الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الرد على ادعاء المنصرين أن المسيح روح من الله -بجعل من للتبعيض- وكلمته التي تجسدت وصارت إنساناً
.
…
المطلب الثاني: الرد على ادعاء المنصرين أن المسيح روح من الله-بجعل مِنْ للتبعيض- وكلمة الله التي تجسدت وصارت إنساناً:
يزعم المنصرون أن (الكلمة) هي عيسى عليه السلام وإدعاؤهم هذا تابع من إسقاط اعتقاداتهم ومعانيهم الباطلة على الآيات التالية أو بعضها:
قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: 171) .. وقوله تعالى {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم:17) . وقوله تعالى {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:91) . وقوله تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم:12) . وقوله تعالى {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39) . وقوله تعالى {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران:45) .
وادعاءات المنصرين هنا تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يتعلق بكون عيسى كلمة الله أو كلمة من الله.
والقسم الثاني: ما يتعلق بكون عيسى روحاً من الله أو روح الله.
أما القسم الأول ففيه نقاط عدة:
أ - زعم الكندي أن القرآن "صرح بأن المسيح كلمة الله تجسدت وصارت إنساناً"(1) . فهو يشير إلى معتقد النصارى المعروف وهو أن عيسى هو الكلمة والكلمة هي الله فعيسى هو الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - وهذا صريح في إنجيل يوحنا كما مر سابقاً (2) .
ونِسبة هذا الكفر إلى القرآن بهتان عظيم وكذب صريح على القرآن المحفوظ كما أنزل فليأت النصارى بنص يدل على هذا المعنى الباطل. إنما الذي في القرآن {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:59) ..
فمن الواضح أن عيسى مخلوق ليس هو الكلمة (كن) وإنما بها كان وسمي بكلمة الله لأنه بها خُلق وليس له أب وسوف يمر بنا هذا تفصيلاً (3) .
ب - آية سورة النساء - السابق ذكرها (171) - تكفي وحدها للرد على إدعاءات النصارى واستنتاجاتهم المزعومة من خلال قوله تعالى {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أو {ِكَلِمَةٍ مِنْهُ} أو ما يشاكل ذلك من الآيات.
(1) انظر ص (7) .
(2)
انظر ص (7) .
(3)
انظر ص (37) .
فالآية تدل على أمور منها:
1) نهي النصارى عن الغلو في دينهم وتحذيرهم بأن لا يقولوا على الله سبحانه وتعالى إلا الحق ومن أول ذلك: عدم الغلو في المسيح فهو ليس إلا رسول الله سبحانه وتعالى وعبد من عبيده.
2) نسبت الآية عيسى نسباً بشرياً بيناً إلى أمه مريم بنة عمران عليهما السلام.
3) حذر الله النصارى عن أن يقولوا بالتثليث ومنه إدخال عيسى واحداً من الثلاثة المزعومين بإعتباره أنه إله منهم.
4) أوضحت الآية على سبيل الحصر أن الله سبحانه وتعالى ليس إلا إلهاً واحداً منزهاً عن أن يكون له ولد وهذا يرد على إدعائهم أن عيسى ابن الله.
5) هذه الآية حجة برهانية قاطعة تثبت بلغة الأرقام أن الله واحد أحد وحدانية لا يشوبها أدنى احتمال للشراكة معه وذلك من خلال نفيها للثلاثة والتثليث وإثباتها في الوقت نفسه أن الله واحد احد صمد لم يلد ولم يولد وليس واحداً في ثلاثة أو ثلاثة في واحد مع تحذير النصارى عن القول بالتثليث وتوعدهم على القول به.
6) أبانت الآية أن عيسى عليه السلام كلمة الله ألقاها إلى مريم فما المقصود بأنه كلمة الله؟ أو كلمة منه؟
يقول الإمام أحمد رحمه الله "المعنى في قوله جل ثناؤه {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (النساء:171) .فالكلمة التي ألقاها إلى مريم: حين قال له كن، فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن،
ولكن بكن كان. فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقاً. وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى. وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة" (1) .
ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام: "وأما المسيح فالمراد أن الله خلقه بكلمة لا أنه هو الكلمة لقوله {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ولم يقل ألقاه ويدل عليه قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} "(2) وكذلك قال شاذان بن يحيى: "ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى"(3) .
كما يقول ابن كثير - في قوله تعالى – {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} : "أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه قال له كن فكان، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل – عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما
(1) الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله" ويليه: كتاب السنة" صححه وعلق عليه إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ص (43) .
(2)
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" تحقيق الشيخ بن باز وآخرين، دار المعرفة-بيروت. ج (13) ، ص (498) .
(3)
تفسير ابن كثير ج (1) ص (590) .
هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان والروح التي أرسل بها جبريل" (1) .
كما يقول ابن كثير - في تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} (آل عمران:45) .: "أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له كن فيكون وهذا تفسير قوله {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ} كما ذكر الجمهور"(2) . ويقول ابن جرير: "قال آخرون: بل هي [أي قوله كلمة منه] اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء"(3) .
ويروي بإسناده عن قتادة أنه قال:"قوله {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} قال: قوله {كُنْ} فسماه الله عز وجل كلمته لأنه كان عن كلمته"(4) . وقال أبو عبيد: "كلمته: كن فكان"(5) .
وكلمة الله التي قيلت لعيسى في القرآن وسمي بها هي مضافة إلى الله سبحانه وتعالى وقد قسم ابن تيمية رحمه الله المضاف إلى الله تعالى إلى قسمين: إضافة صفات وإضافة أعيان "فالصفات إذا أضيفت إليه تعالى كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب ونحو ذلك دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به ليست مخلوقة لأن الصفة لا تقوم بنفسها ولابد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له لكن قد يعبر باسم
(1) المرجع السابق ج (1) ص: (590) .
(2)
تفسير ابن كثير ج (1) ص (363) .
(3)
محمد بن جرير الطبري: "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" دار الفكر - 1405هـ - ج (3) ص (269) .
(4)
المرجع السابق ج (3) ص (269) .
(5)
صحيح البخاري ج (4) كتاب (54) باب (46) حديث (109) ص (132) .
الصفة عن المفعول بها، فيسمى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلاماً والمعلوم علماً والمرحوم به رحمة" (1) .فعيسى عليه السلام ليس هو عين الكلمة وإنما قيل له كلمة الله لأنه خلق بالكلمة ولم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشئ ومخلوق عن الكلمة: كن.
ثم إن الإضافة من حيث اللغة "نسبة بين اسمين"(2) . ويشترط فيها أن "لا يضاف الاسم إلى مرادفه فلا يقال: ليث أسدٍ"(3) .
بينما يزعم النصارى أن عيسى هو الكلمة وأن الكلمة هي الله (4) مما يعني تبعا لذلك أن اسم عيسى ولفظ الجلالة (الله) اسمان ومسميان مترادفان عند النصارى - والعياذ بالله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً مما يبطل هذه الإضافة لغة وعقلاً لأنها حينئذ حسب اعتقاد النصارى تصبح مكونة من اسمين مترادفين ولا تصح هذه الإضافة إلا إذا كانت تدل على اسمين وذاتين يختلف كل منهما عن الأخرى.
ثم من جهة أخرى فإن هذا التركيب المكون من المضاف والمضاف إليه يدل لغة على معنى يختلف عن المقصود بالمضاف إليه وحده فقط، أو بالمضاف فقط فإذا قلنا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المراد بالتركيب الإضافي في هذه الجملة - وهو قولنا (رسول الله) - المكون من المضاف (رسول) ومن المضاف إليه لفظ الجلالة (الله) هو رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الإنسان المخلوق،
(1) ابن تيمية "الجواب الصحيح" ج2 ص (158) .
(2)
مصطفى الغلابيني "جامع الدروس العربية" الطبعة الثامنة عشرة (1405هـ-1985م) جـ (3) ، ص (205) .
(3)
المرجع السابق ج (3) ص (211) .
(4)
انظر ص (7) .
أما المضاف إليه وحده فإنه لفظ الجلالة إسم الله سبحانه وتعالى وشتان مابين الرسول المخلوق والمرسِل الخالق سبحانه وتعالى فالمضاف إليه يدل على مسمى معين والتركيب من المضاف والمضاف إليه يدل على مسمى آخر مختلف كلياً عن ما يدل عليه المضاف إليه.
وهذا يعني من حيث اللغة أن: كلمة الله (المضاف والمضاف إليه) التي قيلت لعيسى والتي هي اسم له عليه السلام ليست هي المضاف إليه هنا وهو لفظ الجلالة (الله) فهذان اسمان يدلان على ذاتين مختلفتين ذات عيسى المخلوقة التي تليق ببشريته وذات الخالق سبحانه وتعالى التي تليق بجلاله وعظمته وشتان مابين ذات الخالق وذات المخلوق. فكل ما في الأمر أن (كلمة الله) قيلت لعيسى عليه السلام اسماً له لأنه مخلوق بالكلمة كما مر فادعاء النصارى أن الكلمة تجسدت وصارت عيسى أمر مكذوب على القرآن لأنه يدل على أن عيسى بها صار ولم يكن هو الكلمة. فعيسى – عليه السلام مخلوق وكلمة الله: كن ليست مخلوقة.
