الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سجستان، وأكثر بلاد فارس، مما شجع ابن الأشعث على مواصلة حربه وقتاله، وتخليص الكوفة والبصرة من بطش الحجاج وعتوّه، ولكن مالت كفّة النصر، وأصبحت من نصيب الحاكم الظالم الغشوم الحجاج بن يوسف الثقفي.
وانهزم ابن الأشعث هزيمة منكرة، فر على إثرها لينجو بنفسه، واستسلم الجيش المتمرّد، وأمر الحجاج بتجديد البيعة له، والانطواء تحت عباءته، فاستجاب الكثير، وفرّ البعض، وكان من أمر الذين استجابوا له واستسلموا أن خيّرهم الحجاج بين أمرين: أحلاهما مرّ، وأخفّهما تأباه النفس الأبيّة، وتلفظه الفطرة السويّة، خيّرهم الحجاج بين أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر بنقض البيعة لوالي أمير المؤمنين، وبين أن يُقتلوا، فاختار بعضهم القتل على أن يتكلم بكلمة الكفر، وبعضهم استعمل التَّقيَّة، وأخذ بالرخصة، وشهد على نفسه بالكفر كرهاً واضطراراً (1).
4 - موقفه مع سعيد بن جبير:
ونجَّى الله سعيد بن جبير من هذه الورطة، فكان ممن فرّ واختفى عن أعين الحجاج عشر سنوات، ولكن قدر الله لابدّ نافذ، فعندما تولّى خالد بن عبد الله القسري ولاية مكة من قبل الحجاج، وكان سيّئ السيرة، فخاف أصحاب سعيد على سعيد، فألحّوا عليه بالفرار والخروج من مكة، ولكن سعيداً أبى الخروج، وقال لأصحابه: والله لقد استحييت من الله مما أفرّ، ولا مفرّ من قدر الله.
(1) سير أعلام التابعين، ص68، 69، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 321 - 342، برقم 116، والطبقات الكبرى، 6/ 267 - 277، برقم 2317، وتهذيب الكمال، 10/ 358 - 376، برقم 2245.
وكان والي المدينة من قبل الحجاج عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود، فتعلّم منه خالد بن عبد الله القسري، فعيّن من عنده من مكة: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب، فبعث خالد بهؤلاء إلى الحجاج، ثم عفا عن عطاء، وعمرو بن دينار؛ لأنهما من أهل مكة، وبعث بأولئك الثلاثة، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس، فمازال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد بن جبير ذلك العابد القانت التقي الورع الطاهر، وصل مدينة واسط وهو مقيّد في الأغلال، فأدخلوه على الحجاج، وهو ثابت القلب، هادئ النفس، رابط الجأش، قوي الحِجَاج، فصيح اللسان، لم يتزعزع، ولم يهن، راسخ رسوخ الجبال، ودار بينهما حوار طويل يكشف عن عظمة الرجل، وحسن توكله على ربه، وقوّة إيمانه، وصبره، ويقينه، رجل فريد لم تلن له قناة، ولم يفتّ في عضده تهديد أو وعيد، فأقبل على عدوّه بما يسوؤه وهو في قبضته، والسيف مصلت على رقبته، فلم يعبأ به، وهو يعلم أنه مقتول لا محالة.
وعن الحسن قال: لما أُتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت الشقي ابن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: سيد ولد آدم؛ النبي المصطفى خير من بقي، وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: الصديق؛ خليفة الله، مضى حميداً، وعاش سعيداً، مضى على منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم لم يغير، ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر؟ قال:
عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه، لم يغيّر، ولم يبدّل، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهّز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء، قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم؛ زوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: أنت أعلم ونفسك، قال: بت بعلمك، قال: إذاً يسوؤك ولا يسرّك، قال: بت بعلمك، قال: اعفني، قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله – تعالى –، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة، وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم، قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك، قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، السيف والنطع، قال: فلما ولّى ضحك، قال: أليس قد بلغني أنك لم تضحك؟ قال: وقد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله، ومن حلم الله عنك، قال: يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة وقال:{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فصرف وجهه عن القبلة، قال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ، قال: اضرب به الأرض، قال:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، قال: اذبح عدو الله، فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم.
وقبل أن ينزل السيف على رقبة سعيد دعا ربه قائلاً: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي.
وسقط رأس سعيد على الأرض، الرأس التي كانت تحوي علوماً كثيرة، وتضم تفسير كلام رب العالمين، سقطت على الأرض، وذكر