المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثاني والأربعون: في قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها - الإتقان في علوم القرآن - جـ ٢

[الجلال السيوطي]

الفصل: ‌النوع الثاني والأربعون: في قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها

‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي قَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ يَحْتَاجُ الْمُفَسِّرُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا

قَاعِدَةٌ فِي الضَّمَائِرِ:

أَلَّفَ ابْنُ الأنبا ري فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ وَأَصْلُ وَضْعِ الضَّمِيرِ لِلِاخْتِصَارِ وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} مَقَامَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ كَلِمَةً لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً.

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} قَالَ مَكِّيٌّ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا وَمِنْ ثَمَّ لَا يُعْدَلُ إِلَى الْمُنْفَصِلِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ الْمُتَّصِلِ بِأَنْ يَقَعَ فِي الابتداء، نحو:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أَوْ بَعْدَ " أَلَّا " نَحْوَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .

مَرْجِعُ الضَّمِيرِ:

لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَرْجِعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مَلْفُوظًا بِهِ سَابِقًا مُطَابِقًا بِهِ نحو: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .

أَوْ مُتَضَمِّنًا لَهُ نَحْوَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ

ص: 334

الْمُتَضَمِّنِ لَهُ " اعْدِلُوا ". {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أَيْ الْمَقْسُومَ لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ.

أَوْ دَالًّا عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، نَحْوَ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} أَيِ الْقُرْآنَ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} فَـ" عُفِيَ " يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا أُعِيدَ عَلَيْهِ الْهَاءُ مِنْ إِلَيْهِ.

أَوْ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا لَا رُتْبَةً مُطَابِقًا، نَحْوَ:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} .

أَوْ رُتْبَةً أَيْضًا فِي بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ وَنِعْمَ وَبِئْسَ وَالتَّنَازُعِ.

أَوْ مُتَأَخِّرًا دَالًّا بِالِالْتِزَامِ، نَحْوَ:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أَضْمَرَ الرُّوحَ أَوِ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ الْحُلْقُومِ وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أَيِ الشَّمْسُ لِدَلَالَةِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا.

وَقَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ نَحْوَ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} أَيِ الْأَرْضِ أَوِ الدُّنْيَا {وَلِأَبَوَيْهِ} أَيِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ.

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ الْمَذْكُورِ دُونَ مَعْنَاهُ نَحْوَ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أَيْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ.

ص: 335

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، نَحْوَ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بعد قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ.

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّ الْكَلَالَةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَثُنِّىَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا عَلَى مَنْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا.

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَيْ بِجِنْسَيِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِدَلَالَةِ {غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} عَلَى الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ.

وَقَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَالْغَالِبُ كَوْنُهُ الثَّانِيَ نَحْوَ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ وَقِيلَ: لِلِاسْتِعَانَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنِ {اسْتَعِينُوا} . {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أَيِ الْقَمَرَ لِأَنَّهُ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ. {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أَرَادَ " يُرْضُوهُمَا " فَأَفْرَدَ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا وَيَلْزَمُ مِنْ رِضَاهُ رِضَا رَبِّهِ تَعَالَى.

ص: 336

وَقَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ وَيَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ نَحْوَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا.

وَقَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِهِ نَحْوَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي آدَمَ ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فَهَذِهِ لِوَلَدِهِ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ.

قُلْتُ: هَذَا هُوَ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ وَمِنْهُ: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا} أَيْ أَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةً مِنْ لَفْظِ أَشْيَاءَ السَّابِقَةِ.

وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى مُلَابِسِ مَا هُوَ لَهُ نَحْوَ: {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أَيْ ضُحَى يَوْمِهَا لَا ضُحَى الْعَشِيَّةِ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ لَا ضُحَى لَهَا.

وَقَدْ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ نَحْوَ: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَضَمِيرُ " لَهُ " عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَابِقًا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشاهد الْمَوْجُودِ.

قَاعِدَةٌ

الْأَصْلُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} ، لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ

ص: 337

فَالْأَصْلُ عَوْدُهُ لِلْمُضَافِ لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ نَحْوَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ: {إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} .

وَاخْتُلِفَ فِي: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَهُ عَلَى الْمُضَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

قَاعِدَةٌ

الْأَصْلُ تَوَافُقُ الضَّمَائِرِ فِي الْمَرْجِعِ حَذَرًا مِنَ التَّشْتِيتِ وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أَنَّ الضَّمِيرَ فِي الثَّانِي لِلتَّابُوتِ وَفِي الْأَوَّلِ لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا مُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ فَقَالَ: وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضُهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لما يؤدي إِلَيْهِ مِنْ تَنَافُرِ النَّظْمِ الَّذِي هُوَ أُمُّ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ.

وَقَالَ فِي: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} الضَّمَائِرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيرِهِ تَعْزِيرُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ.

وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} فَإِنَّ ضَمِيرَ " فِيهِمْ " لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ " ومنهم " لِلْيَهُودِ.

ص: 338

قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ وَمِثْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَاءَ ظَنًّا بِقَوْمِهِ وَضَاقَ ذَرْعًا بِأَضْيَافِهِ.

وَقَوْلِهِ: {إلا تنصروه} الْآيَةَ، فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا كلها لنبي صلى الله عليه وسلم إِلَّا ضَمِيرَ " عَلَيْهِ " فَلِصَاحِبِهِ كَمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَضَمِيرُ " جَعَلَ " لَهُ تَعَالَى.

وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ نَحْوَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الضَّمِيرُ لِلِاثْنَيْ عَشْرَ ثُمَّ قَالَ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} أَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مُخَالِفًا لِعَوْدِهِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ.

ضَمِيرُ الْفَصْلِ:

ضَمِيرٌ بِصِيغَةِ الْمَرْفُوعِ مُطَابِقٌ لِمَا قَبْلَهُ تَكَلُّمًا وَخِطَابًا وَغَيْبَةً إِفْرَادًا وَغَيْرَهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ مُبْتَدَإٍ أَوْ مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَقَبْلَ خَبَرٍ كَذَلِكَ نَحْوَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً} {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} .

ص: 339

وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ وُقُوعَهُ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحَبِهَا وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ: {هُنَّ أَطْهَرَ} بِالنَّصْبِ.

وَجَوَّزَ الْجُرْجَانِيُّ وُقُوعَهُ قَبْلَ مُضَارِعٍ وَجَعَلَ مِنْهُ: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} ، وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو الْبَقَاءِ:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .

وَلَا مَحَلَّ لِضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَهُ ثلاثة فَوَائِدَ: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا تَابِعٌ وَالتَّأْكِيدُ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الْكُوفِيُّونَ دِعَامَةً.

لِأَنَّهُ يُدْعَمُ بِهِ الْكَلَامُ أَيْ يُقَوَّى وَيُؤَكَّدُ وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ وَالِاخْتِصَاصُ.

وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الثَّلَاثَةَ فِي: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَقَالَ: فَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ وَالتَّوْكِيدُ وَإِيجَابُ أَنَّ فَائِدَةَ الْمُسْنَدِ ثَابِتَةٌ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.

ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ:

وَيُسَمَّى ضَمِيرَ الْمَجْهُولِ قَالَ فِي الْمُغْنِي خَالَفَ الْقِيَاسَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهُمَا: عَوْدُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ لُزُومًا إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لَهُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ مُفَسِّرَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً.

ص: 340

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُتْبَعُ بِتَابِعٍ فَلَا يُؤَكَّدُ وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبْدَلُ مِنْهُ.

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الِابْتِدَاءُ أَوْ نَاسِخُهُ.

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلْإِفْرَادِ

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} .

وَفَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَتَفْخِيمِهِ بِأَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مُبْهَمًا ثُمَّ يُفَسَّرُ.

تَنْبِيهٌ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مَتَى أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى غَيْرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} إِنَّ اسْمَ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قراءة: {وَقَبِيلَهُ} بِالنَّصْبِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ.

