المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المطلب الأول في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه - دحض دعوى المستشرقين أن القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم

[سعود بن عبد العزيز الخلف]

الفصل: ‌ ‌المطلب الأول في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه

‌المطلب الأول

في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عنده لقد أنزل الله تعالى القرآن على نبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] .

فأعلن في الناس أن هذا كلام الله وليس كلامه، وليس له منه إلا التبليغ.

والأدلة على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام النبي صلي الله عليه وسلم كثيرة جداً، نشير إلى بعضها:

أولاً: أن الرسول صلي الله عليه وسلم صادق أمين، وصفه بذلك أعداؤه، كما روى البخاري في قصة أبي سفيان مع هرقل، فقال هرقل لأبي سفيان: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، ثم قال هرقل مبينا مراده من السؤال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد اعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله "."1"

وقد أكد صلي الله عليه وسلم في مرات كثيرة ومواقف عديدة أن القرآن الكريم كلام الله، وأنه يوحى إليه ما يقول، وهذا موجب لتصديقه من وجهين:

الوجه الأول: أنه صادق، وقد عرف عنه ذلك واشتهر.

والثاني: أن في نسبة القرآن إليه إبراز لمواهب نفسه، وإحراز للمقام الأعلى في قوة الفصاحة والبيان والعلم، ونحو ذلك، وخاصة أن القوم كانوا يتباهون في قوة التعبير، والفصاحة والبيان، ويعدونه من أعظم مفاخرهم، ومع ذلك تنصل منه، وقال: إنه كلام الله تعالى، وليس كلامه، ولم تختلف عنه هذه الدعوى في وقت من الأوقات، لا في أول بعثته ولا في آخرها.

"1" خ. بدء الوحي،رقم"3" انظره مع الفتح "1/32".

ص: 157

ثانياً: أن القرآن الكريم لم يكن متيسراً للنبي صلي الله عليه وسلم في كل حال، بل هو تنزيل من حكيم حميد، ينزل به الروح الأمين حسب مشيئة الله تعالى بذلك، ولو كان من عنده لفاضت به نفسه، وجاشت به قريحته في الوقت الذي يشاء، خاصة في الأوقات العصيبة، التي مر بها عليه الصلاة والسلام. من ذلك:

أ- اشتراط المشركين للإيمان أن يبدل القرآن أو يغيره، وذلك في قوله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 15-16] .

فمشركوا مكة طلبوا منه أن يبدل القرآن أويغيره، وكان عليه الصلاة والسلام شديد الحرص على هدايتهم حتى بلغ به الأمر ما ذكره الله تعالى بقوله:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] .

أي لعلك مهلك نفسك مما تحرص وتحزن لعدم إيمان من لم يؤمن من الكفار."1"

فمع هذا الحرص، والرغبة في إيمان القوم، لو كان بإمكانه تبديل القرآن أو تغييره لفعل ذلك يقيناً لشدة حرصه على هدايتهم، إلا أنه أعلن بصراحة ووضوح أن ذلك ليس إليه، لأن القرآن ليس من عنده، بل صرح أنه يخاف من عذاب الله تعالى فيما لو عصاه ويدخل في ذلك أدنى محاولة للتغيير والتبديل، كما قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الحاقة [44-47] .

ب- قصة حادثة الإفك. وهي من من أصعب الأحداث وأشدها على النبي صلي الله عليه وسلم، وهو أن المنافقين طعنوا في أحب نسائه إليه عائشة رضي الله عنها، وعرضوا بها

"1" تفسير ابن كثير "3/311".

ص: 158

في حادثة الإفك، وهي ابنة أعز أصحابه إليه، وهذا شرفه عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف الشرفاء وأعظم العظماء وأنقى الأنقياء وأتقى الأتقياء عليه الصلاة والسلام، وهو أشد الناس غيرة كما قال عليه الصلاة والسلام:"أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني"."1"

ومع ذلك فقد تجرأ عليه أناس من المنافقين، فطعنوا في زوجه، وشاع هذا في المدينة، وتأذى منه رسول الله صلي الله عليه وسلم غاية التأذي، ومع أن عائشة رضي الله عنها مرضت بعد قدومها من ذلك السفر، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يأبه لها كثيراً بسبب ما بلغه من القيل في ذلك، بل كان يأتي إليها حين اشتكت ويسلم، ثم يقول:"كيف تيكم"، ثم ينصرف، بل بلغ الأمر به عليه الصلاة والسلام أنه أخذ يستشير بعض أصحابه في شأنها، فاستشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب، وسأل الجارية عن عائشة، وسأل زينب بنت جحش زوجته رضي الله عنهم، بل إنه قال لعائشة آخر الأمر، وجلس عندها، ولم يكن جلس عندها من قبل من حين قيل ما قيل: يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.

وتأخر الوحي عن النبي صلي الله عليه وسلم في تلك الحادثة شهراً لا يوحى إليه في شأن عائشة رضي الله عنها، ثم نزلت براءتها بعد أن قال لها ما قال. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ

} [الآيات من سورة النور:11-20] .

فكان أول كلمة قالها عليه الصلاة والسلام لها بعد نزول الآيات عليه: "يا عائشة أما الله سبحانه وتعالي فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه -أي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله "."2"

"1" انظر. خ في التوحيد، رقم "7416"، انظره مع الفتح "13/399".

"2" انظر القصة كاملة في. خ، التفسير، رقم"4750". انظره مع الفتح "8/452".

ص: 159

فهذه الحادثة بتداعياتها الخطيرة، وآثارها الشديدة على النفس، وقد وقعت لأحب الناس إليه، تأخر فيها الوحي كل هذه المدة، تاركاً رسول الله صلي الله عليه وسلم في حيرة من حقيقة ما يقال، وما كان رسول الله ليشك في زوجه لولا كثرة كلام الناس، وتداول المنافقين لذلك الكلام وإشاعته، مما يدل على خطورة الإشاعات وقوة تأثيرها، فلو كان القرآن من عند رسول اللهصلي الله عليه وسلم لبادر لتلاوة آيات منه تبريء عائشة رضي الله عنها، وتخرس الألسن قبل أن يشيع ذكر الكلام الفاحش. ولكنها المشيئة الإلهية، والتربية الربانية، أراد الله أن يؤخر الوحي، حتى يعطي المسلمين درساً أنه لا أحد فوق الامتحان، وأن الشائعات أمرها خطير، وقد تقلب الموازين، وأن الحديث في مثل هذه الدعاوى يجب أن لا يكون بحال إلا بالشهود المعاينين للحادثة، إلى غير ذلك من الدروس.

والدرس الذي يهمنا، هو أن القرآن ليس من عند النبي صلي الله عليه وسلم، ولو كان من عنده لوفر على نفسه ذلك العناء، وأنهى ذلك الإشكال في مهده، كغيره من الإشكالات، التي ينزل في شأنها قرآناً مباشرة كحكم الله في المستهزئين "1"، والواهبة نفسها "2"، وقصة التحريم "3"، وغير ذلك.

ومن المعلوم أن إشاعات كهذه إذا خرجت وانتشرت، فليس من اليسير قطعها وإسكاتها، فالحل الأمثل لها أن تدفن في مهدها قبل انتشارها وشيوعها، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وإنما استمر القيل والقال مدة شهر كامل، والله أعلم بما عانى رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو شديد الغيرة، عظيم الرحمة، والله أعلم بما عانى زوجه وأهلها، وجميع المسلمين.

"1" الآيات من سورة التوبة "65-66".

"2" الأحزاب "50".

"3" التحريم "1-5".

ص: 160

والفرق شاسع والبون واسع بين عبارة الشك، التي خاطب الرسول صلي الله عليه وسلم بها عائشة رضي الله عنها قبيل وقت قصيرمن نزول آيات البراءة، حين قال لها: "ياعائشة إن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله

".

فهي عبارة على ما فيها من الثقة بالله، فيها شك في حقيقة الأمر، فرق بين هذه والعبارة التي جاءت بعدها منسوبة إلى الله تعالى العليم الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ

} الآيات.

فوصم الحادثة بالإفك، وأعلن في أول كلمة فيها كذب الدعوى، وبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وأعطى دروساً مهمة في الموضزع.

فلا يقول أحد باتحاد المصدر في الموقفين والجملتين إلا جاهل أو كاذب معاند.

وفي كل هذا دليل ناصع واضح، على أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند النبي صلي الله عليه وسلم بحال من الأحوال. وصدق الله تعالى:{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .

ثالثاً: أن الله تعالى عاتب النبي صلي الله عليه وسلم في مواطن كثيرة من كتابه، منها:

أ- عتابه على أخذ الفداء في أسرى بدر، وذلك في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الأنفال:67-68] .

فعاتب الله نبيه على فعله بأخذ الفداء من الأسرى، ويدخل في ذلك سائر من رأى هذا الرأي، ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روى مسلم بسنده عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه لما استشار الصحابة في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى

ص: 161

الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا، والله يار سول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان "نسيباً لعمر" فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله صلي الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يارسول الله أخبرني عن أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم:"أبكي للذي عَرَضَ عَلَيّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من نبي الله صلي الله عليه وسلم- وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} "1"

وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر"."2"

فكيف يمكن لعاقل أن يقول إن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم، وهو هنا يرد اجتهاد نفسه، ويحكم بأن الصواب هو ما قاله أحد أصحابه، ويتهدد بالعذاب، وأليم العقاب.

لا يمكن لعاقل أن يقول إن صاحب هذا النص الذي يتهدد بالعذاب، بسبب الحكم، هو نفسه المجتهد في الحكم، وهو النبي صلي الله عليه وسلم، والذي كان يبكي من الخوف من عقوبة الله بسبب ذلك الحكم.

"1" م. الجهاد والسير، رقم"1763"،"3/1385"،حم"1/31".

"2" عزاه السيوطي في الدر المنثور "4/108" إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 162

ب-عتابه في قصة الأعمى.

وذلك في قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ، وَهُوَ يَخْشَى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] .

فقد ذكر في التفسير أن النبي صلي الله عليه وسلم كان منشغلاً ببعض كبار قريش يدعوهم إلى الإسلام، وهو حريص على هدايتهم، وجاءه ابن أم مكتوم، وكان كفيفاً، وكان مسلماً يسأله عن آية أو مسألة، ويلح عليه، فكره رسول الله صلي الله عليه وسلم ذلك، وعبس في وجهه رجاء إسلام ذلك الرجل، أو أولئك الرجال، وهذا حال يشعر كل إنسان أن الأولى بالاهتمام هو ذلك الذي لم يسلم، وهو من عظماء القوم رجاء أن يسلم بإسلامه الناس، أو في إسلامه إنقاذ له من النار، أما المسلم فمسألته لا تفوت، وليس عليه خوف من النار، فكان موقف النبي صلي الله عليه وسلم هو الموقف الذي سيقفه أي إنسان في مثل ذلك الموقف، إلا أن الله العليم الخبير والكريم الرحيم عاتب نبيه صلي الله عليه وسلم على ذلك الموقف عتاباً شديداً، ونبهه إلى خطئه عليه الصلاة والسلام في عبوسه في وجه المسلم، ونبهه إلى حكم عظيمة ودقائق جليلة غفل عنها عليه الصلاة والسلام، فانتبه النبي صلي الله عليه وسلم لذلك، وخضع لأمر ربه، فكان يكرم ذلك الأعمى."1"

فهل عاقل يقول إن الذي عبس قبل قليل في وجه الأعمى، وكره مسألته، وحرص على إكمال الحديث مع أولئك الأكابر من قريش هو الذي عاتب نفسه بعدها بقليل، وأنبها، وأظهر خطأه فيما فعل؟ لا شك أن من قال ذلك فإنه لا يشعر بما يقول، ولا يفقه شيئاً مما يقول، وهذا حقيقة حال المكذبين.

