1، ص 10".

ص: 52

الجهاد. وقد قرر الشيخ الذهاب إلى الدرعية لوجود كثير من أتباعه بها ولأن الأمير محمد بن سعود مشهور بالقوة والتدين والصلاح.

11-

حقيقة العلاقة بين عثمان بن معمر والشيخ محمد بن عبد الوهاب:

لا يستطيع أي باحث منصف تتبع سيرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العيينة أن ينكر الدور العظيم الذي قام به عثمان بن معمر من أجل الدعوة وصاحبها. فلقد احتضن ابن معمر الدعوة وبذل كل ما في طاقته من أجل حمايتها ونجاحها ووقف مع الشيخ في يسره وعسره، وقف معه عندما أراد الشيخ إزالة المنكرات وقفة الرجل الصادق، ووقف معه عندما أقام الحدود الشرعية، واستمع إلى رأيه عندما أشار إليه إلزام الناس بصلاة الجماعة، وقبل نصحه عندما نصحه في رفع المظالم.

هذه هي حقيقة العلاقة بين الشيخ وعثمان كما شهد بذلك الواقع التاريخي ولكن بعض المؤرخين نسبوا إلى ابن معمر فرية لا يصدقها التاريخ ولا يقبلها الباحث المنصف: لقد قال بعض المؤرخين لسيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إن عثمان بن معمر أراد قتله عندما خرج الشيخ إلى الدرعية. ولعل مورد هذا الخطأ ما ذكره المؤرخ النجدي عثمان بن بشر في كتابه، "عنوان المجد وتاريخ نجد " حيث يقول:"أرسل ابن معمر إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال: إن سليمان أمرنا بقتلك ولا نقدر على غضبه ولا مخالفة أمره لأنه لا طاقه لنا بحربه، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلادنا فشأنك ونفسك وخل بلادنا، فأرسل فارسا عنده يقال له"الفريد" وقال: اركب جوادك وسر بهذا الرجل إلى ما يريد، فقال الشيخ: أريد الدرعية

ص: 53

فركب الفارس جواده والشيخ يمضي راجلا أمامه وليس معه إلا المروحة وذلك في غاية الصيف. فقال ابن معمر لفارسه: "إذا أنت وصلت إلى أخيه يعقوب فاقتله عنده" فسار الفارس والشيخ أمامه وهو لا يلتفت فلما هَمَّ بقتله كف الله عنه يده وأبطل كيده وقذف في قلبه الرعب حتى ما استطاع أن يمشى قدما فحرف جواده وانصرف إلى العيينة. وقال لابن معمر: إنه أصابني رعب عظيم "1.

إن ما نسبه عثمان بن بشر المؤرخ النجدي إلى ابن معمر لا يتفق مع الواقع التاريخي، فالذين عاصروا الشيخ وكتبوا تاريخه في عهده لم يشيروا إلى هذه الحادثة من قريب أو بعيد، فالمؤرخ حسين بن غنام، تلميذ الشيخ ومؤلف تاريخ "روضة الأفهام" الذي عنِّي بسيرة الشيخ محمد وتاريخ حياته لم يشر إلى ما نسبه ابن بشر إلى ابن معمر، ولو كانت الحادثة صحيحة لكان ابن غنام أسبق إلى العلم بها من ابن بشر المتأخر الذي لم ير الشيخ ولم يتتلمذ عليه، بل إن ابن بشر نفسه رجع عن رواية هذه الحادثة وأبطلها مما يؤكد براءة عثمان بن معمر ما نسب إليه.

يقول ابن بشر: "واعلم رحمك الله أني قد ذكرت في المبيضة الأولى أشياء نقلت لي عن عثمان بن معمر وفرسانه وأنه أمر بقتل الشيخ في الطريق وغير ذلك، ثم تحقق عندي أن ليس لها أصل بالكلية فطرحتها من المبيضة"2. ومع أن ابن بشر أبطل روايته هذه إلا أن بعض المؤرخين ما زالوا يكتبون عن هذه الحادثة وكأنها حقيقة ثابتة بالرغم من أن راويها أبطلها.

1 ابن بشر، المصدر السابق،، ص 19 "الطبعة المصرية".

2 ابن بشر، المصدر السابق،، ج1 ص 15 " طبعة بغداد".

ص: 54

والحق أنه لا يصح أن ينسب إلى عثمان بن معمر ما نسب إليه والتاريخ يشهد أنه أول من آزر الدعوة ودافع عنها، وساعد الشيخ على تنفيذ برنامجه الإصلاحي في العيينة. يقول ابن غنام:"ثم بعد ذلك عزم على السير عنها والارتحال، والإقامة بالعيينة فجد في الرحيل والانتقال وذلك بعد أن هدى الله تعالى عثمان بن معمر لقبول هذا الدين المنور فدخل منه شيء في قلبه، وأعلن عند جماعته وصحبه بتقريبه وحبه فحين وصل تلك البلد قام معه عثمان وقعد، وساعده على ذلك واجتهد أمر الناس له بالاتباع، وعدم المشاققة والنّزاع، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره وكلامه، ويسلكوا طريق الاستقامة، ويظهروا توقيره وإكرامه، فكان بعد ذلك الأمر والإلزام، وصدور ذلك الاعتناء التام وشد الرغبة والاهتمام، وبدأ التعظيم له والاحتشام تسمع أقواله وتطاع، وتملأ الصدور والأسماع لم يبق في البلدان التي كانت تحت يد عثمان وشاع ذلك واستبان ونعم بذلك أهل الإيمان، وصلحوا حالا من ذلك المكان، وانتشر الحق من ذلك الأوان، واشتهر الأمر وبان، وسارت بذلك الركبان"1.

ولم يكتف عثمان بمساعدة الدعوة في وطنه، بل أنه عندما رحل الشيخ إلى الدرعية واستقر به المقام، كان في مقدمة الوفود التي وفدت إلى الدرعية لمبايعة الشيخ، بل أنه عرض على الشيخ أن يرجع إلى العيينة. وعلى هذا نستطيع القول: إن عثمان بن معمر أيد الداعي ودعوته بنفسه وسلطانه وماله، فلا يعقل بعد هذا كله أن يأمر ابن معمر

1 حسين بن غنام، روضة الأفكار والأفهام ج1 مرجع سابق، ص 31 -.

ص: 55

بقتل الشيخ عندما قرر الرحيل إلى الدرعية، فلقد كانت الظروف كلها ضد الشيخ وابن معمر فكان على الشيخ أن يرحل وقد زوده ابن معمر بفارس من فرسانه ليوصله إلى الدرعية. هذه حقيقة العلاقة بين الشيخ وابن معمر عندما كان الشيخ في العيينة وعندما هم بالهجرة منها.

12-

الشيخ في الدرعية

خرج الشيخ من العيينة سنة 1158 هـ ووصل إلى الدرعية صلاة العصر "فنَزل في الليلة الأولى عند عبد الله بن سويلم، وقدم الناس إلى منْزل ابن سويلم، حتى ضاق بهم، فخاف ابن سويلم على نفسه من أمير الدرعية محمد بن سعود، فوعظه الشيخ وهدأ من روعه1.

ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه أحمد بن سويلم الذي امتلأ بيته بأنصار الشيخ ومريديه، وكان من بينهم ثنيان ومشاري إخوان الأمير محمد بن سعود اللذان حاولا إقناع أخيهما بمواجهة الشيخ فتردد في أول الأمر فذهبا إلى زوجته موضي بنت أبي وطبان، وكانت امرأة متدينة عاقلة، فأخبراها بمكان الشيخ وبحقيقة دعوته، فألقى إليه في قلبها حبه والرغبة في نصرته، ولما دخل عليها زوجها محمد بن سعود قالت له:"إن هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به"فقبل منها ودعا أخاه مشاري وطلب منه أن يدعو الشيخ لمقابلته ولكن مشاري أشار على أخيه أن يذهب بنفسه لمقابلة الشيخ. وقال

1 عثمان بن بشر، تاريخ نجد، ج 1، ص 11.

ص: 56

له: سر إليه برجلك وأظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس1.

13-

لقاء محمد بن سعود للشيخ ومعاهدته

ذهب الأمير محمد بن سعود إلى بيت أحمد بن سويلم وهناك رحب بالشيخ قائلا له: "أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة. فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين وهي كلمة لا إله إلا الله من تمسك بها ونصرها ملك البلاد والعباد كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم2.

ثم أخبره بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه، وما كان عليه السلف الصالح، وما أمروا به وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة وأخبره بما عزهم الله به، من الجهاد في سبيل الله وأغناهم به، وجعلهم إخوانا، وبما هم عليه أهل نجد اليوم، من المخالفة والشرك والابتداع والاختلاف والجهل والظلم، وبعد أن استمع الأمير محمد إلى الشيخ قال: "يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه وأبشر بالنصر لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط اثنتين:

الأولى: نحن إذا قمنا بنصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.

1 عثمان بن بشر، نفس المصدر ص 11.

2 عثمان بن بشر، تاريخ نجد، ج1 ص 11.

ص: 57

الثانية: أن لي على أهل الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا.

فأجاب الشيخ أيها الأمير أما الأولى فأبسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم وما هو خير منها. ثم إن محمد بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقام الشيخ معه واستقر عنده وتم التحالف بين الشيخ والأمير على نصرة الحق ومحاربة الشرك. هكذا دخل محمد بن سعود في الدعوة وكان الاتفاق بينه وبين الشيخ النواة الأولى في بناء صرح الدولة السعودية الأولى. وما أن ذاع خبر هذا الاتفاق سنة 1157 هـ - 1746 م في بلدان نجد حتى أتى المبايعون إلى الدرعية وأصبحت بمثابة العاصمة الدينية والسياسية والحربية، وضاقت منازلها عن تحمل العدد الغفير الذي هاجر إليها من أتباع الشيخ من العيينة وغيرها من بلدان نجد، وكانت الدرعية ومن هاجر إليها في ذلك الوقت في ضيق مالي ثم تحسنت أحوالهم بعد ذلك بسبب ما حصلوا عليه من الغنائم والزكاة التي أصبحت تؤخذ من البلدان الخاضعة للدرعية. ولما علم عثمان بن معمر باتفاق المحمدين ندم على خروج الشيخ من بلده فطلب منه الرجوع ووعده بنصره ومنعة. فقال الشيخ:"ليس ذلك إلي، إنه لمحمد بن سعود، فإن أراد أن أذهب معك ذهبت وإن أراد أن أقيم عنده أقمت، ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول غيره"1.

1 حسين بن غنام، تاريخ نجد، تحقيق ناصر الدين الأسد، ص 82.

ص: 58

14-

الأعمال التي قام بها الشيخ في الدرعية

1-

دروس التوحيد:

عكف الشيخ بعد استقراره في الدرعية، على التدريس كعادته فقد درّس وعلّم في البصرة وفي حريملاء وفي العيينة.

فعلم الناس التوحيد، والمتفق عليه بين المؤرخين، أنه بدأ بتعليم أهل الدرعية معنى لا إله إلا الله، فقال: إنها نفي وإثبات"فلا إله" تنفي جميع المعبودات و "إلا الله" تثبت العبادة لله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى وقال: إن معرفة الله تكون بآياته ومخلوقاته كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار، وعلمهم أيضا معنى الإسلام فقال: إنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة. كما علمهم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعثته وجهوده في سبيل نشر الدعوة الإسلامية وهجرته، وأوضح لهم أن أول ما دعا إليه، لا إله إلا الله. وعكف إلى جانب ذلك على التأليف فألف سلسلة من الكتب والرسائل دلت على عمق فهمه لمرامي الشريعة الإسلامية. وظل هذا على شأنه حتى وفاته رحمه الله.

2-

مكاتبة أهل البلدان:

لما فرغ الشيخ محمد من أمر الدرعية حيث دلهم على التوحيد الصحيح، بدأ صفحة جديدة في سجل الدعوة، فأرسل إلى أهل البلدان المجاورة مثل حريملاء والرياض

وإلى أمراء العرب وقضاتهم ومدعي العلم فيهم، يدعوهم إلى العودة إلى التوحيد والإسلام الخالص.

ص: 59

وإليك أمثلة لهذه المكاتبات:

هذه رسالة أرسلها إلى السويدي، عالم أهل العراق وكان قد أرسل له كتابا وسأله عما يقول الناس فيه، فأجابه بهذه الرسالة وهذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن عبد الله

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فقد وصل خطابك وسر الخاطر. جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين.

وأخبرك أنى- ولله الحمد- متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة. لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من: الذبح والنذر، والتوكل والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة، الذين يدعون عليا وغيره ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لأنه خالف عادة نشأوا عليها. وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله.

ص: 60

ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر وأنواع المنكرات. فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وأنهي عنه من الشرك. ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس. وكبرت الفتنه جدا وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله؛ منها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلا عن أن يفتريه. ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ويا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! هل يقول هذا مسلم أو كافر؟ أو عارف أو مجنون!!

وكذلك قولهم أنه يقول: لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها وأما"دلائل الخيرات" فله سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن. وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ فهذا بهتان. والحاصل: أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وهذا لو خفي على غيركم فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلا من أهل بلدتكم - ولو كان أحب الخلق إلى الناس - قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحساد أشد منه رئاسة وأكثر أتباعا، وقاموا يرمونه بما تسمع، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين، وأن دعوتهم من إجلالهم واحترامهم لعلمتم كيف، ومع هذا وأضعافه فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول ونصرته كما أخذ الله على الأنبياء

ص: 61

قبله وأممهم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران، من الآية: 81] . فلما فرض الله الإيمان لم يجز ترك ذلك.

وأنا أرجو أن الله يكرمك بنصر دينه ونبيه وذلك بمقتضى الاستطاعة، ولو بالقلب والدعاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"1. فإن رأيت عرض كلامي هذا على من ظننت أنه يقبله من إخواننا فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله: {أُ ُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء، من الآية: 57] .

وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: من الآية 18] .

وقوله: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر، من الآية: 3] . وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس، من الآية: 31] . الآية وغير ذلك.

قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون. قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي- كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم فلما أبوا

1 صحيح مسلم: كتاب الزكاة "987".

ص: 62

ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرت ما قالوا بعدما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها، فعرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفورا وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم- بعد ما عرفه- سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله. فهذا هو الذي أكفره. وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم في سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشّورى، من الآية: 40] وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعدما عرفه1.

الدعوة إلى الجهاد:

لما رأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن أعداء الدعوة لم يكتفوا بالإعراض عنها، بل سخروا منها، ونسبوا إلى القائمين بها ما ليس فيهم، واستعدوا للاعتداء عليها عندما رأى ذلك دعا أتباعه إلى الجهاد في سبيل نشر الدعوة وحمايتها فلبوا دعوته وعرفوا أن لا بد للحق من قوة تحميه- والحق ليس وإن علا بمؤيد حتى يحوط جانبيه حسام- وبدأت سلسة المعارك التي امتدت من سنة 1160 هـ إلى أن مات الشيخ وبقيت مستمرة بعده، معارك متصلة لا تنتهي معركة حتى تبدأ أخرى. معارك مع القبائل والبلدان المجاورة وكانت أول غزوة لأتباع الدعوة في محرم سنة 1159 هـ.

1 ابن غنام، تاريخ نجد، مرجع سابق، ص 302-322.

ص: 63

15-

مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب

خلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثروة قيمة من الكتب والرسائل تؤلف مكتبة خاصة يرجع إليها ويستقي من مناهلها وفيما يلي بيان بأهم مؤلفاته:

1-

كتاب التوحيد: وهو أول كتاب ألفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والهدف الرئيس من تأليف هذا الكتاب هو توضيح مفهوم التوحيد والشرك وما يتعلق بهما. والواقع أن كتاب التوحيد هو المحور الذي دارت حوله مؤلفات الشيخ وأتباعه في هذا الموضوع.

اشتمل هذا الكتاب على آيات وأحاديث في تبيان التوحيد وفضائل شهادة أن لا إله إلا الله، كما اشتمل على أنواع كثيرة من الشرك والمنكر ويصف المؤرخ ابن بشر هذا الكتاب بقوله:"ما وضع المصنفون في فنه أحسن منه"1.

وهذا الكتاب له شروح، منها شرح الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ واسمه: فتح المجيد.

2-

كتاب كشف الشبهات: وهو كتاب صغير يقع في صفحات قليلة. يشبه رسالة من رسائله التي كان يبعث بها إلى الرؤساء والقادة.

وهذا الكتاب لا يعرف تاريخ تأليفه ولكنه يترجم عن رسالة صاحب الدعوة، وهي تخليص التوحيد من دواعي الشرك وأسبابه. وهذا الكتاب

1 ابن بشر، عنوان المجد، مصدر سابق، ج1، ص 166.

ص: 64

يمثل مرحلة من المراحل التي مرت بها الدعوة كما يمثل دور الصراع الفكري، إلى جانب الصراع المادي بين أنصار الدعوة وخصومها. ففيه يرد الشيخ على خصوم الدعوة ويفند أدلتهم فيما يدفعون به التهمة، وهي الإلحاد والشرك.

ويقرر الشيخ في هذا الكتاب أن ما يدعيه الذين يتعلقون بالأولياء ويتمسحون بالأضرحة، وما شاكلها أنهم يقولون: إنما ذلك لتوقير هؤلاء الصالحين، والتماس القدوة الحسنة منهم

يرد الشيخ على هذا بأنه "إذا جاز هذا في حق الأحياء فلا يجوز في حق الأموات.. وأن الموتى قد انقطع ما بينهم وبين الحياة والأحياء، وليس ثمة فرق بين من يَرجو البركة عند قبر ولي، وبين من يعبد وثنا.. كلاهما قد جعل بينه وبين الله شفيعا يِرجى

وما كان كفار قريش الذين حاربوا دعوة التوحيد إلا على هذه الصورة كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق العظيم، ولكن هناك آلهة دون الله يتصرفون وينفعون ويضرون. أن هؤلاء الآلهة هي الطريق إلى الله {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر، من الآية: 3] .

ويستمر الشيخ في عرض صور من هذا الشرك ليضعها إزاء ما يعتقده بعض المسلمين في الأولياء والصالحين1. وهذا الكتَاب مطبوع عدة مرات مفردا وضمن مجموعات ومنها كتاب تَاريخ نجد لحسين بن غنام تَحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد ص 233- ص 258 طبع القاهرة سنة 1381هـ.

1 كشف الشبهات ص 220 وما بعدها ضمن مجموعهَ التوحيد النجدية.

ص: 65

3-

كتاب الكبائر: أوضح الشيخ في هذا الكتاب الأشياء التي تخالف أسس الإسلام وقواعده وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات.

4-

كتاب السيرة المختصرة: وهو اختصار لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام عن سيرة ابن هشام بأسلوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات.

5-

كتاب الأصول الثلاثة وأدلتها: فيه شرح لهذه الأصول وهي معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.

6-

كتاب أصول الإيمان: أوضح الشيخ معرفة الله والإيمان به ويشمل أيضاً شرحا للإيمان بالقدر والحث على طلب العلم.

7-

كتاب فضل الإسلام: فيه بيان لفضل الإسلام وتفسيره: وهو مطبوع عدة طبعات.

8-

كتاب شروط الصلاة وأركانها: كتاب في الصلاة عرف باسم الفصل الأول منه"آداب المشي إلى الصلاة".

9-

كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه.

10-

كتاب مختصر الشرح الكبير والإنصاف.

11-

كتاب الهدي النبوي.

12-

كتاب مسائل الجاهلية.

وللشيْخ غير هذه المؤلفات كثير من الرسائل المطولة والمختصرة التي كان يبعث بها إلى الأمراء وشيوخ العرب والعلماء. والتي قام تلميذه حسين بن غنام بجمع ما وصل إليه منها ودونه في الجزء الأول من تاريخه

ص: 66

المسمى "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام". والذي قام الدكتور ناصر الدين الأسد بتحقيقه ونشره باسم تاريخ نجد طبع القاهرة سنة 1381هـ - 1961م. وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بطبع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وأسلوب الشيخ في كتبه ورسائله، أسلوب سهل واضح يترسل فيه دون تكلف، ويعرض آراءه في غير عسر وتأنق. وإذا كان الشيخ ملتزما اللغة العربية الفصحى في كتاباته، فإنه قد يستخدم في بعض رسائله الكلمات العامية في لهجة نجد، يقول في رسالة كتبها إلى عبد الله بن عيسى "ذكر لي أنكم زعلانين كل الزعل هذه الأيام ولا يخفاك أني زعلان كثير، وناقد عليكم نقودا أكبر من الزعل، ومعي في بعض هذه الأيام تنغص في المعيشة وتكدر مما يبلغني عنكم"1. وعلى أي حال فإن الشيخ لم يستعمل العامية إلا نادرا.

وفاة الشيخ:

توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في شوال سنة 1206هـ عن إحدى وتسعين سنة، قضى معظمها في الدعوة للإسلام والعمل على تجديده. وما كان خبر وفاته يعم الدرعية حتى عمها الحزن وسرعان ما انتشر هذا الخبر في أنحاء الجزيرة فحزنت لفقد هذا المصلح العظيم ورثاه العلماء ومنهم الإمام المصلح العلامة محمد بن علي الشوكاني وقد جاء في رثائه قوله:

لقد مات طود العلم قطب رحى العلا

ومركز أدوار الفحول الأفاضل

إمام الهدى ما حي الردى قامع العدا

ومروي الصدى من فيض علم ونائل

1 روضة الأفكار والأفهام ج1، مرجع سابق ص 371.

ص: 67

16-

الأئمة من آل سعود الذين عاصرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر نماذج لجهودهم في مناصرة الدعوة وحمايتها والتمكين لها:

يجدر بنا قبل أن نتحدث عن حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أن نتكلم بإيجاز عن حياة رجلين من آل سعود عاصرا الشيخ ونصرا دعوته حتى كتب لها النجاح. ولقد سبق أن ذكرنا أن الشيخ اتصل بآل سعود عندما وفد على الدرعية عام 1158هـ وتعاهد مع الإمام محمد بن سعود الذي يعتبر بحق المؤسس الأول للدولة السعودية، وقد اقتصرنا على ذكر هذين الإمامين من آل سعود لأن هذين الإمامين عاصرا الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

أولا: الإمام محمد بن سعود:

ولد الإمام محمد بن سعود سنة 1100هـ"1687م" في بلدة الدرعية وامتد حكمه من سنة 1139 إلى 1179هـ أي قرابة أربعين سنة قضى نصفها قبل مجيء الشيخ إلى الدرعية ونصفها الآخر مع الشيخ.

لقد استطاع الإمام محمد بن سعود أن ينشر العدل ويحافظ على الأمن في مدينة الدرعية، كما تمكن من القضاء على خصومه في الداخل.

وقد وصف لنا كل من ابن غنام وابن بشر وابن سحمان الإمام محمد بن سعود وما يتمتع به من الصفات الحميدة.

ص: 68

يقول ابن غنام عن محمد بن سعود: "كان الأمير محمد بن سعود بحسن السيرة معروفا، وبالوفاء وحسن المعاملة موصوفا، مشهوراً بذلك"1.

