الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم تعنى الأمم بدراسة تاريخ عظمائها، وذوى الرأى فيها ممن لهم تأثير فى تطوير المجتمع، وتغيير مسيرة التاريخ.
ولعل أمة من الأمم لم تبلغ عنايتها بالتاريخ ما بلغت الأمة الإسلامية.
ولقد تجلى ذلك فى أمرين:
الأول: فى تلك الشروط التى لا بد منها فى توثيق الرواية وقبول الأخبار والتى كان لعلماء الحديث القدح المعلّى فى ضبط أصولها، وتحديد قواعدها.
والثانى: فى تلك الاتجاهات التاريخية المتخصصة والتى يقصد فيها كل مؤرّخ أن يقصر جهده على نوع بعينه؛ تمييزا له عن غيره، واستيعابا لمادته، وجمعا للأشباه والنظائر؛ حتى تتكامل الصور التى يكون بصددها، ويتيسر للباحث أن يفيد من هذه الدراسة المتخصصة والمستوعبة ما يهمه أن يفيد منه فى دراسته وأبحاثه، دون تشتيت للجهد، أو تضييع للوقت.
…
ولكلّ وجهة هو مولّيها، ومنهج هو متبعه. .
فمن المؤرخين من عنى بالتاريخ للسنوات والعصور، ومنهم من عنى بالتراجم والأعلام. .
والذين عنوا بالعصور وتطوراتها، والسنوات وأحداثها: منهم من
يؤرخ للفترة السابقة عليه ويضم إليها الفترة التى عاشها، والوقائع التى عاصرها. كما فعل الطبرى فى «تاريخ الأمم والملوك» وابن كثير فى «البداية والنهاية» .
ومنهم من يؤرخ لحقبة زمنية معينة كما صنع ابن حجر فى «الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة» ، والسخاوى فى «الضوء اللامع، فى أعيان القرن التاسع» .
والذين يؤرخون للأعلام منهم من يعنى بأعيان قطر معين كما فعل الحميدى فى «جذوة المقتبس، فى ذكر ولاة الأندلس» والخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» وابن عساكر فى «تاريخ دمشق» .
ومنهم من يعنى بالتاريخ لطبقة خاصة كما فعل ابن الأثير فى «أسد الغابة فى تمييز الصحابة» وابن حبان فى «الثقات» من التابعين وأتباع التابعين، والسّلمى فى «طبقات الصوفية» وعياض فى «المدارك» وابن السبكى فى «طبقات الشافعية» ، والذهبى فى «طبقات القراء» ، والسيوطى فى «بغية الوعاة، فى طبقات اللغويين والنحاة» .
ومن المؤرخين من يعنى بالعظماء والمصلحين. أو القادة الفاتحين. أو العلماء النابهين.
…
ولقد ترك لنا المؤرخون من أولئك وهؤلاء آثارا حفيلة، وتراثا ضخما ومادة علمية خصيبة غنيت بالمثل العليا، والصور الحية، والمثلات الناطقة، والدروس المستفادة.
كم حدثونا عن دول نالت من القوة، وبلغت من العظمة، وطغت وبغت، ثم دالت وهوت؟ !
وكم أثاروا أشجاننا معهم فى أسباب تداعى هذه الدولة أو تلك، بعد
تماسكها، وضعفها بعد قوتها، ثم سقوطها فرية بين برائن أعدائها؟ ! إن فى ذلك لعبرة.!
كم حدثونا عن قائد حالفه النصر فى معركة أو معارك كيف انتصر؟ وكيف كان يخطط لمعركته، وينظم جنده، ويلقى عدوه؟ !
وعن قائد هزم فى معركة أو معارك: كيف ولماذا هزم؟ !
لعلنا-بعد-نتوخى أسباب النصر، ونتوفى عوامل الهزيمة!
كم حدثونا عن أعلام الفقهاء والمحدثين، والأدباء واللغويين، وسائر العلماء والمؤلفين كيف درسوا علومهم، وثقفوا عقولهم، وكونوا فى الحياة فلسفتهم وآراءهم، وأفادوا ممن عاصرهم أو سبقهم؟
وكيف رحلوا وجابوا مختلف الأقطار ليتحملوا العلم عن شيوخه، ثم يؤدوه إلى طلابه؟ !
علّنا نبذل الوقت والجهد والمال فى سبيل العلم كما بذلوا، ونستهين بالصعاب فى طلب العلياء كما استهانوا:
ومن تكن العليا همّة نفسه
…
فكلّ الذى يلقاه فيها محبّب
كم حدثنا المؤرخون عن أولئك الأعلام: كيف تأثروا ببيئاتهم ومجتمعاتهم ثم أثروا-هم-فى بيئاتهم ومجتمعاتهم؟ وكيف خلّفوا لنا من المدارس الفكرية. والتّراث العلمى ما نحن فى مسيس الحاجة إلى الكشف عن نفائسه، والتنقيب عن ذخائره؛ لنعرف منه مدى ما لنا من أصالة ومكانة، ومدى ما يمكن أن نسبهم به الآن فى إثراء الفكر، وإرساء القيم، وتدعيم الحضارة!