"1" انظر: تفسير ابن جرير "30/50"، تفسير ابن كثير "4/426".

ص: 163

ج- قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها.

من المعلوم أن زينب رضي الله عنها كانت زوجة لزيد بن حارثة، الذي كان تبناه النبي صلي الله عليه وسلم، إلى أن منع الله التبني في قوله {أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الأحزاب:45- 46] .

ثم إن زيداً رضي الله عنه لم تطب له عشرة زينب، فرغب في طلاقها، فشاور الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه الرسول صلي الله عليه وسلم بإمساكها، مع أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يعلم أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له، وكان هذا شديداً على نفس النبي صلي الله عليه وسلم، من حيث كان زيد يدعى ابناً له، فيقول الناس عنه إنه تزوج زوجة ابنه، فكان يخشى كلام الناس في ذلك "1"، إلا أن الله تعالى الذي أراد ما أراد لحكمة بالغة ورحمة عظيمة ألزمه أن يقول ذلك، وأنزل عليه في ذلك قرآناً يتلى إلى يوم القيامة في القضية ليعلمها القاصي والداني، فقال تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37] .

فأعلن الله الأمر على الملأ، وتولى إنكاح زينب، وكافأ الله تعالى زينب على طاعتها لربها ورسوله بالموافقة على الزواج من زيد، وهو الذي كان مولى للرسول صلي الله عليه وسلم، وهي العربية القرشية، وأبطل الله ما كانوا يحرمونه من زواج مطلقة المتبني، وفي هذا إبطال للتبني وإلغاء له من جميع الوجوه.

"1" انظر الرواية في ذلك عند ابن جرير "22/13" من رواية علي بن الحسين، وهي الرواية التي

رجحها وأخذ بمعناها ابن كثير في تفسيره "3/458"، ولا أرى أنه يصح غيرها، والله أعلم.

ص: 164

لهذا قال أنس رضي الله عنه، وكذلك عائشة رضي الله عنها:"لو كان رسول اللهصلي الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} "1"

فهل يمكن أن يقول قائل إن الرسول صلي الله عليه وسلم هو الذي كشف هنا عما يعتمل في نفسه من المعاني والتخوفات، التي كان يتخوفها صلي الله عليه وسلم.

رابعاً: أن القرآن الكريم حوى علوماً وأخباراً لا يمكن للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بمثلها القرآن كلام الله تعالى المعجز، والذي تحدى الله به الإنس والجن. قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] .

فقد حوى القرآن دلائل صدقه، وصدق من جاء به، وتكفل الله بإظهار ذلك على مر الزمان وكر العصور والدهور. قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:54] .

وهذه الرؤية هي من الله تعالى، بمعنى أن الشيء يكون أمام الإنسان، ولا تنفتح عينيه عليه، فمن تفضل الله عليه كرماً منه ولطفاً رأى ببصر وبصيرة، ومن لم يتكرم عليه رأى ببصر بدون بصيرة.

وبين الله تعالى لنا أن ذلك لأجل أن يتضح لهم {أَنَّهُ الْحَقُّ} ، أي القرآن في كلام أكثر المفسرين. "2"

"1" أخرجه. خ. في التوحيد رقم"7420"، انظره مع الفتح"13/403"،م. في الإيمان رقم"288"،"1/160".

"2" انظر: تفسير ابن كثير "4/106"، روح المعاني للألوسي "25/6".

ص: 165

فمعنى هذه الآية أن الله سيطلع الناس في كل زمان على دلائل وبراهين صدق رسوله، في أن القرآن حق من عند الله، فيؤمن ويسلم من أراد الله هدايته، وتقوم الحجة على من عمي عنها، لأن هذه هي الغاية من بعث الرسل، وإنزال الكتب، وإظهار المعجزات، سواء الحسية أو العلمية أو البلاغية.

قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . [النمل [91 -92] .

روى الطبري عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ

} قال: "في أنفسكم والسماء والأرض والرزق"."1"

وقال ابن كثير:" أي الحمد لله الذي لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه والإنذار إليه، لهذا قال تعالى {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} "2"

وقال شيخ الإسلام بعد أن بين أن الله تعالى يدل عباده بما يسمعونه ويبصرونه، فالسمع يسمع به العباد آيات الله وبراهينه المتلوة المنزلة على أنبيائه، وفيها دلالات واضحة على صدق رسله، أنهم رسله تعالى.

أما البصر فهو: الطريق العياني، فهو أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية، ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته الرسل عن الله حق، كما قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:[54] ."3"

"1" تفسير الطبري "20/18".

"2" انظر: تفسير ابن كثير "3/380".

"3" مجموع الفتاوى "14/189".

ص: 166

ولابد هنا أن نعلم أن الهداية للدين والإيمان والبصيرة في آيات الله منحة من الله، يحرم منها من ليس أهلاً لها من المتكبرين الفاسقين. قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] .

وقد رأى أعداء الله من المكذبين للرسل، كقوم صالح وفرعون وغيرهم الآيات العديدة، فلم يؤمنوا، وقالوا: سحر مبين، ونحو ذلك من التبريرات التي لا تغني عن أصحابها شيئاً.

ونشير هنا إلى أمرين مما حوى القرآن الكريم لا يمكن للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بهما من عند نفسه، ولا أن يأتي بهما بشر، بل فيهما برهان أن القرآن من عند الله:

ص: 167

أولهما: الإعجاز العلمي.

الإعجاز العلمي: المراد به أن الله أخبر بحقائق علمية ليس في طاقة النبي صلي الله عليه وسلم، بل ولا أحد من أهل زمانه أن يعلمها، إلا أن الله تعالى العليم الخبير قد أخبر بها في القرآن الكريم، لكي يكون في ذلك آية متجددة على مر الزمان تدل على أن القرآن من عند الله تعالى.

وقبل أن نذكر شيئاً من الإعجاز العلمي على سبيل الاختصار، نبين الضوابط التي ذكرها العلماء في تفسير الآيات القولية المتعلقة بالآيات الكونية الخلقية، وهي:

1-

أن القرآن الكريم ليس كتاباً للعلوم الدنيوية، بمعنى أنه ليس كتاب فلك ولا كتاب طب ولا كتاب هندسة ونحوها، وإنما هو كتاب هداية للإيمان وطاعة الرحمن. قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، وقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:1] .

-أن يقتصر على الحقائق العلمية في تفسير الآيات، وهي التي ثبتت بالمشاهدة أو بالتجربة أو بالبرهان القاطع، ولا يأخذ بالنظريات والفرضيات، وذلك لأن النظريات قد تتغير، كنظرية دارون في أصل الأنواع، وكذلك تكون الكواكب ونحوها، وهذا التغير والتبدل ينعكس على فهم النص القرآني، فقد يؤدي إلى تكذيب القرآن وجعله تبعاً للفهوم الباطلة ـ أما الفرضيات فهي أسوأ، لأنها لاتعدو أن تكون تخميناً، كفرضية وجود أحياء على الكواكب الأخرى ونحوها.

3-

أن لا يتعسف في تفسير الآيات ويلويها لتوافق ما يرى أن الآية تدل عليه.

ص: 168

4-

أن يقرر أن هذا حسب فهمه للنص، ولا يلزم من ذلك أن هذه حقيقة النص، لأن نصوص القرآن من علم الله، ولا يحيط بعلم الله أحد، وقد يكون بدا للناظر فيها وجه ووجه من الحقيقة العلمية التي يريد أن يطبق عليها الآية، وقد يكون وراءها مناحي كثيرة لا يعلمها هو، كما أن لغة القرآن لغة استخدمت الألفاظ الجامعة التي تحيط بكل المعاني الصحيحة، فحصرها في معنى واحد من المعاني تحكم ما لم يرد نص قاطع في المعنى المقصود من المعصوم صلوات الله وسلامه عليه."1"

بعض الآيات التي ذكرت الحقائق العلمية:

يذكر العلماء في فنون كثيرة ممن اهتموا بهذا الباب من مسلمين وغيرهم آيات كثيرة ومتنوعة وردت في فنون شتى من العلوم، فمنهم الفلكيون والأطباء، وعلماء الآثار والتاريخ، وعلماء طبقات الأرض، وغيرهم.

يقول الدكتور موريس بوكاي، وهو مستشرق فرنسي، صاحب الكتاب المشهور"القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم"، وكان قد تعلم العربية ليطلع على نص القرآن الكريم مباشرة، بدون الترجمات المغلوطة والحاقدة من كثير من المترجمين، فبناءً على ذلك قال:

"لقد أذهلني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات – يعني الظواهر الطبيعية- وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا من النص الأصلي، أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد صلي الله عليه وسلم أن يكون عنها أدنى فكرة،

ثم قال: إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة، هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم

1 تأصيل الإعجاز العلمي ص26،مباحث في إعجاز القرآن ص171.

ص: 169

الحيوان وعالم النبات والتناسل الإنساني. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ، وقد دفعني ذلك لأتساءل: لو كان كاتب القرآن إنساناً كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة. ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً النص الأول "."1"

فمعنى ذلك أن النصوص القرآنية المتعلقة ببعض الظواهر الطبعية أو الخلقية ونحوها، لا يمكن معرفة حقيقة المقصود بها إلا بالآلات الحديثة، والتي لم تتوفر إلا في هذه الأزمان المتأخرة، وهذا فيما لم يفسره النبي صلي الله عليه وسلم.

وبسبب هذا سنكون متطفلين على أهل الإختصاص، نذكر ما قالوا فيما هو من علمهم في هذا الباب، ونعرض الآيات المحققة والمؤكدة لهذا المعنى، ليكون ذلك دليلاً على إعجاز القرآن العلمي، وآية على أنه الحق، وأنه من عند الله، وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم آتاه الله القرآن، وأنه الرسول صلي الله عليه وسلم هو رسول رب العالمين.

فمن ذلك:

1-

كروية الأرض:

صرح الله تعالى بكروية الأرض تصريحاً واضحاً في آيات عدة، مثل قوله تعالى:{خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار} [الزمر:5] .

والتكوير: هو اللف والإدارة "2"، ولا يمكن بحال أن تكون الأرض منبسطة انبساطاً تاماً بدون تكوير فيها، ثم يتكور الليل على النهار، لأن انبساط الأرض

"1" القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم،ص145.

"2" قال الراغب: كور الشيء إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة. المفردات، ص433.

ص: 170

يلزم له أن يكون إشراق الشمس على الأرض كلها في لحظة واحدة، ثم تغيب عن الأرض كلها، فتكون الأرض كلها قريب اثنتي عشرة ساعة في ظلام دامس، وهذا غير واقع وغير صحيح، أما إذا كانت كروية فإن معنى ذلك أن النهار يدفع الليل، والليل يدفع النهار، فكلما ظهرت الشمس على جهة دخل الليل على الجهة المقابلة، وهكذا فهذا صريح في تكوير الأرض.

