المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 ـ دلالة الحس - رسائل الشيخ الحمد في العقيدة - جـ ١

[محمد بن إبراهيم الحمد]

الفصل: ‌4 ـ دلالة الحس

ومن تلك الدعاوي نظرية (دارون) التي حاول أصحابها أن يعللوا بها وجود الأحياء، وتزعم هذه النظرية أن أصل الإنسان حيوان صغير نشأ من الماء، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه، مما أدى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن، وأخذت هذه الصفات المكتسبة تورَّث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان.

هذا هو ملخص تلك النظرية، وعوارها وزيفها واضح بيِّن (1) .

وقد ثبت بطلانها حتى عند أهلها، ومما يقال في ذلك، أنه على فرض صحتها فمن الذي أنشأ ذلك الحيوان الصغير؟ ومن الذي جعله يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه؟ !

* * *

‌4 ـ دلالة الحس

فالحس يدل بوضوح على وجود الله ووحدانيته_سبحانه وتعالى_والأدلة الحسية على ذلك كثيرة جدَّاً، ومنها:

أ_إجابة الدعوات:

ويعني بها إجابة دعوات الملهوفين والمكروبين وغيرهم، ممن يدعون الله _سبحانه وتعالى_ فيستجاب لهم، ويحصل لهم مقصودهم.

والأمثلة على ذلك لا تحصى ولا تحصر، سواء كان ذلك في حق الأنبياء_عليهم السلام_أم في حق غيرهم.

ومن ذلك ما قاله الله_سبحانه وتعالى_عن نوح_عليه السلام_: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ](القمر: 10_12) .

(1) انظر العقيدة في الله ص79_92 ففيه تفصيل الرد على تلك الدعوى، وانظر العلم يتبرأ من نظرية دارون.

ص: 9

وما قَصَّهُ الله_سبحانه_عن يونس_عليه السلام_: [فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ](الأنبياء: 87) فاستجاب دعاءه، ونجاه من بطن الحوت.

وقال عن أيوب_عليه السلام_: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ](ص:41_43) .

وفي صحيح البخاري عن أنس÷قال: =إن أعرابيَّاً دخل يوم الجمعة والنبي"يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع لنا، فرفع النبي"يديه، فدعا، فثار السحاب كأمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره_حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته.

وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال؛ فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت+ (1) .

وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى هذا اليوم لمن أتى بشرائط الإجابة، وكثيراً ما نسمع أن الناس ذهبوا للاستسقاء وقبل أن يخرجوا من المسجد إذا هم يمطرون.

فإجابة الدعاء دليل قاطع على وحدانية الله_عز وجل_.

ب_صدق الرسل_عليهم السلام_:

وهذا دليل حسي واضح، فالرسل_عليهم السلام_هم أكمل البشر، قد بلَّغوا عن الله رسالاته، وقد اصطفاهم الله، واختارهم من بين الخلق، وأيَّدهم بالآيات البينات، ونصرهم، وجعل الغلبة لهم، والدولة على أعدائهم.

(1) انظر البخاري (1033) .

ص: 10

فالإنسان إزاء الأنبياء لا يملك إلا أن يقطع بصدقهم؛ إذ إن دعوى النبوة أعظم الدعاوى، ولا يدعيها إلا أصدق الناس أو أكذبهم، فالأنبياء هم أصدق الناس على الإطلاق؛ فظهور المعجزات على أيديهم، وتأييد الله لهم، وخذلانه لأعدائهم، وما جبلوا عليه من كريم الخلال، وحميد الخصال، كل ذلك يدل على صدقهم، وبالتالي نعلم أنهم مبعوثون من عند الله، وأنه_سبحانه_حق، وعبادته حق.

جـ_ دلالة الأنفس:

لقد صور الله الإنسان على أحسن صورة، وخَلَقَهُ في أحسن تقويم؛ كما قال_سبحانه وتعالى_[وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] (التغابن: 3) .

وكما قال_عز وجل_[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ](التين: 4) .

ولو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات_لأدرك أن وراء ذلك رباً خالقاً حكيماً في خلقه، ولعلم أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×في تقرير هذا المعنى عند قوله_تعالى_: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا](الشمس: 7) : =وعلى كلٍّ فالنفس آيةٌ كبيرة من آيات الله التي يحق الإقسام بها؛ فإنها في غاية اللطف، والخفة، سريعة التنقل، والحركة، والتغير، والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة، والإرادة، والقصد، والحب.

وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثالٍ لا فائدة فيه، وتسويتُها على ما هي عليه آيةٌ من آيات الله العظيمة.

والمقصود أن نفس الإنسان من أعظم الأدلة على وجود الله وحده، ومن ثم تفرده بالعبادة+.

د_ هداية المخلوقات:

وهذا مشهد من مشاهد الحس الدالة على وحدانية الله_عز وجل_فلقد هدى الله الحيوان: ناطقه وبهيمه، وطيره ودوابه، وفصيحه وأعجمه إلى ما فيه صلاحُ معاشه وحاله.

ويدخل تحت قوله_تعالى_: [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى](طه:50) .

ص: 11

تلك الآية التي رد بها موسى_عليه السلام_على فرعون_يدخل تحتها من العجائب والغرائب ما لا يحصيه إلا الله_عز وجل_.

فَمَن الذي هدى الإنسان ساعة ولادته إلى التقام ثدي أمه؟ ومن الذي أودع فيه معرفة عملية الرضاع؟ تلك العملية الشاقة التي تتطلب انقباضات متوالية من عضلات الوجه، واللسان، والعنق، وحركات متواصلة للفك الأسفل، والتنفس مع الأنف، كل ذلك يتم بهداية تامة وبدون سبق علم أو تجربة، فمن الذي ألهمه ذلك؟ إنه [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ] .

ثم إن هدايته بعد أن يكبر إلى السعي في مصالحه من الضرب في الأرض، والسير فيها، كل ذلك من الهداية التامة العامة للمخلوقات.

أما هداية الطير، والوحش، والدواب_فحدث ولا حرج، فلقد هداها الله إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان.

وقد ذكر العلامة ابن القيم×في كتابه (شفاء العليل) أموراً عجيبة من هذا القبيل، فقد تحدث عن هداية النحل بما يأخذ بالألباب، ويزيد إيماناً برب الأرباب (1) .

حيث تحدث عن اتخاذها اليعسوبَ أميراً، وعن طريقة ولادتها، ورعيها، ودقة تنظيمها، وتوزيعها المهام على فرق شتى، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه، ومنها فرقة تهيِّيء الشمع وتصنعه، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل.

وإذا رأت النحل بينها نحلةً مهينةً بطالةً قطَّعَتْها، وقتلتها؛ حتى لا تفسد عليهن بقيةَ العمال، وتُعْديهِنَّ ببطالتها ومهانتها.

(1) انظر شفاء العليل، ص144_164.

ص: 12

ثم تحدث×عن طريقة بنائها البيوت، فقال: ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية، كأنها سككٌ ومحالٌّ، وتبني بيوتها مسدسةً متساويةَ الأضلاع، كأنها قرأت كتاب =إقليدس+ حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضاً حتى يصير طبقاً واحداً محكماً، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناءَ المحكمَ+.

ثم تحدث عن طريقة خروجها للمرعى، وادخارها للكسب ثم قال: =وفي النحل كرامٌ لها سعيٌ وهمةٌ، واجتهادٌ، وفيها لئامٌ كسالى قليلةُ النفع مؤثرةٌ للبطالة؛ فالكرام دائماً تطردها وتنفيها عن الخلية+.

وفي ختام حديثه عنها قال: =ولما كانت النحل من أنفع الحيوانات وأبركها، قد خُصت من وحي الرب_تعالى_وهدايته بما لم يَشْرَكْها فيه غيرُها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام_كان أكثر الحيوان أعداءها، وكان أعداؤها من أقل الحيوانات منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم+.

ثم تحدث_أيضاً_عن هداية النمل (1) قائلاً: =وهدايتها من أعجب شيءٍ؛ فإن النملةَ الصغيرةَ تخرج من بيتها وتطلب قُوْتَها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته، وساقته في طرق معوجة بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ في غاية التوعر، حتى تصلَ إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقِهِ باثنتين فَلَقَتْه بأربع، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها.

