الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
(اسْم الْإِشَارَة)
أنْشد فِيهِ الشَّاهِد التَّاسِع بعد الأربعمائة وَهُوَ من أَبْيَات الْمفصل: الْكَامِل
(ذمّ الْمنَازل بعد منزلَة اللّوى
…
والعيش بعد أُولَئِكَ الأيّام)
على أَن أولاء يشار بِهِ إِلَى جمع عَاقِلا كَانَ أَو غَيره كَمَا فِي الْبَيْت فَإِن أولاء أُشير بِهِ إِلَى الْأَيَّام وَهُوَ جمع لغير من يعقل. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: إنَّ السَّمعَ والبَصَر والفُؤَادَ كُلُّ أولئكَ كَانَ عنهُ مسؤُولا.
قَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد: ويروى الأقوام بدل الْأَيَّام فَلَا شَاهد فِيهِ. وَزعم ابْن عَطِيَّة أَن هَذِه الرِّوَايَة هِيَ الصَّوَاب وَأَن الطَّبَرِيّ غلط إِذْ أنْشدهُ الْأَيَّام وَأَن الزّجاج تبعه فِي هَذَا الْغَلَط.
انْتهى.
قلت: رَوَاهُ مُحَمَّد بن حبيب فِي النقائض وَمُحَمّد بن الْمُبَارك فِي مُنْتَهى الطّلب من أشعار الْعَرَب: الأقوام كَمَا قَالَ ابْن عَطِيَّة.
ومطلعها:
(سرت الهموم فبتن غير نيام
…
وأخو الهموم يروم كلّ مرام)
ذمّ الْمنَازل بعد منزلَة اللّوى
…
...
…
... الْبَيْت وَقَالَ بعد بَيْتَيْنِ:
(فَإِذا وقفت على الْمنَازل باللّوى
…
فاضت دموعي غير ذَات نظام)
(طرقتك صائدة الْقُلُوب وَلَيْسَ ذَا
…
حِين الزّيارة فارجعي بِسَلام)
(تجْرِي السّواك على أغرّ كأنّه
…
بردٌ تحدّر من متون غمام)
(لَوْلَا مراقبة الْعُيُون أريننا
…
مقل المها وسوالف الآرام)
ثمَّ بعد أَن تغزل بِأَبْيَات شرع فِي هجو الفرزدق فَقَالَ:)
(إنّ ابْن آكِلَة النّخالة قد جنى
…
حَربًا عَلَيْهِ ثَقيلَة الأجرام)
(خلق الفرزدق سوءةً فِي مَالك
…
ولخلف ضبّة كَانَ شرّ غُلَام)
…
(مهلا فرزدق إنّ قَوْمك فيهم
…
خور الْقُلُوب وخفّة الأحلام)
(الظّاعنون على الْعَمى بجميعهم
…
النّازلون بشرّ دَار مقَام)
(لَو غَيْركُمْ علق الزّبير بحبله
…
أدّى الْجوَار إِلَى بني العوّام)
وَبعده بيتان هما آخر القصيدة.
وَقَوله: ذمّ الْمنَازل الخ قَالَ ابْن هِشَام: الْأَرْجَح فِيهِ كسر الْمِيم الَّذِي هُوَ وَاجِب إِذا فك الْإِدْغَام على لُغَة الْحجاز ودونه الْفَتْح للتَّخْفِيف وَهُوَ لُغَة بني أَسد وَالضَّم ضَعِيف وَوَجهه إِرَادَة الِاتِّبَاع. والمنازل: جمع منزلَة أَو منزلَة. فَهُوَ كالمساجد والمحامد.
وَهَذَا أولى لقَوْله منزلَة اللوى. وَبعد إِمَّا حَال من الْمنَازل أَو ظرف. والعيش عطف على الْمنَازل. وَالْأَيَّام صفة لاسم الْإِشَارَة أَو عطف بَيَان.
وَقَوله: طرقتك صائدة الخ هَذَا الْتِفَات من التَّكَلُّم إِلَى الْخطاب. والطروق: الْإِتْيَان لَيْلًا.
قَالَ ابْن هِشَام: قد عيب عَلَيْهِ طرد خيال محبوبته. وَأجِيب بِأَنَّهُ طرقه فِي حَال السّفر فأشفق عَلَيْهِ من الْخطر.
وَقَوله: تجْرِي السوالك على أغر أَي: على ثغر أغر.
وَقَوله: لَوْلَا مراقبة الْعُيُون أَي: الرقباء جمع عين وَهُوَ الجاسوس.
وَقَوله: إِن ابْن آكِلَة النحالة يَعْنِي البعيث. وَأَرَادَ بآكلة النخالة الْخِنْزِير والبعيث شَاعِر من بَين مجاشع. والجرم بِكَسْر الْجِيم: الْجَسَد يُقَال: رَمَاه بأجرامه أَي: بجسده.
وَالْخلف بِسُكُون اللَّام: الرَّدِيء من النَّاس وَغَيرهم وَبِفَتْحِهَا: الْجيد من النَّاس وَمن كل شَيْء.
وَقَوله: الظاعنون الخ مَعْنَاهُ: أَنهم يركبون مَا لَا ينالون غَايَته وينزلون شَرّ الْبِقَاع لنذالتهم لَا يمكنون من مَوضِع جيد.
وَقَوله: لَو غَيْركُمْ علق الزبير الخ الْحَبل هُنَا: الذِّمَّة. والجوار: الْمُجَاورَة والذمة. وعلق الشَّيْء بِكَذَا من بَاب تَعب وَتعلق بِهِ إِذا نشب بِهِ واستمسك.
يُرِيد أَن قوم الفرزدق غدروا بالزبير بن الْعَوام فَقَتَلُوهُ. يَقُول: لَو كَانَ فِي ذمَّة غَيْركُمْ لَأَدَّى ذمَّته إِلَى بني الْعَوام وَلم يغدر بِهِ.)
وَمُلَخَّص سَبَب قَتله أَن الزبير لما جَاءَ مَعَ عَائِشَة فِي وقْعَة الْجمل ذكره عَليّ رضي الله عنه بقول النَّبِي عليه الصلاة والسلام ُ: إِنَّك ستحاربه وَأَنت ظَالِم لَهُ فَاسْتَرْجع وَقَالَ: أذكرتني شَيْئا أنسانيه الدَّهْر.
ثمَّ فَارق المعركة آخِذا طَرِيق مَكَّة فَنزل على قوم من بني تَمِيم فَقَامَ إِلَيْهِ عَمْرو ابْن جرموز الْمُجَاشِعِي فأضافه ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الله حَدثنِي عَن خِصَال أَسأَلك عَنْهَا. قَالَ: هَات.
قَالَ: خذلك عُثْمَان وبيعتك عليا وإخراجك أم الْمُؤمنِينَ وصلاتك خلف ابْنك ورجوعك عَن هَذِه الْحَرْب. فَظن بِي كل شَيْء إِلَّا الْجُبْن.
فَانْصَرف وَهُوَ يَقُول: وَا لهفي على ابْن صَفِيَّة أضرمها نَارا ثمَّ أَرَادَ أَن يلْحق بأَهْله قتلني الله إِن لم أَقتلهُ.
ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ كالمستنصح. قَالَ: يَا أَبَا عبد الله دون أهلك فيافي فَخذ نجيبي هَذَا وخل فرسك ودرعك فَإِنَّهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْك بِمَا تكره.
وَلم يزل بِهِ حَتَّى ترك عِنْده فرسه وَدِرْعه وَخرج مَعَه إِلَى وَادي السبَاع وَأرَاهُ أَنه يُرِيد مسايرته ومؤانسته فَقتله غيلَة وَهُوَ يُصَلِّي وأتى بِسَيْفِهِ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأخْبرهُ بقتْله فبشره عَليّ بالنَّار.
ثمَّ خرج ابْن جرموز على عَليّ مَعَ أهل النهروان فَقتل مَعَ من قتل هُنَاكَ.
وَهَذَا الْبَيْت أوردهُ الْمبرد فِي الْكَامِل إِلَّا أَنه رَوَاهُ بِنصب غَيْركُمْ قَالَ: تصب بِفعل مُضْمر يفسره مَا بعده لِأَنَّهَا للْفِعْل. وَهُوَ فِي التَّمْثِيل: لَو علق الزبير غَيْركُمْ. انْتهى.
وَأوردهُ أَيْضا أَبُو بكر بن السراج فِي الْأُصُول فِي بَاب أَن الْمَفْتُوحَة قَالَ: إِن الْأَسْمَاء تقع بعد لَو على تَقْدِير تَقْدِيم الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا.
فمما وَليهَا من الْأَسْمَاء قَول الله عز وجل: لَو أَنْتُم تملِكُون وَقَالَ جرير: لَو غَيْركُمْ علق الزّبير بحبله الْبَيْت. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَن الرِّوَايَة عِنْده بِالرَّفْع وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن علق لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول صَرِيح.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن هِشَام فِي مُغنِي اللبيب عِنْد الْكَلَام على لَو غَيْركُمْ
بِالرَّفْع. وَيرد عَلَيْهِ أَن هَذَا لَا يَصح لِأَن الْمُتَعَلّق بالحبل الزبير لَا غَيْركُمْ. وَقد يُوَجه بِأَن التَّعَلُّق من الطَّرفَيْنِ: من الزبير بنزوله عِنْدهم وَمن الْغَيْر بِحِفْظ الذمام. وَفِيه تعسف وَالظَّاهِر أَن هَذَا مِمَّا حذف فِيهِ كَانَ الشأنية كَقَوْلِه: الْبَسِيط)
لَو فِي طهيّة أحلامٌ لما عرضوا وَجُمْلَة غَيْركُمْ علق الزبير بحبله من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر خبر كَانَ الشانية المحذوفة. أَو يكون غَيْركُمْ اسْم كَانَ المحذوفة النَّاقِصَة وَجُمْلَة علق الزبير فِي مَحل نصب على أَنه خَبَرهَا.
وَإِنَّمَا أطنبت فِي شرح هَذَا الْبَيْت لِأَنِّي لم أر أحدا وَفِي حَقه من الشُّرَّاح حَتَّى إِن الدماميني مَعَ جلالته مَا فهم مَعْنَاهُ قَالَ فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة على الْمُغنِي: وَالَّذِي يظْهر أَن غَرَض الشَّاعِر ذمّ مخاطبيه بِأَنَّهُم لَا قُوَّة لَهُم يحكمون بهَا من التجأ إِلَى جوارهم.
يَقُول: لَو تمسك الزبير بِذِمَّة غَيْركُمْ لم يلْتَفت إِلَى جوَار قومه واستمسك بهؤلاء الَّذين استجار بهم لكَوْنهم من الحماية لَهُ بِحَيْثُ يفوقون عصبَة قومه.
يَعْنِي: وَأما أَنْتُم فلستم بِهَذِهِ المثابة فَلَا يعْتد الزبير باعتصامكم بل هُوَ مستمسك بجوار قومه لَا يرد عَلَيْهِم لافتقاره إِلَيْهِ وضعفكم.
هَذَا كَلَامه على الْبَيْت بحذافيره وَلَا يخفى أَن هَذَا لَا مساس لَهُ بِالْبَيْتِ ومنشوء عدم الِاطِّلَاع وَقَوله: كَانَ الْعَنَان على أَبِيك محرما الخ أَرَادَ عنان الْفرس. والكير: كور الْحداد. يُرِيد أَنهم لَيْسُوا بفرسان وَأَن أَبَاهُ قين أَي: حداد.
وَقد عَارضه الفرزدق بقصيدة مِنْهَا هَذِه الأبيات:
الْكَامِل
(قَالَ ابْن صانعة الزّروب لِقَوْمِهِ
…
لَا أَسْتَطِيع رواسي الْأَعْلَام)
(قَالَت تجاوبه المراغة أمّه
…
قد رمت ويل أَبِيك غير مرام)
(وَوجدت قَوْمك فقؤوا من لؤمهم
…
عَيْنَيْك عِنْد مَكَارِم الأقوام)
(صغر دلاؤءهم فَمَا ملؤوا بهَا
…
حوضاً وَلَا شهدُوا غَدَاة زحام)
(أشبهت أمّك إِذْ تعاض دارماً
…
بأدقّةٍ متقاعسين لئام)
(وحسبت بَحر بني كليبٍ مصدرا
…
فغرقت حِين وَقعت فِي القمقام)
(فِي لجّةٍ غمرت أَبَاك بحورها
…
فِي الجاهليّة كَانَ وَالْإِسْلَام)
إِلَى هُنَا كَلَام أم جرير لَهُ. وَمن هُنَا شرع يفتخر فَقَالَ:
(إنّ الأقارع والحتات وغالباً
…
وَأَبا هنيدة دافعوا لمقامي)
…
(بمناكبٍ سبقت أَبَاك صدورها
…
ومآثرٍ لمتوّجين كرام)
(إنّي وجدت أبي بنى لي بَيته
…
فِي دوحى الرؤساء والحكّام))
(منّا الَّذِي جمع الْمُلُوك وَبينهمْ
…
حربٌ يشبّ وقودها بضرام)
(خَالِي الَّذِي ترك النّجيع برمحه
…
يَوْم النّقا شرقاً على بسطَام)
(وَأبي صعصعة بن ليلى غالبٌ
…
غلب الْمُلُوك ورهطه أعمامي)
وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله شرح جَمِيع هَذَا عِنْد الْكَلَام على قَوْله: فِي لجّة غمرت أَبَاك بحورها فَإِنَّهُ من شَوَاهِد هَذَا الْكتاب فِي بَاب الْأَفْعَال النَّاقِصَة.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الْعَاشِر بعد الأربعمائة الوافر
(تجلّد لَا يقل هَؤُلَاءِ هَذَا
…
بَكَى لمّا بَكَى أسفا وغيظا)
على أَن هَؤُلَاءِ بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْوَاو مخفف هَؤُلَاءِ بِحَذْف ألف هَا وقلب همزَة أولاء واواً.
وَقَالَ ابْن جني فِي الخاطريات: الأَصْل هَؤُلَاءِ فحذفت الْألف ثمَّ شبه هؤل بعضد فسكن ثمَّ أبدل الْهمزَة واواً وَإِن كَانَت سَاكِنة بعد فَتْحة تَنْبِيها على حركتها الْأَصْلِيَّة.
وَمثله فِي المعتل قَول بَعضهم فِي بئس: بيس بياء سَاكِنة بعد الْبَاء.
وأسهل من ذَلِك أَن يُقَال: أبدل الْهمزَة من هَؤُلَاءِ واوا على غير قِيَاس ثمَّ استثقلت الضمة على الْوَاو فأسكنت فحذفت الْألف لالتقاء الساكنين.
وَقَالَ الشلوبين فِي حَاشِيَته على الْمفصل: كثر هَؤُلَاءِ فِي كَلَامهم حَتَّى خففوه فَقَالُوا هولاء.
قَالَ الشَّاعِر: الوافر
(تجلّد لَا يقل هولاء هَذَا
…
بكلا لمّا بَكَى أسفا عليكا)
فالقافية فِي رِوَايَة الشلوبين كَافِيَة. وَلم أدر أَي الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَة لِأَنِّي لم أَقف على شَيْء بِأَكْثَرَ من هَذَا. وَالله أعلم.
وتجلد: فعل أَمر من الجلادة وَهُوَ التحفظ من الْجزع. ويقل مجزوم بِلَا الناهية.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْحَادِي عشر بعد الأربعمائة الطَّوِيل
(فَقلت لَهُ والرّمح يأطر مَتنه
…
تأمّل خفافاً إنّني أَنا ذلكا)
على أَن الْإِشَارَة فِيهِ من بَاب عَظمَة الْمشَار إِلَيْهِ أَي: أَنا ذَلِك الْفَارِس الَّذِي سَمِعت بِهِ. نزل بعد دَرَجَته ورفعة مَحَله منزلَة بعد الْمسَافَة. وَكَذَا القَوْل فِي قَوْله عز وجل: آلم ذَلِك الكتابُ.
وَقَالَ الْمبرد فِي الْكَامِل نقلا عَن ابْن عَبَّاس وَتَبعهُ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف قَالَا: قد يَأْتِي اسْم الْإِشَارَة الْبعيد بِمَعْنى الْقَرِيب كَمَا يكون ذَلِك بِمَعْنى هَذَا. قَالَ تَعَالَى: آلم ذَلِك الكتابُ.
وَقَالَ خفاف بن ندبة.
تأمّل خفافاً إنّني أَنا ذلكا أَي: هَذَا. وَأقرهُ أَبُو الْوَلِيد الْقرشِي فِي شرح الْكَامِل وَقَالَ: وَأقرب متأوّلاً من ذَا وَذَاكَ فِي قَول خفاف وَأولى بالتأويل أَن يُرِيد أَي: أَنا خفاف فكنى عَنهُ بقوله أَنا ذَلِك كَمَا يَقُول لَك الْقَائِل: أَنْت زيد فَتَقول لَهُ: أَنا ذَلِك الَّذِي تُرِيدُ. انْتهى.
وَالْبَيْت من أَبْيَات لخفاف بن ندبة الصَّحَابِيّ وَهِي:
(فَإِن تَكُ خيلي قد أُصِيب عميدها
…
فإنّي على عمدٍ تيمّمت هَالكا)
(نصبت لَهُ علوى وَقد خام صحبتي
…
لأبني مجداً أَو لأثأر هَالكا)
(لدن ذرّ قرن الشّمس حتّى رَأَيْتهمْ
…
سرَاعًا على خيل تؤمّ المسالكا)
(فلمّا رَأَيْت الْقَوْم لَا ودّ بَينهم
…
شريجين شتّى مِنْهُم ومواشكا)
(تيمّمت كَبْش الْقَوْم لمّا رَأَيْته
…
وجانبت شبّان الرّجال الصّعالكا)
…
(فجادت لَهُ يمنى يديّ بطعنةٍ
…
كست متنتيه أسود اللّون حالكا)
(أَنا الْفَارِس الحامي حَقِيقَة وَالِدي
…
بِهِ تدْرك الأوتار قدماً كذلكا)
قَوْله: إِن تَكُ خيلي الخ أَرَادَ بِالْخَيْلِ هُنَا الفرسان. والعميد: السَّيِّد الَّذِي يعمد أَي: يقْصد أَي: إِن قتل سيد الفرسان. وروى: صميمها والصميم: الشريف والخالص.
وَأَرَادَ بِهَذَا السَّيِّد الَّذِي قتل ابْن عَمه وَهُوَ مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الشريد وَهُوَ أَخُو صَخْر والخنساء الصحابية الشاعرة. وتيممت: قصدت. وَمَالك هُوَ ابْن حمَار. وَهُوَ سيد بني شمخ بن فَزَارَة.)
وَكَانَ من خَبره أَن خفاف بن ندبة غزا مَعَ مُعَاوِيَة بن عَمْرو مرّة وفزارة فَعمد ابْنا حَرْمَلَة: دُرَيْد وهَاشِم المريان عمد مُعَاوِيَة فاستطرد لَهُ أَحدهمَا فَحمل عَلَيْهِ مُعَاوِيَة فطعنه فِي عضده وَحمل الآخر على مُعَاوِيَة فطعنه مُتَمَكنًا فَلَمَّا تنادوا:
قتل مُعَاوِيَة قَالَ خفاف: قتلني الله إِن بَرحت مَكَاني حَتَّى أثأر بِهِ فَحمل على مَالك الْمَذْكُور فطعنه فَقتله. وَإِنَّمَا تيَمّمه لِأَنَّهُ عدل مُعَاوِيَة.
وَقَوله: نصبت لَهُ علوى الخ ويروى: وقفت لَهُ علوى وَهُوَ بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالقصر: اسْم فرس خفاف أوردهُ القالي فِي
الْمَقْصُور والممدود.
وخام بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة بِمَعْنى ارْتَدَّ. يُقَال: أخام الرجل يَده عَن الطَّعَام إِذا رفع يَده عَنهُ.
والصحبة: مصدر صَحبه يَصْحَبهُ. وَأَرَادَ بِهِ الْأَصْحَاب. وَالْمجد: الشّرف. وأثأر هَالكا أَي: آخذ بثأر هَالك يَعْنِي مُعَاوِيَة.
وَقَوله: لدن ذرّ قرن الخ يُقَال: ذَر قرن الشَّمْس ذروراً بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة من بَاب قعد: طلعت. وقرنها: أول مَا يظْهر مِنْهَا. ولدن: ظرف لقَوْله نصبت لَهُ علوى.
وَقَوله: شريجين: مثنى شريج بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَآخره جِيم حَال من الْقَوْم أَي: صنفين. وشتى ومواشكا: يدل من شريجين. وشتى: جمع شتيت كجرحى جمع جريح.
ومواشك: اسْم فَاعل بِمَعْنى مسرع. يَعْنِي رَأَيْت الْقَوْم قسمَيْنِ: فريق مِنْهُم رَجَعَ وتشتت عَن مُعَاوِيَة قبل قَتله كَمَا يَأْتِي فِي خبر مَقْتَله وفريق هارب مسرع بعد قَتله.
وَقَوله: تيممت كَبْش الخ هُوَ جَوَاب لما. وكبش الْقَوْم: رئيسهم وسيدهم. وَإِنَّمَا جَانب الشَّبَاب وَلم يقتل مِنْهُم لأَنهم لَيْسُوا بكفء لمعاوية. والصعالك: جمع صعلوك وَالْقِيَاس الصعاليك وهم الْفُقَرَاء.
وَقَوله: فجادت لَهُ أَي: لمَالِك. والمتنة: مثل الْمَتْن كَمَا جَاءَ بِهِ فِي الْبَيْت بعده.
قَالَ ابْن فَارس: المتنان: مكتنفا الصلب من العصب وَاللَّحم. ومتنت الرجل متْنا
من بَابي وضر وَقتل إِذا ضربت مَتنه. وَأَرَادَ بأسود اللَّوْن الدَّم. والحالك: الشَّديد السوَاد.
وَقَوله: وَقلت لَهُ الخ مَعْطُوف على جَادَتْ والعاطف هُوَ الْوَاو لَا الْفَاء كَمَا فِي الشَّرْح. وَالضَّمِير لمَالِك وَجُمْلَة وَالرمْح يأطر مَتنه: حَال من الْهَاء وَحَملَة تَأمل خفافاً مقول القَوْل. ويأطر: يحنو ويثني. يُقَال: أطره أطراً من بَاب ضرب إِذا عطفه وَمِنْه إطار المنخل. وَمَتنه مفعول يأطر أَي:)
يعْطف ظهر مَالك.
وَتَأمل فعل أَمر خطاب لمَالِك من تَأَمَّلت الشَّيْء إِذا تدبرته وَهُوَ إعادتك النّظر فِيهِ مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى تعرفه. وخفاف بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وفاءين كغراب: اسْم الشَّاعِر.
وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك ليعرفه أَنه هُوَ الَّذِي قَتله.
روى الْأَخْفَش فِي شرح ديوَان الخنساء أَن خفافاً لما قَالَ لَهُ ذَلِك قَالَ مَالك: أَنْت ابْن ندبة يُرِيد أَنْت ابْن جَارِيَة سَوْدَاء يعيره بذلك.
وَقَوله: إِنَّنِي أَنا ذَلِك اسْتِئْنَاف بياني كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: هَل أَنْت مِمَّا يتَأَمَّل إِنَّمَا أَنْت ابْن ندبة فَقَالَ لَهُ: إِنَّنِي أَنا ذَلِك الشجاع الَّذِي سَمِعت بِهِ. وَأَنا إِمَّا تَأْكِيد للياء كَمَا تقدم وَجهه فِي الشَّرْح فِي بَابه وَإِمَّا مُبْتَدأ خَبره لَك وَالْجُمْلَة خبر إِنَّنِي وَالْألف فِي ذَلِك للإطلاق وَكَذَلِكَ فِي جَمِيع هَذِه القوافي.
وَقَوله: أَنا الْفَارِس الخ اسْتِئْنَاف نحوي وَهُوَ ابْتِدَاء كَلَام لَا علاقَة لَهُ بِمَا قبله معنى ابْتَدَأَ بِهِ وَحَقِيقَة وَالِده هُنَا: أَخذ ثأر ابْن أَخِيه لِأَنَّهُ يحِق على وَالِده أَن يَأْخُذ ثأر مُعَاوِيَة. قَالَ عَامر بن الطُّفَيْل قَاتله الله: الطَّوِيل
(لقد علمت عليا هوَازن أنّني
…
أَنا الْفَارِس الحامي حَقِيقَة جَعْفَر)
وجعفر هَذَا أَبُو جده لِأَنَّهُ عَامر بن الطُّفَيْل بن مَالك بن جَعْفَر بن كلاب.
وَقَوله: بِهِ تدْرك الأوتار الخ أَي: إِنَّمَا تدْرك الأوتار بالحمي بِالدَّال عَلَيْهِ الحامي لَا بِغَيْرِهِ. أَو الضَّمِير رَاجع للحامي يُقَال: حميت الْمَكَان من النَّاس حمياً من بَاب رمى وحمية بِالْكَسْرِ إِذا منعته عَنْهُم. والحماية اسْم مِنْهُ.
وتدرك بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول. والأوتار: جمع وتر بِالْكَسْرِ وَهُوَ الثأر والذحل أَي: الحقد.
وَقَوله: قدماً كَذَلِك أَي: كَذَلِك تدْرك الأوتار قدماً بِكَسْر الْقَاف. قَالَ صَاحب الصِّحَاح: يُقَال قدماً كَانَ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ اسْم من الْقدَم جعل اسْما من أَسمَاء الزَّمَان.
وروى صَاحب الأغاني كَذَا:
(أَنا الْفَارِس الحامي الْحَقِيقَة وَالَّذِي
…
بِهِ أدْرك الْأَبْطَال قدماً لذلكا)
وَزَاد بعده وَهُوَ:
(وَإِن ينج مِنْهَا هاشمٌ فبطعنةٍ
…
كسته نجيعاً من دم الْجوف صائكا))
وخفاف بن ندبة هُوَ خفاف بن عُمَيْر بن الْحَارِث بن الشريج بن ريَاح ابْن يقظة بن عصية بن خفاف بن امْرِئ الْقَيْس بن بهثة بن سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة ابْن خصفة.
وخفاف بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ بِمَعْنى الْخَفِيف يُقَال: رجل خفاف وخفيف بِمَعْنى كطوال وطويل. والخف بِالْكَسْرِ بِمَعْنى الْخَفِيف أَيْضا.
وَعُمَيْر: مصغر عَمْرو. والشريد اسْمه عَمْرو. ورياح بِكَسْر الرَّاء بعْدهَا مثناة تحتية. ويقظة هُوَ ضد النّوم. وَعصيَّة: مصغر عَصا. وبهثة بِضَم الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء بعْدهَا ثاء مُثَلّثَة. وسليم بِالتَّصْغِيرِ.
وَأما ندبة فَهُوَ اسْم أمه كَانَ سباها الْحَارِث بن الشريد حِين أغار على بني الْحَارِث بن كَعْب فَوَهَبَهَا لِابْنِهِ عُمَيْر فَولدت لَهُ خفافاً وَكَانَت امْرَأَة سَوْدَاء. كَذَا فِي الأغاني.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فِي الْأَنْسَاب: ندبة هِيَ بنت الشَّيْطَان بن قنان بن سَلمَة ابْن وهب بن عبد الله بن ربيعَة بن كَعْب. انْتهى.
وَقَالَ صَاحب الْعباب: ندبة هَذِه كَانَت سَوْدَاء حبشية وَهِي بِفَتْح النُّون وَسُكُون الدَّال بعْدهَا بَاء مُوَحدَة مَأْخُوذ من قَوْلهم: رجل ندب أَي: خَفِيف فِي الْحَاجة وَامْرَأَة ندبة. وَفرس ندب أَي: مَاض. وَندب مثل شجع شجاعة أَي: خف فِي الْعَمَل.
وقنان بِفَتْح الْقَاف بعْدهَا نونان خفيفتان.
وخفاف بن ندبة مخضرم أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَشهد فتح مَكَّة وَكَانَ مَعَه لِوَاء بني سليم واللواء الآخر مَعَ الْعَبَّاس بن مرداس. وَشهد حنيناً والطائف وَثَبت على إِسْلَامه فِي الرِّدَّة وَبَقِي إِلَى زمن عمر بن الْخطاب
وكنيته أَبُو خراشة. وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يهاجي الْعَبَّاس بن مرداس وَله يَقُول الْعَبَّاس: الْبَسِيط
(أَبَا خراشة أمّا كنت ذَا نفرٍ
…
فإنّ قومِي لم تأكلهم الضّبع)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ.
وخفاف هُوَ أحد فرسَان قيس وشعرائها الْمَذْكُورين. قَالَ الْأَصْمَعِي: خفاف ودريد بن الصمَّة أشعر الفرسان وَهُوَ أحد أغربة الْعَرَب أَي: سودانهم لِأَنَّهُ كَانَ أسود حالكاً وَهُوَ الْقَائِل:
(كِلَانَا يسوّده قومه
…
على ذَلِك النّسب المظلم)
يَعْنِي: السودَان.)
وأغربة الْعَرَب هم: عنترة بن شَدَّاد وسليك بن السلكة وَأَبُو عَمْرو بن الْحباب وخفاف بن ندبة وَهِشَام بن عقبَة بن أبي معيط.
وَأما مُعَاوِيَة الْمَذْكُور فَهُوَ ابْن عمر خفاف وَهُوَ أَخُو الخنساء الصحابية وأخو صَخْر. وَقد قتل روى هِشَام عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عُمَيْر ابْن الْحَارِث بن الشريد يَأْخُذ بيد ابنيه صَخْر وَمُعَاوِيَة فِي الْمَوْسِم فَيَقُول: أَنا أَبُو خيري مُضر فَمن أنكر ذَلِك فليغير فَمَا يُغير ذَلِك عَلَيْهِ أحد.
وَهَذَا خبر مقتل مُعَاوِيَة.
روى صَاحب الأغاني عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: إِن مُعَاوِيَة وافى عكاظ فِي
موسم من مواسم الْعَرَب فَبَيْنَمَا هُوَ يمشي بسوق عكاظ إِذْ لَقِي أَسمَاء المرية وَكَانَت جميلَة وَزعم أَنَّهَا كَانَت بغياً فَدَعَاهَا إِلَى نَفسه فامتنعت عَلَيْهِ وَقَالَت: أما علمت أَنِّي عِنْد سيد الْعَرَب هَاشم بن حَرْمَلَة فأغضبته فَقَالَ: أما وَالله لأقارعنه عَنْك.
قَالَت: شَأْنك وشأنه. فَرَجَعت إِلَى هَاشم فَأَخْبَرته بِمَا جرى فَقَالَ هَاشم: لَا نريم أَبْيَاتنَا حَتَّى نَنْظُر مَا يكون من جهده.
قَالَ: فَلَمَّا خرج الشَّهْر الْحَرَام وتراجع النَّاس من عكاظ خرج مُعَاوِيَة غازياً يُرِيد بني مرّة وَبني فَزَارَة فِي فرسَان أَصْحَابه من سليم حَتَّى إِذا كَانَ بمَكَان يدعى الْحَوْزَة أَو الجوزة وَالشَّكّ من أبي عُبَيْدَة سنح لَهُ ظَبْي فتطير مِنْهُ وَرجع فِي أَصْحَابه فَبلغ ذَلِك هَاشم بن حَرْمَلَة فَقَالَ: مَا مَنعه من الْإِقْدَام إِلَّا الْجُبْن.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي السّنة الْمُقبلَة غزاهم حَتَّى إِذا كَانَ فِي ذَلِك الْمَكَان سنح لَهُ ظَبْي وغراب فتطير فَرجع وَمضى أَصْحَابه وتخلف فِي تِسْعَة عشر فَارِسًا مِنْهُم لَا يُرِيدُونَ قتالاً إِنَّمَا تخلف من عظم الْجَيْش رَاجعا إِلَى بِلَاده فَوَرَدُوا مَاء وَإِذا عَلَيْهِ بَيت شعر فصاحوا بأَهْله فَخرجت إِلَيْهِم امْرَأَة فَقَالُوا: مِمَّن أَنْت قَالَت: امْرَأَة من جُهَيْنَة أحلاف لبني سهم بن مرّة بن غطفان.
فَوَرَدُوا المَاء فانسلت فَأَتَت هَاشم بن حَرْمَلَة فَأَخْبَرته أَنهم غير بعيد وعرفته بِعدَّتِهِمْ وَقَالَت: لَا أرى إِلَّا مُعَاوِيَة فِي الْقَوْم فَقَالَ: يَا لكاع أمعاوية فِي تِسْعَة عشر رجلا شبهت وأبطلت قَالَت: بل قلت الْحق وَإِن شِئْت لأصفهم لَك رجلا رجلا. قَالَ: هَاتِي.
قَالَت: رَأَيْت فيهم شَابًّا عَظِيم الجمة جَبهته قد خرجت من تَحت مغفره
صبيح الْوَجْه عَظِيم الْبَطن على فرس غراء. قَالَ: نعم هَذِه صفة مُعَاوِيَة وفرسه السَّمَاء.
قَالَت: وَرَأَيْت رجلا شَدِيد الأدمة شَاعِرًا ينشدهم. قَالَ: ذَلِك خفاف بن ندبة.)
قَالَت: وَرَأَيْت رجلا لَيْسَ يبرح وَسطهمْ إِذا نادوه رفعوا لَهُ أَصْوَاتهم. قَالَ: ذَلِك عَبَّاس الْأَصَم.
قَالَت: وَرَأَيْت رجلا طَويلا يكنونه أَبَا حبيب ورأيتهم أَشد شَيْء لَهُ توقيراً قَالَ: ذَاك نُبَيْشَة بن حبيب.
قَالَت: وَرَأَيْت شَابًّا جميلاً لَهُ وفرة حنسة. قَالَ: ذَلِك الْعَبَّاس بن مرداس.
قَالَت: وَرَأَيْت شَيخا لَهُ ضفيرتان فَسَمعته يَقُول لمعاوية: بِأبي أَنْت أطلت الْوُقُوف. قَالَ: ذَلِك قَالَ: فَنَادَى هَاشم فِي قومه وَخرج وَزعم أَن المري لم يخرج إِلَيْهِم إِلَّا فِي عدتهمْ من بني مرّة.
قَالَ: فَلم يشْعر السلميون حَتَّى طلعوا عَلَيْهِم فثاروا إِلَيْهِم فلقوهم فَقَالَ لَهُم خفاف: لَا تنازلوهم رجلا رجلا فَإِن خيلهم تثبت للطراد وَتحمل ثقل السِّلَاح وخيلكم قد أنهكها الْغَزْو وأصابها الحفاء.
قَالَ: فَاقْتَتلُوا سَاعَة فَانْفَرد هَاشم ودريد ابْنا حَرْمَلَة لمعاوية فاستطرد لَهُ أَحدهمَا فَشد مُعَاوِيَة عَلَيْهِ وشغله واغتره الآخر فطعنه فَقتله. وَاخْتلفُوا أَيهمَا استطرد لَهُ وَأيهمَا قَتله وَكَانَت بِالَّذِي استطرد لَهُ طعنة طعنه إِيَّاهَا مُعَاوِيَة وَيُقَال: هُوَ هَاشم
وَقَالَ آخَرُونَ: بل دُرَيْد أَخُو هَاشم.
قَالَ: وَشد خفاف بن ندبة على مَالك بن حمَار سيد بني شمخ بن فَزَارَة فَقتله.
وَلما دخل الشَّهْر الْحَرَام من السّنة الْمُقبلَة خرج صَخْر أَخُو مُعَاوِيَة حَتَّى أَتَى بني مرّة فَوقف على ابْني حَرْمَلَة فَإِذا أَحدهمَا بِهِ طعنة فِي عضده زعم خفاف فِي شعره أَنه هَاشم.
فَقَالَ صَخْر: أيكما قتل أخي مُعَاوِيَة فسكتا فَلم يحيرا إِلَيْهِ شَيْئا. ثمَّ قَالَ الصَّحِيح للجريح: مَا لَك لَا تجيبه فَقَالَ: وقفت لَهُ فطعنني هَذِه الطعنة فِي عضدي
وَشد أخي عَلَيْهِ فَقتله فأينا قتلت أدْركْت ثأرك إِلَّا أَنا لم نسلب أَخَاك.
قَالَ: فَمَا فعلت فرسه السَّمَاء قَالَ: هَا هِيَ تِلْكَ خُذْهَا. فَأَخذهَا فَرجع فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل غزاهم صَخْر وَهُوَ على فرسه السَّمَاء فَقَالَ: أَخَاف أَن يعرفوني ويعرفوا غرَّة السَّمَاء فيتأهبوا. فحمم غرتها.
فَلَمَّا أشرف على الْحَيّ رأوها فَقَالَت فتاة مِنْهُم: هَذِه وَالله السَّمَاء فَنظر هَاشم فَقَالَ: السَّمَاء غراء وَهَذِه بهيم فَلم يشعروا إِلَّا وَالْخَيْل عَلَيْهِم فَاقْتَتلُوا فَقتل صَخْر دريداً وَأصَاب)
بني مرّة فَقَالَ: الْكَامِل
(وَلَقَد قتلتكم ثَنَاء وموحداً
…
وَتركت مرّة مثل أمس الْمُدبر)
(وَلَقَد دفعت إِلَى دريدٍ طعنةً
…
نجلاء تزغل مثل عطّ المنحر)
تزغل: تخرج الدَّم قطعا قطعا. قَالَ: والزغلة: الدفعة الْوَاحِدَة من الدَّم وَالْبَوْل.
وَقَالَ صَخْر أَيْضا فِيمَن قتل من بني مرّة: الوافر
(قتلت الخالدين بِهِ وبشراً
…
وعمراً يَوْم حوزة وَابْن بشر)
(وَمن شمخٍ قتلت رجال صدقٍ
…
وَمن بدرٍ فقد أوفيت نذري)
(ومرّة قد صبحناها المنايا
…
فروّينا الأسنّة غير فَخر)
(وَمن أفناء ثَعْلَبَة بن سعدٍ
…
قتلت وَمَا أبيئهم بِوتْر)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ثمَّ إِن هَاشم بن حَرْمَلَة خرج غازياً فَلَمَّا كَانَ بِبِلَاد جشم بن بكر بن هوَازن نزل منزلا وَأخذ صفنا وخلا لِحَاجَتِهِ بَين شجر وَرَأى غفلته قيس بن الأمرار الْجُشَمِي فَتَبِعَهُ وَقَالَ: هَذَا قَاتل مُعَاوِيَة لَا نجت نَفسِي إِن نجا فَلَمَّا قعد لِحَاجَتِهِ تكمن لَهُ بَين الشّجر حَتَّى إِذا كَانَ خَلفه أرسل عَلَيْهِ معبلةً فَقتله.
فَقَالَت الخنساء فِي ذَلِك: الوافر
(فدَاء الْفَارِس الجشميّ نَفسِي
…
وأفديه بِمن لي من حميم)
…
(خصصت بهَا أَخا الأمرار قيسا
…
فَتى فِي بَيت مكرمةٍ كريم)
(أفدّيه بكلّ بني سليمٍ
…
بظاعنهم وبالأنس الْمُقِيم)
(كَمَا من هاشمٍ أَقرَرت عَيْني
…
وَكَانَت لَا تنام وَلَا تنيم)
انْتهى كَلَام الأغاني.
وروى الْأَخْفَش فِي ديوَان الخنساء عَن ابْن الْأَعرَابِي أَن قيسا كَانَ رجلا رَاعيا فَأَغَارَ عَلَيْهِ هَاشم بن حَرْمَلَة فَأَخذهُم وَقَالَ: أتيتكم بِهَذَا الرَّاعِي وغنمه. فاغتفله الرَّاعِي فَرَمَاهُ فَقتله.
وللخنساء مراث كَثِيرَة فِي أَخِيهَا مُعَاوِيَة وصخر.
وَالسَّمَاء الَّتِي هِيَ اسْم فرس مُعَاوِيَة هِيَ بِلَفْظ السَّمَاء خلاف الأَرْض.
وَقد روى ابْن عبد ربه فِي العقد الفريد عَن أبي عُبَيْدَة أَيْضا خبر مقتل مُعَاوِيَة
على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَن الأغاني تَرَكْنَاهُ لطوله وَمن أَرَادَ الِاطِّلَاع عَلَيْهِ فلينظره فِي بَاب أَيَّام الْعَرَب)
من العقد الفريد. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الثَّانِي عشر بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ:
الْبَسِيط تعلّمن هَا لعمر الله ذَا قسما هَذَا صدر وعجزه: فاقدر بذرعك وَانْظُر أَيْن تنسلك على أَن الْفَصْل بَين هَا وَبَين ذَا بِغَيْر إِن وأخواته كالقسم قَلِيل كَمَا هُنَا.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب مَا يكون مَا قبل الْمَحْلُوف بِهِ عوضا من اللَّفْظ بِالْوَاو: قَوْلك إِي هَا الله ذَا يثبت ألفها لِأَن الَّذِي بعْدهَا مدغم.
وَمن الْعَرَب من يَقُول إِي هَا الله ذَا فيحذف الْألف الَّتِي بعد الْهَاء وَلَا يكون فِي الْمقسم هَا هُنَا إِلَّا الْجَرّ لِأَن قَوْلهم هَا صَار عوضا من اللَّفْظ بِالْوَاو فحذفت تَخْفِيفًا على اللِّسَان.
وَأما قَوْلهم ذَا فَزعم الْخَلِيل أَنه الْمَحْلُوف عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِي وَالله لِلْأَمْرِ هَذَا فَحذف الْأَمر لِكَثْرَة استعمالهم هَذَا فِي كَلَامهم وَقدم هَا كَمَا قدم قوم هَا هُوَ ذَا وَهَا أَنا ذَا. وَهَذَا قَول الْخَلِيل.
وَقَالَ زُهَيْر: تعلّمن هَا لعمر الله ذَا قسما
…
...
…
...
…
... الْبَيْت انْتهى.
قَالَ النّحاس: قَالَ الْخَلِيل فِي ذَا: إِنَّه الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِي وَالله الْأَمر هَذَا فَحذف الْأَمر وَقدم هَا كَمَا قدم قوم هَا هُوَ ذَا. وَعند غَيره أَن الْمَعْنى: هَذَا مَا أقسم بِهِ. وقسماً مصدر فِي الْقَوْلَيْنِ وَمَا قبله يدل على الْفِعْل. انْتهى.
وَقَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ تَقْدِيم هَا الَّتِي للتّنْبِيه على ذَا وَقد حَال بَينهمَا بقوله لعمر الله.
وَالْمعْنَى: لعمر الله هَذَا مَا أقسم بِهِ وَنصب قسما على الْمصدر
الْمُؤَكّد لما قبله لِأَن مَعْنَاهُ أقسم فَكَأَنَّهُ قَالَ: أقسم لعمر الله قسما. وَمعنى تعلمن اعْلَم وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْأَمر.
وَقَالَ أَيْضا فِي شرح الْأَشْعَار السِّتَّة قَوْله: تعلمن أَي: اعْلَم وَهَا تَنْبِيه. وَأَرَادَ: هَذَا مَا أقسم)
بِهِ. فَفرق بَين ذَا وَهَا بقوله لعمر الله وَنصب قسما على الْمصدر الْمُؤَكّد بِهِ معنى الْيَمين.
وَقَالَ شَارِح ديوَان زُهَيْر صعُودًا وَكَانَ ضَعِيفا فِي النَّحْو: وَقَوله تعلمنها أَي: اعلمها وَالْمعْنَى تعلمن هَذَا وصل هَا بالنُّون من تعلمن وَفرق بَين هَا وَذَا وَنصب قسما بتَعَلُّم يُرِيد: يَا هَذَا كَمَا تَقول: اعْلَم زيد أَنِّي زائرك أَي: يَا زيد.
قَالَ الْأَصْمَعِي: وَقد رويت ذَا قسم فَذا حِينَئِذٍ نصب على الْحَال وَهِي ذُو الَّتِي تتصرف وتصرفها فِي الْإِعْرَاب نَحْو ذُو مَال وَذَا ثوب وَذي قوم.
وَبَعْضهمْ يَقُول: تعلمنها لعمر الله ذَا ثمَّ ينصب قسما على كلامين كَأَنَّهُ قَالَ: تعلم قسما فاقصد بذرعك أَي: اعرف قدرك. هَذَا كَلَامه. وَكله خلاف الصَّوَاب
وَإِنَّمَا نَقَلْنَاهُ للتعجب.
وَقَوله: فاقدر بذرعك الخ قَالَ الأعلم فِي شرح الْأَشْعَار السِّتَّة: أَي قدر لخطوك. والذرع: قدر الخطو. وَهَذَا مثل وَالْمعْنَى لَا تكلّف مَا لَا تطِيق مني يتوعده بذلك.
كَذَلِك قَوْله: وَانْظُر أَيْن تنسلك. والانسلاك: الدُّخُول فِي الْأَمر وَأَصله من سلوك الطَّرِيق.
وَالْمعْنَى لَا تدخل نَفسك فِيمَا لَا يَعْنِيك وَلَا يجدي عَلَيْك. اه.
وَالْأَحْسَن أَن يكون: اقدر من قدرت قدرا من بَابي ضرب وَقتل وَقدرته تَقْديرا بِمَعْنى.
وَالِاسْم الْقدر بِفتْحَتَيْنِ ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: فاقدر خطوك بذرعك. وذرع الْإِنْسَان: طاقته الَّتِي يبلغهَا.
وروى: فاقصد بذرعك من قصد فِي الْأَمر قصدا من بَاب ضرب إِذا توَسط وَطلب الْأسد وَلم يُجَاوز الْحَد. فالباء بِمَعْنى فِي. والذرع: بِمَعْنى الطَّاقَة أَيْضا.
وَالْبَيْت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى عدتهَا ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا قَالَ الْأَصْمَعِي: لَيْسَ فِي الأَرْض قصيدة على الْكَاف أَجود من قصيدة زُهَيْر الَّتِي مطْلعهَا: الْبَسِيط
(بَان الخليط وَلم يأووا لمن تركُوا
…
وزوّدوك اشتياقاً أيّةً سلكوا)
وَمن قصيدة أَوْس بن حجر الَّتِي أَولهَا: الْبَسِيط
(زعمتم أنّ غولاً والرّجام لنا
…
ومنعجاً فاذكروا وَالْأَمر مُشْتَرك)
وَهَذِه القصيدة هدد بهَا زُهَيْر الْحَارِث بن وَرْقَاء أَخا بني الصيداء بن عَمْرو بن
قعين الْأَسدي فَإِنَّهُ كَانَ أغار على طَائِفَة من بني سليم بن مَنْصُور فَأصَاب سبياً ثمَّ انْصَرف رَاجعا فَوجدَ غُلَاما لزهير حَبَشِيًّا يُقَال لَهُ: يسَار فِي إبل لزهير وَهُوَ آمن فِي نَاحيَة أَرضهم فَسَأَلَهُ: لمن أَنْت)
قَالَ: لزهير بن أبي سلمى.
فاستاقه وَهُوَ لَا يحرم ذَلِك عَلَيْهِ لحلف أَسد وغَطَفَان فَبلغ ذَلِك زهيراً فَبعث إِلَيْهِ أَن رد مَا أخذت. فَأبى فَقَالَ زُهَيْر فِي ذَلِك هَذِه القصيدة يهدده
بِأَنَّهُ يهجوه إِن لم يُرْسل مَا أَخذه.
وَهَذَا أول الْكَلَام مَعَه بعد التغزل:
(فَلَنْ يَقُولُوا بحبلٍ واهنٍ خلق
…
لَو كَانَ قَوْمك فِي أَسبَابه هَلَكُوا)
(يَا حَار لَا أرمين مِنْكُم بداهيةٍ
…
لم يلقها سوقةٌ قبلي وَلَا ملك)
(ارْدُدْ يساراً وَلَا تعنف عَلَيْهِ وَلَا
…
تمعك بعرضك إنّ الغادر المعك)
(وَلَا تكونن كأقوامٍ عَلَّمْتهمْ
…
يلوون مَا عِنْدهم حتّى إِذا نهكوا)
(طابت نُفُوسهم عَن حقّ خصمهم
…
مَخَافَة الشّرّ فارتدّوا لما تركُوا)
تعلّمن هَا لعمر الله ذَا قسما
…
...
…
...
…
... الْبَيْت
(لَئِن حللت بجوٍّ فِي بني أسدٍ
…
فِي دين عَمْرو وحالت بَيْننَا فدك)
(ليأتينّك منّي منطقٌ قذعٌ
…
باقٍ كَمَا دنّس القبطيّة الودك)
هَذَا آخر القصيدة: قَوْله: هلا سَأَلت بني الصيداء الخ بَنو الصيداء: قوم من بني أَسد وهم
رَهْط الْحَارِث بن وَرْقَاء. وَأي مَنْصُوب بأمتسك. وَالْحَبل: الْعَهْد والميثاق.
قَالَ صعوداء: إِنَّمَا يَعْنِي الْحلف الَّذِي بَين مزينة وغَطَفَان وصهره فِي بني الغدير.
والواهن: الضَّعِيف. والخلق: بِفتْحَتَيْنِ: الذائب. وَجُمْلَة: لَو كَانَ قَوْمك الخ من الْمَقُول الْمَنْفِيّ.
يَقُول: سلهم كَيفَ كنت أفعل لَو استجرت بهم فَإِنِّي كنت أستوثق وَلَا أتعلق إِلَّا بِحَبل متين.
وَقَوله: لَو كَانَ قَوْمك الخ أَي: فِي أَسبَاب ذَلِك الْحَبل. يَقُول: هُوَ حَبل شَدِيد مُحكم فَمن تمسك بِهِ نجا وَلَيْسَ بِحَبل ضَعِيف من تعلق بأسبابه هلك.
وَقَوله: يَا حَار الخ هُوَ مرخم الْحَارِث بن وَرْقَاء. وَلَا ناهية وأرمين بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول مُؤَكد بالنُّون الْخَفِيف. والسوقة: الرّعية. وَهَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد علم الْعرُوض.
وَقَوله: ارْدُدْ يساراً الخ هُوَ عبد زُهَيْر كَانَ الْحَارِث أسره. وتعنف بِضَم النُّون من العنف وَهُوَ فعل الشَّيْء على غير وَجهه والتجاوز فِيهِ. والمعك: المطل وماضيه ومضارعه بِفَتْح الْعين. والمعك بِكَسْر الْعين: الَّذِي يماطل. يَقُول: مَا تمطلني فمطلك غدر وَكلما مطلتني لحق ذَلِك)
بعرضك. وَإِنَّمَا يتوعده بالهجو.
وَقَوله: وَلَا تكونن كأقوام الخ يُقَال: لواه يلويه لياً ولياناً أَي: مطله. يمطلون بِمَا عَلَيْهِم من الدَّين.
وَمعنى نهكوا شتموا وبولغ فِي هجائهم وَأَصله من نهكته الْحمى إِذا بلغت من جِسْمه وهزلته.
وَقَوله: فَارْتَدُّوا لما تركُوا أَي: لما أوذوا بالهجاء دفعُوا الْحق إِلَى صَاحبه وَارْتَدوا إِلَى عَطاء مَا كَانُوا تَرَكُوهُ ومنعوه من الْحق مَخَافَة من الشَّرّ وإبقاءً على عرضهمْ.
وَقَوله: لَئِن حللت بجو الْبَيْتَيْنِ اللَّام الأولى موطئة وَالثَّانيَِة جَوَاب الْقسم. جو بِالْجِيم: اسْم وَاد.
وَدين عَمْرو بِالْكَسْرِ: طَاعَته وسلطانه. وَعَمْرو هُوَ عَمْرو بن هِنْد ملك الْعَرَب. وفدك بِفَتْح
والقذع بِفَتْح الْقَاف والذال الْمُعْجَمَة: اسْم بِمَعْنى السب البليغ. يُقَال: أقذع فلَان لفُلَان أَي: استقبله بِكَلَام قَبِيح. وباق أَي: يبْقى على الدَّهْر بجريانه على أَفْوَاه النَّاس.
والقبطية بِضَم الْقَاف وَكسرهَا: ثِيَاب بيض تصنع بِالشَّام وَقد يَقع على كل ثوب أَبيض.
والودك: الدسم.
يَقُول: لَئِن نزلت بِحَيْثُ لَا أدركك ليردن عَلَيْك هجوي ولأدنسن بِهِ عرضك كَمَا يدنس الدسم الثِّيَاب الْبيض.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: فَلَمَّا أَتَت القصيدة الْحَارِث بن وَرْقَاء لم يلْتَفت إِلَيْهَا فَقَالَ زُهَيْر: الوافر
(تعلّم أنّ شرّ النّاس حيٌّ
…
يُنَادي فِي شعارهم يسَار)
(وَلَوْلَا عسبه لرددتموه
…
وشرّ منيحةٍ عسبٌ معار)
(إِذا جمحت نِسَاؤُكُمْ إِلَيْهِ
…
أشظّ كأنّه مسدٌ مغار)
(يبربر حِين يعدو من بعيدٍ
…
إِلَيْهَا وَهُوَ قبقابٌ قطار)
(كطفلٍ ظلّ يهدج من بعيدٍ
…
ضئيل الْجِسْم يعلوه انبهار)
(إِذا أبزت بِهِ يَوْمًا أهلّت
…
كَمَا تبزي الصّعائد والعشار)
(فأبلغ إِن عرضت لَهُم رَسُولا
…
بني الصّيداء إِن نفع الحوار)
وَقَوله: تعلم أَن شَرّ النَّاس الخ الشعار: عَلامَة الْقَوْم فِي سفرهم وغزوهم وحربهم نَحْو: يَا أَفْلح وَيَا سَلامَة فَيصير كل قوم إِلَى داعيهم وَكَانَ شعار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ يَوْم حنين يَا أهل الْقُرْآن.
فَلَمَّا انهزم النَّاس صَاح الْعَبَّاس: يَا أهل الْقُرْآن فَرجع النَّاس وَكَانَ الْفَتْح ويسار: عبد زُهَيْر.)
والعسب: الضراب وَالْجِمَاع. يَقُول: لَوْلَا حَاجَة نِسَائِكُم إِلَيْهِ لرددتموه عَليّ. والمنيحة: الْعَارِية.
وجمحت: مَالَتْ. وأشظ: قَامَ مَتَاعه وصلب وَاشْتَدَّ. والمسد: الْحَبل. والمغار: الشَّديد الفتل. يُقَال: أغرت الْحَبل أَي: فتلته محكماً.
ويبربر: يصوت مثل بربرة الْفَحْل إِذا أَرَادَ النَّاقة والتيس إِذا أَرَادَ الشَّاة. والقبقاب: المصوت من القبقبة وَهِي هدير الْفَحْل. والقطار بِضَم الْقَاف: الْقَائِم المنتصب الرَّأْس يقطر إحليله من الشَّهْوَة.
والهدجان: مقاربة الخطو فِي سرعَة والانبهار: علو النَّفس عِنْد التَّعَب. شبهه فِي عدوه على أَربع إِلَيْهَا عِنْد إِرَادَة الْفَاحِشَة وعلو نَفسه من الْحِرْص والشهوة بطفل صَغِير يحبو بَينهم لضَعْفه.
والإبزاء بِالْمُوَحَّدَةِ والزاء الْمُعْجَمَة من جَمِيع الْإِنَاث: أَن ترفع استها إِلَى الْفَحْل. وأهلت: رفعت صَوتهَا. والصعائد: جَمِيع صعُود وَهِي النَّاقة الَّتِي تخدج على سَبْعَة أشهر أَو ثَمَانِيَة فتعطف وَقيل: هِيَ الَّتِي مَاتَ وَلَدهَا فعطفت على وَلَدهَا الأول والعشار: جمع عشراء وَهِي الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا مذ حملت عشرَة اشهر وَرُبمَا بَقِي الِاسْم عَلَيْهَا بعد ذَلِك. وَعَلِيهِ مخرج الْبَيْت لِأَنَّهُ شبه النِّسَاء فِي حاجتهن إِلَى الْجِمَاع وإبرازهن أعجازهن وإهلالهن عِنْد ذَلِك باحتياج الصعائد الَّتِي أَلْقَت أَوْلَادهَا لغير التَّمام والعشار الَّتِي ولدت ثمَّ حنت إِلَى الْفَحْل وَلذَلِك وَصفه بالبربرة والقبقبة وهما صَوت الْفَحْل وهديره عِنْد الضراب. والحوار بِكَسْر الْمُهْملَة: المحاورة والمجاوبة.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: فَلَمَّا بلغتهم الأبيات قَالُوا لِلْحَارِثِ بن وَرْقَاء: اقْتُل يساراً.
فَأبى عَلَيْهِم وكساه وَأحسن إِلَيْهِ ورده مَعَ الْإِبِل إِلَى زُهَيْر فمدحه زُهَيْر بعد ذَلِك.
وَلَوْلَا خوف الإطالة لأوردت جملَة مِمَّا قَالَ فِيهِ.
وترجمة زُهَيْر تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّالِث عشر بعد الأربعمائة وَهُوَ من أَبْيَات الْمفصل:
الْبَسِيط هَا إنّ تا عذرةٌ إِن لم تكن نَفَعت هُوَ صدر وعجزه: على أَن الْفَصْل بَين هَا وَبَين تا بِغَيْر إِن وَأَخَوَاتهَا قَلِيل سَوَاء كَانَ الْفَاصِل قسما كَمَا تقدم أَو غَيره كَمَا هُنَا فَإِن الْفَاصِل هُنَا إِن.
وتا: اسْم إِشَارَة لمؤنث بِمَعْنى هَذِه. وروى: هَا إِن ذِي عذرة. وروى أَبُو عُبَيْدَة: وَإِن هَا عذرة فَلَا شَاهد فِيهِ على رِوَايَته.
وَهَذَا الْبَيْت آخر قصيدة للنابغة الذبياني مدح بهَا النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة وَاعْتذر إِلَيْهِ فِيهَا مِمَّا افتري عَلَيْهِ.
وَقد بَينا سَبَب اعتذاره فِي تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة وَتقدم شرح أَبْيَات مِنْهَا.
وَقَبله:
(نبّئت أنّ أَبَا قَابُوس أوعدني
…
وَلَا قَرَار على زأرٍ من الْأسد)
هَا إنّ تا عذرة
…
...
…
...
…
. . الْبَيْت نبئت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول بِمَعْنى أخْبرت. وروى أنبئت. وَأَبُو قَابُوس: كنية النُّعْمَان بن الْمُنْذر.
وقابوس مُعرب كاوس على وزن طَاوس: اسْم ملك من مُلُوك الْعَجم. وأوعد بِالْألف لَا يكون إِلَّا فِي الشَّرّ بِمَعْنى هددني
وزأر: مصدر زأر الْأسد بِالْهَمْز يزئر ويزأر زأراً إِذا صَوت بحنق. وَهَذَا تَمْثِيل لغضبه.
وَقَوله: هَا إِن تا الخ هَا للتّنْبِيه وتا: اسْم إِشَارَة لما ذكره فِي قصيدته من يَمِينه على أَنه لم يَأْتِ بِشَيْء يكرههُ. وَهِي مُبْتَدأ خَبره عذرة. وَقَالَ بَعضهم: إِن عذرتي هَذِه عذرة.
وَقَالَ الْخَطِيب التبريزي فِي شَرحه لهَذِهِ القصيدة: الْإِشَارَة للقصيدة أَي: إِن هَذِه القصيدة ذَات عذرة. والعذرة بِكَسْر الْعين اسْم للْعُذْر وَبِضَمِّهَا قَالَ صَاحب الصِّحَاح: يُقَال عذرته فِيمَا صنع أعذره عذرا وعذراً. وَالِاسْم المعذرة والعذرى. وَكَذَلِكَ الْعذرَة وَهِي مثل الرّكْبَة والجلسة. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
وَقَالَ صَاحب الْمِصْبَاح: عذرته فِيمَا صنع عذرا من بَاب ضرب: رفعت عَنهُ اللوم فَهُوَ)
مَعْذُور أَي: غير ملوم. وَالِاسْم الْعذر وتضم الذَّال للإتباع وتسكن وَقَوله: إِن لم تكن نَفَعت روى أَيْضا: إِلَّا تكن نَفَعت.
وَقَوله: إِن صَاحبهَا أَي: صَاحب الْعذرَة وَيَعْنِي بِهِ نَفسه. وتاه: الْإِنْسَان فِي الْمَفَازَة يتيه تيهاً: ضل عَن الطَّرِيق وتاه يتوه توهاً لُغَة. وَقد تيهته وتوهته وَمِنْه يستعار لمن رام أمرا فَلم يُصَادف الصَّوَاب فَيُقَال إِنَّه تائه. كَذَا فِي الْمِصْبَاح.
والبلدك الْأَثر وَالْأَرْض وَقيل هُنَا بِمَعْنى الْمَفَازَة فَإِن من تحير فِي الْمَفَازَة يهْلك. وَقَالَ شَارِح ديوانه: مَعْنَاهُ لَا أُفَارِق بلدك مَا دمت ساخطاً عَليّ. وَالْمعْنَى عِنْدِي: إِن لم تقبل عُذْري وترضى عَليّ فَإِنِّي أختل حَتَّى إِنِّي أضلّ فِي الْبَلدة الَّتِي أَنا فِيهَا لما أَنا فِيهِ من عظم الدهشة الْحَاصِلَة لي من وعيدك. فَتَأمل.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد الرَّابِع عشر بعد الأربعمائة وَهُوَ من شَوَاهِد س: الطَّوِيل
(وَنحن اقْتَسَمْنَا المَال نِصْفَيْنِ بَيْننَا
…
فَقلت لَهُم: هَذَا لَهَا هَا وَذَا ليا)
على أَن الْفَصْل بِالْوَاو بَين هَا وَذَا قَلِيل وَالْأَصْل: وَهَذَا ليا.
نقل بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات الْمفصل عَن صدر الأفاضل: إِنَّمَا جَازَ تَقْدِيم هَا على الْوَاو لِأَن هَا تبنبيه والتنبيه قد يدْخل على الْوَاو إِذا عطفت جملَة على أُخْرَى كَقَوْلِك: أَلا إِن زيدا خَارج أَلا وَإِن عمرا مُقيم. اه.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب استعمالهم عَلامَة الْإِضْمَار الَّذِي لَا يُوقع موقع مَا يضمر فِي الْفِعْل قَالَ: وَكَذَلِكَ هَا أَنا ذَا وَهَا نَحن أولاء وَهَا هُوَ ذَاك وَهَا أَنْت ذَا وَهَا أَنْتُم أولاء وَهَا أنتن أولاء وَإِنَّمَا اسْتعْملت هَذِه الْحُرُوف هُنَا لِأَنَّك لَا تقدر على شَيْء من الْحُرُوف الَّتِي تكون عَلامَة فِي الْفِعْل وَلَا على الْإِضْمَار الَّذِي فِي فعل.
وَزعم الْخَلِيل أَن هَا هُنَا هِيَ الَّتِي مَعَ ذَا إِذا قلت هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادوا أَن يَقُولُوا: هَذَا أَنْت وَلَكنهُمْ جعلُوا أَنْت بَين هَا وَذَا وَأَرَادُوا أَن يَقُولُوا: أَنا هَذَا وَهَذَا أَنا فقدموا هَا وَصَارَت أَنا بَينهمَا.
وَزعم أَبُو الْخطاب أَن الْعَرَب الموثوق بهم تَقول: أَنا هَذَا وَهَذَا أَنا. وَمثل مَا قَالَ الْخَلِيل فِي هَذَا قَول الشَّاعِر:)
وَنحن اقْتَسَمْنَا المَال نِصْفَيْنِ بَيْننَا
…
...
…
...
…
. . الْبَيْت
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يَقُول: وَهَذَا لي فصير الْوَاو بَين هَا وَذَا. وَزعم أَن مثل ذَلِك: إِي هَا الله ذَا أَي: إِنَّمَا هُوَ هَذَا. وَقد تكون هَا فِي هَا أَنْت ذَا غير مُقَدّمَة وَلكنهَا تكون بمنزلتها فِي هَذَا.
ويدلك على هَذَا قَوْله عز وجل: هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ فَلَو كَانَت هَا هُنَا هِيَ الَّتِي تكون أَولا إِذا قلت هَؤُلَاءِ لم تعد هَا هَا هُنَا بعد أَنْتُم.
وَحدثنَا يُونُس أَيْضا تَصْدِيقًا لقَوْل أبي الْخطاب أَن الْعَرَب تَقول: هَذَا أَنْت تَقول كَذَا وَكَذَا. لم يرد بقوله هَذَا أَنْت أَن يعرفهُ نَفسه كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يُعلمهُ أَنه لَيْسَ غَيره. هَذَا محَال وَلكنه أَرَادَ أَن ينبهه كَأَنَّهُ قَالَ: الْحَاضِر عندنَا أَنْت إِذْ الْحَاضِر الْقَائِل كَذَا وَكَذَا أَنْت.
وَإِن شِئْت لم تقدم هَا فِي هَذَا الْبَاب قَالَ عز وجل: ثمَّ أنتمْ هَؤُلَاءِ تَقتُلون أنفُسَكم.
هَذَا نَص سِيبَوَيْهٍ ونقلناه بِطُولِهِ لِكَثْرَة فَوَائده.
قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي فَصله بَين هَا وَذَا بِالْوَاو وَنصب نِصْفَيْنِ على الْحَال. وَفِي هَذَا حجَّة لما أجَازه سِيبَوَيْهٍ من الْحَال فِي قَول ذِي الرمة: الطَّوِيل
(ترى خلقهَا نصفٌ قناةٌ قويمةٌ
…
ونصفٌ نقاً يرتجّ أَو يتمرمر)
وَأطَال على الْمبرد فِي إبِْطَال جَوَازه فَإِنَّهُ قَالَ: سِيبَوَيْهٍ رفع نصف وَمَا بعده على الْقطع والابتداء وَلَو نصب على الْبَدَل أَو على الْحَال لجَاز.
وغلطه الْمبرد وَزعم أَن نصفا معرفَة لِأَنَّهُ فِي نِيَّة الْإِضَافَة فَكَأَنَّهُ قَالَ ترى خلفهَا نصفه كَذَا وَنصفه كَذَا.
وَالْحجّة لسيبويه أَنه نكرَة وَإِن كَانَ متضمناً لِمَعْنى الْإِضَافَة وَلَيْسَ من بَاب كل وَبَعض لِأَن الْعَرَب قد أدخلت عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام وثنته وَجمعته وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك فِي كل وَبَعض.
وصف امْرَأَة فَجعل أَعْلَاهَا فِي اللطافة كالقناة وأسفلها فِي امتلائه كالنقا المرتج المتمرمر أَي: يجْرِي بعضه فِي بعض. انْتهى.
وَمعنى الْبَيْت الشَّاهِد وَاضح.
وَنسبه الأعلم إِلَى لبيد وَكَذَلِكَ نسبه الأندلسي فِي شرح الْمفصل إِلَيْهِ. وَأَنا لم أره فِي ديوانه.
وَكَذَلِكَ قَالَ قبلي ابْن المستوفي فِي شرح أَبْيَات الْمفصل: إِنَّه لم يره فِي ديوانه. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده: الْكَامِل
هَذَا صدر وعجزه:)
وبدا الَّذِي كَانَت نوار أجنّت على أَن هُنَا فِيهِ بِمَعْنى الزَّمَان أَي: لات حِين حنت فَهِيَ ظرف زمَان لأضافتها إِلَى الْجُمْلَة.
قد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مفصلا فِي الشَّاهِد الثَّالِث والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ.
والحنين: نزاع النَّفس إِلَى شَيْء. ونوار اسْم امرأةٍ مَبْنِيّ على الْكسر فِي لُغَة الْجُمْهُور وَعند تَمِيم مُعرب لَا ينْصَرف. وأجنت بِالْجِيم بِمَعْنى أخفت وسترت وتاؤه وتاء حنت مكسورتان للوزن.
بَاب الْمَوْصُول أنْشد فِيهِ الشَّاهِد الْخَامِس عشر بعد الأربعمائة الطَّوِيل
(وإنّي لراجٍ نظرةً قبل الَّتِي
…
لعلّي وَإِن شطّت نَوَاهَا أزورها)
على أَن جملَة لعَلي الخ صلَة الَّتِي بِتَقْدِير القَوْل أَي: الَّتِي أَقُول لعَلي أزورها.
وَإِنَّمَا قدر أَقُول لِأَنَّهَا إنشائية لَا يَصح وُقُوعهَا صلَة فَقدر القَوْل لتَكون خبرية. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول وَهَذَا تَخْرِيج أبي عَليّ الْفَارِسِي فِي التَّذْكِرَة القصرية قَالَ فِيهَا: قَول الفرزدق: وإنّي لراجٍ نظرةً قبل الَّتِي هُوَ على غير الظَّاهِر وتأويله الْحِكَايَة كَأَنَّهُ قَالَ: الَّتِي أَقُول فِيهَا هَذَا القَوْل. وإضمار القَوْل شَائِع كثير والحكاية مستعملة إِذا كَانَ عَلَيْهَا دَلِيل وَالدّلَالَة هُنَا قَائِمَة وَهِي أَن الصِّلَة إِيضَاح وَمَا عدا الْخَبَر لَا يُوضح.
وَقَالَ أَيْضا فِي إِيضَاح الشّعْر: جَاءَ فِي هَذَا الْبَيْت للفرزدق الصِّلَة غير الْخَبَر والصلة لَا تكون إِلَّا خَبرا كَمَا أَن الصّفة كَذَلِك.
فَإِن قلت: فقد جَاءَ من الموصولة مَا وصل بِغَيْر الْخَبَر نَحْو مَا قَالُوهُ: كتبت إِلَيْهِ: أَن قُم وَبِأَن قُم قلت: ذَلِك وَإِن جَاءَ فِي أَن لَا يَسْتَقِيم فِي الَّذِي وَنَحْوه من الْأَسْمَاء لِأَن الَّذِي يَقْتَضِي الْإِيضَاح بصلته وَلَيْسَت أَن كَذَلِك. أَلا ترى أَنَّهَا حرف وَأَنه لَا يرجع إِلَيْهَا ذكر من الصِّلَة.
وَهَذَا وَإِن جَاءَ فِي الْبَيْت فَإِن النَّحْوِيين يجْعَلُونَ لَعَلَّ ك لَيْت فِي أَن الْفَاء لَا تدخل على خَبَرهَا فَلَا يجيزون: لَعَلَّ الَّذِي فِي الدَّار فمنطلق كَمَا لَا يجيزكون ذَلِك فِي لَيْت.)
فَإِن قلت: أحمل لَعَلَّ على الْمَعْنى لِأَنَّهُ طمع كَأَنَّهُ قَالَ: أطمع فِي زيارتها قيل لَك: فَصله أَيْضا بالتمني وَقل: الْمَعْنى الَّذِي أَتَمَنَّى وَصله بالاستفهام والنداء وَجَمِيع مَا لم يكن خَبرا وَقل: الْمَعْنى وَيجوز فِيهِ أَن تقدر قبل لعَلي فعلا وتحذفه لطول الْكَلَام فَيكون الصِّلَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ أَقُول فِيهَا وَهُوَ خبر لَا إِشْكَال فِيهِ. وَحسن الْحَذف لطول الْكَلَام. اه.
وَأوردهُ ابْن هِشَام فِي الْجُمْلَة المعترضة من الْبَاب الثَّانِي من الْمُغنِي على أَن جملَة: وَإِن شطت نَوَاهَا مُعْتَرضَة بَين لعَلي وَبَين أزورها. وصلَة الَّتِي قَول مَحْذُوف كَمَا ذكرنَا.
وَذكره الْخفاف فِي شرح جمل الزجاجي على أَن أزورها صلَة الَّتِي وَفصل بَينهمَا بلعل وَإِن شطت على وَجه الِاعْتِرَاض وَيكون خبر لَعَلَّ
محذوفاً تَقْدِيره: لعَلي أبلغ ذَلِك. والفصل بَين الصِّلَة والموصول بجمل الِاعْتِرَاض جَائِز.
قَالَ الشَّاعِر: الْكَامِل ذَاك الَّذِي وَأَبِيك يعرف مَالِكًا ففصل بالقسم بَين الصِّلَة والموصول.
وَتَبعهُ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي فَقَالَ: ويحتم أَن هَذَا الْبَيْت من قبيل الِاعْتِرَاض بَين الْمَوْصُول وصلته على أَن تَقْدِير الصِّلَة أزورها وَيقدر خبر لعَلي محذوفاً أَي: لعَلي أفعل ذَلِك.
وَهَذَا التَّخْرِيج مَأْخُوذ من كَلَام أبي عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر وَمَا ارتضى ظَاهره بل وَجهه فَقَالَ: فَإِن قلت: أَرَادَ بأزورها التَّقْدِيم كَأَنَّهُ قَالَ: الَّتِي أزورها قُلْنَا إِن ذَلِك لَا يَسْتَقِيم لِأَنَّهُ وَاقع وَالْوَجْه فِيهِ أَنه لما جرى أزورها خَبرا ل لَعَلَّ سد أزورها مسد الصِّلَة الَّتِي يجب أَن تكون خَبرا فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الَّتِي أزورها فأغنى ذكر أزورها خَبرا ل لَعَلَّ عَن ذكره لَهَا قبل لَعَلَّ وَالْمعْنَى على التَّقْدِيم.
وأشبه هَذَا قَوْلهم: لَو أَن زيدا جَاءَنِي فِي أَن الْفِعْل الْجَارِي فِي الصِّلَة سد مسد الْفِعْل الَّذِي يَقع قبل أَن بعد لَو وَلَوْلَا هَذَا الْفِعْل لم يجز.
أَلا ترى أَنه لَا يجوز لَو مجيئك. فَكَذَلِك سد ذكره بعد لعَلي مسد ذكره قبل لعَلي. فَهَذَا وَجهه.
وَلَا يَنْبَغِي أَن يُقَاس على هَذَا وَلَا يُؤْخَذ بِهِ وَكَأن الَّذِي حسن هَذَا طول الْكَلَام وَذكر الْخَبَر فِي الصِّلَة. وَقد رَأَيْت طول الصِّلَة يجوز فِيهِ مَا لَا يجوز إِذا لم تطل. اه.)
وَلم يكْتب الدماميني وَلَا شَارِح شَوَاهِد الْمُغنِي على هَذَا الْبَيْت شَيْئا.
هَذَا. وَآخر الْبَيْت مغير عَن أَصله وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة: لعلّي وَإِن شقّت عليّ أنالها وَالْبَيْت من قصيدة لامية كَمَا يَأْتِي بَعْضهَا. وَحِينَئِذٍ يَأْتِي فِي أنالها مَا قيل فِي أزورها بل يتحتم إِضْمَار القَوْل.
(وقاتلةٍ لي لم يُصِبْنِي سهامها
…
رمتني على سوداءٍ قلبِي نبالها)
(وإنّي لرامٍ رميةً قبل الَّتِي
…
لعلّي وَإِن شقّت عليّ أنالها)
(أَلا لَيْت حظّي من عليّة أنّني
…
إِذا نمت لَا يسري إليّ خيالها)
(فَلَا يلبث اللّيل الموكّل دونهَا
…
عَلَيْهِ بتكرار اللّيالي زَوَالهَا)
وَبعد هَذَا شرع فِي مدحه.
وَقَوله: وقاتلة لي الخ هُوَ من الْقَتْل يَقُول: رب امْرَأَة قتلتني مَعَ أَنَّهَا لم تصبني بسهامها الْحَقِيقِيَّة لَكِنَّهَا رمت سويداء قلبِي بِنِبَالٍ عيونها فقتلتني.
وَقَوله: رمتني جَوَاب رب.
وَقَوله: وَإِنِّي لرام الخ يُقَال: رمى نظره نَحْو كَذَا أَي: توجه نَحوه وَرمى نَحوه رميةً إِذا قَصده قصدا.
وَمِنْه الحَدِيث: لَيْسَ وَرَاء الله مرمىً أَي: مقصد ترامى إِلَيْهِ الآمال وَيُوجه نَحوه الرَّجَاء.
وشطت من بَابي ضرب وَقتل. يُقَال: شطت الدَّار أَي: بَعدت. ونواها: فَاعل شطت.
والنوى مُؤَنّثَة لَا غير وَهِي الْوَجْه الَّذِي ينويه الْمُسَافِر
من قرب أَو بعد. وَيجوز أَن يكون فَاعل شطت ضمير الَّتِي ونواها مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي. هَذَا على الرِّوَايَة الأولى.
وَأما شقَّتْ على الرِّوَايَة الثَّانِيَة ففاعله ضمير رمية من شقّ الْأَمر عَلَيْهِ إِذا اشْتَدَّ وَثقل عَلَيْهِ.
وَمِنْه حَدِيث: لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة. وأنالها: مضارع نَالَ خيرا نيلاً أَي: أَصَابَهُ.
وَقَوله: فَلَا يلبث اللَّيْل الخ قَالَ شَارِح ديوانه: يَقُول زَالَت فَذَهَبت فزوالها يهدي إِلَيّ خيالها كل لَيْلَة وزوالها لَا يحبس اللَّيْل عني فَلَا يلبث زَوَالهَا أَن يُعِيد خيالها.
وَقَالَ الحرمازي: يَقُول: لَيْت حظي مِنْهَا أَن لَا يلبث اللَّيْل الْمُوكل على زَوَالهَا بالتكرار أَي: بكر)
زَوَالهَا عَليّ اللَّيْل يَجْعَل اللَّيْلَة ليَالِي.
وَهُوَ مثل قَوْله: الوافر
(كأنّ اللّيل يحْبسهُ علينا
…
ضرارٌ أَو يكرّ إِلَى نذور)
أَي: كَأَنَّهُ يغور كلما كَاد يفنى. اه.
وترجمة الفرزدق تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّلَاثِينَ.
وَأنْشد بعده: الرجز جاؤوا بمذقٍ هَل رَأَيْت الذّئب قطّ على أَن الْجُمْلَة الاستفهامية وَقعت صفة ل مذق بِتَقْدِير: تَقول عِنْد رُؤْيَته: هَل رَأَيْت الخ.
(مَا زلت أسعى مَعَهم وأختبط
…
حتّى إِذا جنّ الظّلام وَاخْتَلَطَ)
جاؤوا بمذق الخ. يُقَال: خبطت فلَانا وأختبطته أَي: سَأَلته بِغَيْر وسيلةٍ مَا شكا قوما وَقَالَ: لم أزل طول النَّهَار أسعى مَعَهم وأسألهم شَيْئا حَتَّى إِذا أظلم اللَّيْل وَاخْتَلَطَ الظلام جاؤوني بِلَبن مخلوط بِمَاء كثير يضْرب لَونه لِكَثْرَة مَائه إِلَى لون الذِّئْب فَكل من رَآهُ يستفهم عَن رُؤْيَته الذِّئْب لِأَنَّهُ بلونه يحمل رائيه على السُّؤَال عَن الذِّئْب.
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن الذِّئْب مَوْصُوف بِالْوَرَقَةِ وَاللَّبن إِذا كثر مَاؤُهُ يصير أَوْرَق. والورقة بِالضَّمِّ: لون أَبيض يخالطه سَواد.
وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مفصلا فِي الشَّاهِد السَّادِس وَالتسْعين.
وَأنْشد بعده: الحافظو عَورَة الْعَشِيرَة هُوَ بعض بَيت أَصله:
(الحافظو عَورَة الْعَشِيرَة لَا
…
يَأْتِيهم من ورائهم وكف)
على أَنه حذف بعض الصِّلَة تَخْفِيفًا وَهُوَ النُّون وَالْأَصْل الحافظون عَورَة الْعَشِيرَة. ف أل مَوْصُول اسْمِي بِمَعْنى الَّذين وَالْوَصْف الْمَجْمُوع صلته وَقد حذف بَعْضهَا وَهُوَ النُّون.
وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ مفصلا فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ من بَاب الْإِضَافَة.
والعورة: الْمَكَان الَّذِي يخَاف مِنْهُ الْعَدو وَقَالَ ثَعْلَب: كل مخوف عَورَة. وَقَالَ كرَاع: عَورَة الرجل فِي الْحَرْب: ظَهره وَالْعشيرَة: الْقَبِيلَة.)
والوكف بِفَتْح الْوَاو وَالْكَاف ويروى بدله نطف بِفَتْح النُّون والطاء الْمُهْملَة وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْعَيْب أَي: يحفظون الْعَشِيرَة أَن يصيبهم مَا يعابون بِهِ وَلَا يضيعون مَا استحفظوا فَيلْحق الْعَشِيرَة عيب بذلك.
وَأنْشد بعده الشَّاهِد السَّادِس عشر بعد الأربعمائة الطَّوِيل
(بسودٍ نَوَاصِيهَا وحمرٍ أكفّها
…
وصفرٍ تراقيها وبيضٍ خدودها)
على أَن رُجُوع الضَّمِير من نَوَاصِيهَا على الْمَوْصُوف بسود الْمُقدر خَاص بِالضَّرُورَةِ وَالْقِيَاس: بنساء سود نَوَاصِيهَا.
وَهَذَا على رِوَايَة الْبَيْت كَذَا وَأما على مَا سَيَأْتِي فمرجع الضَّمِير وصف مَذْكُور فِي بَيت قبله.
…
(لقد كنت جلدا قبل أَن توقد النّوى
…
على كَبِدِي نَارا بطيئاً خمودها)
(وَقد كنت أَرْجُو أَن تَمُوت صبابتي
…
إِذا قدمت أيّامها وعهودها)
(فقد جعلت فِي حبّة الْقلب والحشا
…
عهاد الْهوى تولى بشوقٍ يُعِيدهَا)
بسودٍ نَوَاصِيهَا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
. . الْبَيْت
(مخصّرة الأوساط زانت عقودها
…
بِأَحْسَن ممّا زيّنتها عقودها)
(يمنّيننا حتّى ترفّ قُلُوبنَا
…
رفيف الخزامى بَات طلٌّ يجودها)
قَالَ أَمِين الدَّين الطبرسي فِي شرح الحماسة تبعا للخطيب التبريزي: يَقُول: كنت حمولاً لحوادث الزَّمَان صبوراً عَلَيْهَا حَتَّى منيت بِفِرَاق الْأَحِبَّة وَكنت أَرْجُو أَن تسكن صبابتي وتنصرم إِذا مَال عَلَيْهَا الدَّهْر وتقادمت أَيَّامهَا أَي: أَيَّام الصبابة.
والعهود: جمع عهد وَهُوَ اللِّقَاء هَا هُنَا والعهاد: جمع عهد وَهُوَ الْمَطَر فِي أول السّنة. وَرُوِيَ بِالنّصب وَالرَّفْع فالنصب على أَنه مفعول أول لجعلت وَتَوَلَّى بشوق فِي مَوضِع الْمَفْعُول الثَّانِي وَيُعِيدهَا صفة شوق.
وَمعنى تولى: تمطر الْوَلِيّ وَالْوَلِيّ: المطرة الثَّانِيَة بعد الوسمي أَي: صيرت فِي حَبَّة الْقلب وأحشائه أمطار الْهوى تتجدد وتتبع بولِي من الشوق يردهَا كَمَا كَانَت.)
وَالضَّمِير فِي يُعِيدهَا يرجع إِلَى عهاد. يُرِيد أَن الشوق لَا يَنْقَضِي. وَالرَّفْع على أَن يكون جعلت بِمَعْنى طفقت وَأَقْبَلت فَيكون غير مُتَعَدٍّ
ويرتفع عهاد الْهوى بِهِ.
ويروى: يولي بِالْيَاءِ. وبعيدها بِالْبَاء فَاعل يولي أَي: فقد طفقت أَوَائِل هَواهَا يمطر أبعدها بشوق يجددها.
وَالْبَاء فِي قَوْله: بسود يجوز أَن يتَعَلَّق بقوله: تَمُوت صبابتي وَيجوز أَن يتَعَلَّق بجعلت إِذا ارْتَفَعت عهاد الْهوى بِهِ. يُرِيد جعلت العهاد تفعل ذَلِك بِسَبَب نسَاء بِهَذِهِ الصِّفَات.
مخصرة الأوساط أَي: دقيقة الخصور وقلائدهن تكتسب من التزين بِهن إِذا علقت عَلَيْهِنَّ أَكثر مِمَّا يكتسبن مِنْهَا إِذا تحلين بهَا اه.
وَالْأَقْرَب أَن تتَعَلَّق الْبَاء فِي بسود بقوله: يُعِيدهَا وَهُوَ الْأَنْسَب من جِهَة الْمَعْنى.
وَقَالَ الْخَطِيب التبريزي: وَإِنَّمَا جَازَ أَن يجمع حمر وسود وَغَيرهمَا وَإِن ارْتَفع مَا بعْدهَا بهَا لِأَن هَذِه الجموع لَهَا نَظَائِر فِي الْأَسْمَاء المفردة وَلَو كَانَت مَا لَا نَظِير لَهُ فِي الْوَاحِد لما جَازَ جمعه تَقول: مَرَرْت بِرِجَال ظراف آباؤهم وَلَو قلت: بِرِجَال ظريفين آباؤهم لم يجز.
وَقَوله: يمنيننا يصف حسن مواعيدهن وتقريبهن أَمر الْوِصَال. حَتَّى ترف قُلُوبنَا أَي: تهتز نشاطاً وترتاح وتفرح. والخزامى بِضَم أَوله وَالْقصر: خيري الْبر. ورفيفها: اهتزازها.
والطل: أثر الندى فِي الأَرْض من الْمَطَر. وَإِنَّمَا جعل الطل يجود جوداً لِأَنَّهُ يفعل فِي ري الخزامى ونعمتها مَا يفعل الْجُود فِي نَبَات الأَرْض. يُقَال: رف يرف إِذا اهتز نعْمَة ونضارة.
وَقد أورد هَذِه الأبيات بِأَكْثَرَ من هَذَا مَعَ بعض تَغْيِير السَّيِّد المرتضى فِي أَمَالِيهِ قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله المرزباني قَالَ: أنشدنا عَليّ بن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن يحيى ثَعْلَب للحسين بن مطير: الطَّوِيل
(لقد كنت جلدا قبل أَن يُوقد الْهوى
…
على كَبِدِي نَارا بطيئاً خمودها)
(وَلَو تركت نَار الْهوى لتضرّمت
…
ولكنّ شوقاً كلّ يومٍ يزيدها)
(وَقد كنت أَرْجُو أَن تَمُوت صبابتي
…
إِذا قدمت أيّامها وعهودها)
(فقد جعلت فِي حبّة الْقلب والحشا
…
عهاد الْهوى تلوي بشوقٍ يُعِيدهَا)
(بمرتجّة الأرداف هيفٍ خصورها
…
عذابٍ ثناياها عجافٍ قيودها)
(وصفرٍ تراقيها وحمرٍ أكفّها
…
وسودٍ نَوَاصِيهَا وبيضٍ خدودها))
(يمنّيننا حتّى ترفّ قُلُوبنَا
…
رفيف الخزامى بَات طلٌّ يجودها)
اه.
وَكَذَا روى هَذِه الأبيات القالي فِي أَمَالِيهِ عَن ابْن دُرَيْد وَعَن ابْن الْأَعرَابِي.
وَكتب الشريف المرتضى على قَوْله بمرتجة الأرداف
…
. الْبَيْت يَعْنِي أَنَّهَا عجاف اللثات.
وأصول الْأَسْنَان هِيَ قيودها.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب: خفض عجاف لحن لِأَنَّهُ لَيْسَ من صفة النِّسَاء وسبيله أَن يكون نصبا لِأَنَّهُ حَال من الثنايا. اه.
أَقُول: إِنَّمَا قَالَ ثَعْلَب ذَلِك لِأَن الضَّمِير فِي قيودها للثنايا وَهَذَا عجب مِنْهُ فَإِن بَاب جَرَيَان الصّفة على غير من هِيَ لَهُ وَاسع.
وَالْبَاء فِي قَوْله: بمرتجة مُتَعَلقَة بقوله: يُعِيدهَا وَيجوز أَن تتَعَلَّق بجعلت أَو بتموت. ومرتجة الأرداف هُوَ مرجع الضمائر الْآتِيَة بعده فَلَا يرد مَا أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي الْبَيْت الشَّاهِد.
وَقَوله: مخصرة الأوساط بِالْجَرِّ وَيجوز النصب وَالرَّفْع على الْمَدْح.
وَكَذَلِكَ قَوْله: وصفر تراقيها وَالْبَيْت مَأْخُوذ من قَول مَالك بن أَسمَاء بن خَارِجَة: الْخَفِيف
(وتزيدين أطيب الطّيب طيبا
…
أَن تمسّيه أَيْن مثلك أَيّنَا)
(وَإِذا الدّرّ زَان حسن وجوهٍ
…
كَانَ للدّرّ حسن وَجهك زينا)
وَقَوله: وصفر تراقيها بِالتَّنْوِينِ فِي الْمَوَاضِع الْأَرْبَعَة وتراقيها: فَاعل صفر وَكَذَلِكَ أكفها ونواصيها.
والتراقي: جمع ترقوة وَهِي أعالي الصَّدْر. وصفهَا بالصفرة من الطّيب كالزعفران وَأَرَادَ بحمرة أكفها الخضاب.
وَهَذَا الْبَيْت أوردهُ ابْن رَشِيق فِي الْعُمْدَة فِي بَاب الْمُطَابقَة قَالَ: أنْشد غير وَاحِد من الْعلمَاء: بسود نَوَاصِيهَا الْبَيْت.
وَرَوَاهُ ابْن الْأَعرَابِي فِي نسق أَبْيَات: وصفر تراقيها وحمر أكفها
…
إِلَخ. وَهَذِه الرِّوَايَة أشكل فِي الصَّنْعَة.
وروى أَبُو تَمام فِي الحماسة للحسين بن مطير أَيْضا. وَيُشبه أَن يكون الْجَمِيع من قصيدة وَاحِدَة:
(وَكنت أذود الْعين أَن ترد البكا
…
فقد وَردت مَا كنت عَنهُ أذودها))
(خليليّ مَا بالعيش عيبٌ لَو انّنا
…
وجدنَا لأيّام الصّبا من يُعِيدهَا)
وروى أَبُو تَمام أَيْضا لغيره وَبَعض الروَاة يَرْوِيهَا لِابْنِ مطير أَيْضا:
(ولي نظرةٌ بعد الصّدود من الجوى
…
كنظرة ثَكْلَى قد أُصِيب وليدها)
(هَل الله عافٍ عَن ذنوبٍ تسلّفت
…
أم الله إِن لم يعف عَنْهَا معيدها)
وحسين بن مطير هُوَ كَمَا قَالَ فِي الأغاني حُسَيْن بن مطير بن مكمل مولى لبني أَسد بن خُزَيْمَة ثمَّ لبني سعد بن مَالك بن ثَعْلَبَة بن دودان بن
أَسد. وَكَانَ جده مكمل عبدا فَأعْتقهُ مَوْلَاهُ وحسين من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. شَاعِر مُتَقَدم فِي القصيد وَالرجز فصيح قد مدح بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس وَكَانَ زيه وَكَلَامه يشبه مَذَاهِب الْأَعْرَاب وَأهل الْبَادِيَة ووفد على معن بن زَائِدَة لما ولي الْيمن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أنْشدهُ:
الطَّوِيل
(أَتَيْتُك إِذْ لم يبْق غَيْرك جابرٌ
…
وَلَا واهبٌ يُعْطي اللهى والرّغائبا)
فَقَالَ لَهُ معن: يَا أَخا بني أَسد لَيْسَ هَذَا بمدح إِنَّمَا الْمَدْح قَول نَهَار بن توسعة فِي مسمع بن مَالك بن مسمع: الْخَفِيف
(قلّدته عرى الْأُمُور نزارٌ
…
قبل أَن يهْلك السّراة البحور)
قَالَ: وَأول هَذَا الشّعْر: الْخَفِيف
(اظعني من هراة قد مرّ فِيهَا
…
حججٌ مذ سكنتها وشهور)
(اظعني نَحْو مسمعٍ تجديه
…
نعم ذَا المنثني وَنعم المزور)
(سَوف يَكْفِيك إِن نبت بك أرضٌ
…
بخراسان إِذْ جفاك أَمِير)
(من بني الْحصن عَامل بن بريحٍ
…
لَا قَلِيل النّدى وَلَا منزور)
(وَالَّذِي يفزع الكماة إِلَيْهِ
…
حِين تدمى من الطّعان النّحور)
(فَاصْطَنع يَا ابْن مالكٍ آل بكرٍ
…
واجبر الْعظم إنّه مكسور)
(سلّ سيوفاً مُحدثا صقالها
…
صاب على أعدائه وبالها)
وَعند معن ذِي النّدى أَمْثَالهَا فاستحسنها وأجزل صلته.
قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: كنت يَوْمًا مُحْتَاجا إِلَى دِرْهَم وَعلي عشرَة آلَاف دِرْهَم إِذْ جَاءَنِي رَسُول الْمهْدي فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فتخوفته لِأَنِّي كنت خرجت عَلَيْهِ مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن)
الْحسن فتطهرت ولبست ثَوْبَيْنِ نظيفين وصرت إِلَيْهِ.
فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ سلمت فَرد عَليّ وَأَمرَنِي بِالْجُلُوسِ فَلَمَّا سكن جأشي قَالَ لي: يَا مفضل أَي بَيت قالته الْعَرَب أَفْخَر فشككت سَاعَة ثمَّ قلت: بَيت الخنساء.
وَكَانَ مُسْتَلْقِيا فَاسْتَوَى جَالِسا ثمَّ قَالَ: وَأي بَيت هُوَ قلت: قَوْلهَا: الْبَسِيط
(وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة بِهِ
…
كأنّه علمٌ فِي رَأسه نَار)
فَأَوْمأ إِلَى إِسْحَاق بن بزيع ثمَّ قَالَ: قد قلت لَهُ ذَلِك فَأبى.
فَقلت: الصَّوَاب مَا قَالَه أَمِير الْمُؤمنِينَ. ثمَّ قَالَ: يَا مفضل أسهرني البارحة قَول ابْن مطير الْأَسدي: الطَّوِيل
(وَقد تغدر الدّنيا فيضحي فقيرها
…
غنيّاً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها)
ثمَّ قَالَ: ألهذين الْبَيْتَيْنِ ثَالِث قلت: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ.
(وَكم قد رَأينَا من تغيّر عيشةٍ
…
وَأُخْرَى صفا بعد اكدرار غديرها)
وَكَانَ الْمهْدي رَقِيقا فاستعبر ثمَّ قَالَ: يَا مفضل كَيفَ حالك قلت: كَيفَ يكون حَال من هُوَ مَأْخُوذ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم فَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَقَالَ: اقْضِ دينك واصلح شَأْنك فقبضتها وانصرفت.
وَدخل ابْن مطير يَوْمًا على الْمهْدي فأنشده: الْبَسِيط
(لَو يعبد النّاس يَا مهديّ أفضلهم
…
مَا كَانَ فِي النّاس إلاّ أَنْت معبود)
(أضحت يَمِينك من جودٍ مصوّرةً
…
لَا بل يَمِينك مِنْهَا صوّر الْجُود)
(من حسن وَجهك تبدو الأَرْض مشرقةً
…
وَمن بنانك يجْرِي المَاء فِي الْعود)
(لَو أنّ من نوره مِثْقَال خردلةٍ
…
فِي السّود طرّاً إِذا لابيضّت السّود)
فَأمر لَهُ لكل بَيت بِأَلف دِرْهَم.
وَالْبَيْت الثَّالِث رَأَيْته مجروراً كَمَا هُوَ.
وَمن قصيدة لَهُ فِي مدح الْمهْدي: الطَّوِيل
(إِذا شَاهد القوّاد سَار أمامهم
…
جريءٌ على مَا يتّقون وثوب)
…
(يعفّ ويستحيي إِذا كَانَ خَالِيا
…
كَمَا عفّ واستحيا بِحَيْثُ رَقِيب)
وَمن شعره الْمَشْهُور فِي رثاء معن بن زَائِدَة: الطَّوِيل)
(ألمّا بمعنٍ ثمّ قولا لقبره
…
سقيت الغوادي مربعًا ثمّ مربعًا)
(أيا قبر معنٍ كنت أوّل حفرةٍ
…
من الأَرْض خطّت للمكارم مضجعا)
(أيا قبر معنٍ كَيفَ واريت جوده
…
وَقد كَانَ مِنْهُ البرّ وَالْبَحْر مترعا)
(بلَى قد وسعت الْجُود والجود ميتٌ
…
وَلَو كَانَ حيّاً ضقت حتّى تصدّعا)
(أَبى ذكر معنٍ أَن تَمُوت فعاله
…
وَإِن كَانَ قد لَاقَى حَماما ومصرعا)
هَذَا مَا انتخبته من الأغاني.
وروى السَّيِّد المرتضى فِي أَمَالِيهِ بِسَنَدِهِ عَن مُحَمَّد بن حميد قَالَ: كُنَّا عِنْد الْأَصْمَعِي فأنشده رجل أَبْيَات دعبل: الْكَامِل
(أَيْن الشّباب وأيّةً سلكا
…
لَا أَيْن يطْلب ضلّ بل هلكا)
…
(لَا تعجبي يَا سلم من رجلٍ
…
ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبكى)
(يَا سلم مَا بالشّيب منقصةٌ
…
لَا سوقة يبْقى وَلَا ملكا)
(قصر الغواية عَن هوى قمرٍ
…
وجد السّبيل إِلَيْهِ مُشْتَركا)
(لَا تأخذا بظلامتي أحدا
…
قلبِي وطرفي فِي دمي اشْتَركَا)
فاستحسنها كل من كَانَ حَاضرا فِي الْمجْلس وَأَكْثرُوا التَّعَجُّب من قَوْله: ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبكى قَالَ الْأَصْمَعِي: إِنَّمَا أَخذ هَذَا من قَول ابْن مطير الْأَسدي: الْخَفِيف
(أَيْن أهل القباب بالدّهناء
…
أَيْن جيراننا على الأحساء)
(جاورونا وَالْأَرْض ملبسةٌ نو
…
ر الأقاحي تجاد بالأنواء)
(كلّ يومٍ بأقحوانٍ جديدٍ
…
تضحك الأَرْض من بكاء السّماء)
(ذهبٌ حَيْثُ مَا ذَهَبْنَا ودرٌّ
…
حَيْثُ درنا وفضّةٌ فِي الفضاء)
وَقد أَخذه مُسلم فِي قَوْله:
(مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ
…
وَرَأسه يضْحك مِنْهُ المشيب)
قَالَ السَّيِّد المرتضى قدس الله روحه: وَلأبي الحجناء نصيب الْأَصْغَر مثل هَذَا الْمَعْنى: الْكَامِل
(فَبكى الْغَمَام بِهِ فَأصْبح روضه
…
جذلان يضْحك بالجميم ويزهر)
وَلابْن المعتز مثله: الطَّوِيل)
(ألحّت عَلَيْهِ كلّ طخياء ديمةٍ
…
إِذا مَا بَكت أجفانها ضحك الزذهر)
(تبسّم المزن وانهلّت مدامعه
…
فأضحك الرّوض جفن الضّاحك الباكي)
(وغازل الشّمس نورٌ ظلّ يلحظها
…
بِعَين مستعبرٍ بالدّمع ضحّاك)
وَرُوِيَ عَن أبي الْعَبَّاس الْمبرد أَنه قَالَ: أَخذ ابْن مطير قَوْله: تضحك الأَرْض من بكاء السذماء من قَول دُكَيْن الراجز: الرجز
(جنّ النّبات فِي ذراها وزكا
…
وَضحك المزن بِهِ حتّى بَكَى)
انْتهى مَا أوردهُ السَّيِّد فِي أَمَالِيهِ.
وَهَذَا الْخَبَر الْمسند إِلَى الْأَصْمَعِي رَوَاهُ صَاحب الأغاني بِسَنَدِهِ إِلَى أبي الْمثنى أَحْمد بن يَعْقُوب ابْن أُخْت أبي بكر الْأَصَم وَإِنَّمَا اخترنا رِوَايَة السَّيِّد لِأَنَّهَا اشْتَمَلت على فَوَائِد.
وَلم يحك صَاحب الأغاني فِي رِوَايَته إِلَّا قَوْله: لَا تعجبي يَا سلم من رجل
…
...
…
...
…
. . الْبَيْت
مَعَ أَبْيَات ابْن مطير.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد السَّابِع عشر بعد الأربعمائة
(وَقد يخرج اليربوع من نافقائه
…
وَمن جُحْره بالشّيحة اليتقصّع)
(يَقُول الخنى وَأبْغض الْعَجم ناطقاً
…
إِلَى ربّنا صَوت الْحمار اليجدّع)
على أَن أل الموصولة قد وصلت بالمضارع فِي ضَرُورَة الشّعْر كَمَا فِي اليتقصع واليجدع ببنائهما للْمَفْعُول.
وهما من مَقْطُوعَة هِيَ سَبْعَة أَبْيَات لذِي الْخرق الطهوي قد شرحناها فِي أول شَاهد من شَوَاهِد الشَّرْح.
وَالْبَيْت الثَّانِي هُوَ ثَانِي الأبيات وَالْأول هُوَ خَامِسهَا. وَكَأَنَّهُ نقل الْبَيْتَيْنِ
من سر الصِّنَاعَة لِابْنِ جني فَإِنَّهُمَا كَذَا وَقعا فِيهِ وَالصَّوَاب أَيْضا فيستخرج اليربوع بِالْفَاءِ كَمَا مر.
وَقد ذكر الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا أَن حق الْإِعْرَاب فِي نَحْو الضَّارِب والمضروب إِنَّمَا هُوَ ل أل الموصولة لَكِن لما كَانَت فِي صُورَة الْحَرْف نقل إعرابها إِلَى صلتها عَارِية كَمَا فِي إِلَّا بِمَعْنى غير.
وحقق أَن أَصلهمَا الضَّرْب وَالضَّرْب فكرهوا إِدْخَال اللَّام الاسمية المشابهة للحرفية لفظا وَمعنى على صُورَة الْفِعْل.
فَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن إعرابها ينْقل أَيْضا إِلَى صلتها إِذا كَانَ فعلا لِأَن عِلّة
النَّقْل مَوْجُودَة بل وَلَو كَانَت الصِّلَة جملَة اسمية. وَعَلِيهِ فجملة: يجدع ويتقصع فِي مَحل جر على الوصفية للحمار.
فَإِن قلت: أل مَبْنِيَّة وَالْبناء يُقَابل الْإِعْرَاب فَأَي إِعْرَاب نقل مِنْهَا إِلَى مَا بعْدهَا قلت: أَرَادَ أَنَّهَا فِي مَحل لَو كَانَ بدلهَا مُعرب لظهر إعرابه فإعرابها محلي.
وَقد صرح ابْن هِشَام فِي تَذكرته أَن الْجُمْلَة الْوَاقِعَة صلَة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب تطرد فِيمَا عدا نَحْو قَوْله: إنّي لَك الينذر من نيرانها فاصطل وَقَوله: من الْقَوْم الرّسول الله مِنْهُم لِأَنَّهَا فِي هَذِه حَالَة مَحل الْمُفْرد المعرب من قَوْلك: الضَّارِب والمضروب.
وَبحث مثله الدماميني فِي شرح التسهيل فَقَالَ: أطْلقُوا القَوْل بِأَن جملَة الصِّلَة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب وَيَنْبَغِي أَن يسْتَثْنى من ذَلِك الْجُمْلَة الَّتِي تقع صلَة ل أل لِأَنَّهَا وَاقعَة موقع الْمُفْرد.)
وَتعقبه الشمني بِأَنا لَا نسلم أَن كل جملَة وَاقعَة موقع الْمُفْرد لَهَا مَحل من
الْإِعْرَاب وَإِنَّمَا ذَلِك للواقعة موقع الْمُفْرد بِالْأَصَالَةِ وَالْوَاقِع بعد أل لَيْسَ مُفردا بطرِيق الْأَصَالَة لأَنهم قَالُوا: إِن صلَة أل فعل فِي صُورَة الِاسْم وَلِهَذَا يعْمل
بِمَعْنى الْمَاضِي وَلَو سلم فَإِنَّمَا ذَلِك للواقعة موقع الْمُفْرد الَّذِي لَهُ مَحل والمفرد الَّذِي هُوَ صلَة أل لَا مَحل لَهُ وَالْإِعْرَاب الَّذِي فِيهِ بطرِيق الْعَارِية من أل فَإِنَّهَا لما وعَلى هَذَا الْكَلَام أَيْضا يرد أَن عِلّة النَّقْل مَوْجُودَة.
وَقد خطر لي بِتَوْفِيق الله تَعَالَى مَا أَرْجُو أَن يكون سديداً وَهُوَ أَن أل لما كَانَت مَبْنِيَّة وَكَانَ الْوَصْف بعْدهَا من جِنْسهَا وَهُوَ الاسمية وَكَانَ صَالحا لظُهُور الْإِعْرَاب فِيهِ حَيْثُ كَانَ غير مَشْغُول بإعراب عَامل من حَيْثُ كَونه صلَة وَكَانَ الْغَرَض ظُهُور إعرابها الْمحلي نقل إعرابها إِلَى الْوَصْف على سَبِيل الْعَارِية.
وَفِي اليجدع لما كَانَ الْفِعْل مُخَالفا لَهَا فِي جِنْسهَا وَكَانَ مَشْغُولًا بإعراب عَامله وَهُوَ التجرد كَانَ غير صَالح لظُهُور إِعْرَاب آخر فِيهِ.
وَلَو نقل إعرابها إِلَى الْجُمْلَة لما كَانَ يظْهر لَفظهَا لكَونه غير صَالح لَهُ.
وَلَو نقلوه إِلَى محلهَا لنافى الْغَرَض وَكَانَ نقل إِعْرَاب مِمَّا لَا يظْهر فِيهِ إِلَى مَا لَا يظْهر فِيهِ وَهَذَا لَا وَجه لَهُ.
فَظهر الْفرق بَين نقل إعرابها إِلَى الْوَصْف دون الْمُضَارع وَالْجُمْلَة. وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الثَّامِن عشر بعد الأربعمائة
(لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله
…
وأقعد فِي أفيائه بالأصائل)
على أَن الْكُوفِيّين جوزوا أَن يكون الِاسْم الجامد الْمُعَرّف بِاللَّامِ مَوْصُولا كَمَا قَالُوا فِي هَذَا: إِن التَّقْدِير لأَنْت الَّذِي أكْرم أَهله لكنه مَوْصُول غير مُبْهَم كَسَائِر الْأَسْمَاء الموصولة. وَعند الْبَصرِيين اللَّام غير مَقْصُود قَصده والمضارع صفة لَهُ. وَفِيه أُمُور: الأول: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله فَإِن صَنِيعه يُوهم أَن الْبَيْت عِنْد الْكُوفِيّين بِمَعْنى الَّذِي وَهُوَ بَاطِل لم يقل بِهِ أحد وَإِنَّمَا الْمَوْصُول مَفْهُوم من اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ إِذا وَقع بعده فعل أَو ظرف أَو مجرور.
الثَّانِي: قَوْله لكنه مَوْصُول غير مُبْهَم لم يَنْقُلهُ أحد عَنْهُم وَلَو كَانَ قَوْلهم لما رد بِهِ البصريون عَلَيْهِم كَمَا يَأْتِي.
الثَّالِث: كَون الْجَواب عِنْد الْبَصرِيين بِجعْل اللَّام للْجِنْس وَالْجُمْلَة المضارعية صفة للبيت غير منحصر فِيهِ عِنْدهم كَمَا يَأْتِي أَيْضا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف: ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَن الِاسْم الْمُعَرّف بِاللَّامِ يُوصل كَالَّذي وَاسْتَدَلُّوا بقوله: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله ورد البصريون عَلَيْهِم بِأَنَّهُ لَا يجوز ذَلِك لِأَن الِاسْم الظَّاهِر يدل على معنى مَخْصُوص فِي نَفسه وَلَيْسَ كَالَّذي لِأَنَّهُ لَا يدل على معنى مَخْصُوص إِلَّا بصلَة توضحه لِأَنَّهُ مُبْهَم وَإِذا لم يكن فِي مَعْنَاهُ فَلَا يجوز أَن يُقَام مقَامه.
وَأما الْبَيْت الْمَذْكُور فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْبَيْت خبر الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ أَنْت وَأكْرم خَبرا آخر.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْبَيْت مُبْهما لَا يدل على مَعْهُود وأكر وَصفا لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ:
لأَنْت بَيت أكْرم أَهله كَمَا تَقول: إِنِّي لأمر بِالرجلِ غَيْرك وَمثلك وَخير مِنْك. انْتهى.
وَاقْتصر الْخفاف فِي شرح الْجمل على الخبرية فَقَالَ: لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون خَبرا ثَانِيًا لأَنْت وَيكون قَوْله: أَنْت الْبَيْت تَعْظِيمًا لَهُ أَي: الْبَيْت الْمُعظم بِمَنْزِلَة قَوْلك: أَنْت الرجل أَي: الرجل الْعَظِيم.)
وَقَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح سقط الزند: أكْرم أَهله عِنْد الْكُوفِيّين صلَة للبيت وَعند الْبَصرِيين جملَة فِي مَوضِع الْحَال أَو فِي مَوضِع خبر مُبْتَدأ مُضْمر كَأَنَّهُ قَالَ: أَنا أكْرم أَهله وَلَو ظهر النصب فِي هَذِه الْحَال لَقلت: مكرماً أَهله أَنا لِأَنَّهَا تصير حَالا جرت على غير من هِيَ لَهُ فَيلْزم ظُهُور الْفَاعِل الْمُضمر وَالْعَامِل فِي هَذِه الْحَال مَا فِي قَوْله: لأَنْت الْبَيْت من معنى التَّعْظِيم كَمَا أَن الْعَامِل يَا جارتا مَا أَنْت جَاره مَا فِي قَوْله: مَا أَنْت من معنى التَّعْظِيم. انْتهى.
وَأَجَازَ ابْن الْأَنْبَارِي أَن يكون أكْرم أَهله صلَة لموصول مَحْذُوف لَا للبيت كَأَنَّهُ قَالَ: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله لَكِن الْمَوْصُول حذف ضَرُورَة.
وَهَذَا الْوَجْه جَار على مَذْهَب الْكُوفِيّين إِذْ يجيزون حذف الْموصل دون صلته فِي غير ضَرُورَة وَهَذَا يأباه البصريون.
قَالَ أَبُو عَليّ فِي إِيضَاح الشّعْر: لَا يجوز أَن تحذف الْمَوْصُول وَتَدَع الصِّلَة لِأَنَّهَا تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول. وَنَظِيره: أَجْمَعُونَ فِي التوكيد لَا يجوز أَن تذكره وتحذف الْمُؤَكّد.
فَإِن قلت: لم لَا يكون كالصفة والموصوف فِي جَوَاز حذف الْمَوْصُوف وَذكر الصّفة قيل: لم تكن الصِّلَة كالوصف إِذا كَانَ مُفردا أَلا ترى أَن الْوَصْف إِذا كَانَ مُفردا كَانَ كالموصوف فِي الْإِفْرَاد وَإِذا كَانَ مثله جَازَ وُقُوعه مواقع الْمَوْصُوف من حَيْثُ كَانَ مُفردا مثله مَعَ استقباح لذَلِك.
فَأَما الصِّلَة فَلَا تقع مواقع الْمُفْرد من حَيْثُ كَانَت جملا كَمَا لم يجز أَن تبدل الْجُمْلَة من الْمُفْرد من حَيْثُ كَانَ الْبَدَل فِي تَقْدِير تَكْرِير الْعَامِل وَالْعَامِل فِي الْمُفْرد لَا يعْمل فِي لفظ الْجُمْلَة.
فَأَما من تَأَول قَوْله: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله على تَقْدِير: لأَنْت الْبَيْت الَّذِي أكْرم أَهله وَحذف الْمَوْصُول فَلَيْسَ فِي الْبَيْت دلَالَة على هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَه وَذَلِكَ أَنه يجوز أَن يكون أكْرم أَهله جملَة مستأنفة معطوفة على الأولى وَلم يحْتَج إِلَى حرف الْعَطف لما فِي الثَّانِيَة من ذكر مَا فِي الأولى كَقَوْلِه تَعَالَى: أُولَئِكَ أصحابُ النَّار هُم فِيهَا خالدُون.
وَيجوز أَن يكون قَوْله: لأَنْت الْبَيْت على جِهَة التَّعْظِيم فَأجرى عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس لهَذَا كَمَا تَقول: أَنْت الرجل تُرِيدُ بِهِ الْكَمَال وَالْجَلد فَكَذَلِك يكون المُرَاد بِالْبَيْتِ.
أَلا ترى أَنهم قد يَقُولُونَ: لَهُ بَيت وَشرف: وَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يكون أكْرم أَهله فِي مَوضِع)
حَال مِمَّا فِي الْبَيْت من معنى الْفِعْل كَمَا أَن علما فِي قَوْلك: أَنْت الرجل علما وفهماً
ينْتَصب عَمَّا فِي الرجل من معنى الْكَمَال. وكما أَن جَارة فِي قَوْله: يَا جارتا مَا أَنْت جَاره ينْتَصب عَمَّا فِي مَا أَنْت من معنى التَّعْظِيم كَأَنَّهُ قَالَ: كملت فِي جال علمك وبذك غَيْرك.
فَإِن قلت: فَهَل يجوز أَن يكون الْبَيْت بَدَلا من أَنْت وَيكون أكْرم فِي مَوضِع خبر
الْمُبْتَدَأ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذا أبدل الْبَيْت من أَنْت: أَنْت أكْرم أَهله أَو الْبَيْت أكْرم أَهله قلت: إِن قِيَاس قَول سِيبَوَيْهٍ عِنْدِي أَنه لَا يجوز هَذَا.
أَلا ترى أَنه لم يجز فِي قَوْلهم: بِي الْمِسْكِين كَانَ الْأَمر بدل الْمِسْكِين من الْيَاء. وَإِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن الْبَدَل إِنَّمَا يذكر لضرب من التَّبْيِين فَإِذا لم يفد ذَلِك لم يستجز.
والمتكلم فِي غَايَة التَّخْصِيص والتبيين فَلم يحْتَج لذَلِك فِيهِ إِلَى بدل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمخاطب فِي هَذَا كالمتكلم. انْتهى كَلَام أبي عَليّ ولكثرة فَوَائده نَقَلْنَاهُ بجملته.
وَقَوله: لعمري اللَّام للابتداء وعمري: مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره قسمي. أقسم بعمره.
وَجُمْلَة: لأَنْت الْبَيْت الخ جَوَاب الْقسم. وَأكْرم فعل مضارع وَأَهله مفعول.
وَكتب بعض من عاصرناه فِي حَاشِيَته على شرح الْقطر للفاكهي: كَأَن الدَّاعِي للكوفيين على جعل الْبَيْت اسْما مَوْصُولا أَنه لَا يَصح الْإِخْبَار بِهِ عَن أَنْت على الظَّاهِر بجعله اسْما مُعَرفا بأل.
وَيُمكن أَن يُجَاب بِأَنَّهُ على حذف مُضَاف أَي: أَنْت صَاحب الْبَيْت وَنَحْوه.
وَقَوله: أكْرم فعل مضارع لِأَن الصِّلَة لَا تكون إِلَّا جملَة. فَمَا فِي بعض النّسخ من ضَبطه على صِيغَة أفعل التَّفْضِيل وإضافته إِلَى أَهله لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. هَذَا كَلَامه.
وَهُوَ من ضيق العطن وَعدم الِاطِّلَاع على الْمَعْنى فَإِن الْبَيْت مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته وَالْخطاب لَهُ فَإِن الشَّاعِر وَهُوَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ.
وَتَقَدَّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد أَن تغزل بِأَبْيَات خَاطب دَار حبيبته.
قَالَ الإِمَام المرزوقي فِي شرح أشعار الهذليين: قَوْله: لعمري لأَنْت الْبَيْت الخ هَذَا رُجُوع من أبي ذُؤَيْب إِلَى ذكر الْبَيْت لتعظيم شَأْن أَهله. وَأَشَارَ بقوله: وأقعد فِي أفيائه إِلَى مَا كَانَ يَنَالهُ مِنْهُم فيدوم لذَلِك ملازمته لَهُ وحبه وإكرامه لسكانه.
قَالَ: ويروى: وأجلس فِي أفيائه. وَلَا فضل بَين أقعد وأجلس فِي الْمَعْنى وَإِن كَانَ لكل مِنْهُمَا من)
التَّصَرُّف مَا يستبد بِهِ دون صَاحبه.
أَلا ترى أَنه لَا يُقَال مَعَ الْقيام إِلَّا الْقعُود وَأَنه يُقَال للزمن: هُوَ مقْعد وَبِه قعاد وَلَا يبْنى لَهُ من الْجُلُوس
مثل ذَلِك وَأَنه حُكيَ عَن أَعْرَابِي يصف رجلا: هُوَ كريم النّحاس جميل الْجلاس.
وَيُقَال: فلَان الجليس بِمَعْنى النديم وهم جلساء الْملك. وَلم يكثر لهَذَا الْمَعْنى مثل هَذَا الْبناء من الْقعُود وَإِن كَانَ الْخَلِيل قد حكى: قعيد الرجل: جليسه. ونظائر هَذَا فِي اللُّغَة كَثِيرَة.
وَالْبَيْت من قصيدة عدتهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بَيْتا فَلَا بَأْس أَن تشرح فَإِن فِيهَا شَوَاهِد وَهِي هَذِه: الطَّوِيل
(أساءلت رسما الدّار أم لم تسائل
…
عَن السّكن أم عَن عَهده بالأوائل)
(لمن طللٌ بالمنتضى غير حَائِل
…
عَفا بعد عهدٍ من قطارٍ ووابل)
(عَفا بعد عهد الحيّ مِنْهُم وَقد يرى
…
بِهِ دعس آثَار ومبرك جامل)
(وإنّ حَدِيثا مِنْك لَو تبذلينه
…
جنى النّحل فِي ألبان عوذٍ مطافل)
(مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها
…
يشاب بماءٍ مثل مَاء المفاصل)
…
(رَآهَا الْفُؤَاد فاستضلّ ضلاله
…
نيافاً من الْبيض الحسان العطابل)
(فَإِن وصلت حَبل الصّفاء فدم لَهَا
…
وَإِن صرمته فَانْصَرف عَن تجامل)
لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله
…
...
…
... الْبَيْت
(وَمَا ضربٌ بَيْضَاء يأوي مليكها
…
إِلَى طنفٍ أعيا براقٍ ونازل)
(تهال الْعقَاب أَن تمرّ بريده
…
وَتَرْمِي دروءٌ دونه بالأجادل)
(تنمّى بهَا اليعسوب حتّى أقرّها
…
إِلَى مألفٍ رحب المباءة عاسل)
(فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ قامةً
…
وَتِسْعين باعاً نالها بالأنامل)
(تدلّى عَلَيْهَا بالحبال موثّقاً
…
شَدِيد الوصاة نابلٌ وَابْن نابل)
(إِذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
…
وحالفها فِي بَيت نوبٍ عوامل)
…
(فحطّ عَلَيْهَا والضّلوع كَأَنَّهَا
…
من الْخَوْف أَمْثَال السّهام النّواصل)
(فشرّجها من نطفةٍ رجبيّةٍ
…
سلاسلةٍ من ماءٍ لصبٍ سلاسل)
(بماءٍ شنان زعزعت مَتنه الصّبا
…
وجادت عَلَيْهِ ديمةٌ بعد وابل)
(ويأشبني فِيهَا الألاء يلونها
…
وَلَو علمُوا لم يأشبوني بطائل))
(وَلم أنّ مَا عِنْد ابْن بجرة عِنْدهَا
…
من الْخمر لم تبلل لهاتي بناطل)
(فَتلك الَّتِي لَا يبرح الْقلب حبّها
…
وَلَا ذكرهَا مَا أرزمت أمّ حَائِل)
(وحتّى يؤوب القارظان كِلَاهُمَا
…
وينشر فِي الهلكي كليبٌ لِوَائِل)
قَوْله: أساءلت رسم الدَّار الخ المساءلة: مفاعلة تكون من اثْنَيْنِ وَهَذَا اتساع على عَادَتهم.
والسكن: جمع سَاكن مثل تَاجر وتجر. وَتَقْدِيره أساءلت رسم الدَّار عَن السكن أم عَن عَهده بالوائل أم لم تسائل إِذا جعلت عَن السكن مُتَعَلقَة بِالْفِعْلِ الأول.
خَاطب نَفسه على طَرِيق التحزن والتوجع
فَقَالَ: أباحثت رسم الدَّار فَمَا وقفت عَلَيْهَا عَن أَخْبَار سكانها كَيفَ انتقلوا وَإِلَى ايْنَ صَارُوا أَو عَن مُدَّة عَهده بهم ومذ كم ارتحلوا وَمَتى سَارُوا أَو لَا.
وَالسُّؤَال عَن السكن أنفسهم غير السُّؤَال عَن مُدَّة الْعَهْد بهم فَلهَذَا فرق. والأوائل هم السكن وَلَكِن فخم شَأْنهمْ بِأَن أعَاد اسمهم الظَّاهِر وَلم يقل عَن عَهده بهم ودعته القافية إِلَيْهِ أَيْضا.
وَحسن ذَلِك لما لم يهجنه التكرير اخْتِلَافهمَا.
وَيجوز أَن يُرِيد بالسكن الْوَحْش الَّتِي استبدلتها من قطانها قبل وَتلك الْحَالة من الدَّار مِمَّا يزِيد
(يعزّ عليّ أَن يرى عوض الدّمى
…
بحافاته هامٌ وبومٌ وهجرس)
وَقَوله: لمن طلل الخ هَذَا وَجه آخر من التحزّن كَأَنَّهُ استنكر أَن تكون دَارهم بالحالة الَّتِي رَآهَا فَجعل سُؤَاله سُؤال من لَا يثبتها تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ. والمنتصي: ملتقى الواديين حَيْثُ يناصي أَحدهمَا صَاحبه.
وَقَالَ الْبَاهِلِيّ: المنتصي: مَوضِع. وروى أَبُو عَمْرو: المنتضي بالضاد مُعْجمَة وَقَالَ: هُوَ مَوضِع.
وَقَوله: غير حَائِل قَالَ الْبَاهِلِيّ: أَرَادَ عَفا بعد عهد من قطار ووابل وَلم يمر حول. وَالْمَشْهُور أَن يُقَال: أحَال الشَّيْء. إِذا أى عَلَيْهِ حول
إِلَّا أَن بَعضهم حكى أَن حَال لُغَة فِيهِ.
وَيجوز أَن يكون حَائِل بِمَعْنى متغير يُقَال: حَال الشَّيْء واحتال إِذا تغير كَأَنَّهُ كَانَ دارس الْبَعْض بَاقِي الْبَعْض فَلم يعد ذَلِك تغيراً كَامِلا وَمَتى كَانَت الرسوم بِهَذِهِ الصّفة ذكرت العهود أَشد وجددت الغموم أجد.
وَلذَلِك تمنى بعض الشُّعَرَاء شُمُول الدُّرُوس عَلَيْهَا ليستريح مِنْهَا فَقَالَ: الوافر
(أَلا لَيْت الْمنَازل قد بلينا
…
فَلَا يرمين عَن شزن حَزينًا)
وَقَوله: بعد عهد يجوز أَن يريج بعد إِلْمَام وَيجوز أَن يكون مصدر عهِدت الرَّوْضَة إِذا أَتَى عَلَيْهَا الْعَهْد وَهُوَ كل مطر بعد مطر وَجمعه عهاد.
وَقَوله: عَفا بعد عهد الْحَيّ الخ ابْتَدَأَ يبين كَيفَ عَفا وَالْمعْنَى: عَفا الطلل وَالْمَكَان بعد أَن كَانَ للحي فِيهِ عهد.
والعهد: الْمنزل الَّذِي لَا يزالون إِذا بعدوا عَنهُ يرجعُونَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ تركُوا النُّزُول بِهِ وفارقوه فَعَفَا يُرِيد عَفا مِنْهُم بعد عَهدهم أَي: بعد أَن كَانُوا يعهدونه وَقد بَقِي من آثَارهم ومبارك إبلهم مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَنه ربعهم.
والدعس: شدَّة الْوَطْء. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ تتَابع الْآثَار. والجامل: اسْم للْجمع يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث كَالْإِبِلِ وَإِن كَانَ من لفظ الْجمل.
وَقَوله: عَفا غير نؤي الخ عفت آثَار الدَّار وانمحت إِلَّا نؤياً لَا يستبان مِنْهَا وأقطاعاً من خوص الْمقل تمزقت لقدمها فتفرقت فِي الساحات وَكَثُرت بترديد الرِّيَاح لَهَا. .
والنؤي: حاجز يمْنَع بِهِ السَّيْل عَن الْبَيْت والطفي واحدتها طفية. وَمعنى عَفا: درس. وعفت فِي المعاقل: كثرت. وَهَذَا من الأضداد يُقَال: عَفا الْمَكَان إِذا درس عفاءً وعفواً وعفته الرِّيَاح عفاء وعفواً. وَعَفا الشَّيْء عفوا: كثر وعفوته أَنا. والمعاقل: جمع المعقل وَهُوَ هَا هُنَا الْمنزل الَّذِي نزلوه وحفظوا مَا لَهُم فِيهِ. وَالْعقل: الْحِفْظ.
وَقَوله: وَإِن حَدِيثا مِنْك الخ ترك وصف الدَّار ودروسها وَعطف إِلَى خطابها يغازلها. يَقُول: إِن حلاوة حَدِيثك لَو تفضلت بِهِ حلاوة الْعَسَل مشوباً
بِاللَّبنِ. والجنى أَصله الثَّمر المجتنى فاستعاره. والعوذ: الحديثات النِّتَاج وَاحِدهَا عَائِذ.
ومطافل: جمع مطفل وَهِي الَّتِي مَعهَا طفلها. وَإِنَّمَا نكر قَوْله حَدِيثا مِنْك ليبين أَن موقع كَلَامهَا مِنْهُ على كل وَجه ذَلِك الْموقع. وَدلّ بقوله: لَو تبذلينه على تمنعها وَتعذر ذَلِك من جِهَتهَا.
وَقَوله: مطافيل أبكار الخ مطافيل بدل من قَوْله عوذ مطافل وَأَشْبع فِي الْفَاء للزومها فَحدثت الْيَاء. والأبكار: الَّتِي وضعت بَطنا وَاحِدًا لِأَن ذَلِك أول نتاجها فَهِيَ أبكار وَأَوْلَادهَا أبكار ولبنها أطيب وأشهى فَلذَلِك خصّه وَجعله مزاجاً.
ويشاب صفة لألبان أَي: مشوبة بِمَاء متناه فِي الصفاء. وَقيل فِي المفاصل إِنَّهَا الْمَوَاضِع الَّتِي ينْفَصل فِيهَا السهل من الْجَبَل حَيْثُ يكون الرضراض فَيَنْقَطِع المَاء بِهِ ويصفو إِذا جرى فِيهِ.)
وَهَذَا قَول الْأَصْمَعِي وَأبي عَمْرو. وَاعْترض عَلَيْهِ فَقيل: هلا قَالَ بِمَاء من مياه المفاصل وَمَاله يُشبههُ بِهِ وَلَا يَجعله مِنْهُ فَقيل: هَذَا كَمَا يُقَال مثل فلَان لَا يفعل كَذَا وَالْمرَاد أَنه فِي نَفسه لَا يفعل لِأَنَّهُ أثبت لَهُ مثل يَنْتَفِي ذَلِك عَنهُ.
أَلا ترى أَنه لَو جعل ذَلِك لنظيره لَكَانَ الْمَدْح لَا يعلق بِهِ وَقد علم أَن الْقَصْد إِلَى مدح. وعَلى هَذَا قد حمل قَوْله تَعَالَى: لَيْسَ كمثله شَيْء.
وَقَالَ أَبُو نصر: أَرَادَ بالمفاصل مفاصل الْجَبَل حَيْثُ يقطر الوشل وَذَلِكَ أصفى من مياه المناقع والعيون.
وَقيل: أَرَادَ يشاب بِمَاء كالدمع صفاء فالمفاصل شؤون الرَّأْس وَهِي تسمى مفاصل ومواصل والدمع مِنْهَا يخرج. وَهَذَا كَمَا يُقَال: جئْتُك بخمرة كَمَاء الْعين وأصفى من الدمع فالتشبيه حَاصِل فِي هَذَا الْوَجْه وَهُوَ عِنْدِي حسن وَالْمرَاد بِمَاء
الْعين الدمع لَا غير.
وَقَالَ أَبُو سعيد: مَاء المفاصل الدَّم وَأَرَادَ بِالْمَاءِ الْخمر وَشبههَا بِهِ. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: مَاء المفاصل مَاء اللَّحْم الَّتِي شبه حمرته بحمرته. وعهدة هذَيْن الْقَوْلَيْنِ عَلَيْهِمَا.
وَقَوله: رَآهَا الْفُؤَاد الخ أضَاف الرُّؤْيَة إِلَى الْفُؤَاد تَحْقِيقا لِلْأَمْرِ لِأَن الْعين رائد الْقلب فَكَأَنَّهَا أدْركْت بِالْعينِ أَولا ثمَّ تؤولت بالفكر فِي محاسنها ثَانِيًا فَتمكن الْحبّ بِإِعَادَة النّظر وَبسط الْفِكر.
وَقَوله: فاستضل ضلاله قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ كَمَا يُقَال: جن جُنُونه. وكشف هَذَا أَن للنَّفس شَهْوَة فِي المستحسنات قد تضل بهَا عِنْدهَا فتسمى تِلْكَ الشَّهْوَة ضلالا لكَونهَا سَببا فِيهِ ثمَّ إِذا غلب عَلَيْهَا شَيْء يستتبع تِلْكَ الشَّهْوَة قيل استضل ضلال فلَان أَي: طلب مِنْهُ أَن يضل فضل.
وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ استزيد ضلاله أَي: زيد ضلاله ضلالا كَأَنَّهُ لما تفكر فِي محاسنها وَقَالَ الْأَخْفَش: هَذَا كَمَا يُقَال: خرجت خوارجه وَالْمعْنَى دواخله فسماها بِمَا آلت بِهِ فَكَذَلِك أَرَادَ استضل رشاده فَقَالَ: ضلاله لرجوعه إِلَيْهِ. وَمثله: الْبَسِيط يدعونَ حمساً وَلم يرتع لَهُم فزع أَي: لم يرتع أَمنهم. وَهَذَا كثير.
وَقَوله: نيافاً نصب على الْحَال. والنياف: الطَّوِيلَة المشرفة وَمِنْه أناف
على كَذَا أَي: أشرف.
والعطابل: جمع عطبول بِحَذْف الزِّيَادَة مِنْهُ كَأَنَّهُ كَانَ عطبلاً وَهِي الطَّوِيلَة الْأَعْنَاق.)
وَقَوله: فَإِن وصلت حَبل الخ يسْأَل عَن موقع هَذَا الْكَلَام مِمَّا قبله وَعَن زهده المسرف فِي هَذَا الْبَيْت بعد ضلاله المفرط فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم وَكَيف
وَجه التئامهما على تقاربهما وَهل يجوز أَن يتجلد فِي هَذَا ثمَّ يَقُول بعقبه: لعمري لأَنْت الْبَيْت أكْرم أَهله وَالْجَوَاب أَن هَذَا وفْق مَا تقدمه وَغير مُخَالف لَهُ لكنه أظهر الاستسلام لَهَا ولرأيها فَإِن وصلت حبله دَامَ على مصافاتها لَا يُشْرك أحدا فِي ودها وَإِن صرمت وده وقف عِنْد محدودها فِي الِانْصِرَاف ومرسومها لَا يسْتَعْمل مُنْكرا وَلَا يتعاطى رفثاً وَلَا هجراً.
وَهَذَا من الْآدَاب المحمودة فِيمَا يجْرِي عَلَيْهِ المتحابان. وَيدل على مَا قُلْنَا إِن أَبَا ذُؤَيْب أَمر نَفسه بالدوام إِن رَأَتْ الْوَصْل والدوام على الْوَصْل زِيَادَة عَلَيْهِ وثبات فِيهِ وبالانصراف عَنْهَا على أجمله إِن رَأَتْ الصرم إِلَى أَن ترى غَيره. وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَا أظهر زهداً فِيهَا.
