المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الحادي والأربعون: في معرفة إعرابه - الإتقان في علوم القرآن - جـ ٢

[الجلال السيوطي]

الفصل: ‌النوع الحادي والأربعون: في معرفة إعرابه

‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ إِعْرَابِهِ

أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ مِنْهُمْ مَكِّيٌّ وَكِتَابُهُ فِي الْمُشْكِلِ خَاصَّةً وَالْحَوْفِيُّ وَهُوَ أَوْضَحُهَا وَأَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ وَهُوَ أَشْهَرُهَا وَالسَّمِينُ وَهُوَ أَجَلُّهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ حَشْوٍ وَتَطْوِيلٍ وَلَخَّصَهُ السَّفَاقِسِيُّ فَحَرَّرَهُ وَتَفْسِيرُ أَبِي حَيَّانَ مَشْحُونٌ بِذَلِكَ.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا النَّوْعِ مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِعْرَابَ يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "تَعَلَّمُوا اللَّحْنَ وَالْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ".

وَأَخْرَجَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بِهَا قِرَاءَتَهُ قَالَ: حَسَنٌ يَا بن أَخِي فَتَعَلَّمْهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ الْآيَةَ فَيَعْيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ فِيهَا.

وَعَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْكَاشِفِ عَنْ أَسْرَارِهِ النَّظَرُ فِي الْكَلِمَةِ وَصِيغَتِهَا وَمَحَلِّهَا كَكَوْنِهَا مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ أَوْ فِي جَوَابٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ. أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا قَبْلَ الْإِعْرَابِ فَإِنَّهُ فَرْعُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْرَابُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ.

ص: 309

وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ نَصْبِ " كَلَالَةٍ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} : إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَادِ بِهَا فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَيِّتِ فَهُوَ حال و" يورث " خبر " كان " أو صفة وكان تامة أو ناقصة وكلالة خَبَرٌ أَوْ لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ ذَا كَلَالَةٍ وَهُوَ أَيْضًا حَالٌ أَوْ خَبَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ لِلْقَرَابَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} : إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي الْقُرْآنَ – فَـ" مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، - أَوِ الْفَاتِحَةَ فَلِبَيَانِ الْجِنْسِ.

وَقَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ فَهِيَ مَصْدَرٌ أَوْ بِمَعْنَى مُتَّقًى أَيْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فَمَفْعُولٌ بِهِ أَوْ جَمْعًا كَرُمَاةٍ فَحَالٌ.

وَقَوْلُهُ: {غُثَاءً أَحْوَى} إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَفَافِ وَالْيُبْسِ فَهُوَ صِفَةٌ لِغُثَاءٍ أَوْ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ فَحَالٌ مِنَ الْمَرْعَى.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ زَلَّتْ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْرِبِينَ رَاعَوْا فِي الْإِعْرَابِ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مُوجِبِ الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ عَطْفُ " أَنْ نَفْعَلَ " عَلَى " أَنْ نَتْرُكَ "، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مَا يشاؤون وَإِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ عَلَى " مَا " فَهُوَ مَعْمُولٌ لِلتَّرْكِ وَالْمَعْنَى: أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ وَمُوجِبُ الْوَهْمِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُعْرِبَ يَرَى أَنْ وَالْفِعْلَ مَرَّتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ.

ص: 310

الثَّانِي: أَنْ يُرَاعِيَ مَا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ فَرُبَّمَا رَاعَى الْمُعْرِبُ وَجْهًا صَحِيحًا وَلَا يَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ فِي الصِّنَاعَةِ فَيُخْطِئُ.

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} : إن ثمودا مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ لِـ" مَا " النَّافِيَةِ الصَّدْرُ فَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى " عَادًا " أَوْ على تقدير: "وأهلك ثمودا ".

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} إِنَّ الظَّرْفَ مُتَعَلِّقٌ بَاسِمِ لَا وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْمَ " لَا " حِينَئِذٍ مُطَوَّلٌ فَيَجِبُ نَصْبُهُ وَتَنْوِينُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ.

وَقَوْلُ الْحَوْفِيِّ: إِنَّ الْبَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} مُتَعَلِّقَةٌ بِـ" نَاظِرَةٌ " وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدْرُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ.

وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِهِ فِي: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} إِنَّهُ حَالٌ مِنْ مَعْمُولِ " ثُقِفُوا " أَوْ " أُخِذُوا " بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَهُ الصَّدْرُ بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مليا بالعربية لئلا يخرج عل مَا لَمْ يَثْبُتْ كَقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} : إِنَّ الْكَافَ قَسَمٌ حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَشَنَّعَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ عَلَيْهِ فِي سُكُوتِهِ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ الْكَافَ لَمْ تَجِئْ

ص: 311

بِمَعْنَى وَاوِ الْقَسَمِ وَإِطْلَاقَ مَا الْمَوْصُولَةِ عَلَى اللَّهِ وَرَبْطَ الْمَوْصُولِ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ فَاعِلُ " أَخْرَجَكَ " وَبَابُ ذَلِكَ الشِّعْرُ.

وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي الآية إنها مع مجر ورها خَبَرٌ مَحْذُوفٌ أَيْ هَذِهِ الْحَالُ مِنْ تَنْفِيلِكَ الْغُزَاةَ عَلَى مَا رَأَيْتَ فِي كَرَاهَتِهِمْ لَهَا كَحَالِ إِخْرَاجِكَ لِلْحَرْبِ فِي كَرَاهِيَتِهِمْ لَهَا. وَكَقَوْلِ ابْنِ مِهْرَانَ فِي قِرَاءَةِ: "إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَتْ " بِتَشْدِيدِ التَّاءِ: إِنَّهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي أَوَّلِ الْمَاضِي وَلَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَإِنَّمَا أَصْلُ الْقِرَاءَةِ: "إِنَّ الْبَقَرَةَ تَشَابَهَتْ " بِتَاءِ الْوَحْدَةِ ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي تَاءِ " تَشَابَهَتْ " فَهُوَ إِدْغَامٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَتَجَنَّبَ الْأُمُورَ الْبَعِيدَةَ وَالْأَوْجُهَ الضَّعِيفَةَ وَاللُّغَاتِ الشَّاذَّةَ.

وَيُخَرِّجُ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْقَوِيِّ وَالْفَصِيحِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ إِلَّا الْوَجْهُ الْبَعِيدُ فَلَهُ عُذْرٌ وَإِنْ ذَكَرَ الْجَمِيعَ لِقَصْدِ الْإِغْرَابِ وَالتَّكْثِيرِ فَصَعْبٌ شَدِيدٌ أَوْ لِبَيَانِ الْمُحْتَمَلِ وَتَدْرِيبِ الطَّالِبِ فَحَسَنٌ فِي غَيْرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَمَّا التَّنْزِيلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَرَّجَ إِلَّا عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَتُهُ فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ شَيْءٌ فَلْيَذْكُرِ الْأَوْجُهَ الْمُحْتَمَلَةَ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قال في: {وَقِيلِهِ} ، بِالْجَرِّ أَوِ النَّصْبِ: إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى لَفْظِ " السَّاعَةِ " أَوْ مَحَلِّهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَاعُدِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ قَسَمٌ أَوْ مَصْدَرُ " قَالَ " مقدرا.

وَمَنْ قَالَ فِي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} : إِنَّ خَبَرَهُ {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} : إِنَّ جَوَابَهُ {إِنَّ ذَلِكَ

ص: 312

لَحَقٌّ} وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا أَوْ إِنَّهُ لَمُعْجِزٌ أَوْ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} : إن الوقف على " جناح " و" عليه " إِغْرَاءٌ لِأَنَّ إِغْرَاءَ الْغَائِبِ ضَعِيفٌ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي {عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} فَإِنَّهُ حَسَنٌ لِأَنَّ إِغْرَاءَ الْمُخَاطَبِ فَصِيحٌ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِضَعْفِهِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُنَادَى.

وَمَنْ قَالَ فِي: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} بِالرَّفْعِ: إِنَّ " أَصْلَهُ " أَحْسَنُوا فَحُذِفَتِ الْوَاوُ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالضَّمَّةِ لِأَنَّ بَابَ ذَلِكَ الشِّعْرُ وَالصَّوَابُ تَقْدِيرُ مُبْتَدَإٍ أَيْ هُوَ أَحْسَنُ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ} بِضَمِّ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ إِنَّهُ مِنْ بَابِ:

إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعِ

لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا ضَمَّةُ إِتْبَاعٍ وَهُوَ مَجْزُومٌ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَأَرْجُلَكُمْ} إِنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْجِوَارِ لِأَنَّ الْجَرَّ عَلَى الْجِوَارِ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ شَاذٌّ لَمْ يَرِدْ مِنْهُ إِلَّا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على {بِرُؤُوسِكُمْ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَسْحُ الْخُفِّ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْضِعُ لَا يَتَخَرَّجُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَرْجُوحٍ،

ص: 313

فَلَا حَرَجَ عَلَى مُخْرِجِهِ كَقِرَاءَةِ: {نُجِي المُؤْمِنِينَ} قِيلَ: الْفِعْلُ مَاضٍ وَيُضَعِّفُهُ إِسْكَانُ آخِرِهِ وَإِنَابَةُ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ عَنِ الْفَاعِلِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ.

وَقِيلَ: مُضَارِعٌ أَصْلُهُ " نُنْجِي " بِسُكُونِ ثَانِيهٍ وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ النُّونَ لَا تُدْغَمُ فِي الْجِيمِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ " نُنَجِّي " بِفَتْحِ ثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ ثَالِثِهِ فَحُذِفَتِ النُّونُ وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي التَّاءِ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْأَوْجُهِ الظَّاهِرَةِ فَتَقُولُ فِي نَحْوِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} يَجُوزُ كَوْنُ الْأَعْلَى صِفَةً لِلرَّبِّ وَصِفَةً لِلِاسْمِ وَفِي نَحْوِ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ} يَجُوزُ كَوْنُ " الَّذِينَ " تَابِعًا وَمَقْطُوعًا إِلَى النَّصْبِ بِإِضْمَارِ " أَعْنِي " أَوْ " أَمْدَحُ " وَإِلَى الرَّفْعِ بِإِضْمَارِ " هُمْ ".

