الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جدا ولم يقبل عذره وقال له: «كيف أنت ولا إله إلا الله» ونزل قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. وأجاب آخرون بأن العلماء اختلفوا في أنه هل يجب القصاص على الحاكم إذا لم يطلب الولي أم لا، ولعل الأمير كرم الله وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع. وروي أيضا أن الأمير رضي الله عنه قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه: مرحبا بابن أخي، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم:{ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} وهذا ونحوه يدل على أنهما - رضي الله تعالى عنهم - لم يذهبا إلا طاهرين مطهرين.
وقعة صفين
وأما تلخيص الوقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية - رضي الله تعالى عنه - كان قد استنصره أبناء عثمان - رضي الله تعالى عنه - ووكلوه في طلب حقهما من قتلة أبيهما، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات، فلما ورد الأمير رضي الله عنه دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا وطلبوا منه قتلة عثمان وكانوا قد انحازوا إلى عسكره ولهم عشائر وقبائل، ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم، فمال رضي الله عنه إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره، فأبى معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلا، وكثر القيل والقال حتى اتهم بنو
أمية الأمير كرم الله وجهه بأنه الذي دلس على قتل عثمان رضي الله عنه وكان كرم الله وجهه قد تصرف بسلاحه فقال لذلك قائلهم:
ألا ما لليلي لا تغور كواكبه
…
إذا غار نجم لاح نجم يراقبه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم
…
ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم لا تعجلونا فإنه
…
سواء علينا قاتلوه وسالبه
وإنا وإياكم وما كان منكم
…
كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه
بني هاشم كيف التعاقد بيننا
…
وعند عليٍ سيفه وحرائبه
لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله
…
وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه
هُمُ قتلوه كي يكونوا مكانه
…
كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه
وكان الأمير كرم الله وجهه يلعن القتلة ويقول: يا معاوية لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان. وتصرفه رضي الله عنه بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال. وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام. ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مرارا وبقي كرم الله وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة، وقيل تسعة؛ وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس، وليلة الهرير أمرها شهير. وآل الأمر إلى التحكيم. وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج، وذلك تقدير
العزيز العليم. وأهل السنة إلا من شذ يقولون إن عليا كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين -خلافا للشيعة- ولا فاسقين خلافا للعمرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ولمن شذ من أهل السنة، ولا أن أحد الفريقين، من علي كرم الله وجهه ومقاتليه، لا بعينه فاسق خلافا للواصلية أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي. أما أن الحق مع علي كرم الله وجهه فغني عن البيان. وأما كون المقاتل باغيا فلأن الخروج على الإمام الحق بغي وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال:«ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقد قتله عسكر معاوية. وقوله حين أخبر بذلك: "قتله من أخرجه" مما لا يلتفت إليه، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلُ حمزة وأضرابه ممن قتل معه عليه الصلاة والسلام وكذا قول من قال:"المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أي لدم عثمان فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم". وأما كونه من ليس بكافر فلِما في نهج البلاغة أن عليا كرم الله وجهه خطب يوما فقال: «أصحبنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة» ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهما. وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم وأن يقاتلوا إذا بغت إحداهما حتى تفيء. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلا لأن الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم. واستدل بعضهم على كفر المقاتلين للإمام كرم الله وجهه بقوله صلى الله عليه وسلم له: «حربك حربي» ولأهل العباء: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» وحرب آل بيته صلى الله عليه وسلم كفر بلا ريب وبقوله عليه الصلاة والسلام: «حب علي إيمان وبغضه كفر ونفاق» ولا بغض أظهر من الحرب فبه يثبت الكفر والنفاق. وأجاب أهل السنة بأن الخبر الأول لم يروه منا إلا ابن جرير وفي روايته عندنا وهن شهير.
نعم ذكره الطوسي المنجم وغيره من الشيعة وهم بيت الكذب وأكثر رواتهم زنادقة بشهادة الأئمة رضي الله عنهم كما يشهد بذلك الكافي وغيره. وعلى تقدير صحة الرواية لا حجة فيه لأنه خارج مخرج التهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير كرم
الله وجهه من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام. ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنة. أو يخصّ الحرب بما كان كحرب الخوارج صادرا عن بغض وعداوة وإنكار لياقة الأمير للخلافة باعتبار الدين وذلك كفر عند كل مؤمن، وأدلة التخصيص أكثر من أن تحصر. وقال بعض: لا شك أن المقصود التشبيه بحذف الأداة كزيد أسد فكأنه قيل حربك كحربي فإن كان الحرب فيه المصدر المبني للفاعل صح أن يكون وجه الشبه الوجوب أي أن حربك لمن حاربك وبغى عليك من المؤمنين واجب عليك كحربي لمن حاربني من الكافرين واشتراك الحربين في الوجوب لا يستدعى اشتراك المحاربين بصيغة اسم المفعول في الكفر وهو ظاهر، وإن كان الحرب فيه المصدر المبني للمفعول صح أن يكون وجه الشبه كونه حراما وضلالا مثلا ولا يتعين كونه كفرا. ومن أصحابنا من منع كون حرب الرسول عليه الصلاة والسلام كفرا فقد قال سبحانه:{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فإنها نزلت في آكلي الربا وهم ليسوا بكفار. وقال جل وعلا في قطاع الطريق: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية ولم تحكم الشيعة بكفرهم أيضا، وفيه تأمل لا يخفى وجهه. وبأن الخبر الثاني كالخبر الأول غير ثابت عندنا ولم يروه أحد منا أيضا. وقيل: إنه على تقدير الثبوت خارج مخرج التهديد لمن حارب أهل العباء على
طرد ما تقدم في الخبر السابق. والخبر الأخير رواه مسلم لكن لا نسلم أن الحرب بغض فقد يحارب الإنسان من يحبه والحيثيات مختلفة كما لا يخفى.
ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن - رضي الله تعالى عنه - مع معاوية وهو مما لا مجال لإنكاره. فقد روى المرتضى وصاحب فصول المهمة من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه - رضي الله تعالى عنه - وبين معاوية خطب فقال: «إن معاوية نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» انتهى. وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالَح وأن المصالحة لم تقع إلا اختيارا. ولو كان المصالح كافرا لما جاز ذلك ولما صح أن يقال فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة إلخ فقد قال سبحانه وتعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ويدل على وقوع ذلك اختيارا أيضا ما رواه صاحب الفصول عن أبي مخنف من أن الحسين رضي الله عنه كان يبدي كراهة الصلح ويقول: "لو خر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي" فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه - رضي الله تعالى عنه - اختيارا، فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر.
وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية - رضي الله تعالى عنه - ندم على ما كان منه من المقاتلة والبغي على الأمير
كرم الله وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله وجهه فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال: قال معاوية لضرار: صف لي عليا، فقال: أوتعفيني؟ قال: بل تصفه، فقال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدينا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه -إلى أن قال- لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله فأشهد بالله تعالى لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجونه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم بي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء،