المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 ـ دلالة العقل - رسائل الشيخ الحمد في العقيدة - جـ ١

[محمد بن إبراهيم الحمد]

الفصل: ‌3 ـ دلالة العقل

ولذلك قال": =فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه+ ولم يقل يسلمانه؛ لأنه باقٍ على الأصل، فاعتناق غير الإسلام يعد خروجاً عن الأصل والقاعدةِ بأسباب خارجة.

* * *

‌2 ـ دلالة الشرع

أما دلالة الشرع فواضحة معلومة؛ فما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله، فالكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها، وما جاءت به من الأخبار الكونية، والمغيبات التي شهد الواقع بصدقها_كل ذلك يدل على أنها من ربٍّ حكيمٍ عليمٍ مستحقٍ للعبادة وحده لا شريك له (1) .

* * *

‌3 ـ دلالة العقل

أما دلالة العقل على وحدانية الله فلأن المخلوقاتِ جميعَها لابد لها من مُوجِد وخالق؛ إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، ولا يمكن أن توجَدَ صدفة؛ فهذه المخلوقات لا يمكن أن تُوجِد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقاً؟

كذلك لا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من مُحدِثٍ، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات وبين الكائنات بعضها مع بعض_يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودُها صدفةً (2) .

أضف إلى ذلك ما تجده من افتقار المخلوق الشديد؛ فالافتقار وصف ذاتي للمخلوق ملازم له؛ مما يدل على أنه لابد من وجود خالق، كامل، غني عما سواه، وهو رب العالمين.

وقد ذكر الله _سبحانه وتعالى_ هذا الدليل العقلي والبرهان القاطع في سورة الطور، حيث قال:[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ](الطور: 35) .

يعني أنهم لم يُخلقوا من غير خالقٍ، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله_تبارك وتعالى_ (3) .

(1) انظر نبذة في العقيدة الإسلامية، ص11_12.

(2)

انظر الرياض الناضرة لابن سعدي ص194، ونبذة في العقيدة الإسلامية، ص11_ 15.

(3)

مرجع سابق.

ص: 5

ولهذا لما سمع جبير بن مطعم÷رسول الله"يقرأ سورة الطور فبلغ قوله_تعالى_: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] الآية وكان يومئذٍ مشركاً_قال: =كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي+.

رواه البخاري مُفَرَّقاً (1) .

ولهذا نجد أن الله_سبحانه وتعالى_يحث كثيراً في كتابه على التعقل والتبصر؛ ولا أدل على ذلك من كثرة الآيات التي تُخْتَمُ بمثل قوله: [أّّفّلا تّعًقٌلٍونّ][لّعّلَّكٍمً تّعًقٌلٍون] ؛ لأن الإنسان إذا تفكر تذكر، وعرف الحق، وإذا تذكر خاف واتقى وانقاد.

ولهذا نجد أن العقلاء الجادين الباحثين عن الحق_يصلون إليه، ويوفقون له، وليس أدل على ذلك من حال العقلاء في الجاهلية أمثال قُس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد وعم عمر بن الخطاب÷فنحن نجد في ثنايا كلامهما الإقرار بوحدانية الله_عز وجل_مع أنهما يعيشان في مجتمع يعج بالجهل والشرك.

يقول قس في خطبته المشهورة التي ألقاها في سوق عكاظ: =أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آتٍ، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تُزهر، وبحار تزْخَر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا في المقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟

يقسم قُسٌّ بالله قسماً لا إثم فيه أن لله ديناً هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً، ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأوليـ **** ـن من القرون بصائر

لما رأيت موارداً **** للقوم ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها **** يمضي الأكابر والأصاغر

لا يرجع الماضي إلـ **** ـي ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا **** له حيث صار القوم صائر

ويقول زيد بن عمرو في شعره المشهور:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له الأرض تحمل عذبا زلالا

(1) انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، 6/49_50.

ص: 6

دحاها فلما استوت شدَّها **** جميعا وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له المزن تحمل عذبا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدةٍ **** أطاعت فصبت عليها سجالا

ويقول:

أرباً واحداً أم ألف رب **** أدين إن تقسمت الأمور

هجرت اللات والعزى جميعاً **** كذلك يفعل الجلد الصبور

بل إن كثيراً من كبار المفكرين الغربيين اهتدوا إلى الحق بسبب إجالتِهم أفكارَهم وبحثهم عن الحق.

ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) _وقد كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور_ومثله كتاب (كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك (الإنسان لا يقوم وحده) وترجم إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) _يدرك أن العالِمَ الحقيقيَّ لا يكون إلا مؤمناً، وأن العاميَّ لا يكون إلا مؤمناً، وأن الإلحاد والكفر لا يكون إلا من أنصاف العلماء وأرباع العلماء؛ ممن تعلم قليلاً من العلم، وخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان (1) .

وبهذا يتبين لنا أن العقل يدل على وحدانية الله_عز وجل_.

أما إذا أنكر العقل ذلك فإن الخلل في العقل نفسه، وصدق من قال:

إذا ادعى عقلك إنكاره **** فأنكر العقل ودعواه

ومن هنا يتبين لنا بطلان قول من قال: إن هذا الكون نشأ بالصدفة، أو أن الطبيعة هي الخالق.

(1) مستفاد من مذكرة للشيخ: د. ناصر القفاري، وانظر كتاب الله يتجلى في عصر العلم، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره: جون كلوفرمونسيما، ترجمة د. الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه. د. محمد جمال الدين الفندي.

وانظر كتاب العلم يدعو للإيمان، تأليف: كريسي موريسون، ترجمة محمد صالح الفلكي، والكتابان من منشورات دار القلم، بيروت.

ص: 7

إن هذه الدعاوى ليست إلا مكابرةً وعناداً لما هو متقرر بالمعقول والمنقول، فمن قال: إن هذا الكون نشأ عن طريق الصدفة يقال له: كيف نشأ هذا الكون الفسيح العظيم المتسق المتناسق عن طريق الصدفة؟ !

وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم الأمريكي (كريسي موريسون) يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة قال: =لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيداً، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فبإمكانك أن تتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هي واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (1_2_3_4) بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف، حتى أن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (1_10) بالترتيب واحدٌ في بلايين من المحاولات+ (1) .

وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالاً يصعب حسابه فضلاً عن تصوره.

إن ما في هذا الكون يحكي أنه إيجاد موجد حكيم عليم خبير، لكن الإنسان ظلوم جهول [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] (عبس: 17_19) (2) .

أما القول بأن الطبيعة هي الخالق فتلك فرية عظيمة لا دليل عليها، وتهافتها واضح بيِّن لا يحتاج إلى أي رد بل إن تصور ذلك كافٍ في الرد على أصحابه (3) .

(1) انظر العقيدة في الله، للشيخ عمر الأشقر، ص74_75.

(2)

انظر العقيدة في الله ص74_75.

(3)

انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق، ص74_98، وانظر إلى كتاب: العلم يتبرأ من نظرية دارون، لزياد أبو غنيمة.

ص: 8