المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة

ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها. انتهى.

وما يذكره المؤرخون من أن معاوية - رضي الله تعالى عنه - كان يقع في الأمير كرم الله وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعوّل عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدري ما يجمع. فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخُطا مما لا يليق بشأنه عاقل فضلا عن فاضل. وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه لأن له معارضات مثله في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب وبرء من وصمة الوقوع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ذلك على أحسن المحامل وأوّله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل

‌الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة

وأما الفصل الثالث ففي بيان حكم سب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ وهو المقصود في الحقيقة من هذه الرسالة

اعلم أن

ص: 43

السبّ في اللغة الشتم، ويكون بكل ما فيه تنقيص وله مراتب متفاوتة. وأجمع أهل السنة أنه مطلقا في حق الصحابة رضي الله عنهم منهي عنه، وإنما الخلاف في كفر مرتكبه. وستعلم قريبا إن شاء الله تعالى الحق في ذلك. واللعن مثل السب بل هو أدهى وأمر، وقد يقال له سب أيضا. ففي النهاية لابن الأثير: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ومن الخلق السب والدعاء انتهى. والشيعة جوزوا السب واللعن على أكثر الصحابة ومنهم من كتم النص وهو بزعمهم حديث الغدير وكذا من حارب الأمير كرم الله وجهه كعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم. بل اعتقدوا أن لعن هؤلاء وسبهم من أعظم العبادات وأقرب القربات، وذلك من الضلالة بمكان، فقد صحت أحاديث كثيرة في النهي عن اللعن مطلقا حتى لعن الحيوانات، وصرح بعض الحنفية بأن لعن الكلب من وجه كفر. وقد تواتر عند الفريقين نهي الأمير كرم الله وجهه عن لعن أهل الشام، فما ظنك بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بل بكبارهم رضي الله عنهم الذين ورد في حقهم من الآيات البينات ما ورد وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يثن على أحد. فمن ذلك قوله سبحانه: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم

ص: 44

المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} الآية وقوله جل وعلا: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية وقوله تبارك وتعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} الآية وقوله سبحانه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. ومثلها الأخبار الواردة فيهم عموما وخصوصا. ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه كما لا يخفى. وليس لهم أن يقولوا بالردة والعياذ بالله تعالى لما علمت. وإن قالوا إنهم ارتكبوا من الذنوب ما سوغ لعنهم وإن لم يكن كفرا فإن مسوغ اللعن ليس مخصوصا به ردوا بأنا لا نسلم ارتكابهم لذلك ودون إثباته خرط القتاد، وعلى فرض التسليم قد قدمنا أن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -

ص: 45

لما منّ الله تعالى عليهم من شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وبذل الأنفس والأموال والأولاد بين يديه مع صدق النية وخلوص العزيمة وشدة المحبة لا يصرون على ذنب فعلوه وخطيئة ارتكبوها، فما ذهبوا إلى ربهم إلا بتوبة نصوح طاهرين من الآثام مكفرا عنهم ما يقتضى الملام، فلم يتحقق فيهم حال السب واللعن -والعياذ بالله تعالى- ما يسوغ ذلك.

واعتبار ما كان لو صح لاقتضى جواز سب مثل حذيفة وسلمان رضي الله عنهما فإنهما كانا قبل أن يسلما كافرين، والشيعة لا يجوزون ذلك فيهما لأنهما عندهم من الصحابة الموالين للأمير كرم الله وجهه. وبالجملة اعتبار ذنب مغفور للقدح والطعن في غاية السفه وموجب لفساد عظيم ومن ذلك صحة إطلاق الكافر مثلا على كثير من المؤمنين، وهو كما ترى وقد قال سبحانه وتعالى:{بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وأيضا الوارد في لعن المرتكبين لبعض الذنوب اعتبار عنوان الذنب ومفهوم الوصف كالظالمين والكاذبين دون القصد إلى واحد بخصوصه مما صدق عليه المفهوم كزيد الظالم وعمرو الكاذب، فيجوز لعن الله الظالمين ولعن الله الكاذبين مثلا دون لعن الله تعالى زيدا وعمرا الظالم والكاذب، بل نصوا على حرمة لعن كافر بعينه لم يتحقق بخبر المعصوم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب. وقوله - صلى الله

ص: 46

عليه وسلم - حين رأى حيوانا وسم على وجهه: «لعن الله من فعل هذا» ليس نصا في لعن مخصوص لجواز اعتبار العموم. ولعن الملائكة المرأة التي تخرج من بيتها بغير أذن زوجها حتى تعود أيضا كذلك. وعن بعض المحققين أن اللعن في مثل {ألا لعنة الله على الظالمين} متوجه بالحقيقة إلى الوصف لا إلى صاحبه، والمراد ذم ذلك الوصف والتنفير عنه، وأنه لو فرض توجهه إلى المتلبس به يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم كما هو عند الشيعة. وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع. وقوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} الآية ظاهر في طلب المغفرة وترك العداوة للمؤمنين. ونطق الصحابة -الذين تسبهم الشيعة- بكلمة الإيمان وإقامتهم لشعائر الدين أمر معلوم لا يحتمل الإنكار بوجه. وكون ذلك عن نفاق أو مستتبعا بما يخالفه مما يحتاج إلى دليل يثبته وبرهان يحققه، وهو أحد المستحيلات. ولو سلم لكل أحد كل ما يقوله من الاحتمالات العقلية وإن لم يبرهن عليها لسلم كلام النواصب والخوارج في حق الأمير كرم الله وجهه وترهاتهم التي تمجها الأسماع في شأنه - رضي الله تعالى عنه - وفي ذلك من الفساد

ص: 47

ما فيه. ومتى كان الإيمان ثابتا لا ينبغي إلا الترضي والاستغفار دون السب واللعن. وقد استدل بعض أصحابنا للنهي عن اللعن بقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما ذهب إليه الإمامية. وبالجملة حرمة سب الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو يتنازع فيه اثنان. وأطلق غير واحد القول بكفر مرتكب ذلك لما فيه من إنكار ما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم، ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة القائلين على أن لهم الزلفى من ربهم. ومن هنا كفر من كفر الرافضة. واستدل لكفرهم أيضا بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون» وأشار إلى ذلك الصرصري في قصيدته النونية النبوية بقوله:

وكذاك أخبر أن سب صحابه

ما للمصر عليه من غفران

علما بقوم يجهرون بسبهم

من كل غمر فاحش لعان

وروي عن الإمام مالك أنه قال: من شتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرا أو عمر أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكُفر قتل ولم

ص: 48

يؤول له. وفي لفظ: يقتل من كفر الصحابة رضي الله عنهم كلهم أو واحدا منهم لأن من كفر مسلما فقد كفر فما بالك بالصحابة وهم أساس الإسلام وعماده. وذهب القاضي حسين إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه اكفارهما، وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية. والأصح من مذهب الشافعية أن السب بما فيه إكفار الصحابة رضي الله عنهم كفر وهو السب الذي اتخذه عبادة شيعة زماننا ودرج عليه الكُميلية من الشيعة أيضا. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يرتاب في كفرهم بناء على أن سبهم للصحابة بما فيه إكفارهم وحاشاهم - رضي الله تعالى عنهم - ويلزم من إكفارهم بغضهم وهو كفر أيضا كما صرح به الطحاوي وغيره. واستدل له بعض الأئمة بقوله تعالى في حقهم:{ليغيظ بهم الكفار} وكذا استحلال إيذائهم وهو كفر أيضا، كما لا يخفى. وفي الأنوار: لو استحل إيذاء أحد من الصحابة كفر. وفي الاعلام أن استحلال إيذاء غير الصحابة من المسلمين مكفر فما ظنك باستحلال إيذائهم - رضي الله تعالى عنهم -. وكذا يلزم ذلك إنكار خلافة الخلفاء منهم. وفي البزازية أن من أنكر خلافة أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - فهو كافر في الصحيح وأن من أنكر خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه - فهو كافر في الأصح، وفي التاتارخانية مثل ذلك. والذي نعلمه من الشيعة اليوم