السَّادِسُ: أَنْ يُرَاعِيَ الشُّرُوطَ الْمُخْتَلِفَةَ بِحَسَبِ الْأَبْوَابِ وَمَتَى لَمْ يَتَأَمَّلْهَا اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ وَالشَّرَائِطُ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} إِنَّهُمَا عَطْفُ بَيَانٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا نَعْتَانِ لِاشْتِرَاطِ الِاشْتِقَاقِ فِي النَّعْتِ وَالْجُمُودِ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ.

وَفِي قَوْلِهِ فِي: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} بِنَصْبِ " تَخَاصُمِ ": إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْإِشَارَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ إِنَّمَا يُنْعَتُ بِذِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ وَالصَّوَابُ كَوْنُهُ بَدَلًا.

ص: 314

وَفِي قَوْلِهِ فِي: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} وفي {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} إِنَّ الْمَنْصُوبَ فِيهِمَا ظَرْفٌ لِأَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ شَرْطُهُ الْإِبْهَامُ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى إِسْقَاطِ الْجَارِّ تَوَسُّعًا وَهُوَ فِيهِمَا " إِلَى ".

وَفِي قَوْلِهِ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} : إِنَّ " أَنْ " مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ وَصِلَتُهَا عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى الْهَاءِ لِامْتِنَاعِ عَطْفِ الْبَيَانِ عَلَى الضَّمِيرِ كَنَعْتِهِ. وَهَذَا الْأَمْرُ السَّادِسُ عَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي وَيَحْتَمِلُ دُخُولُهُ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي.

السَّابِعُ: أَنْ يُرَاعِيَ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ مَا يُشَاكِلُهُ فَرُبَّمَا خَرَّجَ كَلَامًا عَلَى شَيْءٍ وَيَشْهَدُ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِخِلَافِهِ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَعْطُوفًا عَلَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} لِأَنَّ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ أَوْلَى وَلَكِنَّ مَجِيءَ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} بِالْفِعْلِ فِيهِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى " رَيْبَ " وَ" فِيهِ " خَبَرُ " هُدًى " وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ص: 315

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : إِنَّ الرَّابِطَ الْإِشَارَةُ وَإِنَّ الصَّابِرَ وَالْغَافِرَ جُعِلَا مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مُبَالَغَةً وَالصَّوَابُ أَنَّ الْإِشَارَةَ لِلصَّبْرِ وَالْغُفْرَانِ بِدَلِيلِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَلَمْ يَقُلْ " إِنَّكُمْ ".

وَمَنْ قَالَ فِي نَحْوِ: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} إِنَّ الْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالصَّوَابُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّ الخبر لم يجيء فِي التَّنْزِيلِ مُجَرَّدًا مِنَ الْبَاءِ إِلَّا وَهُوَ مَنْصُوبٌ.

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إِنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ مُبْتَدَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِدَلِيلِ: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .

تَنْبِيهٌ

وَكَذَا إِذَا جَاءَتْ قِرَاءَةٌ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ تساعد أحد الإعرابيين فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَرَجَّحَ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} ، قِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ وَقِيلَ: وَلَكِنَّ البر بر مَنْ آمَنَ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ قُرِئَ: "وَلَكِنَّ الْبَارَّ ".

تَنْبِيهٌ

وَقَدْ يُوجَدُ مَا يُرَجِّحُ كُلًّا مِنَ الْمُحْتَمَلَاتِ فَيُنْظَرُ فِي أَوْلَاهَا نَحْوَ: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} ، فَـ" مَوْعِدًا " مُحْتَمِلٌ لِلْمَصْدَرِ وَيَشْهَدُ لَهُ:{لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} وَلِلزَّمَانِ وَيَشْهَدُ لَهُ: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وَلِلْمَكَانِ وَيَشْهَدُ لَهُ: {مَكَاناً سُوَىً} وَإِذَا أَعْرَبَ " مَكَانًا " بَدَلًا مِنْهُ لَا ظَرْفًا لِـ" نُخْلِفُهُ " تَعَيَّنَ ذَلِكَ.

ص: 316

الثامن: أن يراعي الاسم وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: {سَلْسَبِيلاً} إِنَّهَا جُمْلَةٌ أَمْرِيَّةٌ أَيْ سَلْ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكُتِبَتْ مَفْصُولَةً.

وَمَنْ قَالَ فِي: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ،: إِنَّهَا إِنَّ وَاسْمُهَا أَيْ إِنَّ الْقِصَّةَ وَذَانِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَسَاحِرَانِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَهُوَ بَاطِلٌ برسم " أن " منفصلة وهذان مُتَّصِلَةً.

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} إِنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الرَّسْمَ " وَلَا ".

وَمَنْ قَالَ في: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} إِنَّ " هُمْ أَشَدُّ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَأَيُّ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْإِضَافَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِرَسْمِ " أَيُّهُمْ " مُتَّصِلَةً.