وهذا يخالف ما كان فهمه كثير من العلماء، من أن الأرض ممتدة مبسوطة، وليست مكورة مستدلين على ذلك بقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} . ويذكر بعض العلماء أن في هذه الاية دليلاً صريحاً على كروية الأرض، وذلك أنها لو كانت مبسوطة كسطح الطاولة مثلاً فإنه لا يمكن أن تمتد، وإنما سيتوقف الماشي عليها والسالك فيها بخط مستقيم، حين ينتهي إلى حافتها ونهايتها، أما مع تكويرها فإنك إذا سلكت أي اتجاه فإنك لا تصل إلى نهاية ولو مشيت عمرك كله، لأنك تستدير عليها."1"

2-

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:53] .

وقال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] .

اختلف المفسرون في بيان الحاجز بينهما، فقيل: هو اليابسة، كما ذكر ذلك ابن جرير عن ابن عباس، وعن الحسن البصري، وهو الذي رجحه ابن كثير، وقال:" برزخاً أي حاجزاً، وهواليبس من الأرض.

"1" انظر بتصرف: وجود الله بالدليل العلمي والعقلي، ص34، مباحث في إعجاز القرآن، ص187.

ص: 171

وقيل: إن الحاجز شيء غير مرئي يمنع امتزاج أحدهما في الآخر بعد التقائهما. قال مجاهد: {وجعل بينهما برزخاً} ، قال: حاجزاً لا يراه أحد لا يختلط العذب في البحر.

وقال ابن جريج: فلم أجد بحراً عذباً إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض. وهذا ما رجحه ابن جرير رحمه الله."1"

ومع أن القول ألأول وجيه من ناحية إثبات أن اليابسة حاجز من طغيان الماء المالح الكثير على مياه الأنهار القليلة بالنسبة لمياه البحار، إلا أن القول الأخير هو الأظهر والأقرب لمعنى الآية، لأنه نص على الإختلاط، وأنه جعل بينهما برزخاً حال الإختلاط، فلا يبغي أحدهما على الآخر.

وهذا ما أثبته العلم الحديث، من أن مياه الأنهار عند مصباتها تشكل بحيرات خاصة بها، وتعيش في تلك البحيرات كائنات حية لا تستطيع الخروج منها، فهي حجر محجور.

بل إنهم نصوا على أن: البحار نفسها إذا اختلط بعضها مع بعض كالبحر الأحمر مع المحيط أو غيره، فإن لكل بحر منها خواصه وتركيباته المختلفة عن تركيب البحر الآخر، وتشكل هذه الخصائص حاجزاً يمكن من خلالها تمييز كل بحر عن الآخر."2"

وفيما ذكر من الحاجز دليل على أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند النبي صلي الله عليه وسلم، فإنه قد عاش عليه الصلاة والسلام في جزيرة العرب، بين مكة والمدينة، ولا

"1" انظر: تفسير ابن جرير "19/25"،تفسير ابن كثير "3/302".

"2" انظر: مباحث في إعجاز القرآن، ص207.

ص: 172

يجري أي نهر من الأنهار في الجزيرة كلها، ولا ركب في حياته عليه الصلاة والسلام البحر، لينظر في خواصه ومصاب الأنهار فيه، فلا شك أن الذي علمه ذلك، وأخبره به هو الذي أنزل عليه القرآن وهو العليم الخبير.

3-

التناسل الإنساني:

إن موضوع خلق الإنسان، وتطور خلقه في بطن أمه قد ورد في آيات عديدة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً

} [الحج:5] .

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14] .

وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7-8] .

وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، َلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:3640] .

فهذه الآيات متعلقة بخلق الإنسان، وغيرها كثير مما ذكره العلماء ودرسوه. وهنا ننبه على أشياء من هذا، إذ لا يمكن استيعاب الكلام عن هذه المعاني، فنقول:

إن الإعتقاد السائد في خلق الإنسان قبل نزول القرآن على أنواع، فأرسطو الذي كان قبل الميلاد كان يرى أن الجنين موجود في نطاف الرجل كامل الخلقة، فإذا دخل في رحم المرأة نما في رحمها.

ص: 173

ثم عدل عن ذلك، وقال: إن الجنين يتشكل في دم الحيض، فإذا جاء المني من الرجل عقده، بمعنى أثر فيه، بحيث يبدأ يتشكل ويبرز.

ثم سادت في القرن السابع عشر الميلادي نظرية مفادها أن الجنين موجود في بيضة الأنثى، لأنهم كانوا اكتشفوا البويضة بالمجاهر قبل ذلك، في حدود عام 1672م. ثم إن النطاف الذكر يؤثر في ذلك الجنين فينشطه للتطور.

ثم أول من عرف من الغربيين دور كل من نطفة الرجل وبويضة المرأة في تكوين الجنين هو العالم "هير تونغ" عام 1875م، ثم تعرف العالمان "بونري ومورحان" عام 1912م على الصبغيات، وما تحمله من مورثات، وأنها موجودة في نطفة الذكر وبويضة الأنثى، التي تحمل صفات الآباء إلى الأبناء.

هذه المعلومات التي لم يتوصل لها العلم الحديث إلا بواسطة المجاهر والتحاليل والتصوير، إلى غير ذلك من الإمكانيات الحديثة، والتي تحتاج إلى متخصصين من أعلى المستويات، قد جاء بها القرآن الكريم، ولم يكن للناس علم بها، بل علم أكثرهم كان أن الجنين يتكون من دم الحيض، فلهذا كانوا يحملون المرأة نوع الجنين ذكراً أو أنثى، إلا أن هذه المعلومات الخاطئة صححها الله تعالى، وأعطى في ذلك معلومات صحيحة، كما أعطى مسميات دقيقة لمراحل خلق الإنسان، التي لايمكن بحال أن تعرف إلا بأحد أمرين:

إما من العليم الخبير، الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الخالق الموجد، وإما بواسطة المشاهدة والمعاينة من أهل الإختصاص في هذا. وهذا لم يتحقق إلا في العصر الحديث، ولم يكن حدث من قبل، وقرر العلم في هذا:

أن الجنين يتخلق من نطفة الرجل والمرأة سوياً، ولا يمكن أن يتخلق ما لم يلتقي الحوين المنوي للرجل ببويضة المرأة. وهذا قول الله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} والأمشاج: الأخلاط، والبعض يرى أن ذلك

ص: 174

الأمشاج هو حيوان الرجل المنوي وبويضة المرأة، وبعد الإختلاط يبدأ التكون، وقبله لا يمكن أن يبدأ تكون الجنين.

كما قرر القرآن أن نطفة الرجل هي التي تحمل الذكورة والأنوثة، وهي التي تتحكم في نوع الجنين، وذلك في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .

والنطفة التي تمنى هي من الرجل، وليس من المرأة. وقد ثبت بالعلم الحديث أن الحيوان المنوي للرجل يحمل نوعين من الحيوانات المنوية، فنصفها حيوان منوي مذكر يحتوي على "23" كروموسوم أي صبغي، يرمز له بحرف "Y"، والنصف الآخر يحمل "23" كروموسوم أنثوي يرمزون له بحرف "x"

ولكل من النوعين شكله الخاص وصفاته الخاصة، أما الأنثى فبويضتها تحتوي على "23" كروموسوم أنثوي المرموز له "x"فقط.

فإذا سبق الحيوان المنوي الذي يحمل كروموسوم الذكورة "y"، فلقح البويضة، صار في البويضة النوعين الأنثوي والذكري، فيكون الجنين ذكراً بإذن الله، ويحمل في جسمه النوعين، وبعد أن يصبح ذلك الجنين بالغاً ينتج جسمه النوعين، أما إذاسبق الحوين المنوي المؤنث، الذي يحمل الكروموسوم "x" ولقح البويضة اجتمع فيها أنثوي مع أنثوي "x x"، فيكون أنثى بإذن الله، ثم لا تنتج بعد أن تبلغ إلا نوعاً واحداً، وهو الأنثوي. والله أعلم.

كما قرر العلم أن الرجل في القذفة الواحدة يقذف ما يزيد عن "200" مليون حوين منوي، نصفها مذكر، ونصفها الآخر مؤنث.

وأن الذي يفوز بتلقيح البويضة واحد من تلك الملايين فقط، وهو الذي يلج إلى داخل البويضة ويلقحها، ويكون به الحمل بإذن الله، أما الباقي فيهلك ولا يكون له أي دور بعد."1"

"1" انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص110-138، روعة الخلق أسرار كينونة الجنين، ص41-49.

ص: 175

وهذا ما يشير إليه صراحة قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} . والسلالة هي: الشيء المستل المأخوذ من مجموعة."1"

وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .

فالنطفة هي الشيء القليل من المني "2". وقد أكد هذا ع ليه الصلاة والسلام بقوله - لما سئل عن العزل-:"ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء"."3"

ومما قرر العلم في هذا أن البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي من الرجل، تذهب إلى جدار الرحم فتعلق به، بمعنى أنها تنغرس فيه، وتبدأ تتغذى من الأوعية الدموية التي فيه، ثم تبدأ مرحلة التخلق.

وهذه العلقة، وهذه الحالة، هي الموصوفة في القرآن في مواطن كثيرة، ولا يمكن لأحد مهما أوتي من العلم قبل عصر الإكتشافات العلمية أن يطلع على هذه الحالة وهذه الصورة، إلا من كشف الله له عن علم الغيب وعلمه من لدنه تبارك وتعالى.

كما قرر العلم أن العلقة بعد ذلك تبدأ تخرج لها شبه أطراف، فتكون كقطعة اللحم الممضوغة، وهذه اللحمة الممضوغة يتكون منها شيئان: الشيء الأول: أعضاء الجنين، والتي تشكل الجنين فيما بعد، والشيء الثاني: المشيمة، التي ينمو داخلها الجنين، وهي تحمي الجنين وتغذيه بواسطة الحبل السري المتصل بها والمتصل بالجنين.

وهذا ينطبق تماماً مع قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} ، وقوله تعالى:{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . فالمخلقة هي ما يتكون منه

"1" انظر: تفسير القرطبي "12/109".

"2" تفسير القرطبي "12/6".

"3" م. النكاح، باب العزل، رقم"3539"، انظره مع شرح النووي "10/254".

ص: 176

الجنين، وغير مخلقة هي المشيمة وما يتبعها من الماء الذي يسبح فيه الجنين، وهو ليس مخلق ولا شأن له من هذه الناحية بالجنين.

ثم بعد ذلك يبدأ تكون العظام، ثم يكسوها اللحم حتى يكون طفلاً يخرجه الله تعالى "1"، فإما يؤمن بعد هذا أو يكفر نسأل الله العافية.

إن من يدعون أن محمداً صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عند نفسه فليبينوا كيف له ذلك، وأنى له ذلك، وهو كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .

إن المعلومات الموجودة في القرآن لا يمكن لبشر مهما أوتي من العلم أن يأتي بها بحال من الأحوال، حتى ولو توفرت له الأجهزة والآلات التي وجدت في العصر الحديث، وذلك لسبب واضح، وهو أنه لا يمكن للإنسان أن يحيط علماً بكل أنواع هذه العلوم المتنوعة الموجودة في القرآن، فالإنسان يمكن أن يكون فلكياً، ويمكن أن يكون عالما بطبقات الأرض ـ ويمكن أن يكون مؤرخاً، ويمكن أن يكون طبيباً أولغوياً، ونحو ذلك، لكنه لا يمكن أن يجمع هذه العلوم كلها.

ومن المحقق أن الذين تحدثوا عن إعجاز القرآن، ونبهوا على ذلك هم ذوي مستويات عالية في تخصصاتهم، وكل تحدث في تخصصه، وإذا أراد أن يتحدث في تخصص آخر نقل عمن هو متخصص في هذا الشأن.

فمن هنا نقول إنه لا يمكن لبشر مهما بلغ من العلم أن يأتي بهذه المعلومات والمعارف المتنوعة ويسوقها بهذا السياق، الذي يهدف إلى تأسيس اليقين وتقوية الإيمان والإقبال على طاعة الرحمن، في سياق متسق، وهدف واضح لا يتغير، وكلام منضبط لا يختلف، ومعلومات محددة دقيقة لا تخطيء.

"1" انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص197-295، روعة الخلق أسرار كينونة الجنين، ص64-108.

ص: 177

إنه لا يمكن بحال من الأحوال كما قلنا لأعلم أهل الأرض أن يأتي بمثل هذا القرآن، وهذه المعلومات، فكيف برجل أمي عاش أربعين سنة بين أهله وعشيرته، لم يخرج من مكة إلا في رحلتين: إلى الشام في التجارة، وذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، لو جمع علم أهل الأرض كلهم في ذلك الزمان ما استطاعوا تحصيل شيء من العلم المذكور في القرآن، أقصد من الناحية العلمية، فضلاً عن غيرها.

ومن المعلوم والمتيقن أنه لا يمكن لأحد أن يتعلم علماً من العلوم إلا ويعرف الناس سعيه إلى ذلك العلم وتردده على ذلك العالم، أو تلك المدرسة، أو تلك الكتب يتعلم منها، فهذا ليس من العيب حتى يخفى، بل هو من الشرف، ولابد من ظهوره، فالعلم لا يتحصل عليه الإنسان بين عشية وضحاها، بل لا بد من إنفاق الأيام والليالي والشهور والسنين فيه.

فمن هو ذا المعلم الذي تعلم منه النبي صلي الله عليه وسلم؟ لاشك أنه لا يوجد له معلم من البشر، ولا يمكن أن يوجد، بل هذا مستحيل تمام الإستحالة، فلم يبق إلا العليم الخبير، بواسطة أمينه جبريل، كما قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِي ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:92-94] .

ونختم هذا بقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:22] .

هم كما سبق أن ذكرنا إنما يريدون عدم الإيمان، ولا يريدون الإيمان، ويريدون الدنيا وما يهوون، فليس لهم سبيل إلا التكذيب، أو دعوى التكذيب.

فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ونسأل الله تعالى المزيد من الهداية والثبات عليه إلى أن نلقاه تبارك وتعالى وتقدس.

ص: 178

ثانيهما: إخباره عن أشياء من المستقبل:

إن الزمان ثلاثة أحوال: ماض وحاضر ومستقبل، أما الماضي فعلمه ممكن من خلال دراسة التاريخ، أما الحاضر فمعرفته مبنية على المشاهدة والسماع والمعايشة. أما المستقبل فلا يمكن لأحد معرفته، إذ هو من علم الغيب، ولا يدري عنه أحد شيئاً إلا الله تعالى، أو من علمه الله جل وعلا.

وسنشير في إختصار إلى أشياء مما ذكر الله تعالى في القرآن 1من أمور المستقبل2، التي لا يعلمها إلا من علمه العليم الخبير.

1-

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} البقرة: [23-24] .

فهذه الايات صريحة في التحدي - وليس هذا فقط-، بل قطعت بالعجز حتى عن المحاولة في الحاضر والمستقبل، وأنهم لا سبيل لهم إلى ذلك، وهذا الذي كان، فلم يعرف أن أحداً استطاع أن يأتي بسورة من مثل القرآن، ويصدق ذلك على أقصر سورة فيه، وهي الكوثر، وهي تتألف من عشر كلمات فقط، ولا يعني ذلك أن يزن أحد على وزنها عشر كلمات كما كان يفعل مسيلمة الكذاب، فيما قيل عنه إنه عارض سورة الفيل، فقال "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاق وحشا"."3"

"1" لقد ورد في السنة أشياء كثيرة من الاخبار بالأمور المستقبلة، مثل ما سيحدث لأهل الإسلام سواء من الصحابة أو من بعدهم، وكذلك أشراط الساعة ونحوها الشيئ الكثير مما وقع كثير منه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم"وانما قصرنا الأمثلة في هذه المباحث على القرآن الذي قصد الكلام عنه في هذه.

"2" من الدلائل على صدق الرسول أيضاً أخبار الماضي والحاضر التي لا يعلمها من قبل، ولكنا اقتصرنا على المستقبل طلباً للإختصار،ولأن الإستدلال به أقوى من الاستدلال بالأخبار الماضية، أو الحاضرة، وانظر في ذلك: النبأ العظيم، ص36 وما بعدها.

"3" انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص173.

ص: 179

فهذا كلام فارغ لا معنى له، وإنما عليه أن يأتي بالخبر الصادق، والتشريع الصحيح، والعلم النافع، وسائر ما يتصف به النص القرآني، ويكون ذلك في قالب من الكلمات بليغ، مؤثر في النفوس، آخذ بمجامع القلوب والألباب، فأنى لأحد من البشر ذلك.1

والمهم من ذلك كله أنه لم يعارض القرآن أحد معارضة صحيحة، ولم يتقدم إلى ذلك أحد على تعاقب الليالي والأيام، واستمرار الكفار وتتابعهم في العداء لهذا الدين، وابتغاء اندحاره، والاجتهاد في حربه بكل وسيلة ممكنة، ومع ذلك كله عجزوا عن أن يأتوا بمثل سورة من القرآن، فمن أخبر النبي صلي الله عليه وسلم ذلك؟ ومن أعلمه بذلك؟، ومن أين للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بشيء لا يستطيعه الأولون ولا الآخرون؟! هذا لا يمكن أن يكون إلا من الله العليم الحكيم.

2-

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] .