قَاعِدَةٌ

جمع العاقلات لَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ غَالِبًا إِلَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ سَوَاءٌ كَانَ لِلْقِلَّةِ أَوْ لِلْكَثْرَةِ نَحْوَ: {وَالْوَالِدَاتُ يرضعن} {والمطلقات يتربصن} وَوَرَدَ الْإِفْرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} وَلَمْ يَقُلْ مُطَهَّرَاتٌ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ فَالْغَالِبُ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ الْإِفْرَادُ وَفِي الْقِلَّةِ الْجَمْعُ وَقَدِ

ص: 341

اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} إِلَى أَنْ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَأَعَادَ مِنْهَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى الشُّهُورِ وَهِيَ لِلْكَثْرَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} فَأَعَادَهُ جَمْعًا عَلَى " أَرْبَعَةٍ حُرُمٍ " وهي للقلة.

وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ سِرًّا لَطِيفًا وَهُوَ أَنَّ الْمُمَيَّزَ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ هُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشْرَةِ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا وُحِّدَ الضَّمِيرُ وَمَعَ الْقِلَّةِ وَهُوَ الْعَشْرَةُ فَمَا دُونَهَا لَمَّا كَانَ جَمْعًا جُمِعَ الضَّمِيرُ.

قَاعِدَةٌ:

إِذَا اجْتَمَعَ فِي الضَّمَائِرِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بُدِئَ بِاللَّفْظِ ثُمَّ بِالْمَعْنَى هَذَا هُوَ الْجَادَّةُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أَفْرَدَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَكَذَا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} .

قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ ولم يجيء فِي الْقُرْآنِ الْبَدَاءَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} فَأَنَّثَ " خَالِصًا " حَمْلًا عَلَى مَعْنَى " مَا " ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ فَذَكَّرَ فَقَالَ: {مُحَرَّمٌ} . انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: إِذَا حُمِلَ عَلَى اللفظ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى

ص: 342

الْمَعْنَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ضَعُفَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَقْوَى فَلَا يَبْعُدُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَيَضْعُفُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْقَوِيِّ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَضْعَفِ.

وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسَبِ: لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَةُ اللَّفْظِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ثُمَّ قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} فقد ارجع اللَّفْظَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى.

وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} . قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ " لَيْسَ ": الْقَاعِدَةُ فِي " مَن " وَنَحْوِهِ الرُّجُوعُ مِنَ اللَّفْظِ إِلَى الْمَعْنَى وَمِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ وَمِنَ الْمُذَكَّرِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ نَحْوَ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَجْمَعَ عَلَى هَذَا النَّحْوِيُّونَ.

قَالَ: وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الرُّجُوعُ مِنَ الْمَعْنَى إِلَى اللَّفْظِ إِلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ اسْتَخْرَجَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} ،

ص: 343

الآية، وحد في يؤمن ويعمل ويدخله ثُمَّ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ:{خَالِدِينَ} ثُمَّ وَحَّدَ فِي قَوْلِهِ: {أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} فَرَجَعَ بَعْدَ الْجَمْعِ إِلَى التَّوْحِيدِ.

قَاعِدَةٌ: فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ

التَّأْنِيثُ ضَرْبَانِ: حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ فَالْحَقِيقِيُّ لَا تُحْذَفُ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا إِلَّا إِنْ وَقَعَ فَصْلٌ وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيِّ فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ أَحْسَنُ نَحْوَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا نَحْوَ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} .

والإثبات أيضا حسن نَحْوَ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ.

وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.

وَيَجُوزُ الْحَذْفُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْفَصْلِ حَيْثُ الْإِسْنَادُ إِلَى ظَاهِرِهِ فَإِنْ كَانَ إِلَى ضَمِيرِهِ امْتَنَعَ.

وَحَيْثُ وَقَعَ ضَمِيرٌ أَوْ إِشَارَةٌ بَيْنَ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ أَحَدُهُمَا مُذَكَّرٌ وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ جَازَ فِي الضَّمِيرِ وَالْإِشَارَةِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ

ص: 344

هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ، فَذُكِّرَ وَالْخَبَرُ مُؤَنَّثٌ لِتَقَدُّمِ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَذَانِكَ برهانان من ربك} ذُكِّرَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْيَدُ وَالْعَصَا وَهُمَا مُؤَنَّثَانِ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ "بُرْهَانَانِ ".

وَكُلُّ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّذْكِيرُ حَمْلًا عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّأْنِيثُ حَمْلًا عَلَى الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وَقُرِئَ: {تَشَابَهَتْ} {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} .

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} .

وَقَدْ سُئِلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وَقَوْلِهِ: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} .

وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: لَفْظِيٌّ، وَهُوَ كَثْرَةُ حُرُوفِ الْفَاصِلِ فِي الثَّانِي وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَكْثَرُ وَمَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ:{مَنْ حَقَّتْ} رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا بِدَلِيلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ وَلَوْ قَالَ: ضَلَّتْ لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ. وَأَمَّا {فَرِيقاً هَدَى} الْآيَةَ فَالْفَرِيقُ يُذَكَّرُ وَلَوْ قَالَ: "فَرِيقٌ

ص: 345

ضَلُّوا " لَكَانَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَقَوْلُهُ: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} فِي مَعْنَاهُ فجاء غير تَاءٍ وَهَذَا أُسْلُوبٌ لَطِيفٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ أَنْ يَدَعُوا حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبَ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ إِذَا كَانَ فِي مَرْتَبَةِ كَلِمَةٍ لَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ.

قَاعِدَةٌ: فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ

اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَرِ أَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:

أَحَدُهَا: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ، نَحْوَ:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} أَيْ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} .

الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ، نَحْوَ:{هَذَا ذِكْرُ} أَيْ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أَيْ نَوْعٌ غَرِيبٌ مِنَ الْغِشَاوَةِ لَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بِحَيْثُ غَطَّى مَا لَا يُغَطِّيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغِشَاوَاتِ {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أَيْ نَوْعٍ مِنْهَا وَهُوَ الِازْدِيَادُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمَاضِي وَلَا عَلَى الْحَاضِرِ.

وَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالنَّوْعِيَّةَ مَعًا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} أَيْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ وَكُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الدَّوَابِّ مِنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النُّطَفِ.

ص: 346

الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ وَيُعْرَفَ، نَحْوَ:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} أَيْ بِحَرْبٍ أَيِّ حَرْبٍ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} .

الرابع: التكثير، نحو:{أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً} أَيْ وَافِرًا جَزِيلًا.

وَيَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَالتَّكْثِيرَ مَعًا، نَحْوَ:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أَيْ رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ.

الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ بِمَعْنَى انْحِطَاطِ شَأْنِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَرَّفَ نَحْوَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} أَيْ ظَنًّا حَقِيرًا لَا يُعْبَأُ بِهِ وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ بِدَلِيلِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أَيْ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} .

السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ نَحْوَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ رِضْوَانٌ قَلِيلٌ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّهُ رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ.

قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِينِي وَلَكِنْ

قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ

وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} أَيْ لَيْلًا قَلِيلًا أَيْ بَعْضَ لَيْلٍ.

وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْلِيلَ رَدُّ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا تَنْقِيصُ فَرْدٍ

ص: 347

إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَأَجَابَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّيْلَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ اللَّيْلَةِ بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا يُسَمَّى لَيْلًا.

وَعَدَّ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَابِ أَلَّا يُعْرَفَ مِنْ حَقِيقَتِهِ إِلَّا ذَلِكَ وَجَعَلَ مِنْهُ أَنْ تَقْصِدَ التَّجَاهُلَ وَأَنَّكَ لَا تُعَرِّفُ شَخْصَهُ كَقَوْلِكَ: هَلْ لَكَ فِي حَيَوَانٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ يَقُولُ: كَذَا! وَعَلَيْهِ مِنْ تَجَاهُلِ الْكُفَّارِ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} كَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ.

وَعَدَّ غَيْرُهُ مِنْهَا قَصْدَ الْعُمُومِ بِأَنْ كَانَتْ سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوَ: {لَا رَيْبَ فيه} {فلا رفث} الْآيَةَ.