وَقَوله: وَمَا ضرب بَيْضَاء الخ عاود وصف الْمَرْأَة. وَالضَّرْب: الشهدة وَيُقَال: استضرب الْعَسَل إِذا خثر فصلب. وَهُوَ ضرب وضريب. وَالْعَسَل فِي لغتهم مُؤَنّثَة فَلذَلِك قَالَ بَيْضَاء.
وَقَوله: يأوي مليكها أَرَادَ بِهِ اليعسوب وَهُوَ قَائِد النَّحْل وأضاف المليك إِلَى الْعَسَل توسعاً وَإِنَّمَا هُوَ مليك النَّحْل المعسلة. والطنف بِفَتْح الطَّاء وَضمّهَا: حيد نَادِر من الْجَبَل. وَالْمعْنَى: مَا عسل بَيْضَاء يأوي نحلهَا إِلَى أنف من الْجَبَل يعيي الراقي إِلَيْهِ والنازل مِنْهُ.
وَقَوله: تهال الْعقَاب الخ قَالَ الْبَاهِلِيّ: الريد: شِمْرَاخ فِي الْجَبَل. وَقَالَ أَبُو نصر: الريد: مَا نتأ من الْجَبَل فَخرج مِنْهُ حرف. والدروء: جمع الدرء وَهُوَ الحيد يدْفع مَا يلاقيه. وَمِنْه تدارأ الرّجلَانِ إِذا تدافعا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْأنف المعوج. وَالْمعْنَى: أَن ذَلِك الْجَبَل تهاب الْعقَاب من الْمُرُور بحرفه لإشرافه وعلوه واعوجاج أَطْرَافه وأنوفه.
وَقَوله: تنمى بهَا اليعسوب الخ ضمير بهَا للنحل وَلم يجر لَهَا ذكر لِأَنَّهُ يسْتَدلّ عَلَيْهَا بالقصة.
يَعْنِي أَن اليعسوب يرْتَفع بالنحل حَتَّى يسكنهَا فِي مجمع لَهَا ألفته وَاسع ذِي عسل.
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن النَّحْل تتبع قائدها فتطير بطيرانه وَترجع بِرُجُوعِهِ. والمباءة: مرجع الْإِبِل ومبيتها الَّذِي تتبوأ فِيهِ وتأوي إِلَيْهِ فاستعاره هَا هُنَا.
وَقَوله: أقرها إِلَى مألف عداهُ بإلى لِأَنَّهُ فِي معنى آواها وألجأها وهم يحملون النظير فِي التَّعْدِيَة)
على النظير والنقيض على النقيض كثيرا.
وَقَوله: فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ الْبَيْتَيْنِ الضَّمِير الْمُؤَنَّث فِي نالها وَعَلَيْهَا للخلية المفهومة من الْمقَام وفاعل نالها. شَدِيد الوصاة وَجُمْلَة تدلى: حَال بِتَقْدِير قد وَالتَّقْدِير: نالها بالأنامل شَدِيد الوصاة نابل وَابْن نابل متدلياً عَلَيْهَا بالحبال. وَيكون موثقًا حَالا من الضَّمِير فِي تدلى.
وَيجوز أَن تكون جملَة تدلى اعتراضاً بَين الْفِعْل وَالْفَاعِل وَيحسن الِاعْتِرَاض أَنه تَفْسِير لنيل المشتار للعسل كَيفَ كَانَ وعَلى أَي وَجه توصل.
وروى تَقْدِيم بَيت تدلى عَلَيْهَا على بَيت فَلَو كَانَ حبلاً وَبِه يحسن الانتظام وَيصير قَوْله فَلَو كَانَ حبلاً من ثَمَانِينَ قامة وَاقعا فِي موقعه وبياناً لحذق المشتار وَحسن تَأتيه فِيمَا يعانيه حَتَّى لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شاق منيع. وَعَلِيهِ يكون شَدِيد الوصاة فَاعل تدلى وموثقاً حَال.
قَالَ الْأَصْمَعِي: أَرَادَ بشديد الوصاة الشَّديد الْحفاظ بِمَا أوصِي بِهِ. قَالَ أَبُو نصر: بَيَانه شَدِيد عِنْد الوصاة لَا يسترخي فِيهَا وَلَا يتجوز.
وَقَوله: نابل وَابْن
نابل أَي: حاذق وَابْن حاذق يَعْنِي أَنه ورث صناعته عَن أسلافه ثمَّ نَشأ عَلَيْهَا وبرع فِيهَا.
وَقَوله: فَلَو كَانَ حبلاً تَقْدِيره: لَو كَانَ الْحَبل الَّذِي تدلى بِهِ حبلاً طوله ثَمَانُون قامة وَتسْعُونَ باعاً.
وَالْمعْنَى تدلى عَلَيْهَا وَلَو كَانَت أشق مِنْهَا مطلباً وَأبْعد منالاً لاحتال فِيهَا حَتَّى ينالها بِيَدِهِ.
وَقَوله: إِذا لسعته النَّحْل الخ يرْوى: إِذا لسعته الدبر وَهُوَ كالنحل وزنا وَمعنى.
يَقُول: إِذا لسعت النَّحْل هَذَا المشتار لم يخف لسعها وَلم يبال بهَا ولازمها فِي بَيتهَا حَتَّى قضى وطره من معسلها. وَمعنى لم يرج لم يخف من قَول الله تَعَالَى: إنّهم كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً.
وكما وضعُوا الرَّجَاء مَوضِع الْخَوْف وضعُوا الْخَوْف مَوضِع الرَّجَاء.
وَقَوله: وحالفها قَالَ الْأَصْمَعِي: أَي: صَار حليفها فِي بَيتهَا وَهِي نوب. وَلم يرد حالفها فِي بَيت غَيرهَا.
وروى أَبُو عَمْرو: وخالفها بِالْخَاءِ مُعْجمَة. قَالَ: يُرِيد جَاءَ إِلَى عسلها من وَرَائِهَا لما سرحت فِي المراعي. والنوب: النَّحْل وَلَا وَاحِد لَهُ.
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ جمع نوبي سَموهَا بذلك لسوادها. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ جمع نَائِب كعائذ وعوذ. يُرِيد أَنَّهَا تخْتَلف وتجيء وَتذهب أَي: تنتاب المراعي ثمَّ تعود. وعوامل أَي:)
وَقَوله: فحط عَلَيْهَا الخ يَقُول: انحدر المشتار على الخلية وَالْقلب يجب والحشاء تضطرب خوفًا مِمَّا يكابده فِي التدلي حَتَّى كَأَن ضلوعه سِهَام لَا نصال لَهَا رمي بهَا فطاشت وقلقت.
والسهم الناصل: الَّذِي سقط نصله أَو قلق
يُقَال: نصلت السهْم إِذا ركبت عَلَيْهِ النصل وأنصلته فنصل إِذا نزعت نصله.
وَقَوله: فشرجها من الخ أَي: جعل الْعَسَل شريجين أَي: خليطين بالمزاج الَّذِي صبه عَلَيْهَا وكل وَاحِد من الخليطين شريج. والنطفة: المَاء.
وَإِنَّمَا نَسَبهَا إِلَى رَجَب لِأَن رَجَب وجمادى كَانَا فِي زمانهم من شهور الشتَاء. والسلاسلة بِالضَّمِّ: الَّتِي تتسلسل فِي الْحلق لصفائها وعذوبتها وسهولة صفاء مدخلها.
وَجعلهَا من مَاء لصب بِكَسْر اللَّام وَهُوَ شقّ فِي الْجَبَل ليدل على أَنَّهَا من مَاء الْمَطَر وَأَنه تنقل فِي مضايق الطّرق وتقطع بمدارج الشقوق والنقر فتزيل الكدورة عَنهُ وتسلسل فِي جريه ومروره حَتَّى تناهى فِي مقره وربد بِالرِّيحِ فِي مستنقعه فَقَوله: سلاسل صفة لماء لصب وَأَرَادَ بِهِ رقته وَسُرْعَة مره فِي مجاريه من المسايل والمناقع.
وَقَوله: بِمَاء شنان الخ رِوَايَة الْأَصْمَعِي بتنوين مَاء وإجراء شنان وَصفا لَهُ. قَالَ أَبُو نصر: وَهُوَ أحب إِلَيّ. والشنان بِضَم الْمُعْجَمَة: الْبَارِد ينشن من الْجَبَل انشناناً. وَمِنْه شن عَلَيْهِ الْغَارة.
وروى أَبُو سعيد: بِمَاء شنان على الْإِضَافَة قَالَ: والشنان بِكَسْر الْمُعْجَمَة: جمع الشنة وَهِي الْقرْبَة الْخلق وَالْمَاء فِيهَا أبرد.
وَقَوله: زعزعت مَتنه أَي: أَعْلَاهُ. وَقَوله: وجادت عَلَيْهِ الخ الْقَصْد فِيهِ إِلَى تَكْثِير المَاء حَتَّى يكون أصفى.
وَقَوله: بأطيب من فِيهَا الخ هَذَا خبر مَا فِي قَوْله: وَمَا ضرب بَيْضَاء. وَإِذا جِئْت ظرف لطارقاً وَإِذا نَامَتْ ظرف لأشهى. وَالْمرَاد: وأشهى من فِيهَا إِذا نَامَتْ.
والمشار إِلَيْهِ بإذا نَامَتْ غير الْمشَار إِلَيْهِ بإذا جِئْت يدلك
أَن الْوَقْت الَّذِي يَجِيء فِيهِ طَارق يجوز أَن يكون من أول اللَّيْل وَمن أوسطه وَآخره فَإِن الْوَقْت الَّذِي ينَام فِيهِ كلاب الأسافل يكون مَعْلُوما متميزاً عَن سَاعَات اللَّيْل.
وَقد اخْتلف فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ أول الصُّبْح لِأَن الْكلاب إِذا تحرّك النَّاس تنام وتسكن وَمثله قَول أبي ذُؤَيْب فِي أُخْرَى: الوافر)
(بأطيب من مقبّلها إِذا مَا
…
دنا العيّوق واكتتم النّبوح)
وَقيل الأسافل مُرَاد بِهِ أسافل الْحَيّ لِأَن مَوَاشِيهمْ لَا تبيت بل لَهَا مباءة على حِدة فرعاتها لَا ينامون إِلَّا آخر من ينَام لِأَن مِنْهُم من يربق وَمِنْهُم من يحلب وكلابهم تحرس مَعَهم فَلَا تنام إِلَّا وَقَالَ الْبَاهِلِيّ: الحواء يكون فِيهِ الْوُجُوه والأسافل يكون فِيهِ الرعاء. وَهَذَا كالبيان الأول.
وَقَالَ أَبُو سعيد: الأسافل سفلَة النَّاس وَيَعْنِي بهم هُنَا الرُّعَاة وَلَيْسَ يُرَاد بِهِ أسافل الْبيُوت.
وَقَالَ الْأَخْفَش: الرِّوَايَة كلاب المسافل يَعْنِي الْمَوَاضِع الَّتِي تسفل النَّاس فِيهَا. يُقَال: أتيت المسفل من مَكَّة وأتيت الْمُعَلَّى مِنْهَا وَهِي مسافلها ومعاليها وَالْمعْنَى على جَمِيع هَذِه الْوُجُوه أَن فمها أشهى مِمَّا وَصفه إِذا خلفت الأفواه وتغيرت.
وَقَوله: ويأشبني فِيهَا الخ يأشبني: يلطخني ويقذفني. يُقَال: أشبه بِشَيْء إِذا قذفه بِهِ. والألاء: اسْم مَوْصُول بِمَعْنى الَّذين. وَعلم هُنَا بِمَعْنى عرف
يَقُول: لَو عرفُوا قصتي مَعهَا مَعَ تمنعها لم يَقُولُوا إِنِّي أصبت مِنْهَا طائلاً.
والطائل: مَا لَهُ فضل وَقدر. وَرُوِيَ: بباطل وَالْمعْنَى: لتحرجوا من قذفي بِالْبَاطِلِ ويلونها: يقربونها.
وَرُوِيَ: الألى لَا يلونها أَي: الغرباء دون أهل بَيتهَا.
وَقَوله: وَلَو أَن مَا عِنْد الخ ابْن بجرة بِضَم الْمُوَحدَة وَسُكُون الْجِيم: خمار مَعْرُوف كَانَ بِالطَّائِف.
والناطل هُنَا: جرعة من مَاء أَو لبن أَو نَبِيذ وَيَأْتِي بِمَعْنى الْمِكْيَال للخمر وَلَيْسَ مرَادا هُنَا.
وأبلغ من هَذَا: الطَّوِيل
وَقَوله: فَتلك الَّتِي لَا يبرح الخ مَا مَصْدَرِيَّة ظرفية وأرزمت بِتَقْدِيم الْمُهْملَة: حنت. والحائل: الْأُنْثَى من أَوْلَاد الْإِبِل.
والسقب: الذّكر. وَالْمعْنَى: تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي وصفتها هِيَ الَّتِي لَا يفارقني حبها وَذكرهَا أبدا.
وَقَوله: حَتَّى يؤوب القارظان الخ الْمَعْنى: لَا يفارقني حبها حَتَّى يكون مَا لَا يكون.
القارظان أَحدهمَا القارظ الْعَنزي وَهُوَ يذكر بن عنزة بن أَسد بن ربيعَة كَانَ يعشق ابْنَته فَاطِمَة خُزَيْمَة بن نهد فطلبها من أَبِيهَا فَلم يُزَوّجهَا ثمَّ خرج يذكر وَخُزَيْمَة يطلبان الْقرظ وَهُوَ ورق تدبغ بِهِ الْجُلُود الطائفية
وَمَرا بقليب فاستقيا فَسَقَطت الدَّلْو فَنزل يذكر ليخرجها فَلَمَّا صَار فِي الْبِئْر مَنعه الْحَبل وَقَالَ: زَوجنِي فَاطِمَة.)
فَقَالَ: أما على هَذِه الْحَالة اقتساراً فَلَا أفعل وَلَكِن أخرجني حَتَّى أزَوجك. فَامْتنعَ وَجعل يسْأَله ويأبى حَتَّى هلك فِيهَا.
والقارظ الثَّانِي: رجل من النمر بن قاسط خرج يَبْغِي قرظاً فأبعد فنهشته حَيَّة فَقتلته فَضرب الْمثل بِرُجُوعِهِ فِيمَا لَا يكون.
قَالَ عمَارَة بن عقيل: الطَّوِيل
(لأجزر لحمي كلب نَبهَان كَالَّذي
…
دَعَا القاسطيّ حتفه وَهُوَ نازح)
كَذَا ذكر الْمبرد أَن القاسطي أحد القارظين هَذَا لخصته من شرح أشعار الهذليين للْإِمَام المرزوقي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي مستقصى الْأَمْثَال: القارظ الثَّانِي: اسْمه هميم وَقيل عقبَة وَكَانَ من عنزة أَيْضا وَكَانَ يتصيد الوعول ويدبغ جلودها بالقرظ فَعرض لَهُ فِي بعض الْجبَال ثعبان فنفخه نفخة فَوَقع مِنْهَا مَيتا. انْتهى.
وَأما الميداني فِي مجمع أَمْثَاله فقد قَالَ: القارظ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ حَدِيث غير أَنه فقد فِي طلب الْقرظ واسْمه هميم. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
وَأنْشد بعده: وَلَقَد أمرّ على اللّئيم يسبّني
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالْخمسين من بَاب الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد التَّاسِع عشر بعد الأربعمائة: الوافر
(وَلَيْسَ المَال فاعلمه بِمَال
…
وَإِن أَغْنَاك إلاّ للذيّ)
على أَن كسرة الْيَاء الْمُشَدّدَة من الَّذِي كسرة بِنَاء.
والبيتان كَذَا رَوَاهُمَا ابْن الشجري فِي الْمجْلس الرَّابِع وَالسبْعين من أَمَالِيهِ. وَقَوله: بِمَال خبر لَيْسَ وَالْبَاء زَائِدَة وَجُمْلَة: فاعلمه مُعْتَرضَة وَكَذَلِكَ جملَة وَإِن أَغْنَاك مُعْتَرضَة وَإِن وصلية وَنقل شَارِح شَوَاهِد الموشح عَن بَعضهم أَنَّهَا نَافِيَة والمستثنى مِنْهُ مَحْذُوف تَقْدِيره لأحد. وَجُمْلَة: يُرِيد بفاعله الْمُسْتَتر صلَة الَّذِي.
وروى بدله: ينَال بِهِ. ويصطفيه مَعْطُوف على يُرِيد. والْعَلَاء: بِفَتْح الْعين وَالْمدّ: مفعول يُرِيد وَهُوَ بِمَعْنى الرّفْعَة والشرف. ويصطفيه بِمَعْنى يختاره.
وَقَوله: لأَقْرَب: مُتَعَلق بيصطفيه. وَإِضَافَة أقرب إِلَى أقربيه كَقَوْلِهِم: أعلم الأعلمين. والقصي: الْبعيد.
يَقُول: لَيْسَ المَال فِي الْحَقِيقَة مَالا لأحد إِلَّا للَّذي يُرِيد بِسَبَبِهِ علو الدرجَة فِي الْمجد ويختاره للقريب والبعيد.
وروى الْبَيْت الثَّانِي الْخفاف فِي شرح الْجمل كَذَا:
…
(تحوز بِهِ الْعَلَاء وتصطفيه
…
لأَقْرَب أقربيك وللصّفيّ)
بِالْخِطَابِ فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة.
(وَلَيْسَ المَال فاعلمه بمالٍ
…
من الأقوام إلاّ للذيّ)
(يُرِيد بِهِ الْعَلَاء ويمتهنه
…
لأَقْرَب أقربيه وللقصيّ)
وَعَلَيْهَا فَجزم يمتهنه ضَرُورَة وَهُوَ من امتهنت الشَّيْء بِمَعْنى أهنته وحقرته.
والبيتان لَا علم لي بقائلهما. وَالله أعلم.
وَأنْشد بعده
الشَّاهِد الْعشْرُونَ بعد الأربعمائة الرجز
(واللّذ لَو شَاءَ لَكُنْت صخراً
…
أَو جبلا أشمّ مشمخرّا)
على أَن حذف الْيَاء من الَّذِي والاكتفاء بِكَسْر الذَّال لُغَة. والأشم من الشمم وَهُوَ الِارْتفَاع.
والمشمخر: العالي المتطاول وَقيل الراسخ.
وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْخفاف وَغَيره وَرَوَاهُ ابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ وَابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف:
(واللّذ لَو شَاءَ لكَانَتْ برّاً
…
أَو جبلا أصمّ مشمخرّا)
قَالَ شَارِح شَوَاهِد الموشح: ضمير كَانَت للدنيا أَو الأَرْض. وَالْبر: خلاف الْبَحْر. وَالْمعْنَى هُوَ الَّذِي لَو شَاءَ أَن يكون برا لَكَانَ برا وَلَو شَاءَ أَن يكون جبلا. انْتهى.
وَلَا أعلم قَائِل هَذَا الْبَيْت أَيْضا وَعلمه عِنْد الله.
نِهَايَة الْجُزْء الْخَامِس من تَقْسِيم محققه