ص: 49

التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النص ولم يبايعوا عليا كرم الله وجهه بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم كما بايعوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك، وكذا التصريح ببغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبهم ولعنهم تهافت الفراش على النار. وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك. وما روي عن بعضهم من أن السابّ يضرب أو ينكل نكالا شديدا محمول على ما إذا لم يكن السب بما يوجب تكفيرهم رضي الله عنهم وكان خاليا عن دعوى بغض وارتداد واستحلال إيذاء، وليس مراده من أن حكم الساب مطلقا ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عليه الرحمة أن الصحابة رضي الله عنهم الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه بما أثنى -وهم الذين ولع الرافضة بسبهم وبغضهم- مثل الأنبياء عليهم السلام في أن سبهم وطعنهم من العصيان بمكان.

ونص كلامه ـ قدس سره ـ: ثم ينبغي أن يعلم ههنا دقيقة وهي أن سب الأنبياء عليهم السلام والطعن فيهم والعياذ بالله تعالى إنما صار حراما وكفرا لأن وجه السب وهو المعاصي والكفر لا يوجد في أولئك الكبار البتة بل يمتنع بالضرورة، وإنما الموجود فيهم ما يوجب تعظيمهم وتكريمهم وتوقيرهم

ص: 50

والثناء الجميل عليهم والمحامد الحسنة لهم، ومن عداهم من جماعة المؤمنين الذين ثبت تعظيمهم وتكريمهم ومغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم بنصوص الكتاب المجيد فهم في حكمه لا محالة في حرمة السب والطعن والتحقير والإهانة، غاية الفرق بين الفريقين أن الأنبياء لم يوجد فيهم أصلا ما يوجب هذه الأمور وهؤلاء وجد فيهم فانعدم، والمعدوم بالعدم الطارئ كالمعدوم بالعدم الفطري في هذا الباب، ولهذا كانت نسبة الذنب السابق المتوب عنه إلى التائب حراما، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وليس لعوام الأمة ممن عدا الصحابة رضي الله عنهم هذه المرتبة، لأن تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم أمر معلوم لنا بالقطع من الوحي والتنزيل وقبول طاعاتهم وتعلق رضاء الله تعالى بأعمالهم على الخصوص أمر متيقن أيضا، فهم - رضي الله تعالى عنهم - متوسطون بين الأنبياء والأمة، ولهذا لن يصل أحد من غير الصحابة وإن كان مطيعا متقيا إلى درجتهم أصلا انتهى.

وهذا كلام حسن وفيه تأييد لما ذكرنا من أن اعتبار ذنب مغفور في غاية السفه. وكذا أجمع السادة الصوفية ـ قدس الله أسرارهم ـ من القادرية والنقشبندية والجشتية والكبروية والسهروردية وغير ذلك على وجوب محبة الصحابة كبارهم

ص: 51

وصغارهم وتكريمهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم أفضل البشر بعد الأنبياء عليهم السلام وحرمة سبهم وطعنهم وأن سابهم وطاعنهم من الضالين الخاسرين. وفي كتاب الغنية المنسوب لحضرة الغوث الرباني والهيكل الصمداني قطب دائرة العارفين ومربي المسترشدين والسالكين المحبوب السبحاني حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ قدس سره وغمرنا برّه - ما ينادي على ذلك بأعلى صوت، بل صرح ـ قدس سره ـ فيها بتشبيه الرافضة -عاملهم الله تعالى بعدله- باليهود والنصارى، وهو ظاهر في إكفارهم. ومن تتبع كتب القوم قدست أسرارهم رآهم أشد الخلق حبا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسرهم وأكثر الناس بغضا للرافضة الطاغين فيهم. نعم إن للصوفية نوع اختصاص بعلي كرم الله وجهه حتى شاع أن الصوفية علوية لما أن سلاسل الطرائق منتهية إليه وواردة عليه فهو باب الولاية وأبو الإرشاد، ولا يجرهم هذا إلى الابتداع وتنقيص أحد من الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم -. ومن نسب إليهم ذلك وحاشاهم فقد ضل ضلالا بعيدا.

وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا ظهر لك أن من سب أو طعن أو بغض أو كفر أحدا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - لا سيما كبارهم كالخلفاء الراشدين وزعم حل ذلك عند أحد

ص: 52

من أهل السنة والجماعة فقد أعظم الفرية بغير مرية. كيف لا وأحد الأمور التي ميزت أهل السنة عن الشيعة حبهم لأصحاب نبيهم عليه الصلاة والسلام وتعظيمهم إياهم وقولهم فيهم إنهم أفضل البشر بعد النبيين والترضي عنهم أجمعين؛ لا كما عليه الشيعة من بغضهم لهم وتحقيرهم وقولهم فيهم إنهم شر الخلق ولعنهم وسبهم في كل وقت وحين، ولم يستثنوا أحدا من ذلك سوى ستة أو سبعة أو ما قارب ذلك. وبالجملة إن نسبة حل السب لأهل السنة في الكذب مثل قول القائل الضدان يجتمعان والأربعة فرد والثلاثة زوج وشريك الباري ممكن بالإمكان الخاص ونحو ذلك. ولا ينبغي أن يزاد في جواب زاعم ما ذكر من تلك النسبة على قول:{ألا لعنة الله على الكاذبين} لظهور كذبه وغنائه عن البيان عند من عرف معنى لفظ أهل السنة والجماعة.

هذا والكلام في خصوص حل سب معاوية - رضي الله تعالى عنه - وإكفاره ولعنه يعلم أيضا حكمه مما تقدم وقد صرح الإمام مالك بأن من قال إنه كان على ضلال وكفر قتل. ويفهم من الرواية الأخرى أن من كفره فقد كفر وكذا من قال بحل لعنه كما يقتضيه كلامهم. فإنه من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان أحد الكتّاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح في مسلم وغيره.

ص: 53

وفي حديث سنده حسن: «كان معاوية يكتب بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام» قال المدايني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم على وحي ربه. وهي مرتبة رفيعة. وروى الترمذي وقال إنه حديث حسن «أن رسول الله عليه الصلاة والسلام دعا له فقال: اللهم اجعله هاديا مهديا» ودعاءه عليه الصلاة والسلام لأمته مستجاب ومتى كان هذا مستجابا كان في معاوية صفتان يقعدان لاعنه ومكفره على عجزه. وأخرج الملا في سيرته ونقله عنه المحب الطبري في رياضه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله تعالى عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي ولكل نبي حواري وحواري طلحة والزبير وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله تعالى وأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك» وفي هذا من الدلالة على فضله ما لا يخفى. وقد فاز - رضي الله تعالى عنه - بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أم حبيبة أم المؤمنين أخته وقد قال

ص: 54

- عليه الصلاة والسلام: «دعوا أصحابي وأصهاري فإن من حفظني فيهم كان معه من الله تعالى حافظ ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله تعالى منه ومن تخلى الله تعالى منه يوشك أن يأخذه» رواه الإمام الحافظ أحمد بن منيع. وروى الحارث بن أبي أسامة عن النبي عليه الصلاة والسلام: «عزيمة من ربي وعهد عهده إلي أن لا أتزوج إلى أهل بيت ولا أزوج بيتا إلا كانوا رفقائي في الجنة» والأخبار المشعرة بفضله كثيرة. وما طعن به المخالف مردود عليه. وقد ألف العلامة ابن حجر للسلطان همايون من سلاطين الهند رسالة نفيسة في الذب عن معاوية - رضي الله تعالى عنه - سماها تطهير اللسان والجنان عن الحظور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان، وأجاب عن الأخبار الموهمة للنقص في حقه - رضي الله تعالى عنه -. ونزول الحسن رضي الله عنه له عن الخلافة ومبايعته عليها ووقوع الإجماع إذ ذاك على خلافته لا يبقي سبيلا إلى سبه، ويجعل القول بكفره والعياذ بالله تعالى كفرا لا شبهة فيه لما فيه من تضليل الأمة التي لا تجتمع على ضلالة أبدا، لا سيما ومن جملة المجمعين المعصوم وهو الحسن رضي الله عنه على ما هو معتقد الشيعة. ودعوى الإكراه قد مر الجواب عنها فتذكر.