أَوِ الشَّرْطِ، نَحْوَ:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} .

أَوِ الِامْتِنَانِ، نَحْوَ:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} .

وَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ فَبِالْإِضْمَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ.

وَبِالْعَلَمِيَّةِ لِإِحْضَارِهِ بِعَيْنِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ ابْتِدَاءً بِاسْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ نَحْوَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} .

أَوْ لِتَعْظِيمٍ أَوْ إِهَانَةٍ، حَيْثُ عِلْمُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَمِنَ التَّعْظِيمِ ذِكْرُ يَعْقُوبَ بِلَقَبِهِ إِسْرَائِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ بِكَوْنِهِ صَفْوَةَ اللَّهِ أَوْ سَرِيَّ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ فِي الْأَلْقَابِ وَمِنَ الْإِهَانَةِ: قَوْلُهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَفِيهِ أَيْضًا نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْكِنَايَةُ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا.

ص: 348

وَبِالْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ بِإِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ حِسًّا نَحْوَ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .

وَلِلتَّعْرِيضِ بِغَبَاوَةِ السَّامِعِ حَتَّى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الشَّيْءُ إِلَّا بِإِشَارَةِ الْحَسِّ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلِبَيَانِ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فَيُؤْتَى فِي الْأَوَّلِ بِنَحْوِ هَذَا وَفِي الثَّانِي بِنَحْوِ: ذَلِكَ، وَأُولَئِكَ.

وَلِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ بِالْقُرْبِ كَقَوْلِ الْكُفَّارِ: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}

وَلِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ بِالْبُعْدِ، نَحْوَ:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} ذَهَابًا إِلَى بُعْدِ دَرَجَتِهِ.

وَلِلتَّنْبِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِأَوْصَافٍ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِهَا نَحْوَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وَبِالْمَوْصُولِيَّةِ لِكَرَاهَةِ ذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ إِمَّا سَتْرًا عَلَيْهِ أَوْ إِهَانَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُؤْتَى بِالَّذِي وَنَحْوِهَا مَوْصُولَةً بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ نَحْوَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} .

وَقَدْ يَكُونُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، نَحْوَ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الْآيَةَ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} {إِنَّ

ص: 349

الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} .

وَلِلِاخْتِصَارِ نَحْوَ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أَيْ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ آدَرُ إِذْ لَوْ عَدَّدَ أَسْمَاءَ الْقَائِلِينَ لَطَالَ وَلَيْسَ لِلْعُمُومِ لَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فِي حَقِّهِ ذَلِكَ.

وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ أَوْ ذِهْنِيٍّ أَوْ حُضُورِيٍّ، وَلِلِاسْتِغْرَاقِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَقَدْ مَرَّتْ أَمْثِلَتُهَا فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ، وَبِالْإِضَافَةِ لِكَوْنِهَا أَخْصَرَ طَرِيقٍ وَلِتَعْظِيمِ الْمُضَافِ نَحْوَ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أَيِ الْأَصْفِيَاءُ فِي الْآيَتَيْنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.

وَلِقَصْدِ الْعُمُومِ نَحْوَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أ} أَيْ كُلَّ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَائِدَةٌ

سُئِلَ عَنْ الْحِكْمَةِ فِي تَنْكِيرِ أَحَدٌ وَتَعْرِيفِ الصَّمَدُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} وَأَلَّفْتُ فِي جَوَابِهِ تَأْلِيفًا مُودَعًا فِي الْفَتَاوَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً:

ص: 350

أَحَدُهَا: أَنَّهُ نُكِّرَ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ - وَهُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ - غَيْرُ مُمْكِنٍ تَعْرِيفُهَا وَالْإِحَاطَةُ بِهَا.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ أَلْ عَلَيْهِ كَغَيْرٍ وَكُلٍّ وَبَعْضٍ وَهُوَ فَاسِدٌ فَقَدْ قُرِئَ شاذا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ الأَحَدُ اللَّهُ الصَّمَدُ} حَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الزِّينَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

الثَّالِثُ: وَهُوَ مِمَّا خَطَرَ لِي أَنَّ هُوَ مبتدأ والله خَبَرٌ وَكِلَاهُمَا مَعْرِفَةٌ فَاقْتَضَى الْحَصْرَ فَعُرِفَ الْجُزْآنِ فِي " اللَّهُ الصَّمَدُ " لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ لِيُطَابِقَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَعْرِيفِ " أَحَدٌ " فِيهَا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ دُونَهُ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّنْكِيرِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ وَإِنْ جُعِلَ الاسم الكريم مبتدأ وأحد خَبَرَهُ فَفِيهِ مِنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَا فِيهِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ فَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى نَحْوِ الْأُولَى بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ لِلْحَصْرِ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا.

قَاعِدَةٌ أُخْرَى:

تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ

إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:

لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ أَوْ نَكِرَتَيْنِ أَوِ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً أَوْ بِالْعَكْسِ.

فَإِنْ كَانَا مَعْرِفَتَيْنِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا دَلَالَةً عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ فِي اللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} . {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ

ص: 351

وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} .

وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْنِ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ غَالِبًا وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعْفِ الْأَوَّلِ النُّطْفَةُ وَبِالثَّانِي الطُّفُولِيَّةُ وَبِالثَّالِثِ الشَّيْخُوخَةُ.

وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ الشَّهْرِ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ وَلَوْ أُضْمِرَ فَالضَّمِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الظَّاهِرِ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ الْقِسْمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فَالْعُسْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْآيَةِ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ".

وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ حَمْلًا عَلَى الْعَهْدِ نَحْوَ: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ} .

وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةً وَالثَّانِي نَكِرَةً فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بَلْ يُتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِنِ

ص: 352

فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التَّغَايُرِ نَحْوَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً} {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ هُدىً} .

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا أَتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ وهدى إِرْشَادًا وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ نَحْوَ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} .

تَنْبِيهٌ

قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ محررة فإنها منتقصة بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ:

{هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} : فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الْآيَةَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ آدَمُ وَالثَّانِيَ وَلَدُهُ.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْقُرْآنُ وَالثَّانِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.

وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي:

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} .

ص: 353

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهِمَا هُوَ الْأَوَّلُ وَهُمَا نَكِرَتَانِ.

وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ:

{أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .

{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} .

{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} .

{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} .

{زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} .

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ} فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ.

وَأَقُولُ: لَا إنتفاض بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ فَإِنَّ اللَّامَ فِي الْإِحْسَانِ لِلْجِنْسِ فِيمَا يَظْهَرُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ وَكَذَا آيَةُ النَّفْسِ وَالْحُرِّ بِخِلَافِ آيَةِ الْعُسْرِ فَإِنَّ أَلْ فِيهَا إِمَّا لِلْعَهْدِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ وَكَذَا آيَةُ الظَّنِّ لَا نُسَلِّمُ فِيهَا أَنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ قَطْعًا إِذْ لَيْسَ كُلُّ ظَنِّ مَذْمُومًا كَيْفَ وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ ظَنِّيَّةٌ! وَكَذَا آيَةُ الصُّلْحِ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَاسْتِحْبَابُ الصُّلْحِ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ كُلَّ صُلْحٍ خَيْرٌ لِأَنَّ

ص: 354

مَا أَحَلَّ حَرَامًا مِنَ الصُّلْحِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَكَذَا آيَةُ الْقِتَالِ لَيْسَ الثَّانِي فِيهَا عَيْنَ الْأَوَّلِ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ المراد بالأول المسؤول عَنْهُ الْقِتَالُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَرِيَّةِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ وَالْمُرَادَ بِالثَّانِي جِنْسُ الْقِتَالِ لَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ وَأَمَّا آيَةُ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} فَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الطَّيْبِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ أَمْرٍ زَائِدٍ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} وَوَجْهُهُ الْإِطْنَابُ فِي تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ وَشَرْطُ الْقَاعِدَةِ أَلَّا يُقْصَدَ التَّكْرِيرُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الِاسْمِ مَرَّتَيْنِ كَوْنُهُ مَذْكُورًا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ كَلَامَيْنِ بَيْنَهُمَا تَوَاصُلٌ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ وَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ ظَاهِرٌ وَتَنَاسُبٌ وَاضِحٌ وَأَنْ يَكُونَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ وَدَفَعَ بِذَلِكَ إِيرَادَ آيَةِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهَا مَحْكِيٌّ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَالثَّانِيَ مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَاعِدَةٌ:

فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ

مِنْ ذَلِكَ " السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ " حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مُفْرَدَةٌ وَلَمْ تجمع - بخلاف السموات - لِثِقَلِ جَمْعِهَا وَهُوَ أَرَضُونَ وَلِهَذَا لَمَّا أُرِيدَ ذِكْرُ جَمِيعِ الْأَرَضِينَ قَالَ: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وَأَمَّا السَّمَاءُ،

ص: 355

فَذُكِرَتْ تَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِنُكَتٍ تَلِيقُ بِذَلِكَ المحل لما أَوْضَحْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَيْثُ أُرِيدَ الْعَدَدُ أُتِيَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ الْعَظَمَةِ وَالْكَثْرَةِ نَحْوَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أَيْ جَمِيعُ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى اخْتِلَافِ عَدَدِهَا {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} إِذِ الْمُرَادُ نَفْيُ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ فِي واحدة من السموات.

وَحَيْثُ أُرِيدَ الْجِهَةُ أُتِيَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ نَحْوَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} أَيْ مِنْ فَوْقِكُمْ.

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيحُ ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً فَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الرَّحْمَةِ جُمِعَتْ أَوْ فِي سِيَاقِ الْعَذَابِ أُفْرِدَتْ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ فَهُوَ رَحْمَةٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مِنَ الرِّيحِ فَهُوَ عَذَابٌ "، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا ". وَذُكِرَ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّ رِيَاحَ الرَّحْمَةِ مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالْمَهَبَّاتِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا هَاجَتْ مِنْهَا رِيحٌ أُثِيرَ لَهَا مِنْ مُقَابِلِهَا مَا يَكْسِرُ سَوْرَتَهَا فَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَنْفَعُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ فَكَانَتْ فِي الرَّحْمَةِ رِيَاحًا وَأَمَّا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهَا تَأْتِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا وَلَا دَافِعَ وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ

ص: 356

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: لَفْظِيٌّ وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْلَالًا نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} . وَمَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ تَمَامَ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَحْدَةِ الرِّيحِ لَا بِاخْتِلَافِهَا فَإِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَسِيرُ إِلَّا بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ كَانَ سَبَبَ الْهَلَاكِ وَالْمَطْلُوبُ هُنَا رِيحٌ وَاحِدَةٌ وَلِهَذَا أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِوَصْفِهَا بِالطَّيِّبِ وَعَلَى ذَلِكَ أَيْضًا جَرَى قَوْلُهُ:{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} .

وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: إِنَّهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ سُكُونَ الرِّيحِ عَذَابٌ وَشِدَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ النُّورِ وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادُ سَبِيلِ الْحَقِّ وَجَمْعُ سُبُلِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} لِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَالظُّلُمَاتُ بِمَنْزِلَةِ طُرُقِ الْبَاطِلِ وَالنُّورُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ بَلْ هُمَا هُمَا وَلِهَذَا وَحَّدَ " وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ " وَجَمَعَ " أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ " لِتَعَدُّدِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} .

وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ النَّاِرِ حَيْثُ وقعت والجنة وَقَعَتْ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً لِأَنَّ الْجِنَانَ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ فَحَسُنَ جَمْعُهَا وَالنَّارَ مَادَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ الْجَنَّةَ رَحْمَةٌ وَالنَّارَ عَذَابٌ فَنَاسَبَ جَمْعُ الْأُولَى وَإِفْرَادُ الثَّانِيَةِ عَلَى حَدِّ الرِّيَاحِ وَالرِّيحِ.

ص: 357

وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ السَّمْعِ وَجَمْعُ الْبَصَرِ لِأَنَّ السَّمْعَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرِيَّةُ فَأُفْرِدَ بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْجَارِحَةِ وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَ السَّمْعِ الْأَصْوَاتُ وَهِيَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَمُتَعَلِّقَ الْبَصَرِ الْأَلْوَانُ وَالْأَكْوَانُ وَهِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مُتَعَلِّقِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ الصَّدِيقِ وَجَمْعُ الشَّافِعِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وَحِكْمَتُهُ كَثْرَةُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ وَقِلَّةُ الصَّدِيقِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ نَهَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: {الْأَلْبَابُ} لَمْ يَقَعْ إِلَّا مَجْمُوعًا لِأَنَّ مُفْرَدَهُ ثَقِيلٌ لَفْظًا.

وَمِنْ ذَلِكَ مَجِيءُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِالْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَحَيْثُ أُفْرِدَا فَاعْتِبَارًا لِلْجِهَةِ وَحَيْثُ ثُنِّيَا فَاعْتِبَارًا لِمَشْرِقِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبِهِمَا وَحَيْثُ جُمِعَا فَاعْتِبَارًا لِتَعَدُّدِ الْمَطَالِعِ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ فَصْلَيِ السَّنَةِ.

وَأَمَّا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا وَقَعَ فِيهِ فَفِي سُورَةِ الرَّحْمَةِ وَقَعَ بِالتَّثْنِيَةِ لِأَنَّ سِيَاقَ السُّورَةِ سِيَاقُ الْمُزْدَوِجَيْنِ فَإِنَّهُ سبحانه وتعالى ذَكَرَ أَوَّلًا نَوْعَيِ الْإِيجَادِ وَهُمَا الْخَلْقُ وَالتَّعْلِيمُ ثُمَّ ذَكَرَ سِرَاجَيِ الْعَالَمِ: الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثُمَّ نَوْعَيِ النَّبَاتِ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ وَمَا لَا سَاقَ لَهُ وَهُمَا النَّجْمُ وَالشَّجَرُ ثُمَّ نَوْعَيِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ نَوْعَيِ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ ثُمَّ نَوْعَيِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا الْحُبُوبُ وَالرَّيَاحِينُ ثُمَّ نَوْعَيِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُمَا:

ص: 358

الْإِنْسُ وَالْجَانُّ ثُمَّ نَوْعَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ثُمَّ نَوْعَيِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ فَلِهَذَا حَسُنَ تَثْنِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَجُمِعَا فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ.

فَائِدَةٌ

حَيْثُ وَرَدَ " الْبَارُّ " مَجْمُوعًا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ قِيلَ: "أَبْرَارٌ " وَفِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ قِيلَ: "بَرَرَةٌ " ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الثَّانِيَ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ جَمْعُ " بَارٍّ " وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " بَرٍّ " مُفْرَدِ الْأَوَّلِ.

وَحَيْثُ وَرَدَ " الْأَخُ " مَجْمُوعًا فِي النَّسَبِ قِيلَ: "إِخْوَةٌ " وَفِي الصَّدَاقَةِ قِيلَ: "إِخْوَانٌ " قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ: وَأُورِدَ عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقَةِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وَفِي النَّسَبِ {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} .

فَائِدَةٌ

أَلَّفَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ كِتَابًا فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ ذَكَرَ فِيهِ جَمْعَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا وَمُفْرَدَ مَا وَقَعَ جَمْعًا وَأَكْثَرُهُ مِنَ الْوَاضِحَاتِ وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مِنْ خَفِيِّ ذَلِكَ.

الْمَنُّ: لَا وَاحِدَ لَهُ.

السَّلْوَى: لَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِوَاحِدٍ.

النَّصَارَى: قِيلَ جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ وَقِيلَ جَمْعُ نَصِيرٍ كَنَدِيمٍ وَقَبِيلٍ.