ويقول ابن بشر إن محمد بن سعود آوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولم يخش لوم اللائمين ولا كيد الأعداء المحاربين فشمر في نصرة الإسلام بالجهاد وبذل الجهد والاجتهاد، فقام في عداوته الأصاغر والأكابر وجروا عليه المدافع، فلم يثن عزمه على ما قال المبطلون2.

ويقول أحد أنصار الدعوة السلفية الشيخ سليمان بن سحمان: "من عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود، لما وفقه الله لقبول هذا الدين، بعد تخلف الأسباب وعدم الناصر، شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض الناس عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه فلم يلتفت إلى عذل عاذل ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين فمكنه الله تعالى في حياته من قرى كل من عاداه من أهل القرى، ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته، يسوسون الناس بهذا الدين الذي يجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء"3.

وتحدث صاحب لمع الشهاب عن كرم محمد بن سعود وحبه لقومه ورغبته في تكاثرهم فقال: "ذكر الثقاة من المخبرين عن شَأن محمد بن

1 منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية، ج1، الرياض، مطابع الشبل، 1413هـ، ص109 - 123.

2 منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية، ج1، الرياض، مطابع الشبل، 1413هـ، ص109 - 123.

3 تاريخ البلاد العربية السعودية، ج1، مرجع سابق ص109 - ص127.

ص: 69

سعود أنه كان رجلا كثير الخيرات والعبادة.. كريم الطبيعة، ميسر الرزق له أملاك كثيرة من نخل وزرع، وله عدد من المواشي قيل عن نخاوته: أنه كان الرجل يأتيه من البلدان يطلب شيئا كثير لوفاء دين عليه فإذا عرف أنه محق أعطاه.

والمعروف عن محمد بن سعود أنه لا يرى أحدًا شابا من أهل بلدته وجماعته غير متزوج إلا سأل عن حاله، فإذا قيل له: لا يمكنه جهاز، جهزه وأمر بالزواج، فإذا امتنع أحد أن يعطي ابنته لشخص خطبها وهو كفء، سار محمد بن سعود بنفسه إليه وعاتبه في ذلك، وربما اشترط على نفسه أن أعطوا هذا فلانة فإن أصابها منه ضرر من كسوة أو متاع أو مسكن فأنا ضامن به، وكان لذلك يفعل حيث وقع الشرط لا محالة، وذلك لحسن سيرته وسريرته يريد التئام جماعته، وكثرة خيرهم بالتناسل"1.

انتشار الدعوة السلفية في عهد الإمام محمد بن سعود:

لما وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعيهَ وعقد المعاهدة مع الإمام محمد بن سعود، أخذ يدعو الناس ويرشدهم بالتي هي أحسن، ولكن كثيرا من الناس عارضوا الدعوة بل استعدوا لمقاومتها بالقوة، فكان لا بد للدعوة أن تدافع عن نفسها، فدعا الشيخ أتباعه إلى الدفاع عن الدعوة السلفية، فلبوا دعوته وكان في مقدمتهم الإمام محمد بن سعود أمير الدرعية ومناصر الدعوة وحاميها. وانتشرت الفتوحات السعودية

1 نقَلا عن تاريخ البلاد العربية السعودية، ج1، مصدر سابق 128.

ص: 70

تدريجيا، واقتصرت في أول الأمر على بعض المناطق، ثم أخذت في التوسع، فشقت طريقها إلى الوشم، وامتدت الدرعية بتوسعها إلى سدير والمحمل وترنحت الرياض تحت ضربات الدرعية ثم طلبت الصلح.

وفي عام 1179هـ توفي محمد بن سعود، وخلف ولدين ذكرين هما عبد العزيز وعبد الله، وقد تولى عبد العزيز الإمارة، أما عبد الله فلم يتول الإمارة ولكن ابنه تركي أعاد الدولة بعد انهيارها، وتولى الملك أبناؤه من بعد، وما زال فيهم.

وكان لمحمد بن سعود ولدان آخران وهما: فيصل وسعود وقد استشهدا في حياته.

لقد أسس الإمام محمد بن سعود قبل موته أول دولة إسلامية عربية مستقلة في الدرعية، وكانت هذه الدولة في ازدياد وخصومها في تناقص وتراجع. لقد ترك محمد بن سعود لأولاده دولة ترفرف راياتها على أكثر من بلد من بلدان نجد، وينتشر دعاتها وأنصارها في مختلف المدن والقرى والبوادي النجدية.

لقد قضى الإمام محمد بن سعود رحمه الله السنوات الطوال من حكمه في الإنشاء والعمران والفتوحات، ونشر الدعوة، توفي رحمه الله مطمئنا إلى أنه أدى واجبه، وأن أعظم مهمة في حياته قد تحققت وهي توطيد الدعوة السلفية وتثبيتها.