وَمَنْ قَالَ فِي: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} إِنَّ " هُمْ " ضَمِيرُ رَفْعٍ مُؤَكِّدٌ لِلْوَاوِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِرَسْمِ الْوَاوِ فِيهِمَا بِلَا أَلِفٍ بَعْدَهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ.

التَّاسِعُ: أَنْ يَتَأَمَّلَ عِنْدَ وُرُودِ الْمُشْتَبِهَاتِ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} إنه فعل تَفْضِيلٍ وَالْمَنْصُوبُ تَمْيِيزٌ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ " الْأَمَدَ " لَيْسَ مُحْصِيًا بَلْ مُحْصًى وَشَرْطُ التَّمْيِيزِ الْمَنْصُوبِ بَعْدَ

ص: 317

" أَفْعَلَ " كَوْنُهُ فَاعِلًا فِي الْمَعْنَى فَالصَّوَابُ أَنَّهُ فِعْلٌ وَأَمَدًا مَفْعُولٌ مِثْلَ: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .

الْعَاشِرُ: أَلَّا يُخَرِّجَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَوْ خِلَافِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَكِّيٌّ فِي قَوْلِهِ فِي: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي} إِنَّ الْكَافَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ أَيْ إِبْطَالًا كَإِبْطَالِ الَّذِي. وَالْوَجْهُ كَوْنُهُ حَالًا مِنَ الْوَاوِ أَيْ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ مُشْبِهِينَ الَّذِي فَهَذَا لَا حَذْفَ فِيهِ.

الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ نَحْوَ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَإِنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْوَاوَ فِي {يَعْفُونَ} ضَمِيرُ الْجَمْعِ فَيُشْكِلُ إِثْبَاتُ النُّونِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ فِيهِ لَامُ الْكَلِمَةِ فَهِيَ أَصْلِيَّةٌ وَالنُّونُ ضَمِيرُ النِّسْوَةِ وَالْفِعْلُ مَعَهَا مَبْنِيٌّ وَوَزْنُهُ: "يَفْعُلْنَ " بِخِلَافِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ} فَالْوَاوُ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ.

الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَجْتَنِبَ إِطْلَاقَ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الزَّائِدَ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ وَكِتَابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلِذَا فَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْبِيرِ بَدَلَهُ بِالتَّأْكِيدِ وَالصِّلَةِ وَالْمُقْحَمِ.

وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ،

ص: 318

فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَمُتَعَارَفِهِمْ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ وَهَذَا لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ.

قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ فَلَيْسَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اللَّفْظِ الَّذِي عَدَّهُ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّفْظِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.

وَأَقُولُ: بَلِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَانَ الْكَلَامُ دُونَهُ مَعَ إِفَادَتِهِ أَصْلَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَبْتَرَ خَالِيًا عَنِ الرَّوْنَقِ الْبَلِيغِيِّ لَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْإِسْنَادِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي خَالَطَ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ وَعَرَفَ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهَا وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَلْفَاظِهِمْ وَأَمَّا النَّحْوِيُّ الْجَافِي فَعَنْ ذَلِكَ بِمُنْقَطَعِ الثَّرَى.

تَنْبِيهَاتٌ

الْأَوَّلُ: قَدْ يَتَجَاذَبُ الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ وَالْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَالْمُتَمَسَّكُ به صحة المعنى ويؤول لِصِحَّةِ الْمَعْنَى الْإِعْرَابُ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ " يَوْمٌ " يَقْتَضِي الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ " رَجْعٌ " أَيْ أَنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَقَادِرٌ لَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ لِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ فَيُجْعَلُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ

ص: 319

وَكَذَا: {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ} فالمعنى يقتضي تعلق " إذ " بِالْمَقْتِ وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ لِلْفَصْلِ الْمَذْكُورِ فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ هَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى وَهَذَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ وَتَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ لَحْنِ الْقُرْآنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} فقالت: يا بن أَخِي هَذَا عَمَلُ الْكُتَّابِ أَخْطَئُوا فِي الْكِتَابِ " هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

وَقَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عُرِضَتْ عَلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَ فِيهَا حُرُوفًا مِنَ اللَّحْنِ فَقَالَ: لَا تُغَيِّرُوهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ سَتُغَيِّرُهَا - أَوْ قَالَ: سَتُعْرِبُهَا بِأَلْسِنَتِهَا لَوْ كَانَ الْكَاتِبُ مِنْ ثَقِيفٍ وَالْمُمْلِي مِنْ هُذَيْلٍ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الأنبا ري فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ وَابْنُ أُشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ.

ثُمَّ أَخْرَجَ ابن الأنبا ري نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ أُشْتَةَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ.

ص: 320

وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} وَيَقُولُ: هُوَ لَحْنٌ مِنَ الْكَاتِبِ.

وَهَذِهِ الْآثَارُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَلْحَنُونَ فِي الْكَلَامِ فَضْلًا عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ ثَانِيًا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي تَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أُنْزِلَ وَحَفِظُوهُ وَضَبَطُوهُ واتقوه ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ ثَالِثًا اجْتِمَاعُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى الْخَطَإِ وَكِتَابَتِهِ! ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ رَابِعًا عَدَمُ تَنَبُّهِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِعُثْمَانَ أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ تَغْيِيرِهِ! ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ اسْتَمَرَّتْ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْخَطَإِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِالتَّوَاتُرِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ! هَذَا مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعَادَةً. وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبٌ مُنْقَطِعٌ وَلِأَنَّ عُثْمَانَ جُعِلَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ فَكَيْفَ يَرَى فِيهِ لَحْنًا وَيَتْرُكُهُ لِتُقِيمَهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا! فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا جَمْعَهُ وَكِتَابَتَهُ لَمْ يُقِيمُوا ذَلِكَ وَهُمُ الْخِيَارُ فَكَيْفَ يُقِيمُهُ غَيْرُهُمْ! وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ مُصْحَفًا وَاحِدًا بَلْ كَتَبَ عِدَّةَ مَصَاحِفَ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّحْنَ وَقَعَ فِي جَمِيعِهَا فَبَعِيدٌ اتِّفَاقُهَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ فِي بَعْضِهَا فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِصِحَّةِ الْبَعْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ اللَّحْنَ كَانَ فِي مُصْحَفٍ دُونَ مُصْحَفٍ وَلَمْ تَأْتِ الْمَصَاحِفُ قَطُّ مُخْتَلِفَةً إِلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بلحن.

الوجه الثَّانِي: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّمْزِ وَالْإِشَارَةِ وَمَوَاضِعِ الْحَذْفِ نَحْوَ: "الكتب "، " وَالصَّابِرِينَ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: أنه مؤول عَلَى أَشْيَاءَ خَالَفَ لَفْظُهَا رَسْمَهَا كَمَا كَتَبُوا

ص: 321

{وَلَا أَوْضَعُوا} وَ {لَا أَذْبَحَنَّهُ} بألف بعد لا و {جزاؤا الظالمين} بواو وألف و " بأييد " بِيَاءَيْنِ فَلَوْ قُرِئَ بِظَاهِرِ الْخَطِّ لَكَانَ لَحْنًا وَبِهَذَا الْجَوَابِ وَمَا قَبْلَهُ جَزَمَ ابْنُ أُشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ: "الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ "فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ: لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ وَمَا يَشْهَدُ عَقْلٌ بِأَنَّ عُثْمَانَ وَهُوَ إِمَامُ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ النَّاسِ فِي وَقْتِهِ وَقُدْوَتُهُمْ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ فَيَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلَلًا وَيُشَاهِدُ فِي خَطِّهِ زَلَلًا فَلَا يُصْلِحُهُ! كَلَّا وَاللَّهِ مَا يَتَوَهَّمُ عَلَيْهِ هَذَا ذُو إِنْصَافٍ وَتَمْيِيزٍ وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ أَخَّرَ الْخَطَأَ فِي الْكِتَابِ لِيُصْلِحَهُ مَنْ بَعْدَهُ. وَسَبِيلُ الْجَائِينَ مِنْ بَعْدِهِ الْبِنَاءُ عَلَى رَسْمِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُكْمِهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "أَرَى فِيهِ لَحْنًا "، أَرَى فِي خَطِّهِ لَحْنًا إِذَا أَقَمْنَاهُ بِأَلْسِنَتِنَا كَانَ لَحْنُ الْخَطِّ غَيْرَ مُفْسِدٍ وَلَا مُحَرِّفٍ مِنْ جِهَةِ تَحْرِيفِ الْأَلْفَاظِ وَإِفْسَادِ الْإِعْرَابِ فَقَدْ أَبْطَلَ وَلَمْ يُصِبْ لِأَنَّ الْخَطَّ مُنْبِئٌ عَنِ النُّطْقِ فَمَنْ لَحَنَ فِي كَتْبِهِ فَهُوَ لَاحِنٌ فِي نُطْقِهِ وَلَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ لِيُؤَخِّرَ فَسَادًا فِي هِجَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ كَتْبٍ وَلَا نُطْقٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مُوَاصِلًا لِدَرْسِ الْقُرْآنِ مُتْقِنًا لِأَلْفَاظِهِ مُوَافِقًا عَلَى مَا رُسِمَ فِي المصاحف المنقذة إِلَى الْأَمْصَارِ وَالنَّوَاحِي. ثُمَّ أَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَارَكٍ حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ - شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - عَنْ هَانِئٍ الْبَرْبَرِيِّ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ وَهُمْ يَعْرِضُونَ الْمَصَاحِفَ فَأَرْسَلَنِي بِكَتِفِ شَاةٍ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِيهَا {لَمْ

ص: 322

يَتَسَن} وفيها {لا تَبْدِيل للخَلْق} وفيها {فَأَمْهِل الكافِرين} قَالَ: فَدَعَا بِالدَّوَاةِ فَمَحَا أَحَدَ اللَّامَيْنِ فَكَتَبَ: {لَخَلْقِ اللَّهِ} وَمَحَى {فَأَمْهِل} وَكَتَبَ {فَمَهِّلِ} وَكَتَبَ {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أَلْحَقَ فِيهَا الْهَاءَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَكَيْفَ يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ رَأَى فَسَادًا فَأَمْضَاهُ وَهُوَ يُوقَفُ عَلَى مَا كُتِبَ وَيُرْفَعُ الْخِلَافُ إِلَيْهِ الْوَاقِعُ مِنَ النَّاسِخِينَ لِيَحْكُمَ بِالْحَقِّ وَيُلْزِمَهُمْ إِثْبَاتُ الصَّوَابِ وَتَخْلِيدُهُ؟!! انْتَهَى.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ عَنْ سَوَّارِ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمَصَاحِفِ فَقَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ عُمَرُ قَدْ هَمَّ أَنْ يَجْمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ فَطُعِنَ طَعْنَتَهُ الَّتِي مَاتَ بِهَا فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَذَكَرَ لَهُ فَجَمَعَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ ثُمَّ بَعَثَنِي إِلَى عَائِشَةَ فَجِئْتُ بِالصُّحُفِ فَعَرَضْنَاهَا عَلَيْهَا حَتَّى قَوَّمْنَاهَا ثُمَّ أَمَرَ بِسَائِرِهَا فَشُقِّقَتْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ضَبَطُوهَا وَأَتْقَنُوهَا وَلَمْ يَتْرُكُوا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ وَلَا تَقْوِيمٍ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الأعلى ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا فُرِغَ مِنَ الْمُصْحَفِ أُتِيَ بِهِ عُثْمَانَ فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ! أَرَى شَيْئًا سَنُقِيمُهُ

ص: 323

بِأَلْسِنَتِنَا فَهَذَا الْأَثَرُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ فَكَأَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَرَأَى فِيهِ شَيْئًا كُتِبَ عَلَى غَيْرِ لِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي " التَّابُوةُ "وَ " التَّابُوتُ " فَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَيُقِيمُهُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ ثُمَّ وَفَى بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَرْضِ وَالتَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا. وَلَعَلَّ مَنْ رَوَى تِلْكَ الْآثَارَ السَّابِقَةَ عَنْهُ حَرَّفَهَا وَلَمْ يُتْقِنِ اللَّفْظَ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عُثْمَانَ فَلَزِمَ مِنْهُ مَا لَزِمَ مِنَ الْإِشْكَالِ فَهَذَا أَقْوَى مَا يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَبَعْدُ فَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَمَّا الْجَوَابُ بِالتَّضْعِيفِ فَلِأَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى وَأَمَّا الْجَوَابُ بِالرَّمْزِ وَمَا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ سُؤَالَ عُرْوَةَ عَنِ الأحرف المذكور لَا يُطَابِقُهُ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ أُشْتَةَ وَتَبِعَهُ ابْنُ جُبَارَةَ فِي شَرْحِ الرَّائِيَةِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا " أَخْطَئُوا " أَيْ فِي اخْتِيَارِ الْأَوْلَى مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ لَا أَنَّ الَّذِي كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَالَا يَجُوزُ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ وُقُوعِهِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَحْنٌ مِنَ الْكَاتِبِ فَيَعْنِي بِاللَّحْنِ الْقِرَاءَةَ وَاللُّغَةَ يَعْنِي أَنَّهَا لُغَةُ الَّذِي كَتَبَهَا وَقِرَاءَتُهُ وَفِيهَا قِرَاءَةٌ أُخْرَى.

ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} و " إِنْ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ " سَوَاءٌ لَعَلَّهُمْ كَتَبُوا الْأَلِفَ مَكَانَ الْيَاءِ وَالْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّابِئُونَ} مَكَانَ الْيَاءِ قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ إِبْدَالِ حَرْفٍ فِي الْكِتَابِ بحرف مثل الصلاة والزكاة والحياة.

وَأَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فِيهَا وَالْكِتَابَةُ

ص: 324

بِخِلَافِهَا وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى مُقْتَضَى الرَّسْمِ فَلَا وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْرُفِ وَوَجَّهُوهَا عَلَى أَحْسَنِ تَوْجِيهٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فَفِيهِ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَارٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجْرِي الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ لِكِنَانَةَ، وَقِيلَ: لِبَنِي الْحَارِثِ.

الثَّانِي: أَنَّ اسْمَ " إِنَّ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفًا وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ خَبَرُ إِنَّ.

الثَّالِثُ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ " سَاحِرَانِ " خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: لَهُمَا سَاحِرَانِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ " إِنْ " هُنَا بِمَعْنَى: نَعَمْ.

الْخَامِسُ: أَنَّ " هَا " ضَمِيرُ الْقِصَّةِ اسْمُ إِنَّ وَ " ذَانِ لَسَاحِرَانِ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَتَقَدَّمَ رَدُّ هَذَا الْوَجْهِ بِانْفِصَالِ " إِنْ " واتصال ها فِي الرَّسْمِ.

قُلْتُ: وَظَهَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَلِفِ لِمُنَاسَبَةِ " سَاحِرَانِ يُرِيدَانِ " كَمَا نون {سَلاسِلا} لمناسبة {وَأَغْلالاً} و {سَبَأٍ} لمناسبة {بِنَبَأٍ} .

وأما قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} فَفِيهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَقْطُوعٌ إِلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ: "أَمْدَحُ " لِأَنَّهُ أَبْلَغُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أَيْ وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ وَقِيلَ:

ص: 325

التَّقْدِيرُ: يُؤْمِنُونَ بِدِينِ الْمُقِيمِينَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ: بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " قَبْلِ " أَيْ وَمِنْ قَبْلِ الْمُقِيمِينَ فَحُذِفَتْ " قَبْلُ " وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الكاف في " قبلك".

الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي " إِلَيْكَ ".

السَّادِسُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على الضمير في " منهم ".

حَكَى هَذِهِ الْأَوْجُهَ أَبُو الْبَقَاءِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالصَّابِئُونَ} فَفِيهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ أَيْ وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ " إِنَّ " مَعَ اسْمِهَا فَإِنَّ مَحَلَّهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاعِلِ فِي هَادُوا.

الرَّابِعُ: أَنَّ " إِنَّ " بِمَعْنَى نَعَمْ فَـ " الَّذِينَ آمَنُوا " وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ " وَالصَّابِئُونَ " عُطِفَ عَلَيْهِ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى إِجْرَاءِ صِيغَةِ الْجَمْعِ مَجْرَى الْمُفْرَدِ وَالنُّونُ حَرْفُ الْإِعْرَابِ. حَكَى هَذِهِ الْأَوْجُهَ أَبُو الْبَقَاءِ.

ص: 326

تَذْنِيبٌ

يَقْرُبُ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أُشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ عَنْ أَبِي خَلَفٍ مَوْلَى بَنِي جُمَحٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكِ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا؟ قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أَوْ " وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا " فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا قَالَتْ: أَيُّهُمَا؟ قُلْتُ: "وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا " فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ.

وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} قَالَ: إِنَّمَا هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا " أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ " هُوَ " - فِيمَا أَحْسَبُ - مِمَّا أَخْطَأَتْ بِهِ الْكُتَّابُ.

وما أخرجه ابن الأنبا ري مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ " أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا " فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} فَقَالَ: أَظُنُّ الْكَاتِبَ كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ.

وَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ} : إِنَّمَا هِيَ " وَوَصَّى رَبُّكَ " الْتَزَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ.

ص: 327

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ، بِلَفْظِ " اسْتَمَدَّ مِدَادًا كَثِيرًا فَالْتَزَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ ".

وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: {كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ؟ قَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ} قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ نَقْرَؤُهَا نَحْنُ وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هِيَ " وَوَصَّى رَبُّكَ "، وَكَذَلِكَ كَانَتْ تُقْرَأُ وَتُكْتَبُ فَاسْتَمَدَّ كَاتِبُكُمْ فَاحْتَمَلَ الْقَلَمُ مِدَادًا كَثِيرًا فَالْتَصَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ ثُمَّ قَرَأَ:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} وَلَوْ كَانَتْ " قَضَى "مِنَ الرَّبِّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رَدَّ قَضَاءِ الرَّبِّ وَلَكِنَّهُ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا الْعِبَادَ.

وَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاءً} وَيَقُولُ: خُذُوا هَذِهِ الْوَاوَ وَاجْعَلُوهَا هُنَا: {وَالَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْزِعُوا هَذِهِ الْوَاوَ فَاجْعَلُوهَا فِي: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} .

وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مِثْلَ نُورِ الْمِشْكَاةِ إِنَّمَا هِيَ " مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ ".

وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ أُشْتَةَ عَنْ هَذِهِ الْآثَارِ كُلِّهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْطَئُوا فِي الِاخْتِيَارِ،

ص: 328

وَمَا هُوَ الْأَوْلَى لِجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. لَا أَنَّ الَّذِي كُتِبَ خَطَأٌ خَارِجٌ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: فَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ: حُرِّفَ الْهِجَاءُ أُلْقِيَ إِلَى الْكَاتِبِ هِجَاءٌ غَيْرُ مَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. قَالَ: وَكَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ " يَعْنِي فَلَمْ يَتَدَبَّرِ الْوَجْهَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَكَذَا سَائِرُهَا.

وَأَمَّا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَإِنَّهُ جَنَحَ إِلَى تَضْعِيفِ الرِّوَايَاتِ وَمُعَارَضَتِهَا بِرِوَايَاتٍ أُخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْعَدُ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالُوا لِزَيْدٍ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَوَهِمْتَ! إِنَّمَا هِيَ " ثَمَانِيَةُ " أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ "، فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} فَهُمَا زَوْجَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ: الذَّكَرُ زَوْجٌ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ.

قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يَتَخَيَّرُونَ أَجْمَعَ الْحُرُوفِ لِلْمَعَانِي وَأَسْلَسَهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَأَقْرَبَهَا فِي الْمَأْخَذِ وَأَشْهَرَهَا عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِفِ وَأَنَّ الْأُخْرَى كَانَتْ قِرَاءَةً مَعْرُوفَةً عِنْدَ كُلِّهِمْ وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. انْتَهَى.