والكلام في عمرو بن العاص نظير الكلام في معاوية - رضي الله تعالى عنه - كما علمت مما روي عن

ص: 55

الإمام مالك وغيره. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه بعد أن أسلم وولاه غزاة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنهم - ثم استعمله على عمان فتوفي عليه الصلاة والسلام وهو أميرها. ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر - رضي الله تعالى عنه - وهو الذي افتتح قنسرين وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية. وأخرج أحمد من حديث طلحة أحد العشرة رفعه: «عمرو بن العاص من صالحي قريش» ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة. وأخرجه البغوي وأبو يعلى من هذا الوجه وفيه زيادة: «نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وموافقته لمعاوية في قتال علي كرم الله وجهه ليس بكفر على ما علمت. ويدل على ذلك أيضا ما رواه الطبراني بسند رجاله موثقون على خلاف في بعضهم أن الأمير كرم الله وجهه قال: «قتلاي وقتلا معاوية في الجنة» فإنه ظاهر في أن الأمر كان عن اجتهاد وللمخطئ فيه أجر واحد وللمصيب أجران إلى عشرة أجور. وقد جاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن معاوية كان من أهل الاجتهاد. ونص غير واحد على أن عمرو بن العاص أيضا كذلك. فهو معذور فيما

ص: 56

صدر منه وإن كان مخطئا كسائر من بغى على علي كرم الله وجهه. والحكايات الدالة على أنه إنما وافق معاوية للدنيا لا للدين مما نقلها المؤرخون في كتبهم من غير سند لها لا يعول عليها، وحال المؤرخين في النقل معلومة فلا ينبغي الاغترار بنقلهم إلا إذا وجدت فيه شروط القبول. ومما لا يعول عليه من ذلك ما نقله ابن الوردي أن عمرا انحرف يوما عن معاوية فاستعتبه معاوية فأنشده:

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل

به منك دنيا فانظرن كيف تصنع

فإن تعطني مصرا وتربح صفقتي

شريت بها شخصا يضر وينفع

فولاه مصر وجهزه إليها لذلك. والثابت عند أهل الأخبار أنه ولي مصر وسار إليها بعد ما كان من أمر الحكمين وحكم فيها من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات. وأما أنه أنشد ما أنشد فغير ثابت. ومما ينتظم في هذا السلك بعض الأخبار المشعرة بذمه وذم اجتماعه مع معاوية؛ وهو ما روي أن شداد بن أوس دخل على معاوية وعمرو معه على فراشه فجلس بينهما وقال: أتدرون ما أجلسني بينكما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما فوالله ما

ص: 57

اجتمعا إلا على غدرة فأحببت أن أفرق بينكما» انتهى فإن هذا الخبر لم يثبت لأن في سنده من قال الحافظ الهيثمي فيه: لا أعرفه. وبعض المحققين أجاب عنه على تقدير صحته بما لا يخلو عن نظر. نعم ضرر اجتماعهما - رضي الله تعالى عنهما - في قتال الأمير كرم الله تعالى وجهه والبغي عليه أمر ظاهر لا مساغ لإنكاره، إلا أنهما معذوران عند أكثر الجماعة أو مكفَّر عنهما ذلك على ما أشير إليه في ما سبق. ولو لم يُقل بهذا ولا ذاك فنهاية ما يمكن أن يقال كونهما آثمين، وأما الكفر وحل اللعن والسب فما لا يمكن أن يقال بوجه من الوجوه وحال من الأحوال. ومما هو ظاهر في أن عمرا لم يكفر بما فعل أن الأمير كرم الله وجهه تمكن من قتله في صفين كما هو مشهور عند الموافق والمخالف ولم يقتله ولو كان كما يزعمه الشيعة لما منعه من قتله مانع كما لا يخفى. وبالجملة تكفير أحد من الصحابة رضي الله عنهم الذين تحقق إيمانهم وصدقهم وعدم نفاقهم والإقدام على لعنه بمجرد شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت كفر صريح لا ينبغي أن يتوقف فيه. وللشيعة الذين في زماننا الحظ الأوفى من هذا الكفر لأنهم كفروا إناسا من الصحابة كان الأمير يصلي وراءهم ويقتدي بهم في الجمع والجماعات كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم -

ص: 58