ولا تتغذى منه نملة مما جمعه غيرها.

(1) انظر شفاء العليل، ص147_151.

ص: 13

ويكفي في هداية النمل ما قاله الله_سبحانه_في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ](النمل: 18) .

فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه مَنْ خاطبته، ثم بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس؛ إرادة للعموم، ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب الدخول؛ خشية أن تصيبهم معرةُ الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك.

والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل، ولها صدق الشم، وبعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.

وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائداً يطلب الرزق، فإذا أوقف عليه أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعاتٍ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحبها.

وهذا الهدهد من أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، ولا يراه غيره.

ومن هدايته ما قصه الله عنه في كتابه؛ مما قاله الهدهد لسليمان_عليه السلام_وقد فقده، وتوعده، فلما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هَيَّجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال:[أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ] وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفْتُهُ بحيث أُحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن؛ فلذلك قال:[وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ](النمل: 22) .

والنبأ هو الخبر الذي شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لاشك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ اسْتَفْرَغَتْ قَلْبَ المُخبَر لتلقي الخبر، وأوْجَبَتْ له التشوقَ إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال، وخطاب التهييج.

ص: 14

ثم أخبر بباقي القصة عن بلقيس وقومها، وبين بطلان ما هم عليه من عبادة الشمس.

وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، قال الشافعي: أعقل الطير.

وبُرُدُ الحمامِ هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره.

وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين، وهو موصوف باليمن والإلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه مسافات بعيدة، وربما صُدَّ فترك وطنه عشرَ حججٍ وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعةً عاد إليه.

أما طريقة سِفاده وجمعه عِشَّه، واعتنائه ببيضه وصغاره_فهي من أعجب العجب، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) أوجه شبه كثيرة بين الإنسان والحمام.

ومن عجيب هداية الديك الشاب أنه إذا أُلْقِيَ له حبٌّ لم يأكلْه، حتى إذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبَّاً ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرماً؛ فإن الديك الشاب يفرق الحب؛ ليجتمع الدجاج فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه.

ومن عجيب أمر الثعلب أن ذئباً أكل أولاده وكان للذئب أولاد، وهناك زبية، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سرداباً يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب، فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَتُه هرب قُدَّامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءه، فلم يجده ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.

ومن عجيب أمره أنه رأى رجلاً ومعه دجاجتان، فاختفى له، وخطف إحداهما، وفَرَّ ثم أعمل فكره في أخذ الثانية، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه ما يشبه الطائر، وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر، فظن الرجل أنها الدجاجة، فأسرع نحوها، فخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب.

ص: 15

ومن هداية الحمار_وهو من أبلد الحيوان_أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله في البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه.

ثم إنه يُفرِّق بين الصوت الذي يُسْتَوْقَفُ به، وبين الصوت الذي يُحث به على السير.

ومن عجيب أمر الفأرة أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة فَنَقَصَ، وعَزَّ عليها الوصولُ إليه_ذهبت وحملت في أفواهها ماءً وَصَبَّتْهُ في الجرة؛ حتى يرتفع الزيت فتشربه.

وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.

وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال_تعالى_:[أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً](الفرقان: 44) .

قال أبو جعفر الباقر: =والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلاً منها+.

قيل لرجل: مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟.

قال: مَنْ علم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.

وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك السكونَ، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟.

فقال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وَثَبَتْ عليها كالأسد.

وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟.

قال: مَنْ علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلباً حثيثاً حتى تجيء الواحدةُ منهن، فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فَرَّقه ها هنا وها هنا وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود؛ فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

ص: 16

ومَنْ علَّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقْتَفَى أثره ويُطلب؟ عَفَّى مِشْيَته بذنبه؟!.

ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟ !.

ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وَقْتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء، فتلدَ فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع، أو ينشق، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم؟ !.

ومَنْ علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟!.