ص: 329

فَائِدَةٌ

فِيمَا قُرِئَ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْإِعْرَابِ أَوِ الْبِنَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

قَدْ رَأَيْتُ تَأْلِيفًا لَطِيفًا لِأَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَالِكٍ الرُّعَيْنِيِّ سَمَّاهُ: "تُحْفَةَ الْأَقْرَانِ فِيمَا قُرِئَ بِالتَّثْلِيثِ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ ".

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، قُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْكَسْرِ عَلَى إِتْبَاعِ الدَّالِ اللَّامَ فِي حَرَكَتِهَا.

{رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ بِإِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ وَبِالنَّصْبِ عَلَيْهِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَوْ على النداء.

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قُرِئَ بِالثَّلَاثَةِ.

{اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} ، قُرِئَ بِسُكُونِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ بَلِيٍّ.

{يْنَ الْمَرْءِ} ، قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ لُغَاتٌ فِيهِ.

{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَقُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ بِوَزْنِ ضَرَبَ وَعَلِمَ وَحَسُنَ.

{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} ، قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الذَّالِ.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} ، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا

ص: 330

عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرٍ بِهِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ تَتَّقُوهُ وَأَنْ تَحْتَاطُوا لِأَنْفُسِكُمْ فِيهِ.

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، قرئ بالرفع صفة لقاعدون وَبِالْجَرِّ صِفَةً لِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ.

{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَيْدِي وَبِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ أَوْ غَيْرِهِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ.

{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، قُرِئَ بِجَرِّ مِثْلُ بِإِضَافَةِ جَزَاءٌ إِلَيْهِ وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِ مِثْلُ صِفَةً لَهُ وَبِنَصْبِهِ مَفْعُولٌ بِ جَزَاءٌ.

{وَاللَّهِ رَبِّنَا} ، قُرِئَ بِجَرِّ رَبِّنَا نَعْتًا أَوْ بَدَلًا وَبِنَصْبِهِ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ بِإِضْمَارِ أَمْدَحُ وَبِرَفْعِهِ وَرَفْعِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ.

{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} ، قُرِئَ بِرَفْعِ يَذَرَكَ وَنَصْبِهِ وَجَزْمِهِ لِلْخِفَّةِ.

{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، قُرِئَ بِنَصْبِ شُرَكَاءَكُمْ مَفْعُولًا مَعَهُ أَوْ مَعْطُوفًا أَوْ بِتَقْدِيرِ وَادْعُوا وَبِرَفْعِهِ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ فَأَجْمِعُوا أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَبِجَرِّهِ عَطْفًا عَلَى كُمْ فِي أَمْرَكُمْ.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} قرئ بجر الأرض عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَبِنَصْبِهَا مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ وَبِرَفْعِهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهَا.

ص: 331

{مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} ، قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ.

{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} ، قُرِئَ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا وَبِلَفْظِ الْوَصْفِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا مَعَ فَتْحِ الْحَاءِ وَبِسُكُونِهَا مَعَ كَسْرِ الْحَاءِ وَحَرَامٌ بِالْفَتْحِ وَأَلِفٍ فَهَذِهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ.

{كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ، قرئ بتثليث الدال.

{ياسين} الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِسُكُونِ النُّونِ وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْفَتْحِ لِلْخِفَّةِ وَالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ.

{سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} ، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَشَاذًّا بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ وَبِالْجَرِّ حَمْلًا عَلَى الْأَيَّامِ.

{وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، قُرِئَ بِنَصْبِ حِينَ وَرَفْعِهِ وَجَرِّهِ.

{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} ، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَبِالْجَرِّ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَشَاذًّا بِالرَّفْعِ عَطْفًا على علم الساعة.

{قاف} الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالسُّكُونِ وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لِمَا مَرَّ أَيْ لِلْخِفَّةِ وَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

{الْحُبُكِ} ، فِيهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ ضَمُّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَكَسْرُهُمَا وَفَتْحُهُمَا وَضَمُّ الْحَاءِ وَسُكُونُ الْبَاءِ وَضَمُّهَا وَفَتْحُ الْبَاءِ وَكَسْرُهَا وَسُكُونُ الْبَاءِ وَكَسْرُهَا وَضَمُّ الْبَاءِ.

ص: 332

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} ، قُرِئَ بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ وَنَصْبِهَا وَجَرِّهَا.

{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ} قُرِئَ بِرَفْعِهِمَا وَجَرِّهِمَا وَنَصْبِهِمَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ وَيُزَوَّجُونَ.

فَائِدَةٌ

قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْصُوبَاتِهِ مَفْعُولٌ مَعَهُ.

قُلْتُ: فِي الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَوَاضِعَ أُعْرِبَ كُلٌّ مِنْهَا مَفْعُولًا مَعَهُ.

أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أَيْ أَجْمِعُوا أَنْتُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ أَمْرَكُمْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ أَيْ مَعَ أَهْلِيكُمْ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "وَالْمُشْرِكِينَ " مَفْعُولًا مَعَهُ مِنَ " الَّذِينَ " أَوْ مِنَ الْوَاوِ فِي " كَفَرُوا ".

ص: 333