ص: 71

ثانيا: الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود المؤسس الثاني للدولة السعودية الأولى:

ولد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1132هـ في بلدة الدرعية. ولقد بدأت صلة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بالشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما كان الشيخ مقيماً في العيينة، حينما أرسل إليه عبد العزيز يطلب منه تفسيراً لسورة الفاتحة. فكتب لأجله الشيخ، ذلك التفسير الرائع، الذي أثبته ابن غنام في تاريخه.

ولما وصل الشيخ إلى الدرعيهَ، لازمه عبد العزيز وواظب على حضور دروسه، وكان معتزاً بزعامته واعياً لدعوته، حريصاً على كسب رضاه، سريعاً في تحقيق رغباته، فأحبه الشيخ حباً كبيراً، وكان يثني عليه الشيخ في مجالسه العامة والخاصة ثناءً كبيراً.

وفي عام 1179هـ توفي محمد بن سعود أمير الدرعية ومؤسس الدولة السعودية، فتم اختيار ابنه عبد العزيز للإمارة، وكان في السادسة والأربعين من العمر.

ويعد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بحق المؤسس الثاني للدولة السعودية الأولى. لقد شارك في تأسيس بنائها وتركيز دعائمها، فقد آزر أباه في كهولته، وناب عنه في شيخوخته، ولما توفى أبوه واستقل بالسلطان، حمل الراية بقوة وإيمان، وأخضع البلدان بالحرب والسياسة وأقام على الشرع قواعد الحكم والرئاسة، وأضاف إلى ملكه الذي ورثه عن أبيه شيئاً كثيراً.

ص: 72

لقد بارك الله في الملك الصغير الذي ورثه من أبيه ونصر راياته، فلم تمض سنوات قليلة حتى استطاع عبد العزيز بن محمد بن سعود أن يضم إلى ملكه بلاد نجد والأحساء، وجبل شمر وتهامة وسراة عبيدهَ ومرتفعات الحجاز، وبسط حمايته على القواسم وعمان وزبارة والبحرين، كما تفتحت له أبواب الحرمين وجبيت له الزكاة من بوادي الشام والعراق1.

لقد تضاعف ملكه، وكبرت عاصمة دولته الدرعية لتكون أعظم مدينة في جزيرة العرب. وصدقت كلمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للإمام محمد بن سعود من أول لقاء بينهما، فقد وعده متى أخلص التوحيد لله والتزم بأحكام الشرع أن يملك هو وأبناؤه جزيرة العرب.

لقد استطاع القضاء على إمارة ابن دواس في الرياض التي طالما ناصبت دولة الدعوة العداء على مدى 28 سنة واستطاع القضاء على إمارة ابن عريعر في الأحساء والقطيف تلك الإمارة التي عملت على عرقلة نشر الدعوة السلفية.. والحق"أن العمل الذي قام به محمد بن سعود وابنه عبد العزيز، بعد مبايعتهما للشيخ كان عملا جليلا، من الناحيتين الدينية والوطنية، لأنه أحل الدين محل الخرافة والجهل، والوطن محل الاقليمية والقبلية. ولكن أبعاد هذا العمل العظيم تبدو لنا بوضوح وقوة متى وضعناه في"إطاره العالمي" فقد حقق محمد

1 منير العجلاني، تاريخ الدولة السعودية، ج2، الرياض - مطابع دار السنبل، 1413هـ، ص17.

ص: 73

وعبد العزيز من بعده توحيد الشطر الأكبر من جزيرة العرب تحت لواء واحد حدثا عظيما لفت أنظار العالم: وهو ظهور دولة عربية حرة قوية، بعد فترة طويلة من غياب العرب عن مسرح السياسة الدولية1.

صفات الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وإنسانيته:

من يتتبع سيرة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، يجد بكل وضوح أن هذا الإمام الفذ لم يكن عظيماً بشجاعته وفتوحاته فحسب، وإنما كان عظيما قبل كل شيء بخلقه الكريم يتضح هذا من خلال ما أنعم الله به عليه من محبته للعلماء ورعايته لطلبة العلم، وإحسانه إلى الفقراء ومناصرته للضعفاء، وكراهيته للظلم وحبه للعدل، ووقوفه عند الحدود وتورعه عن المحارم، وتواضعه، وبساطته.

ولتوضيح هذه الحقيقة نستعرض ما قاله بعض العلماء المنصفين عن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود.

قال ابن بشر يصف عبد العزيز: "كان كثير الرأفة والرحمة بالرعية، وخصوصا أهل البلدان، لإعطائهم الأموال وبعث الصدقة لفقرائهم والتفحص عن أحوالهم2. وكان كثير العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء والقضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمي القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد.

وكان الصبيان من أهل الدرعية، إذا خرجوا من عند المعلم، يصعدون

1 منير العجلاني، تاريخ الدولة السعودية، ج2، الرياض- مطابع دار السنبل، 1413هـ، ص19.