ومَنْ علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَباً بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة حتى قيل فيه:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي **** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

وهذا باب واسع جدَّاً، ويكفي فيه قوله_سبحانه وتعالى_:[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ](الأنعام: 38) .

قال مجاهد: =أمم أمثالكم+ أصناف مصنفة تُعْرف بأسمائها. وقال الزجاج: =أمم أمثالكم+ في أنها تبعث، وقال ابن قتيبة: =أمم أمثالكم+ في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتَوَقِّي المهالك، وقال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم يعدو كعدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب لعافته، فإذا قام الرجل من رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ منها واحدة وإن أخطأ رجلٌ تروّاه وحفظه.

ص: 17

وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها_سبحانه وتعالى_وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته؛ فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل، وحسن التدبير، والتَّأتي لما تريده_ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته، ومعرفة حكمته، وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدىً، وأن له حكمةً باهرةً، وآيةً ظاهرة، وبرهاناً قاطعاً، يدل على أنه رب كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه المنفرد بكل كمالٍ دون خلقهِ، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (1) .

هـ _ دلالة الآفاق:

ومن آياته الدالة على وحدانيتة دلالة الآفاق التي يراها كل أحدٍ؛ العالم والجاهل، المؤمن والكافر، فلو تأمل الإنسان بعين البصيرة والتدبر والتفكر_لأدرك عظمة مَنْ أنشأها، ولَدَعاه ذلك إلى عبادته وحده لا شريك له.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×عند قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ](فصلت:53) : =وقد فعل_تعالى_فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبين أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، الخاذل لمن يشاء+ (2) .

وقال×في موطن آخر_أيضاً_: =كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع الكائنات_علم أنها خلقت للحق بالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين، ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مدبرات، مسخرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالَم العلويَّ والسفلي كلَّهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا رب سواه+ (3) .

(1) انظر شفاء العليل، ص147_164.

(2)

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73.

(3)

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73.

ص: 18

وقال رحمه في موطن آخر: =فهذا خبره_تعالى_عن أمور مُسْتَقْبَلَةٍ أنه يُري عباده من الآيات والبراهين في الآفاق وفي الأنفس ما يدلهم على أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به هو الحق+ (1) .

وفي كل عصر من العصور يُطلع الله عباده على أمور عظيمة في هذا الكون الفسيح.

وفي العصور المتأخرة ظهر العديد من الاكتشافات والمخترعات والحقائق العلمية، ولا يزال الباحثون يكتشفون في كل يوم سراً من أسرار هذا الكون العظيم، مما جعلهم يقفون حائرين واجمين معترفين بالتقصير والعجز، وأن هناك عوالمَ أخرى مجهولةً، وأخرى لم تكتشف بعد.

وخلاصة القول في هذا أن كل ما في الآفاق يدل دلالة قاطعة على وجود مدبر حكيم، رب عليم، مستحق للعبادة، ولكن:

إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ **** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر

و_عبودية الكائنات (2) :

فالله_سبحانه_قد خلق جميع الكائنات؛ إنسها، وجنها، وملائكها، وحيوانها، وجمادها، ونباتها، وغيرها من الكائنات_لعبادته_سبحانه_وفطرها على توحيده، والاعتراف بألوهيته، والإقرار بفقرها وحاجتها وخضوعها وصمودِها له_جل وعلا_.

فكل هذه الكائنات تقوم بعبادة الله_عز وجل_ولا يُخِلُّ بذلك إلا الإنسان المعاند الزائغ عن شرع الله_سبحانه وتعالى_المخالف لنظام هذا الكون المحكم البديع؛ الذي ما قام إلا على عبودية الله.

هذا وتختلف العبوديات من مخلوق إلى مخلوق.

فمن تلك العبوديات: عبودية الإنس، فهي أشرفها وأفضلها.

وأشرف ما فيها عبوديةُ الأنبياء لربهم، وقيامهم بالدعوة والجهاد وغير ذلك، ثم عبودية أتباعهم وأتباع أتباعهم.

ومن ذلك: عبودية الملائكة، والجن وهذا ليس بمستغرب.

أما الغريب حقَّاً فهو عبودية الجمادات والحيوانات، التي يعتقد كثير من الناس أنها لا تعقل ولا تدرك، وليس لها أيُّ عبودية لله.

