الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهَذَا خبر من الله عَمَّن كَانَ متصفا بِهَذَا الْوَصْف قبل مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَمن أدْرك من هَؤُلَاءِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَآمن بِهِ كَانَ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ
فصل فِي {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم}
دَعْوَى النَّصَارَى فِي الْمَسِيح
قَالُوا وَقَالَ أَيْضا فِي مَوضِع آخر {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب} فأعنى بقوله {مثل عِيسَى} إِشَارَة إِلَى الناسوت المؤخوذ من مَرْيَم الطاهرة لِأَنَّهُ لم يذكر هُنَا اسْم الْمَسِيح إِنَّمَا ذكر عِيسَى فَقَط
وكما أَن آدم خلق من غير جماع ومباضعة فَكَذَلِك جَسَد الْمَسِيح خلق من غير جماع وَلَا مباضعة وكما أَن جَسَد آدم ذاق الْمَوْت فَكَذَلِك جَسَد الْمَسِيح ذاق الْمَوْت وَقد يبرهن بقوله أَيْضا قَائِلا إِن الله ألْقى كَلمته إِلَى مَرْيَم وَذَلِكَ حسب قَوْلنَا معشر النَّصَارَى إِن كلمة الله الخالقة حلت فِي مَرْيَم وتجسدت بِإِنْسَان كَامِل
وعَلى هذاالمثال نقُول فِي السَّيِّد الْمَسِيح طبيعتان
طبيعة لاهوتية الَّتِي هِيَ طبيعة كلمة الله وروحه
وطبيعة ناسوتية الَّتِي اخذت من مَرْيَم الْعَذْرَاء واتحدت بِهِ وَلما تقدم بِهِ القَوْل من الله تَعَالَى على لِسَان مُوسَى النَّبِي إِذْ يَقُول أَلَيْسَ هَذَا الْأَب الَّذِي خلقك وبرأك واقتناك قيل وعَلى لِسَان دَاوُد النَّبِي روحك الْقُدس لَا تنْزع مني وَأَيْضًا على لِسَان دَاوُد النَّبِي بِكَلِمَة الله تشددت السَّمَوَات وبروح فَاه جَمِيع أفواههن وَلَيْسَ يدل هَذَا القَوْل على ثَلَاثَة خالقين بل خَالق وَاحِد الْأَب ونطقه أَي كَلمته وروحه أَي حَيَاته
الرَّد عَلَيْهِم حَقِيقَة القَوْل فِي عِيسَى وَالْجَوَاب من وُجُوه
أَحدهَا أَن قَوْله تَعَالَى {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} كَلَام حق فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خلق هَذَا النَّوْع البشري على الْأَقْسَام الممكنة ليبين عُمُوم قدرته
فخلق آدم من غير ذكر وَلَا أُنْثَى
وَخلق زَوجته حَوَّاء من ذكر بِلَا أُنْثَى كَمَا قَالَ {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا}
وَخلق الْمَسِيح من أُنْثَى بِلَا ذكر
وَخلق سَائِر الْخلق من ذكر وَأُنْثَى
وَكَانَ خلق آدم وحواء أعجب من خلق الْمَسِيح فَإِن حَوَّاء خلقت من ضلع آدم وَهَذَا أعجب من خلق الْمَسِيح فِي بطن مَرْيَم وَخلق آدم أعجب من هَذَا وَهَذَا وَهُوَ أصل خلق حَوَّاء
فَلهَذَا شبهه الله بِخلق آدم الَّذِي هُوَ أعجب من خلق الْمَسِيح فَإِذا كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَن يخلقه من تُرَاب وَالتُّرَاب لَيْسَ من جنس بدن الْإِنْسَان أَفلا يقدر أَن يخلقه من امْرَأَة هِيَ من جنس بدن الْإِنْسَان
وَهُوَ سُبْحَانَهُ خلق آدم من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون لما نفخ فِيهِ من روحه فَكَذَلِك الْمَسِيح نفخ فِيهِ من روحه وَقَالَ لَهُ كن فَيكون وَلم يكن آدم بِمَا نفخ فِيهِ من روحه لاهوتا وناسوتا بل كُله ناسوت فَكَذَلِك الْمَسِيح كُله ناسوت وَالله تبارك وتعالى ذكر هَذِه الْآيَة فِي ضمن الْآيَات الَّتِي أنزلهَا فِي شَأْن النَّصَارَى لما قدم على النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَصَارَى نَجْرَان وناظروه فِي الْمَسِيح وَأنزل الله فِيهِ مَا أنزل فَبين قَول الْحق الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فكذب الله الطَّائِفَتَيْنِ هَؤُلَاءِ فِي غلوهم فِيهِ وَهَؤُلَاء فِي ذمهم لَهُ
وَقد امثثل النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَول الله فَدَعَاهُمْ إِلَى المباهلة فعرفوا أَنهم إِن باهلوه أنزل الله عَلَيْهِم
لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثمَّ كتب النَّبِي صلى الله عليه وسلم الى هِرقل ملك الرّوم بقوله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا} إِلَى آخرهَا وَكَانَ أَحْيَانًا يقْرَأ بهَا فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من رَكْعَتي الْفجْر وَيقْرَأ فِي الأولى بقوله {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ}
وَهَذَا كُله يبين أَن الْمَسِيح عبد لَيْسَ بإله وَأَنه مَخْلُوق كَمَا خلق آدم وَقد أَمر أَن يباهل من قَالَ أَنه إِلَه فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه الْمُخْتَص بِهِ ثمَّ يبتهل هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَيدعونَ الله أَن يَجْعَل لعنته على الْكَاذِبين فَإِن كَانَ النَّصَارَى كاذبين فِي قَوْلهم هُوَ الله حقت اللَّعْنَة عَلَيْهِم وَإِن كَانَ من قَالَ لَيْسَ هُوَ الله بل عبد الله كَاذِبًا حقت اللَّعْنَة عَلَيْهِ وَهَذَا إنصاف من صَاحب يَقِين يعلم أَنه على الْحق
وَالنَّصَارَى لما لم يعلمُوا أَنهم على الْحق نكلوا عَن المباهلة وَقد قَالَ عقب ذَلِك {إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله} تكذبيا لِلنَّصَارَى الَّذين يَقُولُونَ هُوَ إِلَه حق من إِلَه حق فَكيف يُقَال أَنه أَرَادَ أَن الْمَسِيح فِيهِ لاهوت وناسوت وَأَن هَذَا هُوَ الناسوت فَقَط دون اللاهوت
وَبِهَذَا ظهر الْجَواب عَن قَوْلهم قَالَ فِي مَوضِع آخر إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم فأعنى بقوله عِيسَى أَشَارَ الى البشرية الْمَأْخُوذَة من مَرْيَم الطاهرة لِأَنَّهُ لم يذكر الناسوت هَا هُنَا اسْم الْمَسِيح إِنَّمَا ذكر عِيسَى فَقَط فَإِنَّهُ يُقَال عِيسَى هُوَ الْمَسِيح بِدَلِيل أَنه قَالَ {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل} فَأخْبر أَنه لَيْسَ الْمَسِيح إِلَّا رَسُولا لَيْسَ هُوَ بإله وَأَنه ابْن مَرْيَم وَالَّذِي هُوَ ابْن مَرْيَم هُوَ الناسوت وَقَالَ {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا}