المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس - رسالة في فرضية اتباع السنة، والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس

وفي "الصحيح" أن عمر لما أخبره أبو سعيد قال: "خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق

". أخرجه البخاري في "الاعتصام"

(1)

.

والحاصل أن الاستئذان مما تعم به البلوى، وقد صحب عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولازمه أكثر من صحبة أبي موسى، فلما أخبره بهذا كان مظنة أن يقع له تردد؛ لأن الظاهر أنه لو كان هذا الحكم ثابتًا لما خفي عنه. ولهذا قال أخيرًا:"شغلني الصفق بالأسواق".

وكان أبو موسى دافعًا عن نفسه، فإن عمر أنكر عليه رجوعه وعدم انتظاره، فاحتج بالحديث، فأراد عمر ما تقدم عن ابن عبد البر.

وقد جاء في حديث ابن عمر أن سعدًا حدثه بحديث المسح على الخفين، فسأل أباه عنه، فقال: إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا تسل عنه غيره

(2)

.

وقال الشافعي: "وفي كتاب الله تعالى دليل على ما وصفت

". "الرسالة" (ص 60)

(3)

.

وأما‌

‌ توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس

، فإنه قال:"لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت"، فبين أنه إنما توقف

(1)

رقم (7353).

(2)

أخرجه البخاري (202).

(3)

(ص 435) تحقيق أحمد شاكر.

ص: 116

لمخالفة خبرها عنده للكتاب والسنة، فأما الكتاب فإنه قول الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [أول سورة الطلاق]. وهذا يعم المبتوتة، وإن نُوزِع في العموم.

وأما السنة فلا ندري أي سنة كانت عند عمر، فقد يكون كانت عنده سنة يراها نصًّا في وجوب السكنى للمبتوتة، وقوَّاها عموم الكتاب عنده. وإذا كان كذلك، رد خبرها لمعارضته لما هو عنده أقوى منه.

وقد استدل بعض الحنفية بالقصة على أن مذهب عمر أن خبر الواحد لا يخصص القرآن.

وإنما يقوى هذا لو لم يقل عمر: "وسنة نبينا".

[ص 67] وأما قصة ابن عباس فلم يردَّ الحديث بمجرد الرأي، كما يتوهم. وقد قال محمد بن عمرو بن عطاء: كنت مع ابن عباس في بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فجعل يعجب ممن يزعم أن الوضوء مما مست النار، ويضرب فيه الأمثال، ويقول: إنا نستحم بالماء المسخن، ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، وذكر أشياء مما يصيب الناس مما قد مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد توضأ، ثم لبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة خارجًا من البيت لقيتْه هديةُ عضوٍ من شاة، فأكل منها لقمة أو لقمتين، ثم صلى وما مسَّ ماء".

هكذا ساقه البيهقي في "السنن"(1/ 153). وأصله في "صحيح

ص: 117

مسلم"

(1)

. وقد روت خالته ميمونة نحو ذلك

(2)

. فلا يخلو حاله عن أحد وجهين:

الأول: أن يكون قد علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أولًا بالوضوء مما مست النار، ثم نسخ ذلك، فهو إنما ينكر على من بقي يأخذ بالمنسوخ، ويضرب له الأمثال ليثبت له أنه لو بقي الحكم الأول لزم التضييق على الناس في أمور كثيرة.

الوجه الثاني: أن لا يكون سمع الحديث إلا من أبي هريرة، فخاف أن لا يكون أبو هريرة أتقن لفظه، فأراد بضرب الأمثال تنبيهه.

والظاهر هو الأول؛ فإن خبر الوضوء مما مست النار كان مشهورًا بينهم، رواه عدد من الصحابة غير أبي هريرة.

وقد روي عن أبي هريرة قال: "أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثورَ أقطٍ فتوضأ، وأكل كتفًا ولم يتوضأ". أخرجه البيهقي (1/ 156). فالظاهر أن أبا هريرة كان يرى أن لحم الغنم مخصوص من العموم، أو يرى أن النسخ كان خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والمقصود هنا أن ابن عباس إنما عمدته ما رآه من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والظاهر أنه عارف بأن خبر أبي هريرة صحيح، ولكنه يراه منسوخًا، وقال مقالته تقويةً للنسخ.

وفي القصة أن أبا هريرة أجابه بقوله: "يا ابن أخي، إذا حدثتك عن النبي

(1)

رقم (359).

(2)

أخرجه مسلم (356).

ص: 118

- صلى الله عليه وآله وسلم فلا تضرب له الأمثال". والقصة في "سنن الترمذي"

(1)

.

وهذا يدل أن أبا هريرة كان يرى الوضوء مما مست النار، ولا يراه من الادِّهان بالدهن المطبوخ، ولا يرى بأسًا بالوضوء بالماء الحار.

وكلام ابن عباس يحتمل أنه إنما بناه على ما يفهم من لفظ الحديث، على ما ذكره أبو هريرة:"الوضوء مما مست النار"، فإنه إذا قلنا بعموم المقتضي يعم الادِّهان بالدهن المطبوخ، واستعمال الماء الحميم. فأما إذا كان المراد بالوضوء مما مست النار: ما غيَّرت النار كما ثبت في بعض الروايات، فلا يدخل ما لم تغيِّره تغييرًا ظاهرًا، كالماء.

وإذا كان المراد بالوضوء من ذلك الوضوء منه إذا طعمه الإنسان ــ كما هو المعروف عنهم ــ فلا يدخل الادهان والاغتسال، وإلحاقه بالقياس غير ظاهر؛ إذ غير مستنكر أن يورث أكل الشيء حالًا في البدن لا يورثها الادهان به ونحوه، كما في الخمر والسم وغير ذلك.

هذا، وقد زعم بعض أهل الرأي أن ابن عباس ردَّ خبر أبي هريرة بمجرد القياس، وجعل ذلك أصلًا في أن الصحابي الذي لم يشتهر بالفقه إذا أخبر بخبر مخالف للقياس كان القياس أرجح منه

(2)

.

كذا قال، ولعله يأتي الكلام في هذا إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا التنبيه على أن هذه القصة ليست كما زعم، والله المستعان.

(1)

رقم (79).

(2)

انظر "أصول البزدوي"(159) و"أصول السرخسي"(1/ 340) وغيرهما. وردَّ عليه من الحنفية: عبد العزيز البخاري وغيره، انظر "كشف الأسرار"(2/ 558) و"غاية التحقيق"(ص 164 - 165) و"دراسات اللبيب"(ص 207 - 212).

ص: 119

هذا، وقد صح عن ابن عباس من عدة وجوه قبوله خبر الواحد، واحتجاجه به، وذلك مما يفيد بمجموعه اليقين، والله الموفق.

ص: 120