(1) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص72_73.

(2)

انظر عبودية الكائنات لرب العالمين، للشيخ فريد التوني، دار الضياء، ص234، و245.

ص: 19

إن هذا الكون الواسع بما فيه من الكائنات كلّه يخضع لخالقه وبارئه، ويؤدي عبودية له_سبحانه وتعالى_فلقد ثبت لهذه الكائنات في الكتاب والسنة طاعاتٌ كثيرةٌ كالسجود، والتسبيح، والصلاة، والاستغفار، والإسلام، والإشفاق، وغيرها.

فعن سجود هذه الكائنات يقول الله_عز وجل_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ](الحج: 18) .

وليس بالضرورة أن يكون هذا السجود مثل سجود الآدميين من المسلمين؛ فسجود كلِّ أحدٍ بحسبه.

وأما عن تسبيح الكائنات فذلك كما في قوله_تعالى_: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً](الإسراء: 44) . فالكائنات كلها تسبح خالقها تسبيحاً لا نفقهه نحن البشر، وعدم معرفتنا به ليس دليلاً على نفيه؛ فلقد خص الله بعض خلقه بالاطلاع على تسبيح بعض الكائنات، وأفهمه تسبيحها كداود_عليه السلام_.

أما صلاتُها فقد قال الله_تعالى_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ](النور: 41) .

فكلها يصلي، ويسبح لله، وليس بالضرورة أن نفهم ذلك.

أما عن استغفارها ففي حديث أبي الدرداء÷قال: سمعت رسول الله"يقول: =وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء+ (1) .

(1) ابن ماجه، 1/81 برقم (223) ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع 2/1079 رقم (6297) .

ص: 20

أما عن إسلامها لله_تعالى_فقد قال_عز وجل_: [أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ](آل عمران:83) .

إلى غير ذلك من العبوديات المتنوعة التي لا يتسع المقام لذكرها (1) .

وهناك كتاب صدر مؤخراً بعنوان (عبودية الكائنات لرب العالمين)(2) حيث تكلم مؤلفه على عبودية الكائنات بالتفصيل، ومن ضمن ما تلكم عليه: سجود الدواب، وإشفاقها من يوم القيامة، وراحتها من موت الفاجر، وعن كلام الدواب، كالبقرة، والجمل، والحيتانِ، والديك، والذئب، والفرس، والنمل، والهدهد.

كما تحدث عن عبودية الشجر، وسجودها، وسماعها لأذان المؤذن، وتلبيتها في الحج أو العمرة، وعن ولاء الشجر وبرائه، وعن موقف الشجرة من النبي"وسلامها عليه، وانقيادها له، وحنينها إليه، وشهادتها له بالتوحيد، ومواقفها مع المسلمين، كما تحدث عن عبودية الجبال، وسجودها لله، وتسبيحها له، وعن تلبية الحجر، وسماعه للأذان، وعن خشية الجبال، وخوفها، وعرض الأمانة عليها، وسرورها، وفرحها بمن يذكر الله عليها، وعن مواقف الجبال مع بعض الأنبياء_عليهم السلام_.

كما تحدث عن عبودية السموات والأرض وتسبيحها لله، وإنكارها قول النصارى: إن المسيح ابن الله، وبكائها على فراق المؤمنين الصالحين.

وتحدث أيضاً عن عبودية الملائكة والإنس والجن، كل ذلك مقرون بالأدلة من الكتاب والسنة.

ومن هنا يتبين لنا أن المخلوقاتِ مفتقرةٌ إلى الله_سبحانه وتعالى_=وأن فقرَها وحاجَتها إليه وصفٌ ذاتيٌ لهذه الموجودات المخلوقة، كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق+ (3) .

فصمود الكائنات كلها وفقرها إلى الله يدل دلالة واضحة على وحدانيته_سبحانه وتعالى_.

(1) انظر جامع الرسائل لابن تيمية تحقيق د. محمد رشاد سالم، 1/1_45.

(2)

الكتاب لفريد التوني، وهو رسالة علمية.

(3)

مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/9.

ص: 21