2 عنوان المجد من تاريخ نجد، ج1، مرجع سابق ص266.

ص: 74

إليه بألواحهم، ويعرضون عليه خطوطهم، فمن تحاسن خطه منهم أعطاه عطاء جزيلاً، وأعطى البقية دونه. وكان إذا مات الرجل من جميع نواحي نجد يأتي أولاده إلى عبد العزيز يستخلفونه، فيعطيهم عطاء جزيلا وربما كتب لهم في الديوان

وكان يسأل عن القضاة والأيتام في الدرعية وغيرها ويأمر بإعطائهم.

وكان كثيراً ما يكتب إلى النواحي بالحض على تعليم القراءة وتعلم العلم وتعليمه، ويجعل لهم راتباً من الديوان، ومن كان منهم ضعيفاً يأمر أن يأتي إلى الدرعيه ويقوم بجميع أنوابه. ويضيف ابن بشر:"كان الإمام عبد العزيز رحمه الله كثير الخوف من الله، كثير الذكر، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ينفذ الحق ولو على أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيمًا إذا ظلم فيقيمه عن الظلم، وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغر صغيرًا ظلم فيأخذ الحق له ولو كان بعيد الوطن، وكان لا يكترث في لباسه ولا سلاحه بحيث كان بنوه وبنو بنيه سيوفهم محلاة بالذهب والفضة وليس في سيفه من ذلك شيء إلا القليل"1.

قال بركهاردت: "كانت نجد موزعة بين عدد كبير من الأقاليم والمدن والقرى، وكانت هذه المناطق مستقلة، متعادية، يحارب بعضها بعضا. وكانت شريعة الأقوى هي الشريعة المتبعة في الأرياف وضمن أسوار المدن، حيث يضطر الرجل الضعيف إلى التخلي عن ملكه وحقه للرجل القوي المتغلب.

1 عنوان المجد من تاريخ نجد، ج1، مرجع سابق ص266.

ص: 75

وكانت الفوضى مسيطرة على مضارب البدو، وكانت معاركهم التي لا تنتهي وغزواتهم التي لا يقصد منها إلا السلب والنهب تغرق بلاد نجد في طوفان من الدم.

هذا هو الوضع الذي واجهه عبد العزيز وقد استطاع عبد العزيز بعد كفاح طويل وشاق، أن ينشر الدعوة في نجد وأن يتسلم السلطة العليا ويمارسها وبذلك تحول من شيخ عشيرة إلى رئيس دولة!!

لم يحاول عبد العزيز إخضاع مواطنيه في كل أمورهم إلى سلطته وسلبهم كل حرية، كما يفعل الحكام المستبدون، فقد ترك العرب ينعمون بحريتهم في عشائرهم وبلدانهم، ولكنه حملهم على العيش بسلام، وعلى احترام حق الملك، والخضوع لأوامر الشرع ونواهيه، وبهذه الوسيلة تيسر له الاستيلاء على الشطر الأكبر من جزيرة العرب، لأن أسلوب حكمه أسلوبا حرا سمحا. كان العربي، إلا من عصم ربي، لا يعرف قاعدة لسلوكه إلا شهوته ورغبته، أما الآن

فينبغى أن يخضع لأحكام الشرع ويدفع الزكاة إلى الإمام ويشترك في الجهاد"أو الغزو" ضد الملاحدة والمشركين كلما دعي إلى ذلك. ولم يعد العربي قادرا على الاحتكام إلى السيف لحل خلافاته مع الآخرين، فقد أقيم قضاة لفصل الخصومات، ويجب عليه أن يعرض أمره عليهم ويسلم بقضائهم".

وقال كورانسيز: "كان عبد العزيز يعيش عيشة تقشف مثل أكثر رعاياه، ولعل ذلك من أعظم أسباب توفيقه. كان نزيهاً فلم يتخذ الدعوة وسيلة لجمع المال، ولكنه جمع المال ليخدم الدعوة! كان شجاعاً، ولكن

ص: 76

في غير تهور، كان رحيما، ولكنه كان يعاقب على الإخلال بالأمن والفوضى عقوبة شديدة"1

هذه بعض صفات الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود المؤسس الثاني للدولة السعودية الأولى، الذي قضى أكثر من أربعين سنة من حياته في الغزو والحروب.. لقد كان يزحف برجاله في سبيل نشر دعوة التوحيد وحمايتها من أقصى البلاد إلى أقصاها. وعندما قتل عام 1218هـ كان ملك السعوديين يمتد من شاطئ الفرات إلى حدود عمان من الخليج العربي إلى أطراف الحجاز وعسير.

1 تاريخ البلاد العربية السعودية، ج2، مصدر سابق ص29 - 30.

ص: 77