فهذه اعتقادات النصارى حاولوا تلبيساً إنزالها على بعض نصوص القرآن والقرآن بريء من ذلك إضافة إلى عدم قبول اللغة لهذا وكذا العقل بل إن أسفار العهد الجديد توافق هذا حيث جاء في بعضها قوله " ويدعى [أي عيسى] اسمه كلمة الله"(1) .
وقد شرح أحد النصارى المقصود بكلمة الله التي وردت في بعض النصوص (2) بأنها ما جاءت في التوراة في قوله "قال فكان هو أمر فصار"(3) .
(1) رؤيا يوحنا (19: 13) .
(2)
بطرس (3: 5) و (عب 11،3) .
(3)
المزمور (3: 9) .
وقوله "قال الله ليكن نور فكان نور"(1) . فكلمة الله هنا مع الانتباه إلى سوء الترجمة إنما هي: كن فيكون. هذا فيما يتعلق بكلمة الله.
أما إن زعم المنصرون والنصارى أن (مِنْ) في قوله تعالى "بكلمة منه" للتبعيض فإنه ليس لهم متمسك في هذا البتة، إذ إن (مِنْ) في الآية ليست للتبعيض كما يزعم بعض النصارى لأن "علامتها إمكان سد بعض مسدها" (2) ولكنها لابتداء الغاية "وهو الغالب عليها حتى ادعى جماعة [كما يذكر ابن هشام] . أن سائر معانيها راجعة إليه" (3) . فلو افترض أن من للتبعيض لكان المعنى كالتالي: إن الله يبشرك بعيسى بعض من الله ولأصبح المعنى فاسداً فساداً بيناً من ناحية نصرانية فضلاً عن بطلانه قبل ذلك من ناحية إسلامية ولغوية ذلك أن اعتقاد النصارى هو أن الكلمة هي عيسى فحينئذ يكون المعنى كالتالي: إن الله يبشرك بعيسى بعض من الله - تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً - وهذا أمر يبطله النصارى والمنصرون قبل غيرهم لأنهم يعتقدون أن عيسى (الابن) هو الكلمة وأن الكلمة هي الله ومن ثم عيسى هو الله فهو مساوٍ لله -في زعمهم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وليس هو بأقل من الله بله أن يكون بعضاً منه، ولذلك أول من يجب عليه إبطال أن (مِنْ) للتبعيض كما ترى هم النصارى أنفسهم وبحسب اعتقاداتهم الباطلة.
(1) التكوين (1: 3) .
(2)
عبد الله بن هشام الأنصاري "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد دار إحياء التراث العربي ج (1) ص (319) .
(3)
المرجع السابق ج (1) ص (318) .
وقد جاءت من لابتداء الغاية في القرآن كثيراً وفي كتبهم أيضاً وعلى نحو لا يصح أن تأتي للتبعيض في مثل قوله "امتحنوا الأرواح هل هي من الله نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا وكل من يحب فقد ولد من الله"(1) .
ولكنهم يحاولون التلبيس على المسلمين لتحقيق أغراضهم ولو كانت حقيقة اعتقاداتهم تناقض دعاواهم وافتراءاتهم على كتاب الله.
أما عن القسم الثاني وهو: ما يتعلق بكون عيسى عليه السلام روح من الله أو روح الله:
فإن في ذلك أموراً عدة:-
(1)
ما معنى قوله تعالى {وَرُوحٌ مِنْهُ} ؟
يقول الإمام أحمد: "وأما قوله تعالى {وَرُوحٌ مِنْهُ} يقول من أمره كان الروح فيه كقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناه أنها روح بكلمة الله خلقها كما يقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله"(2) .
ويقول ابن جرير: "وأما قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معنى قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} ونفخة منه لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك فنسب إلى أنه روح من الله لأنه بأمره كان"(3) .
(1)(1 يوحنا 4: 1-7) .
(2)
ابن حنبل: الرد على الجهمية ص (43) .
(3)
تفسير ابن جرير ج6 ص35-36.
ويقول ابن كثير في تفسير قوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} إي عيسى "إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه قال له كن فكان ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أُرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب يولد منه وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان والروح التي أرسل بها جبريل"(1) .
