المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

الفصل: ‌10 - ثلاثة في غار

‌10 - ثلاثة في غار

روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِله، فَادْعُوا الله تَعَالَى بِهَا؛ لَعَلَّ الله يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ» .

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: «اللهمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِي وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا.

فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ».

فَفَرَجَ الله مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.

وَقَالَ الْآخَرُ: «اللهمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا ـ (وفي رواية لمسلم أيضًا: فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي) ـ فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: «يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ» ، فَقُمْتُ عَنْهَا، ـ (وفي رواية للبخاري: فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ) ـ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً» فَفَرَجَ لَهُمْ.

وَقَالَ الْآخَرُ: «اللهمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: «أَعْطِنِي حَقِّي» ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ:«اتَّقِ الله وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي» ، قُلْتُ:«اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا، فَقَالَ: «اتَّقِ الله وَلَاتَسْتَهْزِئْ بِي» ، فَقُلْتُ:«إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا» ، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ».

فَفَرَجَ الله مَا بَقِيَ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ».

ص: 23

الْغَار: النَّقْب فِي الْجَبَل.

فَإِذَا أَرَحْت عَلَيْهِمْ: إِذَا رَدَدْت الْمَاشِيَة مِنْ الْمَرْعِي إِلَيْهِمْ، وَإِلَى مَوْضِع مَبِيتهَا.

(نَأَى بِي ذَات يَوْم الشَّجَر) المَعْنَى: أَنَّهُ اِسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمه فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانه زِيَادَة عَلَى الْعَادَة فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ.

الْحِلَاب: الْإِنَاء الَّذِي يُحْلَب فِيهِ، وَقَدْ يُرِيد بِالْحِلَابِ هُنَا اللَّبَن الْمَحْلُوب.

وَالصِّبْيَة يَتَضَاغَوْنَ: أَيْ: يَصِيحُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ مِنْ الْجُوع.

فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي: حَالِي اللَّازِمَة.

وَقَعْت بَيْن رِجْلَيْهَا: جَلَسْت مَجْلِس الرَّجُل لِلْجِمَاع.

لَا تَفْتَح الْخَاتَم: الْخَاتَم كِنَايَة عَنْ بَكَارَتهَا.

إِلَّا بِحَقِّهِ: بِنِكَاحٍ لَا بِزِنًا.

بِفَرَقِ أَرُزٍّ: الْفَرَق إِنَاء يَسَع ثَلَاثَة آصَع. والصاعُ مِكيالٌ لأَهل المدينة يأُخذ أَربعة أَمدادٍ. والمُد مُقَدَّر بأَن يَمُدَّ الرجل يدَيْه فيملأَ كفيه.

فَرَغِبَ عَنْهُ: كَرِهَهُ وَسَخِطَهُ وَتَرَكَهُ.

ص: 25

أَلَمَّتْ بِهَا سَنَة: وَقَعَتْ فِي سَنَة قَحْط.

مَنْ مِنهم عَمَلُه أَفْضَلُ مِنْ عَمَل الْآخَرَيْنِ؟

صَاحِب الْأَبَوَيْنِ فَضِيلَته مَقْصُورَة عَلَى نَفْسه؛ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِأَبَوَيْهِ.

وَصَاحِب الْأَجِير نَفْعه مُتَعَدٍّ وَأَفَادَ بِأَنَّهُ كَانَ عَظِيم الْأَمَانَة.

وَصَاحِب الْمَرْأَة أَفْضَلُهمْ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبه خَشْيَة رَبّه، وقَدْ شَهِدَ اللهُ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ الْجَنَّة حَيْثُ قَالَ:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَام رَبّه وَنَهَى النَّفْس عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة هِيَ الْمَأْوَى} . (النازعات:40 - 41).

وَقَدْ أَضَافَ هَذَا الرَّجُل إِلَى ذَلِكَ تَرْك الذَّهَب الَّذِي أَعْطَاهُ لِلْمَرْأَةِ فَأَضَافَ إِلَى النَّفْع الْقَاصِر النَّفْع الْمُتَعَدِّي، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمّه، فَتَكُون فِيهِ صِلَة رَحِم أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَة قَحْط فَتَكُون الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ أَحْرَى.

من عبر القصة:1 - يُسْتَحَبّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ فِي حَال كَرْبه، وَغَيْره بِصَالِحِ عَمَله، وَيَتَوَسَّل إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوهُ

ص: 26

فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، وَذَكَرَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي مَعْرِض الثَّنَاء عَلَيْهِمْ، وَجَمِيل فَضَائِلهمْ.

2 -

فَضْل الْعَفَاف وَالِانْكِفَاف عَنْ الْمُحَرَّمَات، لَا سِيَّمَا بَعْد الْقُدْرَة عَلَيْهَا، وَالْهَمّ بِفِعْلِهَا، وَيَتْرُك لِلهِ تَعَالَى خَالِصًا.

3 -

أَنَّ تَرْك الْمَعْصِيَة يَمْحُو مُقَدِّمَات طَلَبهَا، وَأَنَّ التَّوْبَة تَجُبّ مَا قَبْلهَا.

4 -

جَوَاز الْإِجَارَة وَفَضْل حُسْن الْعَهْد، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وَالسَّمَاحَة فِي الْمُعَامَلَة.

5 -

إِثْبَات كَرَامَات الْأَوْلِيَاء، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السنةِ والجماعةِ.

6 -

فَضْل الْإِخْلَاص فِي الْعَمَل.

7 -

أثر التقوى في تخليص العبد من كربه وبلائه؛ قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2).

8 -

الأثر الطيب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نَهَتْ المرأة ابنَ عمِّها لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فَقَالَتْ: «يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ

ص: 27