الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
إبطال دعوى أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم قد استفاد القرآن من اليهود والنصارى زعم بعض المستشرقين كما ذكرنا سابقاً أن النبي صلي الله عليه وسلم استفاد القرآن أو أشياء منه من اليهود والنصارى، وهذا كلام يضحك من قائله الصبيان، ويسفه صاحبه كل ذي بصيرة وعرفان. ونبين بطلانه من وجوه:
أولاً: أن المستشرقين اقتفوا أثر المشركين، الذين نسبوا القرآن إلى أناس من النصارى، وقد رد الله على المشركين الذين ادعوا ذلك، وهو رد على كل من ادعى هذه الدعوى بعد، وذلك في قوله تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:101-103] .
فمن الدليل الواضح على كذبهم في دعواهم أنهم عزوا القرآن إلى عاجز عن العبارة الفصيحة لعجمته، فهم كمن يعزو صنع لوحة فنية إلى مقطع اليدين، أو من يعزو قصيدة عصماء إلى أخرس أبكم.
ثانياً: أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون أخذ القرآن من اليهود والنصارى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يلق اليهود، ولم يحتك بهم احتكاكاً مباشراً إلا بالمدينة، فعاداه اليهود، فقابلهم النبي صلي الله عليه وسلم بعداء مثله. وأخرجهم لما نقضوا عهودهم معه، وقاتلهم في جميع المواطن حتى قضى عليهم، وذلك بعد أن كفرهم الله ولعنهم، وأنزل الله تعالى على نبيه فيهم آيات تتلى في ذلك، ومنها: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
أما النصارى فقد كفرهم الله تعالى، وكفرهم رسوله، ووصف قولهم ودعوتهم بأنها من أقبح الأقوال وأفسدها في الله تعالى، وذلك في قوله جل وعلا {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:89-92] .
بل دعاهم النبي صلي الله عليه وسلم للمباهلة، كما هو معلوم في السيرة، لما جاءه وفد نجران، وكانوا نصارى، وحاجوه في عيسى عليه السلام،فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران، فلما لم يستجيبوا لدعوته أمره الله أن يباهلهم، فجبنوا عن ذلك، ورضوا أن يدفعوا الجزية."1"
وهذا إقرار منهم بنبوته، وأنه على الحق، وأنهم على الباطل. فإذا كان هذا حاله معهم، فكيف يمكن أن يكون أخذ عنهم، ولو كان أخذ عنهم فهل يمكن أن يخفوا ذلك ويسكتوا عنه وهو معاد لهم، وهم حريصون على تكذيبه ورد رسالته؟
ثالثاً: أن النبي صلي الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يمكن أن يستفيد من كتب اليهود والنصارى.
أما لو زعموا أنه حفظها منهم فإن ذلك ممتنع، لأنه لا يعرف للنبي صلي الله عليه وسلم صلة بأحد منهم لا من اليهود ولا من النصارى "2"، ولم يكن قومه من أهل العلم بكتب اليهود والنصارى، كما قال تعالى بعد أن ذكر قصة نوحعليه السلام:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] .
"1" انظر:تفسير ابن كثير "3/323-325".
"2" سوى ما ذكر عن الغلام النصراني، وقد سبق بيان بطلان الدعوى في ذلك، ثم إن علم النصارى واليهود مجتمعون لا يأتي قطرة في بحر علوم القرآن، وقد سبق ذكر كلام موريس بوكاي في الفوارق بين نص القرآن ونصوص التوراة، وسنشير إلى بعض الفوارق الأخرى في الصفحات التالية.
رابعاً: أن ما عند اليهود والنصارى من العلم الموافق لما جاء في القرآن، وذلك مثل بعض القصص الواردة في التوراة، خاصة مما يتعلق بآدم ونوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، وكذلك شيء من أخبار داود وسليمان ويونس وعيسى عليهم السلام، وكذلك أشياء من العقائد الموجودة في التوراة، كالإيمان بالله وتوحيده والملائكة والجن، ونحو ذلك.
فهذا كله دليل لنبوة النبي صلي الله عليه وسلم، لأن أولئك أنبياء، ويقر اليهود والنصارى على الجملة بنبوتهم، فما جاء في القرآن موافقاً لما ورد عند اليهود والنصارى، فذلك دليل على صدقه، وأن مصدره من نفس المصدر الذي جاء منه علم الأنبياء قبله.
وقد استدل ورقة بن نوفل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الدليل، أي بالتشابه بين ما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم وما جاء به الأنبياء قبله، كما في البخاري، أنه لما أخبره النبي صلي الله عليه وسلم خبر نزول الوحي عليه أول مرة في غار حراء، قال: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"1"، وكذلك استدل به النجاشي لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً من سورة مريم بكى، وبكت أساقفته، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي:" إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة "."2"
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن ورود هذه القصص في القرآن الكريم تصديق لها وتثبيت، لأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا تطاله الشبهة في مصدره وصحته، سوى ما يقوله أعداؤه بأفواههم، ولا يستطيعون أن يقيموا عليه أي دليل أو برهان.
فعلى هذا فالتوافق دليل على صدق الرسول صلي الله عليه وسلم، وأنه ليس مفتر كاذب، وحاشاه، لو كان أولئك الكفرة يعقلون.
"1" أخرجه. خ – بدء الوحي،رقم"3"، انظره مع فتح الباري "1/23"، م."3/1393".
"2" أخرجه حم "1/202" عن أم سلمة رضي الله عنها.
كما أنا نقول للنصارى: لو كان التشابه دليلاً على الكذب، لكان التشابه فيما عزوه إلى عيسى عليه السلام، مما يشابه التوراة دليلاً على كذب عيسى عليه السلام، وحاشاه.
خامساً: أن المدقق في المعلومات الموجودة في القرآن الكريم، والمعلومات الموافقة لها، الموجودة في التوراة والإنجيل يجد فوارق جوهرية أساسية، وفوارق مهمة، يتميز بها النص القرآني، ويعلو بها على سائر النصوص الأخرى، وفيها دلالة على عبث اليهود والنصارى بنص التوراة، وسلامة نص القرآن وصحته.
ومن المثال على ذلك:
1-
أنهم وصفوا الله تعالى بالنقائص.
فمن ذلك زعمهم أن الله تبارك وتعالى استراح لما خلق السموات والأرض."1"
وزعموا أن الله تبارك وتعالى يبكي "2"- تعالى الله عن قولهم، وأنه يندم "3"، وأنه يجهل "4"، ولا شك أن هذا كله تنقص لرب العزة والجلال، بخلاف النص القرآني في هذه ألأبواب، فيصف الله بالكمال المطلق.
"1" قالوا في سفر التكوين "2/2":"وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل"، وانظر أيضاً: سفر الخروج "31/17".
"2" هكذا زعموا أخزاهم الله في الدنيا والآخرة، حيث يقولون في كتابهم في سفر أرميا"13/17"
عن الله أنه قال: إن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب"، وكذلك قالوا في "14/17" "لتذرف عيناي دموعاً ليلاً ونهاراً
ولا تكفا، لأن العذراء بنت شعبي سحقت سحقاً عظيماً بضربة موجعة جداً ".
"3" قالوا في سفر الخروج "32/14""فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه".
"4" من هذا ما قالوا في قصة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، فقد جاء في سفر التكوين "3/8""وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله وقال له: أين أنت، فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني فأكلت". فكلامهم يدل على أن الله – تعالى عن قولهم- لم يعلم بآدم حين أكل من الشجرة، ولم يره حين أكل، بل لم يعلم بمكانه بعد أن اختبأ في الجنة.
بل ابتدأت كثير من السور بالتسبيح {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . والتسبيح: هو التنزيه لله تعالى عن النقص.
وأثبت السلف بناءً على نصوص القرآن والسنة اتصاف الله تعالى بصفات الكمال، التي لا يشوبها نقص بوجه من الوجوه.
2-
التوحيد.
اليهود زعموا في كتابههم أن الله تعالى إلههم وحدهم دون الناس، ووصفوه في مواطن كثيرة من كتابهم أنه إله بني إسرائيل دون الناس. وفي هذا قالوا في سفر التكوين "28/21" من قول يعقوب "يكون الرب لي إلهاً"، وفي سفر الخروج "24/10" ورأوا إله إسرائيل، وفي "29/45" اسكن في وسط بني إسرائيل وأكون لهم إلهاً فيعلمون أني أنا الرب إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر لأسكن في وسطهم أنا الرب إلههم"، وفي "32/37" فقال لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل، وفي التثنية "10/14" هوذا للرب إلهك السموات وسماء السموات والأرض وكل ما فيها ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم.
فهذه النصوص ونحوها كثير يصفون بها الله تعالى أنه ربهم ومعبودهم، وأنهم شعبه دون الناس، وليس لأحد حق في عبادته سواهم.
أما النصارى فشأنهم شيء آخر من الشرك والكفر، وعبادة غير الله تعالى، وادعاء الولد.
أما القرآن فلا شيء فيه أظهر من التوحيد، ولا أصفى منه، وأنه رب العالمين، والواجب على الخلق كلهم عبادته وحده، وهو أول أمر في ترتيب القرآن، موجه إلى الناس كافة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] .
3-
طعنهم في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وصف اليهود أنبياء الله تعالى بأوصاف قبيحة، ونسبوا إليهم فعل الرذائل والفواحش، فزعموا أن نوحاً عليه السلام سكر "1"، ووصفوا إبراهيم عليه السلام بالدياثة "2"، وزعموا أن لوطاً زنا بابنتيه "3". وحاشا الأنبياء عليهم السلام.
وغير ذلك كثير من دعاويهم التي يتيقن العاقل من الناس أن هذا لا يمكن أن يقع من أولئك الصفوة من البشر، بل إن كل أصحاب ديانة ليعظمون أئمتهم ويشعرون أنهم يجب أن يكونوا على حال كاملة، أو قريبة من الكمال، من ناحية النزاهة والترفع عن الرذائل والدنايا، فضلاً عن الأنبياء الذين كملهم الله وشرفهم.
وما ذكره اليهود ووصموا به أنبياء الله تعالى يختلف تمام الاختلاف عما في القرآن الكريم، الذي جعل الرسل عليهم السلام في قمة الكمال البشري، وخصهم بالاصطفاء.
قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ،وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
"1" انظر: سفر التكوين "9/20".
"2" انظر: سفر التكوين "12/10-20"
"3" انظر: سفر التكوين "19/30-38".
وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 83-90] .
فهذه الآيات وغيرها كثير في أولئك الصفوة من البشر تظهر الفوارق الكبرى بين نصوص القرآن، وتحريفات اليهود في كتبهم، فكيف يمكن أن يكون القرآن مقتبساً من التوراة لو كانوا يعقلون.
4-
اليوم الآخر والبعث والجنة والنار.
لا يوجد لدى اليهود في كتابهم التوراة وكتبهم الملحقة به ذكر للبعث واليوم الآخر، لهذا ظهر ضلالهم في الإيمان باليوم الآخر، بل لم يذكروا الجنة إلا في قصة آدم، وما عدا ذلك لم يذكروها البتة. وعندهم نص يتيم يشير إلى البعث إشارة من طرف خفي، وذلك قولهم في سفر دانيال "12/2" كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي.
أما النصارى فلا يعتقدون أن فيها نعيماً حسياً، بل هو رؤية الله فقط. "1"
أما القرآن فهذه أظهر قضاياه بعد التوحيد، ولا يكاد تمر صفحة من المصحف إلا وفيها ذكر الآخرة أو النعيم أو العذاب، تصريحاً أو تلميحاً.
فهذا كله دليل على أن القرآن لا يمكن بحال أن يكون مأخوذاً من اليهود والنصارى، لأنهم فاقدون للعلم الصحيح، وفاقد الشئ لا يعطيه. كما جرت العادة أن الصورة تكون أضعف من الأصل، إلا أن القرآن الذي يزعم فيه أولئك الضلال ما يزعمون لا يمكن بحال أن يقارن بتلك الكتب، التي عبثت بها أيدي البشر وسامتها تحريفاً وتخريما.
"1" انظر: علم اللاهوت النظامي، ص1210.
وفي ختام هذا الرد نبين:
أنه لم تسجل حياة رجل في التاريخ، وتحصى عليه كلماته وحركاته وسكناته في حله وترحاله، في بيته وخارج بيته مثل النبي صلي الله عليه وسلم، فقد كان الناقلون ينقلون، بل ويتعبدون بنقل كل شيء عنه، صغر أو كبر، فرجل كما يقال: تحت المجهر إلى آخر لحظة من حياته، هل يمكن أن تقع الجهالة بحقيقة مصدره في العلم، وهل يمكن أن يكون عنده من يختلف إليه ليأخذ عنه العلم، ولا يشعر به أصحابه؟، ومن هو هذا الرجل الذي يمكن أن يكون أعلم الناس، بل لا يدانيه في علمه أحد، ومع هذا يخفي نفسه، ويذهب بالحمد والشهرة غيره؟!
إن دعوى كهذه لاشك أن مدعيها لا يعي ما يقول، وإنما مراده أن يقول شيئاً.
ومما يدل أيضاً على كذب دعوى كهذه:
أن الرسول عليه الصلاة والسلام عاش حياته الأولى، بل الجزء الأكبر من حياته في مكة، وغادرها وهو في الثالثة والخمسين من العمر عليه الصلاة والسلام، وعاش فيها بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً، وخلال هذه المدة نزل عليه جملة كبيرة من القرآن.
ومن المعلوم أن مكة ليس فيها يهود ولا نصارى، ولا كانوا يختلفون إليها حجاجاً ولا زائرين، لأنها لا تشكل شيئاً بالنسبة لهم، فبالتالي دعوى أنه تعلم من اليهود أو من النصارى دعوى فارغة، خالية من أي مضمون، وإلا فليكشفوا عن هذا اليهودي ذو النفس العظيمة والمتواضعة وذو العلم الجم والمحبة الفائقة ونكران الذات الذي علم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وليكشفوا عن ذلك النصراني الذي علم النبي عليه الصلاة والسلام. لاشك أنهم لم يجدوه، ولن يجدوه، لأنه لا وجود له في الحقيقة.
وإذا انتفى وجود هذا الرجل في مكة، فكذلك في المدينة هو منتف أيضاً، لأن اليهود بمجرد مجيئه إلى المدينة عادوه بعد أن عرفوه، واستمروا على هذا العداء الشديد، حتى أجلى من أجلى منهم، وقتل من قتل منهم، وهم على حالهم في العداء، مما يجعل دعوى أنه أخذ منهم شيئاً منتفية انتفاءً كاملاً، ولا يمكن وقوعها.
هذا بيان مختصر في رد دعوى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه استفاد مادة القرآن الكريم من اليهود والنصارى، وأنها لا تعدو أن تكون من باب الخرص والتخمين الباطل، والاتهام الكاذب، الذي دأب عليه أعداء الرسول صلي الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، وحقيقته أنها دعوى لتبرير تكذيبهم له، وعدم متابعته والإيمان به.