وقد حقق الله لنبيهصلي الله عليه وسلم وأصحابه وأمته من بعده ما وعد، ففتحت البلاد، ودخل الناس في دين الله، وتمكن الدين، وتبدل الخوف أمناً، وانتشر دين الله في الأرض، حتى بلغ في أقل من مائة سنة هجرية حدود فرنسا من الغرب، وحدود الصين من الشرق "2".

فمن أين للنبي صلي الله عليه وسلم علم ذلك؟

3-

قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ

"1" انظر: النبأ العظيم، ص80-106.

"2" انظر كلام ابن كثير في تفسيره "3/282".

ص: 180

بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:4-8] .

لقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآيات أن المرتين قد وقعتا على بني إسرائيل، وعلى هذا أكثر المفسرين. ويجعلون المرة الأولى هي قضاء بختنصر عليهم، وذلك قبل الميلاد بما يقارب 586سنة، والأخرى قضاء الرومان عليهم، وذلك في حدود 70م أو 135م ولهم أقوال أخرى نحو ذلك.

ولكن الناظر في التاريخ، وما ذكره اليهود من تاريخهم في كتابهم يتبين أنه بعد قضاء بختنصر عليهم سنة 586ق. م لم تقم لهم قائمة، ولا قامت لهم قوة البتة، وإنما وقعوا تحت الإستعمار، كما هو في التعبير الحديث، فكانوا أولاً تحت حكم البابليين، ثم الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، الذين طردوهم في سنة 135م من فلسطين وشردوهم منها إلى هذا الزمن، الذي بدأوا يتجمعون فيه.

ومنذ سقوط فلسطين بيد البابليين في حدود سنة 586ق. م، لم تقم لليهود قوة ولا دولة، سوى دويلة ضعيفة هزيلة أيام المكابيين بعد المسيح عليه السلام، حيث قام مجموعة منهم، واستطاعوا أن يتحرروا من قبضة الرومان قليلاً، إلا أن الرومان جمعوا لهم جمعاً قوياً، ووطئوا به ديارهم، وقضوا عليهم قضاءً شبه مبرم، ودمروا بيت المقدس، الذي كانوا قد أعادوا بناءه قبل المسيح عليه السلام، وأزالوا كل آثاره، ولم يبقوا لهم إلا جداراً غرب بيت المقدس. وسمح لهم الحاكم الروماني أن يعودوا إلى بيت المقدس يوماً واحداً في السنة عند ذلك الجدار يبكون يتذكرون ما فعله بهم."1"

"1" انظر: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، ص290-381، أبحاث في الفكر اليهودي، ص36-38، قصة الحضارة،"3/4"، ودراسات في الأديان، ص44-47.

ص: 181

ومن المعلوم والمتيقن أن بعض فلولهم جاءوا إلى جزيرة العرب، واستوطنوا مناطق فيها في المدينة وفدك وخيبر، وكونوا لأنفسهم بذلك قوة، إلا أن الله سلط رسوله على تلك القوة، فدمرها، ولم يتوف النبي عليه الصلاة والسلام ولليهود قوة قائمة في الأرض.

وهذا فيما أرى الذي جعل كثيراً من علماء المسلمين يقررون أن المرتين من القضاء المحتم على بني إسرائيل قد وقعتا.

ولكن من أدرك العصر الحاضر، ورأى انقلاب الحال، ورأى تمكن اليهود من العودة إلى فلسطين، وقيام مملكتهم فيها، وأنهم صار لهم فيها قوة مالية وعسكرية، وما تحقق لهم من تبعية أو نصرة كثير من الدول القوية في هذه الأزمان، حتى أنهم لو استنفروا تلك الدول، لقامت معهم، من رأى هذا أدرك معنى قوله تعالى:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} .

تتحقق لهم خلال تاريخهم بعد الهلاك الأول على يد بختنصر إلا في هذا الزمن، وقد أخبر به العليم الحكيم.

ومن الجدير بالذكر أن بختنصر، ومن معه من البابليين يعتبرون من العرب، ثم إن الكرة ارتدت لليهود على العرب في هذا الزمن، وهذا حقيقة المواجهين لليهود، وأنهم معتزون بعروبتهم، ولا يتكلمون مع اليهود باسم الإسلام ولا المسلمين، والله أعلم بمعنى كلامه.

إلا أن في كلام الله تعالى بشارة واضحة صريحة، لا تقبل الجدل، وهي قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} .

فالآخرة المقصود بها المرة الأخيرة، او الثانية من علوهم وفسادهم، وقوله.

ص: 182

{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} صريح في أن الذين دخلوه أول مرة هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "1"،وسيدخله المسلمون في الوقت الذي يشاء الله مرة أخرى، ويكون بذلك دمار اليهود وهلاكهم، كما تشير إلى ذلك الآيات السابقة، وكما هو صريح قول النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيما روى أبو هريرةرضي الله عنه:" لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد "2" فإنه من شجر اليهود "."3"

فوقوع هذا من اليقين الذي لا يقبل الشك بحال من الأحوال، ولكل أجل كتاب.

فمن هنا نقول إن مثل هذه المعلومات لا يمكن أن يعلمها الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما أخبره بها الذي قدر وقوعها، وجعل لها أجلاً لا بد منه، ولكل نبأ مستقر.

"1" البداية والنهاية،"7/52".

"2" الغرقد:شجيرة تسمو من متر إلى ثلاثة أمتار، من الفصيلة الباذنجانية، ساقها وفروعها

بيض تشبه العوسج في أوراقها اللحمية وفروعها الشائكة وأزهارها الطويلة العنق، عبقة

الريح، بيضاء مخضرة، وثمرتها مخروطية تؤكل، وتسمى أيضاً "الغردق". انظر: المعجم

الوسيط، ص651.

"3" أخرجه:م. الفتن، رقم "7268"، انظره مع شرح النووي "18/252".

ص: 183