(2)
أن (مِنْ) في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} لإبتداء الغاية وليست للتبعيض يقول ابن كثير: "وليست من للتبعيض كما تقول النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} (الجاثية:13) .وقد قال مجاهد في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي رسول منه وقال غيره ومحبة منه والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله"(2) . ويقول الشنقيطي: "ولكن من هنا لابتداء الغاية يعني أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حياً من الله تعالى لأنه هو الذي أحياه به. ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح
(1) تفسير ابن كثير ج1 ص590.
(2)
تفسير ابن كثير ج1 ص590.
عيسى عليه السلام فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم فكان منه عيسى عليه السلام " (1) .
ولو فرض أن (مِنْ) هنا للتبعيض لفسد المعنى نصرانياً كما سبق بيانه في قوله تعالى {ِكَلِمَةٍ مِنْهُ} فلو قلنا على سبيل الفرض: وروح بعض منه باعتبار أن الروح هو عيسى عينه لكان المعنى فاسداً من وجوه منها: أن عيسى يصبح جزءاً وبعضاً من الإله. والبعض ليس مساوياً للكل عقلاً، والنصارى يعتقدون أن المسيح (الابن) بزعمهم إله مساوٍ للأب في الجوهر وليس جزءاً منه بل يعتقدون أن الكلمة كما مر آنفاً - وهي عيسى - هي الله فعيسى ليس بعضاً من الله سواء كان هو الروح أو هو الكلمة بحسب اعتقادهم. وهذا مبطل لكون (مِنْ) للتبعيض، فضلاً عما مر سابقاً من استخدام (مِنْ) لابتداء الغاية في كتبهم على نحو يمنع من خلال السياق أن تكون للتبعيض وهو ما يماثل ما ههنا.
(3)
وعلى كل حال إذا قيل لعيسى عليه السلام كلمة الله أو كلمة منه أو روح الله أو روح منه فإنه لا يغير من حقيقته البشرية شيئاً لما مر من الآيات المحكمة القاطعة في القرآن (2) والنصوص الكثيرة في الأناجيل (3) الدالة على أن عيسى عليه السلام بشر مخلوق من تراب تطرأ عليه عوارض الحدوث والتغير من حال إلى حال بل من حال الضعف في الطفولة إلى حال القوة في الكهولة ثم الموت بعد ذلك إلى غير ذلك من أمور.
(1) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" طبع على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز عام 1403هـ-1983م. ج1 ص494-495.
(2)
انظر ص (19) .
(3)
انظر ص (20)
لكن الذين في قلوبهم مرض وزيغ يغمضون أعينهم عما عظم من المتشابه عندهم كتسمية موسى إلهاً بنص التوراة الحالية (1) ، ويأخذون من القرآن "بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لإحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الإحتجاج بقوله {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله"(2) .
(4)
أما قوله تعالى {رُوحَنَا} في مثل قوله {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} :
فيقول ابن كثير "يعني جبرائيل عليه السلام"(3) . وكذلك روح القدس في مثل قوله تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: 102) .. يذكر ابن كثير أنه جبريل (4) .
ويقول ابن تيمية "إن المضاف في الثاني [أي القسم الثاني](5) من أقسام المضاف إلى الله مملوك لله مخلوق له بائن عنه لكنه مفضل مشرف لما
(1) جاء في التوراة الحالية فيما نسب إلى الله مخاطباً موسى أنه قال له "وانت تكون له [لهارون] إلهاً" الخروج [4: 16] وجاء قوله "أنا جعلتك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك"[الخروج (7: 1) ]
(2)
تفسير ابن كثير ج1 ص (345) .
(3)
المرجع السابق ج2 ص (115) .
(4)
تفسير ابن كثير ج2 ص (586) .
(5)
انظر كلامه عن القسم الأول ص (38) .
خصه الله به من الصفات التي اقتضت إضافته إلى الله تبارك وتعالى كما خص ناقة صالح من بين النوق وكما خص بيته بمكة من بين البيوت وكما خص عباده الصالحين من بين الخلق ومن هذا الباب قوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} فإنه وصف هذا الروح بأنه تمثل لها بشراً سوياً وأنها استعاذت بالله منه إن كان تقياً، وأنه قال: إنما أنا رسول ربك. وهذا كله يدل على أنها عين قائمة بنفسها" (1) . كما يقول رحمه الله عن الموضوع نفسه "فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشراً سوياً أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها وأنه رسول من الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء: إنه جبريل عليه السلام فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل" (2) .
وهذا يوضح أنه ليس لهم أدنى شبهة في هذا إذ المقصود بالروح القدس (وروحنا) : جبريل عليه السلام وليس المسيح بل إن البعض جعل معنى الروح في قوله تعالى {وَرُوحٌ مِنْهُ} أيضاً جبريل عليه السلام يقول ابن جرير "وقال آخرون معنى الروح ههنا: جبريل عليه السلام قالوا: ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى مريم وألقاها أيضاً إليها روح من الله قالوا: فالروح معطوف به على ما في قوله "ألقاها" من ذكر الله بمعنى أن إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله ثم من جبريل عليه السلام "(3) .
(1) الجواب الصحيح ج2 ص (156-157) .
(2)
المرجع السابق ج1 ص (240) .
(3)
تفسير ابن جرير ج6 ص236.
(5)
الروح أو الروح القدس أو روح الله عند النصارى هو الأقنوم الثالث في ثالوثهم الوثني (1) وهذا مبطل لادعاء النصارى على القرآن فيما يتعلق بقوله وروح منه أو روحنا من أساسه. لأن القرآن قال عن عيسى عليه السلام إنه روح من الله سبحانه وتعالى أو سماه بذلك بينما المسيح عند النصارى هو الابن أو "الأقنوم الثاني" بزعمهم وليس هو روح الله، لأن روح الله، أو الروح، أو الروح القدس عندهم ليس عيسى عليه السلام وإنما هو الأقنوم الثالث ولكل أقنوم بحسب اعتقاداتهم وظائف وأعمال ومهمات لا يقوم بها الأقنوم الآخر فجعلهما أقنوماً واحداً لاشك أنه مبطل للتثليث النصراني جملة وتفصيلاً.
وقد جاء في الأناجيل ما يوضح أن عيسى عليه السلام كان يخرج الشياطين بروح الله مما يعني أن عيسى شيء والمقصود بروح الله شيء آخر إذ ينسب إلى عيسى قوله "ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله"(2) . وفي نص آخر يقول: "وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ومن قال كلمة على ابن الإنسان [أي عيسى عليه السلام بزعم النصارى] يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي"(3) وفي نص آخر "لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس"(4) وفي
(1) انظر: "القاموس الموجز للكتاب المقدس" ج1 ص (304-305) .
(2)
متى (12: 28) .
(3)
متى (12: 13 - 32)
(4)
متى (1: 20)
غيره "فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيا عليه"(1) .
فروح الله أو الروح أو الروح القدس الواردة في النصوص السابقة لاشك أن المقصود بها غير عيسى والمقصود بذلك عند النصارى: الأقنوم الثالث (الروح القدس) . والذي هو غير عيسى مما يبطل كل شبههم التي يحاولون من خلالها تأليه عيسى استناداً إلى كتاب الله القرآن العظيم منطلقين من إنزال بعض معتقداتهم الفاسدة على قوله تعالى "وروح منه" أو "روحنا" ومخفين بعضاً.
والعجيب أن في الأناجيل ما يدل على أن المقصود بالروح أو الروح القدس أو روح الله إنما هو الملك جبريل عليه السلام وليس ما افتروه من أقنوم ثالث أو رابع فإنجيل لوقا يوضح ويشرح النص الآنف الذكر وهو "لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس" فيبين لمن يعقل أن هذا الروح القدس إنما هو جبريل عليه السلام حيث يقول في قصة حمل مريم بعيسى: "وفي الشهر السادس أُرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصره إلى عذراء"(2) ويقص قصة حمل مريم عليها السلام بعيسى إلى أخرها.
فالمنصرون والنصارى يكيلون بمكيالين وينظرون بمنظارين فاعتقاداتهم المعتمدة لديهم تبطل أن يكون الروح أو روح الله أو الروح القدس - وهو الأقنوم الثالث - هو المسيح لأنه عندهم الابن وهو الأقنوم الثاني بزعمهم لكنهم إذا جاؤوا للقرآن أخفوا معتقداتهم هذه - تلبيساً على المسلمين -
(1) متى (3: 16) .
(2)
(1) لوقا (1: 26-38)
وزعموا أن القرآن يدل على ألوهية عيسى استنتاجاً بزعمهم من أنه قال عنه أو جعله روح الله أو روحاً منه وهو عين ما ترفضه معتقداتهم - كما مر آنفا - لأن جمعهما في أقنوم واحد مبطل حسب اعتقاداتهم لأقانيم النصارى وتثليثهم من أصوله وهو تناقض بيِّن بين ما يّدعونه على القرآن وما يعتقدونه فهم يسيرون وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.