ص: 359

الْعَوَانُ: جَمْعُهُ عَوْنٌ.

الْهُدَى: لَا وَاحِدَ لَهُ.

الْإِعْصَارُ: جَمْعُهُ أَعَاصِيرُ.

الْأَنْصَارُ: وَاحِدُهُ نَصِيرٌ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ.

الْأَزْلَامُ: وَأَحَدُهَا زَلَمٌ وَيُقَالُ: زُلَمٌ بِالضَّمِّ.

مِدْرَارًا: جَمْعُهُ مَدَارِيرُ.

أَسَاطِيرُ: وَاحِدُهُ أُسْطُورَةٌ وَقِيلَ: أَسْطَارُ جَمْعُ سَطْرٍ.

الصُّورُ: جَمْعُ صُورَةٍ وَقِيلَ: وَاحِدُ الْأَصْوَارِ.

فُرَادَى: جَمْعُ أَفْرَادٍ جَمْعُ فَرْدٍ.

قِنْوَانٌ: جَمْعُ قِنْوٍ وصنوان: جَمْعُ صِنْوٍ وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ جَمْعٌ وَمُثَنًّى بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا هَذَانِ وَلَفْظٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ قَالَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ: فِي كِتَابِ" لَيْسَ ".

الْحَوَايَا: جَمْعُ حَاوِيَةٍ وَقِيلَ حَاوِيَاءُ.

نَشْرًا: جَمْعُ نشور.

عضين وعزين: جمع عضة وعزة.

المثاني: جمع مثنى.

تارة: جمعها تارات وتير.

أيقاظا: جَمْعُ يَقِظٍ.

الْأَرَائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ.

سَرِيٌّ: جَمْعُهُ سِرْيَانٌ كَخَصِيِّ وَخِصْيَانٍ.

ص: 360

آنَاءِ اللَّيْلِ: جَمْعُ إِنَا بِالْقَصْرِ كَمِعًى وَقِيلَ: إِنْيٌ كَقِرْدٍ وَقِيلَ: إِنْوَةٌ كَفِرْقَةٍ.

الصَّيَاصِي: جَمْعُ صَيْصِيَةٍ.

منسأة: جمعها مناسئ.

الحرور: جمعه حرور بالضم.

غرابيب: جمع غربيب.

أتراب: جَمْعُ تِرْبٍ.

الْآلَاءُ: جَمْعُ إِلًى كَمِعًى وَقِيلَ: أُلَى كَقَفَى وَقِيلَ: إِلْيٌ كَقِرْدٍ وَقِيلَ: أَلَوٌ.

التَّرَاقِيَ: جَمْعُ تَرْقُوَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

الْأَمْشَاجُ: جَمْعُ مَشِيجٍ.

ألفافا: جمع لف بالكسر.

العشار: جمع عشر.

الخنس: جمع خانسة وكذا الكنس.

الزبانية: جمع زبينة وَقِيلَ: زَابِنٌ وَقِيلَ: زَبَانِي.

أَشْتَاتًا: جمع شت وشتيت.

أبابيل: لَا وَاحِدَ لَهُ وَقِيلَ: وَاحِدُهُ إِبَّوْلٌ مِثْلَ عِجَّوْلٍ وَقِيلَ: إِبِّيلٌ مِثْلُ إِكْلِيلٌ.

ص: 361

فَائِدَةٌ

لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ إِلَّا أَلْفَاظُ الْعَدَدِ " مثنى وثلاث ورباع " ومن غيرها " طوى " فِيمَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ وَمِنَ الصِّفَاتِ " أُخَرُ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .

قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: هِيَ مَعْدُولَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّ أَفْعَلَ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ مِنْ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ وَتُحْذَفُ مِنْهُ مِنْ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا جُوِّزَ فِيهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: لَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَعْدُولَةً عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ كَوْنِهَا وَصْفًا لِنَكِرَةٍ لِأَنَّ ذلك مقدر من وجه غير مُقَدَّرٍ مِنْ وَجْهٍ.

قَاعِدَةٌ

مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَارَةً تَقْتَضِي مُقَابَلَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أَيْ اسْتَغْشَى كُلٌّ مِنْهُمْ ثَوْبَهُ.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أَيْ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أُمُّهُ.

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَيْ كُلًّا فِي أَوْلَادِهِ.

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا.

ص: 362

وَتَارَةً يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْجَمْعِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ نَحْوَ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} .

وَتَارَةً يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ أحدهما.

وأما مقابل الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ فَالْغَالِبُ أَلَّا يَقْتَضِيَ تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ وَقَدْ يَقْتَضِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} الْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لِأَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ.

قَاعِدَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُظَنُّ بِهَا التَّرَادُفُ وَلَيْسَتْ مِنْهُ

مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنْهُ وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ أَيْ يَابِسَةٌ وَهُوَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخَوْفُ مِنْ نَاقَةٍ خَوْفَاءَ أَيْ بِهَا دَاءٌ وَهُوَ نَقْصٌ وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ وَلِذَلِكَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} .

وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمُخْتَشَى وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ وَإِنْ كَانَ الْمَخُوفُ أَمْرًا يَسِيرًا وَيَدُلُّ

ص: 363

لِذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ وَالشِّينَ وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ نَحْوَ شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ وَخَيْشٌ لِمَا غَلُظَ مِنَ اللِّبَاسِ وَلِذَا وَرَدَتِ الْخَشْيَةُ غَالِبًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوَ: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .

وَأَمَّا {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فَفِيهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ فَإِنَّهُ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ قُوَّتَهُمْ وَشِدَّةَ خَلْقِهِمْ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْخَوْفِ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا غِلَاظًا شِدَادًا فَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى ضُعَفَاءُ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْفَوْقِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَمَّا كَانَ ضَعْفُ الْبَشَرِ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ وَالشُّحُّ هُوَ أَشَدُّ الْبُخْلِ قَالَ الرَّاغِبُ الشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ.

وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ والضن بِأَنَّ الضَّنَّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِي وَالْبُخْلَ بِالْهِبَاتِ وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ وَلَا يُقَالُ بَخِيلٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَارِيَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهِبَةِ لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} وَلَمْ يَقُلْ: بِبَخِيلٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ السَّبِيلُ وَالطَّرِيقُ وَالْأَوَّلُ أَغْلَبُ وُقُوعًا فِي الْخَيْرِ وَلَا يَكَادُ اسْمُ الطَّرِيقِ يُرَادُ بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مَقْرُونًا بِوَصْفٍ أَوْ إِضَافَةٍ تُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّبِيلُ الطَّرِيقُ الَّتِي فِيهَا سُهُولَةٌ فَهُوَ أَخَصُّ.

ص: 364

وَمِنْ ذَلِكَ جَاءَ وَأَتَى فَالْأَوَّلُ يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ وَالثَّانِي فِي الْمَعَانِي وَالْأَزْمَانِ وَلِهَذَا وَرَدَ " جَاءَ " فِي قَوْلِهِ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} وآتى في: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} {أَتَاهَا أَمْرُنَا} .

وأما: {وَجَاءَ رَبُّكَ} أَيْ أَمْرُهُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ الْمُشَاهَدَةُ وَكَذَا: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} لِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدَةِ وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ فِي قَوْلِهِ: {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} لأن الأول والعذاب وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ بِخِلَافِ الْحَقِّ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِتْيَانُ مَجِيءٌ بِسُهُولَةٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَجِيءِ قَالَ: وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّائِلِ الْمَارِّ عَلَى وَجْهِهِ: أَتِيٌّ وَأَتَاوِيٌّ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَدَّ وَأَمَدَّ قَالَ الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي المحبوب نحو: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ نَحْوَ: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} .

وَمِنْ ذَلِكَ سَقَى وَأَسْقَى فَالْأَوَّلُ لِمَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي شَرَابِ الْجَنَّةِ نَحْوَ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً} وَالثَّانِي لِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي مَاءِ الدُّنْيَا نَحْوَ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} .

وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِسْقَاءُ

ص: 365

أَبْلَغُ مِنَ السَّقْيِ لِأَنَّ الْإِسْقَاءَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا يَسْقِي مِنْهُ وَيَشْرَبُ وَالسَّقْيَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَشْرَبُ.

وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ وَفَعَلَ فَالْأَوَّلُ لِمَا كَانَ مِنِ امْتِدَادِ زَمَانٍ نَحْوَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لِأَنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ وَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ وَالثَّانِي بخلافه نحو: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} لِأَنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ وَلِهَذَا عَبَّرَ بِالْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا لَا الْإِتْيَانَ بِهَا مَرَّةً أَوْ بِسُرْعَةٍ وَبِالثَّانِي فِي قَوْلِهِ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} حَيْثُ كَانَ بِمَعْنَى سَارِعُوا كَمَا قَالَ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} حَيْثُ كَانَ الْقَصْدُ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْقُعُودُ وَالْجُلُوسُ فَالْأَوَّلُ لِمَا فِيهِ لُبْثٌ بِخِلَافِ الثَّانِي وَلِهَذَا يُقَالُ: قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَلَا يُقَالُ: جَوَالِسُهُ لِلُزُومِهَا وَلُبْثِهَا وَيُقَالُ: جَلِيسُ الْمَلِكِ وَلَا يُقَالُ: قَعِيدُهُ لِأَنَّ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّخْفِيفُ وَلِهَذَا اسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ فِي قوله: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَوَالَ لَهُ بِخِلَافِ {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} لِأَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا.

ص: 366

وَمِنْ ذَلِكَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فَقِيلَ: الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أَحْسَنَ مِنْ " تَامَّةٍ " فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ وَإِنَّمَا نَفَى احْتِمَالَ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهَا وَقِيلَ: تَمَّ يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ وكمل لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ وَلَا يُقَالُ: ماله وَيَقُولُونَ: الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ أَيْ بِاجْتِمَاعِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ وَالْإِيتَاءُ قَالَ الخويي: لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يُنْبِئُ عَنْ بَلَاغَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيتَاءَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ تَقُولُ أَعْطَانِي فَعُطَوْتُ وَلَا يُقَالُ فِي الْإِيتَاءِ آتَانِي فَأُتِيتُ وَإِنَّمَا يُقَالُ آتَانِي فَأَخَذْتُ وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ لِأَنَّكَ تَقُولُ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولٍ فِي الْمَحَلِّ لَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ وَلِهَذَا يَصِحُّ قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ ضَرَبْتُهُ فَانْضَرَبَ أَوْ فَمَا انْضَرَبَ وَلَا قَتَلْتُهُ فَانْقَتَلَ وَلَا فَمَا انْقَتَلَ لِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا فَالْإِيتَاءُ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ. قَالَ وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ

ص: 367

ذَلِكَ مُرَاعًى قَالَ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطَاهُ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَكَذَا {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} لِعِظَمِ الْقُرْآنِ وَشَأْنِهِ وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} : لِأَنَّهُ مَوْرُودٌ فِي الْمَوْقِفِ مُرْتَحَلٌ عَنْهُ قَرِيبٌ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ فِي الْجَنَّةِ فَعَبَّرَ فِيهِ بِالْإِعْطَاءِ لِأَنَّهُ يُتْرَكُ عَنْ قُرْبٍ وَيُنْتَقَلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَذَا: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرِيرِ الْإِعْطَاءِ وَالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَرْضَى كُلَّ الرِّضَا وَهُوَ مُفَسَّرٌ أَيْضًا بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ نَظِيرُ الْكَوْثَرِ فِي الِانْتِقَالِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْهُ وَكَذَا: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} لِتَكَرُّرِ حُدُوثِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَوْجُودَاتِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَهَا عَنْ كُرْهٍ.

فَائِدَةٌ: قَالَ الرَّاغِبُ: خُصَّ دَفْعُ الصَّدَقَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِيتَاءِ نَحْوَ: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} قَالَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكِتَابِ " آتَيْنَا " فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ " أُوتُوا " لِأَنَّ " أُوتُوا " قَدْ يُقَالُ: إِذَا أُوتِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ منه قبول " وآتيناهم " يُقَالُ فِيمَنْ كَانَ مِنْهُ قَبُولٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ السَّنَةُ وَالْعَامُ قَالَ الرَّاغِبُ: الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ السَّنَةِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي فِيهِ الشِّدَّةُ وَالْجَدْبُ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنِ الْجَدْبِ بِالسَّنَةِ وَالْعَامُ

ص: 368

مَا فِيهِ الرَّخَاءُ وَالْخِصْبُ وَبِهَذَا تَظْهَرُ النُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى بِالْعَامِ وَعَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالسَّنَةِ.

قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ

الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُتَوَجِّهًا وَقَدْ يُعْدَلُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيُسَمِّيهِ السَّكَّاكِيُّ: الْأُسْلُوبَ الْحَكِيمَ.

وقد يجيء الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السُّؤَالِ وَقَدْ يَجِيءُ أَنْقَصَ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ.

مِثَالُ مَا عُدِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} سَأَلُوا عَنِ الْهِلَالِ: لِمَ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَمْتَلِئَ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ؟ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَهَمَّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ لَا مَا سَأَلُوا عَنْهُ كَذَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَمُتَابِعُوهُ وَاسْتَرْسَلَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي الْكَلَامِ إِلَى أَنْ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى دَقَائِقِ الْهَيْئَةِ بِسُهُولَةٍ.

وَأَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ غَيْرِ مَا حَصَلَ الْجَوَابُ بِهِ! وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ لِيَعْلَمُوهَا فَإِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالُوهُ. وَالْجَوَابُ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي قُلْنَاهُ وَقَرِينَةٌ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ

ص: 369

إِذِ الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ الْمُطَابَقَةُ لِلسُّؤَالِ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْأَصْلِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ بِإِسْنَادٍ لَا صَحِيحٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بَلْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ: فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ خُلِقَتِ الْأَهِلَّةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ لَا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْهَيْئَةِ وَلَا يَظُنُّ ذُو دِينٍ بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَدَقُّ فَهْمًا وَأَغْزَرُ عِلْمًا أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى دَقَائِقِ الْهَيْئَةِ بِسُهُولَةٍ وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا آحَادُ الْعَجَمِ الَّذِينَ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْلَدُ أَذْهَانًا مِنَ الْعَرَبِ بِكَثِيرٍ هَذَا لَوْ كَانَ لِلْهَيْئَةِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فَكَيْفَ وَأَكْثَرُهَا فَاسِدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَنَّفْتُ كِتَابًا فِي نَقْضِ أَكْثَرِ مَسَائِلِهَا بِالْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَعَدَ إِلَى السَّمَاءِ وَرَآهَا عِيَانًا وَعَلِمَ مَا حَوَتْهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَأَتَاهُ الْوَحْيُ مِنْ خَالِقِهَا وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا ذَكَرُوهُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجَابُوا عَنْهُ بِلَفْظٍ يَصِلُ إِلَى أَفْهَامِهِمْ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لَمَّا سَأَلُوا عَنِ الْمَجَرَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَلَكُوتِيَّاتِ نِعْمَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِهَذَا الْقِسْمِ جَوَابُ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين قل رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، لِأَنَّ "مَا" سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَالْجِنْسِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ سبحانه وتعالى خَطَأً لِأَنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ فَيُذْكَرُ وَلَا تُدْرَكُ ذَاتُهُ عَدَلَ إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ بِبَيَانِ الْوَصْفِ الْمُرْشِدِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلِهَذَا تَعَجَّبَ فِرْعَوْنُ مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلسُّؤَالِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ:{أَلا تَسْتَمِعُونَ} أَيْ جَوَابُهُ الَّذِي لَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالَ فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ

ص: 370

الأَوَّلِينَ} الْمُتَضَمِّنِ إِبْطَالَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ نَصًّا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ ضِمْنًا إِغْلَاظًا فَزَادَ فِرْعَوْنُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ فَلَمَّا رَآهُمْ مُوسَى لَمْ يَتَفَطَّنُوا أَغْلَظَ فِي الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .

وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} فِي جَوَابِ: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .

وقول مُوسَى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} فِي جَوَابِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} زَادَ فِي الْجَوَابِ اسْتِلْذَاذًا بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

وقول قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} في جواب: {مَا تَعْبُدُونَ} زَادُوا فِي الْجَوَابِ إِظْهَارًا لِلِابْتِهَاجِ بعبادتها وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُوَاظَبَتِهَا لِيَزْدَادَ غَيْظُ السَّائِلِ.

وَمِثَالُ النَّقْصِ مِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} فِي جَوَابِ: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} أَجَابَ عَنِ التَّبْدِيلِ دُونَ الِاخْتِرَاعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي إِمْكَانِ الْبَشَرِ دُونَ الِاخْتِرَاعِ فَطَوَى ذِكْرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ مُحَالٌ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّبْدِيلُ أَسْهَلُ مِنَ الِاخْتِرَاعِ وَقَدْ نُفِيَ إِمْكَانُهُ، فَالِاخْتِرَاعُ أَوْلَى.

ص: 371

تَنْبِيهٌ

قَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْجَوَابِ أَصْلًا، إِذَا كَانَ السَّائِلُ قَصْدُهُ التَّعَنُّتُ، نَحْوَ:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قَالَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ: إِنَّمَا سَأَلَ الْيَهُودُ تَعْجِيزًا وتغليظا، إذا كَانَ الرُّوحُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ وَصِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَصَدَ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوهُ فَبِأَيِّ مُسَمًّى أَجَابَهُمْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ، فَجَاءَهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا، وَكَانَ هَذَا الاحتمال كَيْدًا يَرُدُّ بِهِ كَيْدَهُمْ.

قَاعِدَةٌ

قِيلَ: أَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُعَادَ فِيهِ نَفْسُ السُّؤَالِ، لِيَكُونَ وِفْقَهُ نحو:{أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} فَـ {أَنَا} فِي جَوَابِهِ هُوَ {أَنْتَ؟} فِي سُؤَالِهِمْ وَكَذَا: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فَهَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أُتُوا عِوَضَ ذَلِكَ بِحُرُوفِ الْجَوَابِ اخْتِصَارًا وَتَرْكًا لِلتَّكْرَارِ.

وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِتَقْدِيرِهِ، نَحْوَ:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ " قُلِ اللَّهُ " جَوَابَ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ: فَمَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟

ص: 372

قَاعِدَةٌ

الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَالِ، فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ.

وَيَجِيءُ كَذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي جَوَابِ مَنْ قَرَأَ إِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. قَالَ: وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ لَا مُبْتَدَأً مَعَ احْتِمَالِهِ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فَلَمَّا أَتَى بِالْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى. انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ: أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ زَيْدًا فِي جَوَابِ مَنْ قَامَ؟ فَاعِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ قَامَ زَيْدٌ وَالَّذِي تُوجِبُهُ صِنَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُطَابِقُ الْجُمْلَةَ المسؤول بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} فِي الْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ التَّطَابُقُ فِي قَوْلِهِ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} لِأَنَّهُمْ لَوْ طَابَقُوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى مَفَاوِزَ.

الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ فَوَجَبَ

ص: 373

أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقُ غَرَضِ السَّائِلِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَوَاخِرِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ.

وَأَشْكَلَ عَلَى هَذَا {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} فِي جَوَابِ: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنِ الْكَسْرِ بَلْ عَنِ الْكَاسِرِ وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْجَوَابَ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ إِذْ " بَلْ " لَا تَصْلُحُ أَنْ يَصْدُرَ بِهَا الْكَلَامُ وَالتَّقْدِيرُ: "مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ ".

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: حَيْثُ كَانَ السُّؤَالُ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ وَحَيْثُ كَانَ مُضْمَرًا فَالْأَكْثَرُ لتصريح بِهِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ الْأَكْثَرِ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} فِي قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

فَائِدَةٌ

أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا من أصحاب محمد مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ.

وَأَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِلَفْظِ " أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا "، وَقَالَ: مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ فِي الْبَقَرَةِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} .

ص: 374

قُلْتُ السَّائِلُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ مشركوا مَكَّةَ وَالْيَهُودُ كَمَا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لَا الصَّحَابَةُ فَالْخَالِصُ اثْنَا عَشَرَ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ.

فَائِدَةٌ

قَالَ الرَّاغِبُ: السُّؤَالُ إِذَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ تَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِـ" عَنْ " وَهُوَ أَكْثَرُ نَحْوَ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} وَإِذَا كَانَ لِاسْتِدْعَاءِ مَالٍ فَإِنَّهُ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ أَوْ بِمِنْ وَبِنَفْسِهِ أَكْثَرُ نَحْوَ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} .

قَاعِدَةٌ فِي الْخِطَابِ بِالِاسْمِ وَالْخِطَابِ بِالْفِعْلِ

الِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} و} لو {قيل: "يَبْسُطُ " لَمْ يُؤَدِّ الْغَرَضَ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِمُزَاوَلَةِ الْكَلْبِ الْبَسْطَ وَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ فَبَاسِطٌ أَشْعَرَ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ.

وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} لَوْ قِيلَ: "رَازِقُكُمْ " لَفَاتَ

ص: 376

مَا أَفَادَهُ الْفِعْلُ مِنْ تَجَدُّدِ الرِّزْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْحَالُ فِي صُورَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يُفِيدُهُ مَاضٍ نَحْوَ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُفِيدَ صُورَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ وَأَنَّهُمْ آخِذُونَ فِي الْبُكَاءِ يُجَدِّدُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةَ وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَلِهَذَا أَيْضًا عُبِّرَ بِـ" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ " وَلَمْ يَقُلْ: "الْمُنْفِقُونَ " كَمَا قِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُتَّقُونَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَمْرٌ فِعْلِيٌّ شَأْنُهُ الِانْقِطَاعُ وَالتَّجَدُّدُ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً تَقُومُ بِالْقَلْبِ يَدُومُ مُقْتَضَاهَا وَكَذَلِكَ التَّقْوَى وَالْإِسْلَامُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالْهُدَى وَالْعَمَى وَالضَّلَالَةُ وَالْبَصَرُ كُلُّهَا لها مسميات حقيقة أَوْ مَجَازِيَّةٌ تَسْتَمِرُّ وَآثَارٌ تَتَجَدَّدُ وَتَنْقَطِعُ فَجَاءَتْ بِالِاسْتِعْمَالَيْنِ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: لَمَّا كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَشَدَّ أَتَى فِيهِ بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .

تَنْبِيهَاتٌ

الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالتَّجَدُّدِ فِي الْمَاضِي الْحُصُولُ وَفِي الْمُضَارِعِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَكَرَّرَ وَيَقَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .

ص: 377

قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَمَّا يُورَدُ مِنْ نَحْوِ: "عَلِمَ اللَّهُ كَذَا "، فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَتَجَدَّدُ وَكَذَا سَائِرُ الصِّفَاتِ الدَّائِمَةِ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى " عَلِمَ اللَّهُ كَذَا " وَقَعَ عِلْمُهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى الدَّوَامِ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَبَعْدَهُ وَغَيْرَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} الْآيَاتِ فَأَتَى بِالْمَاضِي فِي الْخَلْقِ لِأَنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ وَبِالْمُضَارِعِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ وَالشِّفَاءِ لِأَنَّهَا مُتَكَرِّرَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ تَقَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.

الثَّانِي: مُضْمَرُ الْفِعْلِ فِيمَا ذَكَرَ كَمُظْهَرِهِ وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ سَلَامَ الْخَلِيلِ أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الملائكة حيث: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} فَإِنَّ نَصْبَ " سَلَامًا " إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُؤْذِنَةٌ بِحُدُوثِ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ إِذِ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ بِخِلَافِ سَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ فَاقْتَضَى الثُّبُوتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ الثُّبُوتُ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ.

الثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ وَقَدْ أنكره أبو المطرف بن عمير فِي كِتَابِ التَّمْوِيهَاتِ عَلَى التِّبْيَانِ لِابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَإِنَّ الِاسْمَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ فَقَطْ أَمَّا كَوْنُهُ يُثْبِتُ الْمَعْنَى لِلشَّيْءِ فَلَا. ثُمَّ أَوْرَدَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

ص: 378

وَقَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} .

وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: طَرِيقَةُ الْعَرَبِيَّةِ تَلْوِينُ الْكَلَامِ وَمَجِيءُ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَالِاسْمِيَّةِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِمَا ذَكَرُوهُ وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَصْدُرُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْخُلَّصِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِدُونِ التَّأْكِيدِ نَحْوَ: {رَبَّنَا آمَنَّا} وَلَا شَيْءَ بَعْدَ {آمَنَ الرَّسُولُ} وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ فِي كَلَامِ المنافقين {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .

قَاعِدَةٌ فِي الْمَصْدَرِ

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَبِيلُ الْوَاجِبَاتِ الْإِتْيَانُ بِالْمَصْدَرِ مَرْفُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تسريح بإحسان} {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَسَبِيلُ الْمَنْدُوبَاتِ الْإِتْيَانُ بِهِ مَنْصُوبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلزَّوْجَاتِ وَاجِبَةً لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ.

قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَنْدُوبٌ وَالثَّانِيَ وَاجِبٌ وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ أَثْبَتُ وَآكَدُ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ.

ص: 379

قَاعِدَةٌ فِي الْعَطْفِ

هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

عَطْفٌ عَلَى اللَّفْظِ: وَهُوَ الْأَصْلُ وَشَرْطُهُ إِمْكَانُ تَوَجُّهِ الْعَامِلِ إِلَى الْمَعْطُوفِ.

وَعَطْفٌ عَلَى الْمَحَلِّ: وَلَهُ ثلاث شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا: إِمْكَانُ ظُهُورِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ فِي لصحيح فَلَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ زَيْدًا.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ فَلَا يَجُوزُ هَذَا الضَّارِبُ زَيْدًا وَأَخِيهِ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِ الْعَمَلِ الْأَصْلُ إِعْمَالُهُ لَا إِضَافَتُهُ.

الثَّالِثُ: وُجُودُ الْمُحْرِزِ أَيِ الطَّالِبِ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ فَلَا يَجُوزُ " إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا قَاعِدَانِ " لِأَنَّ الطَّالِبَ لِرَفْعِ عَمْرٍو هُوَ الِابْتِدَاءُ وَهُوَ قَدْ زَالَ بِدُخُولِ " إِنَّ ".

وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ الْكِسَائِيُّ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الْآيَةَ وَأُجِيبُ بِأَنَّ خَبَرَ " إِنَّ " فِيهَا مَحْذُوفٌ أَيْ مَأْجُورُونَ أَوْ آمِنُونَ. وَلَا تَخْتَصُّ مُرَاعَاةُ الْمَوْضِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي اللَّفْظِ زَائِدًا. وَقَدْ أَجَازَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ هَذِهِ.

وَعَطْفُ التَّوَهُّمِ: نَحْوَ: "لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَا قَاعِدٍ " بِالْخَفْضِ عَلَى تَوَهُّمِ دُخُولِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ. وَشَرْطُ جَوَازِهِ صِحَّةُ دُخُولِ ذَلِكَ الْعَامِلِ الْمُتَوَهَّمِ وَشَرْطُ حُسْنِهِ كَثْرَةُ دُخُولِهِ هُنَاكَ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْعَطْفُ فِي الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:

بَدَا لِي أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى

وَلَا سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا

ص: 380

وَفِي الْمَجْزُومِ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ أَبِي عَمْرٍو: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} خَرَّجَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ لِأَنَّ مَعْنَى: "لَوْلَا أَخَّرْتَنِي فَأَصَّدَّقَ" وَمَعْنَى أَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ وَاحِدٌ وَقِرَاءَةُ قُنْبُلٍ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ} خَرَّجَهُ الْفَارِسِيُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ الْمَوْصُولَةَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَفِي الْمَنْصُوبِ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} بِفَتْحِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} وَهُوَ إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قِرَاءَةِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى " أَنْ تُدْهِنَ ".

وَقِيلَ فِي قِرَاءَةِ حَفْصٍ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} بِالنَّصْبِ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى لَعَلِّي أَنْ أَبْلُغَ لِأَنَّ خَبَرَ لَعَلَّ يَقْتَرِنُ بِأَنْ كَثِيرًا، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ} إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ: "لِيُبَشِّرَكُمْ وَيُذِيقَكُمْ ".

ص: 381

تَنْبِيهٌ

ظَنَّ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوَهُّمِ الْغَلَطُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ وَابْنُ هِشَامٍ بَلْ هُوَ مَقْصِدٌ صَوَابٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ جَوَّزَ الْعَرَبِيُّ فِي ذِهْنِهِ مُلَاحَظَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَعَطَفَ مُلَاحِظًا لَهُ لَا أَنَّهُ غَلِطَ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى.

مَسْأَلَةٌ

اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَعَكْسِهِ فَمَنَعَهُ الْبَيَانِيُّونَ وَابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ وَنَقَلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ وَأَجَازَهُ الصَّفَّارُ وَجَمَاعَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فِي سُورَةِ الصَّفِّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأُولَى: لَيْسَ الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ الْأَمْرَ حَتَّى يُطْلَبَ لَهُ مُشَاكِلٌ بَلِ الْمُرَادُ عَطْفُ جُمْلَةِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جُمْلَةِ ثَوَابِ الْكَافِرِينَ.

وَفِي الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْعَطْفَ على " تؤمنون " لِأَنَّهُ بِمَعْنَى " آمَنُوا " وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِـ" بَشِّرْ " لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وبأن الظاهر في " تؤمنون " إِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتِّجَارَةِ لَا طَلَبٌ.

وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: الْأَمْرَانِ مَعْطُوفَانِ عَلَى " قل " مقدرة قيل: "يَا أَيُّهَا " وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ.

ص: 382

مَسْأَلَةٌ

اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ عَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ وَعَكْسِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ وَقَدْ لَهِجَ بِهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ كَثِيرًا. وَرَدَّ بِهِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَقَالَ: هِيَ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ لَا لِلتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً لِتَخَالُفِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَلَا لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَاوِ أَنْ تَرْبِطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ فتكون جملة الحال مُقَيَّدَةً لِلنَّهْيِ وَالْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا مِنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِسْقًا وَمَفْهُومُهُ جَوَازُ الْأَكْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِسْقًا وَالْفِسْقُ قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَالْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا مِنْهُ إِذَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ وَمَفْهُومُهُ فَكُلُوا مِنْهُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَوْ أُبْطِلَ الْعَطْفُ بِتَخَالُفِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ لَكَانَ صَوَابًا.

مَسْأَلَةٌ

اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيِ عَامِلَيْنِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ سِيبَوَيْهِ الْمَنْعُ وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ السَّرَّاجِ وَابْنُ هِشَامٍ وَجَوَّزَهُ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ

ص: 383

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ،فِيمَنْ نَصَبَ " آيَاتٍ " الْأَخِيرَةَ.

مَسْأَلَةٌ

اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ فَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى الْمَنْعِ وَبَعْضُهُمْ وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى الْجَوَازِ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} .

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : إِنَّ الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ " بِهِ "وَإِنْ لَمْ يُعَدِ الْجَارُّ.

قَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ جَوَازُ ذَلِكَ لِوُرُودِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا نَظْمًا وَنَثْرًا قَالَ: وَلَسْنَا مُتَعَبَّدِينَ بِاتِّبَاعِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ بَلْ نَتَّبِعُ الدليل.

تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث

وأوله النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْمُحْكَمِ والمتشابه

ص: 384