المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وقعة الجمل - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ وقعة الجمل

عدالته فإن الخطر في ذلك عظيم وقد قال الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولا ينبغي لمن يعرف نفسه أن يكون دون نملة سليمان عليه السلام في الأدب مع أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا تسمع قولها لأخواتها:{يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فقيدت بقولها {وهم لا يشعرون} حذارا من توهم نسبته هذا الفعل إليهم عالمين، وذلك غاية الأدب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

‌الفصل الثاني فيما شجر بين الصحابة

وأما الفصل الثاني ففيما شجر بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وتلخيص الكلام فيه وبيان حكم الطائفتين وهو كالتتمة للفصل الذي قبله

اعلم أن أعظم ما تداولته الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - ما وقع زمن خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فنشأ منه وقعتان عظيمتان‌

‌ وقعة الجمل

ووقعة صفين. والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان - رضي الله تعالى عنه -. وأنكر الهشامية تلك الوقعتين، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمعا لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه.

وقعة الجمل

وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان - رضي الله تعالى عنه - صبرا توجع المسلمون فسار طلحة والزبير وعائشة -وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها- نحو البصرة

ص: 30

فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم واعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ففاتوه وأرسل ابنه الحسن وعمار يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله وجهه حاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار ومنهم قتلة عثمان - رضي الله تعالى عنه - بالتحريش ورموا بنار الفتنة، فحمي الوطيس وقامت الحرب على ساق وكان ما كان، وانتصر علي كرم الله وجهه وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة. ولما ظهر علي رضي الله عنه جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. ثم أنزلها دار عبد الله بن خليل وهي أعظم دار في البصرة على صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام وأرسل معها أربعين

ص: 31

امرأة وسير معها أخاها محمدا. ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي كرم الله وجهه فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يغتب بعضكم بعضا إنه والله ما كان بيني وبين علي رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه لمن الأخيار. فقال علي كرم الله وجهه: أنت والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. وسار معهما مودعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. وكانت - رضي الله تعالى عنها - بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع منها تبكي حتى تبل خمارها. ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله وجهه دليل على خلاف ما يزعمه الشيعة من كفرها، وحاشاها - رضي الله تعالى عنها - وفي ندمها وبكاها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار تلك المعركة. على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك. وقال غير واحد: إنها اجتهدت ففعلت لكنها أخطأت في اجتهادها، ولا أثم على المجتهد المخطئ بل له أجر على اجتهاده وكونها - رضي الله تعالى عنها - من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. وآية {وقرن في بيوتكن} إلخ خطابا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا تأبى ذلك إذ ليس المراد منها

ص: 32

إلا تأكيد أمر التستر والحجاب وإلا لما أخرجهن صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة مثلا، ولما جاز خروجهن لذلك ولا لعيادة المرضى والأقارب. والسفر لا ينافي التستر والحجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

نعم قالت الشيعة إنه يبطل اجتهادها أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما لأزواجه: «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحؤب فإياك أن تكوني يا حميراء» الحوءب -كجعفر- منزل بين البصرة ومكة، وقد نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث، وهو صريح في النهي ولم ترجع. والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحؤب، على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها فيما بين أهل السنة، فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد. على أنه لو كان لا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه، وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من أصلاح ذات

ص: 33

البين المأمورة به بلا شبهة. وقد شُبه حالها رضي الله عنها في ذلك بحال شخص رأى من بعيد طفلا يريد أن يقع في بئر فسعى ليمنعه من ذلك فمر بلا شعور بين يدي مصل فإنه يذهب لما قصد لأنه لو رجع لم يحصل له تلافي ما وقع وفاتَه تخليص الطفل المأمور به.

وأما طلحة والزبير - رضي الله تعالى عنهما - فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه أما طلحة فقد روى الحاكم عن ثور بن مجزأة أنه قال: «مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي فبايعني وقال: هذه بيعة علي، وفاضت نفسه. فأتيت عليا رضي الله عنه فأخبرته فقال: الله أكبر، صدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه»

وأما الزبير - رضي الله تعالى عنه - فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي صلى الله عليه وسلم له: «لتقاتلن عليا وأنت له ظالم» فقال: لقد أذكرتني شيئا أنسانيه الدهر لا جرم لا أقاتلك أبدا. فخرج من المعسكرين نادما وقُتل بوادي السباع مظلوما، قتله عمرو بن جرموز. وقد روى الموافق والمخالف أنه جاء بسيفه واستأذن على الأمير كرم الله وجهه فلم يأذن له فقال: أنا قاتل الزبير، فقال:

ص: 34

أبقتل ابن صفية تفتخر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» والشيعة كما في أبكار الأفكار للآمدي يزعمون أن استحقاقه للنار ليس لقتل الزبير بل لما علمه منه في عاقبة أمره، وذلك أن ابن جرموز قدم بعد ذلك على الأمير كرم الله وجهه مع أهل النهروان وقتل هناك، وإلا لقتله الأمير رضي الله عنه. والجواب أنا نعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر ذلك الخبر في حق الزبير رضي الله عنه من معرض التعظيم له والتفخيم من أمره، وذلك يأبى كون استحقاق قاتله النار لأمر آخر غير قتله. ولو كان المقصود ما ذكر لكان الكلام من باب الألغاز المنافي لحاله صلى الله عليه وسلم الموجب لارتفاع الوثوق بأوامره ونواهيه عليه الصلاة والسلام لاحتمال أن يريد بها معنى لم يظهر لنا، كما هو مذهب الملاحدة الباطنية. وأما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل. ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن:«أن ناسا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ذهبوا يتطرقون فقتل واحد منهم رجلا قد فر وهو يقول إني مسلم إني مسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا ولم يقتل القاتل» وكذا قتل أسامة رضي الله عنه فيما أخرجه السدي رجلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 35